بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ـ[الكتاب: زهرة التفاسير]ـ
المؤلف: محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة (المتوفى: 1394هـ)
دار النشر: دار الفكر العربي
عدد الأجزاء: 10
أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين، جزاه الله خيرا
[ترقيم الشاملة موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي وضمن خدمة مقارنة التفاسير]
__________
تنبيه
1 - صفحة 341 بها سطران ممسوحان في آخرها والكلمة الأخيرة من الصفحة التي تليها
وفي صفحة 727 كلمة ممسوحة من السطر الرابع من أسفل
2 - يوجد سقط من تفسير الإمام الجليل أبي زهرة من الآية 190 وحتى نهاية الآية 193 من سورة البقرة، وتميمًا للفائدة فقد نقل الناشر تفسير هذه الآيات من تفسير الإمام القرطبي.(/)
تعريف بالإمام الجليل محمد أبو زهرة
هذا التعريف مأخوذ أساسا مما كتبه فضيلته بنفسه بناء على طلب أحد طلاب العلم من باكستان متقدما برسالة لنيل درجة الدكتوراه عن الإمام أبو زهرة.
ولد الإمام محمد أحمد مصطفى أبو زهرة في مارس سنة 1898 م في مدينة المحلة الكبرى إحدى مدن محافظة الغربية.
حفظ القرآن الكريم في صدر حياته في الكُتَّاب، إذ هو من أسرة دينية تنتسب إلى ولي من أولياء الله هو الشيخ مصطفى أبو زهرة الشهير بالششتاوي الذي يزار ضريحه بمسجده ببلدة شيشتا في مدينة المحلة الكبرى ووالده هو الشيخ أحمد مصطفى أبو زهرة مشهور بالصلاح والالتزام بالدين الحنيف ومكارم الأخلاق ووالدته حافظة للقرآن الكريم وكانت تراجع معه ما حفظ قبل الذهاب إلى الشيخ في الكتاب، وتميز عن إخوته وأخواته بحفظ القرآن الكريم ولم يتجاوز التاسعة من العمر، ولأنه كان ذا حافظة قوية، سريع البديهة فلم ينل من قسوة أستاذه بالكتاب إلا قليلا.
كانت الأسرة من متوسطي الحال يظنها الناس من الأثرياء اشتهرت بالعلم والذكاء، وقد نبغ منها شقيقه الأستاذ الدكتور مصطفى أحمد أبو زهرة منشئ ورئيس قسم هندسة الطيران بكلية الهندسة جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) وأيضا الأستاذ بكلية الهندسة بجامعة لندن بإنجلترا.(1/3)
بعد حفظ القرآن الكريم تعلم مبادئ العلوم المدنية كالرياضيات، التي كان شديد الولع بها، والجغرافية والفلسفة مع العلوم العربية.
التحق في سنة 1913 م بالجامع الأحمدي بطنطا ومكث فيه ثلاث سنين، وفي هذه الفترة ابتدأ نبوغه وتفوقه يظهر حتى أن شيخ الجامع وهو الشيخ الأحمدي الظواهري الذي صار شيخا للأزهر، اقترح أن يمنح مكافآت خاصة لامتيازه، كما اقترح بألا يمكث في طلب العلم الأزهري خمسة عشر عاما، كما كانت المدة المقررة، بل إن مثله يصح أن يتجاوز سنين عدة في سنة واحدة، ولم يتم تنفيذ هذا القرار لصعوبته قانونيا، ولانتقاله إلى مدرسة القضاء الشرعي.
التحق في سنة 1916 بمدرسة القضاء الشرعي بعد امتحان مسابقة كان فيها من الأوائل. وتكوينه العلمي الحقيقي كان في هذه المدرسة التي أنشأها سعد باشا زغلول في وزارة المعارف على أن تكون عالميتها من درجة أستاذ وعهد بإدارتها إلى رجل عظيم هو عاطف باشا بركات. ومن وقت أن دخل المدرسة كان ينظر إليه ناظرها عاطف باشا بركات نظرة اهتمام وتشجيع، وقد مكث فيها تسع سنين، أربعة في القسم الثانوي وخمسة في القسم العالي، وفيها اتسعت آفاقه الفكرية ولما تخرج منها ونال شهادة العالمية من درجة أستاذ عام 1925 كون لنفسه منهجا فكريا في فهم الشريعة وتفسيرها، وكلما تعمق فيها ازداد إيمانا بها.
في ذلك الحين كان قيام ثورة (1919 م)، فوقف على الكثير من دقائق أحداثها ووقائعها، وأحب سعد باشا زغلول وتعلق به وكان حريصا على حفظ خطبه وترديدها.
أخذ دبلوم دار العلوم من الخارج سنة 1927 م وفي هذه السنة عين مدرسا للشريعة واللغة العربية بتجهيزية دار العلوم والقضاء الشرعي لمدة ثلاث(1/4)
سنين ثم انتقل بعد ذلك إلى التدريس في المدارس الثانوية العامة لمدة سنتين ونصف.
انتقل في أول يناير سنة 1933 م إلى كلية أصول الدين مدرسا للجدل والخطابة فيها ثم تاريخ الديانات والملل والنحل، وفيها أخرج أول مؤلفاته كتاب " الخطابة " وكتاب " تاريخ الجدل " ثم كتاب " تاريخ الديانات القديمة " ثم كتاب " محاضرات في النصرانية " الذي ترجم إلى عدة لغات.
في 2 نوفمبر 1934 م نقل مدرسا للخطابة بكلية الحقوق جامعة القاهرة (فؤاد الأول) مع بقائه بالانتداب في كلية أصول الدين التي استمر بها إلى يونيو سنة 1942 م وارتدى الزيَّ الأزهرى.
في سبتمبر سنة 1935 م انتقل من تدريس اللغة العربية إلى تدريس الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة القاهرة (فؤاد الأول) متدرجا في مراتبها من مدرس إلى أستاذ مساعد إلى أستاذ كرسي إلى رئيس قسم الشريعة ووكيلا لكلية الحقوق جامعة القاهرة لمدة خمس سنوات انتهت ببلوغه سن التقاعد سنة 1958 واستمر في التدريس بكلية الحقوق كأستاذ غير متفرغ وفي غيرها حتى توفاه الله عام 1974 م.
وقد تولى التدريس في كلية المعاملات والإدارة بجامعة الأزهر سنة 1963 م وكذلك معهد الخدمة الاجتماعية وغيره من المعاهد.
وقد اشترك في إنشاء وتولى التدريس ورئيسا لقسم الشريعة الإسلامية بمعهد الدراسات الإسلامية ومعهد الدراسات العربية العالي التابع لجامعة الدول العربية.
واشترك في إنشاء جمعية الدراسات الإسلامية.(1/5)
أختير عضوا لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في سنة 1961 م ومقررا للجنة بحوث القرآن ولجنة المتابعة ولجنة السنة المطهرة وشيخا في لجان التقنين للمذهبين الحنفي والشافعي.
كان أيضا عضوا بمجلس جامعة الأزهر، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ومعهد البحوث الجنائية والاجتماعية، والمجلس الأعلى للفنون والآداب، ومجلس محافظة القاهرة.
* * *
صفاته - سعة علمه ومبدؤه:
كان رحمه الله، أبيض اللون، جهير الصوت، شديد الذكاء، سريع البديهة، منظما وحر الفكر، راجح العقل، شديد الإيمان بما يقول، مستقل الرأي لَا يخشى في قول الحق لومة لائم، ويمزج في محاضراته العلم الجاد الوقور بالدعابة الحلوة الخفيفة.
كان رحمه الله عالما متبحرا في الفقه وأصوله وفي علوم القرآن وتفسيره، وخطيبا مفوها، وأصوليا متعمقا، ومجتهدا يقرع الحجة بالحجة والمنطق بالمنطق لَا يشق له غبار يسعى دائما لتقديم الجديد والفريد للمكتبة العربية والإسلامية رافضا أن تكون كتاباته تردادا لأقوال الآخرين لما عرف عنه من اعتزازه بنفسه وبغضه لسيطرة الآخرين بغير حق.
كان رحمه الله يعيش للمبادئ ويكافح من أجلها، يناضل لعقيدة يحيا فيها ويعيش لها، يعلن رأيه ويجمع الناس عليه فقد كان فقيها في مقدمة الفقهاء ورائدا تقدم القافلة وقد تشابهت أمامها السبل المتباينة. وقد عرض عليه البقاء والعمل بالخارج فقال: " إن وجودي في مصر هنا يؤدي واجبا أرى أنه أصبح بالنسبة لي أشبه بفرض العين؛ فأنا على ثغر من ثغور الإسلام يتأثر بها أي بلد عربي وأي بلد إسلامي، فمصر هي العقل وهي القلب وهي الأزهر. فكان رحمه الله بحرا زاخرا، وفيضا فياضا، ورائدا عاش حياته حاملًا اللواء يمزج بين العلم والشجاعة، ومن هنا كثر رواده وعظم قصاده وقيمة العالم(1/6)
بما خَرَّج من تلامذة علماء أوفياء في جميع أنحاء العالم وبما أثرى المكتبة العربية والإسلامية من مراجع علمية.
* * *
المؤلفات والبحوث
بجانب أشهر المؤلفات والموسوعات الإسلامية التي تزيد عن الأربعين فقد كانت له الكثير من البحوث في العديد من المجلات العلمية والاجتماعية: مجلة القانون والاقتصاد، ومجلة المسلمون، ومجلة حضارة الإسلام، ومجلة القانون الدولي، وكتاب أسبوع الفقه الإسلامي، وكتاب أسبوع القانون والعلوم السياسية، ومجلة الأزهر، ومجلة العربي والعديد من المجلات بمختلف الدول العربية. وكذلك عدد لَا يحصى من الأحاديث الصحفية كان يرد بها على المهاجمين للإسلام وللدفاع عن قوانين الأحوال الشخصية.
أما في مجلة لواء الإسلام الشهرية لصاحبها أحمد باشا حمزة فكانت للإمام أبو زهرة أربعة أبواب ثابتة هي: تفسير القرآن الكريم، ومقال اجتماعي، وندوة لواء الإسلام، وباب الفتاوى للرد على أسئلة القراء. هذا على مدى ما يقرب من الأربعين عاما فيما لَا يقل عن أربعة آلاف صحيفة.
كان لفضيلة الإمام نشاط واسع في محاضرات وندوات عامة في مختلف الجمعيات الاجتماعية والإسلامية العامة والخاصة داخل مصر وخارجها. لفضيلة الإمام العديد من الأبحاث ألقيت في المؤتمرات والندوات الدولية التي حضرها مثل: حلقة الدراسات الاجتماعية التي انعقدت في دمشق 1952 م - مؤتمر الندوة الإسلامية الذي عقد في لاهور (باكستان) في الفترة من 29/ 12/ 1957 إلى 13/ 1 / 1958 - مؤتمر الخبراء الاجتماعيين الذي انعقد عدة مرات بالقاهرة وانعقد بالكويت عام 1958 - مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية المنعقد بالجزائر عام 1969 ثم بالمغرب عام 1971 ثم بالقاهرة عام 1973.(1/7)
هذا بخلاف المحاضرات والندوات خلال زيارات فضيلة الإمام لدول السودان، والكويت، والجماهيرية الليبية، والجزائر، وسوريا، وغيرها.
قام العديد من الباحثين بعمل رسائل ماجستير ودكتوراه عن الإمام محمد أبو زهرة في باكستان والهند وسائر البلاد الإسلامية كما ترجمت له العديد من المؤلفات.
* * *
أشهر مؤلفاته وكتبه:
1 - الخطابة.
2 - تاريخ الجدل.
3 - تاريخ الديانات القديمة.
4 - محاضرات في النصرانية.
5 - محاضرات في الوقف.
6 - محاضرات في عقد الزواج وآثاره، مقارنة بين المذاهب الفقهية والقوانين العربية.
7 - أصول الفقه.
8 - أحكام التركات والمواريث.
9 - الجريمة في الفقه الإسلامي.
10 - العقوبة في الفقه الإسلامي.
11 - الميراث عند الجعفرية.
12 - أصول الفقه الجعفرى.
13 - الأحوال الشخصية.(1/8)
14 - الإمام زيد: حياته وعصره - آراؤه وفقهه.
14 - الإمام الصادق: حياته وعصره - آراؤه وفقهه.
15 - الإمام أبو حنيفة: حياته وعصره - آراؤه وفقهه.
16 - الإمام مالك: حياته وعصره - آراؤه وفقهه.
17 - الإمام الشافعي: حياته وعصره - آراؤه وفقهه.
18 - الإمام أحمد بن حنبل: حياته وعصره - آراؤه وفقهه.
19 - الإمام ابن حزم الأندلسي حياته وعصره - آراؤه وفقهه.
20 - الإمام ابن تيمية: حياته وعصره - آراؤه وفقهه.
21 - تاريخ المذاهب الإسلامية جزءان في مجلد واحد.
22 - المعجزة الكبرى (القرآن).
23 - خاتم النبيين - ثلاثة أجزاء في ثلاثة مجلدات.
24 - الملكية ونظرية العقد.
25 - شرح قانون الوصية.
26 - الدعوة للإسلام.
27 - الولاية على النفس.
28 - العقيدة الإسلامية.
29 - المجتمع الإنساني في ظل الإسلام.
30 - التكافل الاجتماعي في الإسلام.(1/9)
32 - العلاقات الدولية في ظل الإسلام.
33 - تنظيم الإسلام للمجتمع.
34 - تنظيم الأسرة وتنظيم النسل.
35 - بحوث في الربا.
36 - الوحدة الإسلامية.
37 - نظرية الحرب في الإسلام.
38 - مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الروماني.
39 - بحث في قانون الأسرة - نشر بكتاب عن الفقه الإسلامي بنشرة معهد واشنطن للقوانين الدولية.
40 - بحث في السياسة الإسلامية - نشر في مجلة القانون الدولى المصرية.
41 - نظرات في العبادات الإسلامية.
42 - تفسير القرآن الكريم (زهرة التفاسير) حتى الآية 73 من سورة النمل.
* * *
وفاته:
عقد الإمام محمد أبو زهرة في أواخر عام 1973 وأوائل عام 1974 العديد من الندوات والاجتماعات بجامعة القاهرة والإسكندرية وفي جمعية الشبان المسلمين لمحاربة التعدي على الشريعة الإسلامية، وكانت له صولات وجولات في مجمع البحوث الإسلامية والأزهر بخصوص تحديد النسل وتقييد تعدد الزوجات والطلاق في مشروع قانون الأحوال الشخصية لوزارة الشئون الاجتماعية، وقرر فضيلة الإمام رحمه الله إقامة مؤتمر شعبي لمناقشة هذا الأمر في سرادق كبير في شارع العزيز بالله أمام منزله بضاحية(1/10)
الزيتون، أقامه الإمام رحمه الله على نفقته الخاصة وقام فضيلته بمعاينة المكان وإنشاء السرادق مبكرا في صباح يوم الجمعة 12/ 4/ 1974 ثم عاد إلى حجرة المكتب بالدور العلوي وشرع في إكمال تفسير سورة النمل حتى أذان الظهر، وأثناء نزول فضيلته حاملا القلم والمصحف مفتوحا على آخر ما وصل إليه في التفسير وأيضا الورق الذي به ما كتب من التفسير تعثر رحمة الله عليه وسقط ساجدا على المصحف وعلى أوراق التفسير، ثم فاضت روحه الكريمة إلى بارئها أثناء أذان المغرب. وهكذا شاءت إرادة الله العظيم أن يكون هذا السرادق الذي أشرف فضيلته على إقامته لمؤتمر شعبي هو سرادق العزاء للإمام.
رضي الله عن شيخ مشايخ عصره، الإمام محمد أبو زهرة وأرضاه، وأسكنه فسيح جناته وأجمل فراديسه، وجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
أسرة الإمام الجليل محمد أبو زهرة(1/11)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمي الذي بُعث رحمة للعالمين وسراجًا منيرًا، وعلى آله وأصحابه الذين قبسوا من نوره، وجمعوا القرآن وحفظوه ليكون حجة الله تعالى القائمة إلى يوم الدين؛ وتحقيقًا لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9).
أما بعد:
فمنذ كنت طالبًا أشدُو في طلب العلم، وأنهل من معارفه على قدر طاقتي، وأنا أتَشَوَّف لمعرفة القرآن الحكيم، وأتعرف أسرار بيانه ومعانيه، وأرى أن علمه هو الشريعة، وأنه ما ترك صغيرة ولا كبيرة منها إلا أحصاها، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - علَّم الناس علمه، وبينه وأحكم بيانه، وحكم به بين الناس، وأظهر برهانه، فهو برهان الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكم برْهَانٌ مِن رَبِّكِمْ. . .، وهو الحق الذي لَا ريب فيه، وهو حكم الله تعالى لَا يأتيه الباطلِ من بين يديه ولا من خلفه، فقد قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
ولقد كانت أمنيتي العلمية أن أكون قريبًا منه دائما، وكنت أراجع الكتب التي تصدت للتعريف بمعانيه؛ موجزها ووسيطها ومبسوطها، قديمها وجديدها، مؤمنا(1/13)
بأن علمه هو علم الإسلام، بل هو علم النفوس البشرية، وأسرار الوجود، وأنه علم النبوة الإلهية في مختلف العصور.
ولما شرفنا الله تعالى بتدريس العلوم العربية والشرعية كان أول دروسنا في تعرف معاني القرآن، فكان ذلك يمنًا وبركة وإشعارًا بتوفيق الله تعالى لنا، في مستقبل أعمالنا.
ولكنا شُغِلْنَا عن تفسير القرآن بدروس إسلامية أخرى، وإن كنا لم ننقطع عن القرآن، وإن كان ذلك في أوقات قصيرة، فكلما دعينا لمحاضرة عامة، جعلنا القول في علم القرآن غايتنا، فكنا نعود إليه الفينة بعد الفينة، حتى دعتنا مجلة دينية كانت لها مكانتها، ولصاحبها مكانة من تقوى الله، لنكتب فيها تفسيرًا أتمم به ما بدأه طيب الذكر فضيلة الشيخ محمد الخضر التونسي رضي الله عنه، وكان قد وصل في تفسيره إلى قوله تعالى: (يَسْألُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ. . . .
وقمنا بما استطعنا، ووسعته طاقتنا حتى وصلنا إلى قوله تعالى في سورة الأنعام: (وَعِندَة مَفَاتِح الْغَيْبِ. . .، ثم حيل بيننا وبين السير في محملنا، بمعوقات تتصل بوحدة النسق والكرامة.
والآن قد ابتدأنا الكتابة في معاني القرآن الكريم من أوله إلى ما وصل إليه الشيخ الإمام الخضر، رحمه الله تعالى.
حتى إذا وصلنا إلى ذلك نشرنا ما كنا قد كتبناه في المجلة، ثم نستأنف بعد ذلك القول في معاني القرآن من قوله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ. . . . وقد كان مقررًا أن نكتب مقدمة للتفسير نبين فيها نزول القرآن منجما، وجمعه في عهد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. وجمعه في عهد ذي النورين، وبيان إعجازه ووجوه ذلك الإعجاز، وعن قصصه، وعلومه، وجدله بالتي هي أحسن، وعن مناهج تفسيره وترجمته، (والغَناء به) (1).
________
(1) الغَناء - بالفتح - في كلام العرب: النفع والكفاية.(1/14)
كان ذلك في تقديرنا، وأردنا القيام به بتوفيق الله تعالى، ليكون مقدمة للتفسير، يكون فيها تعريف به، وإن كانت حقيقة كتاب الوجود فوق التعريف والبيان.
ولكن وقد اتجهنا إلى ذلك اتسع البحث علينا، ووجدنا أن ذلك قد يكون في ذاته غرضًا مقصودًا يقصد بالذات لَا بالتبع؛ ولذلك أخرجناه كتابًا قائمًا بذاته سميناه " المعجزة الكبرى ".
فهذا الكتاب وإن كان مقصودا بالجوهر والذات، هو أيضا مقدمة للتفسير، ويغني عن كتابة مقدمة جديدة، وإنا بعون الله تعالى نتجه إلى الله تعالى ضارعين إليه أن يمدنا بعونه وتوفيقه في القيام بحق كتابه الكريم علينا، وإننا بكرمه وفضله دائبون على كتابة ما قصدنا، حتى يوافينا الأجل المحتوم ونحن في جوار كتابه العزيز، عاملين لَا نبتعد عن عَرفه (1) ولا تتجافى مقاعدنا عنه.
اللهم أيدنا بالقوة والإخلاص، وأن يجعله نورًا لنا، وأن يحفظ كتابه من الأهواء التي تبغي تأويله بغير هدى نبيه، وتحويل معانيه عن غاياتها، وأن يقيه من الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ولا يسلكون الجَدَد (2)، اللهم وفقنا لما تحب وترضي.
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8).
الإمام محمد أبو زهرة
________
(1) العَرف، هكذا بالفتح: الرائحة مطلقا، وأكثر ما يسعمل في الطيبة منها.
(2) يملكون الجَدَد: يجتهدون. والجدد: الأرض المستوية.(1/15)
(الافتتاحية)
الحمد لله رب العالمين الذي أرسل بالحق محمدًا صلى الله تعالى عليه وسلم هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وعلى آله الأطهار وصحابته الأبرار.
أما بعد، فقد كانت معجزة هذا الرسول الأمين، خاتم النبيين تتناسب مع امتداد زمانها إلى يوم الدين، كانت خالدة باقية بخلودها، فكانت كلامًا معجزًا يتحدى الأجيال كلها، إنسها وجنها أن يأتوا بمثلها: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88).
وفيه علاج النفس، وطبها ودواؤها، وغذاؤها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ من رَّبِّكُمْ وشفَاءٌ لمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ)، وهو برهان رسالة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ونورها المبين (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ من رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا).
وإن الرسل السابقين كانت لهم معجزات تقرع الحس، ولكنها انقضت بانقضاء زمانها، ولولا أن القرآن الكريم سجلها ما علمها أحد، أما القرآن فباقٍ إلى يوم(1/17)
الدين، وأحسب أنه حجة الأديان السماوية كلها، فلولا القرآن ما عرفت المسيحية الحق، ولطويت في وسط الأوهام والخرافات التي اعترت العقل النصراني.
وإنا والحمد لله قد شغفنا حبا بالقرآن وتعرف أسراره ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وما وسعه وقتنا، وكنا ونحن نتلوه، ونتعرف ما يمكن أن نسمو إلى معرفته من معانيه نجد أمرين:
أولهما: أن كتب التفسير المطولة تبعثر المعاني السامية منه - وكل معانيه سامية - وسط مضطرب من الأقوال في علم الكلام ومذاهبه، وآراء الفقهاء واستدلال كل صاحب مذهب على مذهبه، فوجدنا بعض التفسيرات يتجه إلى الإعراب، ومذاهب النحويين، والمعاني الروحية السامية للقرآن تتمزق بأوجه الإعراب، والقرآن المعجز وراء ذلك مستور بغشاء من الجدل والاختلاف وتوجيه الأقوال. والموجزات من التفسير يتجلى فيها القرآن مشرقا نيِّرا كما هو في ذاته، ولكن لَا تخلو من توجيه النص القرآني بالمذهب الأشعري أو المعتزلي وإن كانت لَا تثير جدلا حول المعاني القرآنية إلا قليلا.
ثانيهما: أننا وجدنا تطابق أقوال المفسرين في فهم آيات لَا نرى أنها متفقة مع المبادئ المقررة في القرآن كأقوال المفسرين في قوله تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)، وتفسيرها على أنها تبين رفعة الأغنياء على الفقراء، وما ذلك بصحيح في المبادئ الإسلامية، ولا المقررات الدينية. وكذلك قول المفسرين إلى عهد الحافظ ابن كثير في تفسير الآيات (وَمَا كَانَ لمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمن يَعْصِ الَلَّهَ وَرسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا)، وقد أجمع الأكثرون قبل الحافظ على أنها في عشق النبي - صلى الله عليه وسلم - لزينب بنت جحش، وما كان لنا إلا أن نصحح المعاني ونقول الحق الذي يناسب علو القرآن وكمال الرسالة مخالفين هؤلاء، فكتاب الله أعلى من أقوالهم، ومقام الرسول الأمثل أعلى من أقوالهم، ولو(1/18)
تطابقوا عليها مع مخالفة هذه الأقوال للنصوص، وتجافيها عنها بمقدار تجافيها عن الحق، حتى وجد المضللون الذريعة لأن يقولوا: النبي العاشق، فضلُّوا وأضلوا كثيرا.
من أجل هذا تسامينا بما فوق طاقتنا، واستخرنا الله تعالى، وكتبنا معاني الذكر الحكيم، كما أدركت عقولنا، (لا يُكَلِّفُ اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).
، ولا يكلف إنسان فوق طاقته، وإننا نقارب ونسدد.
وإنه يجب أن ننبه إلى أمور ثلاثة:
أولها: أننا لَا نتجه إلى الأغاريب إلا إذا اضطررنا لتوجيه المعاني وتقريب الناس من إدراكها، وإن ذلك نادر، وليس بالكثير.
ثانيها: أننا لَا نذكر من القراءات المختلفة إلا إذا ترتب على اختلافها اختلاف في المعاني، فنذكرها كلها، على أنها كلها قرآن، وأن هذه المعاني كلها مقصود في القرآن السامي، ودليل على إعجازه.
ثالثها: أننا في بعض المواضع نأتى بالكلام مطنبا، وذلك لنقرب الناس من معاني القرآن التي تكون موجزة في ألفاظها ثرية في معانيها، فنحاول أن نقرب الناس من هذه المعاني؛ لأنه ليس عندنا طاقة هذا الإيجاز البليغ الذي هو من دلائل الإعجاز.
هذا وإنا لَا نحاول فيما يتعلق بالكون أن نحمل الألفاظ السامية فوق ما تحتمل أو غير ما تحتمل.
اللهم نسألك التوفيق، فلولا توفيقك ما اهتدينا، ولا وصلنا إلى غاية. إنك أنت السميع البصير، ولا نستمد العون إلا منك، وإنك نعم المعين.
* * *(1/19)
(تمهيد)
كان أحب إليَّ منذ كنت طالبًا علم القرآن، ودراسة هذا الكتاب العظيم في بيانه المعجز الذي تحدى العرب أن يأتوا بمثله فعجزوا، وتحدى الخليقة إلى اليوم فلن يستطيعوا أن يأتوا بمثله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88).
وهو يتحدى الفكر الإنساني ببلاغته، ومعانيه، وقصصه، وشريعته، وتوجيهه الأنظار إلى الكون بما فيه من ذكر السماوات والأرض، وخلق الإنسان، واختلاف ألوانه وألسنته، والنفس الإنسانية في خواطرها، وما يعليها، وما يُدسِّيها، وسيطرة الخالق على ما خلق، له الملك في السماوات الأرض وهو على كل شيء قدير.
كنت طالبًا بالأزهر ثم بمدرسة القضاء الشرعي، وكنت أميل إلى علم تفسير القرآن؛ يصغي قلبي إليه، ويصبو فكري نحوه، وذلك من بين علوم الإسلام وعلوم الحياة المختلفة التي كانت تدرس، فكان لكل علم ناحية في نفسي، أما علم القرآن فكان قلبي كله له.
ولما تخرجت فى هذه المدرسة كان حب القرآن وعلوم القرآن مختلطا بنفسي، ومن حسن المصادفات الموفقة أن يكون أول درس ألقيه، بعد أن شددت في العلم، هو القرآن.
لقد علمت أني عينت مدرسا بتجهيزية دار العلوم والقضاء الشرعي في يوم ْالعاشر من أكتوبر سنة 1927، فلما ذهبت لأتسلم العمل في ذلك اليوم، سلمني شيخنا العارف بالله المرحوم الأستاذ حسن منصور الذي كان وكيلًا لمدرسة القضاء الشرعي، وأستاذ التفسير بها - سلمني الجدول، وكله في مادة التفسير، في السنة(1/21)
الخامسة من التجهيزية، ثم رؤى أن يقسم بيني وبين أحد زملائي الكرام، رحمه الله وطيب ثراه، ومكثت أدرِّس التفسير بالتجهيزية سنتين، وكان أحب إليَّ من أي عمل سواه، انقطعت بعد ذلك عن هذا الدرس الحبيب بمقتضى سنَّة العمل في الحياة العلمية، وشغلت بعلوم العربية وقتا غير طويل، نحو ثلاث سنين، ثم شغلت بالفقه في أطول مدة قضيتها. ولكني كنت على شوق إلى القرآن، وكانت مجلة " لواء الإسلام " تنشر في كل عدد منها تفسيرًا للقرآن، وكان يتولاه الرجل المؤمن العارف بالله الشيخ الخضر حسين، وواصل تفسيره حتى وصل إلى قوله تعالى (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ. . .)، ووقف عند هذه الآية، لأسباب نفسية، لم تكن من صاحب المجلة الرجل الطيب، فاعتذر، وطلب إلى أن أتمم ما بدأت، وأيده صاحب المجلة فيما طلب، فتوليت كتابة التفسير من هذه الآية راغبًا دائبًا، فعدت إلى التفسير كما بدأت في حيأتي العلمية، واستمررت في هذا العمل المحبوب، إلى أن منعت من التفسير، ومن غيره بأمر طاغوتيٍّ بمن كان يحكم مصر إبان ذلك، وكنت قد وصلت إلى قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54).
ولما تكشَّفت الغمة، وزال الحكم الطاغوتي، وزالت آثاره التي بقيت بعده شهورا، وحملت القلم لأعود إلى أداء الواجب، تعذر على أن أقوم بواجبي مع الكرامة، وكان لي ما كان للمرحوم الخضر رضي الله عنه، وقد ألحَّ عليَّ الكثيرون من أهل العلم وطلابه أن أتمم ما بدأت في " لواء الإسلام "، وتكرر الطلب، فوجدت أن من الواجب عليَّ أن أقوم بكتابة التفسير مستعينًا الله، متوكلًا عليه، ضارعًا إليه أن يمن بتوفيقه، فلولا توفيقه ما اهتدينا إلى عمل، وما أتممنا عملا بدأناه.
فابتدأت بكتابة الجزء الذي كتبه الإمام الخضر، ليكون التفسير كله نسقا واحدا، وعلى منهاج واحد، وها نحن أُولاء نسير في الطريق ضارعين إليه سبحانه وتعالى أن نصل إلى الحق فيما نكتب.(1/22)
(المنهاج الذي اتبعناه)
نحن ممن يتبعون إلى حدِّ ما؛ ما كان يقوله الأستاذ العظيم العبقري عاطف بركات في أن القرآن كتاب مبين لَا يحتاج إلى تفسير، فإنه لَا إبهام فيه يحتاج إلى توضيح، وكل من يحاول توضيحه لَا يصل إليه، فمن ذا الذي يصل إلى آفاقه، وممن كتب في تفسيره من الماضين من حجب معانيه بكثرة الأقوال المتعارضة والآراء المتباينة، حتى أثار غبارا حجب عن الباحث نوره.
ولكن القرآن الكريم فيه فقه هذا الدين، وفيه خبر من مضى، وعلم الآخرين، وفيه علم الكون والوجود الإنساني، وفيه توجيه إلى مناحي الحياة، وفيه القصص الحكيم، وفيه أسماء الأماكن وإشارات إلى وقائع، وفي الجملة فيه الكون والإنسان، وهو فوق ذلك حمَّال للمعاني السليمة، وفيه علوم الدولة والآحاد، فلابد من أن يتصدى لذلك أهل الخبرة في العلوم، والفقه، واللغة والبيان، وإن كانوا لَا يبلغون الغاية، ولاينالون مما يبغون الكفاية.
فلابد أن يكون للقرآن تفسير تتولاه جماعة علمية، من أولى العَصَبة من العلماء، ولكن لَا نجد التعاون العلمي الجماعي، في الحاضر، وقد حاولناه مع غيرنا، ولم نجد ذلك التعاون في الماضي، وإن وجدنا مخلصين لله وكتابه، مستبحرين في علوم الآثار واللغة، ويا حبذا لو أن هؤلاء اجتمعت آراؤهم، وأضيف إليها ما يراه علماء الكون في آيات الله الكونية، على ألا نطوع القرآن لنظرية مفروضة، ولا أن نرهق ألفاظه لتحتمل نظرية لم يتحقق صدقها، ولكن ليستعان به لتأييدها، لَا كأولئك الذين يرون صحة الفروض التي تقول بالنشوء والارتقاء ويريدون أن يؤيدوها من القرآن، أو يحملوا ألفاظ القرآن لها ليروجوها! اتجهنا إلى كتابة معاني القرآن، كما ظهرت لنا، وكما أدركت عقولنا، وكما بلغته طاقتنا، غير محمِّلين وضعًا ما لَا يحتمل، أو نطوعه لتفكير سيق إلينا، ولسنا منكرين لما بذله العلماء الذين خصوا معاني القرآن بأكبر عناية، بل إننا نجد فيما كتبوا أو نقل عنهم ذخيرتنا التي ندَّرع بها غير مفتاتين عليهم في قول، ولا متهجمين(1/23)
عليهم في رأي، ومنهم من قام على الحق المبين، أو يستمد قوته من أثر عن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يتجافى عن النص القرآني في ظاهره ونصه، فإن جافاه حذفناه، ونظرُنا في ذلك هو نظر شيخ الفقهاء أبي حنيفة النعمان فهو لَا يقدم أثرًا على نص قرآني ظاهر الدلالة أو هو نص فيه.
ولا نتهجم بذلك على حديث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو الحكمة كلها كما قال ذلك الإمام الشافعي، فقد فسر الحكمة في قوله تعالى: (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ. . .)، بأن الحكمة هي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا رددنا منها ما يخالف القرآن فنحن نرد ما يجعلها فوق القرآن، وبالأحرى يكون ذلك تمحيصًا للسنة، وتبيينًا لصحيحها من سقيمها، إن عبارات القرآن التي هي نص في دلالتها، ومعانيها، فيها تنزيه لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتنزيه للبعث المحمدي، فإنما ندفع الريب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا نتهجم عليه ولا على حكمته، كتلك الآثار التي توهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُحِرَ، وكتلك الأخبار الكاذبة التي تقول إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قال عن اللات والعزى ومناة الثالثة الأُخرى: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. إنا نرد هذا وأشباهه تنزيها للرسالة المحمدية الإلهية، مهما يكن راويها من الثقة، ونعدها عليه، وليس بمنزه عن الخطأ والنسيان، ودخول الغلط عليه، وأخشى أن أقول إن من يعتقد ذلك يكون كأهل الجاهلية الذين قالوا: (إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا)، فليبحثوا عن موقفهم كمسلمين مؤمنين، وذلك لأنهم آثروا راويا على القرآن وعلى الرسالة المحمدية كلها، إذ جعلوا الشك يَرِد على بيانها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإذا كنا قد رددنا بعض ما ينسب للرسول - صلى الله عليه وسلم - فنحن نعد المفسر الأول للقرآن هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو المفسر لأحكامه المبين لحقائقه، كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)، ولا نتصور أن نجد بيانًا يفوق بيان النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه يفصل مجمله، ويبين ما يعلو على مدارك الناس، وإن كان في ذاته مبيَّنًا، ولا يصح أن نفتات على الإسلام فنرد قولا صح عن رسول(1/24)
الله محمد - صلى الله عليه وسلم - ما دام القرآن يتسع لمدلوله، ولا نقدم عليه احتمالا آخر مهما تكن مكانة قائله من الفقه والبيان، فإنه مهما يكن لَا يناهد مقامه مقام مبلِّغ الرسالة في الإحكام، ولا مقامه في البيان، وإدراك معاني القرآن، ولذا نعد السنة النبوية هي المفسر الأول.
ويلى ذلك تفسير الصحابة الذي صحت نسبته إليهم، وخصوصا علماءهم، والسابقين الأولين الذين قال تعالى عنهم في بيعة الرضوان: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18).
ونأخذ بأقوال هؤلاء على أساس ألا تخالف نصا قرآنيا، أو تناهضه، أو تحمله ما لَا يحتمل، وعلمُهم بالقرآن أعظم من علمنا به، إذ كانوا كما أشرنا من قبل أهل بيعة الرضوان، لَا الذين جاءوا بعد الحديبية، وكان بعض أولئك من الذين لهم جهاد مذكور مشهور، لَا يغض من مقامهم، ولكن ليسوا حجة في فهم القرآن إلا من ناحية اللغة والبيان، فإن ذوقهم العربي ربما يجعل لقولهم مكانًا، ولم يعن أحد من هؤلاء بالتفسير رواية أو دراية، لأنهم شغلوا بغيره، إلا ما كان من ابن عباس، وأشباهه من شباب الصحابة الذين وَعَوا أفاويقه في آخر حياة الرسول، ومنهم بعض من التزموا الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
فقد كان ابن عباس ترجمان القرآن كما عبر بعض علماء الصحابة، وقد أخذ من علم كثير من الصحابة، وخصوصا ابن عمه عليًّا، الذي قال فيه ابن عباس: ما انتفعت بكلام بعد كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - كما انتفعت بكلام عليٍّ كرَّم الله وجهه. فقد كان عليٌّ أستاذه بعد المرشد الأكبر محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وإن الصحابة علموا التابعين مما تعلموا من فهم القرآن وأولئك هم التابعون، فما صح عن التابعين أهل الثقة الذين لازموا الصحابة واختزنوا علمهم، وهو علم بنوه ونقلوه نقلا صحيحا أخذنا به. بيد أنه يجب الاحتراس عند الأخذ من الأقوال(1/25)
المنسوبة للتابعين؛ فإنه قد حدث في عهد التابعين أمران كانا سببا في دخول كلام في تفسير القرآن ليس منه، ولا مقتبسا من روحه:
أولهما - دخول كلام من بني إسرائيل إلى العلم الإسلامي ونسبوه إلى التابعين على أنه من أقوالهم، وقد روى أن بعض من ينسبون إلى صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - استهواه ما عند اليهود، فنقله، حتى إنه ليُروى أن عبد الله بن عمرو بن العاص، نقل في غزوة اليرموك حمل راحلتين مما عند اليهود، وتسرب إلى العقل الإسلامي ونسب إلى بعض التابعين، بل إلى بعض الذين لهم صحبة بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإن لم يكونوا من الرعيل الأول الذي حمل علم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما زال العلماء في هذا يعانون الكثير، مما اختلط بالتفسير من الإسرائيليات، ومحاولة رحض (1) التفسير منها، كما يرحض الثوب الأبيض الناصع من الأقذار التي علقت به.
وإذا كان اليهود عجزوا عجزا مطلقا عن أن يعبثوا بالقرآن كما عبثوا بغيره، فإنهم أتوه من ناحية تفسيره، ولكن ذلك لَا يَمَسُه، بل يَمَسُّ العقول التي لَا تمحِّص ولا تدرك، ولا تحكم بقرآن، ومقاييس العقل؛ ولذلك بقي النبع الإلهي الصافي يدركه من يتأمل ما أحيط به فينبذ الزيف، ويدرك الجوهر الصافي.
ثانيهما - أنه في عهد الأمويين، وهو عهد التابعين، وجد من النصارى الذين كانوا في حاشية الأُمويين من يعملون على بث الروايات الكاذبة حول القرآن، وينسبونها للتابعين، كما نرى في القصة المكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زواجه بالسيدة أم المؤمنين زينب بنت جحش - رضي الله عنه -، فقد ادعى النصارى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى زينب في حال أثارت عشقه، فأمر زيدًا أن يطلقها، وأن يتزوجها، وبث هذا الادعاء فيهم يوحنا الدمشقي الذي كان في خدمة الأمويين وراجت هذه الأكذوبة التي لَا أصل لها إلا إفك هذا الأفَّاك، ونقلت عن بعض التابعين، وفسر بها قوله تعالى: (وَمَا
________
(1) رَحَضَ - من باب منع - الثوب رَحْضا، ورُحوضا: غسله فهو راحض، والمفعول مرحوض ورحيض [الوسيط]. والمقصود: تنقية كتب التفسير مما علق بها من الأقوال غير الصحيحة، والوجوه غير المحتملة.(1/26)
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40).
راجت هذه الأكذوبة بين المفسرين الذين يتلقون الأخبار من غير تمحيص لذاتها، ولا تعرُّف دقيق لمصادرها. ووقع فيها شيخ المؤرخين والمفسرين محمد بن جرير الطبري، وتكلف وخرَّج عليها تفسير هذه الآيات الكريمة، وتبعه في ذلك المفسرون، حتى الذين من شأنهم أن يمحصوا الحقائق كالزمخشري والرازي وغيرهما، وتلقاها الذين لَا يرجون للقرآن ولا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقارا في عصرنا، فكتب كاتب في كتاب له " محمد العاشق " وتبعه غيره من تلاميذه أو أشباهه الذين لا يمحصون الحقائق وليس للحقائق الإسلامية في قلوبهم روعة تدفعهم إلى التمحيص، وخاض كل المفسرين الذين كانوا قبل الحافظ ابن كثير، الذي ردَّها ومحصها ونقد ابن جرير الذي خاض فيها، وأثبت أنه لَا توجد رواية عن الصحابة في هذا صحيحة أو غير صحيحة.
وظواهر النص القرآني، ومعانيه تنافيها جميعا، وصريح القرآن يردها، فالله تعالى يحكي أن زواجها كان بأمر من الله تعالى، ويخبر أن طلاقها كان بأمر من الله، فالله يصرح بأن الأمر كان الحرج من المسلمين في تزوج زوجة المتبنَّى، فيقول:
(مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا(1/27)
رَحِيمًا (5)، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - كان قد تبنَّى زيد بن حارثة، وتزوج زيد زينب على أنه ابنه - صلى الله عليه وسلم -، فلما ألغي التبني بحكم الإسلام تململت به، وتململ من كبريائها، فأراد أن يطلقها، فقال له محمد الأمين - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر القرآن: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّه مُبْديهِ)، وهو إرادة الله في الطلاق، وتزويجها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال سبحانه: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا).
، وسنبين ذلك أفضل بيان عندما نتكلم في معاني هذه الآيات إن شاء الله تعالى.
* * *
(تفسير القرآن بالرواية)
إنه لَا شك أن تفسير القرآن بالرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر مقرر ثابت؛ لأن القرآن الكريم بيانه أولا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجب تحري السنة الصحيحة، ولا يتبع إلا الصحيح، بيد أنه في بعض المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يخالف ما نحسه ونعاينه، كقول بعض المفسرين معتمدين على بعض الروايات بأن بعض الأنهار تنبع من الجنة وأنها تفيض منها، مع أنه ثبت بالمعاينة أنها تفيض من سيول في جبال، أو تنبع من منابع وبحيرات يراها الناس. ومن المقرر أنه إذا كان حديث آحاد بما يثبت العقل أو الرؤيا نقيضه، يُرَدُّ حديث الآحاد، ويثبت بطلان نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك ما يُثبِت علم علماء الكون خلافه ثبوتا قطعيا بالبرهان القاطع الذي لَا يتطرق إليه ريب، فقد ذكر الغزالي أنه إذا كان خبر الآحاد يناقض ما أثبته العلم ثبوتا قطعيا، ترد نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يؤوَّل، وإن النص المناقض قطعيا يؤؤَل بما لَا يكون بينه وبين العلم القطعي خلاف.
وقد أكدنا في عباراتنا أن العلم الذي يؤوِّل النص القطعي، أو نرد به الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يكون علمًا قطعيًّا، لكيلا نغير في النصوص بفروض ونظريات لم تثبت بدليل قطعي، ولا يلتفت إليها إزاء النصوص، ولو كانت خبر آحاد ثبتت صحته؛ لأنها فروض لم تؤكد بدليل قطعي كنظرية النشوء والارتقاء،(1/28)
فإنها فروض لم يثبت صدقها. وإنما الأخبار الصحيحة - أي من حيث السند - التي تكون تفسيرًا للقرآن ولا تجوز مخالفتها هي الأخبار التي لَا يطعن في صحة متنها ولا تخالف أمرًا يقطع العقل بخلافه.
* * *
(هل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر القرآن كله؟)
إن ابن تيمية العالم الفقيه يقول (1): إن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بين القرآن كله، ولم يترك فيه جزءا يحتاج إلى بيان ولم يبينه، ولا جزءا يحتاج إلى تفصيل ولم يفصله، ولا مطلقا يحتاج إلى تقييد ولم يقيده، ويحسب أن ذلك جزء يجب الإيمان به لقوله تعالى: (. . . وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ. . .).
وقد تلقى الصحابة تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال عبد الرحمن السلمي: " حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل ". وإن الصحابة كانوا لايستحفظون القرآن فقط، بل كانوا يتعلمونه ويتعلمون معانيه، ويقول في ذلك رضي الله عنه - أي ابن تيمية -: " من المعلوم أن كل المقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالعادة تقرّ ألا يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب، ولا يستشرحوه، فكيف بالكلام الذي هو عصمتهم ونجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟ ولهذا كان النزاع في تفسير القرآن قليلا جدًّا.
ويتعين علينا إذن أن نقول إن تفسير الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو تفسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا ما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قول يخالفه.
وإن الصحابة علَّموا تلاميذهم من التابعين ما تلقوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم أهل صدق، فابن عباس كان له تلاميذ تلقوا عنه كمجاهد، وعكرمة، ونافع وغيرهم ممن تلقوا عن ابن عباس، ولكن ما ينسب إلى التابعين يجب تمحيصه، فقد نفذت
________
(1) راجع هذا المبحث في مقدمة أصول التفسير لابن تيمية.(1/29)
الإسرائيليات وما دسَّه النصارى إليهم كما أشرنا من قبل، وعلى هذا يسنُّ ابن تيمية أمثل المناهج في اعتتماده.
فأعلى المراتب تفسير القرآن بالقرآن، والقرآن كتاب متكامل، ما يجمله في موضع يفسره في آخر، وهكذا. وتلي هذه المرتبة تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد بينا ذلك بما يناسب المقام.
والمرتبة الثالثة تفسير القرآن بأقوال الصحابة، وهم الذين تلقوا تفسيرهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: والله الذي لَا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناولته المطايا إلا أتيته.
المرتبة الرابعة مرتبة التابعين الذين تلقوا علم الصحابة كمجاهد وقتادة، وقد يختلفون، فيرى ابن تيمية أنه إذا اختلف التابعون اختار من أقوالهم، ولا يخرج عنها. فإن التابعين قد دخلت في عهدهم الإسرائيليات، ومعابث النصارى، فيجب الأخذ عنهم باحتراس ويقظة، وإذا اختلفوا نأخذ من أقوالهم ما ليس فيه دَسٌّ على الإسلام لنصون كتاب الله تعالى عن تطاول المفسدين، كما ذكرنا في قصة زينب بنت جحش - رضي الله عنه - المدسوسة على المفسرين.
وإنه يجب التنبيه إلى أن الواجب العلمي إبعاد الإسرائيليات عن تفسير القرآن، وتنقية كتبط التفسير منها، وإذا قيل إن منها ما يوافق النصوص القرآنية، ولا يخالفها، نقول إن في القرآن غنى عنها، والأكثر فيه تهويش على معاني القرآن، وإثارة للأوهام الكاذبة.
* * *
(تفسير القرآن بالرأي)
ابن تيمية وبعض علماء السلف يقصرون التفسير على ما يكون بالرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويمنعون التفسير بالرأي، ويستدلون على ذلك بما يأتي:(1/30)
أولاً: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند ابن تيمية: " مَنْ قَالَ في القُرْآنِ بغَيرِ عِلْم فَلْيَتَبَؤَأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار " (1)، وقوله عليه الصلاة والسلام: " مَنْ قَالَ فِي القُرآنِ بَرأيِهِ، وأصَابَ فقدْ أخْطَأ " (2).
ثانيًا: شدد أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في منع الأخذ بالرأي في معاني القرآن، ويروون في ذلك عن أبي بكر أنه قال: (أي أرض تُقِلُّنِي، وأي سماء تُظِلُّنِي إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم).
ثالثًا: وكان التابعون يتحرجون في القول في التفسير إلا أن تكون الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الصحابة، ولقد قال مسروق: " اتقوا التفسير فإنه الرواية عن الله " (3). وهكذا نرى طائفة من علماء السلف يمنعون التفسير بالرأي المجرد، وابن تيمية يوضح آراءهم ويؤيدها مشددًا فيها، ونحسب أن المبرر الذي جعل ابن تيمية يتشدد في ذلك هو سد الذريعة لمنع الأوهام التي وجدت بتفسير بعض الإمامية، والإسماعيلية، والباطنية، فقد رويت تفسيرات سموها باطن القرآن وجعلوا للباطن باطنا، حتى وصلوا إلى سبعة بواطن، فكان منع التفسير بالرأي دفعًا لهذه الأوهام الباطنية التي أفسدت المعاني القرآنية بتأويلات لَا برهان عليها.
فإذا كان الإسرائيليون قد أدخلوا على التفسير ما ليس بمعقول ولا مقبول، فالباطنيون قد أدخلوا بتأويلاتهم وبواطنهم ما ليس من التفسير في شيء، والله حافظ كتابه من الفريقين، وهو بنوره الساطع يلفظ الخبث كما يلفظ الفلز في كير النار
خبثه.
________
(1) أخرجه الترمذي: كتاب تفسير القرآن - باب: ما جاء في الذي يفسر القرآن بغير علم، وأحمد: كتاب مسند بني هاشم - باب: بداية مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
(2) رواه الترمذي. الموضع السابق (2952)، وأبو داود في كتاب العلم (3652) بلفظ: " كتاب الله " كلاهما عن جندب بن عبد الله.
(3) قال أبو عبيد: عن الشعبي عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله. [مؤلفات ابن تيمية (أصول التفسير) ج 13 ص 521].(1/31)
والغزالي أجاز التفسير بالرأي، وفتح الباب، ولكن قبل أن نقدم إسناده من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة نحرر رأيه، فهو:
أولا: لَا يهمل السنة ولا آثار الصحابة وأقوالهم، ويقرر أن ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بسند صحيح لَا تصح مخالفته، ويجب الأخذ به.
ثانيا: لَا يفتح الباب على مصراعيه لكل من يرى رأيا فيفسر القرآن برأيه، بل يجب أن يكون عنده علم اللغة، وعلم القرآن، وعلم السنة، لكيلا يقول على الله تعالى بغير علم.
وإن الفهم في كتاب الله تعالى باب متسع لكل من عنده أداة الفهم لعلم القرآن، ويستدل على ذلك بنصوص من القرآن والسنة وأقوال الصحابة:
(أ) إن القرآن الكريم فيه كل علوم الدين بعضها بطريق العبارة، وبعضها بطريق الإشارة، وبعضها بالإجمال، وبعضها بالتفصيل، وإن ذلك يحتاج إلى التعمق في الفهم، والاستبصار في حقائقه. وذلك لَا يكفي فيه الوقوف عند ظواهر التفسير التي تجيء على ألسنة بعض السلف، بل لابد من التعمق، واستخراج المعاني ما دامت لَا تخالف صريح المأثور، ولكنها أمور تسير وراءه، وعلى ضوئه وعلى مقتضى هديه؛ ولذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من أراد علم الأولين والآخرين، فليتدبر القرآن " وإن ذلك لَا يكون بغير التعمق في الفهم والتعرف بالإشارة للمَرائي البعيدة والقريبة من غير اقتصار على ظاهر النصوص.
(ب) إن في القرآن بيان صفات الله سبحانه وتعالى، وذكر ذاته القدسية وأسمائه الحسنى، وإن معرفة ذلك مع التنزيه وعدم المشابهة للحوادث يحتاج إلى تدبر وبيان ليعرف القارئ لكتاب الله تعالى أنه سبحانه وتعالى منزه نزاهة مطلقة عن المشابهة للحوادث.
(جـ) إنه قد وردت آثار كثيرة تدعو إلى الفهم والتدبر، فقد قال علي - كرم الله وجهه -: " من فهم القرآن فسَّر به جمل العلم "، وقال رضي الله عنه: " ما(1/32)
أعطانى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا كتمه عن الناس إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في كتابه " (1).
(د) إن عبارات القرآن تدعو إلى فهمه فقال تعالى: (وَمَن يُؤْتَ الْحكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا. . .)، فقد قال فقهاء السلف إن الحكمةَ هي فهم القرآن، وإذا كان فهم القرآن خيرا كثيرا، فإنه سبحانه يدعو القادرين على الفهم للبحث والتأمل والنظر في الآيات وفهمها.
ولقد قال تعالى: (. . . وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ. . .)، وفي هذا دعوة إلى الاستنباط، واستخراج المعاني العميقة، كما يستنبط الماء من الآبار، وفيه إشارة إلى وجوب تعرف معاني القرآن بالفهم بصحيح كما يتعرفونها بالآثار الصحيحة، فهما طريقان مستقيمان، فمن منع أحدهما فقد خالف العقل والنقل.
(هـ) إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالفهم في القرآن فقال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " (2) وليس التأويل إلا فهم مرامي العبارات والمآل والمكان للمعاني التي تشتمل عليها ألألفاظ وجمل القول. ولو كان التفسير مقصورا على ما ورد من أقوال النبي لقال عليه الصلاة والسلام: " حَفِّظْهُ ".
والغزالي لَا يقف في استدلاله عند تأثير التفسير بالرأي، بل ينقد أدلة الوقافين الذين يقفون عند المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين لَا يعدونهم - وينقدهم من وجوه:
أولها: أنه لكي يصح الوقوف على تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يكون كل ما نأخذ به من تفسير مسندًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو ثابتا بالضرورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
________
(1) أخرجه البخاري - كتاب العاقلة - باب: الديات (03 69). وبنحوه عند مسلم - كتاب العتق (1370) وكذا رواه الترمذي، والنسائي، وأبو داود، وأحمد.
(2) أخرجه أحمد: كتاب: مسند بني هاشم - باب: بداية مسند عبد الله بن عباس (2874 - 3932) وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد.(1/33)
بأن يقول التفسير صحابي أو تابعي، ولا يتصور أن يكون ذلك من غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس للرأي فيه مجال، فإذا كان للرأي فيه مجال فاحتمال أن يكون ذلك من رأى الصحابي أو التابعي، وخصوصا أنه في عهد التابعين أدخلت الإسرائيليات، ونقل عبد الله بن عمرو بن العاص حمولة زاملتين في موقعة اليرموك، وإن ما نقل لنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تفسير ليس كل التفسير، ولا جُلَّه.
ثانيها: أن الراجح أن تفسير الصحابة الذين قالوه لم ينسبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان من المحتمل أن يكون بآرائهم، وإن كان لها فضل الاقتباس من هدى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن واجب الاقتداء بهم أن نفسر بالرأي مثلهم مسترشدين بأقوالهم في فهم الآيات كما نسترشد بآرائهم في الفقه، وفي معاني الألفاظ العربية.
ثالثها: أن الصحابة اختلفوا، وكذلك التابعون، وسماع كل هذه الأقوال محال، فلا بد أن يكون بعضها صحيحا وبعضها غير صحيح. ولو كان بعضها مسموعا لوجب رد الباقي، ولا يمكن معرفة ما يرد وما يبقى؛ لأن المسموع منها غير متميز ولا معين، ويؤدي هذا إلى أن بعض هذه الاقوال كان بالرأي، وأن المتبع للآثار ولا يعدوها لَا يكون له مناص من أن يختار من هذه الأقوال المختلفة، وأن ذلك سيحمله على أن يعمل الرأي في تخير ما يختار، ويكون المتبع قد فر من الرأي ابتداء ثم وقع فيه انتهاء.
ويبين الغزالي موضع النهي عن الرأي في فهم القرآن فيرى أنه في موضعين: أولهما: أن يكون له رأي في موضوع الآية، ويميل إليه بطبعه وهواه، فيتأوَّل الآية من القرآن لتكون على وفق رأيه، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى ما كان ليلوح إليه ذلك المعنى. وهذا تارة يكون مع العلم بأنه ينزل القرآن على فكره وهواه كبعض المبتدعة الذين يجادلون في آيات الله ويلحفون في الجدل للغلب، وهم يدركون أن القرآن لَا يؤيد رأيهم ولكن يتغالبون به.
وقد يكون غير قاصد الغلب، بأن تكون الآية تحتمل معنيين أو تبدو له كذلك، فيختار منهما ما يكون أوفق مع فكره، ولولا فكره السابق ما اختار ذلك المعنى.(1/34)
ثم يقول الغزالي: وهذا الجنس مما تستعمله الباطنية لتغرير الناس، ودعوتهم إلى مذهبهم الباطل، فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم، وعلى أمور يعلمون قطعا أنها غير واردة به، فهذه الفنون أحد وجهي المنع من التفسير بالرأي، ويكون على هذا المراد بالرأي الممنوع الرأي الفاسد الموافق للهوى دون الاجتهاد الصحيح.
ثانيهما: المسارعة إلى تفسير القرآن بظواهر الألفاظ من غير معرفة المنقول في موضوعها، ومن غير مقابلة الآيات بعضها ببعض، ومن غير معرفة العرف الإسلامي الذي خصص كبعض الألفاظ العربية، ومن غير علم دقيق بأساليب الاستنباط من حمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص، وإدراك مواضع الإضمار والحذف، وغير ذلك من الأساليب القرآنية المعجزة، فإن ذلك يكون تفسيرا بالرأي من غير أهله، واجتهادًا في الفهم بغير أدواته، وليس ذلك من التفسير بالرأي، إنما ذلك من التهجم على ما لَا يحسن والعمل فيما لَا يتقن، وذلك قبيح في كل شيء (1).
* * *
(الطريقة المثلى)
وإن الطريقة المثلى التي توصل إلى الغاية في فهم القرآن، وتعرف معانيه، وإدراك دلائل إعجازه هي الاعتماد على النقل والعقل، فلا يصح الاقتصار على النقل وحده، ولا على العقل وحده، وإنما النظر الأمثل هو أن يعتمد على العقل والرأي وعلى السماع من أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فهم القرآن، فظواهر القرآن من الألفاظ، والآثار التي تعاضد الظاهر، لَا تكفي وحدها بل تساعد العقل، وتفتح له السبل لاستخراج معاني القرآن المتسعة الأفق البعيدة المدى التي توجه الفكر إلى أعمق الحقائق العلمية والكونية والنفسية، وكلما تفتح العقل في ظل إدراك الألفاظ وظواهر اللغة أدرك إدراكا صحيحا ما تشير إليه الحقائق الكونية، وما يشير إليه القرآن.
________
(1) قال المصنف - رحمه الله - في الهامش: راجعنا هذا البحث على الإحياء مع بيان النتائج من مقدماتها.(1/35)
وإنه كلما اتسع أفق العقل البشرى في فهم الكون والحقائق والشرائع اتسع فهمه للقرآن الكريم، ولعل هذا هو الحقيقة التي أشار إليها بعض الصحابة، إذ روى عن أبي الدرداء أنه قال: " لايفقه الرجل، حتى يجعل للقرآن وجوهاً أي اتجاهات متلاقية، ولكن بعضها أعمق من بعض، وكله حق.
وروي عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن للقرآن ظاهرا وباطناً (1) وليس هو الباطن الذي يقوله الباطنية، إنما الباطن الذي أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الباطن الذي تدل عليه إشارات العبارات القرآنية، من أسرار الإعجاز البياني، وإلى ما تشير إليه من حقائق كونية ونفسية وخلقية وأحكام عملية، وغير ذلك من المعاني التي يدركها العالم المتعمق ذو البصيرة النيرة الذي آتاه الله تعالى نفاذ بصيرة، واستقامة فكر، كالذي يدركه علماء الأكوان في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)، فالمعنى الظاهر لكل مُلمٍّ باللغة العربية هو أن السماوات والأرض كانتا متصلتين، وهذا معنى سليم هو الظاهر، والعالم المدرك للأكوان الباحث فيها يعرف كيف كانت السماء والأرض كتلة واحدة، وكيف انفصلت الأرض وتكونت عليها القشرة الأرضية، وكيف كان الماء العذب، والملح الأجاج.
وهكذا نجد أن كل تالي للقرآن يدرك من معانيه بمقدار إدراكه وعلمه.
والغزالي يقرر أن المعاني اللغوية، وما يشير إليه النقل والسماع هو المفتاح والطريق للمعنى العميق الذي يدركه الناس كلما تفتقت العقول واتسعت المدارك واطلعت على حقائق الكون، وأدركت معاني الآيات الطالبة للنظر في الكون، فهو اللوح الذي كتبت فيه حقائق هذا الوجود، وفيه الدلالة على وجود الله تعالى، وإبداعه. ويقول الغزالي في ذلك: " العقل والسماع لابد منهما في ظاهر التفسير أولا؛ ليتقى به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط واستخراج الغرائب التي لَا تفهم إلا بالسماع، ولا مطمع في الدخول إلى الباطن قبل إحكام
________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه وذكره العراقي في تخريج أحاديث الإحياء جـ 1 - ص 99.(1/36)
الظاهر، ومن ادعى فهم أسرار القرآن وهو لم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن يريد البلوغ إلى صدر البيت قبل مجاوزة الباب، أو يدعي فهم مقاصد الأتراك من كلامهم وهو لَا يفهم لغة الترك، فإن ظاهر التفسير يجري مجرى تعلم اللغة التي لابد منها للفهم.
والمعنى الباطن الذي جاء على حكم الغزالي ليس هو ما عند الباطنية كما ذكرنا، إنما هو تحري الدقائق التي تكون في مطويِّ ألفاظ القرآن، والأسرار التي لا يدركها إلا العلماء المتخصصون في العلوم المختلفة كل بمقدار طاقته في علمه بعد فهم ظاهر اللفظ وما فيه من مجاز وحذف وإضمار، وعموم وخصوص، وإطلاق وتقييد.
ويقول حجة الإسلام عمّا فيه من أسرار ما نصه: " وإنما ينكشف للراسخين في العلم من أسرار بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم، وتوفر دواعيهم على التدبر، وتجردهم للطلب، ويكون لكل واحد حد في الترقي إلى درجة أعلى منه، أما الاستيفاء فلا مطمع فيه ولو كان البحر مدادا والأشجار أقلامًا، فأسرار كلمات الله تعالى لَا نهاية لها، فمن هذا الوجه يتفاوت الخلق في الفهم بعد معرفة ظاهر التفسير، وظاهر التفسير لَا يغني عنه ".
هذا ما نقلناه عن الغزالي وذلك ما قاله ابن تيمية، ونحن بلا ريب نأخذ برأي الغزالي وعليه سار المفسرون، حتى مُفسرو الروية، فإنهم لَا يردونه، حتى شيخ المفسرين محمد بن جرير الطبري، فاختياره من أقوال التابعين فيه عمق، واتجاه إلى تعرف الأسرار في الألفاظ القرآنية، والعبارات، واستقصاء المعاني. وقد يقول قائل: إن الغزالي يشجع تفسير القرآن بالعلوم الكونية، فهل نشجعه كما شجع؟ للإجابة على هذا السؤال نقول: إن ما يكون من آيات القرآن دالا على حقيقة علمية كما تلونا في قوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)، فإنه بلا ريب أن بيان الحقيقة العلمية يكون من بيان القرآن، ويعتمد فيه على كلام أهل الخبرة، وذلك كقوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا(1/37)
طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12).
فهذه الآيات وأمثالها كثير، ولابد فيها من الاستعانة بأهل الخبرة، ويقررون في ظلها الحقائق العلمية، ويجب أن يلاحَظَ أمران:
أولهما: ألا تفسَّر الآيات الكريمات بنظريات وفروض لم يقم الدليل القاطع عليها، وقد تتغير العلوم الكونية بتغير النظريات حولها وقتا بعد آخر، ولا يصح أن يفسر القرآن بنظريات قابلة للنقض والتغير. إنه كتاب الله تعالى لَا تبديل لكلماته، وهو العزيز الحكيم، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ثانيهما: ألا يكون الاتجاه إلى تحميل الألفاظ فوق ما تحتمل، فلا تجهد الآيات إجهادا ليطبقوها على الحقائق أو ليطبقوا الحقائق عليها، بل لَا يفكر أهل الخبرة في أسرار الآيات إلا ما يكون ظاهرا واضحا كما رأينا في الآيات التي تُلِيَتْ، ويكون عمل الخبير العلمي تصويرها من غير إجهاد لألفاظها، أو تحميلها ما لَا تحتمل، وإن الأخذ بهذا المنهاج السليم فيه بيان للقرآن الكريم، وصيانة له، وبعد به عن مواطن الشبهات.
* * *
(علم الكلام وآراء الفقهاء)
كثر القول في تفسير القرآن الكريم في الكتب التي تصدت للتفسير كتفسير الزمخشري، وفخر الدين الرازي وغيرهما من أمهات كتب التفسير في أمور هي من علم الكلام؛ كتعلق إرادة الله تعالى بأفعال العباد، وكذلك الآيات القرآنية التي تتعرض للمشيئة والإرادة، وهداية العبد وضلاله، وللصفات أهي غير الذات، أم هي والذات شيء واحد، وغير ذلك من مسائل علم الكلام. والزمخشري مع مقامه في البيان، وإثباته إعجاز القرآن من تفسير القرآن، يذكر مذهبه الاعتزالي ويخرج تفسيره على هذا المذهب، وتعقبه من جاء بعده في إثبات صحة مذهب(1/38)
الأشاعرة (1) أو الماتريدية، حتى يغلب القول التفسير والبيان، وتختفي معاني القرآن الكريم في لجاجة التعصب المذهبي، وهذا النوع من التفسير هو أحد القسمين اللذين ينطبق عليهما النهي عن الرأي؛ لأن المفسرين سبقت آراؤهم تفسيرَهم، فحمَّلوا معاني القرآن على ما يوافق مذهبهم، والقرآن الكريم فوق آرائهم، ومعاني القرآن فوق كل رأي ومذهب، وتحمل الآراء والمذاهب على معاني القرآن لأنه الأعلى، وهو الشرع الحكيم.
فليست معاني القرآن أشعرية ولا ماتريدية، ولا اعتزالية، وإن تخريج الآراء على مقتضى مذهب من المذاهب يجعل القرآن مفرقا، ويجعله عضين (2)، وذلك حرام؛ لذلك لَا نفتح - بعون الله تعالى وتوفيقه - مجالا لهذه المجادلة في ذكر معاني القرآن، بل نتجه - إن شاء الله تعالى - إلى المعاني الواضحة البينة، من غير أن ننزلها من مقامها السامي إلى مضطرب المذاهب والآراء.
* * *
(وبالنسبة للآراء الفقهية نلاحظ أمرين)
أولهما: أن اختلاف الآراء الفقهية حول ما ثبت من الأحكام بالنصوص القرآنية قليل، فلا اختلاف لأنظار الفقهاء في آيات الأحكام بالنسبة للزواج وشروطه، والمحرمات، وغيرها، والاختلاف أساسه اختلاف الروايات، وهو في الأحكام الفقهية نادر، ولا يعلو إلى درجة الاختلاف الذي يورث عداوة، أو يوجد تراميا بالكفر والخروج عن الربقة عند العلماء رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
ثانيهما: وليس ثمة خلاف جوهري في أمر يتعلق بالأحكام الثابتة بالقرآن إلا الاختلاف بين جماهير المسلمين وطائفة الإمامية في الميراث، وهذا الاختلاف لا يخرج عن دائرة الثابت بالقرآن، وهو في تقديم بعض الورثة على بعض، فليس ثمة
________
(1) الأشاعرة: أو الأشعرية نسبة إلى أبي الحسن إسماعيل بن إسحاق. ينتهي نسبه إلى أبي موسى الأشعري.
ولد بالبصرة 260 هـ، والماتريدية نسبة إلى أبي منصور محمد بن محمد الماتريدي المتوفى سنة 332 هـ.
(2) عِضُون: جمع عِضة وهي القطعة الوجيز (عضي).(1/39)
خلاف في أن للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا في أن الميراث يكون للأقرب فالأقرب، ولكن الاختلاف في معنى القرابة أحيانا، وأحيانا نجد النص القرآني يقرب، ولا يبعد.
ومسلكنا في آيات الأحكام أن نذكر الأحكام الثابتة بالقرآن بإجمال مستعينين بالسنة القولية والعملية في العبادات، وفي الأنكحة، وغيرها.
نذكر الأحكام بإجمال تفسير الآيات القرآنية مبينين ما يحتاج إلى بيان بالسنة النبوية، مرجحين ما يتفق مع السنة، أو ما نراه أقرب إلى النص، كمعنى قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ... )، فإنا في هذه نأخذ بما يُفهم من السنة.
وهكذا لَا نتعرض للخلاف الفقهي إلا في أضيق دائرة، وما يوجبه علينا ذكر معاني القرآن واضحة نيرة كشأنها دائما، ولا نخضع هذه المعاني لآراء الفقهاء، إنما نخضع آراء الفقهاء لها؛ لأنها الحكم الذي لَا ترد حكومته، والقرآن هو الحاكم بالصحة لآراء الفقهاء وليس محكوما بها.
* * *
(النسخ في القرآن الكريم)
لابد قبل أن نبدي رأينا في النسخ في القرآن الكريم أن نقرر حقائق ثلاثا لابد من بيانها أو الإشارة إليها، نكتفي هنا بالإشارة إليها:
الحقيقة الأولى: أن القرآن الكريم نسخ من الشرائع السابقة التي أتى بها الوحي وهي الشرائع السماوية، فما بقي منها أبقاه القرآن الكريم، ونص على بقائها كبعض أحكام القصاص، وكتحريم الربا، وكتحريم المحرمات وغير ذلك، وكان النص عليه في القرآن الكريم دليلًا على بقائه من غير نسخ.
الحقيقة الثانية أن النسخ جرى في السنة، ذلك أن السنة كما تتولى بيان الأحكام تتولى علاج المسائل الوقتية، ويختلف الحكم الوقتي في بعض الأوقات عنه في بعضها؛ ولذا جرى النسخ في السنة.(1/40)
الحقيقة الثالثة: أن القرآن الكريم سجل هذه الشريعة الخالدة، بل سجل الشرائع السماوية، ومعجزات النبيين جميعا، وما نسخ منها أشار إلى نسخه، وما بقي منها صرح ببقائه، كالقصاص، وخصوصا في الأطراف، كما جاء في قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45).
ولذا نحن نرى ما رآه من قبل أبو مسلم الأصفهاني، وهو أنه لَا نسخ في القرآن قط؛ لأنه شريعة الله تعالى الباقية إلى يوم القيامة، ولأن النسخ لم يثبت بنص عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لم يصرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بنسخ آية من القرآن، وما جاء من عبارات النسخ في القرآن إنما في نسخ المعجزات الحسية بالقرآن الكريم، وقد بينا ذلك في موضعه من معاني الذكر الحكيم.
ولأن النسخ يقتضي أن تكون آيتان في القرآن موضعهما واحد، وإحداهما مُثْبِتَة والأخرى نافية، ولا يمكن الجمع بين النفي والإثبات، وما ادُّعِيَ النسخ فيه التوفيق بينهما سهل ممكن، وما أمكن التوفيق فلا نسخ، وقد اشتركنا في كتابة التفسير مع بعض العلماء ولم نجد آيتين متعارضتين لم يمكن التوفيق بينهما، وقد طبع ذلك التفسير وسمي بـ " المنتخب " طبعته إحدى الجامعات الإسلامية، والله الهادي إلى سواء السبيل.(1/41)
(سُورَةُ الْفَاتِحَةِ)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
* * *
ابتدأ كلام الله تعالى بـ(1/43)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وهي مقدمة لتلاوة كل سورة من سور القرآن، وروي عن بعض الصحابة: " إننا كنا نعرف نهاية سورة وابتداء سورة بنزول قوله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) وروي عن جعفر الصادق بن محمد رضي الله عنهما، أنه قال: " البسملة تيجان السور "، وقد قال عبد الله بن المبارك: " إنها جزء من كل سورة؛ ولذلك يجب ابتداء السورة بقراءتها.(1/43)
على أنها جزء منها، وقال الشافعي: " إنها جزء من الفاتحة "، وتَردَّد في عدها جزءًا من كل سورة، ولكنها مهما تكن ليست جزءا من غير الفاتحة، وهي لازمة للفصل بين سورة وسورة من السور التي ابتدأت بذكرها.
ولأن ثمة كلامًا في كون سورة براءة ليست مستقلة عن سورة الأنفال، وعدها الأكثرون جزءا منها - لم تكن مبتدأة بالبسملة، وينسب إلى الإمام مالك رضي الله تبارك وتعالى عنه أنها ليست جزءا من سورة الفاتحة أو غيرها، ومؤدى هذا القول أنها ليست من القرآن ككلمة " آمين " في آخر الفاتحة؛ إذ إن الفاتحة ضراعة إلى الله تعالى، فناسب أن تذكر بعدها " آمين "، وعدَّ القرطبي في كتابه " أحكام القرآن " أن في مذهب مالك أن البسملة ليست من القرآن هو الصحيح، وذكر أن القرآن كله متواتر، والبسملة ليست متواترة، فلا تعد من القرآن، ولكن تكون علامة على انتهاء سورة، وابتداء سورة أخرى.
ومع أنه قرر ذلك - يقرر أن مالكا يرى أنها يُبتدأ بها في الفرض والنافلة، كما رواه ابن نافع، وفي الحق أن ذلك القول غريب عن القرآن، وذلك لأن البسملة متواترة تواتر كل أجزاء القرآن، فلم تثبت بحديث آحاد، بل ثبتت بالقرآن نفسه، فقد كتبت في مصحف عثمان وما قبله، ولا تواتر أبلغ من هذا، وما كان للشيخين أبي بكر وعمر، وذي النورين وجميع الصحابة أن يدوِّنوا في المصحف ما ليس من القرآن، و " آمين " هي التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنطق بها في عقب قراءة الفاتحة.
إن ادعاء أنها ثبتت بخبر آحاد يقتضي ذكر ذلك الخبر، ورواته، ومقدار قوتهم، وضعفهم، وعددهم، وليس كذلك، بل هي ثبتت مقترنة بسور القرآن على أنها ثابتة بين كل سورة وسورة.(1/44)
والسورة التي لم تصدر بها، ثبت عدم تقدمها لهذه السورة بالتواتر، فهي متواترة بالذكر في كل السور، ومتواترة بالسلب في سورة واحدة.
ولهذا نرى أن نسبة ذلك القول إلى إمام دار الهجرة مالك هو في ذاته موضع نظر، وقد اقترن ذلك بادعاء أنه لم يقرأها أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقول القرطبي عفا الله عنه: " فى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة انقرضت عليه العصور ومرت عليه الأزمنة والدهور من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قط (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) اتباعًا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وإن لنا أن نرد ذلك القول، ونأخذ ذلك من كلامه هو، فهو قد روى أن عمر، وعليًّا، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، كانوا يقرأونها ويسرون بها.
وروى هو أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسر بها ولا يجهر، فقد روي عن أنس ابن مالك رضي الله عنه أنه قال: " كان يصلي بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يُسمعنا قراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " (1) وروي عنه أيضا: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخلف أبي بكر، وعمر، فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بـ " بسم الله الرحمن الرحيم " (2).
فالأمر أمر الجهر بها، لَا أمر تركها، وفرق كبير بين الترك لها أصلا، وترك الجهر بها.
وبذلك ينتفي ما ادعاه من أن أحدا لم يقرأها، اتباعا للسنة إن كانت سنة، وذلك لأنهم قرأوها خفية وفي سر، آخذين ذلك من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
________
(1) رواه النسائي: كتاب الافتتاح - باب: ترك الجهر بـ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " (906) وبنحوه عند. البخاري (743)، ومسلم (399)، والترمذي (246)، وأبو داود (782)، وابن ماجه (813)، وأحمد (11580).
(2) أخرجه بهذا اللفظ النسائي: كتاب الافتتاح (907)، راجع التخريج السابق.(1/45)
ومن كتاب الله عز وجل: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205).
وننتهي من هذا إلى أن البسملة جزء من القرآن الكريم، وهي فاصلة بين السور تدل على الانتهاء من سورة والابتداء بسورة أخرى.
وإن الشافعي يعُدها جزءا من الفاتحة، ومهما يكن فإنه لابد من البدء بقراءتها، وغيره يوجب البدء بها لَا على أنها جزء من الفاتحة، ولكن على أنها قرآن يبدأ به في أول كل سورة.
والأكثرون عدوها على أنها يبتدأ بها سرا لَا جهرًا أو تضرعًا في خفية، ودون الجهر من القول، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
(التعوذ في ابتداء التلاوة)
قال الله تعالى: (فَإذَا قَرَأْتَ الْقرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، فُهِم من هذا النص الكريم أنه عند التلاوة لابد أن يقدمها بقوله: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "، ثم تكون بعدها " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وقد حكي ذلك عن عطاء وغيره، فقالوا: " إن الاستعاذة واجبة عند كل تلاوة في غير الصلاة "، وإنما في الصلاة فلا وجوب، ويظهر أن ذلك بالاتفاق؛ لأنه يكون زيادة واجب في الصلاة لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل وجوب في عبادة من غير إيجاب من صاحب الشرع يُرَد ولا يؤخذ به. وكان النخعي، ومعه قوم يتعوذون استحبابًا في كل ركعة في الصلاة، فحيث كانت قراءة قرآن تعوذوا استحبابًا، وروي عن أبي حنيفة التعوذ في قراءة الركعة الأولى فقط.(1/46)
ومن المتفق عليه أمران:
أحدهما: أن الاستعاذة ليست جزءا من الصلاة، ولا شرطا لقراءة الفاتحة، كما هو مقرر عند الشافعي، لَا سرا ولا جهرا؛ لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه التزم بها لَا جهرا ولا خفية.
الثاني: أن كلمة " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ليست قرآنا، وإنما استجابة لقول الله تعالى: (فَإذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، وكلمة " أعوذ بالله " هي الكلمة التي يرددها الناس عند الاستعاذة، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في الاستعاذة: " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم "، وروى ابن مسعود أنه تعوَّذ بها أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: " يا ابْنَ أمِّ عَبْدٍ، أعوذُ باللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرجيمِ هكلذ أقْرَانِي جِبْرِيلُ عَنِ اللوح عَنِ القَلَم " (1)، وإن هذا النص يستفاد منه أن كلمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هي المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وننتهي من هذا إلى أنها مستحبة وليست واجبة، ولكن إذا قالها أيُسِرُّ أم يجهر؟
الجمهور على أنه يجهر عند الصلاة بها، وقال حمزة: يسرُّ بها، ومن قال إن الاستعاذة تكون بعد القراءة لأن الله يقول: (فَإذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ. . .، فالقراءة تسبق الاستعاذة امتثالا لأمر الله تعالى؛ ولكيلا يكون القارئ متغنيا، ولا متلقيا، وليكون في حضرة الله في قراءته وبعدها، ويكون طائعا لله تعالى في كل أحواله.
________
(1) ذكره بهذا اللفظ القرطبي في مقدمة تفسيره ص 128.(1/47)
الفاتحة أو فاتحة الكتاب
قال جار الله الزمخشري في كتابه الكشاف: إنها مكية؛ لأنها أنزلت بمكة، وذلك هو المشهور، وقيل إنها أنزلت بمكة مرة، والمدينة مرة أخرى عند تحويل القبلة إلى الكعبة، والظاهر أنها مكية، نزلت عند فرض الصلاة بمكة، وكونها نزلت بعد ذلك بالمدينة تكرار للنزول، ولا نحسب ثمة حاجة للتكرار فإنها متى نزلت كانت واجبة التلاوة على أنها جزء من القرآن ولاحاجة إلى تكرار نزولها.
وتسمى أم القرآن، لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على الله تعالى، بما هو أهله، ومن التعبد بالأمر والنهي، ومن الوعد والوعيد، وتسمى أيضا سورة الكنز، وسورة الوافية لذلك الشمول الإجمالي الذي اشتملت عليه فيما ذكرنا، وتسمى المثاني لأنها تثنى في كل ركعة ولأنها السبع المثاني. وتسمى سورة الصلاة، لأنها مأمور بقراءتها فيها، وتسمى الشفاء والشافية وهي سبع آيات بالاتفاق (1).
وكلها أسماء سميت بها لمعان فيها، ولاحظَها من جوانبها من سماها، فكل اسم يمثل جانبا من جوانبها.
ابتدئت الفاتحة كما ابتدئت كل سورة ما عدا براءة بـ " بسم الله الرحمن الرحيم "، وعدها الشافعي وفقهاء مكة جزءا من الفاتحة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدَّ الفاتحة سبع آيات، ولا تكون سبع آيات إلا إذا عدت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جزءا منها، وعند أهل المدينة ومالك ليست جزءا من الفاتحة، وقد علمت القول المختلف في ذلك، وقد قررنا أنها جزء من القرآن وابتداء لكل سورة، وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة: " ما بين دفتي المصحف قرآن "، وقد كانت
________
(1) الكشاف للزمخشري: جزء 1 ص 4.(1/48)
مكتوبة في مصحف عثمان رضي الله عنه والمصحفين من قبله، وتواتر المصحف بتواتر القرآن، والإجماع انعقد على ذلك، ولم تنقل بخبر آحاد كما ادعى بعض المالكية.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
(بِسْمِ) الباء هنا هي حرف جر يدل على السببية، وهي مبنية على الكسر كـ " لام " الأمر، والمعنى: بسبب اسم الله الذي لَا. يعبد سواه وأنه الرحمن الرحيم أبتدئ، فهي متعلقة بمحذوف يُذكر بعدها، لبيان اختصاص الابتداء أو التبرك باسم الله تعالى، فالتأخير يفيد الاهتمام بمتعلّق الباء ومزيد الاختصاص بالاستعانة والتيمن والتبرك به.
والبسملة يبدأ بها في كل أمر ذي بال، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِبِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم فَهُو أَبْتَر " والفعل الذي تعلقت به الباء محذوف، وكما ذكرنا يقدر مؤخرا، لأن المقدم يكون محل التخصيص.
ولأن البسملة يبدأ بها كل أمر ذي بال، فإنه يقدر الفعل على حسب ما نبتدئ البسملة، ويرى بعض المفسرين أن يقدر الفعل المحذوف " أبتدئ "، لأنه يكون صالحا، لكل أمر ذي بال وشأن، والآخرون قالوا: إنه يقدر في القرآن أتلو أو أقرأ أو أرتل أو نحو ذلك، وبعض العلماء قال: إنها في القرآن الكريم في معنى القسم بأن القرآن حق لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتكون على هذا للقسم، ويقدر الفعل بـ " أُقسم ". والمعنى على ذلك في أول كل سورة اجعل قسمك بالله الرحمن الرحيم أن ما تتلو هو الحق الذي لاريب فيه، فهو الكتاب لَا ريب فيه هدى للمتقين.(1/49)
و (اللَّهِ) هو لفظ الجلالة الدال على أنه وحده له كمال العبودية، واسم الله - قال بعض العلماء إنه المراد فيه الذات العلية فهو اسم يعني المسمى. والمعنى هو القسم بالذات العلية، وقرر بعض العلماء أن الاسم الأعلى هو المقصود بالافتتاح تبركا وتيمنا باسم الذات العلية، ولها المكان الأقدس من العباد تبارك الله، والاسم ذاته يتيمن به ويتبرك، فليس المراد بالاسم الذات؛ لأنها مذكورة، كما قال تعالى: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)، وقوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، وهذا ما نميل إليه؛ لأنه لَا يحتاج إلى تحول من المعنى الأصلي لكلمة الاسم إلى غيره، ولأن إطلاق الاسم على المسمى من قبيل المجاز، ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، ولأن قصد الاسم الأسمى ابتداءً يفيد معنيين، وهو تقديس الاسم في كلمة بسم الله، وتقديس المسمى وهو الله سبحانه. ولو أطلق الاسم على المسمى، لكان تقديسا للذات العلية من غير إعالاء للاسم في ذاته، ولا شك أن الأول أبلغ تسبيح لله تعالى لقاء التبرك بذكره، والتيمن به سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
وكلمة (اللَّهِ) تعالى لَا تطلق إلا على الذات العلية خالق الكون، ومنشئ الوجود على غير مثال سبق، بديع السماوات والأرض. وقالوا: إن أصل كلمة الله: الإله، ثم كان حذف الهمزة، مع تقدير أنها مطوية في الكلام مقدرة فيه. والإله تطلق على المعبود، وتعم المعبود بحق وبغير حق، ولكن كلمة (اللَّهِ) تعالى لا تطلق إلا على المعبود بحق، فيُقال: آلهة المشركين، وآلهة الرومان، وآلهة المصريين، ولا يقال: " الله " إلا في مقام أنه الخالق المدبر المنشئ المستحق للعبادة؛ ولذلك كانت ألفاظ القرآن الكثيرة في مخاطبة المشركين، على أن الله تعالى معروف بأنه المنشئ، وأنه غير آلهتهم، فكانوا يقولون: الآلهة هبل، واللات، والعزى، ومناة الثالثة؛ يقولون عنها إله وآلهة ولا يقولون عن واحدة منها إنه " الله "، لقد قال تعالى(1/50)
عنهم: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، وكان يحتج عليهم بأنهم يعبدون مع الله آلهة أخرى، وجدل القرآن الكريم لهم لإلزامهم بالتوحيد بأنهم يعترفون بأن الله تعالى خالق السماوات والأرض فهو الجدير وحده بالعبادة، اقرأ قوله تعالى: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
ونرى من هذا أن العرب كانوا يعرفون الله سبحانه وتعالى، وأنه الخالق لكل شيء وما كانوا يطلقون كلمة " الله " إلا على الخالق المدبر المنفرد بالإيجاد والإبداع، وما كانوا يطلقون على آلهتهم كلمة الله، وهذا عُرْف لغتهم ودلالتها.
(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هذان وصفان لله تعالى قُرنا في البسملة، وكلاهما يدل على كمال رحمة الله تعالى في ذاته وعلى خلقه، والرحمة رقة في القلب، والله تعالى لَا يتصف بذلك؛ لأن هذا من صفات الحوادث، والله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وإنما يراد من الأوصاف التي يتصف بمثلها العباد غايتها، وثمرتها، وثمرة الرحمة الإنعام الكامل، والنفع ودفع الضر، والرزق، وغفران الذنوب، وكلاءة الله تعالى لهم، والقيام على كل ما يمدهم به بالخير والنعمة.(1/51)
والوصفان اقترنا واجتمعا في البسملة، كما اجتمعا في بسملة كتاب سليمان عليه السلام لبلقيس، إذ قال تعالى: (إِنَّه مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّه بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وهذه بسملة كبسملة أوائل السور، كما اجتمع الوصفان في آيتين أخريين من آيات القرآن، ففي أول سورة فصلت ذكر للقرآن الكريم، وقال سبحانه عن الذكر (تَنزِيلٌ منَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) وجاء في سورة الحشر (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ).
ولا شك أن الوصفين من أسماء الله الحسنى وصفاته، ولا شك أن لكل منهما معنًى قائمًا بذاته، منفردًا به عن الآخر. يقول الزمخشري (نقلا عن الزجاج): إن صيغة فَعْلان من الصيغ التي تدل على الامتلاء، كغضبان، وشبعان، وسكران، وجوعان، فإنها تدل على الامتلاء من الفعل الذي اشتُقت منه، فكذلك الرحمن معناها الممتلئ رحمة، ورحيم تدل على الاتصاف بالرحمة التي تليق بذاته العلية من غير امتلاء.
ولذلك يقول الزمخشري ومن تبعه في دراساته البيانية للقرآن الكريم: إن " الرحمن " أبلغ من " الرحيم "، وإن كان كلامه تعالى كله فوق الكلام البشرى وما ترى فيه من تفاوت، وإن كان كله في أعلى درجات البيان لَا يساويه بيان للإنسان. وبدراسة اللفظين في القرآن يتبين لنا الفرق بينهما في الاستعمال القرآني السامي في بلاغته إلى ما لَا يتسامى إليه كلام بشر، ولا يدانيه شيءٌ من الكلام الإنساني.
وعند الاتجاه إلى استقراء الآيات القرآنية نجد القرآن الكريم جمع بين الوصفين في آيتين غير البسملة وقد ذكرتا، وذكر وصف الرحمن منفردا في نحو ستين(1/52)
موضعًا من كتاب الله العزيز، وكان يذكر ذلك الوصف السامي غير مضاف إلى فعل من الأفعال، ولا واقع على أحد كقوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى. . .)، وكقوله تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)، وقوله تعالى: (الرَّحْمَن عَلَّمَ الْقُرْآنَ)، ومثل قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).
وهكذا في نحو ستين آية يذكر وصف الرحمن مجردا من الإضافة إلى شيء أو شخص أو فعل كما يذكر " الله " تعالى، وذكر وصف الرحيم منفردًا عن الرحمن في أكثر من ثلاثين ومائة آية، ونجد أنها مضافة إلى رحمته سبحانه وتعالى بالعباد مثل قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ)، ومثل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رحِيمٌ)، ومثل قوله تعالى: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ومن هذه الموازنات بين استعمال القرآن لكلمة " رحمن "، واستعماله لكلمة " رحيم " ننتهي إلى ما يأتي:
أولا: أن وصف الرحمن وصف ذاتي للذات العلية لَا يتعلق بفعل ولا بشخص يذكر، ولكنه وصف لله أو اسم له كلفظ الجلالة، ولكنه يشعرنا بالرحمة، كما أنه لفظ يشعر بالألوهية واستحقاق العبادة؛ ولذلك قال بعض العلماء: إن كلمة " الرحمن " اسم لله تعالى، وأما " الرحيم " فهو وصف لله تعالى يتعلق برحمته بالعباد المكلفين المخاطبين بشريعته، والذين طلب منهم أن يقوموا بحق الله تعالى في إجابة أوامره، واجتناب نواهيه؛ ولذلك يقترن كثيرا بالتوبة والمغفرة.(1/53)
ثانيا: أن الرحمة في " الرحمن " أكثر من " الرحيم "، ولذلك قالوا: إن رحمة الرحمن، هي الرحمة بالوجود كله، فبرحمة الرحمن يرزق الله من في السماوات والأرض، وبرحمته الواسعة ينزل الغيث، ويرسل الرياح، ومهَّد الأرض، وجعل الجبال، وبرحمة الرحمن بعث الرسل مبشرين ومنذرين، وبرحمة الرحمن جازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْر أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
وهكذا كانت رحمة الرحمن شاملة الوجود كله، والرحيم متعلق في رحمته بالمكلفين.
ثالثا: أن " الرحمن " أكثر رحمة لما في الوصف بالرحمة فيه من شمول يشمل الوجود الإنساني كله، ووصف " الرحيم " خاص بالمكلفين، كما يدل على ذلك سياق اللفظ في القرآن الكريم.
ومن هذا الاستقراء والتتبع، واستنباط المعاني لألفاظ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) من استعمال القرآن ننتهي إلى أن بيان معاني (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) أن الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نتلو القرآن مبتدئين تالين لآياته باسمه الأقدس. نتبرك به ونتيمن ونسبح باسمه، وهو الله الإله المتفرد بالخلق والتكوين والتدبير والمتفرد بالعبودية وحده جل جلاله لأنه بديع السماوات والأرض والوجود كله، وهو " الرحمن " ذو الرحمة الواسعة التي تعم الوجود كله في السماوات والأرض، والدنيا والآخرة، المدبر للوجود برحمته، وهو " الرحيم " بعباده يغفر لهم ويتوب عليهم، ويشرع لهم من الشرائع ما يكون خيرًا لهم في معادهم ومعاشهم، وهو بكل شيء عليم.(1/54)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
وسورة الفاتحة كما ذكرنا مكية، وقد أجمع العلماء على ذلك، بل إن بعض العلماء يدعي أنها أول سورة نزلت من القرآن، ولكن يخالفهم الأكثرون في ذلك، ويقررون أن أوَّل ما نزل من القرآن: (اقْرأْ بِاسْم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ)، وقد روى البيهقي في ذلك خبرا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد وفق العلماء بين ما رواه البيهقي وما هو مقرر من أن أول ما نزل (اقْرأْ بِاسْم رَبِّكَ) بأن الفاتحة هي الأولى نزولا، وهي سورة نزلت دفعة واحدة، أما الثانية فآية، وهي قد أخبرت عن الأولى - أي عن الفاتحة - الأمر بالقراءة، فالأمر بالقراءة يقتضي مقروءا.
والذي أميل إليه أن الفاتحة ليست أول ما نزل من القرآن، ويرجح عندي أنها نزلت عندما فرضت الصلاة في الإسراء والمعراج.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) الحمد هو الثناء الكامل على الأفعال الاختيارية، وعلى من تصدر عنه هذه الأفعال الاختيارية فيعم نفعها وهي مصدر الخير لهذا الوجود الكوني والإنساني.
وهناك كلمات ثلاث تتلاقى معانيها في جملتها، وتختلف في دقتها، وهي كلمة " حمد "، وهي تكون كما ذكرنا الثناء الجميل على من يعمل أعمالا اختيارية عامة النفع، ودافعة للضرر للوجود كله بحكمة من يفعلها، والكلمة الثانية " المدح "، وهي الثناء على الصفات الذاتية، والشخصية الطيبة، فيقال: مدحت الصفات الطيبة في فلان، ولا يقال: حمدتها، إنما يقال: حمدت الله تعالى ومدحت خصال فلان، وقيل: إن الحمد والمدح مترادفان، ولعل قائل هذا القول(1/55)
نظر إلى معنى الثناء فيهما من غير أن ينظر إلى الباعث، فإن الباعث في الحمد أعمال الإنعام والخير، والباعث على المدح الشخص والذات، فيقال: مدحت الجميل في صفاته الحسنة، وخلاله الكريمة، ولا يقال حمدته، ومن العلماء من قال إن المدح أعم، ومن قال العكس، ونميل إلى التفرقة بينهما باختلاف الموضوع.
و" الشكر " امتلاء النفس بالإحساس بالنعمة، واندفاع النفس إلى الطاعة والخضوع، والقيام بحق المنعم ومقابلة الفضل والنعمة بالإحسان في الطاعة والواجبات، وقد قال تعالى في ذلك: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ. . .)، ويقول ابن جرير الطبري: إن الحمد والشكر بمعنى واحد، والحق أنهما يتلاقيان ويختلفان، فيتلاقيان في معنى الإحساس بالنعمة والقيام بحقها، وما يجب بالنسبة للمنعم، ولكنهما يختلفان في القيام بحق المنعم، فالقيام بحق المنعم في الشكر الطاعة والعمل وجعل الجوارح كلها في طاعة الله تعالى، والخضوع المطلق لله تعالى في كل شأن من شئونه، وحال من أحواله. والقيام بحق المنعم في الحمد الثناء على الله تعالى ثناء مطلقا كاملا مع تذكر نعمائه، وتذكر ما يحيطه من الوجود كله، لَا في ناحية من نواحي شخصه؛ ولذلك روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الحمد رأس الشكر " (1) والحمد ذاته عبادة والشكر يكون على النعمة وبالمثابرة على الطاعة والعبادة.
ومهما يكن فالألفاظ الثلاثة متقاربة في مؤداها - وإن تخالفت في مدلولاتها و " ال " في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) للاستغراق والكمال، أي الحمد كله وبكماله لله تعالى وحده، فلا يستحق أحد من خلقه حمدا؛ لأن الحمد كما ذكرنا عبادة، والعبادة لله تعالى، وحده وحمد غيره عبادة لغيره، وشرك بالله تعالى، وأصل
________
(1) رواه عبد الرزاق في المصنف، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما.(1/56)
الضلال يبتدئ من حمد غير الله، والثناء عليه، ثم ينقاد من بعد ذلك إلى ما يخرجه عن طاعة الله، فلا حمد إلا لله ولا ثناء إلا لله.
وإن الحمد إنما هو ابتداءً على ما أنعم الله تعالى على الوجود الكوني والإنساني من غير وجود فيكون الحمد له وحده، وتُقرأ كلمة " الحمد لله " برفع الدال. والمعنى: الحمد الثابت الكامل المستغرق لكل صنوف الحمد هو لله وحده، ولا يحمد سواه؛ لأن كل نعم هذا الوجود الكوني والإنساني لله تعالى، فكل خير الوجود منه وإليه.
وهناك قراءة بفتح الدال على أنه مصدر، ومنصوب بفعل محذوف، ويكون المؤدَّى للقول: احمَدِ الحمدَ كلَّه لله تعالى، فلا تحمدْ سواه، وإن حمد سواه شرك لما ذكرنا من أن الحمد ذاته عبادة، وهذه القراءة تفيد تجدد الحمد آنًا بعد آنٍٍ بالتذكير بنعم الله تعالى وآلائه، والقراءة السابقة تفيد دوام الحمد، كما تدل على ذلك الجملة الاسمية؛ لأنها تفيد الاستمرار.
وإني أرى أن القراءات المتواترة كلها لَا تتباين، ولا تتضارب، بل تتلاقى، وتكمل واحدة معنًى في الأخرى، فبالجمع بين القراءتين يكون معنى النص السامي: اجعل الحمد دائما مستمرا ومتجددا؛ ليكون القلب دائما عامرا بذكر الله تعالى.
(رَبِّ الْعَالَمِينَ) في هذا الوصف للذات العلية إشارة إلى سبب الحمد الكامل، الدائم المستمر المتجدد؛ لأنه هو المالك والسيد، والمربي لهم والرقيب عليهم، الذي ميزهم بالنعم المستمرة، والآلاء المتكررة التي لَا تنقطع أبدا.
فالرب هو المالك وهو السيد، وهو المصلح والمدبر، والجابر والقائم على كل شيء، الذي يسير الوجود كله بحكمته وبقدره وإرادته.(1/57)
و " الرب " وصف لله تعالى مأخوذ من ربَّ الشيء يَرُبُّهُ بمعنى قام بإصلاحه وتقويمه، وتتبَّعه بالإصلاح والتنمية في كل أدواره، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِن نِعْمَةٍ تَرُبُّها " (1) أي تصلحها وتنميها، ثم أطلقت كلمة " رب " على الله سبحانه وتعالى، وهذا المعنى يتلاقى مع " رَبَي "، فإن التربية هي الإصلاح والتغذية، والعمل على الإنماء، ولقد جاء في الصحاح للجوهري: " رَبَّ فُلانٌ ولده يَرُبُّهُ رَبًّا، وتَربِيَةً بمعنى: ربَّاهُ، والمربوب المُرَبَى ".
وعلى ذلك يصح أن تقول إن الرب من رَبَّه، بمعنى نماه، أو من التربية بمعنى الإصلاح والإنماء، والمعنى في الحالين أن الله رب العالمين بمعنى مغذيهم ومنميهم والقائم عليهم، والمصلح لهم، والمدبر لأمورهم، وهو مربيهم لأنه القائم عليهم والمهذب لهم بما خلق فيهم من عقول مدركة تدرك الخير والشر، وتختار ما تفعل وتحاسَب على ما تقدم من خير فتنال به الثواب، وما تكسب من شر فينالها العقاب.
وكلمة (الْعَالَمِينَ) يريد بها العقلاء من الملائكة والإنس والجن، فهو رب هؤلاء جميعا، هو الذي رباهم وأصلحهم، ودبر أمورهم، والعالَمون جمع لعالَم، وهو كل موجود غير الله تعالى، ولكن إذا جاءت " عالَمون " بجمع المذكر العاقل، أريد بها العقلاء ممن خلق الله تعالى، وقد أيد ذلك القول بقول ابن عباس رضي الله عنهما: " العالَمون الجن والإنس "، ودليله قوله تعالى: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، فلا ينذر إلا الجن والإنس؛ لَا تنذر الجبال ولا الأرضون، وإنما ينذر العقلاء الذين يتصور الشر منهم، أو لَا يتصور كالملائكة، وقد قلنا إن لفظ العالمين يعمهم.
________
(1) أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة باب فضل الحب في الله (2567)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (9887).(1/58)
ويسأل سائل: لماذا جمع هنا، والأقرب الإفراد، ونقول ما قاله العلماء: إن المفرد هنا (وهو عالَم) أعم من الجمع، ولكن يبقى السؤال لم ذكر الجمع؟ أجابوا بأن في ذلك إشارة إلى أن كل عاقل، أو العاقلين بشكل عام فيهم العوالم كلها، ففيهم دقة التكوين وجمال التصوير وروعة الخلق، من عقل يدبر، ولسان وجوارح تتحرك، فجمع الله تعالى في عالم العقلاء كل العوالم الأخرى في إحكام الصنع وبديع التكوين كما قال تعالى في تقديم العلم بالنفس، وجلائل الخلق والتكوين: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)، ففي الإنسان أكمل صورة للخلق والتكوين.
* * *(1/59)
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
هذان وصفان من أوصاف الله تعالى، أو اسمان من أسمائه ذُكِرَا في مقام السببية لاستحقاق الله تعالى الحمد وحده، وقد ذكرنا هذين الوصفين في الكلام في البسملة، فلا نعيده، ولكن نذكر هنا مقامهما من النسق بعد قوله تعالى: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) فنقول إن " الرحمن والرحيم " يدلان على الرحمة التي يصلح بها الكون ويدبر أمره بحكمته وقدرته، فهو سبحانه يرب العالمين ويصلحهم رحيمًا بهم، ويصلح الكون والوجود كله برحمته الشاملة لاسمه الأعلى الرحمن.
* * *(1/59)
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
يوم الدين هو يوم الجزاء، وقيل يوم الطاعة، وقيل يوم الشريعة الحاكم على كل عقيدة باطلة، ومهما يكن من اختلاف هذه الألفاظ في مدلولاتها الخاصة، فإن النهاية تتجه إلى أن ذلك اليوم هو اليوم الذي يجازى فيه المحسن بإحسانه، والمسيء(1/59)
بإساءته، وهو الذي تجد فيه كل نفس ما عملت محضرا، يُعلِنُ ما تستحق من عقاب أو ثواب.
و (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فيه قراءات تختلف في أشكالها، ولا تختلف في مضمونها فقرئ هكذا: مالك يوم الدين، وقرئ: مليكِ يوم الدين، وقرئ: مَلِكِ يوم الدين، وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه: مَلَكَ يومَ الدين، وقرئ: مالكًا يومَ الدين، وقرئ: مالكٌ. والقراءات كلها تنتهي إلى معنى واحد، وإن كانت تختلف في أعاريبها، والنص العثماني يشملها جميعا، ولا تخالف في النسخ المتواتر، بيد أن قراءة النصب " مالكًا " تكون حالا من الذات العلية، أي أنه الرب للوجود كله والمنعم عليه بجلائل النعم؛ جليها وخفيها، حال كونه مالكًا من بعد ذلك ليوم الجزاء، الذي يجزي كل نفس ما كسبت، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، و " يوم الدين " تكون ظرفا غير مضاف إليه، وكذلك في قراءة الرفع مع التنوين يكون يوم الدين ظرفا للملك وكمال السلطان.
وقراءة " مالك " تفيد أن كل شيء مملوك لله تعالى في ذلك اليوم، فالنفوس في مآلها وفي نهايتها ملك لله، ومستقبلها القريب والبعيد لله لَا تملك من أمرها شيئا، بل كما قال تعالى: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ)، وإذا كان سبحانه وتعالى يملك كل شيء في هذا اليوم، فالسلطان، والتدبير له، وحده الذي يملك الجزاء، والمغفرة إذا أراد، ولا إرادة لسواه، إنه الحكم العدل اللطيف الخبير.
و" مَلْك "، و " مَلِك "، الفرق بينهما وبين قراءة " مالِك " كالفرق بين المصدرين، المِلْكِ، والمُلْك، فالمِلْك استيلاء على الأشياء يكون مردها إليه، والمُلْك السلطان(1/60)
بالأمر والنهي وتنفيذ ما يريد، وألا يكون معه آمر ولا ناه ولا حاكم سواه، ولا إرادة فوق إرادته، ولا حكم فوق حكمه.
ويلاحظ أن معنى المُلك يتضمنه بالاقتضاء معنى المِلْكِ، لأن من ملك شيئا ملك السلطان فيه، والسيطرة عليه، فالمِلْكَ يقتضي المُلْكَ والسلطان، والمُلْكُ لا يقتضي المِلك والسلطان، ولذلك يقال سبحان مالِك الملك، ولا يقال مَلِكُ الملك.
ورأينا أن كل قراءة متواترة قرآن، وأن القرآن لَا يخالف بعضه بعضا، بل قد يُتِمُّ بعضه بعضا، وليس لنا أن نراجح بين قراءة وقراءة، لأن كلتيهما تتمم الأخرى.
وخلاصة القول في القراءتين أن قراءة (مَلِك يوم الدين) موضِّحة لما تضمنته (مالك يوم الدين)، ولا نتصور أن تتعارض قراءتان متواتران؛ لأن القرآن لَا يضرب بعضه بعضا. وفي الإعراب " مالك " أو " مَلِكَ " مضاف إلى يوم الدين على أنه هو المسيطر المتصرف المالك لأحداث ذلك اليوم من جَزاء: ثواب أو عقاب أو مغفرة، وأنه واقع لَا محالة، وأن ما فيه في ملكه وتحت سلطانه وحده.
وإن اسم الفاعل يدل على الاستقبال، فلا يقال إنه مالك لليوم واليوم لم يجئ، وإن الأزمان الماضي والحاضر والمستقبل كلها بالنسبة لله تعالى واحدة.
هذا، ويلاحظ أن الأسماء أو الصفات هي كما أشرنا من قبل من قبيل السبب لانفراد الله تعالى بالحمد الكامل، فالربوبية الكاملة بالإنشاء لهذا الوجود وما فيه ومن فيه، وتعهده بالإنماء والتربية والتهذيب والتكميل، والرعاية لكل شيء، (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ)، ثم رحمته الظاهرة والباطنة، والعاجلة والآجلة التي تعم الوجود كله من سماء(1/61)
وأرضين، وشموس ونجوم، ورحمته الخاصة بعباده العاقلين المكلفين من قبول للتوبة، وغفران، وثواب.
ثم كونه بعد ذلك مالكًا وحده ليوم الجزاء، كل هذه الأسماء والصفات من شأنها أن تجعله مستحقًّا للحمد الكامل بكل ضروبه، وفي كل الأحوال، وذلك بربوبيته الشاملة، ورحمته الكاملة، وامتلاكه وحده ليوم الجزاء.
وإن الأسماء أو الصفات كما أنها سبب لانفراده باستحقاق الحمد، هي أيضا سبب لانفراده بالعبادة والاستعانة، وطلب الهداية، وقد التفت الكلام الحكيم من بعد ذلك من الإخبار باستحقاق الحمد لله تعالى وحده، وبيان جليل أسمائه إلى ذكر ما ينبغي للمؤمن من إفراده بالعبادة والاستعانة به دون غيره، والضراعة إليه في طلب الهداية، لذا قال سبحانه:
* * *(1/62)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
كان الكلام السامي يسير على نهج الغيبة بذكر مقام الربوبية وأسماء الذات العلية التي هي أوصافها من شمول الرحمة في كل الأحوال ولكل الوجود إلى تخصيصها بالمكلفين من عباده.
وبعد ذلك انتقل القول من الغيبة إلى الخطاب؛ لأن الانتقال من باب إلى باب في البيان يعطي للكلام روعة تليق بأبلغ من في الوجود، فالانتقال في القول من غيبة إلى خطاب يجدد في النفس الإقبال على الاستمتاع بالتلاوة، والاستمتاع بالسماع، والاعتبار بما في الكتاب، والإقبال الذي يتولد عنه التدبر والتفكر في آيات الله تعالى.(1/62)
وإن الأوصاف السابقة لذات الله تعالى توجب على العبد التفكر في أمر الله تعالى وعبادته سبحانه، فكان من بعد ذلك ذكر أحوال العباد الواجبة، خاطبهم الله تعالى بكماله، فخاطبوه بما يليق بهم أن يفعلوه، وهو إفراده بالعبادة والاستعانة، وأن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم.
وإن العباد إذ يتدبرون صفات الذات العلية، ويستحضرون جلالها، وإفضالها، وإنعامها وسلطانها يصلون في مداركهم إلى مرتبة المشاهدة الروحية لله تعالى؛ ويرتفعون إلى إدراك ملكوت الله تعالى ليخاطبوه قائلين: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
ولقد قال في هذا المقام العلامة أبو السعود في تفسيره: " إن حق التالي بعدما تأمل فيما سلف من تفرده تعالى بذاته الأقدس المستوجب العبودية بامتياز ذاته عما سواه بالكُلِّية، واستبداده بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميزة له سبحانه عن العالمين، وافتقار الكل إليه في الذات والوجود ابتداء وبقاء منه، أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان، وينتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهود، ويلاحظ نفسه حاضرا في محاضر الأنس كأنه واقف لدى مولاه، ماثل بين يديه، وهو يدعو بالخضوع والإخبات، ويقرع بالضراعة باب المناجاة قائلا: يا من هذه شئون ذاته وصفاته نخصك بالعبادة والاستعانة، فإن كل ما سواك كائنا ما كان بمعزل عن الوجود فضلا عن استحقاقما أن يعبد أو يستعان " (1).
وإن الارتفاع إلى مقام المشاهدة، ومخاطبة الله تعالى هو الذي من أجله كانت - أي الفاتحة - واجبة التلاوة في كل ركعة من ركعات الصلاة؛ لأن الصلاة وقوف بين يدي الديان، واتجاه إلى حضرته العلية، ومشاهدة روحية.
________
(1) تفسير أبي السعود: ج ا، ص 18.(1/63)
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) " إيَّا " ضمير منفصل أصله بمقتضى السياق العادي " نعبدك " فلما قدم الضمير انفصل، و " الكاف " حرف للدلالة على الخطاب، كما أن " الهاء " للدلالة على الغيبة في قوله: " إياه "، و " الياء " دلالة على المتكلم، و " إيانا " دلالة على المتكلمين، وهكذا. وقيل إن " الكاف " وأخواتها أجزاء من الضمير، وهو اختلاف إعرابي لَا جدوى فيه في مقامنا هذا. والعبادة أكمل أنواع الخضوغ، والتذلل لله تعالى، ولا تكون لغير الله تعالى، فهو وحده المعبود بحق، فلا يعبد سواه، وإن دوام العبادة والاستمرار عليها مع القيام بحقها من خشوع وخضوع لله وتذكر مقام الله العلي الأعلى، وحضور لذاته العلية كأنه يرى الله تعالى، مع الإحساس بأنه - سبحانه - يراه.
إن دوام العبادة على هذا النحو تولِّد في نفسه صدق العبودية، فيحس في كل أحواله بأنه لله، ويحب الشيء لَا يحبه إلا لله، ويكون ربانيا، مستجيبا لأمر الله: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ. . .).
والاستعانة طلبُ العون من الله تعالى، مستحضرا ما في الذات العلية من صفات الربوبية، والرحمة، والسلطان المطلق يوم الجزاء؛ إذ لَا سلطان في يوم الدين لأحد سواه، وقد جاء (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) قبل (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)؛ لأن العبادة حق الله تعالى، والتقدم إليه بالخضوع الذي لَا خضوع مثله، والاستعانة حق العبد أو طلبه العون له، فما هو حق أوثق وأولى بالتقديم، ولكن يجب أن نلاحظ أن الاستعانة والضراعة إلى الله تعالى، وإفراده سبحانه بطلب العون منه سبحانه هو عبادة أيضا، كما هو طلب من الله؛ لأن الدعاء المخلص لله تعالى هو عبادة في حد ذاته، حتى رُوى: " الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ " (1)، وكما قال تعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضرُّعًا
________
(1) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الدعوات (3371) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.(1/64)
وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ)، وإطلاق الاستعانة من غير متعلّق بذكر المستعان عليه من الأمور دال على أنه يستعين الله تعالى في كل أمور حياته. والاستعانة هي نوع من استصغار حاله بجوار عظمة الله تعالى، وافتقاره إليه تعالى، وأنه محتاج إليه دائما، ولا يركبه غرور الحياة والضلال في أن يُقِرَّ بنفسه الغرور، وهو استجابة وفهم لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
وإن من أعلى أبواب الاستعانة، الاستعانة بالله تعالى على أداء الواجبات والقيام بفروض الله تعالى، فهو يستعين بالله تعالى على أداء واجب العبادة ليصل إلى درجة العبودية، ويكون ربانيا.
وتقديم (إِيَّاكَ) على (نَعْبُدُ) و (نَسْتَعِينُ) لتعظيم الله تعالى بذكره أولا، ولأن التقديم للاهتمام بالمعبود والمستعان؛ وللدلالة على أنه سبحانه وتعالى هو المختص بالعبادة وحده، وأنه لَا يستعان بغيره، وفي ذلك كمال التوحيد والخضوع له وحده سبحانه وتعالى، ولقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ): معناه نعبدك ولا نعبد غيرك.
فتقديم إياك كما في قوله تعالى: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)، وقوله سبحانه: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)، وتكرار (وإِيَّاكَ) في (نَعْبُدُ) و (نَسْتَعِينُ)، لبيان التباين بينهما، وأن ذلك حق الله، وأن هذا طلب من العباد، ولتكرار النص على تخصيص ذلك بالله الواحد الأحد الفرد الصمد.
وأول الاستعانة طلب الهداية؛ ولذلك قال تعالى:
* * *
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6))(1/65)
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
بعد أن ذكر دعاء العباد لربهم باختصاصه بالعبادة، طلبَ الاستعانة بالله تعالى في كل شيء مرغوب فيه محمود غير مذموم، وذكرت الاستعانة متجهة إلى الله تعالى من غير الباء، إذ هي تتعدى بها، فيقال استعان به، وتركت الباء للتوجه إلى الله تعالى من غير توسط، ولو كان توسطًا لفظيًّا بحرف الباء، والتوجه إلى الله وحده بحيث يواجه الذات العلية بإشراف النفس من غير رؤية ولا حسٍّ إلا أن يكون روحيا.
وقد ذكر أعلى مراتب الاستعانة، وهي التي لَا تكون لأمور تتعلق بالرغبات الدنيوية ولو كانت في حلال، بل أعلاها ما يتعلق بالنفس وهدايتها، فقال سبحانه على لسان المتقين: (اهْدِنَا) ومجيء ذلك في كتاب الله تعالى وبقوله الحكيم تعليم وتربية للنفس المؤمنة أن تكون استعانتها بالله تعالى تكون أولا بطلب الهداية من الله، وقوله تعالى على ألسنة عباده المتقين: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) هو دعاء من العباد لربهم بأمره سبحانه، وذلك تجلٍّ من الله العلي الأعلى بالإرشاد والتعليم فقوله تعالى: (اهْدِنَا) والدعاء ذاته عبادة كما روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء " (1).
دعاؤهم بطلب الهداية، والهداية ذات مراتب يعلو بعضها فوق بعض. . المرتبة الأولى: أن يملأ سبحانه وتعالى نفوسهم وقلوبهم بالحق يميلون نحوه، ويتجهون إليه، وأن يكونوا ممن كتبت عليهم التقوى، وأن تكون هدايتها إلى نجد الخير، وقد قال، وقوله الحق: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، وقال سبحانه:
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، وذلك ليكونوا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
________
(1) أخرجه الترمذي: كتاب الدعوات - باب: ما جاء في فضل الدعاء (3370)، وابن ماجه: كتاب الدعاء - باب: فضل الدعاء (3829)، وأحمد: كتاب باقي مسند المكثرين (8530) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/66)
والمرتبة الثانية: بعد أن تصغي قلوبهم إلى الحق وتنفتح بقوله والنظر في بيناته وهي إقامة الدلائل على الحق ليتبعوه عن بينة، أو تنفتح نفوسهم وعقولهم لقبول ما تدل عليه آيات الكون وأدلة الحق وهي أماراته، بل بيناته من سماء ذات أبراج، وأرض ذات جبال كالأوتاد، وزروع وثمار، ذات بهجة للناظرين، وأن يتدبروا في ملكوت الله تعالى وخلقه فينظروا نظرة الإدراك والاعتبار كما قال تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26).
هذه هي المرتبة الثانية من الهداية: وهي أن يهديهم سبحانه إلى مواضع العبر والاستدلال في آياته الكبرى في خلق السماء والأرض وما بينهما، وفي آياته الكونية، ما دقَّ منها وما جلَّ، فهو خالق كل شيء.
أما المرتبة الثالثة: فهي إرسال الرسل هداة مبشرين ومنذرين، (وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، وإن إرسال الرسل للهداية والإرشاد، وتبليغ رسالته، إنما هو لكيلا يكون على الله حجة بعد الرسل، فهو بعد أن يخلق الخلق على الفطرة المستقيمة، والاستعداد للعلم بالوجود، وما فيه من أدلة على منشئ الوجود، ثم يؤيد العلم الفطري بعلم كسبي وهو علم النبوة الذي يجيء به رسول مبين يدعو إلى الهدى بإذنه ويهدي إلى صراط مستقيم.
والمرتبة الرابعة: مرتبة الوحي والكشف وتعليم الله تعالى لخلقه، وهو ما يكون للرسل الكرام دعاة الحق والهداة إليه، فهداية الله تعالى بالوحي، أو إرسال رسول أو أن يكلمه الله تعالى من وراء شيء من خلقه، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا. . .).(1/67)
وهكذا هداية الله تعالى تبتدئ من هداية النفس والعقل إلى الحق وطلبه، ثم الإدراك للآيات البينات الدالة على واجب الوجود، ثم هداية الله تعالى بالرسل يرسلهم ليكونوا للعالمين نذيرا، ثم هداية الله تعالى بما يكون لرسله المصطفين الأخيار.
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ) إن هَدَى تتعدى بإلى وباللام كقوله تعالى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ)، وكقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ)، وقوله تعالى: (هدًى لِّلْمُتَّقِينَ)، وقوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقرآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. . .).
ولكن هنا لم يتعلَّق قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) بـ " اللام " ولا بـ " إلى "، ولذلك حكمة بيانية، وذلك أنها تضمنت معنى الهداية باختيار خير عاقبة، فتضمنت الهداية معنى الاختيار، ويكون المعنى اهدنا مختارًا لنا في هدايتك الصراط المستقيم. و " اختار " تتعدى بنفسها من غير أداة جر كما قال: (وَاخْتَارَ موسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا).
والصراط معناه الطريق الجدد أو الجادة، وقالوا إنه " السراط " بالسين، وبذلك قرئت في بعض القراءات المتواترة، وقالوا: إن الأصل في السراط الاستراط بمعنى الابتلاع، كأن الطريق يبتلع من يسلكه لاتساعه، وأنه جادة متسعة، لَا يبين سالكها، وقد وصف بأنه المستقيم لأن المستقيم أقرب خط بين نقطتين، فهو أقرب موصل للغاية المرجوة.
والمعنى على هذا: اختر لنا يا رب العالمين أقرب طريق متسع يوصل إلى ما يرضيك، وهو غايتنا، ومطمعنا ورجاؤنا، والصراط المستقيم هو طريق الله الذي أمر(1/68)
باتباعه، فقد قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ. . .)، فهم يطلبون أن يهديهم الله تعالى إلى هذا الطريق المستقيم وهو صراط الذين أنعمت عليهم من عبادك الصالحين.
* * *(1/69)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
هذا بيان للصراط المستقيم، أي المستوي الذي لَا اعوجاج فيه، وهو معبَّد لا يقف السائر فيه بعثرة يعثرها ولا بحجارة تدعثره، فإعراب (صراط الذين أنعمت عليهم) بدل من (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، يعمل فيها عامله (اهْدِنَا) فمعنى النص الكريم اهدنا طريق الذين أنعمت عليهم.
وأصل النعمة ما يستلذه الإنسان أو يستطيبه، ولكنها هنا تفسر بأنها المنفعة التي تدوم، ويستطيبها القلب، سواء أكانت عاجلة أم آجلة، وسواء أكانت دنيوية أم كانت أخروية، وسواء أكانت مادية أم كانت روحية، وإن نعم الله تعالى على عباده لا يحصيها العدُّ ولا يحيط بها الحصر، كما قال تعالى: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)، فهناك نعمة الخلق الإنساني القويم والتكوين الجسمي السليم الذي يوجد أحيانا الغرور عند غير المؤمنين، كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم الَّذِي خلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شَاءَ رَكَّبَكَ).
ومن النعم أن يمكِّنه من زخارف الحياة من لباس حسن يلبسه، وزخرفة باهرة يزخرف بها مسكنه، وطيب رائحة يطيب بها نفسه، ويقبل بها على جمعه، فهذه نعم ظاهرة وباطنة، فإن آمن بالنعم وشكر له، فإنها نعمة، وإن غره الغرور، وفاخر بها، واستطال على الناس فإنها عند الله النقمة.(1/69)
ومن النعم أن يحس بإشراق النفس وإخلاص القلب، والاتجاه إلى الله تعالى، وأن يكون مستقيم الفكر، نير المدارك، ولا يضل، بل يهتدي بما أنعم، ومن النعم نعمة الإخلاص في القول والصدق فيه، وأن يعمل العمل، لَا يعمله إلا لله، وأن يراقب الله في سره وجهره وعمله، حتى يصدق عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا لله " (1).
إذا كان المؤمن كذلك يكون ممن هداه الله إلى صراط الذين أنعم عليهم، كما قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا).
(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) المغضوب عليهم هم الذين ينزل عليهم غضب الله، ووراء غضبه عذابه إلا أن يتغمدهم الله برحمته فيتوبوا، والتوبة تجبُّ ما قبلها، وبذلك لَا يكونون من المغضوب عليهم، بل ينخلعون منهم، وإنما الأعمال بخواتيمها، وإنما المغضوب عليهم هم من انتهوا إلى ألا يتوبوا، وألا ينتهوا عما يوجب غضب الله تعالى.
والذين ينطبق عليهم غضب الله تعالى لدوام شرهم، وبقاء فسادهم حتى يلقوا ربهم، وهم على هذه الحال - الكافرون سواء أكانوا وثنيين، وكثير ما هم في الماضي والحاضر، أم كانوا من الذين أوتوا الكتاب كاليهود - لعنهم الله - ونصارى بولس الذين يعبدون المسيح، وهو بريء منهم، هؤلاء هم المغضوب عليهم ولا ريب في نزول غضب الله تعالى بهم إلى يوم القيامة (غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم. . .).
والضالون قال بعض العلماء إنهم النصارى لقوله تعالى: (قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ)، وإنه لينطبق عليهم بلا ريب
________
(1) أخرجه البخاري بنحوه، كتاب الأدب - باب: الحب في الله (6041).(1/70)
وصف الضالين؛ لأنهم عند تخلِّيهم عن مبادئ المسيح أضلهم بولس وأشباهه، فضلوا، ثم أضلوا غيرهم من بعدهم، وكفروا بما جاء به المسيح، وضلوا ضلالا بعيدا، وكفروا، ولا يزالون يتيهون في أوهامهم، كما توهموا وأوهموا فيما سموه رؤية العذراء، وكذبوا وافتروا، وحاولوا الإضلال كثيرا.
ومع انطباق الضلال والتضليل عليهم أولى بهم ثم أولى أن يكونوا ممن غضب الله تعالى عليهم، فغضب الله تعالى يحيط بهم من كل جانب؛ ولذلك نرى أن يدخلوا فيمن غضب الله تعالى عليه، ويصح أن نقول: إن فيهم الأمرين، فهم مغضوب عليهم وهم يَضِلُّون، ويُضِلُّون كثيرا إلى اليوم كما رأيتَ في أمر العذراء.
والضالون كما تدل الآية الكريمة هم الذين في حيرة من أمر اعتقادهم، لا يهتدون إلى عقيدة يطمئنون إليها ويسشقرون عليها، وليسوا مع هؤلاء ولا هؤلاء. . ولقد قيل إنهم المنافقون الذين ينطبق عليهم ذلك الوصف، وتلك الحال المضطربة.
ولقد يكون ذلك من ناحية حالهم قريبا في ذاته؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفهم بالاضطراب والحيرة، فقال - صلى الله عليه وسلم - " مَثَلُ المُنَافِقِ كمَثَلِ الشَّاةِ العَائِرَةِ بَيْنَ غَنَمَيْنِ، إلَى أئهِمَا تَذْهب " (1)، فالمنافق ضال حائر، لايستقر على قرار، ولا يطمئن إلى إيمان أو كفر، والمنافقون كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلا إِلَى هَؤُلَاءِ. . .).
- وهم أيضا موضع غضب الله تعالى؛ لأنهم كفار كإخوانهم المغضوب عليهم، ولكنهم اختصوا بأنهم ليس لهم اعتقاد، فالمشركون لهم اعتقاد باطل، وكذلك النصارى واليهود يعتقدون اعتقادًا باطلا ليس لهم سلطان ولا حجة في اعتقادهم.
________
(1) رواه مسلم في صفات المنافقين (2784)، وأحمد: مسند المكثرين من الصحابة (59 0 5)، والنسائي: كتاب الإيمان وشرائعه (5037).(1/71)
وقراءة الفاتحة مطلوبة في الصلاة بحيث لَا تكمل الصلاة إلا بها بيد أنها فرضٌ عند الشافعي لَا تصح الصلاة إلا بها، وكذلك عند الجمهور لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا صَلاةَ لمن لم يقرأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ " (1)، ولذلك سميت الصلاة، كما ذكرنا من قبل، لأن الصلاة ملازمة لها، ومن المجاز المرسل أن يسمى اللازم باسم الملزوم؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عُرف أنه ترك قراءة الفاتحة. وعند أبي حنيفة رضي الله عنه الفاتحة واجبة، والواجب عند الحنفية دون الفرض؛ لأن الفرض ما ثبت طلبه حتما بدليل قطعي لَا شبهة فيه. والواجب ما ثبت طلبه الحتمي بدليل ظني فيه شبهة، والفرض في الصلاة بالنسبة للقراءة قراءة ما تيسر من القرآن لقوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ. . .)؛ ولذلك لو ترك الفاتحة وقرأ أي قدر من القرآن تصح صلاته، وإن كانت غير كاملة؛ لأن الفاتحة تعينت للوجوب بدليل ظني فيه شبهة، وهو حديث الآحاد.
* * *
و (آمين) يجب النطق بها عقب قراءة الفاتحة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وعلمني جبريل آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة "، وقال: " إنه كالختم على الكتاب " (2)، فقد روي أن عليا كرم الله تعالى وجهه قال: (آمين خاتم رب العالمين) (3) روي عن وَائِلِ ابنِ حُجْرٍ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ولا الضالين آمين " (4)، وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين " (5)
________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الآذان - باب: وجوب القراءة للإمام والماموم، ومسلم: كتاب الصلاة - باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.
(2) سنن أبي داود: الصلاة - التأمين وراء الإمام بنحوه.
(3) أخرجه ابن عدي، والطبراني في الكبير؛ عن أبي هريرة بلفظ: آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين.
(4) الترمذي: الصلاة - ما جاء في التأمين وكذا رواه أبو داود: الصلاة (923) وبنحوه عند أحمد: أول مسند الكوفيين (18362) والدارمي: الصلاة (1219).
(5) أخرجه البخاري: الأذان: جهر المأموم بالتأمين (782)، ومسلم بنحوه: الصلاة: (250).(1/72)
وهكذا جاءت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بذكر آمين من المأمومين عندما يقرأ الإمام (وَلَا الضَّالِّينَ)، والمنفرد ينطق بها، وبذلك قال جمهور الفقهاء وروى أن أبا حنيفة لم يلتزم ولم يلزم بقولها، وروي عنه أنه يخفت بها ولا يجهر عند قول الإمام ولا الضالين، ومهما يكن ما روي بالنسبة لها من أخبار فإن المجمع عليه أنها ليست من القرآن فهي زيادة بطلب إجابة الدعاء الذي اشتملت عليه فاتحة الكتاب من الضراعة والاستعانة وطلب الهداية، فهي اسم فعل بمعنى استجب.
وإنما أجمع على أنها ليست من القرآن لأنها ليست بين دفتي المصحف كالبسملة، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع طلبها لم يذكر أنها قرآن ولا من القرآن.
ورد أنه عليه الصلاة والسلام قال لأبيٍّ بن كعمب: " ألا أخبرك بسورة لم تنزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها، قال: قلت: بلى يا رسول الله قال: " إنها الفاتحة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " (1).
تم - بحمد الله - تفسير سورة الفاتحة
* * *
________
(1) أخرجه الترمذي في سننه: فضائل القرآن: ما جاء في فضل فاتحة الكتاب (2875).(1/73)
(سُورَةُ الْبَقَرَةِ)
(بين يدي السورة)
سورة البقرة مدنية نزلت في المدينة في مُدد، وقيل إنها أول سورة نزلت بالمدينة، وقد ادعى بعض العلماء أن بعض هذه السورة كان آخر آية نزلت من القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ. . .)، نزلت في حجة الوداع بمنى، وهي على هذا باعتبار نزولها في مكة تكون مكية.
وإن الذي نراه أن فيصل التفرقة بين المكي والمدني، ليس هو مكان النزول، إنما هو كونه بعد الهجرة أو قبلها، فإن كان قبلها، فهو مكي، وإن كان بعدها فهو مدني ولو نزل بمكة، إذ إن الفارق بين المكي والمدني موضوعي، لَا مكاني إذ إن أكثر الموضوعات التي تتصدى لها السور والآيات المكية: بيان أصل العقيدة الإسلامية، ومجادلة المشركين حولها، وسوق الأدلة لبطلان الوثنية، وتأكيد الوحدانية، والتعرض لأحوال المشركين، ومعاداتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه، وأخبار المبادرة بالدعوة وإنذار العشيرة، كما قال تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). وهكذا أكثر القرآن المكي يتعرض لإثبات العقيدة، ومجادلة من ينكرونها من عبدة الأوثان.
أما السور المدنية وآياتها، فإنها تبين الأحكام الفرعية، وأحوال أهل الكتاب مع أهل الإيمان، وتنظيم الدولة الإسلامية، وسن النظم لتكوينها، وتكوين(1/75)
المجتمع الفاضل الذي تقوم عليه، وما يحل وما يحرم في هذا المجتمع، وفيها قيام الأسرة الإسلامية التي تقوم على تقوى من الله تعالى، ورضوان من الله ورحمة.
وإذا كانت السور المكية فيها الإشارات لإيذاء المؤمنين، واستضعافهم، مع رجاء القوة كقوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضعِفوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثينَ).
إذا كانت السور المكية فيها إشارة إلى الاستضعاف فالسور المدنية فيها الإذن بالقتال، وتنظيمه، والسير به في طريق الحق والعدل، وبيان الغاية من القتال ونهايته، وهي منع الفتنة في الدين.
وسورة البقرة أطول سور القرآن، وسميت البقرة لأظهر الحوادث التي ذكرتها، وأغربها، وهي بقرة بني إسرائيل التي لجوا في السؤال عنها، وما تدل على أخلاقهم من اللجاجة في القول، وإرادة التلبيس في الأمر الواضح البين، فقد كانوا كلما زادت لجاجتهم زاد الأمر تعقيدا عليهم، وتلبيسا على أنفسهم.
* * *
(موضوعات السورة)
وبمقدار ما في السورة من طول، كان فيها القدر الأكبر من الموضوعات، فهو طول في كثرة الآيات، وليس طولا مما يمجه علماء البلاغة، فهو كثرة موضوعات وليس بطول ممل، وها نحن أولاء نشير إلى موضوعاتها قبل الخوض في تفسيرها. ابتُدِئت السورة الكريمة بذكر شأن الكتاب الكريم، وشرف الذين يؤمنون به، وأنهم الذين يؤمنون بالغيب.
ثم ذكر القسم المقابل لأهل الإيمان وهم الكافرون الذين لَا تجدي فيهم الآيات والنُذُر سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لَا يؤمنون، وأنهم صم بكم لَا يعقلون.
ثم ذكر سبحانه وتعالى أمر الحائرين الذين يترددون بين الإيمان والكفر، وهو يحيط بهم، وهم المنافقون الذين يحسبون أنفسهم أنهم المصلحون في الأرض، وهم المفسدون.(1/76)
وضرب الله سبحانه وتعالى الأمثال التي تصور حالهم وتبين أمرهم، وبين سبحانه وتعالى أن النفاق مرض القلوب ومرض الجماعات، ثم ذكر سبحانه وتعالى أن الناس جميعا في قبضته وأنهم خلقه سبحانه وتعالى هم ومن كان قبلهم، وأنه مكَّن لهم في الأرض وجعلها لهم فراشا، وأن ذلك التمكين والخلق والتكوين يوجب عليهم عبادة الله تعالى وحده، وألا يتخذوا الأوثان. ثم بين لهم مقام الحجة النبوية التي جاءت معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تثبت لهم رسالته، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، وأن يأتوا بشهداء لهم ليثبت عليهم التحدي والعجز بشاهد من أهلهم، ودعاهم إلى أن يتقوا نارًا وقودها الناس والحجارة.
وقد تكلم سبحانه وتعالى في الخلق والتكوين من البعوضة إلى الإنسان، وذكر أن خلق البعوضة عظيم، حتى أن الله تعالى لَا يستحيي من الحكم في الخلق أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها، وأن المؤمن يدرك ويعتبر، ويعلم أنه الحق من ربه، وأما الذين كفروا فيتشككون ويضلون، ويزيد ضلالهم، وينقضون ما أمر الله به أن يوثق، وبين سبحانه وتعالى أعلى درجات الخلق، وهو خلق الإنسان والجن وجعل الإنسان خليفة في الأرض، وبين أنه خلق فيه العقل والاستعداد لعلم الكائنات، وبين سبحانه زيادة خلقه عن الجن وعن الملائكة، وأمر الملائكة والجن أن يسجدوا له فأبى إبليس وجَهِل وقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، واعترض على الله تعالى خالق النار وخالق الطين، ثم كان الاختبار الإلهي لأبي الإنسان، وهو آدم، فنهاه هو وزوجه عن الأكل من شجرة، فوسوس لهما الشيطان إبليس، فأكلا منها، فأخرجهما الله تعالى مما كانا فيه ونزلا إلى الأرض، وبينهما وبين إبليس من العداوة الشديدة، والمغالبة بين الخير والشر.
ولقد أشار سبحانه إلى المعركة الدائمة، وذكر أوضح مثل لها بما كان يفعله بنو إسرائيل، لقد أوتوا علم النبوة بما أرسل الله فيهم من رسل، وأوتوا نعما كثيرة تثبت قدرة الله تعالى بما أنعم، ولكنهم ضلوا، وذكر سبحانه ما أمرهم به وما نهاهم عنه.
وبين أنهم كانوا في علم الدين أكثر من غيرهم، ولكنهم كانوا يأمرون الناس بالبر،(1/77)
ولا يبرون، ولقد أخذ سبحانه وتعالى يذكرهم بنعمه عليهم، وذكرهم بحالهم من فرعون إذ نجاهم منه، وكان يسومهم سوء العذاب، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وذكرهم إذ فَرَقَ بهم البحر، وآياته الكبرى فيهم، وذكرهم إذ قابلوا هذه النعم بالشرك إذ اتخذوا العجل، وذكّرهم بعفوه سبحانه وتعالى عنهم، وذكرهم بأنه طالبهم بعد هذا العفو أن يقتلوا دواعي الشهوات في أنفسهم، لتكون قوة في هذا الوجود، فلا وجود لجماعة غلبت عليها شهوتها، وذكرهم بنعمته عليهم في أن أتي لهم بالمنِّ والسلوى ليأكلوا منها رغدا، وذكَّرهم بأنه أمرهم بدخول قرية لهم متطامنين متواضعين، فإن مع التواضع مغفرة الله، ولكنهم بدلوا بالطاعة الظلم، فعاقبهم الله تعالى في الدنيا.
وذكر لهم آياته سبحانه في أن أمدهم بالماء في وسط الجدب، بأن ضرب لهم موسى الحجر بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وبين أن شهواتهم، قد تحكمت فيهم فطلبوا ما كانوا يأكلون في مصر من الفوم والعدس والبصل بدلا من المن والسلوى، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأنهم إذ تحكمت فيهم شهوتهم ضربت عليهم الذلة، فكانوا أذلة؛ لأنه حيثما كانت الشهوة المستحكمة كانت الذلة، ثم بين سبحانه أنه أخذ عليهم الميثاق وأكده برفع الجبل عليهم، فَأعْطَوْهُ - أي الميثاق -، ولكنهم نقضوه وجاء من بعد ذلك أمر موسى - عليه السلام - لبني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، وقد كانت مقدسة في مصر فسرت عدوى ذلك إليهم، فتلكئوا في الأمر فسألوا عنها: أكبيرة أم صغيرة؟، وما لونها؟، ثم سألوه: أهي عاملة أم غير عاملة؟ فقال: إنها بقرة لَا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلَّمة لا شية فيها، فذبحوها وما كادوا يفعلون، ثم ذكر في السورة قصة القتيل الذي ادّعى كل فريق أنه لم يقتله، فأمرهم أن يضربوه ببعضها، فظهر القاتل، وأمر الله تعالى بالقصاص منه.
والله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر هذه الأحوال لهم بين أنه (لا يُطمع في إيمانهم)، وقد استولى النفاق عليهم، فإذا لقوا المؤمنين قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم(1/78)
إلى بعض قالوا جاهلين: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجّوكم به عند ربكم؟! كأن الله تعالى لَا يعلم، ولقد ركبهم الغرور في أنفسهم، فقالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات، فبين الله أن الخطايا تركبهم، وسيؤخذون بها، ولقد أخذ الله تعالى عليهم الميثاق بألا يعبدوا إلا الله ويقيموا الصلاة، وأخذ عليهم الميثاق بألا يسفكوا دماءهم وألا يقتل بعضهم بعضا، ومع ذلك أخرجوا بعضهم من ديارهم، ولا يفكون أسراكم إلا بفدية، ويؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ويحكم عليهم سبحانه، بالحكم الخالد لكل من اتبع الشهوات بأنه اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، وبعد ذلك ذكر الله تعالى سلسلة الرسالة الإلهية التي ابتُدِئت بموسى، ثم عيسى، وأنهم كفروا بالأنبياء، فكلما جاءهم رسول بما لَا تهوى أنفسهم كفروا به أو قتلوه، ولما جاءهم القرآن مصدقا لما بين يديه كذبوه، وهم عندهم العلم به.
ويعيب الله تعالى عليهم قتلهم الأنبياء، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بغير الحق.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى أنه قد جاءهم موسى بالبينات وأنقذهم من فرعون، ومع ذلك بفقدهم التفكير المستقل المدرك عبدوا العجل، كما كان يعبده فرعون وملؤه، ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق، لبيان أنهم لَا يرعون ذمة، ولا يقومون بخير، ولقد كانوا يحسبون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس فتحداهم الله تعالى بأن يتمنوا الموت ولن يتمنوه؛ لأن عبد الشهوة يتعلق بالدنيا وما فيها، يعبد الشهوة العاجلة، ولا يرجو الآجلة، وذكر سبحانه عداوتهم لجبريل مما يدل على صغر تفكيرهم.
ويبين أنهم كلما جاءهم رسول كذبوه، وكلما عاهدوا عهدًا نقضوه، ونبذوه وأنهم بدل أن يتبعوه اتبعوا السحر والأهواء، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا، واتبعوا السحرة، وعلموا الناس السحر، وتعلموا منه ما يفرقون به بين المرء وزوجه، ولقد بين سبحانه جملة حالهم، وما يبغون فقال تعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَن(1/79)
يَزَّلَ عَلَيْكم مِنْ خَيْرٍ من رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
ولقد كان المشركون يعيبون على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يأت بمعجزة حسية، وأنه يأتي بالمعجزة المعنوية، وهي القرآن، فبين الله تعالى أنه إن ترك معجزة يأت بخير منها أو مثلها، وأن قوم موسى - عليه السلام - قد سألوا أن يروا الله جهرة.
ولقد بين الله سبحانه وتعالى أن كثيرين من أهل الكتاب يريدون أن يردوا المؤمنين عن دينهم حسدا لهم على ما آتاهم من فضل يعلمونه ويجحدونه؛ ولذا أمر الله المؤمنين أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وأعلمهم أن ما يقدمونه من خير يأتِ الله تعالى به ويجدوه عنده، ثم ذكر سبحانه وتعالى مزاعم النصارى واليهود، وتكفير بعضهم لبعض، وذلك شأن الذين لَا يعلمون. ثم بين سبحانه وتعالى ظلم الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وهم المشركون واليهود والنصارى.
ثم بين سبحانه وتعالى كفر الذين قالوا: إن الله تعالى اتخذ ولدًا سبحانه، وضلال الذين يطلبون أن يكلمهم الله تعالى.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى مقام الرسالة المحمدية، وأنه - صلى الله عليه وسلم - إن طلب رضا اليهود، فلن يرضوا عنه، وذكر سبحانه بعد ذلك نعمه على بني إسرائيل.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك خبر أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فهو أبٌ لموسى وعيسى ومحمد صلوات الله تعالى عليهم، وذكرهم بهذا أن أصلهم - وهو إبراهيم - واحد، وأنه ما كان لهم أن يختلفوا.
ثم ذكر بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة، ومعاونة ولده إسماعيل له، ودعاءهما لرب البرية أن يجعلهما مسلمَين له ومن ذريتهما أمة مسلمة له، وأن يتعلما مناسك الحج، ودعاء إبراهيم عليه السلام أن يبعث في العرب رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وذلك الرسول هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو دعوة أبي الأنبياء إبراهيم، وأن ملة إبراهيم هي ملة الأنبياء أجمعين، ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، ولقد وصى بهذه الملة الطاهرة إبراهيم، ووصى بها يعقوب.(1/80)
وإنه لَا يجوز التفرق في دين الله بين اليهود والنصارى وأتباع محمد، ولقد جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذه الوحدة الدينية، (. . . لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). وإنه بهذه الوحدة الدينية التي تقوم على التوحيد، قد اتجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس؛ لأن البيت الحرام الذي به الحج كانت الأوثان تحوطه، فلما آذن الله تعالى بأن دولة الأوثان ذاهبة بعد الانتصار في غزوة بدر الكبرى حَوَّل الله تعالى قبلة المسلمين إلى الكعبة إيذانا بتخليصها من الشرك وأهله.
فأخذ السفهاء من اليهود يثيرون الشكوك حول ذلك التحويل: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟! وقد رد الله تعالى عليهم، وبين أن ذلك أمر قدره، وأن وسطية الأمة الإسلامية، وعلوها اقتضى الاتجاه إلى ما بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وبين سبحانه أن تغيير القبلة بجعلها لبيت المقدس أولا، ثم تحويلها ثانيا للكعبة إنما هو اختبار للإيمان والتسليم، وفَصَّلَ الله تعالى من بعد ذلك كيف يولون وجوههم شطر المسجد الحرام أينما كانوا.
ثم ذكَّرهم بنعمة الله تعالى عليهم، وأشار إلى أنهم سيجدون أياما غلاظا شدادا: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ منَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).
* * *
(أحكام تكليفية)
وتلتقي الأحكام الشرعية مع العبر والعظات، وما مضى من السورة عظات، وأخبار عن الأنبياء السابقين - وخصوصا إبراهيم عليه السلام - الذي ينتهي إليه أكثر أنبياء بني إسرائيل وإسماعيل ومحمد - صلى الله عليه وسلم -: وما بعد ذلك تكليفات مع بعض عبر الماضين.(1/81)
إذا كانت القبلة ربطا للمسلمين بمكة، فمناسك الحج الذي تقوم شعائره في مكة حول البيت الحرام فيقول سبحانه: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَهَّ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ).
ويذكر مآثم اليهود وغيرهم ممن يكتمون العلم فيذكر سبحانه وتعالى، أنهم مبعدون عن الله تعالى وعن رحمته، ويذكر الشرك بالله تعالى، وما يفعله المشركون، ويقرر وحدانية الله تعالى، ويثبت التوحيد بالخلق والتكوين، والنعم المتضافرة فيقول: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164).
ويذكر سبحانه بعد هذه الآلاء والنعم من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، ويذكر حال أولئك يوم القيامة حيث يتبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَبعوا.
ويبين سبحانه ما أباحه الله من الطيبات. ويذكر حال الذين كفروا من ندائهم الأوثان بأنهم في حالهم كالبهائم التي تنعق بما لَا تسمع، ويكرر سبحانه إباحة الطيبات ووجوب الشكر على إباحتها، ثم يذكر تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أُهِلَّ لغير الله به، وأن الإثم يرفع في حال الاضطرار، ويذكر من بعد ذلك الذين يكتمون كتاب الله ويشترون به ثمنا قليلا، وأن مأواهم النار.
يذكر سبحانه أن البر ليس في أعمال الجوارح، إنما البر في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بعد الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، والقيام بالواجبات الاجتماعية كلها من وفاء بالعهد، وصبر في البأساء والضراء وحين البأس.
ثم يبين سبحانه وتعالى حكم القصاص، وأن فيه حياة الجماعة هانئة فاضلة (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكمْ تَتَّقُونَ)، ويذكر(1/82)
الوصية للأقربين (الذين لَا يرثون)، لأنه حيث يذكر القصاص يذكر معه الموت ونتائجه.
ثم يذكر فرضية الصوم، وأنه إذا كان القصاص فيه حياة آمنة، فالصوم فيه الروحانية الكاملة، فذكر فرضية صوم رمضان والأعذار المسوغة للإفطار والقضاء إن أمكن، وإن لم يمكن فالفدية، ثم يذكر سبحانه ليالي رمضان، وإباحة الرفث إلى النساء فيها. ويذكر حدود أوقات الصوم، وبجوار تلك الروحانية يمنع من أكل أموال الناس بالباطل.
وإنه بعد بيان أوقات الصوم ذكر سبحانه وتعالى فضل الأهلَّة، فبيق أنها مواقيت للأشهر بالنسبة للصيام وبالنسبة للحج، وبالنسبة للمعاملات بين الناس.
هذه كلها أحكام تكليفية آحادية أو جماعية، وهناك الحكم الجماعي الذي تتضافر عليه الأمة، وهو الجهاد، وقد بين فيه أنه رد للاعتداء (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا. . .)، وفيه منع للفتنة، وأنها هي التي ينتهي عندها (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ. . .).
ويبين أن العمل في القتال هو المعاملة بالمثل، فإن قاتلوا في الشهر الحرام قوتلوا فيه والحرمات قصاص، ثم بيَّن أن أخذ الأهبة والاستعداد لابد منهما، والإنفاق في سبيل الله يمنع التهلكة.
وينتقل من الجهاد إلى ذكر بعض مناسك الحج؛ لأن الحج والجهاد متقاربان في تحمل المشقة. فيذكر الهديَ والتحلل من الإحرام، والإفاضة من المشعر الحرام، وما يحل محل الهدى من صيام عشرة أيام، وما يحل في الحج وما لَا يحل، ويشير إلى أحوال الناس وهم في ضيافة الرحمن.(1/83)
ويذكر الله سبحانه وتعالى وجوب ذكره سبحانه في أيام معدودات، وأن من تقدم في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى.
ثم يذكر سبحانه وتعالى أخلاق الحاكم الفاسد، وهو من فقد الإيمان بالله وأوتي حلاوة اللسان والتغرير بها، والحاكم الفاضل هو من يبتغي مرضاة الله تعالى.
ويدعو القرآن الكريم إلى الدخول في السلم (أي الإسلام)، ويثبت أن الناس جميعا أمة واحدة، ويبين سبحانه أن النبيين جاءوا لمنع الاختلاف بين الناس بسبب الأهواء والشهوات، ويبين سبحانه أنه لَا علاج للشر إلا بتحمل أعباء الجهاد للخير، وأن مقاومة الشر تستدعي تحمل أعباء الجهاد: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214).
ويبين سبحانه أن ذلك يقتضي أن يكون الإنفاق في الأسرة وفي الجهاد، ويقتضي الاستعداد للقتال دائما، وهو ما تكرهه الطبائع البشرية (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شرٌّ لكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، وأن الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، القتال فيها حرام إلا إذا اضطروا إلى ذلك، وأن من يرتد عن دينه بالفتنة، فيموت على الردة يكون من الذين (. . . حبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، وأن الرحمة للذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا، ويبين سبحانه وتعالى حرمة الخمر والميسر، وأنه إذا كان فيهما بعض النفع فالإثم أكبر.
ويبين سبحانه وتعالى العناية باليتامى بإصلاحهم، وضمهم إلى الأسر الفاضلة، وإلا كانوا مادة تخريب في الأمة، فلا تكون صالحة للجهاد الذي يكون به رفعة الدين، والعزة الإسلامية.(1/84)
(أحكام في الأسرة)
اشتملت هذه السورة على أحكام كثيرة في الأسرة منها:
(أ) النكاح بين المشركات والمؤمنين، فحرم الله تعالى أن يَنكح المسلم مشركة، وأن تنكح المسلمة مشركا (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221). (ب) أن الحائض يحرم الدخول بها في حيضها؛ لأنه أذى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ. . .).
(جـ) أنه يحرم على الرجل أن يحلف ألا يأتي امرأته أربعة أشهر، فإن مضت ولم يأتها فقد عزم الطلاق (فتطلق) والله سميع عليم.
(د) أن عدة المطلقة بعد الدخول ثلاثة قروء، وقبل أن تنتهي بعولتهن أحق بردهن إن أرادوا إصلاحا، وللمرأة من الحقوق مثل الذي عليها من الواجبات.
(هـ) وأن الطلاق الذي تجوز الرجعة فيه اثنتان فإن طلقها الثالثة من بعد، فلا تحل حتى تنكح زوجا غيره.
(و) أنه يجوز للمرأة أن تفتدي نفسها بمال تدفعه (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ. . .). (ز) أنه لايحل للزوج إذا طلق وانتهت العدة أن يمنع المرأة من الزواج، وكذلك لَا يجوز للولي ذلك.
ومن الأحكام في الأسرة أيضا أن مدة الرضاعة الكاملة حولان كاملان لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى الأب رزق المرضع وكسوتها بالمعروف، وعلى من يليه(1/85)
من الورثة مثل ذلك، وأن استرضاع غير الأم جائز عن تراض منهما وتشاور، وأن إنهاء الرضاع يكون برضا. وقد ذكر سبحانه وتعالى عدة المتوفى عنها زوجها الحائلِ غير الحاملِ، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام قمرية، وأنه تجوز خطبتها في بحر العدة تعريضًا لَا تصريحًا.
(ح) أن الرجل إن طلق من تزوجها قبل الدخول فلها نصف المهر، إذا كان قد سمى مهرا، وإن كان لم يسم مهرا، فلها المتعة، وهي قدر من المال أو الكسوة يناسب حالهما، (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ. . .).
وقد ذكر سبحانه أن التي يموت زوجها تبقى في بيته سنة ولا يخرجها أحد متاعا بالمعروف حقا على المحسنين.
وقد ذكر سبحانه في أثناء أحكام الأسرة الأمر بالصلاة القيِّمة التي لَا اعوجاج فيها.
* * *
(الدولة تقوم على النظام)
وبعد أن بين الله تعالى نظام الأسرة - وهي قوام الجماعة - أخذ سبحانه وتعالى يبين نظام الجماعة، وأنها لَا تعيش إلا في عزة، واستقلال بنفسها، فصور سبحانه جماعة أصيبت بالذلة فماتت نخرة فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم بالبأس والعزة، فالذلة موت، والعزة حياة.
ثم بين الله تعالى حال قوم من بني إسرائيل طلبوا أن يكون لهم ذو سلطان ممكَّن منهم وبرضا الله سبحانه وتعالى، فمكن الله لحاكم ذي سلطان، وهو طالوت، لأن له مؤهلات الحكم، فقد أوتي بسطة في العلم والجسم، ولكنهم لا يريدون إلا ملكا مسيطرا بحكم الوراثة (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْن أَحَقُّ(1/86)
بِالْمُلْكِ مِنْهُ (. . .)، ولكن الله سبحانه وتعالى أراهم ملكه بأن يتغلب على أعدائهم (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأتِيَكُمُ التَّابوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ من رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ ممَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كنتُم مُّؤْمِنِينَ)، وقد خرج بهم طالوت مجاهدا مستردا عزتهم، واختبر الله إرادتهم بنهر، فمن شرب منه فليس له من القوة المصممة ما يجاهد به، ومن لم يشرب منه فله إرادة الجهاد وعزيمته.
ومهما يكن من حالهم فقد كان النصر (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251).
* * *
(الرسل والألوهية)
بين الله تعالى مقام الرسل، وشرعية القتال (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (. . .، (وهو جبريل عليه السلام)، وقد اقتتل من بعد ذلك المتبعون للرسل لاختلافهم أو بعضهم على أنبيائهم.
وأن الإنفاق في سبيل الله هو دعامة القوة؛ لأنه يبني مجتمعًا متعاونًا، ويشد أزر أهل الحق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
وأن الجامع بين الأنبياء جميعا هو الوحدانية، والإيمان بالله تعالى (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ. . .)، إلى آخر الآية الكريمة.
وأن الإيمان قد قامت دلائله، فـ (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى. . .)، وقد ضرب الله تعالى أمثالا ثلاثة:(1/87)
أولها: مناقشة إبراهيم عليه السلام للذي (حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ. . .)، فادعى أنه يحي الموتى ويميت الأحياء، فقال له إبراهيم: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ. . .).
الثاني: وهو في الإعادة بعد الموت، كان في الذي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ. . . . إلى آخر الآية الكريمة.
الثالث: طلب إبراهيم - عليه السلام - من ربه أن يريه كيف يحي الموتى، وأنه طلب ذلك للاطمئنان، فأراه الله تعالى (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا. . .).
* * *
(الإنفاق في سبيل الله قوة الجماعة)
إن الإنفاق في سبيل الله أعظم القربات عند الله، وإن الله تعالى يضاعف الإنفاق في سبيله بسبعمائة ضعف، وهذا كناية عن الكثرة، وأنها تفوق عدَّ الحاسبين. وإن شرط ذلك ألا يتبعوا ما أنفقوا منًّا ولا أذًى (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا. . .)، هذا مثل من يبطل صدقاته بالمن والأذى، ومثل الإنفاق ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة تؤتي أكلها ضعفين. وإن شرط النفقة التي تثمر ضعفها أن تكون طيبة لَا نتيمم الخبيث ننفق منه، وإن النفقات تربط المودة بين الجماعة وأنها حكمة الاجتماع، ومن يؤت الحكمة فقد(1/88)
أوتي خيرًا كثيرًا، والنفقة إذا ابتغي بها وجه الله خير في كل أحوالها، أبداها أو أخفاها، فنِعِمّا هي في كل أحوالها، والله تعالى مكافئ عليها، ومن ينفق فعاقبة النفقة لنفسه؛ لأنه يصلح جماعته، وصلاحها يعود عليه، وإن الإنفاق يكون في كل طريق للخير، ويجب أن يبحث عن مستحقيه من الفقراء (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274).
* * *
(الاقتصاد الإسلامي خالٍ من الربا)
أعقب الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم الترغيب في الصدقات، وبيان ثمرتها، وغايتها التعاونية التي تربط بين آحاد المجتمع المؤمن وجماعاته، وذكر بعد ذلك ما يهدم بناء المجتمع ويقطع ما بين آحاده وهو الربا وتحريمه فقال تعالى:
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)،(1/89)
وتحريم الربا تنظيم اقتصادي لقيام بناء اقتصادي سليم لَا تكون فيه أزمات، ولا تؤكل فيه أموال الناس بالباطل ولا يؤدي إلى التعطل والكسل، ولا إلى أن يكون ربح من غير تحمل للخسارة.
وبعد آيات الربا، جاءت آية توثيق الديون بالكتابة وشهادة شاهدَين، وأن يذكر الأجل، وأن يكتبه كاتب عدل وأن يملي من عليه الدين ليكون ذلك إقرارا مكتوبا بالدين، وإذا كان من عليه الدين (سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)، والشهادة تكون برجلين عدلين أو رجل وامرأتين ممن ترضون من الشهداء " أن تضِلّ إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله، إلا أن تكون تجارة دائرة بينكم.
وأوجب سبحانه وتعالى الشهادة في البيوع، ومنع أن يكون فيها إرهاق للشهود (وَلا يضَارَّ كَاتِب وَلا شَهِيدٌ. . .)، ومن دعي للشهادة فلا يكتمها، فإنه يكون آثما قلبه.
ولتوثيق الكتابة والتشدد فيها ذكر حال السفر، وأنه إن لم يكن فيه كاتب فرهان مقبوضة
وبعد هذا التوثيق ختم الله تعالى السورة بالدعوة إلى الإيمان، والإخبار بأن الرسول آمن بما أنزل إليه من ربه والملائكة. . .، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. وبين سبحانه أنه لَا يكلف نفسا إلا وسعها لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت، وعلمنا كيف ندعو ربنا:
(رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286).(1/90)
الم (1)
الم (1)
ابتُدِئَت السورة بهذه الحروف التي ينطق بها، فيقال: ألف لام ميم، وكذلك ابتُدِئَت عدة سور بهذه الحروف التي ينطق بها مفردة حرفا حرفا، وهذه الأولى، وقد اعقبت الحروف بذكر الكتاب وشرفه، وجاءت سورة آل عمران مبتدأة بهذه الأحرف نفسها (الم)، وعقبها ذكر جلال الله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).
ثم كانت سورة الاعراف مبتدأة بمثل هذه الأحرف وهي (المص)، وذكر بعدها الكتاب، وهو قوله تعالى: (كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُن فِي صدْرِكَ حَرَجٌ منْهُ. . .).
وكانت سورة يونس مبتدأة بحروف مفردة، وهي (الر) وذكر بعدها الكتاب وآياته فقال تعالى: (تِلْكَ آيَاث الْكِتَابِ الْحَكِيمِ).
وجاءت سورة هود مبتدأة أيضا بهذه الحروف (الر)، وذكر بعدها الكتاب، فقال تعالى بعدها: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)،
وسورة يوسف ابتدئت أيضا بهذه الحروف (الر)، وجاء بعدها ذكر الكتاب فقال تعالى عقبها: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ).
وجاءت أيضا سورة الرعد مبتدأة بهذه الحروف المفردة (المر)، وقد ذكر بعدها الكتاب الكريم فقال تعالى عقبها: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ من رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يؤْمِنونَ).
وابتُدِئت سورة إبراهيم بهذه الأحرف المفردة فقال تعالى: (الر)، وجاء بعدها ذكر الكتاب فقال تعالى بعدها: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ(1/91)
لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).
وجاءت سورة الحجر مبتدأة بحروف مفردة وهي (الر)، وذكر بعدها الكتاب فقال تعالى عقبها: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآن مّبِينٍ).
وجاءت سورة مريم مبتدأة بخمسة حروف وهي (كهيعص)، ولم يذكر بها (القرآن) عقب هذه الحروف، ولكن ذكَّرت برحمة الله تعالى على زكريا، فقال تعالى: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ. . .)،، وقد ذكر (الكتاب) في عدة مواضع بعد ذلك في السورة، فكان يأمر الله تعالى بذكره عند ذكر القصص عن أنبياء الله تعالى، فإذا كان (الكتاب) لم يُذكر في الكتاب الكريم عقب هذه الحروف، فقد تكرر ذكره تعالت كلماته في مواضع مختلفة بعد ذلك.
وجاءت سورة (طه) وإذا لم نعتبر كلمة (طه)، اسمًا فإنها تكون حروفًا مجردة، وذكر بعدها القرآن الكريم في قوله تعالى: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4).
وجاءت سورة الشعراء مبتدأة بحروف ثلاثة (طسم)، وجاء عقب هذه الحروف ذكر القرآن (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبينِ)، وابتُدِئَت سورة النمل بحرفين هما (طس)، وجاء ذكر القرآن بعدها فقال تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرآنِ وَكِتَاب مُبِينٍ).(1/92)
وابتُدِئَت سورة القصص بثلاثة أحرف (طسم)، وجاء بعدها ذكر القرآن الكريم، فقال تعالى عقب الحروف: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ).
وجاءت سورة العنكبوت مبتدأة بهذه الحروف (الم)، وجاء بعدها اختبار الناس وهو قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ).
وجاءت سورة الروم مبتدأة بالحروف (الم)، ثم ذكر بعد ذلك انهزامهم ثم انتصارهم (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ).
وجاءت سورة لقمان مبتدأة بالحروف (الم)، وذكر بعدها الكتاب: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيم).
وجاءت سورة السجدة مبتدأة بهذه الحروف (الم)، وعقبت بذكر الكتاب (تَنزِيل الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ).
وابتُدئت سورة يس بحرف الياء والسين (يس)، وذكر بعد الحرفين القرآن الكريم، وذلك إذا لم تعد اسمًا.
وجاءت سورة (ص) مبتدأة بالحرف (ص)، وجاء ذكر القرآن الكريم فقال تعالى عقب هذا الحرف: (وَالْقُرْآنِ ذِي الذكرِ).
وابتُدئت سورة غافر بحرفين (حم)، ذكر بعدها القرآن فقال تعالى عقبها: (تَنزِيل الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيز الْعَلِيم).
وابتُدِئَت فصلت بالحرفين: (حم)، وعقبت بقوله تعالى عن الكتاب: (تَنزِيلٌ منَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).(1/93)
وابتدِئَت سورة الشورى بخمسة أحرف، وهي (حمَ عَسَقَ)، وجاء بعدها ذكر لنزول القرآن فقال تعالى: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وابتدئت سورة الزخرف بـ (حم)، وعقب الله تعالى هذين الحرفين بقوله تعالى: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ).
وابتدأت سورة الدخان بحرفي (حم)، ثم جاء بعد ذلك ذكر القرآن فقال تعالى عقبها: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ).
وابتدأت سورة الجاثية بحرفي (حم)، وعقبها الله تعالى بتنزيل القرآن فقال تعالى: (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
وابتُدِئَت سورة الأحقاف بالحرفين (حم)، وذكر الله تعالى بعدهما القرآن، فقال تعالى: (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
وابتُدِئَت سورة (قَ)، بحرف - وجاء بعده القسم بالكتاب (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ).
وابتُدِئَت سورة القلم بحرف (ن)، وجاء بعدها ذكر القلم فقال تعالى: (وَالْقَلَم وَمَا يَسْطُرُونَ)، وفيه إشارة إلى الكتاب الكريم.
هذه هي السور التي ابتُدِئَت بالحروف المفردة، ومن هذا الإحصاء يتبين:
أولاً: أن السور التي صُدِّرَت بهذه الأحرف سور مكية نزلت بمكة ماعدا ثلاث سور هي البقرة، وآل عمران، والرعد، فإن هذه السور الثلاث مدنية، بينما الباقي مكي نزل بمكة حيث كان أكثر التحدي بالقرآن الكريم، وإن كان هناك تحدٍّ به في(1/94)
المدينة؛ لأنه المعجزة الدائمة التي يُتحدى بها المنكرون في كل الأحيان والعصور (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88).
ثانيًا: أن السور التي صُدرت بهذه الحروف ذُكر الكتاب بعدها، مما يدل على أن للكتاب الكريم صلة بالابتداء بهذه الحروف، وثلاث سور فقط هي التي لم يأت ذكر للكتاب عقبها، وهي سورة مريم، فلم يذكر الكتاب عقب الحروف، وإن جاء ذكره بعد ذلك في مناسبات أخرى، وكرر ذكره بهذه المناسبات، وسورة العنكبوت فإن ذكر القرآن لم يعقب الأحرف، وكذلك سورة الروم، وما عدا هذه السور الثلاث ذكر القرآن الكريم في أعقابها.
ثالثا: أن عدد الحروف التي ابتُدِئَت بها السور أربعة عشر حرفا، وهي نصف الحروف الهجائية، وهي تشتمل على أنواع مخارج الحروف المختلفة، وهذه الحروف هي الألف، واللام، والميم، والصاد، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والراء، والسين، والطاء، والحاء، والقاف، والنون.
ولا يحفظها ويقرأها إلا من يعرف القراءة والكتابة، فالأُمي لَا يعرفها وإن عرف بعضها، لَا يعرفها كلها، وإلا كان قارئا كاتبا؛ ولذلك هي في القرآن على لسان النبي الأمي من دلائل إعجازه.
قال الله تعالى: (وَمَا كنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ).
وإنه بتتبع السور الكريمة التي صدرت بهذه الحروف التي قدسها الله سبحانه وتعالى بذكرها، وإعقاب القرآن في أكثرها بها يدل على الارتباط الوثيق بينها وبين القرآن الكريم؛ لأنه اشتمل عليها، ولأنها تشير إلى مقامه وإعجازه ومنزلته في هذا(1/95)
الوجود الإنساني، وإن كانت معانيه المحررة مستورة عنا، وهي في علم الله تعالى المكنون، ولكن لها إشارات توحي إلى معانٍ عالية، تليق بتصدرها لكثير من سور القرآن. هذا ما نشير إليه إجمالا ونعرض له ببعض التفصيل.
* * *
(الم) روي عن أبي بكر وعلى رضي الله عنهما أنهما قالا إن هذه الحروف التي ابتُدئَت بها السور هي سر الله تعالى في الكتاب، ولله تعالى في كل كتاب سر. وتبعهما في هذا القول عامر الشعبي وسفيان الثوري، وجماعة من المحدثين، بل قاله أكثر علماء السلف، وهي من المتشابه الذي اختص به علم الله تعالى، وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا رضي الله عنهم: الحروف المقطعة في أوائل السور من المكتوم الذي استأثر به علم الله تعالى. وروي عن الرَّبيع ابن خيثم، أنه قال: إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه، فهو الذي تسألون عنه، وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، وما بكل ما تعلمون تعملون.
وإن هذه المأثورات عن كبار الصحابة، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وهي تدل على أن هذه الحروف من المتشابه الذي لَا يعلم به أحد إلا الله تعالى، وعلينا أن نكف عما لَا نعلم، عملا بقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36).
ولكن العقل طُلَعَةٌ (1) يحاول تعرف المجهول أو المكتوم، وكلما كان الإبهام كان تعَرُّفُ كشفه، ولذلك حاول علماء أن يعرفوا سر وجود هذه الحروف وإن لم يعرفوا حقيقة المراد منها، وقالوا في ذلك أقوالا أربعة؛ ثلاثة منها متلاقية في صوابها وواحد حاول تفسيرها، فأخطأ فيما قصد.
________
(1) طُلَعَة: أي كثير الطلوع أو التطلع، ونفس طُلَعَة: كثيرة التطلع إلى الشيء. [الوسيط: (ط ل ع)].(1/96)
أولها: أن بعضهم حاول تفسيرها بأنها رموز للذات العلية، أو أنها رموز لله ولآخرين، فقال قائل إن (الم) ترمز إلى أن الله يقول أنا الله أعلم، فالألف:
أنا، واللام: الله، والميم: أعلم، وقالوا: (الم) أنا الله أرى، وقال بعضهم في (الم): إن الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، وقيل الألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح لطيف، والميم مفتاح مجيد، وكل هذه التفسيرات ظنون، وإن الظن لَا يغني من الحق شيئا، ولم يرد واحد منها عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو وردت عنه لقبلناها صاغرين ولخرجت من المتشابه إلى المحكم.
ثانيها: ليس تعرفا لمعانيها، ولكنه تعرف لسر وجودها، أو لبعضها، وذلك بيان لإعجاز القرآن مع أنه مكون من حروفهم التي تتكون منها كلماتهم، ومع ذلك يعجزون عن أن يأتوا بمثله في تأليف نغمه، وسياق معانيه، وتآلف ألفاظه وفواصله، فهذا يدل على أنه من عند الله ويدل على عجزهم عن أن يأتوا بمثله.
وثالثها: وهو كسابقه يدل على بعض أسرار وجودها، ولا يتعرض لذات معانيها، وهي أنها تدل على نزول القرآن من عند الله تعالى، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يأت به من عنده، لأنه أُمي لَا يقرأ ولا يكتب، فهو النبي الأُميّ، والأُميّ ينطق بالكلمات ولا يعرف الحروف، فمجيء الحروف على لسانه - صلى الله عليه وسلم -، وهي حروف كثيرة، هي نصف عدد الحروف الهجائية، وهي متنوعة المخارج، وتشمل المخارج كلها، وإن لم تشتمل كل عددها، إن هذا دليل على أنها من عند الله عالم الغيب والشهادة، الذيَ علَّم بالقلم، وعلم الإنسان ما لم يعلم.
رابعا: وهو كسابقيه فيه بيان سر وجود هذه الحروف، وذلك أن العرب المشركين كانوا يحسُّون بأثر القرآن في نفوسهم إذا سمعوه، حتى أنهم قد تفاهموا على ألا يسمعوه (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبونَ).
فكانوا يحاولون ألا يسمعوا، فكانت تلك الحروف الصوتية التي(1/97)
تبتدأ بها السور الكريمة إذا قرئت مرتلة مجودة تسترعي أسماعهم، ويستغربون، وقد يستنكرون، وبينما هم في استغرابهم وعجبهم، يهجم عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن ونغماته، وجميل ألفاظه، ورنة موسيقاه، فيخضعون للسماع، وينقضون ما أبرموا من قبل، فهذه الحروف كانت ليستغربوا ويفتحوا أسماعهم، ويسمعوا.
وإن هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة فيها بيان لسر وجود هذه الحروف، والله بكل شيء عليم.
* * *
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
* * *(1/98)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتقِينَ) الإشارة هنا إلى الحروف (المَ) التي تتألف من كلمات الكتاب العزيز الحكيم؛ ولذلك قيل إن (الم) اسم للسورة، ولكن نقول إن هذه الإشارة إلى الحروف باعتبارين:
أولهما: أن هذه هي الحروف الذي كوِّن منها الكتاب المعجز الذي تحدى به الإنسانية كلها.
والثاني: أنها اسم للسورة التي افتتحت بها، وذلك من قبيل إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء، أو أن جزء القرآن قرآن يتحدى. ألم تر أن الله تعالى تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله.(1/98)
(ذَلِكَ الْكِتَابُ) والإشارة هنا للبعيد، وموضوعها قريب، لأن الحروف جاء بعدها فورًا ذكر الكتاب فكان الظاهر أن تكون الإشارة بما يدل على القرب، كـ (هذا) الكتاب، ولكن لأن (الم) تدل على السورة التي هي جزء متكامل من الكتاب، أو الكتاب نفسه، وقد نزل من الروح الأقدس، فنزل من العلا إلى النبي المرسل، فكان ذلك إشعارًا بالبعد بين الملكوت الأعلى وخلق الله سبحانه وتعالى، أو يقال: إن الإشارة بالبعيد تنويه بذكره وعلو مقامه فإنه تكون الإشارة بالبعيد في هذا المقام، وأي مقام يقارب كتاب الله تعالى؟! فهو عليٌّ في ذاته، ثقيل في ميزانه كما قال تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا).
وفى قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) ثلاثة وقوف:
أولها: الوقوف عند (الْكِتَابُ)، وتكون (ذَلِكَ) مبتدأٌ، والكتاب خبر، ويكون فيه تعريف الطرفين الذي يدل على القصر، أي ذلك وحده هو الجدير بأن يسمو، فلا يعلو علوه كتاب، ولا يُنَاصِى سَمْتَهُ مقروء سواه، إذ هو تنزيل من رب العالمين، وفيه علم بشرائع الله تعالى ويكون قوله تعالى: (لا رَيْبَ فِيهِ) جملة مستقلة على هذه القراءة، وهي تأكيد لمعنى العلو والسمو فيه، إذ إنه لَا شك في حقائقه، وهي بينة تهتدي إليها العقول، ولا ترتاب فيها فهو حجة بصدقه في ذاته، وإدراك العقول لحقائقه، وهذا شرف ذاتي فيه، وهو لَا ريب في أنه من عند الله، إذ تحدى المَقَاوِل (1) من قريش وفحول الكلام منهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكان ذلك شرفا إضافيا فوق شرفه الذاتي.
والثاني: الوقف عند (لا رَيْب)، ومؤداها مقارب من مؤدى القراءة السابقة تقريبا، إذ المؤدى أن يكون المعنى: ذلك هو الكتاب بلا ريب، ويكون قوله تعالى:
________
(1) مَقاوِل: جمع مِقْوَل: أي حسن القول لَسِن. الوسيط (ق ول).(1/99)
(فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) جملة جديدة مستقلة وتكون لبيان كماله فوق أنه لَا ريب فيه.
والثالث: الوقوف عند كلمة (فِيهِ)، ويكون المعنى كالمعنى السابق، ثم يكون قوله (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) جملة مستقلة، وهذه القراءات تتجه كلها إلى سمو القرآن وعلوه، وأنه فوق طاقة البشر، وفوق علم الناس، إنه كتاب الله العلي الحكيم.
ومعنى (لا رَيْبَ فِيهِ) أنه لَا يعتريه الريب لكمال حقائقه ووضوح مقاصده، والبراهين القاطعة المثبتة أنه من عند الله تعالى، فلا مساغ لمرتاب أن يرتاب. وإذا كان قد وقع فيه إنكار، فلأنهم جحدوا آيات الله تعالى، واستيقنتها أنفسهم، والنفي لوقوع الريب منه في ذاته، ويضل ناس فيجحدون ولا يؤمنون، ولا ينفي ذلك أنه لا مكان للريب، ولا موضع له، إذ هو ارتياب حيث اليقين، وإنكار حيث يجب الإيمان، وهو الحق الذي لايأتيه الباطل من أي ناحية من نواحيه.
(هدًى لِّلمُتَّقِينَ) الهدى مصدر على وزن فعَل، كالسّرى، والبكى، ومعناه الدلالة على الطريق الموصل للغاية الذي لَا اعوجاح فيه، ولا تستعمل غالبا إلا للتوصيل إلى الخير، بدليل مقابلتها بالضلالة في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)، وبدليل نسبة الهدى إلى الله تعالى، فقد قال تعالت كلماته: (قلْ إِنَّ الْهدَى هُدَى اللَّهِ. . .)
، والمهتدي من انتفع بما وجد من هداية (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَفمِلُّ عَلَيْهَا. . .).
وإذا قيل: فإن الهداية إنما تكون للضالين ليسترشدوا، ويسيروا في طريق الحق، ويبتعدوا عن الغواية، وما يدفع إليه من ضلالة كما قال تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى).(1/100)
نقول في الإجابة على ذلك: إن المراد بالمتقين ليس من وصلوا إلى أقصى درجات الهداية إنما المراد من شارفوها وطلبوها وأرادوها، وحاولوا الازدياد من العلم، ولم تكن قلوبهم متحجرة، مُبْلِسَة لَا تسترشد ولا تهتدي، وبيان ذلك أن الله تعالى خلق النفوس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها.
فمن النفوس من فطرها الله تعالى على الفطرة المستقيمة المدركة للحق في ذاته، التي تتجه إلى الحق تبتغيه وتريده، وتظل في حيرة حتى تجد المرشد من السماء برسول مبين يرشدها إلى صراط مستقيم، كأُولئك الحنيفيين الذين رفضوا عبادة الأوثان لأنها لَا تنفع ولا تضر، ولا يتّبعها إلا الغاوون.
إن هذه نفوس متقية تبتغى الرشاد، فتكون مصغية للحق عند الدعوة إليه متبعة للنور إذا أشرق، وهذا ما نراه موضعًا للتعبير بقوله تعالت كلماته: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ).
والمتقون مشتق من الوقاية، يقال: وقاه الله تعالى، ووقى نفسه السوء، وقال تعالى: (وَمَن يُوقَ شحَ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفْلِحُونَ).
واتقى: افتعل، من وقى، فهي في أصلها: اوْتَقَى، ثم قلبت الواو تاء، فأدغمت في تاء الافتعال، فصارت اتقى، ومنه أخذت التُقى، والتُقاة، كما قال تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مًّسْلِمُونَ).
والمتقون مراتب في إدراكهم لتقوى الله تعالى، وأعلاها: إدراكهم لمعنى الحق وخضوعهم لما يطلبه، وإنهم بهذا يطيعونه ويستجيبون له، ويلتزمونه، وينطبق عليهم قول الله تعالى: (وَأَلْزَمَهُمْ +كَلِمَةَ التَّقْوَى. . .)، فإذا علا في نفوسهم طلب الحق والاستعداد له، تركوا شر الأشرار مهتدين بهديه، وتجنبوا الإساءة إلى غيرهم، فإذا ساروا في مدارج الهداية والتقوى نزهوا أنفسهم عن كل ما يخالف الحق، وصارت قلوبهم نورا مبصرا، وكانوا أولياء الله تعالى، وينطبق عليهم(1/101)
قول الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ. . .)، ألا إن هؤلاء هم المتقون الذين ينتفعون بهداية الله، وإنَّ علم الله تعالى وهدايته قد مثله النبي - صلى الله عليه وسلم - بغيث ينزل من السماء فيجيء إلى أرض طيبة فتنبت النبات الطيب، وينزل على أرض لَا تنبت، ولكن ينتقل منها إلى أخرى تنبت فيها النبات الطيب، وهناك أرض هي قيعان لَا تنبت، ولا ينتقل منها إلى غيرها (1).
ولقد ذكر الزمخشري في تنسيق هذه الآيات (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
كلمات طيبة محققة مفادها أن قوله تعالى: (الم) جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها و (ذَلِكَ الْكِتَابُ) جملة ثانية، و (لا رَيْبَ فِيهِ) جملة ثالثة، و (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) رابعة، وقد أصاب بترتيبها من البلاغة، وموجب حسن النظم، حيث هي متناسقة هكذا من غير حرف نسق (أي عطف) وذلك لمجيئها متآخية آخذة بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهَلُمَّ جرا إلى الثالثة، والرابعة.
بيان ذلك أنَّه نبَّه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشار إلى أنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال، فكان تقريرًا لجهة التحدي وشدا من أعضائه، ثم نفَى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله، لأنه لَا كمال أكمل مما للحقِّ واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لبعض العلماء: فيم لذتكَ؟ قال: في حجة تتبختر اتضاحا، وفي شبهة تتضاءل افتضاحًا.
________
(1) عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَثَلُ مَا بَعَثني اللهُ به من الْهَدَى والْعلْم كمَثَلَ الغَيْث الكثيرِ أصَابَ أرضًا فكانَ منْها نَقيَّةٌ قبلتْ المَاءَ فانَبَتَتْ الكَلأ والعشْبَ الَكثَير، وكانتْ مَنها أجادبُ أمْسكَتْ المَاءَ فَنفَعَ اللهُ بهَا الناسَ فشرِبُوا وسقَوا وَزَرَعُوا، وأصابَتْ منها طائفَةٌِ أُخْرى إنَّما هِيِ قيعَان لا تُمْسكُ ماءً ولا تُنبت كَلأ، فَذَلكَ مَثَلُ منْ فَقُه في دينَ اللَّهُ به فَعَلمَ وَعَلَّمِ، وملْ من لَم يَرْفَع بذلكَ رأسا وَلَم يَقْبلْ هدى الله الَّذي أرسلتُ به " قالَ أبو عبدَ اللهَّ (أيً البخَاري): قال إسحَاقُ: " وكَانَ منْها طائفَة قبلتْ المَاء ". قاعٌَ: يًعْلُوهُ المَاءُ والصَّفْصَفُ: المُسْتَوي من الأرض [أخرجه البخاري: كتاب العَلم (77) ومسلم بنَحوه: الفضائل: (232 4) وأحمد: أول مسند الكوفيين (8752 1) واللفظ للبخاري].(1/102)
ثم أخبر عنه أنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لَا يحوم الشك حوله وحقا لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا التنظيم السَّرِيَّ (1)، من نكتة ذات جزالة، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه، وفي الثانية، ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة: الحذف ووضع المصدر الذي هو موضع الوصف الذي هو هادٍ، وإيراده منكرًا، والإيجاز في ذكر المتقين، زادنا الله اطلاعا على أسرار كلامه، وتبينا لنكت تنزيله وتوفيقا للعمل بما فيه.
________
(1) السري: الشريف. من سَرُ وَسَراوة، وسروا،: شَرُف. فهو سريّ، والجمع: أسرياء، وسُراة.(1/103)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (3) (هذا هو الوصف الأول للمتقين الذين يتلقون هدى الله تعالى كما تتلقى الأرض الطيبة الغيث فتأتي بأطيب الثمرات. والإيمان: التصديق، ويتعدى بالباء لتضمنه معنى الاعتراف والإقرار والإذعان، والخضوع، ويتعدى باللام ويتضمن حينئذٍ معنى الاستسلام أو الاستجابة كما قال تعالى: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لنَا. . .)، قوله: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى. . .)
، ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن اليهود إذ يتآمرون فيقول بعضهم لبعض، (وَلا تُؤْمنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ. . .).
وأول وصف من أوصاف المتقين الذي يميزهم - وهو في غالب أحوالهم سبب لتقواهم - الإيمان بالغيب. والغيب: كل ما يغيب عن الشخص، ويستتر، ولقد فسره العلماء بما يتفق مع أن يكون وصفًا للمتقين، فقالوا أقوالا مختلفة في ألفاظها، وتتلاقى في مضمونها أو المراد منها - فيما نعلم - كلها، ففسروه بأن الغيب هو الله تعالى؛ لأننا نؤمن به ولا نراه، فالبرهان يوجب الإيمان به، وهو لا يُرى بالحسِّ بل يرى بالقلب، وفسروه بأنه القدر، وفسروه بأنه الإيمان بالملائكة،(1/103)
وفسروه بالقرآن وما فيه من أخبار الملائكة واليوم الآخر، والجنة، والنار. وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما لَا تهتدي العقول إليه من علامات الساعة والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة. . . إلخ.
والحق أنه لَا تعارض بين هذه الأقوال، بل هي متلاقية في جملة معانيها.
وإنَا نَرى أن الإيمان، بالغيب هو الإيمان بما وراء الحس من أمور غيَّبها الله تعالى عن عقولنا، وبيان ذلك أن الناس قسمان: ضالون ومتقون. . فالضالون هم الذين لايؤمنون إلا بالمادة، ولا يعرفون غيرها، وينكرون ما عداها، ويقولون: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، ولا يؤمنون بشيء وراء ذلك، ويقول قائلهم: الطبيعة خلقتنا، ونُردُّ إليها، فلا يؤمنون بإلهٍ ولا بروح إلا أن تكون عرضًا من أعراض المادة، وهؤلاء منهم الملاحدة ومنكرو الأديان.
والقسم الثاني: أمارتهم أنهم يؤمنون بالحس على أنه خاضع للغيب، فهم لا يقصرون إيمانهم على ما يحسون وما يرون وما يبصرون، بل يؤمنون بأن وراء المادة عالماً كبيرًا، وأن مدبر الكون ومنشئه، هو صاحب السلطان المطلق فيه، فلله تعالى محيانا ومماتنا.
إن فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة هو الإيمان بالغيب، فالمؤمن أول خلاله الإيمان بالغيب، والزنديق لَا يؤمن إلا بالمادة.
إن الإيمان بالغيب يجعل النفس دائما خاضعة متطامنة (1) لَا تستنكف عن عبادة الله تعالى ولا تستكبر، ولقد كان ذلك لـ: (مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ)، وإذا كان الإيمان بالغيب يولد الخشية في النفس، فذلك هو لب الإيمان كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كبِيرٌ).
________
(1) تطامن: بهمز وبغير همز: سكن وانخفض. الوسيط: (طمن).(1/104)
(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) كانت الصفة الأولى للمتقين إيمانا بالغيب، وما يكنه من مستورات عن المحسوسات، تولد في النفس الخشية، والإحساس بحاجة الجسم إلى الروح، وبأن الروح فيما وراء المشاهد هي التي تسيِّر هذا الوجود الإنساني، وأن الله تعالى لم يخلق الإنسان إلا ليحاسب على ما قدم من شر أو خير، وأنه سيرى ما اكتسب إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
بعد ذكر هذه الصفة النفسية، ذكر صفتين أخريين تنبعثان من النفس، ولكنْ لهما مظهر عَملِي، وهما إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقه الله سبحانه وتعالى.
والصلاة أصلها على وزن فَعْلَة، من صلى، فأصل الصلاة صَلْوة، فنقلت فتحة الواو إلى ما قبلها، فصارت صلاة، والصلاة كانت معروفة عند العرب بأنها الدعاء. ومنه قوله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، وإطلاقها على الصلوات الخمس من قيام وقراءة، وركوع وسجود، وتحيات - اصطلاح إسلامي.
ولقد فسر بعض العلماء الصلاة هنا بالدعاء، أي الضراعة إلى الله تعالى، والاتجاه الروحي إليه راجيًا ما عنده مؤمنا به مستجيبا لقوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
ولكن الأكثرين - وهو الظاهر الذي يبدو من القول - على أن المراد بها الصلاة المكتوبة، وإن الاتجاه الروحي بالضراعة والدعاء تتضمنه الصلاة المكتوبة، وإن الصلاة قد فرضت في مكة، وصارت متعارفة، كغيرها من الكلمات التي كان في معناها عموم، ثم خصصها الإسلام.
وإقامة الصلاة الإتيان بها مستوية مقومة معدلة قد استوفت أركانها ظاهرا وباطنا، فكانت مشتملة على الخشوع والحضور، واستحضار عظمة الله تعالى في(1/105)
كل لفظ يذكره، ويعبد الله بهذه العبادة، كأنه يرى الله سبحانه وتعالى، ويتوالى ذلك في كل صلواته عامة النهار، أو أطرافًا من النهار وزلفًا من الليل، فإن كانت صلاته كذلك كان مُحِسّا برقابة الله تعالى، ومن أحس برقابة الله لَا يعصيه؛ ولذلك قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ]. .). وقال عليه الصلاة والسلام: " الصلاة عماد الدين " (1).
وبعض المفسرين يفسر إقامة الصلاة بالمداومة عليها من غير تقصير، وبعضهم يفسرها بالمسارعة إليها عند النداء بها، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ. . .)، وبعضهم يفسرها بالسعي إليها عند إقامة الجماعة فيها، ولكن يَرُدُ ذلك ما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأن يمشوا إليها في سكينة وو قار.
وإن التفسير الأول للإقامة هو الأوضح البين، والمعاني الأخرى تدخل في ضمنه، أو تقتضيها.
وبعد أن بين الله تعالى الوصف الذي يترتب على التقوى، والإيمان بالغيب، ذكر وصفا آخر عمليا ونفسيا، فكل ما يذكره الإسلام من تكليفات، وصفات للمؤمن، لاينظر فيها إلى ناحية العمل فقط، بل ينظر فيها إلى ناحية العمل والباعث عليه، والنية التي هي طهارة النفس؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّما الأعْمَالُ بالنَياتِ وإنما لِكُلِّ امرِئٍ ما نَوى " (2).
الوصف العملي النفسي ما عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ينفِقُونَ) وفي هذا الوصف بيان أن الخير الذي يكون بالصلاة في الضراعة إليه
________
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان عن عمر - رضي الله عنه.
(2) صدَّر به البخاري صحيحه كتاب بدء الوحي (1)، كما رواه البخاري في الأيمان والنذور باب النية في الأيمان برقم 6195 ومسلم في الأمارة (1907).(1/106)
سبحانه وتعالى ينعطف على التَّقِيِّ نفعا للناس يقصِدُ التقرب به إليه سبحانه وتعالى، فهو يتقرب إلى الله تعالى بذكره الدائم، وضراعته القائمة، ويتقرب إلى الله تعالى بالإنفاق على خلقه، ومد يد المعونة لغيره، وسد حاجتهم ورفع فاقتهم لرضا الله، وابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى.
والرزق هو: العطاء، وهو من رزق يرزق رزقا، وهو بمعنى اسم المفعول كـ " طِحْن " بمعنى مطحون، و " رِعْي " بمعنى مرعى، وذِبْع بمعنى مذبوح كقوله تعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).
والمرزوق ما ينعم الله تعالى به على الإنسان من متاع الحياة الدنيا، من حيوان ونقود، ومطاعم ومساكن، والإنفاق إعطاؤها في كل سبل الخير، وتشمل بذلك الزكوات، والإنفاق على من يعولهم، والإنفاق على نفسه ليقوى على الحياة، ويقوم بما يجب عليه من طاعات، ومعاونة للضعفاء بقوته، وليقوى على الجهاد في سبيل رفع الحق وخفض الباطل، وإمداد جند الله تعالى بما يحتاجون إليه من عتاد وأسباب القوة كما قال تعالى: (وَأَنفِفوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. . .).
والإنفاق كالإنفاد، بيد أن الإنفاد يرمي إلى إنهاء المال، وألا يبقى منه شيء، والإنفاق يُبقى. وقد خص بعض العلماء الرزق بأنه خاص بالحلال، فإن الله تعالى لا يرزق إلا بالحلال، والحق أن الله تعالى يفيض على ابن آدم بكل ما يقيم به أوده، ويعين به غيره، كما قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْفهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ... )، وابن آدم هو الذي يجعل منها الحلال والحرام، فإن كسبه كسبًا طيبًا لَا خبث فيه فهو حلال، وإن كسبه من غير الحلال، أو أنفقه فيما حرم الله تعالى، فهو الذي أوجد فيه الحلال، وفي الحلال الثواب، وفي الحرام العقاب. ولقد قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهَ لَكُم من رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفتَرُونَ).(1/107)
والله تعالى يعد الرزق نعمة، وإذا أنفق في الحلال وكسب من الحلال كان من القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، ولا يتقرب إليه سبحانه بكسب يكون طريقه ليس بحلال خالص. ويروى أن رجلا يكسب من الغناء والضرب على الدف فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ أرانِي لَا أُرْزَقُ إلا مِنْ دُفِّي بِكَفِّي فأذَنْ لِي بالغِنَاءِ فِى غَيْرِ فَاحِشَة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا آذَنُ لَكَ وَلا كَرَامَةَ ولا نُعْمَةَ، كَذَبْتَ أيْ عَدُوَّ اللَّه، وَاللَّهِ لَقَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ تعالَى حلالا طيبًا، فاخترْتَ ما حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ مَكانَ مَا أحَلَّ اللَّهُ لكَ مِنْ حَلالِهِ " (1).
وفى العبارة السامية: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) إشارتان بلاغيتان:
إحداهما: تقديم (وَمِمَّا زَقْنَاهُمْ) على (يُنفِقُونَ) وفي ذلك بيان أنهم لا ينفقون من كسب خالص لهم بل إنهم ينفقون من رزق الله تعالى، فهو وحده الرزاق إن شاء أعطى، وإن شاء منع، ولست أيها المنفق ترزق نفسك إنما يرزقك الله وحده، فأنت تعطي مِن عندِه، وتجود على نفسك وعلى عباده مِن عِندِه، فالتقديم للقصر أولاً، وللاهتمام بالإنفاق ثانيا.
الثانية: أن الإنفاق لَا يكون بكل ما رزق الله تعالى بل يكون ببعضه وإن كان الكثير فـ " مِنْ " في قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) للتبعيض؛ أي: ينفقون بعض ما أعطاهم الله، فلا يكونون كالمبذرين، وإن المبذرين إخوان الشياطين، والإنفاق في سبيل اللَّه تعالى لَا يستكثر فيه الكثير، فكما قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: إنفاق ألفٍ في برٍّ لَا سرف، وإنفاق درهم في غير بر سرف. وإنما موضع الإسراف أو الزيادة في الإنفاق على نفسه، والله تعالى عليم خبير.
________
(1) رواه ابن ماجه: كتاب الحدود: باب المخنثين (3613).(1/108)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) بعد هذه الأوصاف الذاتية التي يؤمنون فيها بالغيب، فتخشع قلوبهم لذكر الله، ويقيمون(1/108)
الصلاة فتتجه قلوبهم إليه، وينفقون مما رزقهم الله تعالى على أنفسهم وعلى عباد الله تعالى إنفاقا في غير تبذير أو إسراف.
بعد ذلك بين الله تعالى أن من صفات هؤلاء المتقين أنهم من أجلِّ صفاتهم أنهم يؤمنون برسالات الله إلى خلقه بالكتب المنزلة التي أنزلها قبل القرآن، وبالقرآن المنزل من عند الله العلي الحكيم، ويؤمنون بالشرائع التي جاءت في القرآن الكريم وفى الكتب التي أنزلت، لَا يفرقون بين أحد من رسله، ولا بين كتاب من كتبه إلا أن يكون قد نسخ الله تعالى بعض أحكام في كتب أنزلها.
فقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) هم المتقون الذين يؤمنون ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، وتكرار (الاسم) الموصول في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) لَا يدل على المغايرة فيمن نزلت فيهم الآيات، إنما يدل على المغايرة في الصفات، وإن كان الموصوف واحدا، كما يقول الشاعر: إلى الملك القَرْمِ (1) وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم وقد ادعى بعض المفسرين أن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) إلى آخر الآية. إنما نزلت في اليهود الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -: كعبد الله بن سلام وغيره، وينطبق عليهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ثَلاثَة يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرتيْنِ: رَجُل مِنْ أهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وآمَنَ بِي، ورَجُل مَمْلُوك أَدَّى حَقَّ اللَّه تَعَالَى وحَقَّ مَوَاليه، وَرَجُل أَدَّبَ جَارِيَتَهُ، فَأحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا (2).
والحق أن فصل (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) عن سياق ما قبلها من غير دليل - مُخَالَفَة لظاهر السياق من غير باعث يبعث على ذلك، والسياق واضح متسق
________
(1) القَرم: السيد العظيم، والجمع قروم. واستشهد به ابن كثير لمثل ما ذهب إليه المصنف رحمه الله تعالى.
(2) متفق عليه [أخرجه البخاري كتاب العلم (97)، ومسلم - واللفظ له - كتاب الإيمان (154)]. .(1/109)
على أن ذلك كله وصف للمتقين، فهم لإيمانهم بالحق، وخشوع قلوبهم يتقبلون الهدايات السماوية مذعنين غير معاندين ولا منحرفين، وإن المتقين يشملون من اتصف بتقوى الله تعالى مُصغين إلى تكليفه، مؤمنين بغيبه مقرِّين بحق عباده، وهم من كل خلق الله، لَا فرق بين عربي وكتابي، ولا من كان أصلا وثنيا، أو كان يهوديا أو نصرانيا، فمن اتقى الله واستقام على الجادة وآمن بالغيب واتجه إلى ربه، فالآية تشتمل عليه، ولا يخرج عنها، فالعموم أولى وأوفق مع السياق من الخصوص.
والذي أنزل إليك في قوله تعالى: (يُؤْمِنونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) هو القرآن الكريم، وما اشتمل عليه من تكليفات وشرائع، وما جاء به من أخبار الماضين، وقصص الغابرين، ولقد قيل إن القرآن لم يكن قد نزل كله، فكيف يكون الإيمان به قبل نزوله كله، وإنه يُرَدُّ ذلك القيل بأن بعض القرآن قرآن في دلائل إعجازه، وأن الإيمان بالجزء إيمان بالكل، وأنه يصح أن يطلق سماع القرآن على سماع بعضه، كما قال تعالى عن سماع الجن للقرآن، إذ قال: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعونَ الْقُرْآنَ. . .)، وما سمعوا إلا جزءا منه.
وإنه لَا وجه للاعتراض بأن القرآن لم يكن قد نزل إلا بعضه؛ لأن الله تعالى يقول: (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) وقد ابتدأ النزول، فابتداء التنزيل المستمر نزولٌ له كله، كما قال تعالى: (شَهْرُ رمَضَانَ الَّذِي أئزِلَ فِيهِ الْقُرانُ. . .)، فما نزل فيه إلا أَوَّلُه، ولكنه مستمر التنزيل إلى أن كمل الدين.
وإن الآية الكريمة تبين أن الإيمان الكامل بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وما أنزل عليه من شرائع يتقاضى المؤمن أن يكون مؤمنا بكل النبيين السابقين وشرائعهم كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ. . .)، ولقد روي في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إِذَا حَدَّثكمْ أَهْلُ الكِتَابِ فَلا(1/110)
تكَذبوهم وَلا تُصَدِّقُوهُم، وَلَكِنْ قُولُوا آمَنَّا بالَّذي أُنْزِلَ إِلَيْنَا، والَّذي أُنْزِلَ إِلَيْكُم " (1).
وإن الإسلام دين الوحدانية، ودين الوحدة الإنسانية، ودين الرسالة الإلهية التي لَا تفرق بين نبي ونبي إلا في آيات الله تعالى المثبتة للرسالة التي تخص كل نبي، وكلها يجب الإيمان به وتصديقه، ومن لم يصدِّق فقد كفر.
ولقد قرر الله سبحانه وتعالى أن شأن أولئك المتقين (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) فهذا ما جاءت به الديانات الإلهية كلها، فأساس الإيمان في هذه الأديان، وفي كل دين حق أن يؤمن بأن الحياة الآخرة هي المآل، وأن الحياة الدنيا سبيل إلى الحياة الآخرة، ذلك أن هذه الحياة فيها تنازع الخير والشر، وأنه معتركها، وأن الشر كثيرا ما ينتصر على الخير فيها، فلابد للخير من أمل يكون فيه الانتصار للخير، وتجزى كل نفس ما كسبت؛ ولذلك كان الإيمان بالآخرة، إيمانا بانتصار الخير على الشر؛ ولذلك قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ. . .).
وقوله تعالى: (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)، فيه الإيقان مصدر أيقن، وهو إحكام العلم وإتقانه، بحيث لَا يكون شك ولا ريب في أية ناحية من نواحيه، ولا أي حقيقة من حقائقه، وبمقدار قوة الإيمان بالآخرة تكون قوة الإيمان فمن كان مؤمنا بربه حق الإيمان كان مؤمنا بالآخرة كأنها عَيَان.
وقد أكد سبحانه ضرورة الإيمان بها في تقديم الجار والمجرور على الفعل، فإن التقديم فيه مزيد من الاهتمام بهذا اليقين، واختصاص، أي أنه لَا يؤمن إلا بالحياة الآخرة، وما فيها من جنة ونعيم، وبعث وحساب، وجحيم، كأنه رَأْيَ
________
(1) أخرجه البخاري: كتاب التفسير (4485)، وأخرجه أبو داود: كتاب العلم (3159)، وأحمد: مسند الشاميين (16592).(1/111)
العين، وأن الحياة الدنيا ليست موضع إيمان، فالحياة الآخرة وحدها هي الجديرة بالإيمان، وكان التأكيد بكلمة (همْ) فهو تصوير لليقين بصورة الجملة الاسمية، والجملة الاسمية تدل على بقاء اليقين واستمراره بحيث لَا يضطرب ولا يتزعزع ولا ينسى ذلك اليوم أبدًا.
وقد يقال ما موضع (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) من قوله تعالى: (يؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)؟ ونقول في ذلك إن قوله تعالى: (يُؤْمِنونَ بِالْغَيْبِ) كما فهمنا، وكما ذكرنا فيه أنهم لَا يؤمنون بأن الوجود مادة، ليس فيما وراءه وجود، كأولئك الملاحدة الذين يظنون المادة هي " الموجود " وحدها، بدون أن يكون وراءها ما يؤمنون به، فذكر الله سبحانه وتعالى أن النفس التقية الخاشعة الخاضعة، لَا تقول: خلقنا الله عبثا، بل تدرك بالفطرة أن وراء المادة معنى وحياة.
أما قوله تعالى: (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فهي تخصيص من العموم، والله ولي المؤمنين في الدنيا والآخرة.(1/112)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
ذكر الله تعالى ما تحلى به المتقون الذين يؤمنون بما غيَّبه الله تعالى عنهم، ودلت عليه الفطرة، والذين يقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله تعالى، ويؤمنون بالرسالات الإلهية، ويوقنون بالآخرة، وبعد أن ذكر هذا ذكر سبحانه وتعالى حُكْمَه - تعالت كلماته - عليهم، مؤكدا ذلك، فقال: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) وأولئك: إشارة إلى حالهم موصوفين بهذه الصفات قائمين بهذه الصفات، والإشارة إلى الصفات وتعقيب الحكم بعد الإشارة يومئ إلى أن هذه الصفات هي علة الحكم بأنهم على هدى من ربهم، وكررت الإشارة لبيان أن هذه الصفات أيضا هي سبب الفوز بالنعيم المقيم، والبعد عن العذاب الأليم، فالتكرار للتنبيه على أنها سبب للثانية كما هي سبب للأولى.(1/112)
والتعبير بـ (عَلَى هُدًى) بالتعدية بعلى إشارة إلى العلو على الهدى والتمكن، كما يقال: ركب فلان متن الغواية أو علا على الهداية، فكأنه صار مستمكنا عليها لا يفارقها، ولا تفارقه. فأصحاب هذه الصفات العالية ينالون الهداية ولا يزايلونها، فهم في هداية دائمة مستمرة.
وقوله تعالى: (مِّن رَّبِّهِمْ) معناها أن هذه الهداية جاءتهم من ربِّهم الذي رَبَّهم وكونهم ووفقهم إلى سبيل الخير والعمل الصالح، والإيمان واليقين باليوم الآخر، فإسناد الهداية إلى أنها من الرب الكريم بيان لشرفها واستمرارها مع تمكنهم منها، لأنها من رب هذا الوجود الذي رَبَّهُ ونماه وهذبه وأعلاه.
وهنا إشارتان بيانيتان:
إحداهما: الإشارة بالبعيد لوجود اللام، والبُعد هنا بُعد المنزلة، وعلوها وشرفها، فهؤلاء الأتقياء الأطهار الذين نزهت نفوسهم، وسامتوا (1) أعلى العلاء، يشار إليهم بالبعيد إعلاء وتشريفا وتكريما. الثانية: تكرار اسم الإشارة أولئك، ففي هذا التكرار بيان تنويع الفضل الذي حكم الله تعالى عليهم، فهو قد حكم سبحانه وتعالى عليهم حكمين كريمين أولهما: الهداية الكاملة الدائمة التي نالوها، وركبوا متنها وعلوا عليها، والحكم الثاني: أنهم ينالون الفوز، والفوز هنا هو الفوز في الدنيا بعلوِّ نفوسهم، واستقامتها، والاتجاه إلى معالي الأمور ورضا الله تعالى، وهو أكبر جزاء، فرضوان من الله أكبر، والفوز في الآخرة بالنعيم المقيم.
وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك الفلاح الذي ينالونه بالجملة الاسمية، فالتعبير بالجملة الاسمية يدل على دوام الفلاح، وأنه دائم بدوام من يعطيه، وهو رب
________
(1) سَامَتَ الشيء: قابله ووازاه وواجهه. [الوسيط - س م ت].(1/113)
العالمين، وأكده بتعريف الطرفين، وهما اسم الإشارة، وكلمة: " المفلحون "، وتعريف الطرفين يدل على القصر، أي أنهم هم المفلحون وحدهم دون غيرهم، فهم قد خلصت قلوبهم وعقولهم وكل مداركهم للحق جل جلاله، وفاضوا بخيرهم، وتحملوا المشاف في سبيلهم، وآمنوا بكل الرسالات، ولم يطمعوا بغير أن يعذوا أنفسهم لحكم ربهم.
وأكد سبحانه وتعالى الحكم بأنهم المفلحون دون غيرهم بضمير الفصل وهو (هُمُ) فإن في ذكره فضل التأكيد بأنهم المفلحون وحدهم، وأنه لَا ينال منالهم إلا من سلك مثل سبيلهم، واختار مثل طريقهم. . اللهم اجعلنا ممن يقتدي برسلك وبهم، فإنهم هم الفائزون.
والمفلح - من الفَلْح بمعنى الشق والقطع، ويطلق المفلح على الفائز، فكأنه قد شق الطريق، ونالته المتاعب حتى نال مطلوبه، وفاز بمرغوبه، فما وصل إليه إلا بجهد جاهد، وعمل ولُغوب حتى نال ما نال، وذلك هو الفلاح، فلا فلاح إلا إذا كان ثمرة لجد وجهاد، وطلب، وسير في الطريق إلى غايته، فالفوز الرخيص بأمر لا يعد فلاحا، وإن الإنسان يعلو على ملائكة الله تعالى بجده ومغالبته للأهواء الإنسانية، حتى ينتصر عليها، ويصل إلى الملكوت الأعلى؛ لأنه وصل بمغالَبة وجهاد، والملائكة لَا مغالبة فيهم؛ لأن الله خلقهم لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
* * *
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)(1/114)
ذكر الله سبحانه وتعالى أعلى صنف في الوجود الإنساني، وهم الذين علوا بنفوسهم وأعمالهم، وذكر في مقابلهم الذين أركسوا أنفسهم في مهاوي الباطل حتى سدت عليهم كل مسالك الإدراك للحق، ثم ذكر من بعدهم الحائرين بين الهداية والضلال، يرون نور الحق ويبصرونه، ثم يتركونه، فيتركون الحق وقد بدت لديهم معالمه، ويتجهون إلى الظلام، وقد أشرق نوره، ولمعت في الوجود شمسه، وأولئك هم المنافقون.
وقد روي عن مجاهد أنه قال: أربعُ آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة آية في المنافقين (1).
وقد تم بيان صفات المتقين، ونبتدئ في آيتي الكافرين، فقد قال:
________
(1) تفسير القرطبي - تفسير سورة البقرة آية (8).(1/115)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تنذِرْهمْ لَا يُؤْمِنونَ).
بين سبحانه الذين يتقبلون هداية القرآن، فينزل على قلوبهم كما ينزل الغيث على الأرض الطيبة، فتنبت أطيب النبات، وتثمر خير الثمر. وهم المتقون الذي جرى في القرآن الكريم في الآيات السابقة وصفهم. والكافرون جاء وصفهم في الآيات الكريمة على نقيض المتقين، إذ إن هؤلاء المتقين امتلأت نفوسهم بالاتجاه إلى ما وراء المادة، فلم يستول على قلوبهم بريق المادة، ولم يستغرقهم سلطانها، بل انفعلت نفوسهم متأثرة بما وراءها متعرفة أسرار الوجود من الموجود، أما الذين كفروا فقد استغرقتهم المادة، وسيطرت عليهم، فلا يفكرون إلا فيها، وفيما تحيط به، والله سبحانه وتعالى خلق كل نفس، وهداها، فإن استقامت في إدراك الحقائق أوصلها إلى الحق، وإن عميت واعوجت ابتداء، فلم تر إلا المادة سارت في طريق غير سوي. والله سبحانه وتعالى يقول: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكم مِنْ بطُونِ أمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمونَ شَيْئًا(1/115)
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ ... )، فالله " تعالى خلق الخلق، وأودع كل نفس طريق العلم، فأعطاه أدوات المعرفة كلها، وجعل السمع يستمعون به والأبصار يبصرون بها، والقلوب يدركون بها، فمن جعل هذه الأدوات متجهة إلى النور فقد أبصر، فيكون من المتقين، ومن أحاطت به مادة الدنيا، ولم ينفذ ببصره وقلبه إلى ما وراءها، فإنه لابد سائر في طريق الغواية، مبتعد عن طريق الهداية، وكل إنسان وما يُسِّر له، فإن غلبت عليه السعادة اتقى، وإن غلبت عليه الشقوة كفر.
والكفر في أصل معناه اللغوي السَّتْرُ، ومن ذلك إطلاق الكفار على الزراع لأنهم يسترون البذر لينبت نباتا طيبا كقوله تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ. . .)، أي أعجب الزراع نباته، وقد أطلق من بعد ذلك على ستر الفطرة وطمس الحق، لأن الفطرة الإنسانية فطرة الله، فطر الناس عليها تتجه إلى الحق، وتدرك نوره، فالكفر ستر نور الفطرة الذي ينبثق نحو الحقيقة، كما يطلق الكفر على جحود النعمة، وإنكارها، ومن ذلك قوله تعالى: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِن عَذَابِي لَشَدِيدٌ).
ومن ذلك ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: " أُرِيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء، قيل: بمَ يا رسول الله؛ قال: بكفرهن. قيل: أيكْفُرْن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفُرْن الإحسان، لو أحسنت إليهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط " (1). وذكر الله تعالى الكفر من غير مُتَعَلَّق فقال: (إِنَّ الَّذِينَ كفَرُوا) للدلالة على جحود كل خير، فلا يكفر الكفار بالله تعالى وحده، بل يكفرون بكل نعمة، وينكرون كل خير، وتغلب عليهم
________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان - باب: كفر دون كفر (29)، ومسلم: كتاب الكسوف - باب: ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - (907).(1/116)
مادية شرسة لَا يؤمنون إلا بها وينكرون ما عداها، وتسد عنهم مسامع الخير، فلا يصلون إليه، ولا يتجهون نحوه، وبذلك تسد مسامعهم عن كل إنذار بعاقبة ما يفعلون.
وإذا كانوا قد فقدوا كل الإنصات إلى ما يهديهم، فهم لايؤمنون سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم، والإنذار يفسره علماء اللغة بأنه تخويف من أمر مستقبل يتوقع وقوعه أو يؤكد وقوعه، وعند المنذر سعة من الوقت يمكنه فيه أن يتوقاه، وقالوا: إذا لم يكن متسع من الوقت لتفاديه يكون ذلك إشعارا.
ومعنى (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ)، أنه يستوي عندهم إنذارك وعدم إنذارك، فالاستفهام هنا للمعادلة، أي أنه يستوي الإنذار وعدمه، والمصدر هنا ثبت بالاستفهام، أو من غير أداة مصدر، كقولك: تسمع بالمُعِيدِيِّ خير من أن تراه أي: سماعُك بالمعيدي خير من أن تراه.
ومعنى ذلك أنه سجل عليهم الكفر والجحود، لأن الشر قد استغرق نفوسهم، ولم يكن ثمة موضع لسماع داعي الهدى حتى أغلق قلبه عن كل ما يدعو إلى الخير، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء، وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه " (1). وروى الترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الرجل ليقترف الذنب فيسود قلبه "، فإن هو تاب صقل قلبه (2)، وقال تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قلُوبِهِم مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ)، أولئك الذين كفروا وستروا الفطرة، وأطفأوا نور الإيمان بتوالي ذنوبهم، واستمراء جحودهم، تحيط بهم خطاياهم فلا يؤمنون بالحق سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذا المعنى بـ " إِنَّ " الدالة على توكيد حكم ما بعدها.
________
(1) رواه مالك في الموطأ: كتاب الجامع.
(2) رواه الترمذي كتاب تفسير القرآن (57 32)، وأحمد (7611)، وابن ماجه: الزهد (4234).(1/117)
أكد الله تعالى هذا المعنى شارحا حالتهم النفسية، وانطباعها على الشر، وعدم تقبل الهداية، فقال تعالى:(1/118)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
(خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ).
الختم مصدر ختصت ختما فهو مختوم ومعناه تغطية الشيء، والاستيثاق من الغطاء حتى لَا يدخله شيء من خارجه، والختم يكون محسوسا، وإطلاقه على الأمور المعنوية يكون مجازا أو استعارة، ويكون المعنى أن الله تعالى شبه ابتعادهم عن الهداية، والحيلولة بين قلوبهم ووصول الحق إليها، بسبب ما تواردت عليه من أسباب الشك والارتياب وإظلام القلوب، وعدم قبولها لنور الهداية - شبهه بحال ما ختم عليه بختم استيثاقا من ألا يفتح ويدخل عليه شيء من الإيمان، وكان على القلوب، فلا يكون معها مكان لهداية، وعلى السمع، فلا ينفتح لسماع كلمة حق هادية، وذلك من كثرة ما توارد عليها من أسباب العصيان والجحود، حتى طبع الله تعالى عليها بكفرهم، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا (أي مقلوبًا) لَا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا " (1) رواه الصحيحان، ولقد قال ابن جرير في تفسيره: " إن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم الذي ذكره الله سبحانه وتعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ).
والمعنى أن الذين أركست قلوبهم بتضافر ذنوبهم، وتوالى جحودهم، واستغراق المادة تغلق عليهم مسالك الهداية، وتسد عليهم مسام النور، فلا تصل إليهم هداية.
________
(1) رواه مسلم: كتاب الإيمان: باب: بدأ الإسلام غريبا (207).(1/118)
وعبر عن ختم قلوبهم وسمعهم بجمع القلوب، وإفراد السمع؛ لأن الأسباب التي تغلق القلب متعددة، بتعدد أصناف الهوى، فكأن كل واحدة تسكن قلبا، وتتعدد القلوب بتعدد ما ملأها من أهواء، وتتضافر هذه الأهواء، وأفرد السمع؛ لأنه طريق واحد، وجارحة واحدة، ونور الحق واحد، وصوته واحد، ولكن لَا يسمع.
والوقف على قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) وقوله تعالى: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) فإن ختم القلوب يكون على القلب، وعلى السمع، أما الأبصار، فإن عليها غشاوة، وتكرار (عَلَى* في قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) للدلالة على تقوية الختم، وتأكيده بحيث لَا يصل إلى النفس منه شيء عن طريق القلب المدرك أو السمع الواعى.
وقوله تعالى: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) الغشاوة الغطاء الذي يحول بين البصر والرؤية، وذكر الأبصار بالجمع بدل الإفراد لتعدد المبصرات الموجهة التي يتوجه البصر إليها، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات أوتاد، وماء ينزل من السماء، ومرسلات حاملات للرياح، وخلق مجدد مستمر، وحياة وموت، قال تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)، وهكذا تتعدد المبصرات، وفيها الآيات البينات الدالة على قوة القادر على كل شيء، القاهر فوق عباده.
فلتعدد هذه المبصرات ذكرت الأبصار بالجمع لَا بالمفرد، والله بكل شيء محيط.
ولقد ذكر الله تعالى عقاب أولئك الكافرين الذين لَا تجدي معهم النذر، ولا يجدي معهم بيان الحق في ذاته، وقد طبع الله تعالى على قلوبهم التي شعبتها الأهواء، وعلى سمعهم فلا يستمعون للحق، ووضع الله على أبصارهم غطاء يحول(1/119)
بينهم وبين معرفة الآيات البينات، وبين سبحانه وتعالى ما قرره لهم من عقاب، فقال تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) العذاب كالنكال، وقد ذكر الزمخشري المعنى اللغوي له، فقال في كشافه: العذاب مثل النكال بناء ومعنى؛ لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، كما تقول: " نكل عنه "، ومنه العذب، لأنه يقمع العطش ويردعه، ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخا لأنه ينقخ العطش أي يكسرَه، وفراتًا لأنه يرفته على القلب (1)، ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذابا، وإن لم يكن نكالا، أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة.
هذا تحليل لغوي كتبه الزمخشري ونقلناه، والذي نخرج منه أن العذاب نكال وإيلام فادح لمنع المعاودة، وأنه يلتقي مع العذاب، فسبحان الله يجعل من العذب الذي ينقع العطش عذابًا يمنع الجريمة.
وقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، أي أنهم يستحقون استحقاق اختصاص ومِلْك، عذابا عظيما، كبيرا ليس بصغير، جزاء ما كان من تشويه فطرتهم، والطمس على قلوبهم، عذابا كبيرا، لَا يكتنه كنهه، ولا يعرف قدره.
وفي الحقيقة، إنهم ينالهم عقابان: أحدهما - ما فسدت به طبائعهم وتشوهت به مداركهم، فإن نزول الإنسان عن مرتبة الإنسان إلى ما دونه من مرتبة الحيوان والخنازير والقردة الذين ينزون إلى الشهوات نزوًا هو في ذاته عقوبة مستمدة من ذواتهم.
العقوبة الثانية أن لهم عذابا عظيما يوم القيامة. والتنكير في (غشَاوَةٌ) فيه إشارة إلى أنه نوع من أنواعها خاص بهم أساسه التعالييعلى الحق.
________
(1) كما في الكشاف/ ج ا/ 155، وفي لسان الرب: النَّقْخُ كسر الرأس عن الدماغ، والنُّقاخ: الماء العذب البارد الذي ينقخ العطش أي يكسره ببرده.
* * *(1/120)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
* * *
بعد أن بين سبحانه وتعالى حال المتقين ثم حال الكافرين ومآلهم، بين الله سبحانه وتعالى حال الحائرين بين الحق والباطل، وبين العداوة وإظهار المودة، وهم المنافقون. وقد ذكرهم سبحانه وتعالت كلماته في ثلاث عشرة آية، لتنوع أعمالهم، وتغير أحوالهم، بسبب حيرتهم، ونفاقهم، وأوهامهم المضلة.
ابتدأ سبحانه وتعالى بيان حالهم. يقول تعالى عنهم:(1/121)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) نقل سبحانه وتعالى قولهم بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقول آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ).
الناس أصلها الأناس، ويعبر بالناس في هذا بأنهم ليس لهم من الصفات إلا الوصف الآدمي الأصلي وهو أنهم ناس من الناس، فلا يقال متقون، ولا يقال مؤمنون، ويقال كافرون فقط؛ لأن لهم لونا اختصوا به، وهو أنهم كافرون، أما هؤلاء المنافقون، فإنهم حائرون، فلا يعبر عنهم إلا بأنهم ناس، لَا دين لهم ولا خُلق، وليس معنى ذلك أنهم خيرٌ حالا من الكافرين، بل هم أشد كفرا، وأبعد إيغالا في الشر، وأكثر فسادا، وإذا كان في الكافر وضوح، فهو يعلنه، فأولئك كافرون يُبهمون ويجبنون، ولا يصارحون.
ولم يذكرهم الله تعالى في الذين لَا يجدي فيهم إنذار نذير، وأن الله تعالى ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، لم يذكرهم الله في(1/121)
أولئك، وإن كانوا داخلين فيهم؛ لأنهم جمعوا مع هذه الأوصاف أوصافا أخرى، فكانوا أشد عند الله مقتا، وأبعد في الفساد والأذى، ذلك أنهم زادوا المراءاة والاستهزاء بالمؤمنين، وبث روح الفشل فيهم، وموهوا، وعادوهم أشد من عداء الآخرين، وحاربوا في العقيدة والفساد بأشد مما حاربوا فكانوا يحاربون بالعداوة يُسرونها فتكون أفعل وبإشاعة التردد وبث روح الهزيمة عند الإقدام، وبإشاعة المآثم والمفاسد في الذين آمنوا.
هنا يسأل سائل: كيف يُنفَى عنهم وصف الإيمان، وقد كانوا يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم، كما قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ. . .)، وأنهم كانوا يستفتحون على المشركين بنبي جاء أوانه، وأدركهم زمانه. كما قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ منْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لمَا مَعَهُمْ وَكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ. . .).
وإذا كانوا كذلك فهم يعرفون النبي! فكيف يكون قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر، ليس فيه إيمان، ومنفي بقوله تعالى: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ)؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إن الإيمان ليس هو المعرفة المجردة، إنما هو التصديق والإذعان والتسليم، وهؤلاء مع معرفتهم الحق في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا من اليهود، فلم يذعنوا ولم يسلموا، ولم تصل المعرفة إلى تصديق؛ ولذلك نفَى الله سبحانه وتعالى الإيمان عنهم بقوله تعالى: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) أي ليسوا مؤمنين. واليوم الآخر وهو يوم القيامة، وما يجري فيه من حساب ثم ثواب أو عقاب.
فالله سبحانه وتعالى أكد نفي إيمانهم بالجملة الاسمية، أي أنه سبحانه نفَى الإيمان وأصله عن ذواتهم، كما أكدوا هم في نفاقهم الإيمان بالله، وباليوم الآخر، بتكرار الباء في بالله وباليوم الآخر.(1/122)
وهنا إشارة بيانية إلى أن المنافقين ليس من شأنهم الإيمان بشيء؛ لأن الإيمان بشيء من الأشياء يقتضي الإذعان والتصديق والتسليم، والعمل بموجب الاعتقاد والاستجابة، والمنافق قلبه غير مستقر، ولا مطمئن إلى شيء، هو قلب خاوٍ، والحقائق تتردد فلا تسكن، ولا تدفع إلى عمل ولا اطمئان، فلا يؤمن بشيء، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين، لَا تدري إلى أيهما تذهب " (1)، وقال تعالى في وصفهم: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلا إِلَى هَؤُلَاءِ. . .)، ومهما تكن حالهم فهم أشد الكفر عنادا وعنتا وخبثًا ومقتا عند الله ورسوله، وعند الناس أجمعين. ولقد يبلغ النفاق أن يغلب على نفوسهم، فيظنون أنهم يخادعون الله، ويحسبون أنه ليس عليما بخفايا نفوسهم؛ ولذلك قال:
________
(1) سبق تخريجه.(1/123)
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) الخدع: أن يظهر الشخص أنه يريد أمرا ليخفي إرادته الحقيقية، ومقصده، ومن ذلك ضَبّ خادع إذا أخفى نفسه في جحره، وقد أراد أن يضلل من يراقبه، فأظهر الخروج من باب ويختفي في غيره.
وكذلك حال أولئك المنافقين أرادوا أن يظهروا الإيمان أو أظهروه، وهم يبطنون الكفر، ولا يريدون غيره، بل يريدون تضليل المؤمنين، كحال ذلك الضب الخادع الذي يوهم مراقبه أنه خارج من ناحية ليختفي في ناحية أخرى، فالنص الكريم تصوير لحالهم في فعلهم من إظهار الإيمان لأهل الإيمان، وإبطانهم الكفر، وتبادل كلماته فيما بينهم كما قال تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْفُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)، وفي آية أخرى: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئونَ).(1/123)
فالآية الكريمة وصف لحالهم (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) فهي وصف لحالهم وما يرتكبون، فعملهم عمل المخادع الذي يخادع الله والذين آمنوا بأن يوهمهم ويخادعهم فيظهر الإيمان ويبطن الكفر والعداوة وتربص الدوائر، ويحسب أنه يخادع الله ورسوله والمؤمنين. والمخادعة مفاعلة بين اثنين كلاهما يريد خدع صاحبه، والمفاعلة بين أولئك المنافقين من جانب والله ورسوله من جانب آخر، وكيف يخادعون الله، وهو علام الغيوب الذي لَا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض؟ وكيف يخادعهم الله تعالى وهم في قبضته، وكل من في السماوات والأرض في قبضته يوم القيامة؟ وقد أجاب الزمخشري عن ذلك فقرر أن الله تعالى يعاملهم معاملة المؤمنين، فيتزوجون، ويرثون، ويعاملهم كأنهم المؤمنون الصادقون في الإيمان، فهم يخادعون بإظهار ما لَا يبطنون، والله تعالى يعاملهم بما يظهرون، ولا يعاملهم بما يبطنون، أو يقال إن المعنى أنهم ينزلون بالمؤمنين ما يحسبونه مخادعة لهم، وإيهامهم بأنهم آمنوا، وما هم بمؤمنين، أو يقال إن المخادعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، وهم يعاملونهم معاملة المخادع لهم، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم من لحن قولهم خفيَّ أمرهم كما قال تعالى: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. . .).
والمعنى في الجملة بعد أن خرَّجنا المخادعة تلك التخريجات المختلفة أنهم يظهرون ما لَا يبطنون محاولين أن ينزلوا بالمؤمنين ما تكون كالمخادعة، وقرر ذلك الراغب الأصفهاني في المفردات فذكر أن الخداع للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأوليائه من المؤمنين، وفى التعبير عن ذلك بخداع الله تعالى إشارة إلى أن الذين يخادعون النبي إنما يخادعون الله تعالى، وأن الله تعالى كاشف أمرهم لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وأنهم إذ يضارونه، ويخفون عليه أمورهم، يبطنون عنه سبحانه وتعالى ما لَا يبدون وهو من ورائهم محيط.(1/124)
وإنهم إذ يخادعون المؤمنين بإظهارهم الإيمان، وإبطانهم الكفر، إنما يخدعون أنفسهم، بأن يظهروا لغيرهم الإيمان وأمرهم مكشوف غير مستور، وحالهم معروف، وكفرهم يبدو في لحن أقوالهم، فهم يحسبون أنهم يخفون على غيرهم أمرهم، وهو معروف لغيرهم، فهم المخدوعون أنفسهم؛ ولذلك قال تعالى: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرونَ)، أي أنهم يحاولون أن يخدعوا غيرهم فيظنوا أنهم ستروا كفرهم وهو مكشوف لمن يخدعونهم، وأن المؤمنين يعاملونهم بما يظهرون حتى يكون يوم الدين، فهم المخدوعون؛ لأنهم يعاملون كأنهم مسلمون حتى ينكشف أمرهم، ولكنهم لَا يشعرون، أي لَا يحسون بأنهم مخدوعون مغرورون وأمرهم بيِّن. والله من ورائهم محيط.
وإن في ذلك القول الحكيم تصويرا دقيقا لحال المنافقين، إذ إنهم لفرط ضلال نفوسهم، وفقدهم الإيمان تفسد مداركهم، وتضل أفهامهم، فيحسبون أمرهم خفيا على غيرهم وما هو بخفي، وتأخذهم عزة النفاق، فلا يدركون ويستمرئون كذبهم ونفاقهم، حتى يغتروا فيحيط بهم الضلال وهم لَا يشعرون،(1/125)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
الآفات الاجتماعية والنفسية أمراض تصاب بها النفس الإنسانية، وهو ضعف يرد إلى النفوس، وأفحش هذه الأمراض النفاق، فهو ضعف يصيب النفوس يبتدئ من أحقر الأفراد إلى أن يصل إلى أعلاها، ولا يظن أن النفاق يكون فقط لجلب نفع آثم، أو لدفع ضرر جاثم، بل هو ضعف نفسي يحيط بالإنسان ويتغلغل في نفسه، وإطلاق كلمة (مَّرَضٌ) هنا، يصح أن يكون من قبل الحقيق؛ لأن المرض هو ما يؤذي النفس، ويلقى بها في الضعف، وليس ذلك مقصورا على المرض الذي يصيب الجسم بل هو يشمل ما يصيبه في أعصابه، كالجنون الذي يستر العقل، وكالعَتَه الذي يمنع الإدراك، وكالسفه الذي لَا يدري النفع من الضرر، فهذه كلها أمراض، وتعد(1/125)
فى اللغة أمراضا، كذلك مرض النفاق الذي يصيب النفوس بالوهن والحيرة، والحقد والبغض لخير الناس، وأن يكون صاحب هذا المرض غير مستقر بل هو في بلبال مستمر، تزداد حاله كلما تمكن فيه هذا الداء، وهو ساكن في النفس لَا تخرج مظاهره، وكلما استتر واستكن ازداد قوة وإيغالاً في النفس حتى يصعب علاجه، فإذا كان الكذب المجرد قد يعالج، فالنفاق مرض لَا علاج له.
وكان يراد المجاز بتشبيه النفاق بالمرض العضال الذي لَا يشفى، ومرض النفاق فساد القلب، وقد صور ذلك الزمخشري في قوله: والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد، والغل والحسد، والميل إلى المعاصي والعزم عليها والبغضاء، لأن صدورهم كانت تغلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، غلا وحنقا، ويبغضونهم البغضاء التي وصفها الله تعالى في قوله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صدُورهُمْ أَكْبَرُ. . .).
ومن التفسير المأثور أن المرض هو النفاق، وهو مرض إذا أصاب القلب فقد الإيمان بأي شيء من شئون الأخلاق أو الاتصال بالناس، فإنه يصبح في غربة عن أهل الحق وأهل العرفة، والاتصال بهم، فيكون في جو معتم، تسوده الكآبة ولا يظله نور الحق، وذلك شر ما يقع فيه الإنسان.
وإن المنافق إذا أوغل في قلبه النفاق انتقل به من دركة إلى دركة أسفل منها، فيزيد خسرانا بإيغاله. كالسائر في متاهة، كلما أوغل فيها ازداد ضلالا وبعدًا عن الطريق الجدد، حيث الأعلام (1). وهذا معنى: (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) أي أنهم بسيرهم في هذا الطريق الضال يزدادون إيغالا فيه، فيزيد مرضهم بتقدير الله تعالى؛ لأنهم قد أوغلوا مختارين فيه.
________
(1) مفرد عَلَم: شيء منصوب في الطريق يهتدي به. [الوسيط ع ل م].(1/126)
وهكذا كل المعاصي والذنوب التي هي أمراض القلب، من اختارها، فقد اختار الضلالة كلما سار فيها ازداد بعدا عن الحق وعن الطريق القويم فيوغل في المعاصي، لَا يعود ولا يتوب.
وقد بين الله تعالى عاقبتهم، فقال: (وَلَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي عذاب مؤلم شديد، فأليم هنا بمعنى مؤلم، يصيب أجسادهم يوم القيامة كقوله تعالى: (بَدِيع السمَاوَاتِ وَالأرْضِ. . .)، أي مبدع السماوات والأرض يعني منشئها على غير مثال سبق، فيكون لهم جزاءان أحدهما دنيوي، وهو متولد من النفاق نفسه إذ يكونون في اضطراب لايستقرون على قرار، ولا يطمئنون؛ إذ الغل والحقد والحسد يقتل نفوسهم قتلا، ويستمرون على ذلك، حتى يكون هذا مرضًا خبيثًا يسكن نفوسهم، حتى ينغص عليهم كل حياتهم، وتكون كل نعمة تنزل بأهل الإيمان والحق نقمة عليهم.
الجزاء الثاني هو العذاب الشديد المؤلم الذي ينالهم يوم القيامة، وهو ينتظرهم، وهم واردون عليه بلا ريب، ولقد بين الله سبحانه وتعالى سبب ذلك العذاب الذي هو الجزاء الثاني فقال تعالت كلماته: (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) فالباء هنا باء السببية، أي بسبب الكذب المستمر الذي كانوا يقومون به، فـ " كانوا " هنا دالة على الاستقرار والدوام، كما في قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)، وكما في قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهولًا).
فمعنى (بِمَا كَانوا يَكْذِبُونَ)، بسبب كذبهم المستمر الذي لَا ينقطع، وقد اتصفوا بالكذب:
(1) فكذبوا على أنفسهم، فكلما بدا لهم ضوء الحق طمسوه، وغروها الغرور، وخدعوها بأنهم أهل الحق، وموهوا عليها، كما موهوا على الناس، فصارت في عماء، وغلبت عليها شقوتها.
(2) وكذبوا على الرسول وأصحابه، وقالوا آمنا بالحق وباليوم الآخر.(1/127)
(3) وكانوا لَا يصدقون في حديث مع الناس، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصف المنافق: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان " (1).
* * *
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى أوصاف المنافقين النفسية التي استغرقت نفوسهم، وصارت مرضا ملازما لهم كالمرض الجسمي العُقَام الذي لَا يزايل المريض حتى يقضى عليه، وفي هذه الآيات يبين الله تعالى أحوالهم في معاملة المؤمنين، فذكر سبحانه أنهم يفسدون في الأرض ويزعمون لطغوانهم (2) أنهم يصلحونها، وأنهم فوق الناس، ويمارون في القول، ويظهرون للمؤمنين بوجه ولغيرهم من إخوانهم بوجه آخر حين يلقونهم، يحسبون أنهم يستهزئون بالمؤمنين.
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الإيمان - باب: علامة المنافق (32)، ومسلم: كتاب الإيمان - باب خصال المنافق (89) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) الطغوان: لغة في الطغيان من طغى: إذا جاوز القدر وارتفع وغلا في الكفر. [لسان العرب - باب الطاء - ط غ ى].(1/128)
ولقد كان المنافقون يفسدون في الأرض بين الناس، والفساد في الأشياء أن تخرج عما خلقت له إلى ما يضر، والصلاح استقامتها حتى تكون في دائرة النفع الإنساني العام، والمنافقون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيما بعده من العصور شأنهم الفساد، ومن كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وضح فسادهم، واستشرى شرهم، فهم قد كفروا بالحق إذ جاءهم، وأنكروا كتاب الله تعالى ورسوله الأمين، وقد عرفوه، ومشوا بالنميمة والسعاية بين الناس، وكلما أطفأ الله نارًا للحرب أوقدوها، ومالئوا المشركين على المؤمنين، وإذا خرج المؤمنون للقتال عملوا على أن يهموا بالفشل، يعرفون ضعفاء المسلمين ويغرونهم بالتخلف، يبتغون الفتنة بين المؤمنين ويقلبون الأمور لإثارتها، كما قال تعالى: (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ).
ولقد قال ابن جرير في تفسيره في بيان إفسادهم: أهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه الذي لَا يُقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم على المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه، مقيمون على الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا، فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها، فهم يحرضون المشركين على المؤمنين، ويتفقون معهم، ويدلون على عورات المؤمنين، ومَقَاتِلهم، وهكذا.
ويسأل سائل: لماذا قال سبحانه وتعالى: (فِي الأَرْضِ)؟ ونقول: إن ذلك لبيان عموم فسادهم، وأنه يتناول المدينة وما حولها. وأن الأرض موطن فسادهم، يثيرون الحروب فيها، ويشيعون الشر في ربوعها.
وقوله تعالى:(1/129)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) مع البناء للمجهول للإشارة إلى عموم شرهم، وأن الناس جميعا يتساءلون: لماذا كان ذلك الفساد؟ وأي مأرب لهم فيه؟،(1/129)
ولسان الخير يقول لهم: الا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) فهم في حال من الإفساد، يستنكرها كل إنسان، ولايرتضيه رجل للأخلاق عنده مكانة، وللخير عنده منزع، فتجهيل اللائم لهم بقوله: (وَإِذَا قيل) لعموم المستنكرين لحالهم، وأنهم في وادٍ والناس في واد آخر، فلا تجد أحدا يوالي منافقا إلا إذا كان على شاكلته.
وإن أشد فساد الفاسد أن يغتر بحاله، ويزعم أنه ليس بفاسد، فهو معكوس النفس مركوس، قد انقلبت الحقائق في عقله، فلا يعرف الخير من الشر، ولا الفساد من الصلاح، وهكذا المنافقون تنكس عليهم الأمور، فجميعها منكوس.
ولذلك يرد المنافقون قول من يستنكر فسادهم بما حكاه الله تعالى عن نفوسهم: (قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي قصروا نفوسهم على الإصلاح، وذلك أن " إنما " تدل على القصر أي قصرهم على الصلاح لَا يكون منهم فساد قط، وذلك أعظم الغرور وأشد الفساد، فكل ما يفعلون مما ذكرنا وما لم نذكر يعدونه إصلاحا، ولا يعدونه فسادا، وهكذا زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا، وذلك الغرور لَا يكون إلا ممن أحاطت به خطيئته، فأصبح لَا يرى إلا ما يكون في دائرتها، وقد سدت عنه كل منافذ الخير.
وقد حكم الله تعالى عليهم ذلك الحكم القاطع مؤكدا له أفضل توكيد بقوله تعالى:(1/130)
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
(أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
فالله تعالى يحكم عليهم بأن الفساد يستغرقهم وأنهم مقصورون عليه، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ذلك الحكم بعدة مؤكدات:
أولها: التعبير بـ " ألا؛ لأن لَا نافية دخلت عليها همزة الاستفهام الدالة على التنبيه والنفي، فهي نفي مؤكَدٌ لصلاحهم، وتأكيد لفسادهم.
وثانيها: التأكيد بـ " إن " المؤكدة لفسادهم.(1/130)
الثالثة: ضمير الفصل، وهو " هم ".
الرابعة - تعريف الطرفين (1) وهو دال على القصر، أي أنهم مقصورون على الفساد، لَا يتجاوزونه، وهو محيط بهم إحاطة الدائرة بقطرها، فهم يسارعون فيه، ولا يخرجون عنه.
ومع هذه الحال، وهذا الحكم المؤكد (لا يَشْعُرُونَ)، والشعور هو الإحساس الجسدي والنفسي والعقلي بخطأ ما يفعلون، فالشر قد استغرقهم، حتى أصبحوا لا يدركون بعقلهم الذي غمره الفساد ولا بنفوسهم الأمارة بالسوء، ولا بإحساسهم الذي آفته آفة الشر.
وإذا كان فسادهم قد ذاع وشاع فسببه أنهم جعلوا أنفسهم في حيز فكري ونفسي وأهل الإيمان في حيز غيره، وشأن المنافق دائما أنه يعتقد أنه في مكانة من الفكر والتدبر، وغيره ممن يدركون الحق في سفه وحمق، فهم يريدون أن يصرفوهم عن الإيمان ليضلوهم، ويفتنوهم لولا أن يتداركهم الله برحمته، فيستنقذهم منهم.
كانوا صنفا قائما بين الناس لَا هم كفار أعلنوا كفرهم، ولا هم مؤمنون قد رضوا بالإسلام دينا، وانحازوا بحالهم التي هي أشد كفرا ومقتا عند الله وعند الناس، فكان من سنة الناس أن يسألوهم لماذا لم يؤمنوا بقلوبهم؟ ولماذا يقفون ذلك الموقف الحائر المحير. لابد أن يكونوا كفارا معلنين كفرهم، وإلا اختاروا الإيمان.
________
(1) أي: اسم إن وخبرها، وأصلهما المبتدأ والخبر؛ إذا عرّفا دل على القصر.(1/131)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ (13)
بني الفعل (قِيلَ) للمجهول للإشارة إلى عموم القائلين لأن موقفهم المتردد المتذبذب بين حق خالص لاريب فيه، وباطل لَا ريب في بطلانه، فهم يعلنون الإيمان، ولم يعلنوا الكفر، وإن كانت حالهم أشد الكفر وأمقته، كان هذا السؤال يتردد في كل القلوب،(1/131)
ويتساءل عنه كل أهل العقل والمنطق، ولذلك كان التعميم في (وَإِذَا قِيلَ لَهمْ) قال المخلصون: آمنوا أي صدقوا واعتقدوا الوحدانية، وأن تؤمنوا بالله ورسوله والملائكة والرسل جميعا، (كَمَا آمَنَ النَّاسُ)، و " أل " في الناس للعهد أي الناس العهودين المعروفين، وهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه المجاهدون الذين أخلصوا دينهم لله.
وعبر عنهم بالناس إشارة إلى أنهم الناس حقا وصدقا الذين بلغوا أعلى درجات الإنسانية بإيمانهم وطهارة نفوسهم، وعظم مداركهم، وإذعانهم للحق إذ دعوا إليه.
ولكن مع جلال ما آمنوا به، وصدقه، استعلى المنافقون بالباطل، وكذلك شأن المنافق يظن أن ما هو عليه من نفاق ومراء هو عين العقل، وما عليه غيره هو عين السفه.
قالوا مستنكرين ما قيل ويقال لهم: (أَنُؤْمِنُ كمَا آمَنَ السّفَهَاءُ) والسفهاء جمع " سفيه "، وهو الأحمق الذي لَا يتخير الأمور، ولا يتعرف أحسنها فيتبعه، وقد ظن المنافقون أنهم أهل الحكمة، فقالوا: (أَنُؤْمِن كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) وهم في زعمهم محمد وأصحابه، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي: لَا نؤمن، ولا نصدق برسالة محمد إلى الخلق، كما صدق محمد وأتباعه، ومن ساروا على منهاجه، وكذلك زين لهم تفكيرهم الفاسد، وغرهم ما كانوا يفترون، ويكذبون به، وتكرر كذبهم، حتى ظنوها الأعلى، وهو الدرك الأسفل، ولقد حكم الله تعالى، وهو الحكم العدل، وهو خير الفاصلين، فقال تعالت كلماته: (أَلا إِنَّهُمْ هُم السُّفَهَاءُ) يقرر الله تعالى الحكم عليهم بالسفه، وجعلهم مقصورين عليه يدورون في إطاره ويسارعون فيه، فهم يخرجون من سفه إلى سفه، ويسارعون في السفاهة، ويسيرون فيها حتى يصلوا إلى الدرك الأسفل منها.(1/132)
وقد أكدت السفاهة بقوله: (أَلا) التي هي استفهام داخل على النفي، فكان تأكيدا للنفي مع التنبيه، وقد أكد أيضا بـ " إن "، وهي تجيء بعد قوله تعالى: (أَلا) كما يجيء القسم بعدها.
وأكد بضمير الفصل، في قوله تعالى: (هُمُ السُّفَهَاءُ).
وأكد القول بتعريف الطرفين الذي يفيد قصرهم على السفه، بحيث لَا يكون منهم إلا ما هو سفه، ولا يجيء منهم حكمة قط، لأن الحكمة لَا تكون إلا من قلب سليم.
(وَلَكِن لَا يَعْلَمُونَ) مقدار ما أوتوا من سفه الرأي، وما أوتي غيرهم من حكمة الإيمان، وهنا نجد أنهم عند قصرهم في النص القرآني على الفساد، قال: (وَلَكِن لَا يَشْعُرُونَ)، لأن الفساد والصلاح حسيان، فناسبهما أن يكون عنهم شعور حسي، أما حكم السفه فأمر فكري فناسبه نفي العلم لَا نفي الحس.
فذكر القرآن الكريم قياس بعض أحوال المنافقين في أنهم يدَّعون الإيمان ويبطنون الكفر، وأن النفاق والإيمان نقيضان لَا يجتمعان، والمنافق ليس من شأنه أن يؤمن بشيء، وأنهم يزعمون أنهم هم الصالحون - وهم المفسدون الفاسدون - وأنهم يحسبون أنهم بشكهم ونفاقهم في مرتبة عالية، وأن المؤمنين بالنسبة لهم ضعاف الأحلام سفهاء.
بعد ذلك بين سبحانه علاقتهم بالمؤمنين ومعاملتهم، وكيف يمارونهم، ولا يجهرون أمامهم بكفرهم، فقال تعالى:(1/133)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) كان أولئك المنافقون يشيعون في مجالسهم أن المؤمنين سفهاء، وأنهم هم المدركون وحدهم، العارفون بحقيقة العقائد، وأنهم الأعلون، لأن في المؤمنين موالي كصهيب وبلال وخباب وعمار وغيرهم.(1/133)
ولكنهم " كانوا إذا لقوا كبار المؤمنين رفئوهم (1) بأحسن القول كأنهم معهم في الإيمان، بل يدخلون المسجد، كما يدخلون ليوهموهم بأنهم مؤمنون، يروى في ذلك أن عبد الله بن أبيّ وهو كبير النفاق والمنافقين خرج وصحبا له فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال زعيم النفاق وقد أخذ بيد أبي بكر: مرحبا بالصديق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام وثاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أخذ بيد عمر، فقال: مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أخذ بيد علي، وقال: مرحبا بابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله.
قال هذا القول، ثم افترق وانصرف إلى الذين رأوه من أصحابه وقال لهم: كيف رأيتموني فعلت؟ فأنكروا عليه، وهم يعلمون أنه لَا يحكي بقوله ما فى نفسه، فهو معهم، وهو يسخر من المؤمنين، ويستهزئ، وذلك من إمعانه في كفره، ونفاقه، وحقده وحسده.
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) لقى معناه قاربه، أو استقبله عن قرب، أو جمعهما مكان، وقرئ (لَقُوا) من لَقِي، كما قرأ أبو حنيفة وغيره " لاقوا ". والأولى تدل على مجرد لقائهم مع أصحاب رسول الله عفوا، أو من غير إرادة، والثانية على الملاقاة بينهم والتلاقي المقصود، والآية الكريمة بالقراءتين تدل على المعنيين فهم حيثما التقوا بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء ألقوهم عفوا، أم لاقوهم قصدا واجتمعوا بهم قالوا لهم: آمنا، فهم يسترون كفرهم دائما، ويعلنون إيمانهم دائما
_________
(1) رفَأ فلانا: حاباه، ورفّأه: دعا له بالرفاء، والرُفاء بالكسر: المد الالتئام والاتفاق، من رفات الثوب أي أصلحته. وقيل: السكون والطمأنينة، ثم استعير للدعاء للمتزوج وإن لم يكن بهذا اللفظ. وقد نهى عن قولهم: بالرفاء والبنين، مع ما فيه من التنفير عن البنات، والتقرير لبغضهن في قلوب الرجال؛ لكونه من عادات الجاهلية. وكان يقول بدله ونعم البدل: " بارك الله لكما، وبارك عليكما وجمع بينكما في خير ". [الوسيط (رفأ) - مرقاة المصابيح ج 3، ص 269].(1/134)
فى عوج، وقد يحرفون الكلم عن مواضعه ويلوون ألسنتهم بما ظاهره يدل على أنهم آمنوا، وباطنه كفر وطغيان.
هذا قولهم بأفواههم للمؤمنين، يقولون: آمنا. أي: دخلنا في جماعتكم مؤمنين مصدقين، ولكنهم إذا تركوا المؤمنين وكانوا في جماعتهم قالوا: إنا معكم.
وعبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالى: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) فكانت كلمة (خَلَوْا) متعدية بإلى، وأصلها بالباء، يقال: خلا به، ولا يقال: خلا إليه، وإنما عدل عن الباء إلى التعديه بإلى للدلالة على معنى الانصراف، إذ كلمة خلا تتضمن ذلك، والمعنى خلوا منصرفين إليهم، تاركين المؤمنين، أو المعنى خلوا عن المؤمنين بمعنى تركوهم إليهم، فلا مجاز في التعدي. ومهما يكن التخريج، فإن معنى خلوا بهم لَا يراد، لأن معناه الانفراد، والتستر، وهم لَا يتسترون فيما بينهم، يقولون جهرا بينهم، وفي أوساطهم، فلم تكن خلوة بهم، ولكن كانت خلوة معهم وإليهم.
والشيطان فَعْلان من شَطَنَ بمعنى بَعُدَ، وشياطين جمع شيطان وسموا شياطين لبعدهم عن الحق، وتجافيهم عنه، وأضيفت شياطين إليهم للدلالة على أنهم جماعتهم، وكلهم شياطين بُعَدَاء عن الحق لَا يهتدون ولا يستمعون إلى الحق ولا يرومونه، وقد بعدوا عن كل معنى من معاني الحق، والقصد المستقيم.
وإذا انصرفوا إلى شياطينهم، وخفوا أهل الإيمان (قَالوا إِنَّا مَعَكُمْ) وهنا يؤكدون أنهم لم يخرجوا عنهم بذلك الكلام الذي زوروه للمؤمنين ليخدعوهم.
وقد أكدوا أنهم لم يخرجوا من صفوف النفاق إلى صفوف المؤمنين في قولهم: (إِنَّا مَعَكُمْ) بـ (إن) التي تؤكد الحكم الذي يكون وراءها، وبقولهم:
معكم، أي أننا ما خرجنا عنكم بهذا القول، ولكن ما زلنا في صحبتكم أنتم دون غيركم، فلم نفارقكم بهذا القول، وإنما هو من بضاعتنا التي نروج بها لأنفسنا.(1/135)
ولم يؤكدوا للمؤمنين ادعاءهم الإيمان؛ لأنهم قالوا قولا لم يصدر عن قلوبهم، وإن تَلَوَّت به ألسنتهم، ولم يسكن الإيمان قلوبهم، فهو قول باللسان، ولم يذكروا تفصيل الإيمان، فلم يقولوا آمنا بالله ورسوله، والكتاب الذي جاء به وباليوم الآخر، إلى آخر ما يشتمل عليه الإيمان، لأنهم لَا يريدون حقيقة الإيمان، ولكن يريدون أن يثيروا قولا يسترون به كفرهم الستكن في قلوبهم.
وقوله تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالوا آمَنَّا) ليس تكرارا لقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ. . .)، لأن الآيات الأولى في التعريف بالصنف الذي يقابل أهل الإيمان الحقيقي، وأهل الكفر، أما هذه فهي لبيان أحوال تلك الطائفة، وكيف يقولون ما لَا يفعلون، ويظهرون ما لَا يبطنون، فالأولى حكم عام، والأخيرة بيان لبعض أحوالهم.
وإن أولئك المنافقين عندما يلاقون شياطينهم لَا يذكرون المعوية فقط بقولهم: (إِنَّا مَعَكُمْ) بل يفسرون معنى كلامهم للمؤمنين، وقولهم: آمنا. وكأن سائلا منهم سأل: لماذا قلتم ما قلتم فقالوا: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) الاستهزاء السخرية والتعابث، يقال: هزئ به واستهزأ، أي سخر منه، وتعابث بالقول معه.
وقد أكدوا الحكم بأنهم يستهزئون - بالجملة الاسمية، وبـ " إنَ " الدالة على التوكيد، وبذكر " نحن " لتأكيد الحكم باستهزائهم، وذُكرب " إنمأ الدالة على القصر، والمعنى: إننا في عملنا هذا نستهزى، فهم يقصرون أنفسهم على الاستهزاء قصرا إضافيا.
وإن الحكم بأنهم مستهزئون يتضمن الحكم بأنهم لَا يؤمنون؛ لأن من يؤمن بشيء لَا يستهزئ به، فهم تجاوزوا حد الكفر إلى أبعد منه، هو الاستهزاء بالمؤمنين والسخرية منهم، وأصل الباب الهَزء، بمعنى الخفة.(1/136)
ولكن الله تعالى بين أنهم إن يسخروا من المؤمنين فالله تعالى يسخر منهم لخفة عقولهم، وسفه أحلامهم؛ ولذا قال تعالى:(1/137)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
(اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) والمعنى أن الله تعالى ينتصف للمؤمنين فيستهزئ منهم، ويسخر بهم، وينتقم من قولهم يوم القيامة، وليس المراد معنى الاستهزاء، وهو الاستخفاف، فإن ذلك لَا يليق بذات الله تعالى، وإنما المراد إنزال الهوان وأن يكونوا موضع السخرية التي يجلبونها لأنفسهم بأفعالهم، فهم موضع تهكم من أهل الحق دائما، فهم جديرون بأن يسخر منهم ومن أفعالهم الساخرون، إذ هم يتملقون الكافرين من المشركين، وهم معهم، ويدهنون بالقول مع المؤمنين، ولا تخفى على أحد حال من أحوالهم، فهم أرادوا ستر كفرهم فكُشف، وأراد إظهار إيمانهم.
وإن الله تعالى يذكر أفعال المشركين، ويوردها بمثل ألفاظها، وإن كانت دلالة الألفاظ عدلا وحقا لغير ما يريد الكافرون. مثل قوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ. . .)، فسمى الفعل اعتداء مجاراة لأفعالهم، وليس إلا دفعا وقصاصا، وكذلك قوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَة مِّثْلُهَا. . .)، وقوله تعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، وقوله تعالى: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا)، وقوله تعالى: (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ. . .)، وهكذا. وهنا يسأل سائل: لماذا ذكر الله حالهم بقولهم: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) باسم الفاعل الدال على الدوام، ورد الله تعالى أمرهم بقوله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ... (15) بفعل المضارع؟ والجواب عن ذلك أن المضارع يدل على الدوام مع تجدد الفعل آنًا بعد آنٍٍ، فالاستهزاء متجدد مستمر، لَا يبقى على حال، بل يتجدد وقتا بعد وقت، فهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، وأفعالهم تجدد الاستهزاء، والآيات تنزل بفساد أحوالهم وسقم نفوسهم، والمؤمنون يحذرون،(1/137)
وكلما ابتغوا الفتنة ردت إليهم وتكاثر شرهم، والبراءة منهم، حتى أن أهل كل بيت فيه منافق استأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتله، حتى كانوا موضع السخرية وأحسوا بها في ذات أنفسهم، حتى برموا من أعمالهم، وإن كانوا قد استمروا في غيهم.
ولكن لم ينزل بهم عقابهم في الدنيا، وذلك لحكمة أرادها، ولمصلحة تغياها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي ألا يقتلهم حتى لَا يقال بين الأعراب وغيرهم إن محمدا يقتل أصحابه (1).
(وَيَمدُّهُمْ فِي طغْيَانِهِمْ يَعْمَهونَ) المَدُّ هو زيادة المدة في حياتهم بأن يمهلهم الله ثم يأخذهم أخذ عزيز، كما قال تعالى: (نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، والطغيان: الكفر والضلال، وأصله تجاوز الحد، والطغيان هنا الكفر مع الإسراف فيه، والنفاق بلا ريب إسراف في الكفر.
وِالزمخشري يفسرُ " مَد " لَا بمعنى زيادة المدة، بل بمعنى زاده، وألحق به ما يقويه ويكثره مثل قوله تعالى: (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا)، ولقد قرئ: (ويُمدُّهم) بضم الياء، وهي من المدد لَا محالة.
وقول الزمخشري: في ذلك حجة ونرجحه على غيره.
والمعنى على ذلك، أنهم مغرورون مخدوعون، يعطيهم الله سبحانه من مدد الغرور في طغيانهم، وبيان الحق وتركه ما يزيدهم في حيرتهم واضطرابهم واستمرارهم في أسباب السخرية منهم؛ ولذلك قال إنهم بهذا المدد (يَعْمَهونَ)، والعَمَهُ مثل العمى، إلا أن العمى يكون في البصر والرأي، أما العمه فإنه يكون في الرأي بمعنى الحيرة، فمعنى يعمهون يتحيرون، فهم في حيرة دائمة مستمرة. . زاد الله المنافقين في كل العصور عمى، وزادهم عَمَها. .!
* * *
________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب المناقب - باب: ما ينهى من دعوة الجاهلية (3257)، ومسلم: كتاب البر والصلة - باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما (4682)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.(1/138)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
* * *
المنافقون الذين جاوروا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، سواء أكانوا من المشركين أم كانوا من اليهود، وقد كانت عدوى الأخلاق بينهم. . أولئك المنافقون كانوا يحضرون مجالس النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونور الحق يشع بينهم، فيرون مطالعه، ويدركون مشارفه، فأسباب الهداية بين أيديهم يرونها عيانا، ويسمعونها بيانا، والفطرة تحثهم، وترشدهم، والحق لَا تخفى منه خافية، فعندهم العلم أو أسبابه، ولكنهم مع ذلك يتركون النور الهادي إلى الظلام الدامس، يتركون الحق الأبلج، وهو بين أيديهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، يتركون ذلك إلى الضلالة، فهم قد استحبوا العمى على الهدى " ولذلك قال الله تبارك وتعالى:(1/139)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضلالَةَ بِالْهُدَى) الإشارة هنا إلى المنافقين الذين ذكرت أوصافهم، والإشارة إلى المُعرَّف بالوصف هي إشارة إلى الأوصاف، وقد حملوها، وبذلك تكون الأوصاف هي علة الحكم، وسببه، إنهم بإخفائهم الكفر، وإعلانهم الإيمان، وإفسادهم في الأرض، وهم يزعمون إصلاحها، وما فيهم من مرض النفاق الذي يعمي ويصم. وظنهم أنهم أهل الكمال، وأن غيرهم أهل السفه والخسران.
إنهم بهذه الأوصاف التي اختاروها، والأحوال التي كانوا عليها مع رؤيتهم النور والهدى، وتركهم إياه كمن يشترى الضلال بثمن هو أعلى الأثمان، وهو الهدى يدفعونه في سبيل أن ينالوا أقبح ما في الوجود وهو الضلال، وهل يستوي(1/139)
الهدى والضلال في سوف الخير والفضيلة، إنهما لَا يستويان. شبه الله تعالى أولئك المنافقين بحال التاجر الذي يطلب الكاسد يقدم في سبيله الرابح، وهنا يصح أن يكون تخريج الكلام بتشبيه إفرادي، أو استعارة تمثيلية، وعلى الاستعارة الإفرادية يكون تشبيه الضلالة التي يطلبونها بالبضائع المزجاة المردودة الكاسدة، والهدى بالبضاعة الرائجة المطلوبة غير البائرة، وبهذه الاستعارة يكون المعنى أنهم يتركون الطيب المطلوب، ويأخذون بدله الرديء، المردود، فهم الخاسرون لَا محالة؛ لأنهم يأخذون شيئا لَا خير فيه، وفيه فساد كبير، ويقدمون في سبيله أمرا كله خير ونور.
وإذا خرَّجنا على أنها استعارة تمثيلية، فيكون المعنى تشبيه حال رجل في يده هدى ونور وخير وفضل، يتركه ليستبدل به شيئا لَا خير فيه، وفيه فساد وضرر، بحال تاجر يترك البضاعة الرائجة المثمرة إلى بضاعة كاسدة لَا ثمرة فيها. وقد رشح الله في بيان كتابه بأن ذكر ما يقوي الاستعارة بذكر أوصاف للمشبَّه، فقال: (فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتهمْ) أي أنهم في هذه المبادلة المعنوية خاسرون، وليسوا كاسبين لأنهم خسروا الخير وأخذوا الشر، وأي كسب فيها؟! ونسب الربح إلى التجارة، وهي محل التصرف، وذلك تعبير بليغ كقولك: نهار صائم وليل قائم، وذلك من قبل المبالغة في الصوم والمبالغة في الصلاة، وإنما قوله: (فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتهُمْ) مبالغة في نفي الربح وثبوت الخسارة، لمن ترك الهداية وأخذ الضلال.
وقد أكد سبحانه ضلالهم، ونفَى الهداية عنهم كنتيجة لهذه المبادلة الخاسرة فقال: (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) لأن نفوسهم أركست ذلك الإركاس، وفسدت ذلك الفساد، ما كان من شأنهم أن يهتدوا أبدا، فنفَى عنهم الاهتداء نفيا مؤكدا بالجملة الاسمية، وبكلمة كانوا الدالة على الدوام والاستمرار، فليس من شأن من كانت هذه الحال حاله أن يهتدي أبدا، لأن الشر قد استمكن من نفسه وأظلمت واربادَّت بالضلالة حتى إنه لَا منفذ لنور يدخلها أبدا.(1/140)
ولقد ضرب سبحانه مثلا آخر لضلالهم، وقد بدت لهم معالم الهداية، وبزغ بين أيديهم نورها، فقال تعالت كلماته:(1/141)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
(مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الَّذي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ ... (17)
المثل: الحال الشبيهة والشأن، واستوقد النار، أوقدها بعد علاج وطلب للوقود، فاستوقد معناها أَوْقَدَ، والفرق بينهما أن الأول يكون بطلب وجهد؛ لأن السين والتاء للطلب، وهي تفيد المعالجة في الإقادة، فلا يصل الإقادة إلا بجهد ومشقة، وضرب الأمثال في القرآن كثير، بعقد المشابهة بين الأحوال الواقعة، وما يماثلها في الحياة، لتقريب المعاني العالية التي اشتملت عليها كثير من آيات القرآن، لتقريب المعاني المجردة للناس بعقد المشابهة بينها وبين أمر محسوس.
والمعنى السامي في الآية أن حال المنافقين في أنهم في وسط المؤمنين يناكحونهم، ويتوارثونهم، ويعاملونهم، ويوادونهم، ويدلون بالجوار بينهم وبينهم، ومعرفتهم للإيمان وأهله وذوقهم محبة بعض المؤمنين، وهذه الأحوال التي تكنفهم، ومن شأنها أن يعلموا بها الحق، وقد ربطتهم مودة الجار، كل هذا، حالهم فيه، كحال من يستوقد النار ويناله ضوؤها، وتخرج عليه بنورها، حتى إذا انتفع وأدرك الحياة وعلم مغزاها ومعناها، إذا كان كذلك خمدت النار بريح أو نحوها، فبعد الضوء اللامع، فذهب الله بنورهم فهم في ظلمات بعد ذهاب الضوء لَا يبصرون.
ويصح أن يكون هنا تشبيه إفرادي، وتشبيه تمثيلي.
أما الإفرادي، فهو تشبيه الحال التي هم فيها من معاشرة أهل الإيمان ومخالطتهم، ومجاورتهم، وبذل المؤمنين المودة لهم من أهل وأقارب، وإقادة النار المضيئة التي ينتفع بضوئها، ثم تخمد فيذهب الضوء، وشبهت حال النفاق التي آل إليها أمرها، بالظلمات المتضافرة المتكاثفة؛ لأن النفاق ضلال متكاثف كلما أوغلوا فيه ازدادوا ضلالا، وأبعدوا فيه، حتى لَا مرجع إلى النور من بعد، وشبه ما يحدثه(1/141)
النفاق في النفس من حيث إنه يسد الإدراك، فيصبح العقل لَا يدرك والنفس لا تتكشف، بحال من لَا يبصرون (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)، هذا تشبيه إفرادي، إنه استعارة في أجزاء القول، لَا في جملته.
والاستعارة التمثيلية في جملة القول أنه شبه حال المنافقين في أن أسباب النور بين أيديهم، وتحيط بهم، ولكنهم لَا ينتفعون بها - بحال قوم أو فوج من الناس استوقدوا نارا، وعالجوها حتى أضاءت فلما أضاءت، ما حولهم لم ينتفعوا بها فخمدت، فذهب الله تعالى بنورهم فهم في ظلمات متكاثفة بنفاقهم لَا يبصرون.
* * *
وفى النص عبارات بلاغية يجب الإشارة إليها:
أولها - أنهم جماعة، والمفروض أنهم استوقدوا النار جميعا، أو بتعاونهم، ولكنه عبر بالمفرد، فقال تعالت كلماته: (كَمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) فعبر بالمفرد، قالوا إنه مفرد أريد به الجمع، وعبر بالمفرد لثلاثة وجوه:
(أ) أن الوصول العبرة فيه بالصلة لَا بلفظه ومن ذلك قوله تعالى: (وَخُضتمْ كَالَّذِي خَاضُوا. . .).
(ب) وأن الحقيقة أن الذي استوقد هو بعضهم أو فوج منهم، وإن كانت الإضاءة للجميع، والنفع بالضوء للجميع لَا للذي استضاء وحده؛ ولذلك كان التعبير بالجمع في حال الانتفاع، إذ قال فلما أضاء لهم، وبعضهم قد استوقد النار والجميع يستفيد من النور، إذ هو يشيع ويعم، ولا يخص من استقاد النار.
(ب) أن المشبه به في الآية ليس هو الذي استوقد، إنما المشبه به هو الحال التي كان فيها الاستيقاد أولا ثم خمود النيران، وسيرهم في ضلال، فعبر بالذي كما في قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِل(1/142)
أَسْفَارًا. . .)، وكقوله تعالى: (يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ. . .)، فهو تشبيه حال بحال في كل هذه الأمثلة.
وثاني ما يجب الإشارة إليه أن نارًا مصدر لنَارَ، وهي مرادفة؛ ولذا يقال في التصغير نويرة، ومنها يؤخذ النور ويجمع على أنوار.
والإضاءة النور الشديد - كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا. . .)، والمعنى أنهم صاروا في نور شديد موضح ثم خمد وأخمدوه هم في أنفسهم، فلم ينتفعوا به، فأشع النور ولم يتمكنوا من الانتفاع به.
وثالث ما يجب الإشارة إليه هو جواب " لَمَّا " في قوله تعالى: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) فقد كان في هذا الجواب نظران أحدهما: أن الجواب هو قوله: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهمْ) وذلك كلام صالح للجواب، والثاني: أن الجواب محذوف دل عليه (ذَهَبَ اللَّهُ بِنَورِهِمْ) والمعنى، أن الجواب خمدت النار أو انطفأت وذهبت الإضاءة.
وقوله تعالى: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) معناها أذهب الله تعالى نورهم الذي كانوا يسيرون فيه، ويمكن أن ينتفعوا به؛ ولذا أضيف النور الذي أذهبه إليهم، إذ هم الذين خصص ابتداء لهم.
وعبر سبحانه وتعالى بقوله: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) لأن الباء للملابسة، ومعناه هنا ذهب الله تعالى عنهم آخذا نورهم الذي أوقدوا ناره، وقد ذكر الزمخشري الفرق بين أذهبه وذهب به فقال: " والفرق بين أذهبه، وذهب به أن معنى أذهبه أزاله أي جعله ذاهبا، ويقال: ذهب به إذا استصحبه ومضى معه، وذهب السلطان بماله أخذه فذهب به. والمعنى أخذ الله نورهم فأمسكه، وما يمسكه الله تعالى فلا مرسل له.
ومضمون هذا الكلام أن النور الذي أضاء لهم لَا يذهبه الله تعالى، ولا يُضَيعُهُ، بل يحفظه ويمسكه ليهتدي به غيرهم، وهنا ملاحظة لاحظها الزمخشري، وهي التعبير عن نورهم بالإضاءة، وهي النور الشديد، وذلك بأنها إضاءة شديدة(1/143)
تعقبها ظلمة شديدة كقولهم: " للباطل صولة ثم يضمحل، ولريح الضلالة عصفة، ثم تخفت " فهي إضاءة شديدة لهم، ثم ذهب الله بنورها لينتفع غيرهم، أما هم فلا ينتفعون ولا يهتدون.
وإذا كان الله تعالى قد أخذ النور وذهب به ممسكا له غير مرسل إلا لمن يهتدي فقد تركهم بعد ذلك في ظلمات لَا يبصرون. وعبر بالجمع، فقال ظلمات للإشارة إلى تكاثف الظلمات في النفاق، فإن المنافق في حال كذب مستمر، إذ إنه دائما يظهر غير ما يبطن، وذلك كذب، فحال المنافق كذب مستمر، وهم يدهنون في القول، وهم يمالئون الظلم، ولا ينتصرون للحق، ودأبهم الإفساد في الأرض والسعي بنميم بين الناس، وإرادة الأذى المستمر، وكراهيتهم للناس، ولذلك لَا ذهب عنهم نور الحق، تركهم الله تعالى في ظلمات متكاثفة لَا يبصرون حقا، ولا يدركونه، ونفَى الله تعالى عنهم الإبصار بالفعل المضارع، لتجدد العمى عليهم، وعدم الإبصار بتكرار أفعالهم المظلمة الدائمة.
وعدم الإبصار هو عدم الإدراك، فلهم آذان لَا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل.
وأنه قد سدت كل مدارك إدراك الخير، قد اشتروا الضَّلالة بالهدى، وأنهم إن استوقدوا بسبب استغراق الفساد لنفوسهم تنطفئ نار الحق فيهم، ويصطحب النور، ويستمسك به لغيرٍ، فَسُدت عليهم أبواب الحق لَا يسمعون إذا دعاهم، ولا تنطق به ألسنتهم إذا خوطبوا ولا يرون طريق الهدى، فيبصروه، ولذا وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله:(1/144)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ... (18)
وإذا كانت لهم آذان فهم لَا يسمعون بها، وإذا كانت لهم أعين فهم لا يبصرون بها، وإذا كانت لهم ألسنة فهم لَا ينطقون بها في حق قط.(1/144)
وكانت هذه الآية الكريمة تشبيها لحالهم التي آلوا إليها فليست استعارة، ولكنها تشبيه صريح، إذ إن قوله تعالى: (صُم بُكْمٌ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره: " هم " أو: المنافقون، فهم كالصم لأنهم إذا استمعوا القول لَا يتبعون أحسنه ويقولون سمعنا بل ينغضون رءوسهم علوا واستكبارا (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)، وإذا بصرتهم بالدلائل الواضحة، والبينات الناصعة، لَا يستبصرون فلهم قلوب لَا يفقهون بها، ولا ينطقون بحق استنطقتهم به، فهم كالبكم الذين لَا ينطقون، وهم لَا يبصرون وإن كانت لهم أعين.
وختم الله تعالى وصف حالهم بأنهم لَا يرجعون، أي لَا يرجعون إلى الهداية، بعد أن ساروا في الغواية، أي هم وقوفٌ عند الشر الذي وصلوا؛ لأنه ليس وراءه شر، بل هو الضلال البعيد، وقد وصلوا إلى نهايته، فماذا بعد النفاق من ضلال، ولقد قال الزمخشري: إن وقوفهم في الحيرة هو الذي حكم عليهم بأنه يتركهم في طغيانهم يعمهون أي يتحيرون.
* * *
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
* * *
يضرب الله تعالى الأمثال ليقرب المعاني السامية إلى العقول المدركة، ويكثر في كتابه الحكيم من الأمثال لتكون المعاني العالية التي تخفى على الأفهام - معروفة(1/145)
مألوفة لديهم؛ ولذلك قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ). وقد ضرب الله سبحانه مثلا للمنافقين بمن استوقد نارا، ولكن لم يستفيدوا، وذلك لأنهم في وسط علم النبوة، والإشراق المحمدي، والجوار لأهل الحق. ولكن استمروا في ظلمتهم.
وقد ضرب الله تعالى مثلا آخر، يبين فيه سبحانه ما نزل لهم من نور، وما قرعهم الله تعالى به من قوارع، وما أصاب نفوسهم من نوازل، كان من شأنها أن تجذبهم إلى الإيمان، فلم يتجهوا إليه، ولم يخلعوا أنفسهم مما هم فيه من انحراف عن الحق، ومقام عن إدراكه.
لقد نصر الله تعالى المؤمنين، ونصرهم كان كالصواعق والرعد، وفيهم الهدى، فضرب مثلا بهذه الحال، فقال:(1/146)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
(أوْ كَصَيبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ طلمَاتٌ. .) الآية. أو هنا عاطفة على قوله تعالى: (مَثَلُهمْ كَمَثَل الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا. . .) أي أن مثلهم كمستوقد النار، أو مثلهم كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، ويقول الزمخشري: إن " أو " أصلها للشك، ثم صارت بالمجاز دالة على التسوية، كقوله تعالى: (وَلا تطِعْ مِنْهمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا)، أي أن الإثم والكفر سواء في أن طاعة أهلهما حرام تجر إلى الوبال وسوء العقبى والمآل، والتسوية هنا بين المثل في أن كليهما فيه عبرة واعتبار، وتصوير لحال المنافقين، فالأول يصورهم، ونور الحق بجوارهم، وهم يعيشون فيه بأجسامهم، وإن جافته قلوبهم، والثاني يصورهم، وماء الحياة ينزل عليهم مدرارا من السماء، ومن شأنه أن يحيي موات الأرض والنفوس، ولكنه لهم ظلمات، وفيه رعد مزعج وبرق يبرق ويبين، وصواعق تنزل قارعة للأجسام، عسى أن تقرع النفوس فتحولها من الضلال(1/146)
إلى الهدى، فهما مثلان متلاقيان غير متباينين، كل واحد منهما يصور جانبا من جوانب المنافقين، الأول يصور الحق كنور رأوه، ولم يهتدوا به، والثاني كماء الحياة ينزل عليهم وسط نذر وإرعاد وإبراق، فلم يرتدعوا به، فهم لم يهتدوا بنور هاد، ولم تردعهم النذر والآيات.
والصيب هو الماء ينزل، وهو وزن فَيْعِل من صاب يصوب بمعنى نزل، فأصلها صَيْوِبِ اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء كـ " سيِّد " و " ميّت "، وغير ذلك مما يشابهها من كلمات في التصريف، واللفظ في القرآن له فصاحة وبلاغة قائمة بذاتها، فصيب تدل على ماء نازل بقوة تقرع الرءوس قرعا، وينبههم على الماء الذي جعل الله تعالى منه حياة كل شيء.
والسماء ما أظلك، ولماذا أسند إلى السماء، والمطر ينزل منها دائما؛ ونقول إن ذكر السماء يدل على أمرين، أحدهما - أنه نازل من السماء، وليس من العيون والينابيع، فإن ماءها لَا ينزل، ولكن يخرج سلسبيلا، وثانيهما - للإشارة إلى أنه يجيء من علٍ، فينصب انصبابا.
ووصف سبحانه الماء، وهو يمطر وابلا بأن فيه ظلمات، وهي جمع ظلمة، وقد تكاثفت هذه الظلمات فاجتمع فيها ظلمة الدُّجُنَة (1) الحالكة، وظلمة السحب الداكنة، وظلمة الليل الدامس، وظلمة الانهمار الذي ينصب على الرءوس انصبابا، وفيه رعد وبرق، وفيه صواعق تصك آذانهم صكا شديدا، وتفزعهم، حتى إنهم يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت، خوفا من أن يموتوا.
وهذا تصوير للنذر التي كانت تأتيهم مع ماء الحياة الذي يحييهم عساهم أن يهتدوا بالنذر إذ لم يهتدوا بالحق في ذاته، وقد كان نورا قد أشرف.
________
(1) الدُجُنةُ من الغيم: المُطبقُ تطبيقًا، الريّانُ المظلِم، الذي ليس فيه مطر؛ يقال يومُ دَجْنٍ، ويوم دُجُنَّة، وكذلك الليلة على الوجهين، بالوصف والإضافة. (الصحاح - باب النون فصل الدال).(1/147)
والرعد على ما هو مقرر " لآن مظهر من مظاهر الكهر باء التي أودعها الله تعالى في الأجسام، فبعض السحاب يحتوي على كهرباء تسمى موجبة، وأخرى تحتوي على كهرباء تسمى في اصطلاحهم سالبة، وإذا اصطدم السحاب الموجب بالسحاب السالب حدث صوت شديد هو الرعد، وصحب الاصطدام نور هو البرق، وقد تنزل نار محرقة من جراء ذلك هي الصواعق، فالمطر الصيب يكون فيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك في هذا المثل، ونرجع رجعة نتعرف فيها تفسير علماء الأثر للرعد والبرق والصواعق، وسنجد من بينهم من يقارب تفسيره لما تقرر في هذا العصر، ومن باعده.
فممن باعده ما رواه الترمذي عن ابن عباس أنه قال، سالَتْ اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرعد فقال: " ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله "، فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: " زجره السحاب إذا زجره، حتى ينتهي إلى حيث أُمِر "، قالوا: صدقت (1). وفسر ابن عباس - في رواية لا ندري مقدار صحتها - البرق بأنه سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب.
ولقد جاء في تفسير القرطبي: قالت الفلاسفة الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب، والبرق مما ينقدح، من اصطكاكها. ولا شك أن تفسير الفلاسفة قريب مما قرره العلماء في عصرنا من أنه احتكاك سحابة سالبة بأخرى موجبة، يتولد عنه صوت هو الرعد، ونور هو البرق.
وإن الزمخشري رضي الله عنه فسر الرعد والبرق بمثل ما فسر الفلاسفة، فقال: والرعد الصوت الذي يسمع من السحاب كأن أجرام السحاب تضطرب، وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوت عند ذلك من الارتعاد، والبرق الذي يلمع من السحاب، ولا شك أن ذلك قريب مما يقرره الفلاسفة، وإن لم يكن هو.
________
(1) رواه بهذا اللفظ - عن ابن عباس - الترمدى: كتاب تفسير القرآن - باب ومن سورة الرعد (3042).(1/148)
وهنا يجب أن نتكلم في الرواية التي تقرر أن ملكا هو الذي يكوِّن الرعد والبرق، فالخبر لم تروه الصحاح، ولم يروه إلا الترمذي، ومن المقرر أن الأخبار إذا خالفت العلم الضروري القاطع أُوِّلت، أو كان ذلك دليلا على ضعفها لضعف متنها، فقد قال الغزالي: إذا خالفت النصوص ما قرره علماء الكون والطبيعة على أنه حقيقة مقررة تؤول النصوص إذا خالفتها، وإذا كانت حديث آحاد ردت نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وعلى ذلك فنحن نفسر القرآن الكريم في قضية الرعد والبرق والصواعق بما تقرر في العلم، ولا نحسب أن حديثا ثابت السند، ولو حديث آحاد خالف ذلك.
وقد صور الله سبحانه وتعالى قوة الصواعق في قرعها الشديد للآذان بقوله: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ).
وإن الإنسان عندما يقرع أذنه قارع شديد، لَا يضع أصابعه كلها في أذنه، بل يضع فقط طرف أصبعه السبابة فلا يجعل في أذنه جملة أصابعه؛ ولذلك كان في الكلام مجاز لاستحالة الحقيقة، ويعدون ذلك من المجاز المرسل بإطلاق اسم الكل وإرادة الجزء، وإن إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء كثير في الاستعمال العربي، وفي القرآن الذي هو أبلغ الكلام، فقد قال تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ. . .)، ولا يراد الأيدي كلها، بل يراد بعضها، وقال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ. . .)، ولا تقطع اليد كلها في حد السرقة.
ويقرر الغزالي أن أصبع السبابة هي التي تسد الأذن بطرفها، ثم يقول: فإن قلت: إن الأصبع التي تسد بها الأذن أصبع خاصة فَلِمَ ذكر الاسم العام دون الخاص؟ قلت: لأنَّ السبابة فعالة من السب، فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن، ألا ترى أنهم قد استسبحوا بها فكنوا عنها بالمسبحة.(1/149)
وفى الحلية (1): إن ذكر الأصابع مع إرادة بعضها فيه بيان عظم الهول في نفوسهم واشتداده على حواسهم حتى أصابتهم رعدة الخوف، وظنوا الظنون من هول ما يرون، وقوله تعالى: (حَذَرَ الْمَوْتِ) أي خوفا من الموت، فهي مفعول لأجله، والصواعق جمع صاعقة، وهي ما ينزل من السماء من نار، في الرعد والبرق.
وهنا يسأل سائل: هل جعل الأصابع أو أطراف بعضها في الآذان يمنع الموت عنهم، فيحذرونه بوضع الأصابع، والجواب عن ذلك، أن التعليل ليس لمجرد وضع الأصابع، بل هو تعليل للحال التي هم عليها، والتي كان وضع الأصابع في الآذان أثرا من آثارها، أو مظهرا من مظاهرها. فهي ذعر دائم من ظلمات متكاثفة من سحاب داكن، وليل معتم، وأمطار منهمرة، ورعد وبرق وسحاب، حتى توهموا أن وضع الأصابع في الأذن فلا يسمعوا صوت الصواعق والرعد - قد يدفع الموت.
فهم يفعلونه حذر الموت.
وقد بَيَّن سبحانه من بعد ذلك أن الله تعالى محيط بهم، والإحاطة معناها هنا السلطان والاستيلاء والقوة، فيقال أحاط به السلطان أي أخذه، ولم ينج منه، وهي مجاز يراد به ألا يفوتوه، وقد تطلق الإحاطة ويراد بها الهلاك، كما قال تعالى: (إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ. . .)، أي تهلكوا فمعن (وَاللَّه مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) أي هم في قبضته، إن أراد أهلكهم، كما قال تعالى: (وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
والمعنى على ذلك: إنهم يحذرون الموت، ولا حذر منه، ولا ينجيهم الحذر، فإن الله تعالى محيط بهم، لَا يفلتون، وذكر الكافرين هنا لأنهم كافرون أمقت النفاق، فذكر وصف الكافرين إرهاب لهم أشد إرهاب، وأنه جزاء ما يفعلون في الدنيا، ويستقبلون في الآخرة عذابا أليما عظيما.
________
(1) حلية الأولياء لأبي نُعيم.(1/150)
وصور سبحانه وتعالى قوة البرق وأثرها في نفوسهم بقوله تعالى:(1/151)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
(يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ... (20) والخطف معناه الأخذ السريع؛ ولذلك يطلق على الطائر إنه الخطاف لسرعة أخذه، وخَطِفَ من باب فرح، وهي اللغة الفصيحة السائغة في لغة العرب، وهناك لغة تجعلها من باب ضرب، فيقال خَطَفَ يخطَفُ، وقد قرئ بها فهما قراءتان، وقالها الأخفش، فرُوي أن الأخفش قال: خَطَفَ يَخْطَفُ، ولكن قال الجوهري: وهي قليلة رديئة لَا تكاد تعرف.
وعندي أنه إذا كانت هناك قراءة بكسر الطاء لَا يليق أن تذكر بأنها رديئة، وقد روى أنه قرأ بها علي زين العابدين، ويحيى بن وثاب، وقرأ بها يونس، والأولى أن يقال إنهما لغتان في حركة الطاء. هذا والآية الكريمة تصور شدة البرق من حيث إنه يكاد يخطف الأبصار ويذهبها لشدته، كما في قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ)، أي يكاد البرق يأخذ أبصارهم سريعا، فلا يبصرون، وكانت السرعة في أخذه، لأنه ومضات تجيء سريعة وتختفي سريعا، ولا تبقى طويلا.
(كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) أي كلما كان البرق كان الضوء المنير، فعندئذ يمشون فيه مطمئنين غير مسرعين؛ لأن المشي إذا اشتد كان سعيا، وإذا اشتد السعي كان عدْوًا، فكلما أضاء ساروا فيه سير اطمئنان، وإذا أظلم أي إذا انطفأ فأظلم الجو، وصار ظلاما - قاموا - أي وقفوا ساكنين سكون الحيارى راكدين، فهو قيام الحائر الراكد الذي لَا يدري ما الله فاعل، وعبر في الإضاءة بكلما لأنها مكررة بتكرر البرق، ولأنها حركة تغدو وتروح، فإذا جاء البرق وذهب توقعوا عودته، أما الإظلام فلا يطلبونه، وهو حال سلبية لَا تجدد فيها، لَا يطلبون، وقاموا تتضمن السكون والبقاء على ما هم عليه متحيرين مضطربين.
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) لو شاء سبحانه وتعالى أن يذهب بسمعهم بالرعد والصواعق أو ببصرهم بالبرق الخاطف لذهب بها، أي لأخذها كما أعطاها، فقوله تعالى: (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) معناه لاستردها، وأعادهم صما وعميا،(1/151)
كما قال تعالى (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78).
ثم ذَيَّلَ سبحانه وتعالى الآيات الكريمات بكمال قدرته، فقال تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) وذلك التذييل لتأكيد قدرة الله تعالى على إذهاب سمعهم وأبصارهم، وكل قواهم، وقد أكد سبحانه قدرته القاهرة فوق عباده بعدة مؤكدات: بالجملة الاسمية أولا، وبـ " إن " ثانيا، وبذكر لفظ الجلالة الذي يدل على أنه مالك الوجود، ومالك كل موجود، وعموم قدرته على الأشياء كلها (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ).
وهذه الأخبار كلها - من نزول الصيِّب المنهمر انهمارا، والظلمات المتكاثفة والرعد والبرق، وكون الأبصار يكاد سبحانه وتعالى يخطفها، أهي مجاز لأمور معنوية؟، أم هي حقائق وليست مجازا؛ ونقول إن هناك استعارة تمثيلية في جملة القول، ولا مانع أن تكون في كل جملة مجازا، ويتكون من هذه المجازات الصورة التمثيلية الكبرى.
ويميل إلى ذلك أكثر المفسرين، يقول الفراء في قوله تعالى: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فيهِ): أنهم كانوا كلما سمعوا القرآن، وظهرت لهم الحجج أنِسوا ومشوا معه، فإذا نزًّل من القرآن ما يَعْمَون فيه، ويضلون به، أو يُكَلَّفُونه قاموا أي ثبتوا على نفاقهم.
وروي عن ابن عباس " المعنى أنه كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم، وتوالت عليهم النعم قالوا دين محمد دين مبارك ".
وكذلك يفسر الصيب بالقرآن حياة الأرواح، والظلمات والرعد والبرق بما يكرهون به أنفسهم مما يحسبونه شرا عليهم من نصر للمؤمنين، وتمكين للإيمان، وهكذا.
وإن الحق هو أن المثل كله استعارة تمثيلية، أو تشبيه تمثيلي، فقد شبهت حالهم من أن القرآن ينزل في المؤمنين وهم جيرانهم ومعاشروهم، وفيه ماء الحياة الذي(1/152)
يحي القلوب ويغذيهم. وأنالهم العبر والمثلات من تأييد الله تعالى، ونصره الدائم المستمر للمؤمنين، والخذلان الدائم لهم، وما يقرعهم من آيات بينات، وما يجيء إليهم من بلايا بسبب الخزايا التي تنزل بهم كالرعد الذي يقرع الأسماع والبينات تجيء إليهم نورا يسيرون فيه، ثم تظلم قلوبهم وينطفئ نور الحق بينهم.
شبهت حالهم والعلم البين بين أيديهم بحال قوم نزل عليهم غيث منهمر فيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق، ومع ذلك لم ينتفعوا ولم يهتدوا.
فالكلام الكريم، فيه تشبيه حال بحال، وما فيه من مثل قوله تعالى:
(وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) إنما هو من ترشيح الاستعارة، والترشيح هو ذكر الأوصاف المختصة بالمشبه به، كما إذا قلت عن شجاع: إنه ليث، ثم قلت: له لبد، أظفاره لم تقلم، فإن ذلك تقوية للاستعارة بذكر أوصاف خاصة بالمشبه به. والله أعلم.
* * *
العبادة والقدرة والكتاب
ذكر الله تعالى في أول السورة مكانة الكتاب، وأوصاف المتقين ثم أوصاف الذين كفروا، ثم ذكر أوصاف المنافقين، لأنهم شر هذا الوجود الإنساني، وداؤه، ويكمن فيهم سبب فساده.
بعد ذلك ذكر الله واجب العبادة، ومقام كتابه، فقال تعالى:
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
* * *(1/153)
هذه الآيات الكريمات تدعو إلى عبادة الله تعالى وحده، وتذكر أنه خالق من في الوجود، وأنه ربه الذي يَربَه وأنعم عليه بالنعم، وهذا يبين أن الكافرين والمنافقين على باطل، وأن أهل الحق وحدهم هم الذين يسلكون الصراط المستقيم.(1/154)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
(يَا أَيهَا الناسُ) قال بعض العلماء: إن الخطاب بـ " يا أيها الناس " يكون لأهل مكة، وخطاب " يا أيها الذين آمنوأ يكون للمؤمنين بعد الهجرة، ونرى أن هذا التخصيص ليس محكما دقيقا، فهذه سورة البقرة مدنية، وأهل الإيمان قد قاموا واستقروا، وأهل الشرك لايزالون قائمين بمكة.
وفوق ذلك جاء الخطاب بـ " يا أيها الناس " في سورة النساء، وهي مدنية فقد قال تعالى فيها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)؛ ولذلك نرى أن ذلك الاستقراء غير كامل، والأقرب أن نقول إنه إذا كان بـ " يا أيها الناس " فإنه يعم المؤمنين والكافرين؛ لأنه يكون متضمنا خطابا للكافة، ويكون المطلوب فيه إجابة الدعوة الحمدية بالتوحيد، مع ذكر البرهان العام الدال على التوحيد وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -. أما النداء بـ " يا أيها الذين آمنوا " فإنه يكون متجها إلى بيان الأحكام التكليفية: نهيا أو طلبا، أو إباحة بنص شرعي، وسواء أكان التكليف يتعلق بالأسرة أم بالعلاقات الدولية، أم كان بالتحريض على الجهاد.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) قالوا إن النداء بـ " يا " يكون للبعيد، والنداء بـ " أي " يكون للقريب، وهنا النداء بـ " يا " و " أي " معا، ثم يزاد عليها ها التي تفيد التنبيه، وينادى للبعيد حسَّاب " يا "، وللبعيد معنويا بها أيضا،، والنداء من الله تعالى لعبيده نداء من أعلى من في الوجود إلى خلقه؛ ولذا كان النداء بأداتي نداء، وهما " يا " و " أي "، ويضاف إليهما، فهو منه عز وجل إلى الخلق جدير بأن يكون بأعلى الصيغ، لبعد ما بين الكون وخالقه في المنزلة، وفوق أن هذا النداء من الخالق، وهذا يقتضي أعلى(1/154)
العلو وأبعده، وموضوع النداء له جلال وخطر، وعظيم شأن؛ لأنه العبادة أو الشرائع. ويقول الزمخشري في ذلك إجابة على سؤال وهو: لماذا كثر النداء في القرآن بـ " يا أيها "؟ فقال: لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة، لأن كل ما نادى الله تعالى به عباده من أوامره ونواهيه، وعظاته وزواجره، ووعده ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم، وغير ذلك مما أنطق به كتابه أن ينادوا بالآكد الأبلغ.
كان المنادى الناس، مؤمنين وغير مؤمنين، فهو سبحانه وتعالى ينادي الإنسانية كلها لَا فرق بين كافر ومؤمن، وأبيض وأسود، وعربي وأعجمي، والذي يناديهم به أن يعبدوه وحده لَا إله غيره. وطلب العبادة من المؤمنين وغير المؤمنين، وتحقيقها في كل منهما بما يناسبه، فالكافرون الذين يعبدون مع الله تعالى الأنداد، ويتخذونهم شركاء لله - تعالى عن الشبيه والمثل - تكون عبادتهم بخلع عبادة الأوثان، والإيمان بواحد أحد فرد صمد، ليس بوالد ولا ولد، وتصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما جاء به وطاعته سبحانه فيما أمر به ونهى عنه، وبالخضوع الكامل له وحده سبحانه.
وبالنسبة للمؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله، وصدقوا محمدا فيما جاء به من عند ربه العلي الأعلى، فإن ذلك يكون بزيادة الإيمان، والإذعان، والاستمرار على الإيمان والبقاء عليه مستوثقين، كلما جاءتهم آية زادتهم إيمانا لَا يرتابون، ويجتمعون ويكونون قوة في هذه الأرض، وإن الازدياد من العبادة عبادة في ذاته، وكأنها منشأة بعد أن لم تكن.
والعبادة الخضوع المطلق لله سبحانه وتعالى وحده بحيث يكون القلب كله لله تعالى، لَا يحب إلا لله ولا يكره إلا لله، والعبادات تعم الصلوات، والزكوات، والصوم والحج، وغير ذلك مما يكلفه العباد، حتى الأعمال التي تكون بها الحياة، كلها تكون عبادة إذا قصد بالخير فيها وجه الله تعالى، ونفع عباده، فالصانع في(1/155)
مصنعه والزارع في مزرعته إذا قصد بعمله نفع الناس ووجه الله تعالى، فهو في عبادة، فالعبادة تعم كل أفعال الإنسان، واختصت من بينها الفرائض، لأنها لا يمكن أن تكون إلا لله تعالى، وهو عليم بذات الصدور.
وقد وصف الله - سبحانه وتعالى - ذاته العلية بصفات تدعو إلى العبادة، من له قلب يخشع، وعقل يخضع، فوصفه أولا بأنه الرب الأوحد، فقال (رَبَّكُمُ) أي رباكم ونماكم، أو وربكم: تولاكم، وكلأكم بالليل والنهار، ويتبع حياتكم، فيرعاكم حق الرعاية في كل أجزاء جسمكم، ونفوسكم وعقولكم، ولا تخفى عليه خافية من أموركم، وهو بهذه الربوبية يستحق أن تعبدوه وحده، لَا شريك له؛ لأنه لا أحد سواه يربكم.
ووصفه ثانيا بأنه (الَّذِي خَلَقَكُمْ) والخلق معناه الإنشاء والإبداع والتقدير والتصوير، صوركم، فأحسن صوركم، والعرب كانوا يعرفون الله تعالى، وأنه وحده الذي خلقهم، كما حكى الله تعالى عنهم: (وَلَئِن سَأَلْتَهم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. . .) وكانوا يقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. . .).
فهم يؤمنون بوحدة الخالق المنشئ المكون، ويؤمنون بوحدة الذات والصفات، وإشراكهم كان إشراك العبودية، فهم يعبدون مع الله غيره آلهة أخرى، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
ووصفه ثالثا بأنه خلق الذين من قبلهم، وقد يسأل سائل: لماذا كان هذا الوصف، والسابق يتضمنه، فمن خلق جيلا فإنه يخلق الأجيال كلها: من مضى، ومن حضر، ومن يجيء بعد ذلك من الأخلاف؟
والجواب على ذلك أنه لَا يغني المتضمن عن الصريح، وذكر الجيل السابق، أو الأجيال السالفة للإشارة أولا إلى عموم قدرته، وإلى أنه قادر على الإحياء والإماتة(1/156)
فهو خلق السابقين، وأماتهم ثانيا، وللإشارة إلى أن الحاضرين ليسوا مخلدين، فهم سيموتون، كما مات من سبقوهم وسيبعثون جميعا يوم الدين، ولأن العرب كانوا يعتزون بأسلافهم فالله سبحانه وتعالى يبين أنه هو وحده الذي خلق أسلافهم، سواء كانوا ضالين أم كانوا مهتدين. وإن صفة الربوبية وصفة الخلق والتكوين للكون كله، ولمن حضر من الناس، ومن سبقوهم وقبروا في مقابرهم، تقتضي ألا يعبد سواه، ولا يحمد غيره، ولا يستحق الألوهية الحق غيره، فهو الله الواحد الأحد.
وقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) متصل بقوله تعالى: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أي اعبدوه رجاء أن تتقوا بأن تقوا أنفسكم شر عذابه، وتكونوا في أمن من عقابه، و" لعل " الدالة على الرجاء، الرجاء فيها من العباد، والمعنى اعبدوا فالعبادة طريق التقوى ومعها رجاؤها، وتحقيقها، ويقولون إن التقوى أقصى درجات العبادة، لأن تغليب الخوف عبادة، ورجاء النجاة عبادة.
وقد يقال إن قوله تعالى: (ولَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) متصلة بقوله تعالى: (خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم) ومثل قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)، والمعنى أن الله تعالى خلق الناس في ماضيهم وحاضرهم وقابِلهم رجاء أن يعبدوه أبلغ العبادة بالتقوى وامتلاء النفس بهيبته، والاعتزاز بعزته.
وإن الله تعالى عالم بكل شيء فليس يجوز عليه الرجاء؛ لأنه يحتمل الوقوع وعدم الوقوع، والرجاء لَا يجوز أن يكون من أحوال الله تعالى، بل هو من أحوال الخلق.
ولذلك قرروا أن (لعل) هنا مجازية أي أنها ذكرت على سبيل المجاز، أي أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، وجعل لهم سمعا وأبصارا وأفئدة وقدرة وقوة بها يختارون ويفعلون، لَا يقع شيء من أفعالهم الاختيارية إلا بإرادتهم، يدركون الأمور ويتخيرون ويعرفون أسبابها ونتائجها، فحالهم حال من يرجو أن يتجهوا نحو العبادة(1/157)
يبتغونها، فالرجاء من حالهم، والله تعالى لَا يرجو، ولا يتصور منه، إنما يتصور منه العلم، ووقوع الأمر كما علم، وكما قدر.
وعندي أن الاتصال بين رجاء التقوى والأمر بالعبادة أظهر وأوضح، ولا إشكال فيه.
وقد بين سبحانه بعد ذلك بديع التكوين، والنعم التي ينعم بها العباد، فقال تعالت كلماته:(1/158)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا ... (22)
جعل تستعمل بمعنى صير، وتستعمل بمعنى خلق، كما قال الله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ)، وقوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ. . .)
، وتأتي بمعنى سمَّى، كما في قوله تعالى: (وَجَعَلُوا الملائكةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا. . .)، وتأتي بمعنى أخذ واتخذ.
وجعل هنا بمعنى صيَّر لأنها ذات مفعولين، الأول (الأَرْضَ) والثاني (فِرَاشًا)، والمعنى جعل الله تعالى الأرض ممهدة معبدة كأنها فراش يستقر عليه الإنسان، ويجد فيها مقاما ثابتا، وإذا كان فيها نتوء كالجبال فقد جعلها الله تعالى مثبتا لذلك الفراش، ولذلك قال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)، وقد وصفت الأرض بأن الله تعالى جعلها مهادا، ووصفت بأنه جعلها بساطا، فهي ممهدة كالفراش وكالبساط، وتلك نعمة من الله تعالى لتسهل الإقامة عليها، والانتقال بين آفاقها، والهجرة بين أجزائها، وهي للإنسان كالعرصة (1) في مسكنه، وكون الأرض فراشا لَا ينافي أنها كرة تدور حول الشمس، فإنها لعظمها وانبساطها تعد فراشا أو كالفراش، ولا يحس بأنها كرة إلا من تتبع الليل والنهار والشمس والقمر، والسير فيها من المشرق إلى المغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وما يقرره العلم الاستقرائي المتتبع لما خلق الله سبحانه وتعالى.
________
(1) العَرصة: كل بُقْعَةِ بينَ الدُّورِ واسِعَةٍ ليت فيها بِناءٌ والجمع: عِراص)، وعَرَصاتٌ، وأعْراص). [القاموس المحيط - فصل العين - باب: عرص].(1/158)
(وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) أي وجعل السماء بناء، أي كأنها البناء أو الخباء الذي يحيط بأهله فهي السقف، أو كالسقف، ولقد قال تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا. . .)، ويقال: بني على أهله. أي: زفت إليه زوجه؛ لأنه من العادة المعروفة عندهم أن المرأة كانت إذا زفت لزوجها بني لها خباء يسترهما، فهي من الأرض بمنزلة الخباء الذي يحيط بها ويظلها؛ ولذا تسمى الأرض المُقلَّة وتسمى السماء التي نراها المُظِلَّة.
وإن الازدواج بين المظلة والمقلة تكون نتيجته الماء الذي ينزل من السماء مدرارا، فيكون غيثا ينبت الزرع، ويكون منه الكلأ تأكل منه الأنعام والحرث.
ولذا قال تعالى: (وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً) أي مما كان بناء الأرض (مَاءً) ولم يقل من السحاب أو الغمام، وهي التي يتقاطر المطر منها، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)، فهذه الآية الكريمة تدل على أن الماء ينزل من السُّحُب المتراكمة التي تكون كالجبال، وعبر سبحانه وتعالى عن نزول الماء بأنه من السماء، لأنها وعاء السحاب، ولأنه سبحانه وتعالى مَنَّ على عباده، بأنه جعل السماء مظلة الأرض، فناسب أن يذكر السماء مضافه إليها نعمة أخرى، وهي نعمة نزول الماء الذي يكون به الخصب والنماء، كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءً حَيٍّ أَفَلا يؤْمِنُونَ).
وقد قال سبحانه بالتنكير: (وَأَنزَلَ مِنَ السمَاءِ مَاءً) أي أن هذا الماء بعض نعمه، فله نعم من الماء، وليس الماء الذي ينزل إلا بعضا من مياه كثيرة، تنزل فتفيض بها الأنهار، وتجري في الأقطار، فالتنكير للبعضية.
وقال سبحانه: (فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ) ومن للتبعيض مثل قوله تعالى: (فَأخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ. . .)، وأسند الإخراج إليه، فلم يقل سبحانه أخرجت الأرض، أو أنبتت الأرض، أو أنبت الماء نباتا، لبيان(1/159)
جلائل نعمته لأنه هو المخرج، وهو المنبت، وهو الذي يُربى البذر، وينتج الثمر، وتلك أسباب وهو خالق الأسباب والمسببات، فالمولود لَا يولد بنطفة الفحل، ولكن بخلق الله تعالى، وجعل سبحانه وتعالى النطفة سبب الوجود.
وقال تعالى: (رِزْقًا لَّكمْ) ورزق بمعنى المرزوق، فهو فِعْل بمعنى المفعول، كطحْن بمعنى المطحون، ونقض بمعنى المنقوض، وتنكير رزق إنما هو للبعضية، فالثمرات بعض الرزق الذي رزقه الله تعالى، فالنعم رزق من رزق الله تعالى لعباده، والفلزات في باطن الأرض من رزق الله تعالى لعباده، والسمك اللحم الطري من رزق الله تعالى، واللآلئ في البحار من رزق الله تعالى، فتنكير (رِزْقًا) في هذه الآية الكريمة التي نذكر معانيها للدلالة على البعضية، أي أنه بعض ما رزق الله: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا. . .).
وإنه إذا كانت هذه القدرة القاهرة التي خلقت الحاضرين والماضين ومهدت لهم الأرض تمهيدا، وجعلت لهم السماء سقفا محفوظا، وأنعمت برزق من زواج السماء بالأرض، وأخرجت لهم منها بعض رزق الله، وهو كثير، فهو وحده المستحق للعبادة وحده، إذ لَا قدرة لبشر ولا لحجر أن ينشئ خلقا أو يرزق رزقا؛ إذ لا ينفع ولا يضر؛ ولذا قال تعالى بعد هذه النعم في الخلق والتكوين: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّه أَندادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) الجعل هنا هو الاتخاذ، والند هو المثل الذي يفرض فيه أنه مماثل مناوئ، كما تقول فلان ند لفلان أي مثل مناوئ كفء له.
وهؤلاء المشركون مع إيمانهم بأن الله خالق كل شيء، ومجري النعم، ومنزل السحاب، مع علمهم بذلك يتخذون الأنداد ويشركون بها، يعبدونها مع الله سبحانه وتعالى وكأنها ند لله تعالى في زعمهم، وإنهم يفعلون ذلك، وهم يعلمون، أي هم يعلمون أن الله وحده هو خالق كل شيء، وأنه منزل النعم، وأنهم لَا يستجيرون إلا به أو نقول: (وَأَنتمْ تَعْلَمُونَ) أنهم من أهل المعرفة والإدراك، والفهم والذكاء، ولا يليق بذكائهم أن يجعلوا المخلوق كالخالق، ومن لَا يضر ولا ينفع كمن يملك الضر والنفع، أو إنهم يعقلون ويدركون، فذلك حث لهم على الإيمان بإثارة علمهم وعقلهم وتفكيرهم.
* * *(1/160)
القرآن المعجز
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
* * *
دعا الله سبحانه وتعالى الناس جميعا إلى أن يعبدوه، وذكر لهم سبحانه وتعالى من النعم الظاهرة، والقدرة القاهرة التي يخضع لها الوجود كله ما يدل على أنه وحده الذي يستحق أن يعبد، فالذين يعبدونهم مما يجعلونهم أندادا لله تعالى لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولكن الإيمان لَا يتم إلا بالإيمان بالرسول الذي جاء بالحق والذي بعث رحمة للعالمين، وقد أتى لهم بما يدل على أن الله تعالى بعثه إليهم، وهو القرآن الكريم الذي يعجز البشر عن أن يأتوا بمثله، وهو الكتاب الجدير وحده بأن يسمى كتابا؛ لأنه كتاب الله تعالى إلى خليقته يهديهم إلى سبل السلام، وهو برهان محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو الخالد إلى يوم الدين، فالمعجزات المادية الحسية تنتهي بانتهاء زمانها، أما القرآن الكريم، فإنه قائم إلى يوم الدين، يتحدى الناس في كل جيل أن يأتوا بمثله، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما من الأنبياء نبي إلا أُعطِي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " (1) لأنَّ معجزته التي تحدى بها أن يأتوا بمثلها ما زالت قائمة لم ينقضِ زمانها، ولقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خوارق حسية جرت على يديه، ولكنه ما تحدى بها، بل تحدى بالقرآن لأنه معجزته الخالدة الباقية: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88).
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: فضائل القرآن - كيف نزل الوحي وأول ما نزل (498)، ومسلم. الإيمان - وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - (152) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/161)
هذه الآيات التي نتكلم متسامين إلى معانيها هي مما تحدى القرآن الكريم بها العرب بعد أن ذكر قدرة الله ونعمه التي تثبت وحدانيته في العبودية. هذه الآيات من التحدي الشامخ التي أثبت عجزهم.
قال تعالى:(1/162)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
(وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْب مِّمَّا نَرلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) ذكر سبحانه وتعالى احتمال أن يكونوا في ريب من أن القرآن من عند الله، وأنه الدلالة الدالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْب) عبر سبحانه بأداة الشرط التي لَا تدل على وقوع الريب قطعًا " إذ "؛ لأن التعبير بـ " إن " يدل على الشك في فعل الشرط، لا على تحققه للإشارة - إلى أنهم لو كانوا في شك من أمر القرآن حقيقة، وأنهم يستطيعون أن يأتوا بمثله، كما كانوا يقولون (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا. . .)، ما كان ذلك مبنيا على تفكير سليم، إذ إن أي تدبر وتفكير في معانيه يزيل كل ريب، ويوجه إلى الحقيقة توجيها مستقيما، لَا مجال فيه لأي ريب أو أي شك.
وهنا يسأل سائل: لقد وصف القرآن الكريم في أول السورة بأنه لَا ريب فيه، فكيف يتصور أن يكون ثمة ريب فيه؟. ونقول في الجواب عن ذلك: إن الريب منهم لَا منه في ذاته، فهو في ذاته يعلو عن الريب، لأنه يعلو عن المثل والشبيه في تساوق ألفاظه ومعانيه، وجمال فواصله، ورنة نغمه، وحلاوة موسيقاه، وكل ما اشتمل عليه مما أدهش المشركين، وحاروا، ولم يجدوا محيصا من الإذعان والسكوت والانتقال من العجز الذليل إلى الاضطهاد والإيذاء.
وقوله تعالى: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْب) بالتعبير بكان المصورة لما وقع منهم، إشارة إلى أنه لَا ريب فيه لذاته، وإنما الريب من عقولهم المنحرفة. ونفوسهم الوثنية، التي استهوتها الأحجار فعبدتها. فالشك منهم، والقرآن أعلى من ذلك، ولا ريب فيه، وفي أنه من العزيز الحكيم، الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.(1/162)
وقد يقال: إنهم لم يكونوا في ريب من أمره، بل كانوا جازمين بأنه ليس من عند الله، بدليل قوله تعالى: (إِن كُنتُمْ صادِقِينَ) في تكذيبكم، فنقول في ذلك: إنهم كانوا جازمين في تكذيب أنه من عند الله تعالى، ولكن النص القرآني ينبههم إلى أن حالهم في مثل إدراكهم البياني وذوقهم البلاغي، وكونهم مقاول العرب، وأهل الفصاحة والبيان والدربة في القول، ومعرفة موازينه، وتنبههم الآية الكريمة إلى أن مثلهم في حالهم لَا ينبغي أن يجزموا منكرين، بل يترددوا حتى يصلوا إلى الحقيقة، في أمر هذا النوع من القول الذي لَا ينهد إلى مكانته قول من أقوالهم.
وإن الثابت في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان له أثر في نفوسهم، وأحسوا بأنه فوق ما يقوله البشر، فقال بعضهم: " إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، ما يقول هذا بشر "، وكانوا يتفاهمون فيما بينهم على ألا يسمعوه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، فإذا اتفقوا على ذلك ذهب كل واحد منهم سرا إلى حيث يسمعونه، وكل يظن أنه وحده الذي جاء يستمع إليه، فإذا هم يلتقون، وينقضون ما اتفقوا عليه.
ولذلك سموه سحرا، وسموا النبي - صلى الله عليه وسلم - ساحرا.
ولذلك نقول: إن ذكر القرآن الكريم لهم بأنهم كانوا في ريب منه وخصوصا أهل العلم بالبيان منهم وصف صادق، فما كانوا مؤمنين به، وما كانوا منكرين إنكارًا قاطعا بأنه ليس من عند الله؛ ولذلك لم يعرف عن أحد من عقلائهم أنه أراد أن يأتي بمثله، وإن تنكير الريب دليل على أنه ريب ليس بالقوي، أو الشديد، وذلك لكمال وضوح الأدلة الدالة على أنه ليس من طاقة أحد أن يأتي بمثله، وإن الشك إن كان منهم فليس له محل ولا مسوغ.
ومِن في قوله تعالى: (مِّمَّا نَزَّلْنَا) معناها بيان موضع الشك الذي يثور عندهم، فيقال في شك من الأمر، باعتبار أن موضع الشك هو الأمر، وقوله(1/163)
تعالى: (نَزَّلْنَا) تدل على التنزيل منجما زمنا بعد زمن، ولم ينزل دفعة واحدة، وكانوا يثيرون الشك حوله بسبب ذلك، وقد قال تعالى فيما حكى عنهم: (وَقَالَ الَّذِينَ كفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاه تَرتِيلًا)، فكان مما يثير ريبهم الباطل أن القرآن لم ينزل دفعة، ولكنه نزل منجما ليثبت به قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليتعلم ترتيله، ويعلمه أصحابه؛ وليحفظوه في الصدور ولا يكتفى بالسطور.
وذكر الله تعالى تنزيله على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالت كلماته: (مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ذكره بالعبودية لله تعالى، وفي ذلك تشريف للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيان لحماية الله تعالى له، وبيان بأن الرسالة لَا تبعده عن مقام العبودية فهو عبد لله تعالى، ولن يستنكف أن يكون عبدا لله تعالى، وأن الله تعالى عاصمه في رسالته من الناس كما قال تعالى: (وَاللَّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. . .).
كان فعل الشرط هو قوله تعالى: (وَإِن كنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) وكان جواب الشرط هو التحدي بالمطلب العجز وهو قوله: (فَأْتوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) وهذا تحد للإعجاز، كما جاء في حكاية إبراهيم مع الطاغية عندما تحداه أن يأتي بالشمس من المغرب بدل المشرق إذ قال تعالى حكاية عن ذلك: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258). والتحدي: هو أن يأتوا بسورة من مثله: السورة عدد من الآيات أقلها ثلاث كما في قوله تعالى في سورة الكوثر: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هوَ الأَبْتَرُ)، وهي في أصلها من السُّور لأنها تحيط العدد من الآيات كأنها سور حولها، يحيط، أو من السورة وهي الدرجة الرفيعة،(1/164)
والسورة يتحقق فيها المعنيان، فهما متحققان في معنى السورة، فهي درجة من درجات البيان الرفيع لَا تتفاوت مقاديرها وتتلاحق في درجاتها وتقديرها، وكل واحدة لها مقامها حتى أنها لتسمَّى قرآنا وحدها.
ومِن في قوله تعالى: (مِّن مِّثْلِهِ) بيانية، والمعنى على ذلك فأتوا بسورة من كتاب مثله إن كان في استطاعتكم أن تأتوا بكتاب مثله، فأتوا بسورة منه تكون واضحة التماثل والتشابه بها.
وقال بعض العلماء أن " من " زائدة لتقوية السياق وتكون كقوله تعالى: (قُلْ فأْتوا بِسُورَةٍ مثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، ولا يقال في القرآن إن حرفا زائد.
تحداهم سبحانه وتعالى أن يأتوا بسورة من قراءة (مِّثْلِهِ) يستطيعون بها أن يقولوا بها كما يقولون: (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا. . .)،، تحداهم ذلك التحدي، وتحداهم أن يدعوا من يشاءون ممن ينصرونهم ويؤازرونهم في الملمات والشدائد، وهذا معنى قوله تعالى: (وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ) الشهداء جمع شهيد، وهو الحاضر؛ أي ادعوا الحاضرين الذين يناصرونكم ويعاونونكم في الملمات واجْمِعُوا أمركم من دون الله أي متجاوزين الله سبحانه أو من تجمعونهم مهما يكونوا دون الله تعالى، فشهداؤكم مهما تكن قوتهم، ومهما تكونوا تفزعون إليهم في أموركم وعظائمها؛ فإنهم لَا يمكن أن يأتوا بذلك. افعلوا ذلك: إن كنتم صادقين في دعواكم أنكم تستطيعون، وهذا كقوله تعالى في التحدي: (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتمْ صَادِقِينَ).
كان التحدي من الله سبحانه وتعالى وكان العجز منهم، وقد كان التحدي يطالبهم بأن يجمعوا من يشاءون ومن يستطيعون جمعه من الأنصار والمقاويل ليقولوا، ولكنهم عجزوا لَا بصرف الهمم، ولكن لعجزهم، فكان الإعجاز في ذات القرآن لَا بصرف الأفهام كما ادعى المقلدون من الفلاسفة وبعض علماء الكلام.(1/165)
وإنه بمقتضى الحكم السليم والمنطق المستقيم أنهم إذا عجزوا ذلك العجز الصارخ أن يذعنوا للحق الذي جاءهم؛ ولذا قال تعالت كلماته:(1/166)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
(فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ... (24) فإن لم تفعلوا أي لم تأتوا بمثله، أو بسورة من مثله، بعد أن تتضافروا وتتعاونوا، وتدعوا من استطعتم أن تدعوه، ومع ذلك تعجزون عن أن تأتوا فاعلموا أن ريبكم لَا موضع له، وأنه شك حيث يجب اليقين، وعناد حيث يجب التسليم، وعليكم أن تتخذوا الإيمان وتدخلوا في الإسلام، وتتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة التي تعبدونها تحقيقا لقوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ).
فقوله تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقودُهَا النَّاس وَالْحِجَارَة) جواب الشرط في ظاهر اللفظ، وهي تطوي في ثناياها كلاما هو بمنزلة السبب لهذا الجواب، تقديره: فإن لم تأتوا بمثله فدعوا عنادكم، وصدقوا بالحق الذي جاءكم، وبذلك تتقون النار التي يكون وقودها أنتم والحجارة التي تعبدونها، وإن جواب الشرط على هذا إنذار بعد ذكر البرهان على الحق.
الوقود هو ما تستعر به النيران وتشتعل، وذكر الحجارة التي لَا تنفع ولا تضر تنديد بهم وبعقولهم التي تعبد ما لَا ينفع ولا يضر، ويضل ولا يهدي.
وقوله تعالى: (وَلَن تَفْعَلوا) جملة معترضة بين الشرط وجوابه، وهي مسارعة إلى بيان عجزهم، لأنه من الله، وجعله الله تعالى فوق فدرة البشر، وأن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله لَا يستطيعون، فكانت هذه الجملة الاعتراضية لتسجيل العجز المطلق، ونتيجته وهي أن يتقوا النار التي أعدت وهيئت للكافرين الجاحدين المعاندين للحق، وهذه الآية الكريمة كانت في سورة مدنية، وهي تدل على استمرار التحدي بالقرآن في المدينة. كما تحدى به في مكة، وكما يتحدى الأجيال كلها من بعد ذلك.(1/166)
لقد تحداهم الله تعالى في سور مكية مثل قوله تعالى في سورة هود: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38).
وقال تعالى في سورة القصص: (قُلْ فَأتُوا بِكِتَابٍ منْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كنتُمْ صَادِقِينَ)، وندع الكلام في أسباب إعجاز القرآن، فقد خصصنا له كتابا، وصلنا فيه إلى سبب الإعجاز بقدر طاقتنا.
* * *(1/167)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
* * *
بعد أن أشار سبحانه إلى ما أعد للكافرين، وهو النار التي وقودها الناس والحجارة التي كانوا يعبدونها، فتلك حصب جهنم، وقد أعدت تلك النار للذين يكفرون بالوحدانية وينكرون الرسالة الإلهية، والعصاة يقيمون فيها بقدر معاصيهم إلا أن يتغمدهم الله تعالى بعفوه وغفرانه ورحمته.
بعد هذا ذكر سبحانه ما أعده للمتقين المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهكذا يقرن الله ترهيبه بترغيبه، فهو يرهب أهل الجحود بالإنذار الشديد ليقرع الحق أسماعهم، بعد أن سلك بهم طريق الحجة والبرهان، وبيان القسطاس المستقيم، ولكن إذا لم يدخل إلى قلوبهم كانت العاقبة ما يستقبلهم من عذاب شديد.(1/167)
ومن " أشد " العذاب أن يروا مآلهم، ومآل أهل الإيمان، فهم بسبب عنادهم معذبون سلبًا وإيجابًا. . معذبون سلبا بحرمانهم مما جزى به أهل الإيمان من جنات ونعيم، ومعذبون إيجابا بعذاب الجحيم.
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ) بشر فعل أمر من التبشير، وأصله من البشارة، وأصلها الخبر الذي يجيء المبلغ به فتبدو آثار السرور على بشرته، فهو الخبر بالأمر الذي يسر ولا يضر، ويكون أول الخبر بالسرور، وصاحبه يسمى البشير: (فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاه عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا)، والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو البشير النذير، الذي يبشر أهل الحق واليقين، وينذر أهل الجحود والإنكار.
وقد تطلق على سبيل المجاز كلمة التبشير في مقام التهديد والإنذار كقوله تعالى: (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، وهذا على سبيل السخرية والتهكم، كأنهم يترقبون مايسرهم، فيجيء الخبر بما يضرهم ويسمى باسم البشارة تهكما بهم، وإشارة إلى أن ذلك ما يجب أن ينتظروه ويترقبوه، والله محيط بهم.
وقوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فيه إشارة إلى سبب البشارة، لأن التعبير باسم الموصول دليل على أن الصلة سبب الحكم، فالإيمان والعمل الصالح هما السبب في البشارة، أو هما السبب في الجزاء بأن تكون لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وثمرات الجنة المتشابهة المختلفة الطعوم.
والإيمان هو التصديق والإذعان بالقلب، وأن يصدق المؤمن بكل ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن يصدق الرسول في كل ما جاء به مذعنا له، مصدقا بأنه من عند الله تعالى، والإسلام هو إعلان الإيمان، والإذعان لأحكام الإسلام، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الإسلام علانية، والإيمان في القلب. . " (1) ولقد حدث في أثناء
________
(1) أخرجه أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه: باقي مسند المكثرين (11933).(1/168)
الدعوة المحمدية، وتبليغ الرسالة، أن كان بعض الأعراب يعلن اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن القلوب لم تذعن إذعانا كاملا،؛ ولذلك قال الله تعالى عنهم: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ. . .)، ولقد روى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " الإسلام علانية والإيمان في القلب. قال: ثم يشير إلى صدره ثلاث مرات ويقول: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا (1).
ولقد ذكر الله مع الإيمان العمل الصالح، فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) والعمل الصالح هو العمل الذي يصلح به الناس وتستقيم جماعتهم، وتأتلف قلوبهم، ويكون فيه صلاح الأرض، ولا يكون فسادهم، وهو الذي يسوده الإيثار، فحيث كان وجد الائتلاف، ومع الائتلاف الخير والقوة، ولا يكون فيه الأثرة، فإنها حيث كانت وجدت الفرقة، ووجد الانقسام وذهبت القوة.
ويشمل العمل الصالح الصلوات والزكوات، والصيام والحج، كما يشمل كل خير يقدم للمجتمع، كما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " خير الناس أنفعهم للناس " (2). ولا شك أن العمل الصالح ثمرة من ثمرات الإيمان الصادق، والإذعان المطلق لله سبحانه وتعالى، والطاعة الكاملة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن هل يزيد الإيمان بالعمل الصالح، وينقص بترك العمل بموجبه وما يقتضيه ويدعو إليه؛ وهي قضية يخوض فيها علماء الكلام من حيث إن الإيمان يزيد وينقص أو لَا يزيد ولا ينقص، وأنه حقيقة واحدة، وهي التصديق والاعتقاد الجازم، والإذعان المطلق لله ولرسوله، وتلك لَا تزيد ولا تنقص.
ولا نريد أن نخوض في ذلك. ونقول مقررين حقيقتين ثابتتين.
________
(1) السابق.
(2) أخرجه " القضاعي " في مسند الشهاب " عن جابر ".(1/169)
إحداهما: أنه قد جاء في النصوص القرآنية أن الإيمان يزيد، فقد قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى ربِّهِمْ يَتَوَكلونَ)، وقال تعالى: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وهُمْ يَسْتَبْشِرونَ).
وهكذا نرى في صريح القرآن أن الإيمان يزيد، وأنه وإن كان أصله الاعتقاد والتصديق، فإن زيادته تكون بتوثيقه بحيث يكون عميقا لَا تزعزعه الرياح، أو راسيا ثابتا، كالجبال، ولا شك أن العمل بموجبه يوثقه، ويؤكده، وأن ترك العمل يجعله يجف، وإن كان لَا يموت ولا يذهب وإن الجزاء يكون على الإيمان وللعمل جزاؤه. والحقيقة أنه وردت أحاديث كثيرة تجعل الأعمال من الإيمان، وقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الإيمان بضع وستون أو سبعون بابا أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها قول لَا إله إلا الله، والحياء شعبة من الإيمان " (1).
وإن عد هذه الأعمال من الإيمان على أنها من ثمراته، ولا مانع من أن تعد الثمرة من الأصل إذا كانت لَا تظهر إلا ثمرة له فلا تكون إلا من أصل الإيمان، فهي من قبيل الاتحاد بين اللازم والملزوم.
ومهما يكن القول في الاتصال بين الإيمان والعمل، فإن العمل يزكي الإيمان ويقويه، وهو كالماء، والغذاء، يتغذى منه الإيمان ويقوى، وإن الإيمان من غير عمل يجف، ولا يكون مثمرا منتجا، فمن يكون مؤمنا من غير أن يعمل بموجب إيمانه يكون كمن يملك أرضا طيبة، لَا يزرعها، ولا يثمرها.
ثانيهما: أن المؤمن، وإن لم يعمل، خير من الكافر، وإنه وإن أَهْمَلَ فقد يعمل، والله تعالى يجزيه الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، وهو خير كله إذا عمل، واتقى وآثر الحياة الآخرة على الدنيا.
________
(1) رواه ابن ماجه: المقدمة (56) وبنحوه البخاري: الإيمان (8)، ومسلم: الإيمان (51)، والترمذي (2539)، والنسائي (4918)، وأبو داود: السنة (4056)، وأحمد (8570).(1/170)
وإن الجزاء الذي بشر به الذين آمنوا وعملوا الصالحات (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) الجنات الحدائق التي تشتمل على نخيل وأشجار متكاثفة، حتى تستر الأرض وتجنها، فهي جنات، لأنها تستر ما تظله، والضمير في تجري من تحتها الأنهار، يعود على أشجارها، وإن لم تذكر باسمها، فكلمة جنات متضمنة لها، إذ لا تتحقق الجنات إلا بأشجار متكاثفة ملتفة، والجريان للماء، لَا للأنهار؛ لأن الأنهار هي ما يشق في الأرض ليجري فيه الماء فهو من إطلاق اسم المحل، وإرادة الحالّ، مثل قوله تعالى: (فَلْيَدْعُ نَادِيه)، وإن الناظر إلى الماء وهو يجري منسابا في الأرض لايرى النهر ولكن يرى الماء، فكأن النهر اختفى في الماء ولا يرى غير الماء.
وإن هذه الجنات فيها بهجة للناظرين، فهي متعة للأنظار، وبهجة للنفوس بذاتها، وفيها ثمرات شهية من كل شيء، وكما قال تعالى في آية أخرى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15).
وإن الثمرات متشابهة في اللون، وإن كان الطعم في الذوق متغيرا، وهي دائمة متجددة، مستمرة لَا تُمل ولا تُسأم بل فيها المتعة المتجددة؛ ولذا قال تعالى: (كُلَّمَا رزِقُوا مِنْهَا من ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا من قَبْلُ) أي أن هذه الثمرات تجيء إليهم رزقا من الله تعالى من غير جهد يبذلونه، ولا عمل يعملونه؛ ولذلك قال تعالى: (رزِقُوا) وأكده سبحانه بقوله تعالى: (رِّزْقًا) أي أنه يجيء بأمر الله وإنعامه رزقا حسنا من غير أن يقوموا بمجهود فيها، فهي دار الجزاء والنعيم، فإذا كانوا لم يعملوا في الجنات فهو جزاء وفاق لما سبقوا به من عمل صالح، وإن الله لَا يضيع أجر من أحسن عملا، فهو جزاء لمجهود سابق، وثمرة لإيمان وعمل صالح.(1/171)
وهم يقولون: هذا الذي رزقنا من قبل، وهذا يدل على التجدد المستمر، ويدل على التشابه في الشكل، فمعنى النص: هذا الذي رُزقناه في الجنة مثل الذي رُزقناه من قبل في شكله، ولكنهم يجدون الطعم متغيرا، وسبحان خالق كل شيء؛ ولذا قال تعالى: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) في شكله، وإن تغير طعمه.
وهناك فوق متعة الطعام، والتمكن من كل الخير متعة الأنس بالحياة الزوجية، ولذا قال تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مطَهَّرَةٌ) والأزواج جمع زوج ذكرا كان أو أنثى، فهي تطلق على المرأة المتزوجة، كما تطلق على الرجل المتزوج، وإلحاق التاء بها بالنسبة للمرأة قليل نادر، ولكنه صحيح، ولذلك قال عمار بن ياسر في عائشة أم المؤمنين عندما أخرجت في واقعة الجمل: " إنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكنه البلاء " (1).
ومعنى مطهرة أنها خالية من الدنس النفسي المعنوي والجسدي، فهن طاهرات مطهرات من كل رجس.
وقد يقول قائل: إن المرأة متعة الرجل في الآخرة، ونقول إن الجزاء لهما معا، فلها كل الثمرات التي للرجل، والأزواج متعة للرجل والمرأة، فهو متعتها وهي متعته، إن صح هذا التعبير؛ ولذلك صرح القرآن الكريم بأن الجزاء لهما، فقال تعالى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).
وإن ذلك النعيم دائم لَا ينغصه توقع زواله، بل النعمة كاملة بدوامه، ولذلك قال تعالى: (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) هذا ويجب أن ننبه إلى أن نعيم الجنة نعيم مادي
________
(1) أخرجه البخاري كتاب الفتن: (6571) واللفظ له، وأحمد: أول مسند الكوفيين (17610).(1/172)
حسي؛ لأن ذلك هو ما تدل عليه الألفاظ، ولا يصح تأويلها بغير سند من الشرع، ولا حجة، ولا دليل، ولا نؤوّلها بعقولنا المجردة، فإن ذلك يعد إنكارا للغيب الذي قرر الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم أن أول صفة من صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، وأن فرق ما بين الإيمان والزندقة الإيمان بالغيب.
ولكن ورد عن ابن عباس أن الألفاظ التي وردت في نعيم الجنة ليست على حقيقتها التي نراها، فثمراتها، ورمانها وعسلها ولبنها، وخمرها، ليست هي خمرنا، وأن نعيم الجنة فوق علمنا، ولكن الله تعالى قرب لنا نعيم الجنة بما يشبهها في استعمالنا، ولكنها مادية حسية، ويتحقق بذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " (1).
* * *
الأمثال في القرآن وموقعها في النفوس
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
* * *
بين الله تعالى حال المنافقين، وضرب سبحانه وتعالى مثلين يبينان حالهم التي يبدو فيها النور لهم ولا ينتفعون منه، فشبههم سبحانه بحال الذي يستوقد نارا، وما
________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الجنة (5053)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (21760).(1/173)
إن يتم له أن ينتفع حتى تنطفئ، ويذهب الله تعالى بنورهم فلا يبصرون، وشبههم ثانيا بحال قوم أصابهم صيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، من حيث إن ماء الحياة يجيء إليهم، ولكن لسوء حالهم وفساد قلوبهم تنعكس بين أيديهم الأمور، فلا يدركون. . إلى آخر ما بين سبحانه وتعالى.
وإنه من منهاج الذكر الحكيم ضرب الأمثال تقريبا للأفهام، وتصويرًا للمعاني التي تسمو بها المدارك بالأمور المحسوسة القريبة لكل من عنده لب، والأمثال تضرب لذي اللب الحكيم، فيعتبر بها، ويكون المغيب غير المحسوس كأنه المحسوس الذي يُرى ويُشاهد، ولقد ضرب الله الأمثال بالذباب في بديع تكوينه وسر خلقه الذي تعجز العقول عن أن يخلقوا مثله. وشبه الأوثان التي يعبدونها وهي لَا تضر ولا تنفع، ولا تملك من أمرها شيئا بأنها أوهام توهموها، وأخيلة من القدرة تخيلوها.
ولقد قال تعالى في الذباب: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74).
فهو في هذا المثل بين أنهم لَا يستطيعون أن يخلقوا ذبابا، ولو اجتمعوا له هم وآلهتهم، وأنهم لَا يستطيعون أن يتغلبوا عليه إن سلبهم شيئا. وفى سورة العنكبوت شبه آلهتهم التي يتوهمون فيها سلطانا، كمثل بيت العنكبوت أي الخيوط التي ينسجها، فقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، أكثر الله تعالى من ضرب الأمثال لتقريب المعاني السامية للعقول التي لَا تدرك إلا المحسوسات الدانية، ولكن المعاند الجاحد، والعاجز الحسود يقلب الحسنات، ويتهكم على الحقائق الرائعة، فتكلموا متعجبين مستغربين من(1/174)
ضرب الأمثال بالبعوض والذباب، وكأنهم إذ لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله وعجزوا عجزا صارخا أخذوا يثيرون الشك حول بعض أجزائه وما اشتمل عليه، فاختاروا الأمثال موضعا لإثارة الاستغراب والعجب يتوهمون أن ذلك يضعف من تأثيره.
لذا رد الله تعالى أمرهم وإثارة العجب بقوله تعالى:(1/175)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَفْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)، ضرب - معناها ذكر، والمثل هو الحال التي تشبه حالا قائمة قدرت أو وقعت، فمعنى ضرب المثل بيان الحال التي تشبه وتمثل بحال واقعة ثابتة، ويقول علماء البلاغة، إن للمثل مضربا وموردا فالمورد هو الحال التي تشبه بها القول، والتي صدر فيها، والمضرب هو الحال التي يشبه الحال التي وقعت أو هي ثابتة.
ومهما يكن فالمثل تشبيه حال غير منظورة ولكن تدركها العقول بحال أمر واقع ثابت، والاستحياء انقباض النفس عن أن يكون منها ما يستقبحه الناس الذين يسيطر عليهم عرف قويم، وهو أساس من أسس الأخلاق؛ ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الحياء خير كله " (1)، ولكن هذا المعنى يليق بالناس، ولا يليق بالذات العلية؛ ولذلك بالنسبة لله تعالى أريد لازمه، لأن من لوازم ذلك الانقباض الترك، إذ من استحيا من عمل شيء يتركه.
والمعنى أن الله تعالت كلماته، وتسامى قرآنه، لايترك خاشيا لومة لائم أن يضرب مثلا، بأن يمثل أمرا ثابتا محققا بأمر واقع محسوس، تقريبا للمعاني إلى ما هو محسوس، وتوضيحا للأمور، لتكون بينة للجميع أو لمن يصغون إلى تلقي البيان بقلب سليم، وإدراك مستقيم.
________
(1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم: كتاب الأيمان (54)، وأبو داود: الأدب (4163)، وأحمد: أول مسند البصريين (18977) وأخرجه البخاري بلفظ: " الحياء لَا يأتي إلا بخير " كتاب الأدب (5652)، ومسلم: كتاب الأدب (53)، وأحمد: مسند البصريين (1898). عن عمران بن حصين رضي الله عنه.(1/175)
والبعوضة أصغر - من الذبابة، (مَا) هي التي تسمى في عرف النحاة نكرة تامة بمعنى شيء، فهي شيء مبهم، وإذا جاء بعد نكرة كانت للدلالة على إيقاعها في الإبهام، فالمعنى بعوضة أيا كانت هذه البعوضة صغيرة أو كبيرة حقيرة أو خطيرة، فالله سبحانه وتعالى لَا يترك ضرب الأمثال بالبعوضة أو ما دونها.
وإن الكلام البليغ يضرب المثل للحقير، بحقير، والمثل للعظيم بعظيم، فيضرب فيه أوهامهم في آلهتهم من حيث إنها لَا تقوى على النظر، ولا يمكن أن تكون معقولة، وحالها يناقض كل معقول بأنها كمسكن العنكبوت الذي تهدمه الرياح لأنه أوهن البيوت، وإن كان نسجها محكما، يدل على حكمة اللطيف الخبير، ولكن موضع المشابهة هو الوهن فقط.
وقد يكون ضرب المثل للبعوضة، ببيان إحكام تكوينها، وبديع خلقها، كما كان مثل الذباب من حيث خلقه وتكوينه، وعجز الآلهة ولو اجتمعوا له أن يخلقوه. ونرى من هذا أن التمثيل بالبعوضة يكون فيه تشبيه حال الضعف، ببعض الضعف في نواحيها، كما رأينا في تشبيه أوهامهم حول الأصنام التي يعبدونها، من حيث إنها لَا تقوى على نظر مستقيم في أمرها، ببيت العنكبوت الذي هو أوهن البيوت.
وإن هذا النص الكريم يدل على أن ضرب الأمثال بصغير الأشياء وكبيرها يليق بالبيان الحكيم، وذكر الله تعالى في كتابه الحميد المجيد.
وإن الأمر الجدير بالاعتبار والتقدير يختلف تلقي الناس له، فالقلب الذاكر الطاهر الذي يطلب الحقائق ويتقبلها ويدركها معتبرًا متعظًا مؤمنا يزداد إيمانا، والقلب المضطرب الذي يعاند، ويكابر ويثير الاستغراب والعجب، وكأنه يحاول بذلك أن يثير غبارًا حول الحقائق الثابتة.(1/176)
ولذا يقول سبحانه: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ) قوله تعالى: (فَأمَّا) هي للتفصيل، أي تفصيل حال الذين يتلقون الأمثال المضروبة لهداية المتقين، وهي في معنى أداة الشرط بمعنى مهما يكن من شيء، والمعنى مهما يكن من الأمر في المثل الذي ساقه الله تعالى فالذين آمنوا وأذعنوا للحق إذا بدا لهم يعلمون أي يعرفون جازمين بالدليل القاطع أنه الحق أي الأمر الثابت الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، ويرشحون لذلك الإيمان المذعن والعلم الجازم بأنه من ربهم أي من الله العلي القدير الذي يربهم، ويدبر أمور الوجود بحكمته، وقوته، وبذلك يزدادون إيمانا.
وأما الذين كفروا فيظهرون استغرابهم بل استنكارهم، فيقولون: (فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهَ بِهَذَا مَثَلًا)؟ فهم يستفهمون استغرابا أو إنكارا ما الذي يريده تعالى بهذا المثل، والتجاهل يؤدي إلى الجهل، وعمى البصيرة يؤدي إلى العمى في طرق الإدراك. إنهم يعرفون المثل ومضربه، وما تشبه به من حالهم، فإذا ضرب مثل ما يعبدون من آلهة ببيت العنكبوت فهم يعرفون أن الله تعالى بين وهن الأسباب التي يقيمون عليها، ولكن لاعتقادهم الواهم في أصنامهم يثير المثل استغرابا ثم إنكارا، وذلك من رسوخ الضلال في نفوسهم، فلا يزيدهم المثل إلا إمعانا في الضلال.
و" ما " الاستفهامية، و " ذا " موصول بمعنى الذي، والمعنى على ذلك ما الذي أراد الله تعالى بهذا المثل، أو نقول: إن ماذا كلها للاستفهام، وهي مركب يراد به الاستفهام، والفرق إعرابي، ولا مؤدى له، فالمعنى واحد.
وإن هذا الاستغراب أو الإنكار الذي سبق إليهم، سببه أمران:
الأول: ضلال اعتقادهم في أوثانهم كما أُثِر.
والثاني: غطرستهم وعنادهم، وحبهم لبقاء سلطانهم، وإن المعاند يزداد إصرارا وينفض رأسه كلما زاد الدليل وضوحا.(1/177)
وقوله تعالى: (بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) يراد بالفوقية الزيادة في القوة على توجيه بعض المفسرين، ويكون المؤدى أن البعوضة أضعف الحيوان، وأنها يصح أن تكون ابتداء لضرب الأمثال من أدنى الأحياء إلى أعلاها، وهذا تخريج بعض المفسرين، وهو صحيح في ذاته، ويفسر بعضهم الفوقية بمعنى الزيادة في الصغر، وكأنه يتصور أن في الأحياء ما هو أصغر من البعوضة ويقر أن الفوقية في كل شيء بما سبقه، فإن كان ضرب المثل للصغر، فالفوقية في الصغر أي أكثر صغرا منها.
ونحن نرى أن الأول هو الأظهر، ولكن يجب التنبيه إلى أن ذلك لَا يقتضي أن يضرب المثل بما دونها فإن مؤدى القول أنه سبحانه لَا يترك المثل الأكبر أو الأصغر لصغر عقولهم أو عنادهم، فإن القرآن أعلى البيان عند الله، ولا يترك سبحانه البيان السامي لاستغرابهم أو إعجابهم.
وإن المثل الذي يسوءهم لأنه تنزيل لمكان ما يقدسون في زعمهم، يستغربون ثم ينكرون فيزيد ضلالهم؛ ولذلك قال سبحانه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ). أي أن ضرب المثل يضل الله تعالى به كثيرا من الضلال، وكثيرا من الناس، وكثرة الضلال بالإيغال فيه حيث يقوم الدليل على بطلان ما يعتقدون، فيلوون رءوسهم فيزدادون ضلالا، وكثرة الضالين لكثرة المفاسد.
وأسند الإضلال إلى الله تعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الذي ضرب المثل، وقد تسبب ضرب المثل في نفوسهم التي أصابها الفجور والعناد في أن استكبرت وزادت نفورا عن الحق، وإيغالا في الباطل، وإن الله تعالى يسن طريق الهدى، ويبينه فمن عاند وجحد، وسار في طريق الضلال، وكلما سار فيه أوغل، حتى يزداد ضلالا - كالذي يضرب في الأرض؛ إن سار في الطريق الجد وصل، وإن سار في الطريق المعوج تاه وكلما سار زاد في التيه.
وأما الذين آمنوا فإنهم يجدون في المثل الحق وازدادوا إيمانا بالحق وتصديقا به؛ ولذلك حق عليهم أن يقول الله تعالى فيهم: (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) هديا كثيرا فيزيدهم إيمانا بعد إيمانهم.(1/178)
وإن أولئك المؤمنين سلمت مداركهم، واستقامت عقولهم، فأدركوا معنى الحقيقة، فكلما جاء ما يؤكدها ويبينها ازدادوا هداية، وساروا على الجَدَد، وأما الآخرون فهم يخرجون عن سن الفطرة، وما يوجه إليه الإدراك الصحيح؛ ولذلك قال تعالى: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) أي الخارجين عما توجبه الفطرة، الذين شاهت عقولهم، وانعكست الحقائق أمامها، فصاروا يدركون الأمور عكس حقيقتها. والفاسق في أصل معناه اللغوي الخارج عن الطاعة، ويقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها، ويقال للفأرة فويسقة لخروجها من جحرها للفساد، ويطلق على الحشرات والمؤذيات فواسق، ولقد روي عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحدأة، والغراب، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور " (1).
والفاسق في هذه الآية هو الكافر سواء أكان يجمع الكفر والنفاق أم يكون كافرا من غير نفاق؛ وذلك لأنه خرج عن مقتضى الفطرة، والعقل المستقيم، فهو قد كفر بالله ورسوله، وبالأوامر والنواهي، وإنها دين الفطرة، كما قال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
ولقد بين تعالى أولئك الفاسقين الخارجين عن سنن الفطرة، فقال:
________
(1) رواه بهذا اللفظ النسائي: مناسك الحج - قتل الحدأة في الحرم (2841)، وهو متفق عليه؛ أخرجه بنحوه البخاري: بدأ الخلق - خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3314)، ومسلم: الحج - ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب (1198). عن عائشة رضي الله عنها.(1/179)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ... (27)
ذكر الله تعالى أوصافا ثلاثة هي التي تتقطع بها أوصال الجماعة الإنسانية، ويكون بها التدابر، وأن يكون بها ابن الإنسان على أخيه الإنسان أشد من الوحوش، وأقسى من كل ما في الوجود:(1/179)
الصفة الأولى - نقض عهد الله تعالى من بعد ميثاقه، والنقض فك ما أبرمه الشخص ووثقه وأكده من بناء أو وثيقة أو عهد، وإن الميثاق الذي يعقد بين الناس يوثقه بيمين الله تعالى، ولذلك يسمى اليمين، ويقول تعالى: (وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا. . .)، ويسمى عهد الله تعالى، لأنه إذا أكده بيمين فكأنه عاهد الله تعالى على الوفاء بها، وعدم النكث فيها فكأنه عاهد الله تعالى.
و (مِيثَاقِهِ) معناه كما أشرنا العهد الموثق باليمين. وما المراد بالميثاق الذي نقضوه؛ قال بعض العلماء ونحن، نوافقهم، أنه ميثاق الفطرة الإنسانية، فقد خلق الله الناس، وأخذ منهم ميثاقهم بمقتضى الفطرة بالعبودية لله رب العالمين، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173).
وإن أولئك الفاسقين الذين خرجوا على الفطرة قد نقضوا ذلك العهد التكويني الذي كون الله تعالى بني آدم على أساسه؛ ولذلك يقول ابن حزم، ومعه بعض العلماء، إن معرفة الله بدهية لذوي العقول المستقيمة المدركة. وكانت الرسالة للتذكير بهذه الفطرة، وإيقاظها، إذا غفلت، ولحسابها إذا نبهت ولم تنتبه؛ ولذلك قال تعالى: (وَإِن مِنْ أُمَّةٍ إلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، وقال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15).
هذا معنى واضح جيد مستقيم تؤيده نصوص الكتاب الحكيم، ولكن مع ذلك قد يراد نقض العهود الموثقة بالأيمان وعدم الوفاء بالمواثيق التي تنظم العلاقات بين الناس آحادا وجماعات؛ لأنَّ ذلك من سمات الكفر، وخصوصا الذي يصحبه نفاق، وقد وصف الله سبحانه وتعالى الكفار بذلك في أكثر من آية، فقال تعالى:(1/180)
(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ)، وقال تعالى في المنافقين: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77).
إن الوفاء بالعهود والمواثيق شأن من يراقب الله تعالى، ويحس برقابة الله تعالى، وهو لذلك خاصة من خواص المؤمنين، وكرر الله الأمر بالوفاء بالعهد مثل قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِن الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)، وإن الكافر لا يحس بمسئولية أمام الله تعالى؛ لذلك كان أول وصف من أوصاف الفاسقين أنهم ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقد ميثاقا لليهود فنقضوه، وعقد صلح الحديبية، فنقضوه، ونصروا بني بكر على خزاعة حلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الصفة الثانية - أنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، القطع فصل المتصل، وجعله أجزاء متفرقة، وقطعهم الذي كان الله تعالى أمرهم بوصله ما هو؟، قيل: قطع الأرحام، فلا يصل ذا رحمه، ولا يعمل بالمودة بين ذوي قرباه، ولكن الإنسانية كلها رحم واحدة، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1).
فالرحم الإنسانية ثابتة بين الناس، وقطعها يكون بأساليب شتى، وسبل مختلفة وكلها سبل الشيطان كما قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا الدمئُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ. . .)، ومِن قطعها أن يتحكم القويُّ في الضعيف، وأن ينظر إلى الناس على أنهم طبقات منهم غني ومنهم فقير، وأن يكون لكلٍّ قانون ونظام، وأن تختلف المعاملة، وأن تتنافر الشعوب، ولا تتضافر ولا(1/181)
تتعارف كما قال تعالي (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ. . .)، وأن ينقطع التعاون بين الناس فلا يكون التعاون على البر والتقوى ويحل محله التعاون على الإثم والعدوان، وفي كل ما يكون فيه قطع للعلاقات الإنسانية يكون قطعا لما أمر الله تعالى به أن يوصل. ووصل ما أمر الله به أن يوصل هو اتباع أوامره تعالى واجتناب نواهيه، فهي كلها لربط الناس بعضهم ببعض بالمودة والعمل الصالح، وبسيادة الفضيلة والبعد عن الرذيلة، وإذا كانت ثمة حروب فلدفع أذى المفسدين، وتقويم الظالمين (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251).
وفى الجملة كل قطع بين عباد الله تعالى هو قطع ما أمر الله تعالى به أن يوصل وقطع للأرحام؛ لأن الناس جميعا رحم واحدة، من قطع ما بينهم فقد قطع الأرحام.
وقوله تعالى: (مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ) و (مَا): هي مفعول (يَقْطَعُونَ)، أي يقطعون الذي أمر الله تعالى به - أي بشأنه - أن يوصل. " أن " وما بعدها مصدر، أي أمر الله تعالى وصله، وعدم قطعه.
الوصف الثالث - من أوصاف الفاسقين، بينه سبحانه وتعالى بقوله: (وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) والفساد في الأرض يشمل فساد العقائد إذ إن سلامة العقيدة فيها سلامة النفس، وفساد العقيدة بألا يؤمنوا بالله وحده، ولا يعبدوه وحده، ويتعلقون بالأوهام حول الأصنام، وأي فساد أعظم من أن يحقر الإنسان نفسه وعقله، وإدراكه فيسجد لصنم لَا يضر ولا ينفع، وقد رآه يصنع بين يديه، إنه ضلال العقل، وضلال النفس، وسيطرة الوهم. ويشمل الفساد بث روح النزاع المستمر بين الناس قبائل وشعوبا، وكلما أطفأ الله نار الحرب أوقدوها باسم العصبية(1/182)
القبلية، أو العصبية الوطنية، أو بالرغبة في أن تربو أمة عن أمة، أو التنافس الاقتصادي، حتى ينظر الإنسان للإنسان نظرة من يتربص به الدوائر.
ويشمل الفساد في الأرض ألا يكون الحكم المرضي الحكومةَ هو الحق، وأن يكون الحكم للغلب، وأن يسود قانون الغابة لَا قانون الفضيلة بين الناس، وأن يكون ذلك في كل العلاقات الإنسانية، القوي يأكل الضعيف، والغني يحقر الفقير، والعالم لَا يعلِّم الجاهل، بل يتخذه مطية لأهوائه وشهواته.
ويشمل الفساد في الأرض ألا يكون تعاون في استخراج ينابيع الثروة من باطن الأرض، بل يستبد بها القادر عليه، ويشمل الفساد ألا يوزع بين أهل الأرض خيراتها، بل يلقيه بعضهم في البحار، ولو جاع الباقون، ضنا به على فيِّ أخيه الإنسان.
ولقد حكم الله تعالى على من كانت هذه أوصافهم فقال تعالت كلماته: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرونَ).
اسم الإشارة إلى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات، والإشارة إلى المتصفين بصفة أو صفات تومئ إلى أن هذه الصفات هي سبب الحكم. فنقض العهود والمواثيق، وقطع الصلات الإنسانية، وإشاعة الفساد في الأرض هو السبب في الخسران الذي لا ينجو منه أولئك الفاسقون.
والخاسر هو الذي نقص حظه من الغاية التي كان يبتغيها، وكذلك الذين اتصفوا بهذه الصفات، فالناقض للعهد يحسب أنه كسب من نكثه في عهده، ولكنه خسر؛ لأن الناس لَا يثقون بعهده من بعد، والذي يقطع أرحام الإنسانية يحسب أنه كسب بالانفراد، ولكنه خسر المعاونة والمودة، والأخوة الإنسانية، والمفسد في الأرض يحسب أنه كسب أرضا أو خيرا من وراء ما يفعل، وقد خسر الناسَ جميعا، فهو كمن أراد ربحا بالغش والخديعة فخسر كل ماله، وهكذا كل الفساق الآثرون الذين(1/183)
يحسبون بأثرتهم أنهم الكاسبون، وهم الخاسرون. فمن كسب بغدر وخيانة وقطع الأرحام، ومن أفسد في الأرض بالحروب الظالمة، والغدر في العهود، فهو خسران دائما، فإن انتصر في حرب ونال ثمرة انتصاره ظلما، وإزهاقًا وإفسادًا، فإن المهزومين يتأهبون، وهو يترقب متوجسًا خائفًا حذرًا، وسيكون منهم الانتقام، ويكون الشر المستطير، بين الغالب والمغلوب، ولا سلام، بل خسران.
وأكد سبحانه وتعالى الخسران في قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). . بمؤكدات ثلاثة أولها: التعبير بالجملة الاسمية، ففي التعبير بها تعبير بأكمل القول الدال على الاستمرار. وثانيها: التأكيد بكلمة " هم "، وهي تدل على انفرادهم بالخسارة دون المؤمنين الطائعين، فهم الرابحون دائما، وثالثها: تعريف المسند والمسند إليه (1) الدال على القصر؛ أي أنهم مقصورون على الخسارة، فلا يربحون أبدا ما داموا على الأخلاق التي تفسد الجماعات وتقطع العلاقات، والربح للإيمان وأهله.
* * *
الكفر بالخالق المنشئ المسخر الوجود للإنسان
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
* * *
________
(1) أي الخبر والمبتدأ، والمسند في الجملة الفعلية: الفعل، والمسند إليه: الفاعل.(1/184)
إن الكافرين يتعجبون من ضرب الأمثال، ويقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ وحالهم عجب لأنهم يرون المحسوس الذي يدفعهم إلى الإيمان بالله الذي خلق السموات والأرض ومن فيهن، ومع ذلك يكفرون ولا يؤمنون، ولقد وبخهم الله سبحانه وتعالى أبلغ توبيخ فقال تعالى:(1/185)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ).
(كيْفَ) يستفهم بها للحال، والمعنى كيف حالكم وبعدكم عن الإدراك والحق وأنتم تكفرون بالله الذي أنشاكم وأخرجكم من الموت إلى الحياة؟! إنكم ترون أن الطفل يولد، ويجيء من غيب الله تعالى، وترونه يشب غلاما فصبيا فشابا فكهلا فشيخا فيموت ثم يقبر ثم تكون الحياة بعد ذلك، ترون الأمور الثلاثة؛ الأولى موت، ثم حياة، ثم موت، أفلا يكون بالقياس على البدء بالموت ثم الحياة ثم الموت أن نحييكم تارة أخرى؛ وقد قدر سبحانه على الأمور الأولى، أفلا يقدر على الأخيرة؟ (. . . كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).
والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع لَا لإنكار الوقوع، والفرق بينهما أن إنكار الوقوع معناه النفي، وهو لَا يصلح هنا، وأما إنكار الواقع فمعناه التوبيخ أبلغ التوبيخ على ما وقع، فقد وقع ذلك الأمر الغريب، وهو أنهم يكفرون أو يجحدون بالله بألا يعبدوه وحده، وهو الذي خلقهم، فأحياهم، وقد كانوا أمواتا، وذلك محسوس مرئي، وأوثانهم لم تصنع شيئا من هذا ولا يمكن أن تفعل.
ومعنى الموت الأول الذي يدل عليه قوله تعالى: (وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا) هو أنهم كانوا عدما ليست فيهم حياة، أو كانوا أجساما جامدة هي الطين، أو نطفا في بطون الأمهات ثم مضغا مخلّقة وغير مخلّقة، فجعلكم أحياء.
وكيف يطلق على الجماد أنه ميت، مع أن الموت أمر نسبي تكون قبله حياة، ثم تسلب هذه الحياة فيكون الموت، والجماد لم تسبقه حياة، حتى يكون من بعدها موت؟.(1/185)
ونقول في الجواب عن ذلك: إن الموت لَا يقتضي وجود حياة سابقة، بل يطلق على الجماد ذاته، فيقال: أرض موات، وأرض ميتة، وإحياؤها يكون بوجود الغيث وإنباتها النبات بإذن الله تعالى، كما قال تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ)، وقال تعالى: (رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كذَلِكَ الْخُرُوج).
فقوله تعالى: (كنتُمْ أَمْوَاتًا)، أي كنتم لَا حياة فيكم فأحياكم فخلق التراب ثم أنشأكم منه، فأحياكم فأفاض عليكم بالحياة، وهم قبل هذا الإحياء لم يكونوا شيئا مذكورا كما قال تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورً)، وقوله تعالى: (وَكنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) خطاب لهم بالانتقال من الغيبة إلى الخطاب، وهو دال على أن ذلك يعلمونه بالعيان والحس، لا بمجرد التصور والتفكر، (ثمَّ يُمِيتُكُمْ) و (ثُمَّ) هنا للتراخي؛ لأنه بعد الإحياء يعيش أجلا محدودا، ثم يموت، و (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)، (ثُمَ يُحْيِيكُمْ) بالبعث والنشور، ثم تكون القيامة، ثم إليه سبحانه ترجعون، وذلك هو مدلول قوله تعالى في آية أخرى: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا. . .)، وإنه كما ذكرنا أخذ من الواقع الذي يحسونه، دليلا على وقوع ما ينتظرهم، وينتظرونه، وهو البعث، فإذا كان سبحانه وتعالى أنشأ من العدم حياة ثم سلبها، فإنه قادر على إعادتها، ولكنهم يؤمنون بالحس وحده، ولا يؤمنون بالغيب الذي لَا يحُسُّون.
قوله تعالى: (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وثم هنا للتراخي؛ أي بعد أن يقضوا حياتهم، ويموتوا ويدفنوا في قبورهم يرجعون ليحاسبهم على ما قدموا من عمل، فإن خيرًا فخير، وإن شرا فالعذاب.
وتقديم (إِلَيْهِ) على (تُرْجَعونَ) للإشارة إلى أنه وحده هو الذي إليه يرجعون، لَا إلى آلهتهم التي يتوهمون بأوهامهم فيها قدرة، ولا قدرة، فالرجوع إليه سبحانه وتعالى.(1/186)
إن الله تعالى خلق الخلق، وأحياهم بعد العدم، ولم يتركهم، بل أنعم عليهم بالأرض وخيراتها، وكل ثمراتها، وسخر لهم مافى السماوات والأرض، ومع ذلك كفروا بربهم الذي أولاهم الحياة، وأولاهم نعم الوجود؛ ولذلك قال تعالى:(1/187)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ... (29)
أي أنه سبحانه وتعالى خلق لكم معشر بني آدم الأرض، وما فيها جميعا، خلق لكم كل ما في الأرض من ثمرات وزروع تنبت بإذن الله تعالى، وما يستنبطون من فلزات، ومعادن سائلة وجامدة، خلق لكم جميعا، كل ما في الأرض مما حوت بطونها، وجرت به أنهارها، ونزَّل من السماء ماءها. ومعنى (لَكُم) اللام فيه للاختصاص أو التمليك، خلقه مملوكا لكم بتمليك ربكم، وهذا من آلائه ونعمه عليكم، أو نقول خلق وقدَّر وأنشأ كل ما في الأرض جميعه، لأجل أن تنتفعوا به؛ تستطيبون طيباته، وتتركون خبائثه، وجاءكم بالشرائع التي تبين لكم الطيب فتتناولونه مباحا لكم حلالا طيبا، وتبين الخبائث لتجتنبوها، فأنتم في نعم الله دائما في هذه الأرض، جعلها فراشا، وملأها بالنعم على ظاهرها، وفيما اكتنزته بطونها، وبين الطيب ليميز عنه الخبيث.
وهنا كلمتان لابد من ذكرهما:
أولاهما - ما قرره العلماء من أن هذه الآية تدل على أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ثبت بالدليل منعه، فكل شيء مباح بحكم الإباحة الأصلية التي ثبتت بأن الله تعالى خلق للناس ما في الأرض جميعا لينتفعوا به، وما كانوا لينتفعوا بهذه الأشياء إلا إذا كان قد أباحها، واستثنى الأكثرون العلاقة بين الرجل والمرأة، فإنها على المنع إلا أن يكون السبب المبيح، وإن ذلك لَا يمنع أن الأشياء مباحة في أصلها، فالتنظيم بالزواج لَا يمنع الإباحة.
وإن الأمر فيما، يطلبون متروك عند الإباحة إلى ما يجدون من متعة يستمتعون بها أو أمرا حسنا يستحسنونه، وهذا مبني على أن الأشياء لها حسن ذاتي وقبح،(1/187)
وهذا لَا يستلزم أن يكون التكليف قائما على الاستحسان أو الاستهجان، إنما التكليف من أمر الله ونهيه.
الكلمة الثانية - أن قوله تعالى: (جَمِيعًا) متعلقة بما في الأرض أي أنه جميعه لكم معشر الناس، فليس لكم بعضه دون بعضه، بل هو لكم كله، لأجلكم، تنعمون به، وتعبدون الله تعالى على آلائه، فهو يؤدي إلى أن تكون هذه الملكية التي منحها الله تعالى لكم لتشكروها، ولتعبدوه بهذا الشكر، كقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
ولا يتبادر إلى الذهن أنها تأكيد لقوله تعالى: (لَكُم). أي أن الله تعالى خلق الأشياء لكم جميعا، فلا ينفرد قبيل دون قبيل، ولا جماعة دون جماعة، ولا قوم دون قوم، ولا غني دون فقير.
وإننا لَا نرى ذلك - أولا: لأن ذلك بعيد في اللفظ لأن التأكيد يكون للقريب، والقريب هنا هو ما في الأرض كله للناس، يتخيرون منه، ولا يطلبون خبيثه، فلا يؤكد اللفظ إلا ما يقترن به من القول، فلا يفصل بين المؤكِّد والمؤكَّد، وعلى أي حال فإنه بمقتضى عموم قوله تعالى: (لَكُم) أن الخلق لكم كلكم، وهذه الكلية التي تعم الناس أجمعين ثابتة بعموم الخطاب، لَا بلفظ (جَمِيعًا).
وليس معنى أن ما في الأرض لهم كلهم، أن يتقاسموه، وأن يأخذوا الخير جميعهم مقسما، من غير تمييز بين عامل وخامل، ولا بين موفق وغير موفق، إنما لكل امرئ عمله، ولكل امرئ ما كسب.
ولا تقتضي الكلية أن يتساوى الناس في أرزاقهم، فإن الرزق يمنحه الله تعالى لمن يعمل ويكسب، ولكن يتساوى الناس في تمكينهم من الأرض، وكلٌّ وما يكسبه، والله هو الغني الحميد.(1/188)
وإنه كما ملَّك الله تعالى عبيده كل ما في الأرض لكُلِّهم عاملين فيه جادين، سخر لهم ما في السماوات والأرض؛ ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر نعمة الأرض عليهم بما فيها، قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبعَ سَمَوَاتِ وَهُوَ بكلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
استوى معناها قصد مرتفعا، أو ارتفع إلى السماء، وهي في هذه الآية ما علا، وكان كالسقف المحفوظ، فسوى السماوات سبعا أي جعلها سبعا؛ ولأن السماء، وهي الجهة العالية، كما أشرنا واحدة في لفظها متضمنة السبع التي سواهن الله سبحانه وتعالى في معناها؛ ولذا أعاد الضمير عليها بما يدل على الجمع الذي يشمل أفرادا متعددين.
والمراد من السماوات السبع التي سواهن الله تعالى أي خلقهن، أو قسمهن وجعلهن سبعا متساوية، فمعنى سواهن: قسمهن بالتسوية سبعا، وهي مجموعات النجوم المتطابقة طبقة بعد طبقة، الواحدة أعلى من الدنيا وهكذا.
وكان الشائع بين علماء الفلك خمسا، لَا سبعا، ولكن بعد عصر القرآن بنحو أربعة عشر قرنا إلا قليلا كشفوا بآلات الكشف الحديثة نجمين كوكبين دلا على أنها سبع، وهي: عطارد، والزهرة، والمريخ، والمشترى، وزحل، وكشف أورانوس ثم نبتون، وكل كوكب في طبقة من السماء، والشمس والقمر ليسا من السبع، وهذا قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا)، فبمقتضى هذا النص تكون الشمس والقمر ليسا من السماوات السبع اللائي عدهن القرآن الكريم، وإن كانتا في السماء، وتسمى السبع المجموعة الشمسية، والشمس في طبقة أعلى منهن.
وإن قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ)، يدل بظاهره في العطف بـ ثم على أن السماوات سويت سبعا بعد خلق الأرض، ولكن لَا يدل على(1/189)
ذلك دلالة قاطعة، فإن التعبير بـ ثم يدل على الترتيب البياني في الذكر ولا يدل على الترتيب الواقعي، فإن الآيات قد تدل على غيره، وإنا نقرر أن الزمن لَا يحكم أفعال الله تعالى؛ فكما أنه تعالى لَا يكون في مكان:،، فأفعاله تعالى فوق الأزمان.
ولقد جاء النص الكريم بأن الأرض أخذت من السماء، وكانتا رتقا، أو شيئا واحدا، كما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا منَ الْمَاءِ كُلَّ شيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ).
ولقد قال تعالى في بيان خلق السماء والأرض: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12).
وقد يقال: إنك نفيت الزمان عن أفعال الله تعالى، وقد ذكر سبحانه أنه خلق الأرض في يومين، وأنه جعلها على ما هي عليه في أربعة أيام، وأنه قضى السماوات في يومين، فكيف تنفي الزمان عن خالق الزمان والليل والنهار؟ ونقول في جواب ذلك: إن اليوم ليس هو اليوم الذي نعده بالغروب والشروق بأن تدور الأرض حول الشمس دورة تبتدئ بشروق الشمس، وتنتهي بغروبها أو العكس، فإن ذلك تقدير نسبي بين الأرض والشمس، وما كانتا قد خلقتا، كما يدل صريح القرآن، إنما اليوم هنا المراد به الدور التكويني، وإذا أردنا أن نتصور الدور التكويني، فإننا نتصور على ضوء العلم أن الأرض انفصلت عن الكتلة الشمسية التي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا. . .)، فهذا يوم، أي دوو تكويني، هو دوو انفصال الأوض عن الكتلة الشمسية.(1/190)
وعند هذا الانفصال تكونت بإرادة الله تعالى وقدرته القاهرة، وإرادته المسيطرة القشرة الأرضية، وهذا هو اليوم الثاني، أو الدور الثاني، وقد بين سبحانه وتعالى، الأدوار الأربعة بعد ذلك.
هذا وقبل أن ننتهي من القول تحت إشراق القرآن في بيان الخلق والتكوين، نقول إن بعض المفسرين أو كثيرين منهم قال إن كلمة سبع سماوات، لَا يراد بها العدد المحدود المذكور، إنما يراد بها الكثرة من الأعداد، كما في قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فإنه ليس المراد والله أعلم سبعة أبحر، إنما المراد عدد من الأبحر كثير.
ومثله قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. . .)، فالسبع، والسبعون يراد بها الكثرة، ولا يراد بها عدد محدود بالسبعة أو السبعين.
وإن لذلك القول بجوار ما قلنا مكانه من الحق، فإن السماء ذات أبراج، وإن الشمس في أعلى طبقاتها، وفوقها شموس، وفي السديم (1) عُلو لَا يعلمه إلا الله تعالى.
ولقد ختم سبحانه وتعالى الآية الكونية بقوله تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي أن الله تعالى خالق الكون وربه ومدبر أمره عليم به علم من لَا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وعلم من أنشأ وكوَّن وقدر ودبر، وقد ابتدأ العبارة السامية، بلفظ الجلاله لتربية المهابة في نفس التالي للكتاب، وأكد علمه السرمدي، بثلاثة مؤكدات: بالجملة الاسمية التي تدل على دوام العلم وثباته؛ لأنه علم أزلي دائم لَا يجري عليه ما يجري على الناس، وأكده سبحانه وتعالى بذكر
________
(1) السَّديمُ: الضبَّابُ الرقيق. [لسان العرب: الزاى - سدم، والقاموس المحيط: باب الميم - فصل السين].(1/191)
الإحاطة التامة بكل شيء، وأكده سبحانه بذكر صفة من صفاته فقال: (عَلِيمٌ)، سبحان من أحاط بكل شيء علما، وسبحان من عنت له الوجوه.
* * *
خلق الإنسان
ذكر سبحانه وتعالى خلق الأرض وتمليكه الإنسان حق الانتفاع بها، وأشار إلى خلق السماوات فكان من بعد ذلك أن تكلم على خلق الإنسان الذي سخر له هذا الوجود الكوني، من أرض وسماء، فقال تعالت كلماته:
* * *(1/192)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
* * *
وقبل أن نتعرف القصة الحقيقية التي صورها القرآن لخلق الإنسان نذكر عوالم ثلاثة للعقلاء جاء ذكر بعضها في بيان علاقة الإنسان في خلقه وتكوينه بها.
وهذه العوالم الثلاثة هي: عالم الملائكة وهم خلق الله تعالى، قيل إنه سبحانه خلقهم من نور، وهم أرواح طاهرة مطهرة لَا يعصون الله تعالى ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. لَا يتصور منهم معصية ولا يكون منهم إلا الطاعة، ركب الله تعالى كونهم على أنه لَا تتصور منهم معصية، فليست شهوات ولا أهواء، وهي بواعث العصيان.
والثاني من هذه العوالم: هو عالم الجن، وعبارات القرآن تدل على أنهم خلقوا من نار، وقد ذكر ذلك إبليس الذي هو من الجن، فقال في غروره مفضلا(1/192)
نفسه على آدم: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)، وإبليس كان من الجن، ولكنه جن فاسق، فقد ذكر عنه ربه أنه (كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. . .).
والجن يظهر أن فيهم أهواء وشهوات، ولذلك كان منهم العاصون، ومنهم العادلون المقسطون، وأنهم مكلفون، وأنهم سمعوا القرآن، وسمعوا من قبل توراة موسى، وقد قال تعالى فيهم.
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17).
والجن كما ذكر القرآن عالم غير عالم الملائكة، وغير عالم الإنسان، وتأويل القول فيهم أنهم من عالم الإنسان، وأنهم قبيلة منهم - تأويل بغير دليل، يخالف ظاهر القرآن، وليس لقائله من سند إلا أن يكون تحريفا للقول عن مواضعه.
والعالم الثالث هو: عالم الإنسان، وقد خلق من سلالة من طين، والعالمان الخفيان، وهما عالم الملائكة وعالم الجن، تدل الآيات الكريمات على أنهما خلقا(1/193)
قبل العالم الثالث، وهو الإنسان، بدليل أن الملائكة ذكر الله تعالى لهم أنه جاعل الإنسان خليفة، وأنهم عجبوا أن يكون خليفة في الأرض من يفسد فيها ويهلك الحرث، وبدليل أن أبليس الذي كان من الجن عصى ربه، فلم يسجد، وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.
والإنسان خلق فـ يه العقل المدرك الذي يرفعه إلى درجة الملائكة، وخلق فيه الشهوة والهوى اللذان يجعلانه مفسدا فيها ويهلك الحرث والنسل، وذلك وجه استغرابهم.
ولنذكر القصة الكاملة الحقيقية التي يصور الله تعالى فيها خلق هذا العالم الثالث، وهو الإنسان.
أعلم الله تعالى الملائكة - وهم جمع ملك - بأنه سيجعل في الأرض من
يسكن ظاهرها، ويحكم فيها، وينسل فقال: (إِنِي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، أي يكون ساكنا فيها بالخلافة عمن كانوا فيها، ولم يذكر سبحانه وتعالى من كانوا فيها أهم كانوا من الملائكة أم كانوا من الجن، أم كانوا خلقا آخر، ولقد ترك الله سبحانه وتعالى ذكر من خلفهم، فلنسكت عما ترك، ولا نرجم بالغيب، حتى لَا نطلب ما ليس لنا به علم.
وقد يقال إن (خَلِيفَةً) معناها الخلافة عن الله تعالى في الأرض، بمعنى أن الله تعالى بما أعطاه من قوة العقل والتنككير والتدبير، والسيطرة على نفسه، وعلى ما في الوجود، في الأرض، التي خلفه الله تعالى عليها ليكون خليفة خلافة نسبية عن الله تعالى، والله تعالى غالب على كل أمره، وأموره.
قد يكون هذا هو الظاهر، أو أن (خَلِيفَةً) معناه أنه وجنسه خلائف يخلف بعضهم بعضا، كما قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ. . .).(1/194)
وعندي أن ما أشرنا مرجحين له: وهو أنه خليفة عن الله تعالى وهي خلافة نسبية، ترك الله تعالى له الخلافة، ليبلوه فيما ملكه من منافع الأرض التي خلقها جميعا له.
ذكر الله تعالى لملائكته أنه جعل له تعالى خليفة في هذه الأرض، ويظهر أن الله تعالى أعلمهم بطبيعة هذا العالم الثالث في هذا الوجود من أنه أوتي عقلا مدركا، وشهوة قد تكون طاغية، وأنها إن طغت أفسدت، وأهلكت.
ولذلك قالوا لربهم مستغربين: أتجعل فيها من يفسد فيها، لأنه ركبت فيه الشهوة وإذا غلبت أفسدت، وإن الشهوات إذا تحكمت كانت الأثرة، وكان التنازع، ومع التنازع سفك الدماء، ولذا قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟! وقد كانوا مع اعتقادهم في الإنسان ذلك الاعتقاد أشاروا إلى أنهم أولى منه بالخلافة في الأرض من غير أن يعترضوا على الله تعالى في حكمه، بل أبدوا استغرابهم من أن الله تعالى يتركهم إلى المفسد السافك للدماء، وهم المسبحون بحمد الله المقدسون له]. فقالوا مقابلين بين حالهم وحال الإنسان، (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) أي نحن نذكرك مديمين بحمدك على ما أنعمت، لأن ذاته العلية تستحق الحمد في ذاته، (وَنُقَدَسُ لَكَ) أي نعظمك وننزهك لك أنت. أي: لأجل ذاتك العلية.
يبين الله تعالى لهم، أن الله يعلم ذلك، فيعلم أحوالهم وأنهم في تسبيح دائم، وتقديس ملازم، ولكن في الإنسان ما يجعله جديرا بالخلافة في الأرض ليبلوه فيما آتاه الله تعالى من خيرها، فهو يعلمه ويعلمهم، ويعلم الجدير منهم بأن يجعله في الأرض، ولذلك قال تعالى ردا لاستغرابهم بقوله: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمونَ) أعلم الجدير بما أعطى وغير الجدير.
وقد بيَّن الله تعالى ما أودعه نفس الإنسان من العلم بالأشياء أو الاستعداد للعلم بها، أو أودع نفسه الاستعداد بعلمه بالأشياء كلها مما لَا يعلمون هم، فقال تعالى:
* * *(1/195)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
* * *
والأسماء هي الأشياء من قبيل ذكر الاسم وإرادة المسمى، إن جهل الملائكة بأسماء الأشياء وعلم آدم بها هو الأمر الذي ميز آدم على الملائكة، خلقوا للطاعة، ولا يعلمون طبائع الأشياء والوجود الأرضي إلا ما أعلمهم الله تعالى إياه، أما آدم فإن الله تعالى أودعه القدرة على العلم بالأشياء، وكان في طبيعة نفسه التي أوجدها الله تعالى العلم بالأجناس أو مثلها. فالإنسان يولد وفي استعداده العلم بالمثل في هذه الأرض كما قال تعالى: (وَاللَّه أَخْرَجَكم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ. . .).
بهذه الخاصة التي وهبها الله تعالى للإنسان، وهي الاستعداد للمعرفة والعلم بكل ما في الأرض، فكان بذلك ممتازا على الملائكة ويتبعهم الجن.
ولقد أعلم سبحانه بهذا العلو عليهم، فأمرهم بالسجود له، فقال تعالى:
* * *(1/196)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
* * *(1/196)
كان إبليس عند أمر الله تعالى له مع الملائكة، ولنا أن نقول إنه ليس مما خلقهم تعالى من مادتهم، فإنه خلق من نار كما حكى الله تعالى عنه إذ قال: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظالِمِينَ بَدَلًا).
وإذا لم يكن منهم، فإن الاستثناء يكون منقطعا، ولكن الخطاب موجه إليه لصحبته لهم. والسجود الذي أمر الله تعالى به ما هو؟ قال بعضهم: إنه الخضوع وهو يستعمل في كلام العرب بمعنى التذلل والخضوع، وليس السجود الذي يعد من أركان الصلاة، ومن المعنى اللغوي قوله في سورة يوسف: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا. . .)، أي دخلوا في حكمه.
ولقد قال تعالى في الخلق في سورة أخرى: (فإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)، فهل يدل هذا على أنه كسجود الصلاة؟ الجواب عن ذلك أنه يدل على كمال الخضوع له سبحانه وتعالى، بما يدل على الخضوع الكامل بالانحناء له، وإذا كان يوهم أنه كسجود الصلاة، فليس عبادة لآدم ولكنه إطاعة الله تعالى: وإن كان آدم كالقبلة، فالعبادة تكون للآمر وهو الله تعالى لَا لمن اتخذه كالقبلة وكان كأنما السجود له.
ومهما تكن حال السجود، والعلم الجازم بها عند الله تعالى، فإن الأمر به دليل على تكريم الله تعالى لآدم أبي البشر، وأنَّ له اختصاصا بالتكريم على الملائكة الأطهار الأبرار، كما أمر الله تبارك وتعالى الذي خلق الفريقين، وميز بين العالمين. وإبليس الذي كان من الجن خرج عن طاعة الله ففسق عن أمر الله مستكبرا بغير مسوغ للكبر، لأنه زعم أن أصل خلقه خير من أصل خلق آدم، فهو خلق من نار، وآدم خلق من طين، والله تعالى خالق المادتين، فهو يفاخر ويعاند بأمر خلقه الله تعالى الذي أمره بالسجود، فكان في أشد أحوال الغفلة، وصح أن يقال فيه إنه أشد مَنْ خَلَقَ الله تغفيلا، وكذلك كان أتباعه من بعده، فهم في غفلة عن الحق دائما.(1/197)
ولقد وصفه الله تعالى بأنه كَفَر، وهو قد طغى في كفره، وتعدى إلى معاندة الله تعالى في أمره ونهيه، حتى لقد حكى الله تعالى أنه اعتزم الشر، وأراد فتنة بني آدم، بل آدم نفسه، فقال عنه الله تعالى: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)، وقال: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).
* * *
وإن الله تعالى بعد أن خلق آدم، قال الله سبحانه آمرا آدم، وكان قد خلق معه زوجه:
* * *(1/198)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
(وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
* * *
لم يذكر الله سبحانه مكان هذه الجنة، ولا حقيقتها، أهي في السماء أم في الأرض، أهي الجنة التي تكون جنة الخلد. أم هي حديقة في الأرض، ومهما يكن فإنها جنة فيها رغد العيش وسعته.
ولم يذكر سبحانه وتعالى اسم زوجه، ولكنا علمنا من مصادر أخرى أنها حواء (1)، وأنه خلقها من نفس آدم، أو من جنس خلقه، فقد قال تعالى في سورة النساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا. . .)، فحواء زوجة آدم من نفس خلقه أو خلقها الله تعالى من جنس نفسه.
أمر الله آدم أن يكون هو وزوجه في الجنة ساكنين، وأن يأكلا منها موسعين على أنفسهما غير مضيقين، يأكان رغدا أي من غير انقطاع، ولكنه نهاهما عن
________
(1) صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاسم في الصحاح ومن ذلك ما رواه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (3083)، ومسلم: الرضاع (2673). قال النووي: رُوِّينَا عَنْ ابْنِ عَبَّاس قَالَ: سُميتْ حَوآء لأنَّهَا أمّ كُلّ حَيٍّ.(1/198)
شجرة من أشجارها. . ما هي وما كنهها؛ لم يذكر سبحانه وتعالى هذه الشجرة، ولكنه وإن لم يبينها لنا كانت معلومة عند آدم وزوجه، ولذلك كان إغراء آدم من شجرة معينة.
ابتدأ إبليس يتخذ طريق الغواية حاقدا حاسدا، فجاءهما من هذه التي أمر الله سبحانه وتعالى بألا يقرباها، وكان النهي عن القرب لَا عن الأكل، لأنه أبلغ في النهي عن الأكل، فالنهي عن القرب مبالغة في عدم الأكل بالابتعاد عنها، وهنا كان الاختبار بهذه الشجرة، إذ حيث يكون الهوى فإنه يجر إلى العصيان.
جاءهما الشيطان من ناحية هذه الشجرة، وجاء الإغراء من النهي عن الأكل منها ولذلك قال تعالى:
* * *(1/199)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
* * *
وترى في الآية (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا)، وعبر بالشيطان وهو إبليس لأنه ابتدأ يتحرك فاسدا مفسدا، وأزلهما معناها أوقعهما في الزلل، ولقد ذكر سبحانه وتعالى النتيجة وهي أنه أوقعهما في الزلل بأكلهما منه، وفصَّل سبحانه وتعالى عمل إبليس في موضع آخر في سورة الأعراف، فقد قال تعالى في هذه السورة ما فعله بإبليس عندما عصى أمر ربه بالسجود إذ أخرجه منها، وقال بعد استكباره: اخرج منها فإنك من الصاغرين. . وقال لآدم: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ(1/199)
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25).
ففي هذا النص الذي تدل عليه هذه الآيات الكريمات يبين سبحانه كيف كان الإغواء، وأنه جاء من جهة الترغيب في الاستعلاء والبقاء، فأوهمهما أن النهي كان لكيلا يكونا من الملائكة، مع أن آدم سجدت له الملائكة، ولكنهما غفلا عن هذا، وأوهمهما أنهما يكونان خالِدَين في الجنة إن أكلا.
وكانت النتيجة من الأكل أن بدت لهما سوءاتهما بعد الأكل من الشجرة، وادعى بعضهم أن هذا يدل على أنها خثمجرة الشهوة، ولكن لَا دليل، فيبقى أمر الشجرة غير معلوم.
والأمر الذي ترتب على الأكل في آية البقرة وآية الأعواف هو الخروج من الجنة، والهبوط إلى الأرض، أي النزول من مكان أعلى منها، (وَقلنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أى أمر التكوين كان لآدم وزوجه وإبليس، وقوله تعالى: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)، أي أن إبليس عدو لكم فاحذروه، وإنه وذريته ينفثون في نفوس الناس الشر، فتكون العداوة الدائمة المستمرة، والتنازع والحروب.
(وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين) أي الأرض التي خلقها، وخلق لكم ما فيها جميعا ستكون مستقرا أي موضع قرار دائم، لَا أن تكون مسكنا تتركونه، ويكون فيها متاعكم إلى حين، أي إلى وقت أن تموتوا ثم تحيوا فيكون البعث والنشور، وهكذا كان الشيطان بعداوته طريق الخروج من جنة الله تعالى إلى أرضه.(1/200)
وإن آدم أحس بأنه عصى ربه، وأنه ظلم نفسه، فألهمهما الله تعالى أن يقرَّا بالمعصية، وأن يطلبا منه سبحانه وتعالى غفران هذا العصيان (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، هذه هي الكلمات التي تلقياها من ربهما كما قال تعالى:
* * *(1/201)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
* * *
وكما جاء في سورة طه: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى).
هذه القصة الحقيقية في خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وهي تدل على ثلاثة أمور: أولها: أن الله تعالى كرم آدم على خلقه من الملائكة والجن بدليل أنه سبحانه أمرهم بالسجود له.
ثانيها: أن الله تعالى خلقه ووهبه الاستعداد لمعرفة الأشياء، وبها امتاز على الملائكة، وبهذا الاستعداد للعلم، ومعرفته أسماء الأشياء سخر الله تعالى له ما في السماء وما في الأرض، وذلل له كل ما في الأرض وما في السماء.
ثالثها: أنه يؤتي من قبل أهوائه وما يغريه، وأن إبليس له عدو مبين، وأنه سلط على آدم، وسلط على بنيه من بعده، وأنه موسوس في نفسه، فهو لَا يتصل بحسه، ولكن يتصل بنفسه.
ولسنا نقول إن الجن وإبليس، هما وسوسة النفس، أو ما يحيك في الصدر، ولكن نقول إن الجن مخلوقات موجودة، وإن إبليس موجود مخلوق، ولكن مع ذلك نقول إن إبليس وذريته من بعده يوسوسون في النفوس بالشر، وإن كانوا يعجزون عن النفوس المؤمنة الطاهرة.(1/201)
وإن إبليس وذريته يجيئون إلى النفوس من قبل الشهوات، والأهواء، وعلى المؤمن أن يسد مسام الشيطان.
* * *
الأرض موطن التكليف
خرج آدم وزوجه من الجنة، ولم يكن فيها تكليف إلا أمرهما بألا يأكلا من شجرة معينة، خرجا إلى هذه الأرض، وكان التكليف، وكان اختبار بني آدم فيها، وعلى قدر ما يفعلون من خير يكون جزاء الخير، وعلى قدر ما يكسبون من إثم يكون جزاؤه، وفي كل نفس استعداد للخير، وللشر، والخير هو الأصل؛ ولذا قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، فكانت النفس الأمارة بالسوء بجوار النفس اللوامة فكان الاختبار بعد هبوط الأرض.
قال تعالى بعد قصة الخلق والتكوين:
* * *
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
* * *
جاء التكليف عند نزول الأرض، وقوله:(1/202)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
(قُلْنَا) معناه أنه أُخرج من الجنة، وقال له تعالى بلسان التكوين: اهبطوا، والهبوط هنا معنوي أو حسي، والمعنوي أنهم نزلوا من الجنة حيث كان القرب من الملائكة الأطهار، وحيث كان العيش رغدا لا مشقة فيه، ولا جهد، بل هو راحة واطمئنان - إلى حيث اللغوب والمشقة، والمعترك الذي يكون فيه الغلب والقهر والانهزام، وحسي لأنه نزول من مكان عال إلى أدنى منه، والهبوط المعنوي ظاهر، ولذا نقتصر عليه، لأن الحسي غير ظاهر، وإذا كان الهبوط حيث التكليف فالجميع يهبطون: آدم وزوجه وإبليس، والتكليف على الجميع، فكل ينال أثر عمله.(1/202)
وقوله تعالى: (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ) يدل على أن الله تعالى يرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فالهدى الذي يجيء من قبل الله تعالى هو ما يكون بالرسالة الإلهية التي تكون عن طريق من يرسلهم الله تعالى مؤيدين بالمعجزات الظاهرة الباهرة.
وقوله تعالى: (فَإِمَّا) فيه " ما " زائدة في الإعراب، وليست زائدة في البيان؛ لأنها دالة على تأكيد الإتيان؛ ولذلك يكون بعدها تأكيد الفعل بنون التوكيد الثقيلة تأكيدًا وجوبيًّا عند أكثر علماء البيان، كالقسم لأن إما في معناه، بيد أن هذه تأكيد لفعل الشرط، وهنالك تأكيد لجواب القسم - وإن معنى التأكيد لفعل الشرط أن مجيء الهداية ثابت ثبوتا لَا مجال للريب فيه.
وتنكير هدى هنا للتعظيم والتكثير، فهو هدى يهدي إلى الحق، ويهدي إلى حياة قويمة مستقيمة، ويهدي إلى النفع الإنساني العام، وإلى استخراج ينابيع الأرض مما في باطنها، وإلى الفضيلة الإنسانية، والعدالة في كل نواحي الحياة. وجواب الشرط في قوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى) هو قوله تعالى: (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ) أي أن الذين يتبعون ما يجيء به النبيون من رسالات إلهية فإنهم يكونون طائعين خاضعين لأحكام الله تعالى، محاربين للشيطان وإغرائه ووسوسته، ولا يعاقبون؛ ولذا قال تعالى: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)، وهو جواب (فَمَن تَبِعَ) لأنها هي الأخرى شرط، فكان جواب (فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى) جملة شرطية، أي فيها شرط وجواب، فقوله تعالى: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) جواب شرط الثانية.
ومعنى (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أنهم يكونون في أمن من عذاب الله تعالى، ولا يحزنون على أمر فاتهم، لأنهم سبقت طاعتهم، ولا يكونون في حال حزن، بل في سرور، وعلى سرر متقابلين.(1/203)
وليسوا كالذين يخضعون لوسوسة إبليس، وإغرائه، فلا يطيعون، ويجحدون، ولذا ذكر عقوبة الأشرار بجوار ثواب الأخيار ليدرك أهل الحق الفرق بين الفريقين، فقال تعالى:(1/204)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) وكفروا معناها جحدوا أو ستروا ينابيع الإيمان في قلوبهم، وأفسدوا فطرة الله تعالى، وكذبوا بآياتنا.
وآيات الله تعالى آيات كونية، وهي خلق السماوات والأرض وكل ما في الكون مما يدل على الله تعالى، وأنه خالق كل شيء، وآيات تجيء على أيدي الرسل الذين يجيئون بهدى الله سبحانه، وهي المعجزات التي تدل على أن حامليها رسل من عند الله سبحانه وتعالى العلي القدير، وآيات تتلى في كتبه.
وقد كذبوا بكل هذه الآيات، ولذا قال سبحانه وتعالى: (كَذبُوا بِآيَاتِنَا) أي طمس الله تعالى على بصائرهم فلا يدركون حقا، ولا يذعنون لدليل، ولو كان من عند العزيز العليم.
وكما ذكر سبحانه جزاء الذين اتبعوا الهدى، وآمنوا بالحق، وهو أنهم لا يخافون، ولا يحزنون، وذكر الخوف بقوله تعالى: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي لَا ننزل بهم ما يوجب الخوف.
كما ذكر سبحانه وثعالى جزاء هؤلاء المتقين الذين ينتفعون بالآيات والعظات، ذكر جزاء الكافرين فقال تعالى: (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
ذكر الله سبحانه وتعالى عقوبتهم في الآخرة بهذا النص السامي، فابتدأ باسم الإشارة، وقد ذكرنا آنفا أن الإشارة إلى المذكور بصفات تكون الإشارة إلى الصفات، وفيها إيماء إلى أن هذه الصفات هي علة الحكم التالي الذي هو خبر اسم الإشارة، والحكم أنهم أصحاب النار، أي أنهم الملازمون للنار لَا يفارقونها، ولا تتخلى عنهم(1/204)
كما لَا يتخلى الصاحب عن صاحبه، وذكر سبحانه وتعالى أنهم خالدون فيها، فقال تعالى: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، وقد أكد خلودهم في النار بالجملة الاسمية، وتقديم الجار والمجرور، أي هم خالدون، وخلودهم مقصور عليها، فلا حول لهم ولا قوة.
* * *
بنو إسرائيل وكفرهم بنعم الله تعالى
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وذكر من قبل أوصاف الفاسقين التي فيها نقض الميثاف الفطري الذي أخذه سبحانه وتعالى من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم.
بعد ذكر المنازعة التي أقامها إبليس عدوا لبني آدم، وأن الله تعالى وعد أنه سيأتيهم بهدى من عنده برسل يرسلهم، وأن من اتبع هداه فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهدد بالعذاب الشديد من يخالف ويعصي، بعد ذلك كله ذكر طائفة من العصاة اتسموا بكفران النعمة، وإنكارهم الحق وتلبيسهم الباطل به، فذكَّر بالنعم التي أنعم بها عليهم، وهم بنو إسرائيل الذين توارثوا ما أنكره الله تعالى عليهم من كفران للنعمة.(1/205)
هم بنو إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعا السلام، فهم ذرية إبراهيم من فرع إسحاق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - فرع إبراهيم من إسماعيل الابن البكر له عليهما السلام، وقد وهب إسماعيل وإسحاق لإبراهيم على الكبر؛ ولذلك قال فيما حكاه عنه رب العالمين: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ).
وإن بني يعقوب ذرية إبرهيم من إسحاق جعلهم الله تعالى صورا للإنسانية التي يختبرها سبحانه وتعالى بالنعم، فمنهم من يشكرها، ومنهم من يكفرها وهم الأكثرون، واختبرهم سبحانه بالنقم تنزل بهم بكفرهم، واستيلاء الشر عليهم، فكانوا بهذا مثلا واضحا للإنسان الذي يتسلط عليه إبليس في النعم والنقم فإن اختبرهم بالنعم لم يشكروها وطغوا واستكبروا كما فعل إبليس، وإن اختبرهم بالنقم ذلوا واستكانوا؛ ولذلك كانوا مثلا للخاضعين لإبليس وهم في نعمهم ونقمهم يحسدون الناس على ما أتاهم من فضله.(1/206)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) النداء لأولاد إسرائيل من عهد موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن المخاطبين هم الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخوطب من كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل في ماضيهم، مع أنهم لم يروها، فالذين عبدوا العجل ليسوا هم، والذين كان فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ليسوا هم، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
خوطبوا بكفرهم النعم ونقضهم الميثاق، لأنهم أمة واحدة، ويخاطب الحاضرون بمآثم الماضين إذا علموها وأقروها وساروا على مثلها، ولو أنهم ناقضوها، أو استنكروها، كعبد الله بن سلام وغيره، ما خوطبوا بأخطاء من سبقوهم، لأنهم لم يرضوا عنها ولم ينادوا بشرف الانتماء إليهم.
والنداء كما علمت للبعيد لأن النداء بـ " يا " يكون للبعيد، ويراد هنا بالبعد البعد المعنوي، وهو علو الله في ندائهم، وناداهم ببني إسرائيل تذكيرا بمقام يعقوب(1/206)
وشرفه، وأنه كان ذلك النسب مقتضيا أن يكونوا في مثل شرفه النبوي، وإيمانه وإذعانه وأن يكونوا عونا للخير، وأن يكونوا شاكرين لأنعمه مثله.
(اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ومعنى اذكروها، تفكروا في أمرها، وما يوجبه، فإن ذلك التفكر في مقدارها وفي مجيئها في وقت الشدائد والغمة يحملكم على القيام بشكرها، وشكر النعم واجب بالعقل كما هي بدائه العقول، وإن الله تعالى أنعم عليهم بأن نجاهم من فرعون وطغيانه عليهم، ونجاهم باجتياز البحر، وقد انفلق حتى مروا فكان كل فرق كالطود العظيم، وانطبق على فرعون وملئه الذين ساموهم سوء العذاب وكانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وأنعم عليهم في الصحراء بالمن والسلوى يتغذون منه بأطيب الغذاء، وأنعم عليهم بأنهم استسقوا فانبجست من حجر ضربه موسى عليه السلام بعصاه - اثنتا عشرة عينا، لكل أناس مشربهم.
أنعم سبحانه وتعالى بهذه النعم كلها، وكان من شأنها أن تحملهم على الشكر والطاعة، ولكنهم وهم أهل حسد وحقد على الناس، اتخذوها ذريعة للكفر والطغيان، وحسبوها اختصاصا من الله تعالى وتدليلا، وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، فزادوا بالنعمة كفرا وطغيانا.
وكان الحاضرون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - صورة للماضين يفعلون مثل ما كانوا يفعلون، ويرضون عما كانوا عليه، ويقولون مثل ما قالوا.
أمرهم سبحانه وتعالى عساهم يشكرون، ويعتبرون بما نزل من الأمور بمن سبقوهم، ثم أمرهم سبحانه من بعد هذا التذكير بالوفاء بالعهد، فقال تعالت كلماته: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أخذ الله تعالى عهدا بمقتضى الفطرة، وهو أنه أخذ عليهم من ظهورهم ذريتهم أن يؤمنوا، وأخذ عليهم العهود والمواثيق في عهد موسى، ومن جاء بعد موسى من النبيين، وأخذ عليهم العهد بألا يسفكوا(1/207)
دماءً، وأخذ عليهم سبحانه وتعالى عهدًا موثقًا ببيان قدرة الله تعالى إذ نتق الجبل فوقهم فقد قال تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهمْ كَأَنَّهُ ظلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَقُونَ)، وصرح سبحانه وتعالى بهذا الميثاق وعهده لهم، فقال: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12).
هذا عهد من العهود التي واثقهم الله تعالى عليها، عهد عليهم أن يقيموا الصلاة ويؤدوا العبادات وأن يؤمنوا بالرسل، وكان عهد الله تعالى أن يكفر عنهم سيئاتهم، وأن يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
وقد أوجب الله تعالى على نفسه تفضلا، ورحمة وإنعاما كالإنعام المتوالي عليهم، والله تعالى لَا يجب عليه شيء. يقرن القرآن الكريم وعد الله تعالى بوعيدد، لقد وعدهم سبحانه بأنه يوفى بعهدهم بأن يكفر عنهم سيئاتهم، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار إذ أوفوا بعهده بأن عبدوه وحده، وآمنوا برسله ونصروهم، ولا شك أن ذلك ترغيب في النعيم، ولكن النفوس لَا تخضع للترغيب فقط، وخصوصا من كانوا على شاكلة بني إسرائيل الذين لم تُجد فيهم النعم؛ ولذا أردف سبحانه الوعد بالنعيم - بالترهيب، فقال تعالى: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) النون هنا تسمى بنون الوقاية التي تكون بين الفعل وياء التكلم، والياء حذفت مع تقديرها في الكلام: فارهبوني، وهذا تخويف بأشد صيغ التخويف والترهيب، وتخصيص التخويف بالله، وأنه لَا يُخاف أحد سواه كما أنه لَا يُعبد سواه.
وقد دل على التخصيص قوله تعالى: (إِيَّايَ) فهي دالة على التحذير، وفعلها محذوف تقديره مثلا احذرني، كما تقول في كلامك إياك إياك محذرا(1/208)
مخوفا، فمعنى إياي: احذروني وحدي، فإن رحمتي يلحقها عذابي، وهي للمطيع، وعذابي للعاصي، وقوله: (فَارْهَبُونِ) الفاء للإفصاح عن شرط مقدر تقديره: فإن كان من ترهبونه فارهبوني أنا وحدي؛ ولذلك كان الكلام فيه تأكيد للخوف من الله وحده أولا بذكر كلمة الله تعالى: (وَإيَّايَ) الدالة على التحذير وتقديمها، وفي التقديم اختصاص وفي تكرار التخويف، وفي ذكر الفاء المفصحة عن شرط، وهي جوابه.
والرَّهَبُ: إبقاء الخوف في النفس مع التحذير والتيقظ وتوقع العذاب الأليم.
هذا وفي الآية نص على وجوب الوفاء، وعلى شكر النعمة، وأنه لَا يصح أن يخاف المؤمن أحدا غير الله تعالى، وقد أوجب الله عليهم الوفاء بالعهد فقال تعالى:(1/209)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
(وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
أخذ الله تعالى عهدا بأن يؤمنوا برسله، إذا أرسلهم الله تعالى إليهم مؤيدين بالمعجزة، ولا يكفروا بالرسل بعد أن يتبين الهدى؛ ولذا أمرهم بأن يؤمنوا بالكتاب الذي أنزله الله تعالى على محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر الرسول ابتداء بل ذكر ما أنزل على ذلك الرسول، وإن الإيمان به يتضمن الإيمان بصدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأن ذات المنزَّل هو الحجة الدامغة، وهو فيما يدل عليه من علم حجة عليهم، لأنه مصدق لما عندهم فهو يحمل في نفسه دليل صدقه، وذكره أخذ للحجة عليهم ابتداء وإذا آمنوا بالكتاب فقد آمنوا لَا محالة برسالة من نزل عليه الكتاب الحكيم؛ ولأن ما نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق الذي لاريب فيه؛ فهو يدعو إلى تصديقه، وقوله تعالى: (مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ) بما يدل على أنهم إذا آمنوا بهذا الكتاب المنزل من عند الله يؤمنون بما عندهم، وأنهم إن كفروا به يكفرون بما عندهم.(1/209)
وهذا يدل على أن الذي نزل على موسى، وبقى عندهم من تعاليمه يصدق ما في هذا الكتاب، إذ التعاليم واحدة في أصلها وفي لبها، ولذا قال محمد صلى الله تعالى عليه ولمملم: " لو كان موسى بن عمران حيًّا ما وسعه إلا اتباعي " (1).
وإن التوراة التي نزلت على موسى فيها التبشير بمحمد - صلى الله عليه وسلم -: (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاة وَالإِنجيلِ)، وإن قوله تعالى: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْن يَدَيْه مِنَ الْكِتَابَِ. . .)، وقوله في هذا النص الكريم: (مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ) لَا يدل على أن التوراة الحاضرة صادقة لم يعترها تحريف ولا تبديل، فإن القرآن قد نص على التحريف، إذ يقول سبحانه وتعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ. . .)، وقال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُم لَفَريقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هوَ مِن عِندِ اللَّهِ وَمَا هوَ مِقْ عِندِ الَلَّهِ. . .)، وإذا كانوا يريدون أن يستدلوا من القرآن على صدق ما عندهم، فليأخذوا به كله، لَا أن يتعلقوا بحرف مما جاء فيه ويستدلوا به.
وإن معنى (مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ)، أي ما بقي معكم من غير تحريف ولا تبديل وهو الرسالة الموسوية في أصلها ومعناها من عبادة الله وحده، ومن إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن تبشير بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وهم يعلمون. كما قال تعالى: (الذينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ. . .).
وبعد أن طالبهم الله تعالى بأن يؤمنوا بما أنزل من كتاب بين لهم أنهم جديرون بأن يسارعوا إلى الإيمان لمعرفتهم ما جاء فيه من الحق، وأن يكونوا أسوة للمشركين الذين لم يؤتوا علم الكتاب، ولم تكن لهم البينات التي عندهم، فقال سبحانه: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ)، أي: لَا تكونوا أول من يكفر به.
وأول " أفعل " في وزنه، والبصريون يقولون إنه لَا فعل له، والكوفيون يقولون إن له فعلا، هو من وأل إذا نجا، فـ " وأل " فعل بمعنى نجا وخرج ومنه اشتق أول.
________
(1) أخرجه أحمد: ما في مسند المكثرين (4 1 0 4 1)، والدارمي: المقدمة (436) بنحوه. .(1/210)
وهنا مسألتان نتكلم فيهما قد تبينان ناحية من نواحي الآية الكريمة:
الأولى - أن الله تعالى يقول: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) والخطاب لجماعة لا لواحد، فالظاهر من سياق القول أن يقال أول الكافرين به، ولكن الله تعالى اختار التعبير بالمفرد، على تقدير الفريق، والمعنى لَا تكونوا أول فريق يكفر به، أي لاتكونوا أول من يجتمع على الكفر به، باعتبارهم موحَّدين في الفكرة والغاية، وأنهم يتضافرون فيما يفعلون، وإن المراد تقبيح أن يقع منهم فعل الكفر، أو أن يقع فيهم الكفر، لأنهم أهل علم بالنبوة، وفي ذلك إغواء لهم بالاتباع وحث لهم على الإيمان الأنهم أولى به وأجدر.
الثانية - أنهم إن كفروا فلن يكونوا أول الكافرين لأن قوما من قريش قد كفروا به من قبل في مكة، وهذه الآية في سورة مدنية فكيف ينهون عن أن يكونوا أول كافر به، ونقول: إننا فسرنا أول كافر بأول فريق يكذب به، وإن قريشا لم يكفروا على أنهم فريق، بل كفروا به آحادا، ثم كان منهم من يؤمن، وقيل إن المراد أول كافر به من أهل الكتاب.
ومهما يكن من تخريج، فالآية الكريمة تحث على المسارعة في الإيمان، وأن يكونوا أول الجماعة المؤمنة.
قوله تعالى: (وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) أي لاتستبدلوا بآيأتي القائمة المبينة للحق، وتتركوها في نظير أي أمر من الأمور، فهو مهما يكن ثمن قليل بالنسبة للآيات البينات الدالة على الحق؛ لأن الحق أغلى ما في الوجود، فإذا ترك فإن ثمن تركه لَا يمكن أن يكون في منزلته، والتنكير في قوله تعالى: (ثَمَنًا قَلِيلًا) للدلالة على أن أي ثمن - مهما يكن - قليل بالنسبة لذات الحق، وأنهم كانوا يتركون الحق لمآرب دنيوية، وهو السلطان والغلب والمفاخرة، وغير ذلك مما تدفع إليه أهواء أهل الدنيا.(1/211)
وبعد ذلك التحريض والحث على الاتباع، وبيان أنهم إن اشتروا بالحق شيئا فهو ثمن قليل، بعد ذلك حذرهم من ترك الحق، وخوفهم من عاقبة هذا الترك، فقال: (وَإِيَّايَ فَاتَّقونِ) تحذير من المخالفة بالتقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى والمعنى: وإياي فاحذروا (فَاتَّقُونِ) النون هنا نون الوقاية التي تكون بين الفعل وياء المتكلم، والفاء جواب عن شرط مقدر أفصحت عنه، والمعنى إن كان هناك من يتقى عذابه ومن يجب أن تكون وقاية بينكم وبينه، فاتقوني أنا وحدي، أي اجعلوا بينكم وبين عذابي وقاية تقيكم من عذاب النار.
أمرهم سبحانه وتعالى أن يؤمنوا بالحق وهو الكتاب الذي أنزل مصدقا لما معهم، وهو القرآن الذي نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وإن الأمر بالإيمان بالقرآن أمر بالإيمان بمن نزل عليه القرآن.
وإن اليهود من دأبهم التمويه، ليصلوا من وراء ذلك إلى باطلهم؛ ولذا قال تعالى ناهيا لهم:(1/212)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
(وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
اللبس معناه الخلط ومزج شيئين بعضهما ببعض، حتى لَا يميز أحدهما عن الآخر، ولبست الحق بالباطل أي خلطت بينهما، بحيث لَا يميز الحق عن الباطل الذي اختلط، فلا يدرك إلا مشوبا بالباطل، فلا يكون الحق واضحا لَا تحوطه الريب والظنون، ويقال إن الرجل ملبوس عليه إذا اختلط عليه الحق بالباطل، ولقد روي عن علي كرم الله وجهه لبعض صحابته: (يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله).
واليهود قد غيروا في كتبهم، فلبسوا الحق بالباطل فنهاهم الله عن ذلك، وقال تعالت كلماته: (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) وقد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية أن معناها: لَا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل، وهو التغيير والتبديل.(1/212)
والمعنى الجملي للنهي، لَا تخلطوا الحق الذي جاء في شرع موسى عليه السلام بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه بأيديكم، كما توهمتم في التوراة التي بأيديكم من أن هارون عليه السلام عبد العجل مع الذين ضلوا منكم، فهم يخلطون بين الحق والباطل، فيلتبس الحق، وتختفي معالمه، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، ونهاهم عن أمر آخر، يقع منهم، وهو أن يكتموا ما أنزل الله تعالى، فإنهم يعملون عملين: أولهما: أن يخلطوا الحق بالباطل، فلا يدرك الحق على وجهه، ولا يعرف صريحه مما اختلط به، وكذلك شأن المضللين يأتون ببعض الحق، ويخلطونه بالباطل، فيختفي نور الحق ببهرج الباطل. الثاني: أنهم يكتمون الحق الذي لا التباس فيه، ولم يستطيعوا أن يخلطوه فيكتموه ككتمانهم البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وكتمانهم تحريم الربا وقد نهوا عنه، وغير ذلك مما حرم كتمانه، وكاستباحتهم ما حرم عليهم يوم السبت، وغير ذلك.
وقد نعى الله تعالى عليهم ذلك الكتمان للحق، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160).
وإنهم إذ يكتمون الحق من الكتاب يفعلونه متعمدين قاصدين التضليل؛ لأنهم يعلمون ما يلبسون به الحق بالباطل، ويعلمون ما يكتموته؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) الحق فيما لبستم به، وتعلمون الحق الذي كتمتموه قاصدين كتمانه.
وقوله تعالى:(1/213)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) معطوف على قوله: (وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا مَعَكُمْ) أو بالأحرى معطوف على قوله تعالى: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ(1/213)
عَلَيْكُمْ) فقد أمرهم تعالى بأوامر متعاقبة بعضها مترتب على بعض، أولها أن يذكروا نعمة الله تعالى ليتدبروا ويتفكروا ولعلهم يشكرون هذه النعم، ولا يكفرونها، ثم أمرهم سبحانه بأن يوفوا بالذي عاهدهم عليه، وأن يوفي لهم بعهده بأن يكفِّر عن سيئاتهم، ويدخلهم الجنة، ثم حذرهم وأرهبهم، ثم طالبهم بأن يؤمنوا بما أنزل من الكتاب الذي يصدق ما معهم، وألا يكونوا أول كافر به، ثم حذرهم، وشدد في أمرهم بالتقوى ثم نهاهم عن أن يخلطوا الحق بالباطل، وألا يكتموا الحق الخالص.
ثم بعد أمرهم بالإيمان أمرهم بالصلاة التي هي لب الإيمان، وهذه الصلاة نزل بها الكتاب الكريم الذي جاء مصدقا لما معهم، وهي الصلاة التي أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلمها، وقال: " صلوا كما رأيتموني أصلي " (1)، لأنها لازمة الإيمان بالقرآن الذي أمر بالإيمان به، وأمر بالزكاة، وبذلك أمر بركني الإسلام، وشعبتيه، وهما تهذيب الروح بالصلاة، ومثلها الصوم، والثاني قيام بناء اجتماعي متعاون فأمر بالزكاة، وبقية العبادات بل التكليفات كلها لَا تخرج عن هاتين الشعبتين: تهذيب الروح، وربط المجتمع بالتعاون الوثيق.
ثم قال تعالى: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) وذلك إما بالاندماج بالصلاة في جماعة المسلمين، والائتلاف معهم في جماعاتهم، وإما بالخضوع المطلق لله رب العالمين، ولعل المراد باركعوا مع الراكعين الأمران معا وهو الصلاة في جماعة، والخضوع بالائتلاف مع الراكعين، والاندماج فيهم، والله تعالى أعلم.
* * *
________
(1) بهذا اللفظ هو رواه البخاري: كتاب الأذان (595)، عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه.(1/214)
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
* * *
هذا خطاب لبني إسرائيل في أمرٍ يفعله علماؤهم، ويرضى به سائرهم، فيلامون جميعا عليه، وهو خطة يسير عليها أسلافهم، ويرضى عنها أخلافهم، فصح أن يخاطب بها جميعهم، إذ هو عيب فيهم سلفا وخلفا، وهو عيب الناس إذا ضعف وازع الدين، وغلب عليهم حب الدنيا، وهو أن يأمروا الناس بالحقائق الدينية، ويدعونهم إليها، ولا يأخذون بهديها، وتلك إحدى صفات النفاق، وهي شأن الذين يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون ما أنزل الله تعالى، فيكون قولهم مخالفا لفعلهم (كبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).
كان أحبار اليهود في كل أدوارهم عندما صار التدين شكلا لَا روح فيه، ومظهرا لَا حقيقة له كانوا يذكرون للناس حقائق دينية، لَا يعملون بها، ويعلنون أمورا في نجواهم ينكرونها في جهرهم، فكانوا يقررون أن أوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم، وينكرونها أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لكيلا يحاجوهم بها عند ربهم، وكأنه سبحانه وتعالى لَا يعلم خفي أمرهم.
ولذا خاطبهم الله سبحانه وتعالى مستنكرًا تلك الحال فيهم، لأن من فعلها منهم لم ينكرها سائرهم، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، أي أنه كان منهم،(1/215)
ويستنكره الله تعالى عليهم، وإنكار الواقع توبيخ، وبيان أنه لَا يصح، ولا ينبغي أن يكون، والبر هو الخير، وهو ضد الإثم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عرف الإثم بأنه " ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس " (1).
والنص استنكار لحالهم من أنهم يأمرون الناس بالخير، وينسون أنفسهم، أي يتركونها من غير توجيه إليه، ويكونون بمنزلة من ينسونها، ولا يفكرون في أمرها، مع أن دواعي التذكير والتفكر في ذات أنفسهم قائمة لأنهم يتلون الكتاب؛ ولذلك قال تعالى في هذا النص السامي:
________
(1) رواه مسلم: كتاب البر والصلة (4632)، وأحمد: مسند الشاميين (6973 1). من حديث نواس بن سمعان الكلابي الأنصاري. وبنحوه رواه الترمذي والدارمي.(1/216)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
(وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ) أي وأنتم تجددون تلاوته آنا بعد آن، فالاستنكار للحال التي يجتمع فيها الأمر بالخير والحث عليه مع ترك أنفسهم لَا تفعلها، وكأنهم نسوها ولم يذكروها، والذكر دائم مستمر، وليس الاستنكار للبر مجردا عما لابسه من حالهم، لأن الأمر بالبر في ذاته ليس بمستنكرٍ، ولا يمكن أن يكون مستنكرًا؛ لأنه دعوة إلى الحق، ولا تنكر الدعوة إلى الحق في ذاتها.
وإن حالهم من دعوة إلى الحق مع نسيان أنفسهم، وتركه مع استمرار التذكير به، وكان ينبغي مع التذكير التذكر - لَا يغفله الذين يفكرون ويعملون عقولهم؛ ولذا قال سبحانه: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) والاستفهام هنا للتنبيه إلى مناقضة حالهم للعقل المدرك.
والعقل مصدر عقل بمعنى منع، ثم أطلق على ما يكون به الإدراك السليم لأنه يمنعه من القبيح، ويعقله ويقصره على الجميل، ومعنى الاستفهام، أن حالهم هي حال من لَا عقل له ولا إدراك، و (ألا) هنا - كما ذكرنا - للاستفهام والتنبيه إلى نفَى ما وراءه، والفاء فاء السببية أي بسبب هذه الحال يحكم عليهم بأنهم لا يعقلون، وأخرت الفاء عن الهمزة لأن الاستفهام له الصدارة، فهي مؤخرة عن تقديم.(1/216)
وقد أشرنا إلى أن المستنكر هو الحال المجتمعة من دعوة إلى الخير وعدم العمل مع التذكير الدائم، أما الأمر نفسه فلا إنكار فيه، وقد تكلم الناس في أن من وقع في المعاصي أيجوز له أن ينهى عنها ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أم يطهر نفسه من المعاصي، ثم يتولى الإرشاد؟.
إن الحق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب بنفسه، تركه معصية كغيره، ووقوعه في معاص غيره لَا يسوغ له أن يتركه، فيقع في معصية الترك، نعم إن الموعظة نصابها الألفاظ، كما قال الغزالي في إحدى رسائله، ولكن الموعظة في ذاتها لَا تحتاج إلى نصاب، وقد قال سعيد بن جبير التابعي، الشهيد في الحق الآمر بالمعروف: إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لَا يكون ممن يقع في معصية، فلن يكون هناك داع إلى الخير. ولكن مع ذلك يجب أن يروض المؤمن نفسه دائما على ألا ينهى عن أمر يقع هو فيه، فيمتنع عن النهي عن المنكر، ولكن يمتنع عن أن يقع فيما نهى عنه، كما حكى الله عن نبيه شعيب عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
وإن الواعظ الذي لم يكن يتعظ بوعظه يحاسب على إهماله بأكثر مما يحاسب عليه غيره، ويحاسب أشد من كان يعلم الحق ولا ينطق به، فيُحرم الموعظة والاتعاظ ويحاسب من بعد حسابا عسيرا، ولقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يعافى الأميين يوم القيامة ما لَا يعافي العلماء " (1) وروى: أنه " يغفر للجاهل سبعين حين يغفر للعالم مرة واحدة، ليس من يعلم كمن لَا يعلم " (2).
________
(1) رواه أبو نعيم في الحلية، من حديث عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه عن سيار بن حازم بن جعفر بن سليمان الضبي عن ثابت عن أنس، " والضياء " المقدسي في المختارة من هذا الطريق " عن أنس " بن مالك.
(2) الترغيب والترهيب - الترهيب من أن يعلم ولا يعمل بعلمه ج 1 ص 72. .(1/217)
هذه عيوب من يأمرون بالخير، ولا يأتمرون به ومن ينهون عن الشر، ولا ينتهون عنه، ولكن كيف تربى النفس على أن تكون متعظة قبل أن تعظ؟ ذكر الله سبحانه وتعالى الدواء؛ وهو الصبر، والصلاة، فقال تعالى:(1/218)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ... (45) الاستعانة طلب العون، والمساعدة، وفي استعمال القرآن أنها إذا كانت للمعين تعدت بغير باء، كقوله تعالى: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وفي الدعاء " اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك "، وإذا كانت الاستعانة بما تكون به الإعانة كانت بالباء، فيقال نستعين بكذا لفعل كذا، وهكذا نجد بالاستقراء استعمال القرآن.
وهنا الاستعانة بشيء ولذا تعدت بالباء فقال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) أي استعينوا على تربية نفوسكم لتكون متعظة فاعلة الخير، آمرة به ولا يتجافى فعلها عن قولها. (بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) والصبر ضبط النفس وسيطرة الإرادة، على الهوى، وسيطرة العقل على الشهوة، فإنه إذا سيطرت الإرادة والعقل والفكر المستقيم انقمعت الشهوات، وإذا انقمعت استقامت النفس، وكان التنسيق بين القول والعمل، وقذف الله في القلب بنور الحكمة، والقول الطيب، والعمل، وكل ما في الحياة يحتاج إلى الصبر، فالجهاد قوته في الصبر، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " (1)، ونقص الأموال والأنفس والثمرات إنما يكون بالصبر. كما قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156).
ويقول الفاروق الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الصبر صبران صبر على المصيبة، وهو حسن، وصبر عن المعاصي وهو أحسن (2). فالصبر على المعاصي، هو السيطرة على الأهواء والشهوات، وهو تهذيب النفس وتقويمها.
________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: الجنائز (1203). مسلم: الجنائز (1534).
(2) رواه ابن أبي حازم. [جامع الأحاديث والمراسيل (2188) مسند عمر بن الخطاب ج 14 ص 91].(1/218)
هذه كلمات موجزات في الصبر، وهو طريق السيطرة على النفس؛ ولذا أمرنا الله تعالى بالاستعانة به.
أما الصلاة فإنها بما اشتملت عليه من ركوع وسجود وقراءة، وخشوع، واستحضار لعظمة الله تعالى وإحساس بأنه في حضرته وواقف بين يديه سبحانه وتعالى تنفعل نفسه في وجودها بحضرته، بأوامره، ونواهيه، وطلب مرضاته. ولقد قال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. . .)، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا حزبه أمر صلى " (1) وكان يأمر بالصلاة، من كان به وجع ليصبر وينسى ألمه، فيقول - صلى الله عليه وسلم -: " قم فصل فإن الصلاة شفاء " (2) لأنه يكون في مناجاة بينه وبين ربه، فينسى الدنيا وما فيها ينسى ألمه ووجعه، وهمومه.
وإن الصبر والصلاة تجعلان النفس تتغلب على المحن، كما تتغلب على الإحن، فيلقى الله تعالى بقلب سليم، قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35).
وإن الاستعانة بالصبر والصلاة ليست أمرا هينا لينا، ولكنها أمر عظيم خطير، لا يتلقاها إلا النفوس القوية ذات العزيمة الحازمة؛ ولذا قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ).
الضمير في قوله تعالى: (وَإِنَّهَا) قيل إنه يعود إلى الضمير المنسبك من (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)، لأن الصبر والصلاة الحقيقية أمران كبيران خطيران
________
(1) رواه أبو داود: الصلاة (1124)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (0 2221) عن حذيفة رضي الله عنه.
(2) رواه ابن ماجه: الطب (3449) وأحمد: باقي مسند المكثرين (5 870)]. وفي الزوائد: في إسناده ليث، وهو ابن سليم.(1/219)
عظيمان يسيران بالنفس في مدارج الكمال النفسي والروحاني، فيكون الانسجام بين القول والعمل، ولكن قد يقال إن المصدر غير موجود، والضمير يعود إلى أقرب مذكور، فعوده إلى الصلاة أقرب وأظهر، ولذلك قال الأكثرون إنه يعود إلى الصلاة.
ولا شك أن الصلاة إذا أديت على وجهها باستحضار عظمة الله والشعور بأنه في حضرته سبحانه وتعالى، حتى كأنه يراه ويخاطبه بقرآنه عندما يتلو آياته، وأنه عندما يقول: إياك نعبد، وإياك نستعين يحس بأنه في حضرته، وأنه يخاطبه، وأنه يناجيه، فمقام (إِيَّاكَ نَعْبدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، مقامٌ، لَا يندرج فيه إلا الخاشعون.
والخاشع هو الخاضع المتطامن الساكن الذي لَا يتحرك لشهوة، والخشوع مظهر الخضوع الذي يظهر في الأعضاء والجوارح، ولذلك يسند إليها فيقول تعالى: (وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)، فالخشوع خضوع كامل في النفس والجسم، وأصله في القلب؛ قال عمر لشاب قد نكس رأسه فقال له: " يا هذا ارفع رأسك فإن الخشوع ما في القلب " (1). وقال علي كرم الله وجهه: الخشوع في القلب، وأن تلين نفسك للمرء المسلم، وألا تلتفت في صلاتك (2).
وقد ذكر سبحانه أثر الخشوع في القلب والعقل والنفس، فقال تعالى:
________
(1) جامع الأحاديث والمراسيل (2 271) - مسند عمر بن الخطاب ج 14 ص 167.
(2) هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. [المستدرك للحاكم (3529) - شرح معنى الخشوع - ج 2 ص 426]. ورواه عبد الله بن المبارك، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حازم، واّبو القاسم بن منده في الخشوع.(1/220)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
عرف الله سبحانه وتعالى الخاشعين بأخص صفات المؤمن، وهو الإيمان بالغيب، لأنه فرق بين الإيمان والإسلام والزندقة، وإن أبلغ الإيمان بالغيب تأثيرا(1/220)
في النفس الخاشعة الإيمان بلقاء الله تعالى الذي يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بجزاء ما يعمل، ولذلك ذكر إيمان الخاشعين بلقاء الله تعالى فقال تبارك وتعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ) الظن يطلق بمعنى العلم الراجح، ومن ذلك قوله تعالى: (إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْن بِمُسْتَيْقين)، ويستعمل الظن بمعنى اليقين: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا)، وقوله تعالى: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ).
والظن بمعنى العلم اليقيني، ولكن التعبير عن العلم بالظن يفيد مع اليقين توقع الأمر المعلوم، فمعنى (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ)، أنهم يتوقعون هذا اللقاء وقتا بعد آخر، فهم يؤمنون إيمانا صادقا بلقاء الله، ويترقبون ذلك اللقاء، وينتظرونه متوقعين له، فيقينهم يقين المتوقع المترقب، فيكون في قلوبهم دائما ويستعدون له بعمل صالح يقدمونه رجاء أن يغفر لهم وأن يتغمدهم برحمته، ويكفر عنهم سيئاتهم.
والتعبير بـ (رَبِّهِمْ) فيه شعور بنعمه تعالى عليهم، لأنه هو الذي رباهم وأنشأهم وتعهدهم في الوجود، كما يتعهد المزارع زرعه بالسقي والإصلاح.
ويؤمنون مستيقنين متوقعين أنهم إليه وحده راجعون، وتقديم (إِلَيْهِ) للدلالة على أنه وحده الذي يرجعون إليه ويجزيهم بالإحسان إحسانا وأنه الغفور الرحيم.
هذا الذي مضى من القول الكريم من قوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) خطاب لبني إسرائيل الحاضرين منهم والماضين باعتباره واقعا منهم في حاضرهم وماضيهم، وهو يصلح خطابا لبني إسرائيل وغيرهم لما فيه من توجيه وتهذيب وإصلاح بين الناس، وبه تستقيم أمورهم في معاشهم ومعادهم.
ذكر الله تعالى بعد ذلك بني إسرائيل بنعمه عليهم، فقال تعالى:
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)(1/221)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
تكلمنا في ماضي قولنا في معنى النداء بيا بني إسرائيل، وأشر نا إلى النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، وقد ذكر نعمة لم يذكرها سبحانه وتعالى فيما مضى من قوله الحكيم، وهو أنه سبحانه وتعالى فضلهم على العالمين، والعالمون جمع عالم كما ذكر من قبل، ويراد أهل العقل والتفكير في هذه الأرض.
والتفضيل ليس تفضيل ذواتهم على غيرهم كما توهموا هم، ودلاهم غرورهم، فزعموا أنهم صنف الله المختار، ودلوا على الناس بذلك بل دلوا على الله تعالى وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، وأكلوا الحقوق، وعاملوا غيرهم بكل أمر ليس فيه خلق ولا دين، وقالوا ليس علينا في الأميين سبيل.
ليس التفضيل لذواتهم إنما الفضل الذي اختصهم الله تعالى به في جيلهم أنه
جيل فيهم أنبياء، ودعاهم أولئك الأنبياء إلى التوحيد لله سبحانه وتعالى، فقد كانوا موحدين كما دعاهم موسى ومن جاء بعده من الأنبياء في وسط وثنيين، فكان كل من حولهم وثنيين؛ فالمصريون وثنيون يعبدون الشمس ومن دونها، والفرس يعبدون النيران، والروم يعبدون الأوثان، واليونان من قبلهم على شاكلتهم، والبابليون يعبدون الكواكب، وهكذا كان جيلهم الأول جيل موسى، وحين نزول التوراة على موسى.
اختارهم الله تعالى أن يكونوا قوم موسى، وأن يكون التوحيد فيهم، وكان مقامهم يمكنهم من أن يدعوا إلى التوحيد؛ لأنهم كان مقامهم في وسط تلك الأراضي التي كان يسكنها الوثنيون.
وإن ذلك التفضيل نعمة أنعم الله تعالى بها عليهم، وأنها توجب شكرا، وتحملهم تكليفا، أما الشكر فلأن شكر النعم واجب بحكم العقل، وبحكم التكليف الإلهي وقد كفروا بأنعم الله تعالى، وأما التكليف الذي حملوه فهو الدعوة إلى الوحدانية ولم يقوموا بحقها، بل إنهم اعتبروا اليهودية جنسا، ومن دخل معهم في(1/222)
ديانة موسى عليه السلام من غيرهم كالسامرة لم يعترفوا به، وبذلك ضلوا ضلالا ولقد أخذ بعد ذلك سبحانه يذكر موجبات التفضيل وغايته فقال تعالى:(1/223)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
(وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
(وَاتَّقُوا) أي اجعلوا لكم وقاية تقيكم عذاب يوم شديد الهول، فيه العذاب الشديد، ولا ينفع نفسا إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل، وهو يوم القيامة، وقال سبحانه: (يَوْمًا) بالتنكير لتذهب النفس مذاهب شتى في تصوير هوله، والإبهام وحده يوجد رهبة، ويشعر بالتهويل، وبأنه لَا يحد عذابه وصف، ولا هوله ذكر، وإن ذلك اليوم الذي اتقاؤه بالعمل الصالح والقيام بالحقوق التي للغير، وأداء الواجبات التي عليه، يتقدم فيه الإنسان منفردا إلا من عمله، لَا يجزيه إلا عمله إن خيرا فخير، ولا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، أي لَا يجزي عمل نفس عن نفس شيئا من الجزاء، فيقدر في قوله لَا تجزي نفس عن نفس أي عمل نفس عن نفس أخرى، أو نقول تجزي بمعنى تقضي، أي لَا تقضي نفس عن أخرى أي شيء قلَّ أو جل، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وكل امرئ بما كسب رهين.
وعقب سبحانه وتعالى بما يؤكد أن النفس لَا يجزى عنها غيرها، وأنه لَا منفعة إلا من عملها، فقال تعالى: (وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) والشفاعة من الشفع، والشافع يضم قوته إلى من يشفع فيه، فلا يقبل الله تعالى شفاعة من أحد لأحد، إنما العمل وحده هو الذي ينفع كما قال تعالى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة الشَّافِعِينَ)، وإذا كان للأنبياء شفاعة فبأمر الله تعالى وحده (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضي وَهُم منْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)، (وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) أى لَا يؤخذ منها بدل، فالعدل البدل، فلا ينجيهم من عذاب شفاعة ولا فدية من العذاب ببدل يدفع،) (وَلا هُمْ يُنصَرُونَ) لأنه لَا ناصر إلا الله، لمن الملك اليوم؛ لله الواحد القهار.(1/223)
أخذ سبحانه وتعالي يذكر النعم التي أنعمها عليهم، وابتدأ بنعمة الإنقاذ، فقال تعالى:
* * *
(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
* * *
ابتدأ سبحانه وتعالى بأعلى النعم التي أنعم بها عليهم، وهي نعمة الإنقاذ من شر من في الوجود إبان ذلك، وهو فرعون الذي اتخذه الفساق الظالمون من الحكام قدوة يقتدون به في مظالمه، وإن لم يستطيعوا أن يصلوا إلى أن ينتصروا في الحروب مثل انتصاره في عصره.
أنقذهم الله تعالى على يد موسى كليم الله من بطش فرعون، وقد كان بطشه شديدا بهم، لأنهم كانوا يعدون أجانب في مصر، وكانوا أعداء لهم، فكان فرعون يتخذ السبيل لإفنائهم، أو إضعافهم، فكان يقتل شبابهم ذبحا، ويبقي النساء، ويقول سبحانه وتعالى:(1/224)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومونَكمْ سوءَ الْعَذَابِ).
قال سبحانه وتعالى: (وَإِذْ نَجنَاكم) أي اذكروا الوقت الذي أنجيناكم فيه من آل فرعون، فإذا تدل على الوقت الماضي، ومعنى ذكر الوقت ذكر ما كان فيه من أحداث خطيرة وشديدة، واستحضار الأهوال التي كانوا يعيشون في بأسائها،(1/224)
وضرائها، وإنه تقدر النجاة من الله تعالى بمقدار ما كان هول الأمر الذي نجاهم الله تعالى منه.
ولقد قال تعالى: (آلِ فِرْعَوْنَ) ولم يقل أنجاكم من فرعون، وذلك لأن آله شيعته ونصراؤه وأعوانه، وطغاة الدنيا يكون شرهم من أنفسهم أولا، ومن حاشيتهم الذين يحطون على أهوائهم ثانيا، فيزينون لهم ظلمهم، ويسمونه عدلا ويبينون له وجوه الكيد، ويمكرون مكرهم، فلولا بطانة السوء ما كان السوء، ولولا حاشية فساق الحكام ما استمكنوا، وما طغوا في البلاد، وكلمة حق من حاشيتهم تقيم عدلا، وتدفع ظلما.
لذلك عبر بآل فرعون، لأنه لم يستمكن وحده من الظلم.
وذكر سبحانه ما كان يفعله فرعون وآله، فقال سبحانه: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) أي يذيقونكم سوء العذاب ويجعلونه ملازما لكم لَا تفارقونه، ولا يفارقكم، ويقال: سامه خطة خسف، وأولاه خطة خسف، أي جعل ولايته خسفا وعسفا، ولقد قال عمرو بن كلثوم الفارس العربي:
إذا ما المَلكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا ... أَبَيْنَا أنْ نُقِرَّ الخَسْفَ فِينَا
وسوء العذاب أشد سوءا وأثرا في النفوس، ويديمونه؛ لأن " سام " تدل على الدوام، ومن ذلك السائمة التي تديم الرعي في الكلأ، وبين سبحانه وتعالى هذا العذاب الهون فقال مبينا: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) فهم يعملون على إفناء الذكور، وإبقاء النساء.
والتعبير بـ (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) كناية عن العمل على إفنائهم وتخضيد شوكتهم وإبعادهم عن مواطن السلطان، وذلك بذبحهم أحيانا، ووضعهم في مواضع الذل والمهانة، والغاية ألا يكون لهم وجود قائم بذاته، فقد حكى عنهم أن فرعون كان(1/225)
يذبح منهم، وكان يتخذ منهم عمالاً مسخرين في الأبنية التي يشيدها، وكان يسخرهم لحرث الأرض، والثمرة لغيرهم ليذلهم، وكان يتخذ منهم خدما في البيوت وهم الأرذلون.
وذكر الذبح بالذات، وهو إحدى وسائل فرعون لسوء العذاب الذي كان يذيقه إياهم لأنه أشدها هولا، ولأن إفناءهم هو الغاية، وهو أقرب طرقه، وهو المصدر لما كانوا عليه من الآلام.
وقوله تعالى: (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكمْ) أي أبقوهن أحياء لم يذبحوهن، وكانوا راغبين في ذلك، ولذلك كانت السين والتاء اللتان تدلان على الطلب، والمعنى طلبوا حياة نسائهم لغايات في نفوسهم وليشبعوا بهن شهواتهم، وقد بين الله تعالى أن ذلك هول شديد تختبر به نفوسهم؛ ولذلك قال تعالى: (وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ) الإشارة هنا إلى هذا العذاب الشديد السيئ، والخطاب لهم، ولأن الإشارة إلى ما نزل بهم جعل الخطاب لهم لَا بالكاف المفردة بل بالكاف وعلامة خطاب الجمع، وبلاء معناه الاختبار الشديد لتتربى نفوسهم على التحمل، ولبثَّ الرحمة في قلوبهم، لأنه لَا تكون الرحمة إلا بالآلام الشديدة التي يحس بها الشخص فيرحم غيره، فإنه لَا تنبع الرحمة إلا من قلب أحس بالآلام، وتربى في أحضانها فلا يكون قاسيا على الناس، ويكون رحيما بهم، فكان هذا البلاء الفرعوني تربية لنفوسهم لتكون بارة؛ ولذلك قال: (مِّن رَّبِّكُمْ) أي من الله الذي خلقكم، وربكم بعنايته وحماكم بكلاءته، ووصفه سبحانه وتعالى بأنه (عَظِيمٌ) لكبر هوله، وبعد أثره.
وإن الله تعالى مكَّنَ فرعون منهم لكي يعلموا أنهم ليس لهم فضل لذواتهم، ولكن لما هيأهم الله تعالى لتلقي رسالته، وتبليغ كلمته، وهي كلمة التوحيد، والعمل بالأوامر الإلهية.
ولقد بين الله سبحانه وتعالى كيف نجاهم بقدرته الإلهية القاطعة في الدلالة على إخراجهم من ظلمات القهر والطغيان إلى نور العدالة والإيمان، فقال تعالى:(1/226)
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
(وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) والمعنى اذكروا ذلك الوقت الذي فرقنا أي أوجدنا شقا طوليا في البحر من ساحل مصر إلى ساحل سيناء، وقد كان متصل الأجزاء، وسطحا لَا فرقة فيه ولا انشقاق، فسرتم فيه، كأن الماء قد افترق على قدر حاجتكم، وسرتم فيه آمنين مطمئنين، وسار وراءكم الذين عذبوكم، ودبروا السوء لكم، وذبَّحوا أبناءكم، واستحيوا نساءكم لأهوائهم، وهم آل فرعون الذين ناصروه وأيدوه، وقد ازدلفوا من ورائكم فأغرقهم، وأنتم تنظرون إلى تدبير الله تعالى، وإعجازه، وأنتم ترونه رأي العين لَا بالخبر والسماع.
وقد فصل الله سبحانه وتعالى تلك النجاة وذلك الإغراق وما أحاط بهما بعض التفصيل، فقال تعالت كلماته في سورة الشعراء: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68).
نجا بنو إسرائيل، وظهرت آيتان؛ إحداهما أن موسى عليه السلام ضرب البحر بعصاه، فانشق وانفلق، وكان كل فرق من أقسامه، كأنه الجبل العظيم من الماء.
والثانية أن هذا كان على قدر مسير بني إسرائيل بقيادة موسى عليه السلام، وظن فرعون وآله أن الطريق مفتوح لهم، كما فتح لبني إسرائيل، فساروا وراءهم فانطبق البحر عليهم، وكانوا مغرقين.(1/227)
كانت هذه النجاة بمعجزة من الله تعالى كافية لإيمان الكافر حتى إن فرعون قال آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل، وإن كان لم ينفعه إيمانه، كما قال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92).
نزل بنو إسرائيل أرض سيناء التي انبعث فيها نور الرسالة الموسوية. وكان حقا أن يكونوا أول المؤمنين، ولكن الله أخبر أنه لم يكن أكثرهم مؤمنين مع هذه المعجزات الحسية الباهرة، وكانوا قد ألفوا عبادة العجل من غير بينة ولا دليل بل قلدوا المصريين تقليدًا في عباداتهم، وتأثروا طريقهم، وألفوا ما ألفوه هم، وإن الهوى والوهم هما اللذان سيطرا على نفوسهم، فضلوا بضلالهم، ولذلك صنعوا عجلًا من الحلي؛ وجعلوه في مهب الريح، فكانت الريح إذا مرت به كان له خوار كخوار العجل الحي؛ ولذلك قال تعالى:(1/228)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
(وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
هذا ما كان منهم كفرا بالنعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم، وفيها الدلالة القاطعة مع النعم الظاهرة، ومع ذلك قلدوا المصريين في عبادتهم.
واعد الله تعالى نبيه موسى عليه السلام على أن يترك بني إسرائيل لتلقي التوراة، وفيها الألواح العشرة التي تتضمن التكليفات التي كلف الله تعالى بني إسرائيل.
فتركهم فتحرك فيهم ما ألفوه من عبادة العجل، كما كان يعبد المصريون العجل وقد جعل لهم السامري ذلك العجل من الذهب، وكان عجلا جسدا لَا حياة فيه، ولكن كان له خوار أي صوت كصوت البقر، إذا مرت الريح في التجاويف التي صنعت فيه، وقد ذكر الله تعالى هذا العجل المصنوع ببعض قليل من البيان في(1/228)
سور أخرى، وذكر عنهم الله تعالى في هذه السورة أنهم عبدوه، وأن هارون أخا موسى وردءه في الرسالة نهاهم عن العبادة، وقد خلفه موسى فيهم، فقال تعالى حكاية في ذلك: (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91). وذكر تمام ذلك في سورة طه: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97).
* * *
وقد نسبت العبادة إلى كلهم، والذي عبد العجل بعضهم؛ لأن الذين لم يعبدوا لم ينهوا غيرهم فكانوا مثلهم كما قال تعالى فيهم: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79).(1/229)
ومعنى لنحرقنه أي نحكه ونبرده ثم بعد برده لننسفنه في اليم نسفا، وذلك كقولهم حرَّق الأرَّم (1) أي حكها حكا شديدًا.
هذا خبر عبادتهم العجل، وكيف كانت وذلك لتأثرهم طريق المصريين، وسلوكهم طريق الأوهام التي سلكوها. وقوله: واعدنا موسى أربعين ليلة فيها قراءتان: إحداهما (وعدنا موسى)، والقراءة الأخرى: (واعدنا موسى)، وإن المواعدة لَا تكون إلا بين طرفين، وذلك بعيد عن الله تعالى، ولذا قيل إن معنى واعدنا ليس المفاعلة التي تكون بين طرفين، بل معناها وعدنا، وقد تستعمل: صيغة فاعل في غير معنى المفاعلة، كقولهم داويت العليل، وعالجت المريض، وعاقبت المجرم.
وعندي أن المواعدة على معناها وهي من الله الوعد، ومن موسى التلقي والاستجابة وإنجاز ما وعد الله.
توالت نعمة الله تعالى، ولكنهم فتنوا بما كان عليه المصريون الأقوياء، وكانوا هم الضعفاء، والضعيف دائما مأخوذ بتقليد القوي، فسرى ما عند الأقوياء، وهم قوم فرعون إلى الضعفاء، وكانوا يشعرون بالمذلة والاستكانة، وشعروا من بعد بأنهم ذلوا، فتابوا وتاب الله تعالى عليهم وعفا عنهم، وعدَّ الله تعالى ذلك عليهم نعمة، فقال تعالى:
________
(1) حرَّق الحديد حرقا: برده، يقال: حرقه بالمبرد. ويقال: هو يحرق عليه الأُرَّم: يحك أضراسه بعضها ببعض من الغيظ. [الوسيط - أرم - ح رق].(1/230)
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
(ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
أي أن هذه الجريمة الكبرى، وهي الإشراك بالله تعالى ما كانت لتغفر، ولكن الله تعالى عفا عنها، والتعبير هنا بـ (ثُمَّ) الدالة على التراخي والبعد، لبيان بُعد ما كان منهم عن أن ينالوا من بعده عفو الله تعالى، ولكنه سبحانه وتعالى توَّاب رحيم وسعت رحمته كل شيء ما دامت التوبة قد حصلت.(1/230)
وهنا نجده سبحانه وتعالى عبر بالعفو، ولم يعبر بالغفران وقبول التوبة، وذلك لأن العفو يكون عما وقع بجهالة، وهم كانوا في حال جهالة، لتأثرهم بما كان عند المصريين من عادات جاهلية، ولأنهم خرجوا من ذل المعاصي إلى عزة الحق، فكان العفو أدنى إليهم، لأنهم كانوا في فتنة.
وقوله من بعد ذلك الكفران، والفتنة التي أضلتهم، فالإشارة إلى البعيد، لبعد ما ارتكبوا عن موجب العفو الذي نالوه، فهم كفروا كفرانًا مبينا، ولكن التوبة تجبُّ ما قبلها، ولم يكن الخطاب بالجمع لأن فتنة العجل لم تكن منهم أجمعين، بخلاف ما كان يسومهم به فرعون وآله من عذاب، فقد كان يعمهم، ولا يخص فريقا.
وقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، لعل هنا للرجاء، والرجاء هنا من العبيد لَا من الله، والمعنى: عفونا عنكم لتكون حالكم حال الرجاء لشكر الله تعالى، فالرجاء لأمر يقع أو لَا يقع إنما هو من شأن الناس، ولا يمكن أن يكون من الله تعالى الذي يعلم ما يقع وما لَا يقع، ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض، ولا في السماء، والله سميع عليم.
أو يكون الرجاء من الله تعالى، ويكون بمعنى الأمر، كما يقول السيد لخادمه فعلت معك كذا وكذا رجاء أن تعترف بالجميل، وتشكر لي حسن صنيعي، فهذا يكون حثا على فعل الجميل، بذكر موجبه، وعلى هذا المعنى تكون (لَعَلَّكُمْ) في مقام التعليل لوجوب الشكر، وتكون بمعنى: لكي تشكروا، إن كنتم لَا تكفرون بالنعمة، ولكن تشكرونها.
وبعد أن بين الله تعالى أنه سبحانه وتعالى عفا عنهم، مع عظيم ما ارتكبوا، وأنه سبحانه يدعوهم إلى شكره، وأن حالهم حال من يوجب على نفسه الشكر، بعد ذلك ذكر الله تعالى أنهم قد صاروا في منزلة ليست كمنزلة فرعون وقومه، وآله الذين ناصروه، ومالئوه في كفره، ولم يرشدوه أو يوجهوه إلى طريق الهداية؛ لأنهم ببعث(1/231)
موسى عليه السلام إليهم، قد صاروا أهل كتاب، ولذا ذكرهم الله تعالي بنعمة النبوة فيهم فقال تعالى:(1/232)
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
(وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ ... (53) يذكرهم الله تعالى بنعمه عليه بأن آتاه سبحانه وتعالى الكتاب، وهو التوراة، وفيها أحكام الله تعالى، وأنهم بها يخرجون من حكم الطاغوت الظالم الذي يسيطر عليه هوى فرعون وأوهامه والذي كان لَا يرعى في عذابكم عهدا ولا ذمة، ولا خلقا، ولا مراعاة، تخرجون من هذا إلى حكم الله تعالى بكتاب تتقيدون بأحكامه حكاما ومحكومين، فلا يفرط عليكم حالكم ولا يطغى كما كان بشأن في فرعون لعنه الله تعالى.
والفرقان هو الكتاب نفسه، وهو التوراة، فهي كتاب مكتوب لَا تخالف أحكامه، ومسجل عليكم، وهو ميثاق الله تعالى، وهو مع هذه الحال فارق بين الحق والباطل وحكم الله تعالى، وحكم فرعون، فالتعبير بالفرقان إشارة إلى أنه قد نزل عليهم ما هو مفرق بينهم، وبين ما كانوا فيه، فإذا كانت المعجزة الباهرة أن الله تعالى فرق لكم البحر فخرجتم، فقد فرق بينكم وبين طغيان فرعون بحكمه السماوي، الذي لَا يخالطه باطل ولا ظلم.
وإن هذا الكتاب هو سبيل هدايتكم، ولذا قال سبحانه لعلكم تهتدون، أي رجاء أن تهتدوا بهداية الله تعالى، فالرجاء منهم، أو الرجاء من الله تعالى على معنى أن حالهم فيما أنزل إليهم، وفيما جاءهم من الآيات حال من يرجون الهداية، أو أن ذلك أمر لهم بالهداية، وهم على رجاء منها.
* * *
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً(1/232)
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
* * *
ذكرهم سبحانه وتعالى بعبادتهم في هذا النص الكريم، وهو(1/233)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) وإذ هنا دالة على الوقت الماضي، والمعنى واذكروا ذلك الوقت، يأمر الحاضرين والماضين لأنهم أمة واحدة في ضلال الفكر، والكفر بالنعمة، اذكروا ذلك العمل الفاجر، وما جرى فيه من نسيان للحق والإيمان، واذكروا كيف كان ضلالكم باستهواء قوم فرعون، واذكروا الوقت الذي ناداكم فيه على أنكم قومه، وأنكم نابذتم الحق، واتبعتم الباطل، واذكروا وقت أن قال موسى لكم (يَا قَوْمِ) لأنهم قومه الذين ناصرهم وأيدهم، وأحبهم ولم يتركهم للظالمين، فالنداء بقوله (يَا قَوْمِ) إشارة إلى ما يربطه بهم من مودة ومناصرة، وتأييد، وإعزاز، وتنزيه لهم عن الباطل، فالقريب نداؤه محبوب ومجاب، ولقد منَّ الله تعالى على العرب أن بعث فيهم رسولا منهم، فقال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رحيمٌ).
ناداهم موسى: (يَا قَوْمِ إِنًّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ)، وهذا عتب رقيق لإثم قوي، ومعنى اتخاذ العجل أنهم عبدوه، وعبر سبحانه وتعالى عن عبادة العجل بانهم اتخذوه تنزها عن أن يقول أنهم عبدوه، لأن ما كان منهم وهمٌ باطل لَا يسمى عبادة في الحق، والقول الطيب، ولأنهم لم يعبدوه فقط، بل صنع بأيديهم، أو بأيدي بعضهم، وهو ما لَا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر فهذا كله يدل عليه كلمة اتخذوه.
ولقد أكد موسى نبي الله تعالى عليه السلام أنهم إذ اتخذوا العجل ظلموا أنفسهم، باتخاذهم العجل، أكد ذلك بـ " إن " الدالة على التوكيد، وظلمهم لأنفسهم(1/233)
بأن أضلوها عن الحق، ونوره ساطع بينهم إذ قد قامت لديهم البراهين على قدرة الله تعالى في ضرب البحر بعصا موسى، وانشقاقه، وفي نجاتهم من الذل، وظلموا أنفسهم بأن أعادوا إليها عهد الذل والضلال باتخاذهم العجل، كما كان يفعل الذين أذلوها، وظلموا أنفسهم بكفرهم بالله تعالى، وضلوا ضلالا بعيدًا.
هذه خطيئة ارتكبوها، ولا يكفرها إلا توبة نصوح يقومون بها، وقد بين لهم موسى الطريق للتوبة النصوح أو حقيقة التوبة النصوح، فقال تعالى: (فَتُوبوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتلُوا أَنفسَكمْ) الفاء في قوله تعالى: (فَتُوبُوا) هي فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كنتم قد ضللتم هذا الضلال وظلمتم أنفسكم ذلك الظلم فتوبوا إلى بارئكم أي فارجعوا إلى الله تعالى الذي خلقكم على غير مثال سبق، ومعنى " برأ " أبدع وأنشأ وجودكم، والتوبة رجوع إلى الحق، والتعبير بـ بارئكم يؤكد معنى ظلمهم لأنفسهم، لأنهم تركوا من خلقهم إلى ما خلقوه بأيديهم، وصنعوه تحت نظرهم، ولا يضرهم، ولا ينفعهم.
والطريق الذي بينه موسى هو قوله: (وفَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) أي فابخعوها واجعلوها مطية ذلولا للعقل والإرادة، واقطعوا شهواتها، والتعبير عن ذلك بقتل النفس، لأن النفس الفاجرة الضالة إذا فطمت عن الشهوات كأنها قتلت، وحلت محلها النفس الطاهرة اللوامة التي تقهر الشهوات قهرا، والشرور دائما من الأهواء والشهوات، وقد جاء في الأمثال عند أهل المعرفة: " من لم يعذب نفسه لم ينفعها، ومن لم يقتلها لم يحفظها " وتعذيب النفس الذي يريده أهل المعرفة هو فطمها عن الشهوات.
وقد أخذت الكثرة من المفسرين بظاهر اللفظ وهو القتل، ورووا في ذلك روايات عن بعض الصحابة لم يصح سندها، وبالأولى لم يصح كلام في نسبته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -
واستعمال القتل والبخع بالنسبة للنفوس، وإرادة غير الظاهر كثير في كلام العرب، وفي القرآن كقوله تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ ئفْسَكَ أَلَّا يَكونُوا مُؤْمِنِين).(1/234)
وإن هذا النص الكريم يشير إلى أن التوبة النصوح التي يقبلها الله تعالى، ويغفر بها الذنوب توجب قهر الشهوات والأهواء وقتل منابعها في النفس.
وقد حثهم كليم الله تعالى على هذه التوبة النصوح، فقال: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ) الإشارة إلى بخع النفوس عن شهواتها وسد منابع الأهواء وقتل نوازع الشيطان الذي يوسوس في الصدور، وأشير بالبعيد لبعد ما بين التوبة ورياضة النفس على ترك الأهواء والضبط بالصبر، وقوة الإرادة المسيطرة القاهرة الطاهرة، وكان الخطاب بصيغة الجمع لأن الإشارة إلى عمل صدر منهم.
وقد أشار النص إلى قبول التوبة النصوح التي كانت على هذه الشاكلة فقال: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ). أي رجع سبحانه عليهم وقد طهرت نفوسهم وزكيت قلوبهم بالانخلاع عن الشهوات وقتلها، رجع عليهم سبحانه وتعالى بالغفران. وعبر سبحانه وتعالى بـ " على " للإشارة إلى علوه سبحانه وتعالى عليهم في كفرهم وتوبتهم، وأن ذلك لرحمته بهم، لَا لحاجته إلى طاعتهم، وقد ذيل الله سبحانه وتعالى بقوله: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم). والتواب كثير قبول التوبة إذا قيل ذلك عن الله تعالى، أو كثير التوبة إذا قيل عن العبد، وتواب صيغة مبالغة من تائب، وتائب تطلق على التائب من الذنب، وتطلق على من يقبل التوبة، وهو الله سبحانه وتعالى، وهي هنا على هذا المعنى.
وقد اقترن وصف التواب بوصف الرحيم، لأن كليهما وصف لله تعالى، ولأن قبول التوبة من رحمة الله تعالى بعباده، ولقد قال: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى).
وقد أكد سبحانه اتصافه بهذين الوصفين اللذين كانا من فضل الله تعالى، ومنته، بصيغة المبالغة، وبالجملة الاسمية، وبالتأكيد بإنَّ - اللهم تب علينا وارحمنا.
يذكر الله سبحانه وتعالى النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل، وكفرهم بها، وبالله. ثم يذكر سبحانه تعنتهم في طلب الدليل رغم الآيات التي أراهم الله سبحانه وتعالى إياها، ولكن المتعنت لَا يقنعه الدليل مهما يكن باهرا ظاهرًا قاهرًا.(1/235)
ولذا طلبوا عنتا وانحرافا وجهلا أن يروا الله تعالى جهرة، وقد ذكر الله تعالى ذلك مبينا تعنتهم، وتدللهم في كفرهم:(1/236)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ... (55) أي اذكروا أيها الحاضرون في عهد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ما فعلتموه، وخاطبهم هم بذلك مع أن الذي فعله أسلافهم؛ لأنهم يسيرون سيرهم، ويفترون ويغترون مثلهم.
اذكروا ذلك الوقت الذي قلتم فيه ذلك، وليس غريبا أن تقولوه الآن، قالوا لموسى: (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) أي لن نؤمن مسلمين لك، مستجيبين لما تدعونا إليه، حتى نرى الله جهرة، أي حتى نرى الله تعالى رأي العين، ولن لتأكيد النفي في المستقبل، وقيل لتأبيد النفي، والزمخشري وسائر المعتزلة يرون أنها دالة على الاستحالة، أي استحالة استجابتهم حتى يروا الله عيانا، ولقد ضاهى قولهم هذا قول المشركين.
وإن الله تعالى لَا يرى في الدنيا بإجماع العلماء قط؛ لأن رؤية الدنيا تقتضي مكانا والله سبحانه وتعالى منزه عن المكان، والأمر في الآخرة أمر الله تعالى لا نعلمه إلا منه، وهو عالم الغيب والشهادة، وقد أجابهم موسى إلى ما يريدون فطلب من الله تعالى أن يراه، ويروه، كما ذكر تعالى أن ذلك لَا يمكن في سورة الأعراف، فلما تجلى ربهم أصابتهم الصاعقة، فقال تعالى: (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ). وقد فصل الله سبحانه وتعالى مسألة الرؤية وطلب موسى عليه السلام، فقال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143).
لما طلب بنو إسرائيل رؤية الله تعالى جهرة أي عيانا، طلب موسى ذلك من الله تعالى ليروا ما رآه، وليعلموا ما علم، وقيل إن الذين طلبوا ذلك هم السبعون الذين اختارهم موسى ليكونوا معه عندما واعده الله لميقاته الذين قال الله تعالى فيهم: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا. . .)، فهم الذين(1/236)
حملوا موسى على أن يطلب رؤية ربه فطلبها عليه الصلاة والسلام، ومهما يكن الطالبون فإن رؤية الله تعالى مستحيلة في الدنيا، على ما أشرنا.
والصاعقة الأمر الشديد الهائل الذي ينزل من السماء نارا، أو الذي يدك الجبال دكا، وقد يترتب عليه أن يصعق الإحساس فيغشى على من يراه.
ومعنى قوله تعالى: (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) أي أخذت ألبابهم، ونفوسهم فلم يشعروا وهم ينظرون إليها، وقد أذهلتهم وذهبت بمشاعرهم فصعقوا كما صعق موسى إذ قال تعالى: (وَخَرَّ موسَى صَقًا. . .).
وعلى ذلك يكون معنى أخذتهم الصاعقة أنهم غشيعليهم كما يدل على ذلك ما كان لموسى عليه السلام. ونرى أن القرآن يفسر بعضه بعضا ويبين بعضه الدلالة الواضحة لبعضه، تعالى كلام الله سبحانه وتعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا).
وقوله تعالى: (وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) أي ينظرون إلى الأمر الذي هز مشاعرهم من دك الجبال دكا، وهول ما وقع نتيجة لما طلبوا، ثم قوله تعالى:(1/237)
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
(ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
أصل البعث هو الإثارة، جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: " أصل البعث إثارة الشيء وتوجيهه، يقال بعثته فانبعث، ويختلف البعث بحسب اختلاف ما علق به، فبعثت البعير أثرته وسيَّرته، وقوله تعالى: (يَبْعَثُهُمُ) يخرجهم ويسيرهم إلى يوم القيامة.
وموتهم هنا هو ما غشيهم، وفقدوا به إحساسهم، وعبر عنه بالموت، لأنه يشبه الموت من حيث إنهم فقدوا شعورهم وأصبحوا لَا يحسون شيئا.
ومعنى قوله تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) أي أثرناهم، وحركناهم، وأوجدنا فيهم الإحساس. والتعبير بـ " ثم " للإشارة إلى البعد بين حالهم، وهم أشباه الموتى بما صعقهم من غاشية، وما آلوا إليه من شعور بالحياة والحركة. .، وقد فقدوا ذلك، بسوء ما طلبوا، وعدم فهمهم. والله تعالى ولي المؤمنين.(1/237)
وإن ذلك يقتضي شكرهم، لأنه كان قادرا على تركهم فيما آل إليه أمرهم ولذا قال تعالى: (ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي رجاء أن تشكروا، فالرجاء منهم لَا من الله تعالى.
بعد أن بعثهم الله تعالى، أو كان ذلك مقارنا لخروجهم من مصر، وهو الظاهر، لأن هذه النعم، وما كان منهم من حوادث جاء بعد أن أنجاهم الله تعالى من آل فرعون، وفرق البحر بهم، والواو لَا تقتضي ترتيبا، ولا تعقيبا، لقد انتقلوا من الوادي الخصيب إلى صحراء تلفح الوجوه، وليس فيها ظل ولا ظليل، ولكن الله تعالى لم يتركهم في حرور الصحراء وجردائها بل أظلهم بالغمام، وأمدهم بأطيب الطعام، وأبركه، فقال تعالى مبينا هذه النعمة:(1/238)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
(وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ... (57)
أي جعلنا الغمام، وهو السحاب الشديد العتمة، اسم جنس جمعي للغمامة، واسم الجنس الجمعي هو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء المربوطة أو ياء النسب، مثل روم ورومي.
تكاثف الغمام في الصحراء، حتى صار كمظلة تظلهم أينما ساروا فلا يحسون بوهج الحر يلفح وجوههم، وقد شكوا من حر الشمس والجوع، فأنزل الله تعالى رزقا طيبا: المن والسلوى.
والمن كان بدل الخبز، وقد أصبحوا فوجدوه في الأرض صغيرا كحب الجزرة، وكانوا يتناولونه كالرقاق التي اختلطت بعسل فالتقى فيه خواص الدقيق والعسل معا، وسبحان الرزاق العليم، فكان خبزهم، فالمن على ذلك غذاء جيد ينزل من السماء ويبسط على الأرض فيه خواص الدقيق والعسل معا.
والسلوى طير، كان يجيء إليهم يطير على مقدار رمح من الأرض أو يزيد قليلا، فيأخذونه باليد من غير صيد أو أي محاولة، وبذلك اجتمع لديهم كل عناصر الغذاء الكامل، من غير كَدٍّ، ولا لُغُوب.(1/238)
وعبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك الرزق الذي رزقهم الله تعالى إياه بقوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) لأنه ما كان بكسب كسبوه، ولكنه رزق الله تعالى من السماء أنزله إليهم لتطيب إقامتهم في الصحراء، حتى يقضي الله تعالى أمره فيهم، فالإنزال معنوي لأنه بأمر الله تعالى لطفًا بهم ورحمة، وليكون ذلك معجزة فوق المعجزات التي توالت عليهم، ومع ذلك جحدوا بآيات ربهم، ولقد قرر الله سبحانه وتعالى أنه مكّن لهم ذلك تمكينا، فقال سبحانه: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) وقد وصف الله سبحانه وتعالى ذلك الطعام بأنه طيب، والطعام الطيب هو الذي تشتهيه النفس، ويكون مريئًا لَا يضر ولا يعاف، و (مِن) في قوله تعالى: (مِن طَيبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) هي للتبعيض باعتبار أنهم يأكلون منه ما يشتهون وما يطيقون غير مدخرين، لأنهم يجدون ما رزقهم الله تعالى مجددا دائما، ويذكر في بعض الكتب أنهم كانوا يأكلون رزق كل يوم، وقد أمروا بذلك لأنه يفسد في اليوم التالي ويجيء الجديد ليحل محل الفاسد (1).
ويحتمل أن تكون " مِنْ " بيانية، ويكون المعنى كلوا طيبات ما رزقناكم، وعلى التقديرين يتحقق وصف الطيبات، وذكر سبحانه أنه رزق خالص من الله جاءهم من غير جهد ولا نصب، بل هو رزق الله تعالى ساقه إليهم سبحانه وتعالى.
وأنهم بتوافر هذه النعم التي منحها الله سبحانه وتعالى لهم، إذا هم جحدوا آياته، وأعرضوا عن بيناته. . ما كان سبحانه وتعالى إلا منعما عليهم إذ أنجاهم من ظلم فرعون وإذلاله، وبعد أن كانوا مستضعفين مكن الله لهم في الأرض، ومنَّ عليهم، وكلما شكوا أمدهم الله تعالى بعونه، وسهل لهم الحياة العزيزة الكريمة المنيعة.
________
(1) روى البخاري (3083) ومسلم (2674) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النبِي - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْلا بَنُو إِسْرَائيلَ لَمْ يَخْنَزْ اللَّحْمُ " قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قَوْلُهُ: " لَوْلا بَنُو إِسْرَائيل لَمْ يَخْنَز اللَّحْم " يَخْنَز بفَتْح أوّله وَسكُون الْخَاء وَكَسْر النون وَبِفَتْحِهَا أيْضًا بَعْدهَا زَاي أيْ يُنْتِن، وَالْخَنَز التَّغَير وَالنَّتْنُ.(1/239)
(وَمَا ظَلَمُونَا) ما نقصهم سبحانه وتعالى شيئا من أسباب الحياة والقوة والسلطان، ولكنهم جحدوا شكر ما أنعم الله تعالى به عليهم، فكفروه، فكانوا هم الظالمين لأنفسهم؛ ولذا قال تعالى: (وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وأكد الله سبحانه وتعالى عليهم أنهم هم الظالمون لأنفسهم وذلك بالاستدراك في قوله: (وَلَكِن) إذ معنى الاستدراك عن ظلم الله تعالى لهم بيان أن ظلمهم لأنفسهم كان منهم لَا من الله سبحانه وتعالى، وأكده بالتعبير بـ (كَانُوا) وهي تدل على الاستمرار، كما نوهنا بذلك مرارا، وأكده سبحانه وتعالى بتقديم (أَنفُسَهُمْ) لأن التقديم يدل على الاختصاص، أي أنهم بهذا الجحود يظلمون أنفسهم، ولا يتجاوز ظلمهم أنفسهم إليَّ؛ فهم يظلمون أنفسهم وحدها.
وظلمهم أنفسهم، لأن الكفر ظلم للنفس، إذ هو ضلال في ذاته، وأي ظلم للنفس أشد من تدليتها في الضلال؟! وكفروا بأنعم الله تعالى، وذلك ظلم كبير واقع عليهم.
* * *
(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
* * *
كان بنو إسرائيل يعيشون في صحراء سيناء مع موسى عليه السلام، وقد أنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى، فأكلوا منها رزقا طيبا، وما كان يمكن أن يبقى ذلك رزقا دائما، وإن كان ذلك ممكنا سائغا في ذاته، ولكن لأنهم بَرِمون متململون مما يرزقهم الله تعالى رتيبا مستمرا، بل إنهم يطلبون التغيير.(1/240)
والقرية هي المدينة العظيمة الجامعة لعدد كبير من السكان، من قَرَى بمعنى جمع، ولذلك أطلق على مكة أنها قرية وأم القرى، ولم يبين القرآن الكريم ما هي هذه القرية، لم يرد في القرآن ما يبين عين هذه القرية أهي الأرض المقدسة أم هي قرية قريبة أمرهم موسى بالدخول فيها، وإن الذي نفهمه من النص والسياق أنها قرية ليست بعيدة عن صحراء سيناء، وأن ذلك في عهد موسى عليه السلام.
أما أنها قريبة ليست بعيدة فقد أخذناه من الإشارة، فقد أشير إليها بالإشارة الدالة على القرب، وهي " هذه "، فهي لابد أن تكون قريبة، والنص يدل على أنهم دخلوها، وقد عصوا أمر ربهم الذي أمر به عند دخولهم.
وأما أنها كانت في عهد موسى عليه السلام، ولم يكن قد فارقهم بالموت، فإن ذلك يثبت من سياق القول، لأن موسى عليه السلام من قبل الأمر بالدخول كان هو الذي يخاطبهم بأمر الله تعالى، ومن بعد الأمر بالدخول هو الذي كان يخاطبهم ويخاطبونه، فلم يكن من مقتضى ذلك أن يكون الدخول، وقد انقضى عهد موسى عليه السلام، وجاء غيره.
وعلى ذلك نقول إن الله سبحانه وتعالى أَبْهم ذكر هذه القرية، ولا نتعرض لبيان ما أبهمه الله تعالى، ولم يذكره نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت قول عن أصحابه الذين تلقوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم النبوة ليبلغوه للناس، وإن القول في هذه القرية ما هي؟ داخل في النهي في قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. . .).
ولكن قال بعض العلماء إنها أريحا، أو بعض بلاد في الأردن، ورجح الأكثرون وقالوا إنه القول الصحيح، أنها بيت المقدس التي كتب الله تعالى لهم أن يدخلوا، وقالوا إن ذلك ذكر في القرآن في سورة المائدة، إذ قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ(1/241)
نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
* * *
وإني وإن كنت لَا يمكنني أن أعيّن قرية بعينها، فإني لَا أختار أنها الأرض المقدسة، وذلك لأن الإشارة إلى القرية كانت إلى قرية قريبة، ولأن الأرض المقدسة لا تذكر بهذا الإبهام المستغرق، ولأن ما حدث منهم من تبديل القول يدل على قرب عهدهم بالكفر، وأنه لم يكن التيه الذي يقوى شكيمتهم، ولأنه إذا كانت بيت المقدس، فإن دخولهم فيها بعد التيه كان على يد سيدنا يوشع عليه السلام.
وإننا ننتهي إلى هذه القرية، وليست في هذه القرية عبرة خاصة توجب معرفتها إذا كانت القرية، إنما يكفي في التعريف بها أنها كانت ذات رزق راغد، وعيش واسع؛ ولذلك قال تعالى:(1/242)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
(فَكُلُوا مِنْهَا حَيثُ شِئْتُمْ رَغَدًا) أي فكلوا أيَّ أكلٍ تشاءونه رغدا في هذه القرية، فلا تقتصروا على المن والسلوى، كما أنزل الله تعالى رحمة بكم، وهما أطيب الطعام وأشهاه وأمرؤه، وأهنؤه، كلوا أي أكل شئتم من الحلال رغدا واسعا كثيرا.
ثم أمرهم سبحانه أن يدخلوا الباب لهذه القرية خاشعين خاضعين شاكرين لنعمة الله تعالى التي أنعم بها عليهم طالبين غفران خطاياهم، فقال تعالى: (وَادْخلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) أي ساجدين شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليكم وأن أخرجكم من الظلمات إلى النور، ومن الذل إلى العزة، ومن الظلم المرهق إلى العدل المنصف، وأن أعطاكم ما تحبون من طيب العيش، وما تشتهون من حلال.
(وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي حط عنا ذنوبنا، وتغمدنا برحمتك والتوبة إليك، وإن الله رتب على خضوعهم، وشكرهم لنعمة الله تعالى، وطلبهم من الله تعالى أن يحط(1/242)
عنهم ذنوبهم، ويخلعوها متبرئين، ويتطهروا، رتب على ذلك غفران خطاياهم فقال تعالى: (نَّغْفِرْ لَكمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ).
ومعنى نغفر لكم أي نستر ذنوبكم ثم نرفعها عنكم، ووعد الله تعالى بأنه سيزيد المحسنين خيرا وبركة، والمحسن هو من أتقن وأجاد فعل الخير، والمعنى أن الله تعالى يغفر لهم ما ارتكبوا من آثام كبيرة كانوا قد تعودوها حتى صارت خطايا، يغفرها، سبحانه وتعالى، ثم وعد سبحانه ووعده الحق أنه سيزيد المحسنين، وينعم عليهم بالتوفيق إذا تابوا وآمنوا، ويجزيهم أحسن الجزاء.
والخطايا جمع خطيئة، وهي الذنوب التي تتكاثر، حتى يفعل الذنب، وكأنه يِقع منه من غير قصد إليه لتمرسه به، وقساوة نفسه وقلبه، كما قال تعالى: (بَلَى من كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). ويقول الخليل بن أحمد في تصريف خطايا إنها جمع خطيئة، أصلها خطائي، ثم قلبت الياء ألفا، كما قلبت في قوله تعالى: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ. . .)، فصارت خطاءا، ثم قلبت الهمزة ياء لأنها صارت بين ألفين، وذلك تسهيل في النطق.
هذا ما أمرهم ربهم، أمرهم بالدخول خاشعين ساجدين، وأن يقولوا حطة أي حط عنا ذنوبنا، ولكنهم وقد تعودوا المعصية وألفوها: غيروا الألفاظ، وبدلوها إلى ألفاظ تدل على نقيض معناها، وكذلك دائما شأن العصاة المذنبين وخصوصا بني إسرائيل؛ ولذلك قال الله تعالى:(1/243)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الذِي قِيلَ لَهُمْ ... (59)
لقد قيل لهم قولوا حطة أي حطَّ عنا ياربنا ذنوبنا، ولا تعذبنا بما فعلنا واعف عنا، بدلوا هذه الكلمة الضارعة الخاشعة إلى كلمة أخرى قريبة اللفظ ولكن فيها معنى مغاير، فقالوا: (حنطة) أي أنهم بدل أن يتوجهوا إلى الله تعالى بالضراعة توجهوا إليه بطلب المادة، والحنطة هي القمح، يتركون الضراعة التي هي نعمة التقوى إلى طلب القوت، وفي ذلك عدول عن إرضاء الله تعالى إلى طلب ما يرضي أهواءهم،(1/243)
ويشبع شهوات بطونهم، وفوق ذلك فيه تلاعب بأمر الله تعالى ونهيه، واستهزاء بأوامر ربهم، وتحريف للقول عن مواضعه، كما فعلوا من بعد موسى عليه السلام، إذ حرفوا القول عن مواضعه، وضلوا ضلالا بعيدا. وذكر الله تعالى الموصول، فقال: (الَّذِينَ ظَلَمُوا)، فأظهر في موضع الإضمار للإشارة إلى أن الدافع لهم على التغيير والتبديل في أمر الله تعالى أو نهيه هو ظلمهم وإلحادهم في دين الله تعالى.
وقد عاقبهم الله تعالى فأنزل العذاب بهم فقال تعالى: (فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسقُونَ) الرجز هو العذاب، أو هو الرجس، والرجز قاذورات النفوس وفسادها، وقد أصابهم الله تعالى بالأمرين ففسدت نفوسهم إلا أن يتوبوا، وأنزل الله تعالى عذابه بهم إذ جعلهم أذلاء مستضعفين في الأرض إلا أن يتسربلوا سربال التقوى، ويسيروا في طريق العزة، ويهجروا أسباب الذل.
والرجز قسمه الأصفهاني في مفرداته إلى قسمين: رجز ينزل بسبب أعمال الإنسان من عصيان للرب، ومخالفة لأمره، وسوء تدبيره، وهذا عذاب الله تعالى، ورجز ينزل بلاء من الله، واختبارًا يصهر نفوسهم. كطاعون ينزل بهم، أو إهلاك للحرث والنسل، أو ضرب الذلة عليهم.
وقد أصاب الله تعالى بني إسرائيل بالنوعين من الرجز فعذبوا في الحياة الدنيا رجاء أن يتوبوا ويهتدوا، وأصيبت نفوسهم بالذلة، التي ضربت عليهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس، ونزلت بهم الآفات البشرية.
وذكر سبحانه وتعالى أن السبب في ذلك ظلمهم وفسقهم، فأما الظلم فبينه سبحانه بالإظهار في موضع الإضمار إذ قال: (فَأنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ) والتعبير بالموصول يفيد أن الصلة سبب لما أنزل الله تعالى من رجز، وهذا بيان للسبب بالإشارة، أما فسقهم فقد بين سبحانه سببيته بصريح اللفظ الكريم، فقال: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب أنهم يفسقون، و (كَانُوا) دالة على(1/244)
الاستمرار، والتعبير بالمضارع يفيد أن فسقهم على دوامه يتجدد وقتا بعد آخر فكلما تاب عليهم فسقوا مرة أخرى.
والفسق هو الخروج، يقال فسقت الفأرة خرجت من جحرها، وفسق الثمر خرج، فهؤلاء يخرجون عن الحق، ويسيرون وراء الباطل سيرا متجددا مستمرا آنًا بعد آنٍ.
وذكر الله تعالى أن الرجز من السماء إشارة إلى أنه يأتيهم من حيث لا يحتسبون ولا يظنون، وأنه من الله العزيز الحكيم، فإن ما يكون من السماء مغيب لا يعلم متى يجيء ولا من أي جهة يجيء.
* * *
(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
* * *(1/245)
كان بنو إسرائيل يعيشون مع موسى عليه السلام في معجزات حسية مستمرة، ولو كانت قوة الدليل وحسيته سببا للإيمان لكان بنو إسرائيل أشد الناس إيمانًا وأقواهم يقينا، ولكن الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلوب الأتقياء فيدركون الحق، ويذعنون له، ويطمئنون إليه. وقد أرانا الله تعالى آياته في بني إسرائيل، فكلما أتاهم بدليل وكلما أتتهم آية كفروا بها، فلو كانوا يذعنون للحق لأذعنوا لبعض هذه الآيات، ولكنهم قوم معاندون، مناقضون الحس.
شكوا إلى موسى أنهم لَا يجدون الماء الذي يشربونه فاتجه موسى إلى ربه ضارعا يطلب الماء، ولذا قال تعالى:(1/246)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ).
وإذ - كما ذكرنا - دالة على الوقت الماضي، والمعنى اذكروا ذلك الوقت الذي استسقى فيه موسى لكم، تذكَّروا عطشكم في ذلك الوقت، وكيف استسقى موسى ربه لأجلكم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يضرب بعصاه الحجر، فضرب، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، هي بقدر عدد الأسباط أولاد يعقوب عليه السلام، وذريتهم من بعدهم، اذكروا ذلك وتذكروه، فإنه معجزة من الله تعالى. فكان لكل سبط عينه، يشرب منها هو ومن معه من سبطه لكيلا يُتزاحم على الماء، فينال الماءَ القويُّ، ويضيع الضعيف، واستسقى، السين والتاء للطلب، أو السؤال، والاستسقاء الضراعة إلى الله تعالى أن ينزل الماء، فهذا الاستسقاء عبادة لأنه دعاء الله تعالى ضارعا إليه أن ينزل عليه الماء، والدعاء المتضرع عبادة في ذاته، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جف المطر، وأجدبت الأرض استسقى. . فقد خرج إلى المصلى متواضعا، متذللا متوسلا متضرعا ودعا ربه أن يسقى المطرَ، فنزل مدرارا، حتى خشي الناس أن يَضُر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم حوالينا، ولا علينا " (1).
________
(1) عَنْ أنَس بْنِ مَالك قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَة إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَحَطَ الْمَطَرُ؛ فَادع الله أَنْ يَسْقيَنَا. فَدَعَا فَمُطِرنا، فَمَا كِدَنا أنْ نَصلً إِلَى مَنَازلنَا، فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَة الْمُقْبلَةِ، قَالَ: فَقَامَ ذَلكً الرجلُ أوْ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه ادع الله أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا. فَقَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - " اللَهُمَّ حَوَالَيا ولا عَلَيْنَا " قَالَ: فَلَقدْ رَأيْتُ السَّحَابَ يَتَقًطَّعُ يَمينَا وَشِمَالا يُمْطَرُونَ وَلا يُمْطَرُ أهْلُ الْمَدِينَةِ. [متفق عليه رواه البخاري: كتاب الجمعة (959)، ومسلم صلاة الاستسقاء (1490)].(1/246)
ولما استسقى موسى عليه السلام لم ينزل عليه مطر، ولكن قال له ربه: (اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ) والعصا هي آية الله تعالى، ومعجزة موسى التي انقلبت حية تسعى، والتي بها ضرب البحر بها فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، ضرب بها الحجر، ولم يكن حجرا معينا له صفات ذاتية، بل إنه للعهد الذهني الذي ينطبق عليه اسم الحجر، كما تقول ادخل السوق، فالمراد أي شيء ينطبق عليه اسم السوق، ضرب موسى عليه السلام الحجر (فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) انفجرت: انشقت، وخرجت من الحجر اثنتا عشرة عينا، والعين هي الموضع الذي يخرج منه كعين زمزم، فماء العيون لَا يكون من السماء كالمطر، ولكن يكون من الأرض، أو الحجر، كما رأينا ما فعلته عصا موسى عليه السلام؛ وهنا ثلاث معجزات خارقة للعادة:
الأولى: ضرب الحجر بالعصا، فينبثق منه الماء، وهذه معجزة العصا.
والثانية: أن الضرب في الحجر الذي لَا يخرج منه الماء عادة، ولا يعلم أن الماء ينبع من الأحجار، ولكن من الأرض اللينة التي لَا تكون حجرا متماسكا، وقد يخرج ماء العيون من الجبال ولكن يكون من شقوق يخرج منها لَا من ذات الحجر، أما الذي يخرج من ذات الحجر فإنه خاص بمعجزة موسى عليه السلام.
الثالثة: كون الماء يخرج اثنتي عشرة عينا على قدر عدد الأسباط، و (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مشْرَبَهُمْ) أي مكان شربهم، أي العين التي خصصت لهم، وقد كان الحجر الذي ضربه موسى عليه السلام بعصاه مكعبا له أربعة جوانب ظاهرة على الأرض، فكان في كل جانب قد انبثق فيه ثلاث عيون، فيكون عددها في كل اثنتي عشرة عينا، وعلم كل أناس العين التي يشربون منها، فكان لكل سبط منهم ثلاث عيون.
وإن هذا التوزيع بينهم لَا يفرق، ولكنه يجمعهم، فالعدل يجمع ولا يفرق، وفوق ذلك فيه تسهيل للتناول فلا يتزاحمون ولا يتنازعون ولا يضيع الضعيف بينهم.
وقد بين الله تعالى أن الماء مباح لهم، كما أبيح لهم الطعام؛ ولذا قال تعالى: (كلُوا وَاشْرَبُوا) أي أنه أبيح لهم الأكل من المن والسلوى، كما ذكرنا آنفا، أو أبيح(1/247)
لهم أن يأكلوا من ثمرات هذا الماء الذي يجيء إليهم من هذه العيون التي تفيض فى الأرض غير مقطوعة، ولا ممنوعة.
وإن النعمة إذا كثرت على أمثال بني إسرائيل كانت مظنة الفساد، ولذا قال تعالى: (وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) العثو، من عثى يعثى بمعنى أفسد، أو بمعنى أضاع كل ما فيه من خير، فاعتدى على حق غيره، فيعثون يشمل كل فعل يؤدي إلى الاضطراب والإفزاع ومنع الخير، ويتقارب من معنى العبث، ويكون قوله تعالى: (مفْسِدِينَ) ليس تكرارًا للفظ لَا تعثوا أو تأكيداً، إنما هو لبيان العثو، وهو القصد إلى الإفساد، فمفسدين معناها قاصدين إلى الإفساد.
وإن بني إسرائيل شأنهم دائما ألا يستقروا، بل هم في تململ مستمر، ولا يهمهم إلا الطعام والشراب، ولذا قالوا لموسى عليه السلام الذي ابتلى بهم: (يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61). كان اليهود (لعنهم الله) لَا يهمهم إلا ما يطعمون، فسألوا الأكل أولا ثم سألوا الماء ثانيا، ثم سألوا تلوُّن الأطعمة، ولم يفكروا في أمر معنوي، لم يفكروا في العزة بعد الذلة، ولا في النجاة بعد القتل، ولا في المعاني الروحية التي جاء بها موسى عليه السلام، ولا في الإيمان بعد الكفر، ولا في الرفعة بعد الحطة.
لم يفكروا في شيء من هذا إنما فكروا في الطعام وألوانه، لم يطلبوا الهداية، ولكن طلبوا ألوان الطعام، وقال تعالى عنهم:(1/248)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِد) والمعنى: اذكروا معشر الحاضرين ما قلتم أنتم وأسلافكم، ولا تفكير لكم في جهاد تجاهدونه، ولكن في طعام تأكلونه، نادوا موسى وهو لهم كالأم الرءوم: (يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِد) وهو المن والسلوى، وقالوا: على طعام واحد، لأنه لون واحد متكرر مستمر، لَا يتغير، فهو يعرض بطريقة واحدة، والشيء المتكرر(1/248)
يكون شيئًا واحدًا، ولو تجدد وتكرر، ولو كان أكثر من واحد، ولو كان طيبا، وإن الرجل المادي يسأم ما يقدم له كل يوم، ولو كان أشهى، وقالوا يائسين من أن يرضوا: لن نصبر على طعام، فأكدوا النفي بـ " لن "، ودلوا على تململهم بقولهم: " لن نصبر "، أي لن نستطيع أن نضبط أنفسنا فنحملها على الرضا بطعام واحد.
ورتبوا على نفيهم الصبر نفيا مؤكدا قولهم: (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِت الأَرْض مِنْ بَقْلِهَا)، الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر دل عليه قولهم لن نصبر تقديره؛ فإذا كنا لَا نصبر، (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ) ومعناه اضرع إلى ربك الذي خلقك وربك لَا إلى أن يهدينا بل إلى أن يخرج لنا مما تنبت الأرض، وقوله " يخرج " في معنى جواب الأمر، أي إن تدع ربك فإنه يخرج لنا، فهم لتلهفهم على ما يأكلون افترضوا أن الدعاء قد وقع، وافترضوا أن إجابة الدعاء قد تمت، فقالوا هذا الكلام الدال على رغبتهم في الإجابة السريعة.
والبقل معروف، وهو كل نبات لَا ساق له غالبا كاللوبيا والفاصوليا ونحوهما كالفول، وفومها وهو الثوم وقيل القمح واللغة لَا تساعد ذلك، وعدسها وبصلها وهما معروفان، ولكن موسى عليه السلام لم يسارع بالدعوة التي طلبوها، ولم تكن الإجابة التي رغبوها لإشباع نهمتهم، بل ذاكرهم فيما يطلبون، وبين لهم أنهم يطلبون غير الحسن ويتركون الحسن، فقال لهم: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هو خَيْرٌ)، أي أتتركون الخيو، وتطلبون بدلا منه الذي هو أدنى منه هان كان من نعمة الله تعالى.
وعبر عن الذي طلبوه بأنه هو الذي أدنى في الرتبة والمنزلة الغذائية وأنه خلق كذلك، وإن كان نعمة في ذاته ولكن رتبته دون ما أنتم فيه، وعبر بقوله تعالى: (الَّذِي هُوَ أَدْنَى) أي أنه في ذاته دانٍ في رتبته ولا يعلو عنها ولا يصل إلى الذي هو خير في ذاته، وثابت على الخيوية؛ لَا يزيل صفة الخيوية ما تطلبون.
والأدنى معناه القريب، ولما كان القريب سهل التناول، والبعيد صعب التناول أطلق الأدنى على كل أمر يسهل الحصول عليه وفي العادة لَا يكون ذا منزلة.(1/249)
والسؤال استفهامي تقريري لإنكار الواقع، أي فيه معنى التوبيخ، لأنهم في نعمة بالطعام الطيب الذي يجيء من غير كد ولا لغوب، وهو المن والسلوى، ولأنهم في مكان من العزة والنعمة يحمدون الله تعالى عليهما، ولا يفكرون في شهوة البطن مع هذه العزة إن كانوا أعزة كراما.
ولقد قال موسى كما أخبر ربه: (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّما سَألْتُمْ) ويفيد ذلك ضمنا بأن موسى لم يدع ربه كما طلبوا ولكن بين لهم المكان الذي يرون فيه ذلك، وعبر بقوله: (اهْبِطُوا مِصْرًا)، لأن فيه إشارة إلى أنهم ينزلون من منزلة مرتفعة العزة والرفعة إلى مكان دون ذلك؛ لأن الهبوط نزول من مرتفع إلى منخفض، وهم ينزلون من العزة، وضيافة الله تعالى إلى حيث يشبعون بطونهم ويرضون أهواءهم، وبذلك استبدلوا الخبيث بالطيب.
وقوله: (اهْبِطُوا مِصْرًا) بالتنكير يجعلنا نفكر أهي مصر التي اضطهدوا فيها، وذبحت أبناءهم، واستحيت نساءهم، أم مصر فيه ريف وأرض طيبة زارعة منتجة ما يريدون من فوم وقثاء وعدس وبصل.
إن التنكير يفيد أي مصر فيها زرع وثمار، ولكن الكثيرين من المفسرين يذكرون أنها مصر التي أخرجوا منها والتي أرهقوا في حياتهم فيها، ومع ذلك لم يذكر أنهم عادوا إلى أرض مصر، وموسى بينهم؛ ولذا نرجح أن موسى عليه السلام طلب إليهم أن ينزلوا من علياء الضيافة الربانية والعزة الإلهية وأن يشبعوا شهواتهم في أي مصر فيه الريف وما تنبت الأرض من زروع وعيون بدل عزة الصحراء.
بعد هذا يئس موسى من إصلاحهم. . أراد أن يربيهم على الوحدانية فقالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. . وأراد موسى عليه السلام، أن يبعدهم عن فرعون وقومه، وأن يخلصهم من أوهامهم، فانتهزوا غيبته، واتخذوا العجل، وعبدوه. . وطلب إليهم أن يقتلوا منابع الأهواء والشهوات في نفوسهم فتابوا وقبل الله تعالى توبتهم. . ولما أراد الله تعالى أن يختبر نفوسهم فأمرهم أن يدخلوا القرية ساجدين، ويطلبوا ضارعين إليه أن يحط عنهم ذنوبهم، (دخلوا على أستاههم طالبين الحنطة).(1/250)
طلب الله تعالى إليهم كل ذلك، ولكن نفوسهم طبعت على الأهواء والشهوات والأوهام فتركهم الله تعالى لتؤدي هذه الأخلاق إلى ما تنتهي إليه، وهو الذلة، فما أذل النفوس كالشهوات والأهواء، وإذا هانت النفوس ذلت، وإذا سيطرت عليها الأهواء خنعت، ولا يورث في النفس المذلة إلا المطامع.
ولذا قال تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَة) أي أحاطت بهم المذلة لا يخرجون من دائرتها، بل يتنقلون في دائرتها؛ ينتقلون فيها من جانب إلى جانب، ولا يخرجون منها، فصارت حالهم في ذلتهم، كحال من ضربت عليهم قبة لا يخرجون منها، ولذلك عبَّر بـ ضربت عليهم، والمسكنة هي الخضوع والاستسلام للوهن والضعف، وهي لازمة للذلة، فحيث كانت الذلة كانت المسكنة، والخضوع للظالم، ولا يرضون إلا بالذل، ولا يقبلون غيره، فإن النفس إذا ألفت الذل، واستمرأته، ترضى بكل من يذلها وتسكن خاضعة له.
فالمسكنة مصدر ميمي على وزن مَفْعَلَة معناه الخضوع المطلق والرضا بالظلم، أو الظهور بمظهر قبوله، وهو السكون ممن لَا يجابهون أهل الباطل بقولهم الحق يصك آذانهم صكا.
هذه الأخلاق هي نتيجة لسيطرة الأهواء والشهوات، وهي الداء الذي يصحب من يعيشون في خصيب الأرض ولين العيش، ويفكهون في ملاذ الدنيا، ويستمرئون البقاء فيها.
ولقد قرر الله تعالى عقوبة قاسية لذوي الضمائر الفاسدة، وهي أنهم يرجعون بغضب الله تعالى، فهم مطرودون من رحمة الله تعالى، فمعنى (وَبَاءُوا بِغَضَب مِّنَ اللَّهِ) أي أنهم رجعوا مصاحبين غضب الله تعالى ملازما لهم لَا ينفكون عن الغضب، بل إنه يلازمهم في كل أدوار حياتهم.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك الغضب الذي لازمهم بعد أن طردهم من رحمته، وأنهم لَا يستحقونها، ذكر سبحانه وتعالى السبب في ذلك فقال تعالت كلماته: (ذَلِكَ بِأنَّهمْ كانُوا يَكفرونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).(1/251)
الإشارة إلى ما أنزله الله تعالى عليهم من الذلة والمسكنة وأنهما أبعدوا عن رحمة الله مصحوبين بغضبه وقد لبسهم غضب الله تعالى، ومعه الخزي والعار.
قال سبحانه في سبب ذلك: (بِأنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) آيات الله تعالى المعجزات الدالة على رسالة موسى، وهي في ذاتها نفع لهم، أنجاهم من فرعون الذي كان يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إذ ضرب البحر بعصاه عليه السلام ففرقت البحر ونجا بنو إسرائيل وأغرق الله تعالى فرعون، وأنه أنزل عليهم المن والسلوى إلى آخر آيات الله التي كانت نعما عليهم ومعجزات دالة على نبوة موسى عليه السلام، والتعبير منه سبحانه وتعالى بقوله: (بِأنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ) بيان لاستمرار كفرهم، وتكرره بتكرر آياته، فإن " كانوأ دالة على الاستمرار، والتعبير بالمضارع للدلالة على تكرر الكفر بتكرار الآيات، فما جاءتهم آية إلا كفروا بها، وهي باهرة تتضمن نعمة أنعم بها سبحانه وتعالى عليهم، فاجتمع فيهم كفر الإيمان بالكفر بدلائله، وكفر النعمة بعدم شكرها، وشكر المنعم واجب بحكم العقل والشرع، وما جرى عليه الناس، ويجرون عليه إلى يوم القيامة.
وقد ذكر سبحانه وتعالى جريمة ثانية إيجابية فالجرائم السابقة كلها سلبية، الكفر سلب، وعدم شكر الله تعالى حيث يجب الشكر جريمة سلبية أيضا، أما الجريمة الإيجابية فهي قتلهم الأنبياء بغير حق، فهم لَا يكتفون بعصيان الله تعالى وكفرهم بآياته، بل يزيدون على ذلك لإمعانهم في الضلال بقتلهم النبيين الصديقين الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى لهدايتهم ودعوتهم إلى الحق كما قتلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام.
ويظهر أنهم لم يقتلوا واحدا، بل كانوا يقتلون النبيين كلما خالفوهم لا يرعون مقامهم من الله تعالى، ولذلك كان التعبير بالمضارع الدال على التكرار، وكأن قتل النبيين كان عادة لهم وشأنا من شئونهم لتغلغل الكفر والعصيان في نفوسهم، واستمرائهم الباطل والعصيان، ولذلك علل تعالى تكرار كفرهم للآيات، وقتلهم للأنبياء بقوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).(1/252)
وقوله تعالى في وصف قتلهم للأنبياء بأنه بغير الحق، وصف لإفادة عتوهم وكفرهم لَا لبيان أن القتل للنبيين قد يكون بحق، بل لبيان أن فعلهم إثم وليس له مبرر، وأن كونه بغير الحق للتشنيع على فعلهم، وقبح تصرفاتهم، وقد علل تعالى كما تلونا بأن ذلك كان بعصيانهم واعتدائهم.
(ذَلِكَ بِمَا عَصَوا) أي ذلك الجرم الذي ارتكبوه سببه أنهم عصوا أي أن نفوسهم تمردت واستمرأت العصيان، وأنها أظلمت بتراكم المعاصي حتى استمرأتها، وهل يصدر من النفوس المظلمة إلا ما يكون فسادا وشرا؟! ويصلون إلى أقبح أنواع الشرور، وهو قتل الهداة أحباب الله تعالى وهم الأنبياء.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن ذلك كان لمجرد الاعتداء، فهم في طبيعتهم العدوان، لأن المعصية إذا استمرت ولجوا في العصيان، وسيطرت الأثرة عليها يكون من آثارها لَا محالة الاعتداء، الاعتداء في طلب الأشياء، والاعتداء بسيطرة الأهواء والشهوات، والاعتداء بقتل الأنبياء، فالاعتداء والعصيان من شئونهم، وهكذا هم بلاء هذا الوجود.
* * *
الناس جميعا سواء أمام الله يجزيهم إن آمنوا(1/253)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
* * *
اختص الله سبحانه وتعالى الآيات السابقة ببني إسرائيل وكفرهم بالآيات المتتالية آية بعد آية، وبتكرار وتوالى ذلك الكفر ليبين سبحانه وتعالى انصرافهم عن الحق مع كثرة الآيات، وكفرهم بالنعم مع تواليها. وكأن القارئ للقرآن الكريم يحسب أن العبر تنزل لمن يكفر بها، والآيات المعجزة تتوالى على من ينكرها. .(1/253)
فيبْين الله تعالى أن الغاية من هذه النعم هي الإيمان، وأنهم إن كفروا بها فباب التوبة مفتوح لهم ولغيرهم، وأن الله تعالى خلق الخلق ليتفكر الناس فيؤمنوا وليجدوا فيها البرهان فيؤمنوا (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدونِ).
وقد قضى الله تعالى أن الإيمان مقبول من كل الطوائف والملل، وقد جعل سبحانه وتعالى ذلك الحكم الخالد الأبدي معترضا في أخبار بني إسرائيل ليفتح باب الإيمان لهم، ولغيرهم، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَالَّذينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا).
والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بالله باعتقاد وحدانيته في الخلق والتكوين بألا يعتقدوا أن أحدا شارك الله تعالى في إنشائه الخلق، وأنه وحده خالق كل مَن في الوجود وأنه لَا تخرج حركة عن حركة في الوجود، وإنما ذلك قيوميته وإرادته، وأنه ليس بوالد ولا ولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأنه جلت صفاته، فليس كمثله أحد، وهو السميع البصير، وأن يؤمن باليوم الآخر وما فيه من حساب، وثواب وعقاب، وأن يؤمن بملائكته وكتبه ورسله.
هذا هو الإيمان فمن آمن من أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ذلك الإيمان، وأردف إيمانه
بالعمل الصالحِ الذي يكون طاعة لله تعالى وفيه صلاح الناس، (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون).
وكذلك من آمن من اليهود بالله والملائكة الأطهار والرسل الأمجاد ومنهم محمد بن عبد الله رسوله الأمين، علم أن الله منزهٌ عن مشابهة المخلوقين، وأنه ليس كمثله شيء وعمل صالحا (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا همْ يَحْزَنُونَ).
وكذلك النصارى إذا آمنوا بالله ورسله وأنه ليس بوالد ولا ولد (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). هذا هو الإيمان بالله حق الإيمان.
وكذلك الصابئون من توافر فيهم ذلك الإيمان الموحد بالله تعالى في الخلق والتكوين والعبادة وآمن بالغيب، وملائكته وكتبه ورسله عامة ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة.(1/254)
هؤلاء إذا آمنوا ذلك الإيمان، وأخلصوا لله ذلك الإخلاص وقوّوا إيمانهم بالعمل الصالح الذي يكون فيه الطاعة لله ولرسله والاستجابة لكل ما أمر به - من كانوا كذلك فلا خوف عليهم من عقاب ينزل بهم، ولا يحزنون على ما فاتهم في ماضيهم من شر، لأن الإيمان يجبُّ ما قبله كما قال تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ. . .)، فلا يأسون على ما فاتهم ويفرحون بما أتاهم.
ونقبس قبسة من صورة الإيمان كما علم جبريل أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم:
روى ابن ماجه عن عمر رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد شعر الرأس، لَا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسند ركبته إلى ركبته، ووضع يديه على فخذيه، ثم قال: " يا محمد، ما الإسلام؟ فقال: شهادة أن لَا إله إلا الله، وأني رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. قال: صدقت، فعجبنا منه يسأله ويصدقه، ثم قال: يا محمد، ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، قال: صدقت، فعجبنا منه يسأله ويصدقه، ثم قال: يا محمد، ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لَا تراه فإنه يراك، قال: فمتي الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فما أمارتها؛ قال؛ أن تلد الأمةُ ربتَها، وأن ترى الحفَاةَ العُراة العَالَة رِعَاء الشاء يتطاولون في البنيان " (1). هذا هو الإيمان الذي يزيل الفوارق التي تكون بين الأمم والجماعات والأديان، وقبل أن نتم الكلام حول الآية الكريمة نذكر أمورا ثلاثة فيها بيان للناس في ظل بيان القرآن الكريم.
________
(1) حديث جبريل الشهير، رواه بهذا اللفظ ابن ماجه: المقدمة (62)، ورواه مسلم: كتاب الإيمان (9)، والبخاري: الإيمان (48)، والنسائي (4904) وأبو داود (4975) وأحمد: مسند العشرة المبشرين (179).(1/255)
أولها الفاء في قوله تعالى ([فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ] (1) وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) هي في جواب الشرط أي أن الإيمان الذي شرحناه والعمل الصالح الذي ذكرناه هو الشرط لأن ينالوا الجزاء من أمن الخوف، وألا ينالهم حزن على الماضي.
الأمر الثاني: قد عرفنا اليهود، وهم منحرفون دائما، ولكن فتح لهم باب الرجاء، والنصارى كذلك، فمن هم الصابئون؟.
الصابئون الذين ظهروا في الإسلام وقبله هم أكتم الناس لعبادة الأوثان، ويعلمون صبيانهم كتمانها، وقد قال عنهم أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن: وأصل اعتقادهم تعظيم الكواكب السبعة أو عبادتها واتخاذها آلهة، وهم عبدة أوثان في الأصل إلا أنهم منذ ظهر الفرس على إقليم العراق، وأزالوا مملكة الصابئين لم يجسروا على عبادة الأوثان ظاهرا، لأنهم منعوهم من ذلك، وكذلك الروم وأهل الشام والجزيرة كانوا صابئين، فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على الدخول في النصرانية، فبطلت عبادة الأوثان من ذلك الوقت، ودخلوا في غمار النصارى في الظاهر، وبقي كثير منهم على تلك النحلة مستخفين بعبادة الأوثان، فلما ظهر الإسلام دخلوا في غمار النصارى، ولم يميز المسلمون بينهم وبين النصارى، إذ كانوا مستخفين بعبادة الأوثان، كاتمين لأصل اعتقادهم، وهم أكتم الناس لاعتقادهم، فالصابئة يعبدون الكواكب والأوثان، ويظهرون بالنصرانية، هذا ما يجب بيانه هنا، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا تاريخ الجدل.
الأمر الثالث: إن بعض النصارى - ومال مَيْلَهُم من في دينه لين - قال: إن القرآن الكريم يعترف بأن النصارى لَا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ونقول إنه اشترط للاعتراف للنصارى بأنه لَا خوف عليهم ولا هم يحزنون - الإيمان بالله تعالى، وأنه الواحد الأحد، وأنه ليس بوالد ولا ولد، وليس له كفوا أحد، فهل يؤمن النصارى في عصرنا ذلك الإيمان وهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة، والله تعالى يقول: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثةٍ. . .)، ويقولون بألوهية المسيح كما قرروا ذلك في مجمع نيقية بإجماع القساوسة وإجماعهم إلى اليوم،
_________
(1) ما بين المعقوفتين زيادة من قبل مصحح النسخة الإلكترونية لتصحيح الكلام، ويبدو أن هذا السقط مرده إلى دار النشر.(1/256)
والله تعالى يقول: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. . .).
* * *
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
* * *
عاد القول إلى بني إسرائيل بعد أن ذكر اليهود والنصارى والصابئين، لبيان أنه لا يصح أن ييئسوا من رحمة الله تعالى بعد ما كان منهم في ماضيهم، وما يكون منهم في حاضرهم إن آمنوا بالله حق إيمانه، وبالآخرة إيمان إذعان ورجاء إن أطاعوا، وخوف العقاب إن عصوا.
بين الله تعالى حال اليهود في ماضيهم ويتحمله الذين حضروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم أقروهم عليه فكان الخطاب بما حصل من أسلافهم موجها أيضا لأخلافهم. قال تعالى:(1/257)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ).
الطور هو الجبل الذي هو في سيناء، فهو جبل معين ذكره الله تعالى في عدة آيات، وهو منسوب إلى سيناء كما قال تعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3). أخذ الله ميثاق بني إسرائيل، والميثاق مفعال من الوثوق أي: وققنا القول والأوامر التي أمر الله بها ونهى فيها، وبين لهم عظمة قدرته وقوة عظمته، وترهيبا لأمره بعد ترغيبهم فيه، وفي هذا الرفع آية حسية تدل على رسالة موسى عليه السلام، وأنه يتلقى أوامره من ربه، إذ كانوا قد طلبوا رؤية ربهم فخروا صعقين، فهذا ربهم يخاطبهم بآية، ورفع الجبل هذا هو ما قاله الله تعالى في سورة الأعراف: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ. . .).(1/257)
ولقد ذكر سبحانه وتعالى مضمون الميثاق إجمالا، فقال خذوا ما آتيناكم بقوة، أي بجد وإتقان، وتعرف، وعناية، (وَاذْكُرُوا مَا فيهِ)، أي اجعلوه في ذاكرتكم دائما لَا تغفلون عنه، ولا تهملونه، واجعلوه حاضرا دائما في قلوبكم لتعملوا به، ويكون في وعيكم دائما، ولقد ذكر بعض ما في هذا الميثاق بالتفصيل فقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83).
هذا هو بعض التفصيل لهذا الميثاق المحكم الذي واثقه الله عليهم مؤكدًا ذلك التوثيق برفع الجبل فوقهم كأنه ظلة يظلهم، وطالبهم بأن يأخذوا ما آتاهم الله تعالى من تكليفات ذكرنا بعضها، بقوة، أي بيقين وجزم وتصديق وإذعان، وأن يقرن ذلك بالعمل، فلا تأخذونه بيد، وتردونه باليد الأخرى، واذكروا ما فيه، أي اجعلوه دائما في وعيكم وذاكرتكم وقلوبكم، ولا تنسوه.
وإن ذكر الشريعة وأحكامها هو أساس تنفيذها، وإن المسلمين اليوم قد عراهم ما أصاب في ماضيهم، يحفظون القرآن ولا يعونه، ويرددون حروفه، ولا يتدبرونه، ولقد روى مالك في موطئه عن ابن مسعود أنه قال: (سيأتي على الناس - زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة يُبَدُّون فيه أهواءهم قبل أعمالهم) (1). أي يتبعون أهواءهم ويتركون ما افترض عليهم.
كانت هذه الأوامر التي واثقهم الله تعالى عليها، وأمرهم أن يذكروها دائما لأجل أن يتقوا الله تعالى أي يجعلونها وقاية لهم من ذنوبهم، أو رجاء أن تمتلئ
________
(1) عن عَبْد اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ لِإِنْسَانٍ: «إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ. قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ. كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي. يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلَاةَ، وَيَقْصُرُونَ الْخُطْبَةَ يُبَدُّونَ. أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ، وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، يُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ. كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، وَيَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ. يُبَدُّونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ». أَموطا مالك: كتاب النداء للصلاة (379)].(1/258)
بتقوى الله تعالى قلوبهم، وتغلب عليهم مخافة ربهم فلا يعصوه، ويبادروا إلى طاعته، ولذلك قال تعالى: (ولَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي ترجون التقوى والخوف منه.
ولكن كان هذا الميثاق الذي وثقه تعالى بأمر حسي، لأنهم لَا يعتبرون إلا بالمحسوسات مؤديا إلى أن يتقوه سبحانه بل إنهم تلقوا أمرًا موثقا ذلك التوثيق، مؤكدا ذلك التوكيد، ولكنهم كعادتهم في استهانتهم بَأمر الله ونهيه نسوه وتولوا عنه معرضين؛ ولذلك قال تعالى:(1/259)
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
(ثُمَّ تَولَّيْتُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ ... (64) التولي هو الإعراض، وأصله الإدبار، وأن يجعل جسمه موليا وجه من يطالبه بقول أو عمل، والمعنى أنهم أعرضوا إعراضا شديدا واضحا، كمن يعرض عن القول بتولية جسمه، واتجاهه في اتجاه غير اتجاه من يواجهه بالقول، ومعنى ذلك أنهم جعلوا الله وميثاقه وراءهم، ودبر آذانهم. والتعبير هنا بـ " ثم " التي تدل على التراخي للإشارة إلى البعد عن الميثاق وموجبه، وعملهم المناقض لأمر الله تعالى، والإشارة فيها بالبعيد في قوله تعالى: (ثُمَّ تَوَلتم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ) لبيان بعد عملهم، عن الميثاق الذي أمرهم سبحانه وتعالى أن يأخذوه بقوة، وأن يذكروه دائما وأن يكون في وعيهم في كل أحوالهم.
وإن ذلك التولي كان بالإعراض عما جاء في التوراة أو الألواح العشرة التي أخذوها بقوة، وطولبوا بذكرها دائما ليمكنهم أن يعملوا بها، وقد قال القفال الشاسي بعض ما تولوا به عن التوراة فقال: وإنهم بعد قبول التوراة، ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة فحرفوا كلمها عن مواضعه، وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، بعد أن كفروا بهم، وعصوا أمرهم، ومنه ما عمله أوائلهم، ومنه ما فعله متأخروهم، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم لأعاجيب البلاء يخالفون موسى ويعترضون عليه، ويلقونه بكل أذى، ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك، حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون، ثم نقل متأخروهم ما لَا خفاء فيه، حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله.(1/259)
هذه كلمات صورت توليهم عن الحق، واستدباره في عامة أمورهم، وكان منهم في عهد موسى وهو يكلمهم عن الله، ويتولى تربيتهم وبث روح الإيمان في قلوبهم التي قست وكانوا صورة واضحة للناس الذين تغلب عليهم شقوتهم.
ولقد قال تعالى: (فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتم مِّنَ الْخَاسِرِينَ) الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر أي إذا كان ذلك كله منكم بعد ذلك التوثيق لأمر الله تعالى ونهيه، وأمركم أن تأخذوه فإنه كان ينزل بكم الخسران المبين والعذاب المهين، ولكن لولا فضل الله عليكم ورحمته. . و " لولا " هنا هي التي يقال فيها أنها حرف امتناع وجود أي حرف امتناع الجواب لوجود الشرط. والمعنى أنكم كنتم تستحقون بذلك عذاب الهون، ولولا فضل الله أي إرادته أن يزيد خيره عليكم تمكينا لكم من فعل الخير بإمهالكم لكنتم من الخاسرين، ولقد قال الراغب في تفسيره: الخاسر المطلق هو الذي خسر أعظم ما يقتنى، وهو نعيم الأبد.
فالخاسرون: هم الذين خسروا أنفسهم، بأن أوقعوها في الهلكة والعذاب.
وإن النص القرآني يفيد أن الله بفضله ورحمته أعطاهم مهلة ليتداركوا أمرهم، ولم يكتبهم من الخاسرين.
* * *
اعقداؤهم في السبت
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
* * *
لقد كان بنو إسرائيل قوما غلبت عليهم شقوتهم، فكان رب العالمين يشرع لهم من الشرائع ما يربون به نفوسهم، ويعودهم ضبط النفس، وفطمها، ليتربوا على البعد عن الشهوات، ويقتصروا على ما فيه مصلحتهم، ويقيم حياتهم مستقيمة؛ ولذلك حرم عليهم بعض المباحات قرعًا لنفوسهم وفطمًا لها، وقد قال(1/260)
تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146).
من ذلك كان تحريم الصيد عليهم يوم السبت قمعا للشهوات، وقد يكون فيه تنظيم اقتصادي، وراحة لهم، وأن يعكفوا على العبادة، ويروضوا أنفسهم على حياة روحية تتطهر فيها نفوسهم وتتجرد من سطوة المادة وشهواتها.
حرم الله تعالى عليهم الصيد في يوم السبت، ولكنهم مرقوا عن أمر الله تعالى، واستباحوا السبت، أو بعبارة أدق استباحه بعضهم، وسكت عن نهيهم سائرهم، وإن كان الذين امتنعوا خيرهم، وقالوا في إخوانهم: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ. . .)، ولأن أصواتهم لم تصل إلى درجة المنع - نسب الاعتداء إليهم جميعا.
يقول الله تعالى:(1/261)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذينَ اعْتَدَوْا منكُمْ فِي السَّبْتِ) أكد سبحانه وتعالى علمهم بهذا الاعتداء باللام التي تَكون للتأكيد، وبـ قد التي تكون للتحقيق دائما سواء أدخلت على المضارع أم دخلت على الماضي، كما هو في القرآن الكريم.
وقالوا: إنه سبحانه وتعالى قال: علمتم، ولم يقل عرفتم؛ لأن المعرفة تمييز للشخص في ظاهر أمره، فتقول: عرفت فلانا إذا لقيته ولم تخبر أحواله، وإذا قلت: علمته؛ فمعنى ذلك أنك علمت أحوال ظاهره وباطنه، فتقول: علمت زيدا إذا علمت أحواله ظهورها، وخفاياها.
أي أنكم علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت، في شره نفوسهم، وَقَرِمِهم إلى الصيد، واندفاعهم نحو المخالفة لأمر ربهم مدفوعين بشهوات جامحة يتحايلون فيها تحايل الولهى لتحقيقها، حاسبين أن ذلك يخفى على الله تعالى، ولكن سبحانه وتعالى يزيد في اختبار نفوسهم، فيرسل حيتان السمك إليهم شارعة يوم السبت، ثم لَا تأتيهم بعد ذلك، ولذلك قال تعالى مبينًا الاختبار في آية أخرى، فقال تعالى:(1/261)
(وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163).
وهذه القرية يروى ابن كثير في تفسيره أنها كانت بين الأيلة والطور، ولعلها المصر الذي هبطوا إليه في قول موسى: (اهْبِطُوا مِصْرًا). ويروى ابن كثير أنه اشتهى بعضهم السمك فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر. فإذا كان يوم السبت فتح السد فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر فيها فإذا كان يوم الأحد جاءه، فأخذه، فشواه، وقد قلده جاره، وشاع هذا وفشا فيهم. . فقال لهم علماؤهم: إنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل، فأنتم اصطدتموه يوم السبت.
وما أشبه هؤلاء بإخوانهم ينتسبون إلى دين محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - حتى إنهم يستبيحون الربا بحيل محرمة، والله عليم بهم وبأحوالهم، ولهم ما أعده الله لبني إسرائيل، وهم أصل الداء في هذا وفي غيره (1).
وقد قال تعالى ما يفيد أنهم إذا لم تتهذب نفوسهم، ولم تتربَّ بالضبط قلوبهم فإنهم كالقردة والخنازير، فقال تعالى: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) الفاء كأخواتها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا قد اعتدوا ذلك الاعتداء وشرهوا ذلك الشره، قلنا لهم بلسان التكوين: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) وروي عن مجاهد أنه قال أنه مسخت قلوبهم فصارت كقلوب القردة تنزوا لشهواتها ولا تتعقل ولا تتدبر في عاقبة أمرها فهبطوا إلى هذه المنزلة الدون وقال: إنه مثل ضربه الله تعالى مبينا حالهم، كالمثل في قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا. . .)، فصارت قلوبهم قلوب قردة.
________
(1) عَنْ أبِى سَعِيد الخُدْرِى عَنْ الئبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ شِبْرًا شبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاع، حَتَى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضبٍّ تَبعْتُمُوهم " قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اليَهُودُ وَالنصَارَى؟ قَالَ: " فَمَنْ "؟ [متفق عليه] رواه البخاري: كتاب الاعتصام بالسنة (6775)، ومسلم: العلم (4822)].(1/262)
وإنه يزكي ذلك المعنى أنه شبه حالهم في آية أخرى بالقردة والخنازير لَا بالقردة وحدهم، وذلك في قوله تعالى في سورة المائدة: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60).
ومعنى خاسئين. . أي مبعدين يقال خسئ أي بعد، وخسأته أبعدته، والمعنى بعيدون عن مواطن العزة ورضا الله تعالى، لأن الشهوة والعزة نقيضان لَا يجتمعان فالشهوات مطية المذلة والهوان، ولا يهون إنسان إلا إذا هانت نفسه، وصارت أمة للشهوات. إن الله تعالى جعل تلك القرية التي كانت مكان الفسق عن أمر الله تعالى نكالا وموعظة فقال تعالى:(1/263)
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
(فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا).
النكال المنع والزجر، والنكل القيد، والأنكال القيود، لأنها تمنع.
والفاء للإفصاح، كما ذكرنا في غير ذلك الموضع، والضمير في قوله تعالى: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا ... (66)
يعود إلى العقوبة أي جعلنا هذه العقوبة التي كان من
مقتضاها أن يفقدوا معاني السمو الإنساني، والارتفاع عن حضيض الحيوانية الأوهد، وقيل: إنها تعود على القرية التي كان فيها ذلك الاعتداء؛ لأنها حاضرة في الذهن ومشار إليها بذكر الذين اعتدوا منكم في السبت، أي والقرية التي كان فيها الاعتداء، فهي إن طويت في البيان ملاحظة في المعنى، وهكذا يفسر القرآن بعضه بعضا، وما يطوى في مكان يصرح به في مكان آخر، تعالت كلمات الله تعالى.
وقد أنزل سبحانه وتعالى بسبب هذه الشهوات الجامحة الخارجة عن مقتضى الطبع الإنساني عذابا شديدا من الذل بعد العزة، ومن الضيق بعد السعة، ومن الشدة بعد الرخاء ما جعلها عبرة لمن بين يدي الحاضرين، ومن يجيء بعدها من الناس، وعبر سبحانه وتعالى عن الحاضرين بقوله تعالى: (لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) كناية عن وجودها معهم، وأنها على مقربة منهم، قرب ما بين اليدين من الصدر، والذين تحوطهم ويحوطونها.(1/263)
وإن ذلك العقاب يكون له صدى يتردد في الأجيال بعدهم جيلا بعد جيل، ومثل هذه القرية كمثل قرية عصت أمر الله تعالى، وكفرت بأنعمه سبحانه، وقال فيها تعالت كلماته: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113).
فما أشبه حال بني إسرائيل في أنعم الله تعالى عليهم بحال تلك القرية، وكأنها مثل بين لهم، والموعظة وزنها تَفْعِلَة بمعنى المصدر الميمي من الوعظ، وهو التخويف والزجر بما وقع لغيره، ويكون للتذكير بالخير مما يرق له القلب، كما يكون للتذكير والإنذار بما وقع للعصاة.
وخص سبحانه وتعالى تأثير الموعظة بالمتقين، وإن كانت هي للعالمين لتفردهم بالتأثر بها، والاهتداء بهديها وهم الذين تنفعل نفوسهم للخير لأنهم ليسوا مغرورين بعزة الشيطان، ولكن تمتلئ قلوبهم بتقوى الله تعالى، بأن يجعلوا بينهم وبين عذاب الله تعالى وقاية، فمن دأبهم الحذر من الشر، وإذا ذُكِّروا ذَكَروا، والله هو الهادي إلى الرشاد.
* * *
بقرة بني إسرائيل
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ(1/264)
يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
* * *
كان بنو إسرائيل في مصر، وكانوا أذلوهم يذبِّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، ولكنهم عاشروهم حقبة طويلة من الزمن تأثروا بعاداتهم، وألفوا ما كانوا يألفون، لقد كان المصريون يعبدون العجل، ويقدسونه وقد أراد الله تعالى أن يقتلع من بني إسرائيل ما تأثروا به، وقد رأينا السامري أضلهم فعبده بعضهم، ولم ينههم سائرهم عن عبادته، فاششركوا جميعا في هذا المنكر.
وإن الله تعالى قد اختبرهم ليزيل ما في نفوسهم من نزعة إلى تقديسه أو بقية من هذا التقديس فقال رسولهم الأمين القوي:(1/265)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً) ولو أتوا إلى أية بقرة فذبحوها لكان في ذلك استجابة لأمر الله تعالى؛ لأن الأمر المطلق تتحقق الإجابة فيه بالتنفيذ في أية جزئية من جزئياته، والمطلق يتحقق وجوده في أي فرد من أفراده.
ولكن الطلب لم يصادف أهواءهم، وحالهم في ذات أنفسهم فأخذوا يراوغون بكثرة الاستفهام، وإن أول التمرد هو كثرة الأسئلة، فالطاعة ألا تتمرد، ولا تثير الجدل، وكان أول قولهم في مجاوبة نبي الله وكليمه موسى عليه السلام أن قالوا، وكأنهم يتهكمون: (أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) والهزو اللعب والسخرية، أي أنهم يستغربون ذلك الطلب، ولا ندري لماذا يكون الأمر بالذبح سخرية بهم، وعبثا بعقولهم العابثة إلا أن يكون ذلك مخالفا لمألوفهم، وبالغوا في الهزء فقالوا: (أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) أي(1/265)
أتجعلنا بأمرك في موضع الهزء والسخرية، وذلك لما ألفوه من أن البقرة مقدسة لا تذبح بل تعبد، وإذا لم تكن عندهم هذه الحال فإنه لَا موضع لأن يستهزأ بهم، ولا أن يسخر منهم بذكر أمر الله تعالى.
فقال موسى كليم الله: (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) كانت إجابتهم لأمر الله تعالى خروجًا عن طاعته بأغلظ القول وأفظه، فأجابهم الرسول الرفيق، فقال: أعوذ بالله تعالى أن أكون من الجاهلين؛ أي ألجأ إليه عائذا به، متجها إليه أن أكون من الجاهلين، لأن الجاهل هو الذي يجعل الهزء والسخرية في موضع الجد وبيان أمر الله تعالى، ونفَى سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وصف الجهل، ولم يكتف بنفي الفعل؛ لأنه أبلغ وبيان أنه لَا يليق بنبي من أنبياء الله تعالى: أولي العزم من الرسل، وبالغ عليه السلام في نفي الجهل بنفي أن يكون من زمرة الجاهلين لما يجب على الرسول من بيان أمر الله تعالى.
وإن ذلك الجواب القاطع كان جديرا بأن يمنعهم من اللجاجة والمراوغة في الاستجابة لأمر الله تعالى، ولكن لأن نفوسهم متأثرة بأوهام المصريين، استمروا في لجاجتهم ومراوغتهم عساهم يجدون مناصا للخروج من هذا الأمر الجازم قالوا:(1/266)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
(ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ... (68)
يقولون لنبي الله موسى: ادع ربك واضرع إليه - الذي رباك وكوَّنك أن يبين لنا ما هي؟ وصيغة السؤال هكذا استفهام عن ماهية البقرة وحقيقتها وكأنهم لم يروها ولم يعرفوها، ولم يكونوا مع الذين كانوا يعبدونها، ولكن نبي الله الحكيم، أجابهم بالأسلوب الحكيم، وهو ما ينبغي أن يكون السؤال عنه فقال عليه السلام بهداية من الله تعالى: (إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ) والفارض هي التي فرضت سنها أي أنها حطت سنها، وبلغت نهايته، أي كانت طاعنة في السن، ولا بكر: ليست صغيرة، أي أنها بقرة وسط ليست صغيرة ولا كبيرة؛ ولذا فالعوان بين ذلك أي وسط بين الصغر والكبر المفرط، ويظهر أن تلك كانت أوصاف عجل أهل مصر، وقد قال موسى بأمر ربه (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) بلا لجاجة ولا مراوغة، ولا محاولة الإفلات من أمر الله تعالى.(1/266)
وكان حقا عليهم أن يطيعوا بعد ذلك فقد بين لهم كل شيء، والفاء للإفصاح ولكن لجاجتِهم لم تنته عند ذلك، وهم يريدون أن يراوغوا وأن يثيروا الجدل عساهم يفلتون من إجابة الأمر.
قالوا مجادلين مراوغين:(1/267)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
(ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنهَا) أي يبين اللون الذي يريدها أهي الصفراء أم السوداء، أم الخليط من ذلك، ولقد بين سيدنا موسى اللون، فقال: (إِنَّهُ يَقُولُ) مسندا القول لرب العالمين: (إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) الصفراء هي ما فيها لون الصفرة، ومعنى (فَاقِعٌ لوْنُهَا) أي خالص صافٍ له بريق ولمعان، ولذلك يسر الناظرين، أي تتلقاه الأنظُر بالسرور، وكأن هذه كانت أوصاف العجل الذي كان المصريون يعبدونه، وكان يجب عليهم بعد ذلك أن يفعلوا ما أمروا غير متلومين، ولا متحيرين ولكنهم أثاروا بعد ذلك ما يفيد حيرتهم، ولا حيرة في ذات الموضوع إنما الحيرة في نفوسهم الملتوية التي سرى إليها تقديس البقرة.
قالوا كأنهم متحيرون: (إِنَّ الْبَقَرِ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ... (70)
وإن التشابه من عقولهم، لَا من الجهل في ذلك قالوا:(1/267)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
(ادع لَنَا رَبَّكَ يُبيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) كان هذا التساؤل المستمر كاشفا لسوء نيتهم وعدم رغبتهم في الطاعة، وقدْ تكشف أمرهم فستروه مظهرين رجاءهم في الهداية وكان ذلك بقولهم: (وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّه لَمُهْتَدُونَ) أكدوا رغبتهم في الهداية بالجملة الاسمية، وبـ " أنَّ " وبـ " لام " التوكيد، والمشيئة الربانية، ومع ذلك كان سؤالهم عن الماهية، ولكن عدل في الإجابة إلى الأسلوب الحكيم، وهو بيان أنها ليست ذلولا معدة لحراثة ولا لسقاية الزرع، بل هي فارغة عن عمل، ولذا قال موسى في الرد:(1/267)
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
(إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ... (71)
أوصاف يشترط وجودها ليكون ذبحها سائغًا جائزًا:
أولها: أنها ليست ذلولا أي ليست مذللة لعمل معين بل هي مطلقة ترعى في الكلأ، لَا رقابة عليها، ولا سلطان لأحد -(1/267)
وثانيها: أنها لم تعد لحرث الأرض وإثارتها ليرمى فيها الزرع.
وثالثها: أنها لَا تسقي الزرع فلا تدير ساقية تسقي الزرع.
والوصف الرابع: أنها مسلَّمة، أي سليمة من العرج، ومن كل ما يشوب جسمها من شوائب المرض، فمسلمة اسم مفعول من سلَّم، أي أن الله تعالى سلمها من كل العيوب الجسمية، فلا بها عرج، ولا عور، ولا أي عيب جسمي.
والوصف الخامس: أنه لَا شية فيها، أي ليس فيها لون يخالف لونها الذي يعم كل أجزائها، والشية أصلها وشية حذفت فاؤها، لأنها وصلة، والشية مأخوذة من وشى الثوب إذا نسج على لونين مختلفين.
ونرى أن هذه الأوصاف في البقرة تشبه الأوصاف التي كان يذكرها قدماء المصريين في العجل الذي يعبدونه، فأتى الله سبحانه وتعالى بأوصافه، لتبين أنهم خلصوا من نفوسهم كل أوهام المصريين في البقر.
وقد يقال: إنه كان عجلا، ولم يكن بقرة، فنقول: إن بقرة مفرد لاسم جنس جمعي هو البقر، ويراد به الذكور والإناث، وإن طلب ذبح بقرة تتشابه في أوصافها مع أوصاف العجل الذي توهموا أنه يستحق أن يعبد، فيه اختبار شديد لهم، وحمل لهم على أن يخلعوا كل أوهام المصريين التي سرت إلى نفوسهم.
ولقد قال تعالى من بعد ذلك: (فَذَبَحوهَا) أي قاموا بذبحها (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) لكثرة لجاجتهم، ومراوغاتهم وجدلهم، ولكن الله سبحانه وتعالى راضهم على ذلك حتى فعلوا كارهين غير راضين.
* * *(1/268)
ادِّراؤهم في قتل نفس
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
* * *
المفسرون على أن هذه الآيات جزء من قصة البقرة إلا ما يتعلق بقسوة قلوبهم، والحجارة وبعض خواصها، فهم يقولون إن الأمر بذبح البقرة كان ليضربوه بها أي ليضربوا المقتول بها فيحيا، فقوله تعالى: (اضْرِبُوهُ بِبَعْضهَا كذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى) الضمير يعود إلى البقرة التي ذبحت: يضرب ببعضها فيحيا ويخبر عمن قتله ونحن لَا نرد ذلك ولا نكذبه فأخبار بني إسرائيل فيها العجائب الكثيرة التي ساقها الله تعالى ليؤمنوا ويذعنوا، ولكن لم يذعنوا قط مع توالي هذه الأمور الخارقة للعادة التي توالت وكثرت.
ولكن في العصر الحديث قرر المرحوم الأستاذ الكبير الشيخ عبد الوهاب النجار، أنهما قصتان سيقتا لغرضين مختلفين: أما الأولى فهي قصة البقرة، وهي قائمة بذاتها سيقت لبيان آثار العقائد المصرية في نفوس بني إسرائيل، ولجاجتهم في الامتناع عن ذبح البقرة متأثرين بتقديس المصريين للبقر. . والثانية سيقت لبيان أثر رؤية المقتول في نفس القاتل، وتأثره بذلك، وأنه يحمله على الاعتراف بالجريمة عندما يرى المقتول ويمس جسده، وقد ذكر ذلك الرأي في كتابه قصص القرآن قال تعالى:(1/269)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) أي لم يعرف القاتل، ودرء كل فريق القتل عن(1/269)
نفسه باتهام الآخر، فالادِّراء أو التدارؤ أن يدفع كل فريق التهمة عن النفس، ويتهم الآخر.
وكل منهم يعلم الواقع، ولكن يقرر غيره؛ ولذلك قال تعالى: (وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُون) أي من الحق، ومؤدى ذلك أنهم عالمون فيما بينهم من القاتل ولكن يجهِّلون الأمر، ولكن الله تعالى كاشف الأمر.
فالمفسرون جملة يقولون: الضمير في بعضها، في قوله تعالى:(1/270)
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
(اضْرِبُوهُ بِبَعضهَا) أي ببعض البقرة، وإن ضربهم للمقتول ببعض البقرة، يحييه الله تعالى فيخبر عمن قتله، ويعرف القاتل، وقصة البقرة سيقت لبيان إحياء الله تعالى الموتي في وسط قوم ينكرون البعث والنشور؛ ولذلك قال تعالى بعد ذلك: (كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى) أي كذلك الإحياء الذي شاهدتموه عيانا، إذ كان ميتا فأحياه الله تعالى؛ أي مثل ذلك الإحياء الجزئي الذي شاهدتموه وعاينتموه يحيي سبحانه وتعالى الأجسام بعد موتها، ويكون النشور ثم تقوم القيامة.
ويقول سبحانه وتعالى: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي رجاء منكم لأن تعقلوا وتدركوا الأمور على وجهها، وعلى هذا التفسير يكون المقصود أن الأمر بالذبح لكي يضرب ببعضها الميت فيحيا، وإن هذا يقتضي أن يقدم خبر الإحياء والضرب ببعضها على الأمر بالذبح.
وقد أجاب عن ذلك الزمخشري بأن التأخير يفيد بأن في الخبر أمرين عجيبين، وأن كليهما يصلح أن يكون قصة قائمة بذاته، فالأولى المراوغة في الطاعة، والثانية إظهار الأمر الخارق لمادة، في إحياء الميت بضربه ببعض بقرة، ولقد قال في ذلك:
إن كل ما قص من قصص بني إسرائيل إنما قص تعديدا لما وجد منهم من الخطايا، وتقريعا لهم عليها، ولما جُدِّد فيهم من الآيات العظام، وهاتان قصتان كل واحدة منهما خصت بنوع من التقريع، وإن كانتا متصلتين متحدتين، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء، وترك المسارعة إلى الامتثال، وما يتبع ذلك، والثانية(1/270)
للتقريع على قتل النفس المحرمة، وما يتبعه من الآية العظيمة، وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل؛ لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة، ولذهب الغرض من تثنية التقريع، ولقد روعيت نكتة بعدما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لَا باسمها الصريح في قوله تعالى: (اضْرِبُوهُ بِبَعْضهَا) حتى يتبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع - وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة.
هذا بيان أنها قصة، ولكن الزمخشري ذكر أنهما قصتان متحدتان في قصة واحدة، وأن الضمير العائد إلى البقرة في قوله تعالى: (اضْرِبُوهُ ببَعْضهَا) أي ببعض البقرة.
لكن المرحوم الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار، عدهما قصتين منفصلتين لا اتصال بينهما بأي نوع من الاتصال البياني؛ ولذا لم يجعل الضمير في قوله تعالى: (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) عائدا على البقرة إنما جعله عائدا إلى جثة المقتول، بمعنى فاضربوا القاتل الذي قام الاتهام على أنه القاتل ببعض جثة المقتول فإن ذلك يحمله على الاعتراف، وإذا قام الاعتراف فقد قام الدليل الموجب للقصاص، وبذلك القصاص يحي الله تعالى من مات بالقصاص له.
ذلك كقوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا. . .)، وإحياؤها بالقصاص، فالقصاص إحياء للنفوس كما قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179).
وقد ثبت بالإحصاء في تحقيق جرائم القتل أن مجرد رؤية الجاني للمجني عليه وهو مقتول يحركه للاعتراف، واعتمد المرحوم النجار في ذلك على إحصاءإت كثيرة كتبها له رجال الشرطة، وأن من الوسائل المتبعة لحمل المتهم على الاعتراف أن(1/271)
يمكنوه من رؤية القتيل، فإن ذلك يجعله يقشعر ويحس بعظيم ما ارتكب، وربما حمله ذلك على الاعتراف، والاعتراف سلطان الأدلة.
وإنه يزكي كلام المرحوم الأستاذ النجار ما يأتي:
أولا: أن القصة الثانية: وهي قصة القتل ابتدأت بقوله تعالى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا)، ولذلك لم يسع الزمخشري وهو الذواق للبيان القرآني إلا أن يذكر أنهما قصتان، وإن كان قد حاول أن يصل بينهما بأن الضمير في قوله تعالى: (اضْرِبوهُ بِبَعْضِهَا) يعود على البقرة، مع البعد بينهما بطائفة من القول، وعدم ظهور ذلك العود على البقرة.
الثاني: أن الضمير في (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) إذا عاد إلى النفس المقتولة يعود إلى أقرب مذكور، وعودة الضمير إلى أقرب مذكور هو القاعدة العامة إلا إذا أدى فيها الأمر إلى شذوذ غير معقول، أو كان ذلك مستحيلا.
الثالث: أن عود الضمير على النفس يؤدي علما نفسيا اجتماعيا هاديا مرشدا، فيكون في ذلك فائدة جديدة لم تكن في قصة البقرة، لأن قصة البقرة تدل على عناد بني إسرائيل وتأثرهم بأهواء المصريين في تقديس العجل.
الرابع: أن الآية اختتمت بقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وهو يدل على أن الموضوع يحتاج إلى تدبر، وفكر رشيد، وإدراك لمرمى التكليف.
وما نراه أن الفرق بين رأي المفسرين، ورأي المرحوم الأستاذ النجار أن اتجاه المفسرين إلى جعل مسألة البقرة مسألة معجزة، وأمرا خارقا للعادة على أساس أن الضرب ببعضها يحيي نفسا ميتة على أساس أن ذلك دليل حسي على إمكان البعث وقربه، والرحوم النجار يرى أن ذلك تكليف اجتماعي ينبه العقول إلى أمر مقرر ثابث في الدراسات النفسية والاجتماعية.
ونحن نميل إلى رأي الأستاذ النجار، لأنه لو كانت الحياة من الضرب ببعضها لأدى ذلك إلى إشباع ما في نفوسهم من أوهام حول تقديس البقر كما كان يتوهم(1/272)
المصريون، بينما الرأي الأخير لَا يؤدي إلى شيء من ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
بعد هذه الآيات البينات، والمعجزات الباهرة، والإرشادات الكثيرة لم ترق قلوبهم للحق، بل زادت قساوة ونفرة منه؛ ولذلك قال تعالى:(1/273)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكم مِّن بَعْد ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)، وثم هنا للتراخي لبعد ما بين هذه الآيات البينات، والمعجزات الباهرة، وما انتهت إليه من قسوة القلوب وصلابتها، حتى كأنها الحجارة أو أشد من هذه الحجارة.
فقد توالت عليهم البينات، من إنقاذ من فرعون، وإغراقه وآله، ومن المن والسلوى، ومن أخذه الميثاق، ومن أنهم طلبوا أن يروا الله فصعقوا ثم أفاقوا. . . إلخ، فقسَوا من بعد ذلك فكان الفارق كبيرًا. فما جاءهم من البينات، وما انتهوا إليه من قسوة في القلوب، فجمدت حتى لَا يكون فيها ينبوع لرحمة.
والخطاب للذين حضروا النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتبارهم مع من كانوا قبلهم أمة واحدة يرضى حاضرهم بماضيهم وأخلافهم بأعمال أسلافهم، ولذا صح أن يوجه الخطاب إليهم على أساس أنهم مشتركون معهم، إن لم يكن بالفعل فبالرضا والتأييد والسير على منهاجهم.
وقد وصف سبحانه وتعالى حال قلوبهم بأنها كالحجارة، بل إنها أشد قسوة من الحجارة؛ لأن الحجارة قد يكون فيها رحمة أو يجعلها الله تعالى سببا للرحمة، أما هؤلاء فلا رجاء للرحمة فيهم قط، لأن القلوب إذا جفت فيها ينابيع الرحمة لا تخرج رحمة من بعد ذلك، وقوله تعالى: (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) خبر بعد خبر، فالمعنى فهي كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة.
وقد رشح الله تعالى لمعنى أن قلوبهم أشد قسوة، فذكر خواص بعض الحجارة، أو ما يكون منها أنهارًا فقال تعالت كلماته: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ منهُ الأَنْهَارُ) أي إن من الحجارة للذي يتفجر منه الأنهار وهي الحجارة التي تهطل عليها الأمطار وابلا، فيتفجر منها ومن صخورها أنهار تجري كأنهار جبال الحبشة(1/273)
وغيرها من الجبال التي تنحدر السيول من فوقها فتتفجر خلالها أنهارًا تجري فيها المياه، وإن من الأحجار الذي يتشقق منه الماء أي ينبع الماء من عيونها بتشقق منها فتجري منها عيون يكون فيها أنهار ماء عذب فرات.
وإن من هذه الحجارة الذي ترجف فيه الرجفة خشية من الله تعالى أو أنه يرى كذلك كما قال تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. . .).
وإذا كانت الحجارة منها ما هو مصدر خير عام، فقلوبهم أشد قسوة منها، لأنهم لَا خير فيهم قط، ولا تنبع منهم رحمة، كما تنبع العيون من هذه الأحجار وكما تتفجر فتجري فيها الأنهار.
وختم الله سبحانه وتعالى مهددا منذرا من عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) نفَى مؤكدا غفلة الله تعالى عن أعمالهم، وأنها لأعمال خارجة من تلك القلوب القاسية التي نماها كَرُّ الأيام واستمرت سارية، حتى كاد منهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وأكد سبحانه وتعالى بالباء في قوله تعالى: (بِغَافِل) وبالجملة الاسمية، وإذا كان تبارك وتعالى غير غافل عما يعملون، فإنه لَا محالة مجازيهم به، آخذهم من نواصيهم فهذه الجملة السامية إنذار شديد.
* * *
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)(1/274)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
* * *
ذكر الله تعالى أحوال بني إسرائيل عقب ما كان من إبليس لآدم عليه السلام، وقد كان ذكرهم بعد آدم هان لم يكونوا أول أولاد آدم في الأرض، بل جاءوا بعده بمئات الألوف فيما نزعم، لأنهم أوضح صورة إنسانية، لتحكُّم إبليس في ابن آدم، فقد قامت بين أيديهم الأدلة، والآيات الحسية، والنعم، ومع ذلك كفروا وإذا كانت تلك حالهم في الماضي، والحاضرون يوافقونهم ويعتزون بهم مع هذه المآثم، ويحسبون أنهم بماضيهم الذي نسوه مفاخرون العرب، ويقولون فيهم: ما علينا في الأميين من سبيل، فإنه لَا مطمع في إيمانهم؛ لأن الجاهل يطمع في إيمانه إذا علم وقامت البينات الداعية، أما المغتر المعاند في ماضيه وحاضره، فإنه لَا مطمع في إيمانه.
ولذا قال الله تعالى مخاطبا محمدا - صلى الله عليه وسلم -، ومن اتبعه من المؤمنين:(1/275)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
(أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ منْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ).
الفاء مؤخرة عن تقدم، لأن الاستفهام له الصدارة، والفاء للإفصاح عن شرط متضمن ما كان في ماضيهم منذ آدم، وكفر متوال بأنعم الله تعالى، والاستفهام إنكاري بمعنى النهي، لأنه إنكار للواقع، إذ الواقع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه رسول يدعو إلى الهدى يطمع في إيمان من يدعوهم، فينكر الله تعالى عليه ذلك، ويكون الاستنكار بمعنى النهي، أي لَا تطمعوا في أن يؤمن هؤلاء فإن ماضيهم الذي يراه حاضرهم ويؤمنون به ليس من شأنه أن يطمعكم في إيمانهم، بل إنه يلقى باليأس من الإيمان في قلوب الذين يدعونهم، ويخلصون في دعوتهم.
وقوله تعالى: (أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ) التعدية باللام؛ لأنها تتضمن معنى الاستجابة، والمعنى أتطمعون أن يؤمنوا مستجيبين لكم. وآمنوا تتعدى بالباء إذا كان(1/275)
ما بعدها هو الذي يؤمَنِ به كقولك (آمِنُوا باللَّه وَرَسُوله)، ومثل قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8). وتتعدى باللام إذا كانت متضمنة معنى الاستجابة للداعي، ومن ذلك: (فآمنَ لَهُ لوطٌ. . .) ومثل قوله: (وَلا تَؤمِنوا إِلَّا لِمَن تَبِع دِينَكمْ. . .).
ولذلك كان التعدي هنا باللام: إما لتضمن الإجابة معنى الاستجابة، وإما لأن اللام للتعليل، أي لَا تطمعوا في إيمانهم لأجل دعوتكم، فهم ميئوس من إيمانهم لا كان منهم في الماضي، وما يكون منهم في الحاضر.
وقد بين سبحانه سبب الغواية في جملة حالية وهي (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) هذا الفريق أكان في عهود سابقة في عهد موسى أم حالهم الحاضرة.
قال كثير من مفسري السلف: إنهم كانوا في عهد موسى عليه السلام، وقد كانوا يحاولون أن يسمعوا كلام الرب سبحانه وتعالى، كما يسمعه كليم الله موسى عليه السلام، ولكن ذلك بعيد، إنهم سمعوا كلام الله تعالى من لسان موسى في التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام، وعقلوه، وفهموه ثم حرفوه قاصدين تشويه ما سمعوا، وإفساد الحقائق وقد فهموها.
وبعض المفسرين يرون أن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، وأن الفريق الذي سمع كلام الله تعالى بتبليغ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو من اليهود الذين عاصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمعوا ما يدعوهم إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعقلوه، وأدركوا مراميه وغاياته وما يدعوهم إليه، ثم بعد ذلك يحرفونه، وينقلونه إلى إخوانهم محرفا، غير دال على حقيقة ما يريد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهم فريقان: سامع محرف، ومعرض ابتداء لَا يحضر في المجلس النبوي، وما التحريف وكيف يكون؟ فنقول: التحريف في الكلام له معنيان: أحدهما التغيير في معناه، بأن يحرفوه على طرف من المعنى، بأن يخرجوه(1/276)
عن الب معناها إلى طرف من أطرافه؛ لأن الحرف أصله الطرف دون اللب والوسط فهم يتجهون إلى التعلق بغير لب القول.
والتحريف إمالة القول إلى غير معناه، وهذا هو النوع الثاني، وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته ونص كلامه " تحريف الكلام " أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين. قال عز وجل: (يُحَرِفُونَ الْكلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ. . .) (يحَرِّفونَ الْكلِمَ مِن بَعدِ مَوَاضِعِهِ. . .)، (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
والتعريض بـ " ثم " يفيد البعد المعنوي بين ما سمعوه وعقلؤه، وتدبروه، وعرفوا غايته، وبين التحريف الذي حرفوه مما يدل على فساد نفوسهم، وضلال قلوبهم.
وأخبر سبحانه وتعالى أن التحريف من بعد ما عقلوه، وعرفوه عرفان الخبير المدرك، الفاهم، لَا أنهم حرفوا عن غير علم ومن غير معرفة بمدلولات الألفاظ ومراميها، ومقاصدها، وغاياتها، فتحريفهم بقصد التضليل، ومن يقصد التضليل يكون قلبه مصروفا عن الحقائق فلا يدركها، ولا يذعن لها إن أدركها، بل هو يصد عن سبيلها.
ثم أكد سبحانه وتعالى سوء مقصدهم، وغاية عملهم، فقال تعالى: (وَهُمْ يَعْلمُونَ) أي وهم يدركون الكلام الذي سمعوه، ويعرفون مرماه ومقصده، ومع ذلك يحرفونه آثمين فاسدين مفسدين.
هذا على اعتبار أن الذي خاطب الفريق محمد - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه.
ويجب في مقام ذكر معاني هذه الآية أن نذكر أمورًا ثلاثة:
أولها: أن الذين حرفوا القول عن مواضعه فريق منهم، وليسوا جميعهم، فكيف يكون اليأس من إيمان كلهم بعمل فريق والجواب عن ذلك أن الفريق الذي سمع أرضى بقوله الفريق الذي لم يسمع، بل إن الفريق الذي لم يسمع كان معرضا(1/277)
عن سماع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو كان قابلا لاستماع القول المحرف راضيا به مصدقا له، فهم كانوا على سواء، وكذلك الأمر على التفسير بأن السماع كان من فريق من قوم موسى سمعوا من موسى وحرفوه، فقبله الآخرون وهم راضون، فكانوا مع غيرهم على سواء، ولا فرق بينهم.
الأمر الثاني: أنه إذا كان الفريق الذي حرف في عهد موسى أو بعده، فإن ذلك سائغ بعد موسى ثابت، والراجع للتوراة القائمة بين أيدينا يجد أمارات التحريف تلوح، وقد بينا ذلك في بحث رددنا به على بعض الكذابين، الذين قالوا في القرآن ما قالوا من افتراء وكذب رددناه في نحورهم.
وقد أثبت كتّاب النصارى أن التحريف لَا يزال يجري في الكتب عندهم ما بين كتب العهد القديم، والجديد، واقرأ في ذلك كتاب " ذخيرة الألباب " لأحد كتاب النصارى، فإنه بين بطريق لَا يقبل الشك أن التحريف حدث في التوراة والإنجيل، وأثبت الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه " إظهار الحق " أن التغيير والتبديل لَا يزال يجري إلى الآن في كتبهم.
الأمر الثالث: الذي نشير إليه أن أثارة باقية في كتبهم ربما تكون صادقة، ولكن اختلطت بباطل كثير.
كان اليهود يسمعون كلام الله تعالى، ثم يحرفونه من بعد أن يعقلوه، وهم يعلمون موضع التحريف. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالا أخرى من أحوالهم، وهي أنهم كانوا يظهرون الإيمان في حضرة المؤمنين فإذا خلوا مع أحد منهم تلاوموا على إظهارهم الإيمان؛ ولذا قال تعالى:(1/278)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ).
هذ وصف للمنافقين ذكره الله تعالى من قبل في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) إلى آخر الآيات التي ساقها القرآن الكريم، والأمثلة التي ضربها في كشف حالهم.(1/278)
وهذه الآية التي نتكلم في معناها أتت بأمر خاص باليهود الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي أنهم لفرط غرورهم يحسبون أن الله تعالى لَا يعلم خفى أمرهم، فهو نوع من النفاق أضلهم.
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) أي صدقنا وأذعنا لكل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - آمنا بأنه الحق من عند الله وبأن ما جئت به هو الحق.
وقد حسبوا أنهم بذلك قد نجوا من الملامة، فحفظوا المظهر بما أظهروه، وحفظوا كفرهم فلم يعلنوه، ولكن إخوانهم وهم على ملتهم، وعلى جحودهم لم يرضوا بالظهور بهذا المظهر.
فإذا خلا بعضهم إلى بعض، فالتقى الذين أظهروا ما لم يبطنوا، والذين لم يلقوا الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كان التلاوم فيقول الذين لم يلقوا المؤمنين (أَتُحدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكمْ)، أي بما حكم الله تعالى به عليكم، فالفتح في لغة العرب والحكم بأمر القضاء، كما قال تعالى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيتَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ. . .).
وما حكم الله تعالى به في هذا المقام هو بشارة التوراة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: (وَمبَشِّرًا بِرَسولٍ يَأتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ. . .)، وقد أخذ العهد عليهم بأن يتبعوه ويؤمنوا به إذا جاءهم، فالاستفهام إنكاري لإنكار فهم الوقوع فهم يوبخونهم على أنهم حدثوهم بما قضى الله تعالى عليهم بأن يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم، وإنه كان يجب عليهم أن يستمروا في جحودهم، وعللوا لوم إخوانهم بقولهم: (لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ) أي ليكون حجة عليكم عند ربكم، يحاجونكم به، والاعتراف حجة ظاهرة.
وإنهم بذلك يزعمون أمرين كلاهما باطل:
أولهما - أنهم يحسبون أن الله تعالى يحتاج في معرفة ما هم عليه إلى إقرارهم، وهو عالم الغيب والشهادة، وعالم السر والجهر، وأنهم مأخوذون بما واثقهم عليه، وبالحق الذي أمرهم باتباعه.(1/279)
وثانيهما أنهم يحسبون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ما كانوا يعلمون ما عند االيهود إلا بإقرارهم أمام النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمنون يعرفون ما في كتبهم من بشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهم أنفسهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
ولقد بين الله تعالى بطلان كلامهم وبعده عن العقول فقال تعالى: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) الفاء مؤخرة عن تقديم لأن صيغة الاستفهام لها الصدارة، والفاء للإفصاح، والاستفهام داخل على نفي، فهو من قبيل نفي النفي وهو في نتيجته يدعوهم سبحانه وتعالى إلى أن يعقلوا، ويتفكروا ويتدبروا، ويدركوا ما يؤدي إليه كلامهم، وهو بعده عن كل معقول، فهم يتصورون أن الله تعالى لَا يعلم حالهم، وما أخذ عليهم من مواثيق، وما وضع من إشارات إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم، يتصورون ذلك ويحسبون أن المؤمنين يحاجونهم عند الله بهذا الاعتراف، ولا يعرفون أن الله تعالى يعرف سرهم ونجواهم. وقد يفسر قوله تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) على أنه من كلام بعضهم، ويكون معناه على أنه من لسانهم، (أَفلا تَعْقِلُونَ) وتتدبرون نتيجة كلامكم من أنهم يحاجونكم به عند ربكم، ويكون هذا إمعانا في الجهل بحالهم وعلم الله تعالى، ونحن نميل إلى احتمال توجيهه من الله تعالت كلماته.
وإنهم ممعنون في الجهل بالله سبحانه وتعالى، وظنهم أن الله تعالى لا يعلم ما يخفون وما يبدون، وإنه لَا فائدة في أن يحدثوا النبي والمؤمنين، لأن الله تعالى بكل شيء عليم، ولذلك قال تعالى:(1/280)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
(أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) هذا استفهام إنكاري لجهلهم، وتوبيخ لهم على عدم علمهم، فالاستفهام داخل على فعل محذوف دل عليه عطف ما بعده والمعنى أيقولون ما يقولون من ذلك القول، ولا يعلمون أن الله - جل جلاله - وقد أحاط بكل شيء علمًا ويعلم ما يسرونه وما يجهرون به، وما يعلنونه للناس، يعلم ما تخفي صدورهم، ويعلم ما يجهرون، وفي بيان ذلك العلم تهديد بالجزاء الذي ينتظرهم، فهو سبحانه يعلم ما يفعلون، وما يخالفون به مواثيقهم وعهودهم، وما ينكثون به في أيمانهم، ومُؤاخذهم به.(1/280)
وقد ذكر سبحانه وتعالى حال اليهود، فأشار سبحانه إلى أن اليهود قسمان: أحبار أو علماء، وأميون يضلون الآخرين بدعوى أنهم وحدهم أوتوا علم الكتاب؛ ولأن الآخرين لَا يعرفون الكتاب إلا أماني يتمنونها، فيشبعوا أمانيهم وأهواءهم، ولذلك قال تعالى:(1/281)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ).
الأُمي هو الذي لَا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأمة الأمية التي لَا يسودها العلم، وكان الأحبار من أهل الكتاب يقولون: (لَيسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ. . .)، وقد ينسب الأُمي إلى الأم على اعتبار أنه على أصل ولادة أمه، فهو لم يزد علما عما ولدته عليه أمه.
وهؤلاء الأميون لَا يقرأون الكتاب، ولا يعرفون أحكامه، وما اشتمل عليه من تكليفات اجتماعية وعبادية، وإنهم لفرط جهلهم بالكتاب لَا يعلمون إلا ما يكون فيه إرضاء لأمانيهم، والأماني جمع أمنية، وهي ما يتمناه القلب ويحبه، وما يتمنونه أهواء مسيطرة عليهم كقول عامتهم وخاصتهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، ولقد قال تعالى (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ. . .)
، أي ما يتمنونه ويقول تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123).
وفى الجملة الأماني التي يعلم الأميون من أهل الكتاب مضمون كتابهم بها هي ما يكون متفقا مع ما يتمنون، فلا يعلمونه تكليفات وأحكاما، فيها حساب، وثوب أو عقاب، إنما يعلمونه رغبات تتحقق، وأهواء تثبت، ومثلهم كمثل عوامِّ المسلمين، الذين يقولون أمة الإسلام على خير، ولو لم يعملوا أي عمل، بل لو لم يعملوا عملا صالحا قط، ولو زنوا أو سرقوا، وسكروا، وعبثوا في كل معبث، ولم يتركوا منكرا إلا ارتكبوه، وسدوا باب الجهاد، وكانوا كَلًّا على أعدائهم يتصرفون في مصائرهم.
وقوله تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ) قالوا: إن الاستثناء منقطع، فيكون المعنى لَا يعلمون شيئا من الكتاب الذي يتلونه ولا يفهمونه، ولكن(1/281)
يعلمونه أماني يتمنونها وأهواء يبتغونها، ولا يدركون التكليفات والأحكام، ولا يعلمون المواثيق التي أخذت عليهم.
ولا مانع أن يكون الاستثناء متصلا، ويكون المعنى أنهم لَا يعلمون من علم الكتاب إلا ما يرضي أمانيهم، ويشبع أهواءهم. ويرشح لذلك قوله تعالى من بعد: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي إن علمهم ظن، وليس بيقين له مقدمات يقينية ينتج علما يقينيا، وإنما تنتج ظنا، وإن الظن لَا يغني من الحق شيئا، فعلمهم أوهام في أوهام، وهل تنتج الأهواء التي تنبعث من الأماني يقينا أو علما صادقا؟.
لقد قال بعض العلماء: إن الأماني من التمني، وهو لَا يكون إلا كاذبا، ولقد قال تعالى: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي ليس علمهم إلا ما يظنونه علما، وما هم بمتيقنين، وقد أكد الله تعالى قصر علمهم على الظن الذي يتجدد لهم آنَا بعد آن، فنفَى عنهم العلم وقصره على الظن، أي ما عندهم من علم إلا الظن الذي تدفع إليه أوهامهم، وعبر بالمضارع للإشارة إلى أن ظنهم يتجدد ويستمرون في أكاذيب يبتدعونها، وظنونًا يختلقونها أو يختلقها لهم أحبارهم.
* * *
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
* * *(1/282)
إذا كان من أهل الكتاب أميون لَا يعلمون من علم الكتاب إلا الأماني التي يشبعون بها أهواءهم، ويدخلون بها الكذب والتمويه على نفوسهم، فإن أولئك الأحبار أو العلماء يمالئون نفوسهم من الأكاذيب، ويكتبون بأيديهم ما ليس من الكتاب، ويوهمونهم أنه من الكتاب، وما هو من الكتاب، وفي ذلك رد على الذين يزعمون أن القرآن يقر كل ما جاء في كتبهم، فهل هو يقر ما يكتبونه بأيديهم، ويقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا؛ كذبوا وبهتوا، وأعظموا الفرية على كتاب الله تعالى.
ولقد أخبر سبحانه أن أولئك الذين يجلسون مجلس العلماء فيهم ينتهزون أن فيهم أميين لَا يعلمون الكتاب إلا أماني وأن علمهم ظن والظن لَا يغني من الحق شيئا، فيكتبون الكتاب بأيديهم حاذفين ما شاءوا ويزيدون عليه ما شاءوا، فقال تعالى:(1/283)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
(فَوَيْلٌ للَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ).
الفاء في قوله تعالى: (فَوَيْلٌ للَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأيْدِيهِمْ) وقعت في جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كذلك فويل، والويل الدعوة بالهلاك وترفع عندما لَا تضاف كقوله تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِبنَ)، وتنصب إذا أضيفت فتقول: ويلك وويل نفسي على أنها بمعنى المصدر، وتستعمل " وي " منها في معنى التعجب كقوله تعالى: (وَيْكَأنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ).
والمعنى أن الهلاك نازل لَا محالة بأولئك الظالمين للحق في ذانه ولأنفسهم الذين يكتمون ما أنزل الله تبعا لأهوائهم، ويكتبون الكتاب بمحض أهوائهم، ولإثبات مايريدون إثبانه ومحو ما يريدون محوه وكتمان ما يريدون كتمانه لما قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكتَاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّن لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفو عَن كثِيرٍ. . .)، فهم بكتابة ما يكتبون قد أخفوا كثيرا، وقد بيَّنه القرآن الكريم أو بين ما وجب بيانه. وقوله تعالى: (يَكْتبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) فيه تأكيد لبيان أنهم هم مصدر الإعلام به، وأنه لَا مصدر له من الله تعالى، يضلون به الأميين منهم، ويعلنونه(1/283)
على أنه من عند الله تعالى، وهم الذين كتبوه وصنفوه، وقد يكون فيه بعض ما جاء عن طريق موسى والنبيين من بعده، ولكنه في جملته ليس صادقا في كل ما كتبوا، ويكون قوله تعالى: (بِأيْدِيهِمْ) بيان لأنهم كتبوه حقيقة لَا مجاز فيه، وفيه تصوير لحالهم، وهم يكتبون بأيديهم.
هذا الوجه يكون فيه قوله تعالى عنهم: (يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِند اللَّهِ) الإشارة إلى المكتوب لَا إلى التأويلات التي يتاولونها خارجين بالكلام عن مواضعه، ويكون معنى قوله تعالى: (وَمَا هُوَ مِن عندِ اللَّه. . .)، أي ليس ما كتبوه بأيديهم من عند الله، وهناك تأويل آخر في الإشارة في قوله: (يَقُولونَ هَذَا) الإشارة فيه ليست إلى المكتوب، ولكن إلى التأويلات التي يحرفون بها الكلام عن مواضعه، ويتجهون به إلى أوهام توهموها، وكذبوا على الحقائق الثابتة، ويكون المكتوب هو كتابهم. والمعنى على هذا: ويل لهم إذ يكتبون الكتاب بأيديهم، ومع أنهم يكتبونه بأيديهم يحرفونه عن مواضعه، ويقولون عن تحريمهم إن هذه التأويلات هي من عند الله، والحقيقة أنه وقع منهم الأمران، فهم كتبوا كتابهم محرفا زادوا فيه، ونقصوا منه، ونسوا حظا مما ذكروا به، وعبثوا بحقائقه، وتأولوا ما صدقوا من نقله منه بغير مُتَأوله.
كان منهم الأمران، وعبثوا بما أنزل الله تعالى عبثا بينا، وغيروا وبدلوا، وأولوا تأويلات باطلة. وقد علل الله تعالى الباعث لهم بأنه ثمن قليل، وهو أعراض الدنيا، بأن يكون لهم سلطان ورياسة، وأن يكون اختصاص باطل بالنبوة، وأن يمالئوا أهواء الناس، ولقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن الدنيا بحذافيرها ثمن قليل بالنسبة للحق الذي ضيعوه، والباطل الذي زيفوه.
(لِيَشْتَرُوا بِهِ ثمَنًا قَلِيلًا) وهنا نجد النص الكريم يفرض معاوضة قامت بين أحبار اليهود في أفعالهم، اشتروا بالبضاعة الثمينة الغالية التي في أيديهم بأن دفعوها في نظير ثمن ضئيل هو أعراض الدنيا، أو نقول أن اشترى هنا معناها باع أي باعوا ما في أيديهم من حقائق اؤتمنوا عليها وأخذوا ثمنا قليلا مهما حسبوه كثيرا.(1/284)
وقد أكد سبحانه وتعالى الهلاك النازل بهما يوم القيامة فقال تعالت كلماته: (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ). ومعناها ويل لهم أي هلاك بسبب ما كتبت أيديهم، لأنها بهذه الكتابة حرفت وبدلت وسجلت في الكتاب هراء وأباطيل، فكانت في ذاتها إثما، وهذا يرجح أن موضع إفكهم الكتابة الباطلة نمسها لَا تأويلاتهم فقط، وويل لهم من الكسب الذي كسبوه من أعراض الدنيا، لأنه سحت في ذاته، إذ إن ما دفع في سبيله كان باطلا، وهو أخذ لمال الله بالباطل، وما يكسبونه من جاه أو سلطان أو رياسة أمر باطل؛ لأنه دفع الحق عن سبيله، وإن الله تعالى لَا يبارك شيئا أخذ بغير حله، فهوكالاغتصاب لَا يطيب لنفسه، وكذلك عد سبحانه وتعالى الكتابة سببا للعقاب الشديد، والكسب الذي كسبوه بالتضليل سببا للويل، وقال تعالى: (يَكْسِبُونَ) بالمضارع للدلالة على تجدد ما يكسبون، وكذلك الويل يكون متجددا مثله، وقد بيَّن سبحانه بعض هذه التأويلات الفاسدة، والتفسيرات الكاذبة، فحكى سبحانه وتعالى عنهم فقال:(1/285)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
(وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً).
هذا القول من التأويلات الفاسدة، وهو مبني على قولهم نحن أبناء الله تعالى وأحباؤه، وأنهم لَا يعذبون، ولكن يُمَتَّعون ولا يُأَثَّمون (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) قالوا: لن تعذبنا النار إلا أياما معدودة، بل قالوا: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ)، كأنهم لَا يدخلونها حتى في هذه الأيام، بل تمسهم ريحها أو نحو ذلك مما يفتري المفترون كما تقول أنت تهديدا بالضرب أو نحو ذلك: لن تلمسنا بيدك قط إلا مسا خفيفا.
فهم نفوا نفيا مؤكدا - بـ لن - أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة تمسهم مسا، ذلك قولهم، وتلك أمانيهم ومعنى معدودة أنها عدد قليل يعد وليس عددا كبيرا تجاوز الحسبة. وهذا القول يدل على أمرين:
أولهما - بيان أنهم صنف مختار والعذاب والحساب على غيرهم، فهم الذين يحاسِبون ويعاقِبون، أما هم فهم فوق الحساب، وفوق العقاب.(1/285)
وثانيهما - الاستهانة بأوامر الله تعالى، وما يكون وراء ذلك من حساب أو عقاب.
ويبين سبحانه أن ذلك الوهم الذي يتوهمونه، ويغترون به ليس له أساس يعتمدون عليه، وأنهم لَا عهد لهم بذلك فقال سبحانه: (أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ) الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، وتوبيخهم على فعلهم الواثقين به في ذات أنفسهم الموقنين به كأن الله عاهدهم، والمعنى أن الله تعالى لم تأخذوا منه عهدا عاهدكم عليه، وهو وحده الذي يملك العقاب ومقداره، بألا يعاقبكم إلا بهذا القدر، وهو أن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة، فالاستفهام يتضمن النفي، ويتضمن التوبيخ لهم على ما هم عليه، ويتضمن التعريض بنقضهم للعهود التي أخذت عليهم والواثيق التي وثقها وأكدها، ومنها رفع الطور عليهم، وأخذهم ما أوتوا بقوة.
ولقد بين سبحانه وتعالى أن العقاب يكون على قدر العمل، والثواب يكون على قدر العمل، فلا ينظر فيه إلى الذات، بل الجميع خلق الله تعالى، ولا يريد سبحانه إلا العمل الصالح، والامتناع عن الشر (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8). ولذا قال تعالت كلماته:(1/286)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
(بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) فتضمن الإجابة على قولهم ورده، والإضراب عنه، فالمعنى: تبين كلامكم، وهو باطل مخالف لما شرعه الله سبحانه وتعالى من عقاب وثواب أنه للأعمال من غير نظر إلى الذوات، بل الجميع على سواء أمام الله سبحانه وتعالى، في الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وذكر العقاب في الرد دون الثواب، - لأنهم اجترءوا على الله تعالى فخالفوه، وكفروا بنعمه، وعصوه ظاهرًا وباطنا فقال: (من كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتهُ).
الكسب العمل الذي يصير حالا ثابتة قائمة مستمرة، فمن عمل خطأ لَا يقال إنه كسبه، ومن عمل إثما عن جهالة وضلالة ثم تاب من قريب لَا يقال إنه كسبه، إنما(1/286)
يقال إنه كسبه إذا عمل قاصدًا مستمرا، حتى يكون له مجرى في قلبه، وينكت فيه نكتا سوداء، فهذا هو الذي يقال له كسب السيئة، والسيئة فيعلة من ساء يسوء سَيْوِئة فهي في أصلها سيوئة؛ اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء بمقتضى القاعدة الصرفية، والسيئة كل فعل يكون أثره سيئا في الناس أو في الجماعة أو في النفس، فيفسد التقدير، ويكون وبالاً، فيظلم نفسه، والناس، ومن حوله.
والخطيئة فعيلة من الخطأ، ولكن هناك فرقا بينهما فالخطأ يقع من غير قصد ابتداء، ولكن لَا يتكرر، أما الخطيئة فهي الفعل المقصود الآثم المتكرر الذي يخط في النفس خطوطا، حتى يصير الذنب عادة له أو كالعادة فيصدر الشر عنه وباستمرار من غير قصد خاص إليه، وكأنه يقع غير مقصود، وفي الحال تكون النفس قد أركست بالشر إركاسا، فالخطيئة حال نفسية للنفس الآثمة التي تمرست بالإثم؛ ولذا قال تعالى: (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطيئَتُهُ) أي أن الخطيئة استولت على النفس، وصارت كأنها قبة قد أحاطت بالنفس الآثمة من كل جوانبها.
وفى هذا إشارة إلى أحوال بني إسرائيل، وأنهم أحاطت بهم خطاياهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء وهو محقق بالنسبة لبني إسرائيل (فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الإشارة إلى الذين كان منهم كسب العمل الخبيث، وأحاطت بهم خطياتهم، واستغرق الشر نفوسهم، فالإشارة إلى الذين فيهم هذه الحال، وقد حكم سبحانه وتعالى بأنهم (أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وقد أكد خلودهم في النار بأنهم أصحابها أي الذين يلازمونها، والذين حكم عليهم بصحبتها، وأكد سبحانه وتعالى خلودهم فيها بالجملة الاسمية، وبضمير الفصل هم. وكان تأكيد خلودهم وملازمتهم بالصحبة ردا على ادعائهم أنها لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأنهم غير مخلدين بل هم أصحابها الخالدون فيها.
وإن الرد على أولئك الذين دلاهم الشيطان بالغرور فقالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ينتهي إلى هنا إن كانوا يتدبرون ويعقلون.(1/287)
ولكن سنة الله تعالى في كتابه الحكيم أن يقرن ببيان العقاب لأهله، وبيان الثواب لمن عمل الخير وداوم عليه لتكون العظة كاملة، فيها جزاء الخير وجزاء الشر، وكل بما كسب رهين.
قال تعالى:(1/288)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
(وَالَّذِينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ). وقد ذكر الإيمان في تأويل بعض الاي الكريمة التي تلوناها آنفا، ومقام العمل الصالح، وقلنا إن الإيمان والإذعان للحق بالإيمان بالله وحده، ورسوله محمد الأمين والرسل أجمعين، والملائكة والجن والغيب كله. وإن الإيمان يستكن في القلب، والعمل ينميه ويزكيه، وقلنا: إن الإيمان كالبذر الطيب الذي يلقى في الأرض لابد له من سقي ورعي وجو صالح ينمو فيه ويزكو، ولا يكون ذلك إلا بالعمل بموجب الإيمان، والإيمان من غير عمل كالبذر من غير إنتاج، وإنه يجف بل يموت إن لم يسق بالعمل، ولذلك لَا يؤكد القرآن على الإيمان وحده بل يكون معه العمل الصالح، وهو المعمل الذي يكون صالحا مصلحا للنفس وللناس، فيه استجابة لداعي الإيمان. وكثيرًا ما ذكر المعمل بوصف الصالح من غير أن يبين ما هو العمل الصالح، وذلك ليضمن كل ما فيه خير للإنسان في الآحاد، والجماعات والأقاليم، والإنسانية كلها، وذلك مع القيام بالعبادات من صلاة وصوم وحج وزكاة، وتعاون اجتماعي في الأسرة والجماعة والدولة، والإنسانية عامة.
وقد قال تعالى: (وأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). الإشارة إلى الذين آمنوا وعملوا صالحا أي أنهم متصفون بهذه الصفات، وقد أكد سبحانه وتعالى استحقاقهم للجنة وأنهم خالدون فيها بعدة مؤكدات:
أولها - الجملة الاسمية لأنها تدل على قوة الحكم، وبقائه.
وثانيها - بالملازمة بينهم وبين الجنة بأنهم أصحابها الملازمون. وأكد سبحانه وتعالى الخلود بضمير الفصل الذي يدل على القصر، والله سبحانه وتعالى يجزى الإحسان بإحسان، وجزاء سيئة سيئة مثلها.(1/288)
اللهم اجعلنا ممن ترضى عنهم، وإن كنا لَا نرجو أن نكون أحْسَنَّا، حتى ننال جزاء الإحسان، ولكن نرجو أن تتغمدنا برحمتك الواسعة التي تسع الذين يؤمنون ويتقون.
* * *
الميثاق الإنساني على بني إسرائيل(1/289)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
* * *
يذكر الله تعالى نبيه والمؤمنين بالميثاق الذي أخذ الله تعالى عليهم، وهو ميثاق يصلح نفوسهم، ويهذب جماعتهم ويجعلهم يتآلفون فيما بينهم، ويألفهم الناس، ويأتلفون، ولكن رضوا النفور بدل الائتلاف، والمنازعة بدل الالتقاء في ظل الرحمة والمودة الجامعة، وإن ذلك الميثاق الذي يذكره الله تعالى لهم هو ميثاق كل الأنبياء.
قال. (وإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي اذكروا أيها المؤمنون الميثاق الذي أخذناه على بني إسرائيل، فـ " إذ " تدل على الوقت الماضي، فاذكروا وقت ذلك الميثاق الذي أخذناه عليهم، وذكر الوقت ذكر ما يقع فيه واضحا بينا يتصور وجوده، كأنه موجود قاتم وليس متخيلا غير واقع.
هذا ميثاق بني إسرائيل، وهو محكم يشتمل على تهذيب النفس والجماعة الإنسانية كلها، وهو ميثاق النبيين في كل العصور وقد اشتمل على أمور:
أولها: وهو لبُّها عبادة الله تعالى وحده لَا يشرك به شيئا، وقد عبر سبحانه عنه بقوله تعالى: (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) أي لَا تعبدوا غير الله، فالله وحده هو المعبود(1/289)
ولا يعبد سواه، والصيغة في ظاهرها خبرية وهي طلبية بمعنى النهي عن عبادة غير الله تعالى كقوله تعالى: (لا تضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَولودٌ لهُ بِولَدِهِ. . .)، وكقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُروءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ. . .) وكقوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ. . .) والتعبير عن الجملة الطلبية بصيغة الجملة الخبرية فيه إشارة إلى أن الإجابة أمر فطري طبيعي، وأنه كان الطلب وكانت الإجابة، فعبر بما هو دال على الإجابة.
والتوحيد دعوة النبيين أجمعين، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36).
وإن الأمر الثاني - الذي ولي الأمر بالعبادة لله وحده، وهي تطهير النفوس من رجس الوثنية، والأوهام الفاسدة. الثاني - هو ما يتعلق بالأسرة لأن الأسرة قوام المجتمع يقوم عليها بناؤه، فلا يمكن أن يتكون مجتمع فاضل إلا من أسر قوية متماسكة برباط المودة، والمحبة والإحسان الذي هو غاية المحبة، وإن أولى رباط في الأسرة هو رباط الولد بأبويه، بالإحسان إليهما؛ ولذا قال سبحانه بعد الأمر بعبادة الله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، والإحسان زيادة في المعاملة عن المعاملة بالمثل أو بالعدل، وإنه زيادة عن العدل، بل فيه المحبة والرحمة؛ ولذا يقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأمرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ. . .)، والإحسان أصله مصدر أحسن، وهو الإتقان والإجادة، وبلوغ أقصى الغاية في الإجادة، فالإحسان في العبادة أن تبلغ أقصى درجات التجرد لله تعالى بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والإحسان إلى الأبوين أن تبلغ أقصى درجات الوفاء لهما في البر والمكافأة، وأن تزيد في المعاملة الحسنة، عما كان يكون منهما، احتياطا للرعاية والشفقة، والإحسان إلى الناس أن تعاملهم بالمودة الظاهرة، وإفشاء السلام بينهم فخير الإسلام(1/290)
أن تقرأ السلام على من تعرف ومن لم تعرف، وإحسان العمل إتقانه (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا).
وإن الإحسان إلى الوالدين ابتدأ بهما لأنهما رأس الأسرة، وهما أصل تكوينها، فمنهما تتشعب، وتمتد من الأصول إلى الفروع ثم إلى الحواشي؛ ولذلك كان الإحسان واجبا لكل من يربطهم بهما رحم، وذكر الإحسان إلى ذوي القربى، فكان الميثاق الإنساني العالي الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل فقال تعالى: (وَذِي الْقرْبَى) والقربى مؤنث أقرب، والمعنى أن بعد الوالدين ذو القربى، صاحب القرابة الأقرب مترتبة الأقرب فالأقرب، وذلك يتفق مع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد سئل: من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: " أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك " (1) ثم الأقرب فالأقرب، فمعنى ذي القربى، القريب الأقرب ثم يتوالى الأقرب فالأقرب.
والأسرة في الإسلام ممتدة، ليست مقصورة على الأبوين أو الزوجين، بل إنها ممتدة تشمل الأقرباء أجمعين، يحسن إليهم الأقرب فالأقرب حتى يعمهم ويبرهم جميعا، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " من أراد أن يبارك له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه " (2)، وإن ذلك كله تقوية لبناء الأسرة على التواصل والمودة والرحمة فإن المجتمع الكامل يتكون من أسر قوية وهي لبنة البناء، ولا يتكون بناء قوي إلا من لبنات قوية.
وإن العناية بالأسرة عناية بالجماعة، وإن الوطن لَا تتربى محبته إلا في بناء الأسرة، والنزوع الجماعي، والتربية الاجتماعية هي التي توح النفس الإنسانية محبة الجماعة وحسن التبادل العادل بينها وإنما يبدأ ذلك بالأسرة، وقد أراد بعض الفلاسفة - وسارت وراءهم بعض النظم - أن يمحو الأسرة ويربى الأطفال مع غير آبائهم
________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب الأدب (5514) ومسلم: البر والصلة (4621) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) عَنْ أنَس بْنِ مَالِك - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ صَرةُ أنْ يُبْسَطَ لَه فِى رِزْقه وَيُنْسَأ لَه فِى أثَرِه فًلْيَصِلْ رَحمَهُ). [متفق عليه، رَواه البخاري: كتاب البيوع (1925) وصلم: البر والصلَةَ والآداب (4639)].(1/291)
ليكونوا جميعا منتمين للجماعة. . فنمت أجسامهم، ولكن من غير عواطف إنسانية فمحوا الأسرة، والجماعة معًا.
الأمر الثالث - أنه قد اتجه الميثاق الإنساني الذي أخذ على بني إسرائيل إلى الإحسان إلى الضعفاء فقال تعالى: (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين) واليتيم هو من ققد أباه، فإن الأب هو العائل الكالئ الحامي، ومن فقده فقد انفرد في هذا الوجود، والأم وإن كانت هي الحانية العاطفة التي تغذيه بأنبل العواطف، لَا تحميه، وبالفطرة الأولى لَا تعوله؛ ولذلك لَا تعوض حماية الأب، وكلاءته.
والمسكين هو الذي أسكنته الحاجة، أو المرض المزمن، وإن كلمة المسكين بعمومها تشمل الفقير، لأن الفقير أسكنته الحاجة وأذلته، وهؤلاء جميعا الضعفاء، وإنه قد يشمل ابن السبيل أيضا، وهو الذي ينقطع عن ماله، ويكون في بلد بعيد عن بلده فهو قد أذلته الحاجة أيضا.
وفى الحقيقة إن اليتامى والمساكين بهذا العموم هم الضعاف في الجماعة، ورعاية الضعفاء وقاية لبناء الأمة من الانهيار، وإلا كانوا أشتاتا غير متراحمين يأكل بعضهم بعضا. وقدم الإحسان على اليتامى وإن كانوا أغنياء على المساكين؛ لأن اليتيم ضعيف، وإن كان كثير المال وهو ذو حاجة وإن كان غنيا، والإحسان إليه أن يقوم القائم عليه بتربيته، وألا يقهره ولا يذله، وأن يضمه إلى عياله.
فإنه إن لم يُحط بالعطف والرعاية والمحبة تربى على النفرة من الجماعة فيكون الشذَّاذ والكارهون للمجتمعات؛ ولذلك كانت النصوص الكثيرة الداعية إلي إكرام اليتيم، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " خير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم، وشر بيوت المسملين بيت يقهر فيه يتيم " (1). فاليتامى إكرامهم فيه تقوية للأمة بإنشاء نشء على الخلق القويم.
الأمر الرابع - بعد إقامة الأسرة ومراعاة الضعفاء في هذا الميثاق الإنساني الذي أخذ على بني إسرائيل وليس خاصا بهم دعا سبحانه وتعالى إلى بناء مجتمع
________
(1) عَن أبي هًرَيْرَة عَنْ النبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَْ " خَيْرُ بَيْب فِى الْمُسْلِمِينَ بَيْت فِيه يَتِيم يُحْسَنُ إِلَيْه، وشَر بَيْت فِى الْمُسْلِمِينَ بَيت فِيهِ يَتِيمٌ يُساءُ إِلَيْهِ ". [أخرجه ابن ماجه: كتاب الأدب - باب حق اليتيم (3669)].(1/292)
إنساني يعم يعم الإقليم والجنس والناس أجمعين فقال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) وقوله تعالى: (وَقُولُوا) معطوف على لَا تعبدون إلا الله، لأنها مرادف هذا الميثاق الإنساني الذي أخذ على بني إسرائيل، وهو يحمل في نفسه موجب تنفيذه، لأنه حقيقة الدين، وهو في أعلى درجات المعاملات، فهل استجابوا وأقروا به، وقد أخذ عليهم بقوة، ورفع الجبل فوقهم ليخضعوا للحق ويذعنوا له؛ إنهم أعرضوا عنه؛ ولذا قال تعالى في حالهم بعد أخذه عليهم: (ثُمَّ تَوَلَّيتمْ إِلَّا قليلًا مّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ).
التولي الإعراض الذي تدل عليه مظاهر حسية، ومنه قوله تعالى. (أَعْرَضَ وَنأى بجانبِهِ. . .)، فالأصل فيه أنه إعراض يدل عليه مظهر حسي، وقوله تعالى: (وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ) معناه أنهم تولوا بأجسامهم ونأوا عنه بحسهم، والمعنى أنهم معرضون مقاطعون لمبادئه وهذا تأكيد للإعراض وأنهم تركوه جملة وتفصيلا من غير أن يقبلوا منه شيئا، وقد أكد سبحانه الإعراض بالتصريح بالإعراض مع أن التولي يتضمن معناه، وأكده بالجملة الاسمية، أي أنه مع أنه ميثاق مؤكد، ومعناه قويم ترتضيه، العقول وتطلبه - أعرضوا عنه.
والخطاب للذين كانوا في عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن سبقوهم، لأنهم شاركوهم في ملتهم، واتبعوهم في توليهم، فكانوا صالحين لأن يخاطبوا بما خوطب به أسلافهم، وبيان حالهم وأمرهم.
وإن الله تعالى حكم عدل يحصي عمل الفاسدين، ويسجل خير الأخيار؛ ولذلك استثنى في الإعراض فقال: (إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ) فهم استجابوا لمقتضى الميثاق ولم يعرضوا وإن الحكم بالتولي ابتداء عليهم جميعا، ثم استثنى سبحانه الذين استجابوا ولكن لقلتهم كان الخطاب لهم جميعا.
وقوله تعالى: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) التعبير بـ (ثُمَّ) في موضعه من البعد بين الميثاق وما اشتمل عليه من أمور معمولة مطلوبة في حكم الشرع والعقل، ثم يكون من بعد ذلك الإعرأض الجافى الشديد منكم، إنه لأمر غريب لو كان من غيرهم.
* * *(1/293)
سفك دمائهم وإخراجهم وأسرهم
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
* * *
إن اليهود قد أصابهم ما أصاب الأمم من تفكك في وحدتهم، فكانوا يتسافكون دماءهم ويمالئ بعضهم جماعات أخرى بينهم وبينهم حرب، فينضم فريق منهم إلى بعض المتقاتلين، وآخرون إلى غيرهم فيقاتل بعضهم بعضا، في ظل العدوين المتقاتلين، وقد أخذ الله تعالى عليهم العهد بمنع سفك دمائهم، وأخذ عليهم العهد بألا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، ومع أن ذلك العهد حفظ لجميعهم وحقن لدمائهم ويفرض التعاون بينهم - خالفوه.(1/294)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ) كان الميثاق ألا يسفك بعضهم دماء بعض فلا يتقاتلوا ولا ينضموا إلى قوم يقاتلون أحدا(1/294)
منهم، وعبر الله تعالى عن ذلك بقوله: (لا تَسْفكُونَ دمَاءَكُمْ) بصيغة الخبر الدالة على النهي وعبر عن التقاتل بينهم بقوله: (لا تَسْفِكُوَنَ دِمَاءَكُمْ) فنسب السفك المنهي عنه إليهم والدماء إليهم للإشارة إلى الفعل ليعود على جميعهم بسفك الدماء، وإهدار الأنفس، لأنه إذا كان القاتل والمقتول من أسرة واحدة، فقد قتلت نفسها، وسفكت دمها، وأهدرت أهلها.
ومنع سبحانه وتعالى أن يخرج بعضهم من دياره، وعبر عن ذلك المنع بقوله تعالى: (وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِن دِيَارِكُمْ) فالخبر هنا في معنى النهي عن ذلك، والتعبير عن إخراج البعض بأنه إخراج لأنفسهم بيان الاجتماع على أن يكونوا أمة واحدة متآزرة بحيث تكون إصابة عضو منها إصابة لجميعها، فإخراج بعضهم لبعض إخراج لكلهم إذ يفرق جمعهم، ولأنه يطمع فيهم أعداؤهم، فيخرجهم جميعا، فإخراج بعضهم يسهل إخراج كلهم.
وإن هذا الميثاق قد أخذه الله تعالى عليهم وأقروا به وشهدوه، ولذا قال تعالى موثقا ذلك الميثاق بقوله تعالى: (ثُمَ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ) أي أنتم الحاضرون أقررتم ما أخذ على أسلافكم من هذا الميثاق، وأنتم تشهدون مؤمنين بصدقه.
وكان الخطاب في الإقرار والشهادة للذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم الذين نقضوا العهد ظاهرًا، وهم الذين سفكوا دماءهم، وهم الذين أخرجوا فريقا منهم، وإن كان الاحتمال بأن ذلك حصل من بعضهم في الماضي ليس ببعيد فقد تشابه في مخالفة الميثاق الخلف مع السلف، وهم جميعا في إثم مبين، وعدوان ظاهر.
وإذا كان ذلك الميثاق حفظا لوحدتهم ولجمعهم فقد نقضوه، وقتل بعضهم بعضا، وأخرج فريق منهم الآخر من داره، ولقد قال تعالى في ذلك:(1/295)
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
(ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ) العطف هنا بـ ثم للبعد المعنوي بين الميثاق الذي أخذ عليهم وأقروه بألسنتهم وشهدوا عليه بقلوبهم، وبين الحال التي وجدوا فيها من أنهم قتلوا أنفسهم بأن تقاتلوا فيما بينهم سواء أكان قتالهم لأنفسهم(1/295)
بأنفسهم، أم كانوا قد انضم فريق إلى قوم عدو لقوم آخر وتقاتل الإسرائيليون مع أنفسهم في ظل آخرين، وكان كل فريق من اليهود يعاون من يظاهره من أهل الشرك على قومه بالإثم والعدوان، وفي ذلك سفك لدمائهم.
وإن ذلك التعاون مع آخرين متعادين اقتضى أن يخرج فريق منهم من ديارهم، وذلك لأجل القتال الذي انضم فيه كل فريق من اليهود إلى فريق المشركين المتقاتلين؛ ولذا قال تعالت كلماته: (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).
روي عن ابن عباس أنه قال في تنكسير قوله تعالى: (ثُمَّ أنتمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسكُمْ) الآية: أنبأهم الله تعالى بذلك من قبل وقد حرم عليهم سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير وقريظة وهم مع الأوس فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل واحد من الفريقين حليفه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما لهم وما عليهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة ولا نارا ولا حلالا ولا حراما، ولا بعثا ولا قياما ولا كتابًا.
وخلاصة هذه الرواية عن ابن عباس الذي سماه التابعون ترجمان القرآن: أن سفك اليهود لدمائهم كان في العصر القريب للهجرة عندما كانت الحرب مشبوبة بين الأوس والخزرج، وكانوا على شفا حفرة من النار، كما أخبر القرآن العزيز، وأن اليهود لم يقفوا محايدين كما هو واجب الجوار بل تدخلوا ليوسعوا شقة الخلاف ويؤرثوا نيران الحرب لتستمر مستعرة فكان مع الخزرج بنو قينقاع، وكانوا حلفاء لهم، ومع الأوس النضير وقريظة، فتقاتل الفريقان كل في صفِّه، وأخرج كل فريق الآخر من داره، فكان هذا نقضا للعهد الذي أقروه وصدقوه وشهدوه.
وعلى ذلك يكون الخطاب في قوله: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ (85) لليهود الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - والإشارة إليهم، وكانت الإشارة مع الخطاب لبيَان الصفات القائمة فيهم، فالمعنى أنتم ترون أنكم تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم.(1/296)
ومن الغريب أنهم كانوا يتقاتلون غير متأثمين، ولا متحرجين من أن يقتل بعضهم بعضا، ويخرج فريق الآخر من داره ومع ذلك إذا وقع أحدهم في أسر من أي الفريقين فادوه، ولذا قال تعالى: (وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسارَى تُفَادُوهُمْ) إنهم يظاهرون على إخوانهم بالإثم والعدوان، ومع ذلك إذا جاءوكم مأسورين دفعتم فديتهم لتفكوا عانيهم، للذين كانوا سببا في أسرهم، وشَدُّوا الوَثَاق عليهم، فلو أن الفريق الذي تحاربون معه أسر أسرى من اليهود الذين يعاونون خصمه، وجاء إليكم هؤلاء الأسرى فإنكم تدفعون فديتهم لحليفكم الذي أسرهم، وهذا غريب متناقض. . أولا: لأنكم جعلتموهم مُقَاتَلين وسفكتم دماءهم وقتلتموهم فكيف تحمون حريتهم وأنخم الذين أخرجتموهم للقتال بسبب مناصرتكم لحلفائهم، ومناصرتهم لحلفائهم " ولذلك يقول تعالى تنديدا بحالهم وتناقضهم: (وَهُوَ مُحرَّمٌ عَلَيْكمْ إخرَاجُهُمْ).
ومعنى (تُفَادُوهُمْ) أي تدفعون دياتهم، لأن فدى ويفادى تدل على أحد معنيين إما أخذ الفدية ممن يدفعها أو دفعها، وتفسر هنا بمعنى دفعها؛ لأنه المناسب للمقام من حيث وقوعهم في التناقض في أوامر دينهم وميثاقهم فهم قد أخرجوا إخوانهم للقتال ومع ذلك إذا وقعوا في الأسر قدموا فديمهم اعتمادا على نص عندهم يقول: (إذا رأيت أخاك الآخر مملوكا فأخرجه من رقه) وبالتالي إذا رآه مأسورا أخرجه من أسره وإنه كان عليه ألا يكون سببا في إخراجه، وإنه محرم عليه إخراجه فلا يكون سبب الرق لذا قال تعالى: (وَهُوَ مُحرَّمٌ عَلَيْكمْ إِخْرَاجُهمْ) والحال والحكم الثابت المبين أنه محرم عليكم أن تخرجوهم، فإذا كان محرما عليكم ألا تتركوهم أسرى، فإنه من المحرم عليكم قبل ذلك ألا تخرجوهم فيكون ذلك سبب الأسر.
ولذلك قال تعالى مستنكرًا حالهم: (أَفَتؤمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) الفاء للإفصاح عن شرط مقدر، تقديره إذا كانت هذه حالكم فأنتم تؤمنون ببعضر الكتاب وتكفرون ببعض، والهمزة للاستفهام قدمت على الفاء لأنَّ الاستفهام له الصدارة دائما.(1/297)
والاستفهام إنكاري لإنكار الو اقع لأنهم بعملهم هذا يؤمنون ببعض الكتاب وهو تحريم البقاء على الأسْر، ويكفرون ببعضه الآخر، وهو تحريم سفك دمهم، وإخراجهم من ديارهم للقتال، فهو استفهام لإنكار الواقع، ولومهم عليه، وبيان أنه تناقض في إيمانهم ينفذون ما يكون هواهم في تنفيذه، ويجحدون بما لَا يكون لهم هوى في تنفيذه فاتخذوا إلههم هواهم.
وإن هذا يؤدي إلى هوانهم وذلهم ووصفهم بالعار الدائم؛ ولذا قال سبحانه (فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الخزي: الهوان والعار والذلة، والفاء للترتيب، فإن الأمر الذي يترتب على تسليم أنفسهم لسفك دمائهم وإخراجهم من ديارهم يترتب عليه خزيهم بتسليم أنفسهم، وعار لخيانتهم لأقوامهم، ووراء ذلك كله الذلة وهوان أمرهم بين الناس، وإن ذلك جزاء مأخوذ من العمل في ذاته، ولذلك بين القرآن الكريم أنه لَا جزاء سواه، وذلك بالنفي والإثبات بالاستثناء، أي: أن الذين يفعلون ذلك الفعل لَا جزاء لهم إلا العار والذلة والمهانة، وإذا كان ذلك هو المتعين جزاءً فهو من الفعل في ذاته؛ ولذلك كانت الإشارة إليه في قوله: (ذَلِكَ) إشارة أن الفعل ذاته هو العلة.
والحياة الدنيا هي الحياة الحاضرة، وسميت الدنيا، فهي مؤنث أدنى؛ لأنها القريبة المرئية المحسوسة، والحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية الدائمة التي تكون سعادة دائمة، أو شقوة مستمرة.
وإذا كان ذلك جزاء في الدنيا، فجزاء الآخرة أشد وأبقى؛ ولذلك قال تعالى: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَاب) ويوم القيامة هو يوم الحساب والعقاب أو الثواب، بعد البعث والنشور، وقولة تعالى: (يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَاب) يفيد بإشارة اللفظ إلى أنه مرجعه إلى عذاب سابق، فالخزي عذاب دنيوي نتيجةً لفعلهم، وهذه هي الدفعة الأولى، ويردون بعد ذلك إلى أخرى يوم القيامة فيها أشد العذاب وأنكله.
وقد بين سبحانه وتعالى أن حسابهم عند الحكيم العليم الذي لَا يخفى عليه شيء، ولا يغفل عن شيء؛ ولذا قال تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(1/298)
نفَى الله تعالى بهذا النص السامي نفيا مؤكدا أن الله غافل عما يفعلون، فإذا كانوا هم ينسون ما يفعلون من آثام لاستمرائهم لها، واستمرارهم عليها، فالله تعالى لا ينساها، وقد أكد سبحانه نفي ذلك بالباء في قوله تعالى: (بِغَافِلٍ) وبنفي وصف الغفلة عن ذاته العلية، بأن الغفلة ليست من شئونه، وقوله تعالى: (عَمَّا تَعْمَلُونَ) إشارة إلى إحصائه سبحانه وتعالى أعمالهم حال عملها وحال تلبسهم بآثامها.
* * *
تنبيه: هذه الآيات نزلت في بني إسرائيل، والخطاب لهم ابتداء، ولكنه شامل عام في عبرته بالنسبة للأمم جميعها، وخصوصا الأمم التي تقوم على مبادئ رسالة إلهية من السماء، فإنها يجب أن تكون بناء واحدا قائما لَا تتداعي لبناته فيهوى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أمته: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى " (1). وأوجب الإسلام على المسلم أن يعين أخاه المسلم في شدته وكربته، فقال: " من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته " (2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " المسلم أخو المسلم لَا يخذله ولا يُسلمه " (3) ومع ذلك فعلنا الكثير نحن المسلمين في عصرنا، وهو امتداد لعصور قبلنا من الحصر العباسي الثاني إلى اليوم، سفكنا دماءنا بأيدينا لهوى الملوك، وفساد الحكام، فكانت الحرب بين المسلمين شديدة لُحيَّة، وصار كل فريق يرى في الآخر عدوه الذي ينتهز الفرص للقضاء عليه، وصار بعضهم يغري أعداء الإسلام من الوثنيين وغيرهم بالمسلمين، حتى وقعوا بالمسلمين وحاربوهم حرب إفناء.
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الأدب (5552) ومسلم: كتاب البر والصلة (4685) واللفظ له، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2) عن عَبْدٍ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا انَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " المُسْلمُ اخُو الْمُسْلِم، لَا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أخِيه كَانَ اللَّهُ في حَاجَته، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسلم كُربة فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَة مِنْ كرُبَات يَوْمِ الْقيَامَة وَمَن سَتَرَ مُسْلَمَا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقَيَامَة ". [متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب المظالم والغصب (2262)، ومسلم: كتاب البر والصلة (4677)].
(3) انظر السابق. وروى أحمد عَن ابْنِ عُمَرَ اأنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَقُولُ: " الْمُسْلِمُ اخُو الْمُسْلِم لَا يَطلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ،، وَيَقُولُ: " وَالَّذي نَفْس مُحَمَّد بيَده مَا تَوَاد اثْنَانِ فَفُرق بَيْنَهُمَا إِلا بِذَنْب يُحْدِثُهُ أحَدُهُمَا، وَكَانَ يَقُولُ: " لِلْمَرْ الْمُسْلمَ عَلَى أخيه مِنْ المًعرُوفِ سِت: يُشَمتهُ إِذَا عَطَسَ، وَيَعُودُه إِذَا مَرِضَ، وَيَنْصَحهُ إِذَا غَابَ، وَيَشْهَدهُ وَيُسَلمُ عَلَيْه إِذَا لَقَيَهُ، وَيُجيبهُ إِذَا دَعَاهُ، وَيَتْبَعُهُ إِذَا مَاتَ، وَنَهَى عَنْ هِجْرَةِ الْمُسْلم أخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ " [مسند المكثرين (5103)].(1/299)
ولقد كانت الأرض الإسلامية تُلتَهم قطعة قطعة، وفي المسلمين أقوياء لَا يرون للدين حقا عليهم يوجب أن ينقذوا إخوانهم من المؤمنين، فقد كان النصارى يعذبون المسلمين حتى أفنوهم فيها، والأتراك من النظارة الذين ينظرون ولا يتحركون.
وجاء العصر الأخير، فرأينا أعداء الله وأعداء الإسلام يجندون من المسلمين من يحاربون المسلمين، ووجدنا من الذين يتمسحون باسم علماء الدين من يؤيدون محاربة المسلم للمسلم، ووجدنا في السنين الأخيرة من الحكام من يقتل المَقَاتِل العظيمة في المسلمين من رعيته، حتى يلجئهم إلى الوثنيين لينقذوهم، وتذهب جماعات إسلامية، وقتًا بعد آخر ووجدنا بيت المقدس يخربه اليهود ويستولون عليه، ووجدنا من اللوك من يؤيدونهم. . اللهم لاحول ولا قوة إلا بك وأنه ينطبق علينا قوِلك الحكيم: (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
وإن أولئك الذين يسفكون دماءهم، ويخرجون أنفسهم من ديارهم باعوا آخرتهم بدنياهم، وكانت الحياة الآخرة هي الثمن للدنيا التي اشتروها؛ ولذلك قال تعالى:(1/300)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، الإشارة إلى الذين سفكوا دماءهم وأخرجوا أنفسهم من ديارهم، ونقضوا مواثيق الله التي جاءتهم بالأحكام التكليفية، والإشارة إلى الموصوفين بصفات تشير إلى أن هذه الصفات هي سبب الحكم الذي يقترن باسم الإشارة، أي أن هؤلاء بسبب أوصافهم قد اشتروا الحياة الدنيا بثمن هو أغلى الأثمان، وهو الآخرة، ولكننا نجد أنهم خسروا في الدنيا؛ لأنهم لحقهم الخزي والعار، وفسدت نفوسهم، حتى صارت كالقردة والخنازير، وإن ذلك حق، ولكنهم فهموا الدنيا متاعا يستمتعون به كالحيوان فاشتروا هذه الدنيا التي زعموها، وتركوا الآخرة فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ومع أنهم طلبوا الحياة، وتركوا الآخرة لم ينالوا ما طلبوه طيبا، بل أخذوه ذليلا مهينا، مصحوبا بالخزي، ولكنهم يريدون الحياة الدنيا على أية صورة كانت، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة، وإن جزاءهم في الآخرة التي تركوها وباعوها،(1/300)
قال الله تعالى فيهم: (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) الفاء فاء الإفصاح التي تفيد ترتب ما بعدها على ما يفهم مما قبلها، أي أنه بسبب تلك المبادلة الخاسرة التي خسروا فيها الآخرة لَا يخفف الله تعالى عنهم العذاب الشديد الذي يستقبلهم؛ لأن أسباب التشديد من التقاطع والتنابذ والحسد والجحود قائمة، ولا مسوغ للتخفيف قط، (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، فلا ترى من نبي ينصرهم، ولا شفيع يشفع لهم لأنهم عدموا الشعفعاء، وقتلوا النبيين.
* * *
استكبارهم على الرسل
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
* * *
ذكر الله تعالى المواثيق التي أخذها على بني إسرائيل، وكيف نقضوا ميثاقا بعد ميثاق حتى ما يتعلق بسلامة جماعتهم، وحمايتهم لأنفسهم. بعد ذلك، ذكر استقبالهم للرسل، وكتبهم فقال تعالى:(1/301)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بالرسلِ)، الكتاب الذي أنزله الله على موسى هو التوراة، وليس هو الذي يطلقون عليه اسم التوراة، أولا: لأنه يشتمل على أخبار الأنبياء من بعده داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء الذي جاءوا من بعده، فلا يمكن بالبداهة أن يكون قد نزل على موسى ما جاء بعده من أخبار نبيين جاءوا من بعده بمئات السنين، وثانيا: لأنهم حرفوا وغيروا وبدلوا ونسوا حظا كثيرا مما نقل إليهم، ولا يزالون يحرفون، ويغيرون ويبدلون، ويعبثون. وإن الكتاب الذي نزل على موسى هي الأسفار الخمسة، وقد حرفوها وغيروا [وبدَّلوا] (1)، ولا يزالون يفعلون. [آتي] الله تعالى موسى عليه السلام
_________
(1) في الأصل [وبدَّعوا] ولعله خطأ مطبعي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(1/301)
الكتاب الصادق الذي هو حجة عليهم وليس ما بأيديهم حجة لهم لأنهم كتبوه بأيديهم ليشتروا به ثمنا قليلا (فَوَيْلٌ لهُم مِّمَّا كتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ).
وإن الله تعالى أرسل الرسل من بعد موسى، ليؤيدوا ما دعا إليه في الكتاب الذي نزل عليه؛ ولذا قال تعالى: (وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أي جاء بعده رسل تترى، رسولا بعد رسول، فمعنى قفينا أرسلنا رسولا وراء رسول وراء رسول لأن التقفية التتابع بحيث يكون كل رسول في قفا الرسول الآخر وراءه، ومعنى هذا التتابع أن يكون الجميع على نمط واحد، وغاية واحدة، فإن الخط المستقيم المتتابع في نقطة ينتهي إِلى نقطة واحدة، وهي الوحدانية، والتكليفات الإلهية الواحدة، كما قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13).
ولقد ذكر بعد ذلك عيسى عليه السلام، وقد بعث في اليهود، أي كانت دعوته الأولى في اليهود، ومعه المعجزات الباهرة فقال تعالى: (وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ذكره سبحانه وتعالى في ضمن الرسل الذين تتابعوا من بعد موسى، وقفاهم الله تعالى به، رسولا بعد رسول، فهو رسول من بينهم، ولكن اختصه تعالى ببينات أي معجزات حسية باهرة قاطعة في الدلالة على رسالته، ولكنهم كفروا، وقد ذكر سبحانه وتعالى هذه البينات في آيات أخرى من القرآن، منها ما جاء في سورة آل عمران، فقد قال تعالى مبشرا مريم بولادة المسيِح عليه السلام، وهي مستغربة أن يكون من غير أب: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ(1/302)
الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51).
* * *
هذه بعض البينات، وذكرت بينات أخرى في سورة المائدة منها أنه بإذن الله يردُ الحياة إلى الموتى، والفاعل هو الله تعالى وأجرى الإحياء على يد عيسى عليه السلام، وأنه ينادي الموتى من قبورهم فيخرجون بإذن الله تعالى العلي القدير، وأنه نزل عليه مائدة من السماء، فكانت آية أخرى.
وفى هذا المقام لابد من ذكر أمرين:
أولهما - أن اليهود كفروا بهذه الآيات البينات، ولم يذعنوا للحق وحاولوا قتل المسيح عليه السلام، وأرادوا أن يكون في عداد النبيين الذين قتلوهم، ولكن الله تعالى حماه منهم، وادعى النصارى الذين جاءوا بعد المسيح عليه السلام أنهم قتلوه لأوهام توهموها، وأكاذيب اخترعها بولس الذي كان له عدوِّا مبينًا.
الأمر الثاني - وهو لماذا كانت هذه البينات الخارقة للعادة للمسيح من بين سائر النبيين؛ وإن كان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ما هو أجل وأعظم، وجاء مثلها على يديه، ولكنه لم يتحدَّ بها، بل تحدى بالقرآن العظيم الخليقة كلها في كل أجيالها، ولا يزال يتحدى العصور إلى اليوم.
كانت معجزات عيسى أو بيناته كما عبر القرآن الكريم من هذا النوع؛ لأن اليهود ما كانوا يؤمنون إلا بالمادة ولا يعترفون بالروح في كتابتهم، ولا في أنفسهم، ولا في دراساتهم الدينية في العصر الذي بعث الله تعالى عيسى عليه السلام فيه ولا العصر الذي قارنه وسبقه، فكان لابد من أمر روحي يقرع حسهم وحالهم المادي فكان خَلْق عيسى عليه السلام، وكان أمرًا خارقا للعادة مبطلا سلطان المادة، وكانت المعجزات كلها من الناحية الروحية فهو يخبرهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، وهو يبرئ الأكمه والأبرص وهو ينفخ في الطين فيكون طيرا، وهو يحي الموتى، وهو يخرج الموتى من قبورهم بإذن الله تعالى، والله تعالى ينزل المائدة فيأكلون(1/303)
منها، كما كان ينزل المن والسلوى على بني إسرائيل عند خروجهم من مصر، وهم يعيشون في سيناء.
هذا بالنسبة لبني إسرائيل خاصة، أما بالنسبة للعقل البشرى عامة الذي عاصر المسيح عليه السلام، وكان في القرون التي قبلها، فهو أنه عصر الفلسفة الأيونية التي تولدت منها الفلسفة اليونانية، وقد كان هذا العصر تسوده فلسفة الأسباب والمسببات فلكل شيء سبب عادى، وكل سبب هو سبب لشيء وأتبع سببا، فالوجود كله يؤثر بعضه في بعضه، فالولد يكون من أب وأم، يكَوَّن من أصلاب الآباء وبطون الأمهات، والأبرص والأكمه لَا يشفيان، ولا يمكن أن يعود الميت حيا، ولا أن يخرج الأموات من قبورهم، وهكذا فكان لابد من قوارع تبين أن الأسباب والمسببات من الله، الله تعالى أبدعها بديع السماوات والأرض، وهو يغيرها، وهو الفعال لَا يريد.
لقد تطاولوا حتى قالوا: إن الوجود منشأ من موجده بنظام الأسباب والمسببات، فهو وجد منه وجود المعلول من علته، فهو ليس مختارًا حتى في وجوده، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، فهو القادر المختار المريد العليم السميع البصير، ليس كمثله شيء وهو فعال لما يريد.
كانت معجزات عيسى عليه السلام قاطعة في إبطال الأسباب العادية والمسببات ولوازمها، فتعالى الله، وتقدست ذاته وتنزهت صفاته.
وما يدعى من أن عصر عيسى عليه السلام كان عصر علم الطب لَا يؤيده التاريخ، بل كان اليهود الذين بعث فيهم عيسى وخاطبهم برسالته ومعجزاته كانوا أجهل الناس بالطب كما حكى عنهم الفيلسوف المسيحي رينان في كتابه.
أيد الله تعالى المسيح عليه السلام بالبينات الباهرة، ولكن بني إسرائيل كفروا بها، وأيده عليه السلام بروح القدس، فقال تعالى: (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وروح القدس هو جبريل رسول الله تعالى إلى رسله، كما قال تعالى: (وَمَا كانَ لِبشَرٍ أن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ من وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رسولًا. . .)، فالرسول(1/304)
الذي يرسله الله تعالى إلى رسله هو الملك جبريل عليه السلام، وقال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:
وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس به خفاء
وقال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ)، وروح القدس من إضافة الموصوف إلى الوصف، أي الروح القدس أي الطاهر وقد وصف بالأمين، كما ترى في الآية التي تلونا، وليس إلها، ولا ثالث ثلاثة كما قال الذين لَا يؤمنون إلا بالأوهام، وهم النصارى الذين يتبعون بولس عدو المسيح، ولا يتبعون المسيح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
كفر بنو إسرائيل بالمسيح عليه السلام، وقد أتى بهذه البينات القاهرة، ولكنهم كفروا استكبارا عن اتباعه عليه السلام، " ولأن ما جاء به يخالف أهواءهم فهم يريدون الرسول داعيا إلى ما تهوى أنفسهم، والكفر ملازم لكل من جعل إلهه هواه، فهو يدين لكل ما يتبع أهواءهم، ولا يدينون دين الحق الذي يقوم الدليل على صحته، وأنه من عند الله؛ ولذلك قال الله تعالى في بني إسرائيل: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ).
والهوى هو الميل إلى الشيء بالانحراف، ويسمى الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى الباطل من كل شيء فهو يهوي إلى الخلق الفاسد، وإلى الضلال، ومن بعد ذلك يهوي به إلى النار.
وإنهم يرفضون طاعتهم للحق إطاعة لهواهم ولكنهم يسترون ذلك بالاستكبار، واستصغار الحق ومن يدعو إليه مستعلين عليه، كأنهم هم وحدهم، حملة الرسالة الإلهية ولا يحملها سواهم، لأنهم أبناء الله وأحباؤه، ولذلك كانوا مستمرين في غوايتهم.
قوله تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ) الفاء لترتيب ما بعدها من حكم على ما كان قبلها من كفر متوالٍ مستمر، والهمزة للاستفهام وهو لإنكار الواقع الذي هم فيه،(1/305)
وكلما شرطية تدل على تكرار الفعل وهو الجواب إذا تكرر الشرط، والمعنى يتكرر منكم الاستكبار كلما جاء نبي من الأنبياء بما لَا تهوى ولا تحب أنفسكم، وإن ذلك توبيخ لهم لحاضرهم وماضيهم على سواء، لأنهم في الباطل أمة واحدة، يتبع خلفهم سلفهم، ويدين آخرهم بما يدين به أولهم، فهم جميعا يستكبرون عن الحق، وحالهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - هو حال أسلافهم مع أنبيائهم، فهم استكبروا عن إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه ليس من بني إسرائيل ولأنه لم يجئ بما تهوى نفوسهم.
وإنهم إذ يستكبرون يرتبون من ماضيهم على الاستكبار إما التكذيب المجرد، كما كانوا يفعلون مع الأنبياء، وكما فعلوا مع عيسى عليه السلام، إذ حاولوا قتله، فأنجاه الله تعالى منهم، وما قتلوه يقينا بل رفعه الله تعالى إليه، وإما التكذيب المقرون بالاعتداء الآثم؛ ولذا قال تعالى فيما ترتب على الاستنكار: (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتلُونَ).
فالفاء للترتيب، أي ترتب على الاستكبار الآثم أن كذبتم، وأن زدتم على التكذيب القتل، كما فعلتم مع يحيى وزكريا عليهما السلام، وكما حاولتم أن تفعلوا مع عيسى فرد الله تعالى كيدكم في نحوركم.
وقد عللوا تكذيبهم للأنبياء الذي دفع إليه استكبارهم بقولهم:(1/306)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ) وغلف جمع أغلف وهو ما عليه غلاف أي غطاء يمنع وصول ما يدعو إليه الرسول إلى قلوبهم، وهو كقوله تعالى حكاية عن أمثالهم: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ. . .)، وذلك لأن الهوى إذا سيطر سد مسامع الإدراك الصحيح فيكون لهم قلوب لَا يفقهون بها، فهم لَا يدركون، وهم إذ يحكمون على أنفسهم ذلك الحكم، فهو صادق فعلى قلوبهم غلاف من الهوى سد معرض عن الحق، وهم يقولون ذلك القول مصرِّين على التكذيب؛ ولذا قال تعالى: (بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ) أي طردهم سبحانه وتعالى من رحمته، وهو حكم تقريري، مثبت لغلف قلوبهم، والإضراب في قوله تعالى: (بَل لَّعَنَهُمُ) إضراب عن قبول اعتذارهم، ورده عليهم بأن هذا طرد لهم من رحمة الهداية إلى كفر الغواية.(1/306)
ويفسر ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما معنى قولهم في قلوبنا غلف " إن قلوبنا ممتلئة علما لَا تحتاج إلى علم جديد يأتي به الرسول محمد أو غيره، وقرأ ابن عباس غُلُف جمع غلاف، والمعنى أن قلوبهم امتلأت علما حتى الكظة ووضع عليها غلاف محكم يمنع أن يخرج العلم، ويمنع أن يدخل إليه غيره، وهو تعبير تصويري ويتفق معه وصف استكبارهم، ويكون معنى: (بَل لَّعَنَهُم اللَّهُ) لعناهم، وطردناهم، فالإضراب في " بل " رد لادعاء العلم بالنبوات، بل هو غرور راكز في نفوسهم منعهم من إدراك الحقائق الدينية، والرسالات الإلهية التي انتهتا برسالة خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - (1).
وإن ذلك متفق مع قوله تعالى في سورة النساء: (فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا).
وقد رتب الله تعالى على تغليف قلوبهم ووضعهم الغطاء المانع من دخول الحق إليها، فقال تعالى: (فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أنه ترتب على تغليف قلوبهم عن الحق ألا يؤمنوا به، و " ما " في النص السامي الكريم للدلالة على القلة الشديدة، والمعنى فقليلا أي قلة يؤمنون، والعلة واضح أنها في العدد لَا في الإيمان، فالإيمان لَا يتجزأ إلى قليل أو كثير، فهو كامل دائما، أو هو الإذعان للحق بعد تصديقه، وذلك لَا يكون إلا كاملا، فالقلة والكثرة في عدد المؤمنين لَا في مقدار إيمانهم، فالمعنى بسبب تغليف قلوبهم لَا يؤمن إلا عدد قليل وقوله تعالى: (فَقَلِيلًا مَّأ يؤمِنونَ) إن قليلا وصف لمصدر محذوف تقديره: إيمانا قليلا أي (قلة يؤمنون) والقلة كما أشرنا ليست في أصل الإيمان، بل فيمن اتصفوا بالإيمان، لأنهم يكونون عددا قليلا، ومصداق ذلك قوله تعالى في أهل
________
(1) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَ مَثَلِي وَمَثَلَ الأنْبِيَاءِ مِنْ قبِلي كَمَثَلِ رَجُل بنى بَيْتًا، فَأحْسَنَهُ وَأجْمَلَهُ إلا مَوْضِعَ لَبنَة مِنْ زَاويَة، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأنَا اللبِنَةُ وَأنَا خاتِمُ النَّبِيينً) [متفق عليه؛ أخرجه البخَاري: كتاب المناقب (3271) ومسلم: كتاب الفضائل (4239) وغيرهما].(1/307)
الكتاب: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ)، وقوله تعالى في أهل الكتاب السابقين على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115).
* * *
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
* * *
ذكرهم الله تعالى بأعمال سلفهم مع الأنبياء بصورة عامة، ثم بدأ سبحانه وتعالى أعمالهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفة خاصة، وهي في ذاتها أشد كفرا مما كان من أسلافهم مع الأنبياء السابقين، ولذا كان الخطاب متصلا بخطاب أسلافهم، فأسلاف أخذ عليهم الميثاق لايعبدون إلا الله، وأسلاف أخذ عليهم الميثاق ألا يسفكوا دماءهم وألا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، خوطب أسلافهم بذلك، وكان الخطاب موجها(1/308)
لهم، والميثاق في رقابهم ولذلك ندد بقتلهم أنفسهم، وإخراجهم فريقا منهم من ديارهم.
قال تعالى:(1/309)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ منْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لمَا مَعَهُمْ) أخبر سبحانه وتعالى أنهم جاءهم كتاب، وهو قد جاء مع رسول من بني إسماعيل عليه السلام بهذا الكتاب، فذكر الكتاب، وهو يقتضي أن يكون مع رسول، فأعلم بالكتاب لأن الأمر أنه كتاب يشتمل على المواثيق مثل المواثيق التي أخذت عليهم، ونقضوها، فهو ميثاق جديد للمواثيق التي جاءتهم من قبل، ولم يذكر اسم الرسول، لأن الاعتبار لهذا الكتاب الذي وصفه الله تعالى بوصفين أنه من عند الله تعالى، وما يكون من عند الله جدير بأن يتقبلوه بقبول حسن، وأن يأخذوه بمأخذ الطاعة لأوامره ونواهيه، والوصف الثاني أنه مصدق لما معهم فهو مصدق لما جاء في التوراة من وصف للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومصدق للمواثيق التي أخذت عليهم من ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا، وأن يحسنوا إلى الأبوين وذوي القربى واليتامى والمساكين، وابن السبيل، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وأن يقولوا للناس حسنا من القول، ويترتب على ذلك المعاملة الطيبة، وإن هذا النبي الذي جاء معه الكتاب الذي أنزله الله تعالى، وهو مصدق لما معهم من أوامرٍ ونواهٍ ومواثيق أخذت عليهم بقوة - قد كانوا يعلمون بمجيئه ويتوقعونه.
ومعنى تصديق الكتاب لما معهم أنه تصديق لما معهم من كتاب كانوا يكتبونه بأيديهم، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، حتى يجيء بعض البهتانيين الكاذبين من دعاة نصرانية بولس، فيقولون إن القرآن صدق ما بأيديهم من محرف التوراة المحرفة والمنحرفة والإنجيل المحرف، إنما صدق القرآن الأوامر الأصلية مما اشتمل المواثيق التي أخذت عليهم بقوة، ولم يصدق الذي حرفوه ولا المنحرف عن الحق والخلق المستقيم، كالذي اشتملت من أن نبي الله داود زنى بحليلة جاره، وأرسله إلى الميدان ليخلو له وجه عشيقته، ذلك إفك بين لَا يليق بأخلاق نبي جعله الله تعالى خليفته في الأرض ولا يليق بذي خلق كريم، فهل هذا ما صدق به(1/309)
الكتاب ما معهم، ذلك هو الضلال البعيد، ولن يكون في كتاب منزل من عند الله، ولا يدّعيه إلا الذين هوت نفوسهم إلى مثل هذا الحضيض الأوهد من الأخلاق.
وإن اليهود الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعلنون أنه سيكون نبي، وأنهم يتوقعون أن لَا يكون منهم كما ذكر من قبل؛ ولذلك قال الله تعالى: (وَكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) السين والتاء للطلب أي يطلبون الفتح، والفتح هو النصر كما في قوله تعالى: (فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ من عِندِهِ ... )، وأطلق الفتح على النصر العادل، لأن النصر يفتح الطريق أمام الحق، وقد بشر الله تعالى بالنصر في قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3).
كان اليهود إذا كانوا في حرب مع المشركين ممن يجاورونهم في المدينة يطلبون النصر بالنبي الذي حان حينه وحل، أوانه ويحسبون أنه سينصرهم على المشركين؛ لأنه سيجيء بمحو عبادة الأوثان وتحطيمها.
روى محمد بن إسحاق بسنده عن قتادة الأنصاري عن أشياخ منهم: قال: فينا والله وفيهم، (يعني في الأنصار واليهود الذين كانوا جيرانهم) نزلت هذه الآية: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ منْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ لمَا مَعَهُمْ وَكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) كنا قد علوناهم قهرا دهرا في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، وهم يقولون: إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله، وكان من قريش آمنا به واتبعناه وكفروا به.
ولم يكن ذلك الاستفتاح بين اليهود من بني النضير وجيرانهم في المدينة، بل كان بين اليهود، وغيرهم في داخل الجزيرة، يروى ابن عباس رضي الله عنهما أنه كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فلما التقوا هُزِمَتْ يهود خيبر فدعت بهذا(1/310)
الدعاء. وقالوا: إنا نسألك بحق النبي الأُميّ الذي وعدتنا أن تخرجه إلا تنصرنا عليهم " فكان إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان.
كان معروفا عند اليهود ذلك النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، يستفتحون به ويدعون الله بحقه أن ينصرهم، ولكنهم كسائر أسلافهم يتبعون أهواءهم، فلما جاء من غير قبيلهم أنكروا معرفتهم، وادعوا أنه لَا ينطبق عليه أوصاف من كان يستفتحون به، وهم كما قال الله تعالى: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهمْ. . .).
ولذا قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)، الفاء للترتيب أي أنهم مع هذا الاستفتاح ترتب نقيضه وهو أنهم لما جاءهم الذي عرفوه جحدوه وكفروا به، فهم رتبوا على الشيء نقيضه وبدل أن يذعنوا للحق الذي عرفوه أنكروه وكفروا به، وهكذا شأنهم هم وأسلافهم دائما يعرفون الحق ويكفرون به، عرفوا باطل فرعون ومع ذلك اتخذوا العجل.
عبر قوله تعالى عن إدراكهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلمهم به بأنهم عرفوه، والمعرفة هي العلم الجازم المطابق لبواقع عن دليل، ومع ذلك كفروا به، فكانوا مطرودين عن رحمة الله، والحق الذي جاء به النبيون، ولذا قال تعالى: (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) الفاء للإفصاح، إذ تفصح عن شرط مقدر مؤداه إذا كانوا قد كفروا بما عرفوا واستيقنوا فلعنة الله تعالى عليهم، وأظهر في موضع الإضمار للتصريح بأنهم صاروا في عداد الكافرين، وخرجوا عن دائرة المؤمنين الذين يؤمنون بأي شيء في كتابهم فهم قد كفروا بكتابهم وبما عندهم واللعنة هي الطرد، ووراء الطرد المذلة، وإن كفرهم هو السبب في طردهم وذلتهم.(1/311)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن ينَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضلهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) بئس من أفعال الذم كنعم من أفعال المدح، ويكون معها تمييز ثم يعقبه المخصوص بالذم أو المدح كأن تقول: نعم محمد رجلا، فـ " رجلا " تمييز(1/311)
ومحمد المخصوص بالمدح أو الذي يُمدح وقد تكون (ما) هي التمييز فتكون نكرة تامة بمعنى شيء مذموم.
ف " ما " - هنا على ما يخرجه النحاة نكرة موصوفة بالذم - لما اشتووا به أنفسهم - ويكون المعنى بئس شيئا مذموما، والمخصوص بالذم هو أن يكفروا بما أنزل الله بغيًا. . إلى آخره. فاشتروا هنا بمعنى باعوا، أي أنه بئس هذا الفعل الذي باعوا أنفسهم أن يكفروا بما أنزل بغيا ظلما وحسدا وحقدا.
هذا ما يقوله النحويون في " ما " ونحن لَا نرى مانعا من أن تكون اسمًا موصولاً بمعنى الذي، فيكون المعنى بئس الذي باعوا به أنفسهم فقد باعوها بأمر حقير مضرته شديدة وهو أن يكفروا بما أنزل الله تعالى من قرآن كريم هاد إلى الرشاد وإلى سواء السبيل، وقوله: بغيا مفعول لأجله أي لأجل ما في نفوسهم من حسد أدى إلى ظلم شديد، والبغي في أصله طلب الشيء بشدة، إرضاءً لهوى، وأن ذلك يؤدي إلى أن يطلب الشيء بغير حله، وإلى الظلم؛ ولذلك أطلق البغي على الظلم الذي يبتغي ويطلب في حرص ولذا يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
وإن ذلك البغي الناتج عن الهوى والحسد هو أنهم يكرهون أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ومعنى النص الكريم (أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) لأجل البغي المستكن في نفوسهم، وهو كراهية أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
فهم ارتكبوا إثمين كبيرين بذلك:
أولهما - الكفر بما أنزل الله تعالى وذلك إثم في ذاته، وهو كفر مبين؛ لأن من ينكر ما أنزل الله تعالى، وقد قامت بيناته، وعرفوه من قبل في كتبهم فقد كفر كفرانًا مبينًا.
وثانيهما - أن الباعث إثم عظيم واغترار، بأنهم المختارون وحدهم لرسالة الله - فمعنى (مِن فَضْلِهِ) أي من رسالة ربه، فهي من فضل الله، والله ذو الفضل العظيم، يختص برحمته من يشاء والله أعلم حيث يجعل رسالته.(1/312)
إن اليهود يحسدون محمدا - صلى الله عليه وسلم - لأنه جاء من ولد إسماعيل لَا من ولد إسحاق، يريدون أن يكون خاتم النبيين من ولد إسحاق، فهم يكفرون بما أنزل الله تعالى لأنهم يكرهون أن ينزل الله رسالته على من يشاء من عباده، فهم يريدون أن تكون إرادة الله تعالى على هواهم في إرسال الرسل، وقد بين الله تعالى أن ذلك أدى إلى غضبه عليهم، وبعدهم عن رحمته؛ ولذا قال تعالى: (فَبَاءُو بِغضبٍ عَلَى غَضَبٍ) أي فرجعوا وكانت النتيجة لهذا البغي والحسد، أن نزل بهم غضب، والمراد أنهم باءوا بغضب متزايد متكاثر شديد لتزايد أسبابه، وتعدد دواعيه، وبواعثه.
ويقول فخر الدين الرازي: " إن غضب الله تعالى يتزايد ويكثر فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة كغضبه على من كفر بخصال متعددة ".
وقد كفر اليهود الذين خاطبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين كما أشرنا، إحداهما - بكفرهم بما أنزل الله تعالى، وقد عرفوه من قبل، وكانوا يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم، والثانية - أنهم يريدون أن يكون أمر الله تعالى في رسله على هواهم.
ولذلك قال تعالى: (فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضبٍ) والغضب يكون حالا تليق بذات الله تعالى يتجلى في عدم رضاه وإنزاله العذاب بمن يغضب عليه وطرده من رحمته ولعنه، وكل ما يذكر الله تعالى من صفات وأحوال يتشابه أسماؤه مع ما يتصف به من صفات وما تكون عليه من أحوال لَا يكون مشابهًا لنا، بل يكون أمرا يليق بالذات العلية: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهوَ السَّمِيع الْبَصِير)، تعالى الله عن مشابهة الحوادث.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى ما ينزله بهم سبحانه من عذاب فقال تعالى:
(وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) أى عذاب يوقعهم في الذل والمهانة، وذكر سبحانه وتعالى العذاب لهم بأنه مهين مذل موقع في المهانة؛ لأنه عقاب لاستعلائهم الكاذب، وغرورهم حتى حسبوا أن الله تعالى يتصرف كما يهوون، وكما يبتغون، والله تعالى القاهر فوق عباده وهو الحكيم العليم.(1/313)
وإن الله يذل دائما كل من يتطاول، ويتسامى بغرور، روى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك لا ملك إلا الله " (1)، ونحن نقول مقتدين بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، متبعين له: اشتد غضب الله على كل عتل جبار أذل البلاد، وأفسد العباد، وأنه القادر الذي ليس فوقه أحد.
وإن اليهود سيرا على غلوائهم وزعمهم الفاسد أنه لَا نبي إلا من بينهم. إنهم يبغون حسدا لغيرهم إذا قيل آمنوا بما أنزل الله قالوا لَا نؤمن إلا بما أنزل علينا، ولذلك قال تعالى فيهم:
________
(1) أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده (9987) عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " اشْتَدَّ غضَبُ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَجُل قَتَلَهُ نَبيُّهُ - وَقَالَ رَوْحٌ: قَتَلَهُ رَسًولً اللَّهِ وَاشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهَ عَلَى رَجُل تَسَمَّى بِمَلِكِ الأملاكِ؛ لَا مُلْكَ إِلا لِلَّه عًَز جَلَّ ".
وهو متفق عليه رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: " اخْنَعُ اسْم عِنْدَ اللَّهِ وَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَة اخنَعُ الأسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسمَّى بِمَلِكِ الأمْلاك ". قَالَ سًفْيَانُ: يَقُول غَيْرُهُ: تَفْسيرُهُ شَاهَانْ شَاهْ. وهذا لفظ البخاري: الأدب (5738)، وبنحوه عند مسلم: الآداب (3993).(1/314)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
(وَإِذَا قيلَ لَهُمْ آمنوا بمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نؤْمِنُ بمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ).
كان الكلام للغيبة، ولم يكن بالخطاب لأنه للحاضرين من بني إسرائيل إذ هم الذين يعتذرون ذلك الاعتذار وبه يجحدون ذلك الجحود، وكان الكلام بالغيبة فيه تنديد بهم وبأسلافهم من قبل، وقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) بالبناء للمجهول لكثرة القائلين، فكتبهم تقول لهم ذلك، وهم أنفسهم كانوا يقولون ذلك، إذا كانوا يستفتحون على الذين كفروا بالنبي الأُميّ - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون يدعونهم، وحلفاؤهم من المؤمنين كانوا يدعونهم، فكثر القائلون، وإن البناء للمجهول له معنى آخر، وهو تركيز القول على ما يكون من ردهم للداعي فهذا موضع اللام، فلا لوم على من قال، فلا حاجة إلى ذكره، إنما اللوم كله في ردهم.
القائل يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل فيقول آمنوا بما أنزل الله تعالى، فالله هو الذي أنزله وهو جدير بالإيمان به، لأنه من عند الله والكفر به كفر بالله تعالى.(1/314)
وردهم نؤمن بما أنزل علينا، أي لَا نرى الإيمان إلا بما أنزل علينا نحن مع أن المنزل واحد، وهو الله تعالى ولكنهم يغالون في اتباع هواهم وشهواتهم، فيزعمون أنه لَا أنبياء إلا فيهم وإنهم يكفرون بما وراءه، أي بكل ما جاء بعده، فوراء يبين ما جاء خَلْفَهم وبعدهم كما كفروا من قبل بعيسى عليه السلام.
ويبين الله تعالى أن ما أنزل من القرآن هو الحق وهو مصدق لما معهم، فقد وصفه سبحانه وتعالى بوصفين أحدهما ذاتي وهو الحق أي أنه ثابت في ذاته ما أتى إلا بأمور ثابتة يقرها العقل، وتقرها الفطرة، وتدل عليها البينات وهو ذاته معجز، مثبت وجوده بنفسه، لَا يحتاج إلى بينات وراءه، والثاني إضافي وهو أنه مصدق لما تضمنته المواثيق التي أخذت عليهم، وهذا الوصف يرد زعمهم الفاسد، بإثبات عدم المغايرة بين ما جاءهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - وما نزل، وبين ما عندهم؛ فالأصل واحد وأن تفريقهم بين ما أنزل الله من قرآن، وما أنزل عليهم تفرقة بين شيئين غير متغايرين إن كانوا يؤمنون حقا بالحق من كتبهم.
ولكنهم قوم لَا يؤمنون بشيء لَا بما عندهم، ولا بما أنزل الله من قرآن كريم، ولذا قال تعالى مثبتا كفرهم بكل شيء، بالوقائع التي كانت من أسلافهِم، وارتضوها هم، فقال تعالى: (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كنتُم مُّؤْمِنِين). والمعنى: قل لهم يا نبي الله، إن كنتم تزعمون أنكم آمنتم بما عندكم، فلم تقتلون أنبياء الله؛ أي الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى إليكم، وذكر الأنبياء مضافين إلى الله تعالى لإثبات جحودهم المطلق، وأنهم يعاندون أوامر الله تعالى سواء أكان من بعثه من ولد إسحاق أم كان من ولد إسماعيل، فقد قتلوا زكريا ويحيى، وهما من ولد إسحاق، وإنه إذا كان عندهم بقية من إيمان فما كان يسوغ قتل أنبياء الله، ولذلك قال تعالى في ختام الآية الكريمة: (إِن كنتم مُّؤْمِنِينَ) أي أن ما كان منهم في ماضيهم وأمرهُ حاضرهم يتنافى مع صفات المؤمنين وذلك تنديد بهم، وبيان أنهم لم يؤمنوا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معهم، ولا يؤمنون بما عندهم.
* * *(1/315)
(وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
* * *
تبين في الآيات السابقة أن بني إسرائيل كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد كانوا يستفتحون به على المشركين وأنهم قرروا في ذاتهم ألا يؤمنوا إلا بما أنزل عليهم، فلا يؤمنون بالقرآن وإن جاء مصدقا لما معهم، وذلك الكفر أكبر العناد، وفي هذه الآيات الكريمات يبين الله تعالى أن العناد فيهم منذ أرسل موسى إليهم، لقد أتى لهم ببينات حسية قاطعة في الدلالة على أن موسى أرسله الله تعالى لإنقاذهم.
ولقد أوتي عيسى بينات كثيرة وكفروا به وحاولوا قتله، ولم يمكنهم الله تعالى منه، فما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، وموسى عليه السلام أتى لهم بمعجزات حسية بلغت تسعا، فقد قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ. . .)، ومنها العصا التي أبطلت سحر الساحرين، والتي ضرب بها البحر، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، والتي ضرب بها الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم، ومنها ما ظهر بين أيديهم مما جرى لفرعون وقومه، وقد قال الله تعالى في سورة الأعراف: (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ(1/316)
كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135). ولما خرجوا إلى سيناء ظللتهم السحاب من هَجِيرها، وأمدهم الله تعالى بالمن والسلوى.
جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام بالبينات القاهرة الظاهرة المحسوسات، ومع وضوحها وظهورها (اتَّخَذْتُمُ) أي اتخذوه معبودا وهو مصنوع بين أيديهم وتحت أبصارهم، ولذا قال تعالى:(1/317)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
(وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ) وقد أشرنا إلى بعضها أو جلها، ثم قال تعالى مخاطبا الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم في تفكيرهم وجحودهم وعنادهم امتداد للسابقين يحذون حذوهم، وما يعملونه صورة مما عملوا والباعث واحد، (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ)، والعطف بثم للمفارقة الواجبة بين ما تقتضيه الآيات الحسية الظاهرة من إيمان واتخاذهم العجل معبودا، وهو لَا يضر ولا ينفع، ولا عذر ولا مبرر إلا أن يكون التقليد لفرعون وآله وقومه الذين عبدوا العجل وكانوا يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم لأهوائهم وشهواتهم.
وقد قال تعالى: (وَأَنتُمْ ظَالِمونَ) ولم يقل سبحانه وتعالى: وأنتم كافرون؛ لأنه كفر يتضمن أشد الظلم وأفحشه، فقد ظلموا أنفسهم بأن أُعطوا قوة الحق، فأبوا إلا أن يستضعفوا ويذلوا لمن أذلوهم، وظلموا الحق وظلموا من أجرى الله تعالى على يده إنقاذهم فهو كفر يتضمن ظلما، وكما قال تعالى في آية أخرى: (وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
هذه حالهم مع موسى الذي دفعه الله تعالى لإنقاذهم مع ما جاءهم من البينات، فكيف يمكن أن ينتزع الضلال من قلوبهم بالقرآن الكريم يا محمد، فلا تأس على القوم الفاسقين.(1/317)
إن اليهود لَا يؤمنون بشيء مهما تكن قوة أدلته ومهما تكن قوة الدعوة إليه. لقد رأينا الآيات الكثيرة التي ذكر الله تعالى أنها بلغت تسعًا، وكلها حسي قاهر، وفيه نعمة النجاة والرعاية الكاملة حتى ظنوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، ثم بين بعد ذلك قوة الدعوة إلى الحق فقال تعالى:(1/318)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) دعوة إلى الحق الذي قامت أدلته بميثاق أخذه الله تعالى، وأخذه وقد رفع الجبل فوقهم كأنه ظلة أظلتهم وطالبهم الله تعالى على لسان كليمه أن يأخذوه بقوة أي بجد، ولا ينحرفوا عنه، وأن يسمعوا إليه، ولا يخالفوه.
اجتمع لهدايتهم قوتان قوة الدليل في الآيات التسع، وقوة الدعوة في الميثاق الذي أخذ عليهم في حال رفع الجبل فوقهم ودعوتهم إلى سماع الحق، فهل أجابوا؟.
(قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) هذا ما جاء به القرآن نصا في إجابتهم. وإن ما حكى الله تعالى عنهم من أنهم قالوا: (سَمِعْنَا) تفسر على ظاهرها فإنه كان النداء قويا والجبل مرتفع عليهم، (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّة) أي ما شرعناه لكم من شرائع بجد وعزم، (وَاسْمَعُوا) فإنه لابد أن يكون الجواب (سَمِعْنَا)، أما ما حكاه سبحانه من أنهم قالوا: (وَعَصَيْنَا) فيصح أن تخرج على أنهم قالوها بألسنتهم، وذلك بعيد يتنافى مع قوة الميثاق وتأكده ومع طلب الأخذ بقوة أي بجد وعزم على التنفيذ، ولذا نستبعد ذلك الاحتمال لقيام القرائن ضده، وما نحسب أنهم وصلوا إلى هذه الحال أن ينكثوا بالعهد وقت توثيقه وأن يجاهروا بعصيانه، والعهد بينهم وبين المنقذ لهم، والعهد قريب، ولذلك قرر المفسرون أن كلمة عصينا مجاز عن أفعالهم، أي أن عصيانهم كان بلسان الفعال لَا بلسان المقال، فهم قالوا سمعنا بالقول وقالوا عصينا بأفعالهم.(1/318)
ويصح أن نقول: إن عصينا القلبية كانت مقارنة لـ سمعنا، أي أنهم قالوا سمعنا، وقلوبهم جافية معرضة كأنها تنطق بحالهم، وهو عصينا فكأنهم سمعوا، وهم على نية العصيان فقلوبهم جافية عن الاتعاظ بما يسمعون.
ولقد كان أوضح المظاهر التي دلت على عصيانهم، وأنهم سمعوا وعصوا هو عبادتهم العجل، أو بالتعبير القرآني المنزه الحكيم اتخاذهم، ولذلك ذكره بعد تسجيل العصيان فقال: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ). بعض علماء اللغة يقولون إن المعنى على حذف مضاف تقديره حب العجل، وذلك مجاز مشهور يسمى مجاز الحذف، فذكر القلوب، والقلوب لَا تشرب العجول قالوا إنه مجاز بالحذف، والقلوب تنكت فيها المفاسد، روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " تعرض الفتن على القلوب عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء ".
وبعض المتفقهين في اللغة قالوا: لَا حاجة إلى تقدير محذوف؛ لأن أشرب متعلق بالعجل مباشرة، لأن تعلق الإشراب به ليس مقصورا على المحبة، بل إنه يتجاوزها إلى العبادة، وإلى أنه تكون صورته في قلوبهم لَا تفترق عنها، ويكون من قبيل أشرب الثوب الصبغة، أي خالطت أجزاءه، وتغلغلت فيه، فالعجل تغلغل في قلوبهم فألفوه وصار جزءا من تفكيرهم، كما صارت الصبغة جزءا من الثوب، لا تنفصل عنه، وهذا نوع من الاستعارة، فاستعيرت كلمة الإشراب لتغلغل ذكره في قلوبهم كأنه حل حلول الشراب فيها.
وكلمة في قلوبهم قرينة الاستعارة، وأشرب للبناء للمجهول لكثرة الأسباب الباطلة التي أشربته قلوبهم، فالشيطان زينه لهم، وسول لهم عبادته، وعشرتهم للمصريين الذين كانوا يقدسونه، والعشرة المستمرة لهم مع مظالمهم، وضلال نفوسهم كل هذا سهَّل سرَيان عبادة العجل إليهم؛ ولذلك قال بكفرهم، أي بسبب كفرهم المستكن في نفوسهم، ولقد حكم الله تعالى عليهم بقولهم: (قُلْ بِئْسَمَا(1/319)
يَأمركُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم هم الذين واجهوه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهم: (قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا. . .)، وهذا القرآن الكريم بين ما يدل على أنهم لَا يؤمنون بشيء حتى تركوا مايدعوهم إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان بما عندهم، وهذه صورة من الإيمان بما عندهم (بِئْسَمَا) دالة على ذم ما يأمرهم به إيمانهم الباطل، وهذا تهكم شديد على حالهم وعلى ما يتصورونه إيمانا بما عندك، كقوله تعالى حكاية عن قول قوم شعيب له: (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا. . .)، وقوله تعالى: (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) أي إن كنتم في الماضي والحاضر مؤمنين، وبيان أن إيمانهم موضع شك بل لَا إيمان.
* * *(1/320)
(قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
* * *
كان السبب في غرورهم، واستعلائهم الفاسد أنهم بتوالي نعم الله تعالى عليهم حسبوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، ولذلك قالوا: (لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَا مَّعْدودَةَ. . .)، وقد تلونا ذلك من قبل.
وقد دلاهم الشيطان بغرور فكانوا يحسبون ذلك، ويدعون في ظاهر قولهم أنهم يؤمنون، ويواجهون النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفرهم به، فأمر الله تعالى نبيه الذي يواجهونه بذلك الكفر أن يتحداهم ليكشف أمرهم بأن يتمنوا الموت فقال تعالى:(1/321)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
(قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن كانت الدار الآخرة التي تكون عند الله علام الغيوب ولا سلطان لأحد سواه، خالصة لكم من دون الناس، أي أنكم في منزلة والناس دونكم، ولا تكون إلا لكم؛ لأن غيركم من الناس - سواء كانوا أتباع محمد أم لَا - هم دونكم لا يبلغون منزلتكم بل أنتم وحدكم الذين تنالونها.
إن كانت هذه الحياة الآخرة لكم خالصة فتمنوا الموت الذي هو الطريق إليها إن كنتم صادقين في زعمكم؛ لأن من آمن بأنه المختص بنعمة تمنى الوصول، أن يسرع في الذهاب إليها، وإنها جنات ونعيم مقيم، فتمنوا الموت الذي هو الطريق الوحيد إليها، إن كنتم مؤمنين إيمان صدق وإذعان بما تدعون.(1/321)
وهنا إشارة بيانية يحسن التنبيه إليها:
الأولى: في كلمة (لَكُمُ) فيها اللام المفيدة للملكية أو الاختصاص، وقد ابتدأ بها بيانا لزعمهم، ولذلك جاء بعدها خالصة لكم من دون الناس.
الثانية: الإشارة إلى أن الدار الآخرة هي عند الله تعالى مالك يوم الدين، وهو الذي تدعون أنكم أبناؤه وأحباؤه ومع ذلك تكفرون به وتتخذون العجل تشركون وتعبدونه.
الثالثة: الإشارة إلى أنهم ليسوا صادقين، بل هم كاذبون؛ ولذلك كانت أداة التعليق هي إن في قوله: (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ولهذا نفَى الله سبحانه أن يتمنوه.
* * *
تنبيه: يلاحظ أن الله تعالى أمر نبيه بأن يتولى الرد عليهم في قوله تعالى: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيَا. . .)، وقوله تعالى: (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِه إِيمَانُكُمْ. . .)، وفي قوله تعالى: (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللًّهِ).
لم يتول الله تعالى الرد والجدل معهم وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتولى الجدل معهم فما الحكمة في ذلك؟ ونقول ما تصل إليه مداركنا - والله هو الحكيم العليم - إن مجادلتهم التي فيها التحدي كانت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فناسب أن يتولى بأمر الله تعالى الرد هو عليه الصلاة والسلام؛ ولأن مقام الله تعالى أعلى من أن ينزل لمجادلة الكافرين الظالمين لأنفسهم.
ولقد قال سبحانه وتعالى حاكما على حالهم بأنهم في ذات أنفسهم وفي مداركهم يعلمون مآثمهم، ويعلمون كذبهم؛ ولذلك ليست الجنة لهم، ولذا لا يتمنون الموت، فقال تعالى:(1/322)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
(وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدَا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) نفَى الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك التمني نفيا مؤبدا، وأكد ذلك النفي بـ " لن " الدالة على النفي المؤبد، وبقوله سبحانه وتعالى: (أَبَدًا) وبذكر السبب ألا وهو ما قدمت أيديهم، ومعنى ذلك أنهم كاذبون في ادعاءهِم أنهم ابناء الله وأحباؤه، وأنهم كاذبون في قولهم: (لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةَ. . .).(1/322)
وإنهم يعلمون ما قدموا من كفر، وما قدمه أسلافهم، ولم ينكروه عليهم من اتخاذ العجل، ومن كفر بالنعم التي أنعم الله عليهم وكفروا بها.
وقوله: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) الباء للسببية، والمراد ما قدموه هم بأنفسهم، من كفر قلوبهم، وجحودهم بآيات الله تعالى، واعتدائهم في يوم السبت، وتأييدهم لأسلافهم في ذلك، ومن كفرهم بألا يجاب الذي جاء مصدقا لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا به، ولكن لماذا عبر بأيديهم، دون أنفسهم؛ ونقول: أولا - يجوز ذلك تعبيرا عن الكل باسم الجزء، وإن ذلك الجزء أظهر الأجزاء في العمل، فهو الذي به البطش والاعتداء، وارتكاب المآثم الجماعية.
وثانيا - فيه إشارة إلى الناحية الحسية فيهم، فهم أيد باطشة آثمة، وليس لهم قلوب مدركة عالمة.
ولقد سجل الله تعالى عليهم الظلم، فقال تعالى: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وقد صدر الله سبحانه وتعالى الحكم بلفظ الجلالة تربية للمهابة، ولبيان أنهم مأخوذون والله القادر القاهر هو الذي يأخذهم بظلمهم، وبين عظيم علمه، ودقة علمه، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأظهر في موضع الإضمار فلم يقل سبحانه وتعالى عليم بهم وبما قدمت أيديهم بل قال: (عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)، ليسجل عليهم وصف ظلمهم، وأنهم معاقبون بهذا الظلم الذي هو كالسجيَّة لهم.
ولقد قال الله تعالى في هذا المعنى، وهو طلب تمنى الموت، وامتناعهم في سورة الجمعة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)، والفرق بين النصين، وإن كان كلاهما في مرتبة من البيان يعجز عنه البشر، في أمرين:
الأمر الأول - أن الشرط في الآية الكريمة التي [نتصدى] لتعرف معناها شرط كبير، وهو أن تكون لهم الدار الآخرة من دون الناس، فالشرط يتضمن الخلوص لهم وقصرها، ولن يتمنوا ذلك فكان النفي بـ لن، والشرط خال من معنى زعمهم.(1/323)
الثاني - أن الآية الثانية كان " الشرط الزعم بأنهم من أولياء الله من دون الناس، فكان النفي بـ " لا "، وهو دونه " فكان النفي بـ " لا " لَا بـ " لن " على مقدار الشرط، وكذلك يصرف الله الآيات في كتابه الحكيم.
وبعد ذلك التحدي من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه، كان الوصف الحقيقي لبني إسرائيل بالنسبة للموت والحياة الآخرة، وأنهم لايؤمنون بالآخرة، ولا يؤمنون بأن لهم جزاء محمودا، وأنه يرتقبهم خير؛ ولذا تمسكوا بالحياة الدنيا، لأن العصاة يظنون أنها الحياة وحدها، ولا يرجون خيرًا لأنفسهم المادية في لقاء الله تعالى، فقال تعالت كلماته:(1/324)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا).
وقد أكد الله سبحانه وتعالى الحكم بأنهم أحرص الناس على حياة بالقسم المؤكد باللام ونون التوكيد الثقيلة، ونكر سبحانه وتعالى " حياة " في قوله تعالى: (عَلَى حَيَاةٍ) لتعميم معاني الحياة، فهم يحرصون على حياة أيا كانت صورتها، سواء كانت حياة ذل أم كانت حياة عز، وسواء كانت حياة استعباد أم كانت حياة حرية، وسواء أكانت تحكمها الفضيلة أم كانت تحكمها الرذيلة، إنهم يحرصون على الحياة ذاتها من غير نظر إلى وصفها سواء أكانت مقيتة في ذاتها، أم كانت بكرامة من غير مهانة. وإن هذا يدل على كمال الحرص.
قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي منهم من هم أحرص على حياة أيا كانت من الناس جميعا، ومن الذين أشركوا، وهم الوثنيون، وخُصوا بالذكر، لأنهم لَا يؤمنون بالبعث، وأولئك اليهود أهل كتاب ويؤمنون به في الجملة، ولكنهم مذنبون تحيط بهم خطاياهم من كل ناحية.
وهم أحرص من المشركين على الحياة؛ لأنهم يريدون الحياة على أية صفة عزيزة كريمة أو ذليلة، أما المشركون من العرب فإنهم لَا يريدونها إلا عزيزة لَا ذلة فيها، وشاعرهم الجاهلي يقول:
لا تسقنى ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أطيب منزل(1/324)
ولذلك كانوا أحرص على حياة، والمشركون يحرصون على حياة عزيزة كريمة، وإن كانوا لَا يؤمنون ببعث ولا نشور، ولا حساب ولا عقاب، ويصور الله سبحانه وتعالى حرصهم على الحياة بقوله تعالت كلماته: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَرُ أَلْفَ سَنَةٍ) يود هنا بمعنى: يتمنى أحدهم، أي أحد اليهود، لو يعمر ألف سنة، ولو هنا مصدرية وهي التي تجيء بعد التمني كقوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)، فهنا " لو " مع الفعل بعدها مصدر غير أنها لَا تنصِب (مثل أن). وذكر ألف عام لأنه أكبر عدد في زعمهم. . طلب أعرابي عطاء من حاكم من حكام بني أمية، فأعطاه ألفا، فقال له قائل: لو طلبت أكثر من ألف لأعطاك، فقال: لو كنت أعلم أن فوق الألف عددًا لطلبته، فالألف كناية عن أكبر عدد.
ومع أنهم يودون الحياة إلى أقصى أمد، ألفا أو أكثر، فإن العذاب ملاقيهم، (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الذِي تَفِرُّونَ منْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ. . .)، بالعذاب الذي يستقبلكم؛ ولذا قال تعالى: (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أْن يُعَمَّرَ) الزحزحة الإبعاد أو الإزالة، وهي تدل على المعاناة في الإبعاد والإخراج من المكان الذي حل فيه كقوله تعالى: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ).
و" ما " في قوله: (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ) النافية، والباء دالة على استغراق النفي، وهي زائدة في الإعراب لها دلالة في المعنى، والضمير " هو " يعود على الأحد الذي يود أن لو يعمر ألف عام أو أكبر عدد ممكن، والمعنى على هذا التخريج: وما هو؟ أي هذا الشخص بمبعده ولو بمعاناة ومعالجة عن العذاب تعميره، فالمصدر المكون من (أَن يُعَمَّرَ) فاعل لمزحزحه، وقد أكد سبحانه وتعالى النفي بإعادة الضمير لتأكيد النفي، وبالباء، وبكلمة مزحزح.
وما ذلك النفي المؤكد لوجود العذاب مهما طال الزمن - إلا لأنه ارتكب من الخطايا ما يستحق ذلك، والله تعالى عليم بكل شيء ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ ولذا ختم الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) والله ذو الجلال والإكرام القادر القاهر الفاعل المختار بصير أي عالم علم من يبصر(1/325)
على مثال ما به الناس، بما يعملونه من شرور وآثام، وجحود بآيات الله تعالى في ماضيهم وحاضرهم، ومنزل من العذاب بمقدار ما يستحقون. ومن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
* * *
عداوة الملائكة
(قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
* * *
قال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره: أجمع مفسرو السلف على أن هذه الآية وما بعدها نزلت، لأن اليهود يعدون الروح القدس جبريل الأمين عدوا لهم، لأنه ينزل بالعذاب والهلاك، وأن ميكائيل وليهم لأنه ينزل بالغيث والرحمة، وتعددت الروايات عن الصحابة في ذلك، وكلها ينتهي إلى أنهم واجهوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن جبريل، وهو ولي النبي - صلى الله عليه وسلم -، هو عدوهم، وأن ميكائيل وليهم، وأنهم لهذا يفارقون النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يتبعونه.
ولئن صحت هذه الروايات أو بعضها ليكونن مؤداها أنهم يتخذون تعلة لكفرهم سواء أكانت التعلة مقبولة في العقل أو مرذولة، ومهما يكن فقد رد الله تعالى قولهم، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد قولهم بقوله تعالى:(1/326)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
(قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّه نزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَديْهِ) أي إذا كان جبريل عدوا لكم فأنتم تعادون الله تعالى، لأن الله تعالى اختاره رسولا أمينا لنزول القرآن فما نزَّل القرآن بغير إذن الله تعالى إنما نزله على قلبك بإذنه سبحانه وتعالى.(1/326)
وعبر سبحانه وتعالى بقوله: (عَلَى قَلْبِكَ) بكاف الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن يقول قلبي، لبيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكى قول ربه، ولتأكيد معنى قوله تعالى بإذنه.
والضمير الأول في (فَإِنَّهُ) يعود على جبريل عليه السلام، والضمير الثاني في (نَزَّلَهُ) يعود على القرآن باعتبار أنه حاضر للذهن؛ لأنه ذكر في السياق في قوله تعالى من قبل: (وَلَمَّا جَاءَهُم كتَابٌ منْ عِندِ اللَّهِ. . .) وقوله: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين) يعين أن الضمير يعود على القرآن الحاضر في الأذهان.
وإنه مع قبول الروايات التي انتهى المفسر السلفي فيها إلى إجماعهم من أن اليهود كانوا يعدون جبريل عدوا، فإنا نرى من المعاني القرآنية والإشارات البيانية أنهم كانوا يجعلونه عدوا؛ لأنه نزل بالقرآن على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لسفه عقولهم وفساد تفكيرهم، فرد الله عليهم بأنه هو الذي نزل القرآن بإذن الله، فلا محل لعداوته، فعادوا من أنزله، ولكن سوء ظنهم جعلهم يحمِّلون جبريل عليه السلام التبعة، وإذا كان نزول القرآن سببا للعداوة، فاتخذوا الله عدوا، ولا غرابة في ذلك ممن اتخذوا العجل وليًّا لهم.
ويكون المعنى الذي يفهم من الآية: لقد اتخذتم جبريل عدوا لما انتحلتم من كذب بأنه ينزل بالهلاك أو نحو ذلك، إنما اتخذتموه عدوا؛ لأنه ينزل بالقرآن على قلب النبي عليه السلامِ وإذا كان نزول القرآن هو السبب فإنه يكون الله هو العدو ويكون قوله تعالى: (من كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ) شرطا، ويكون قوله تعالى: (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ) تعليلًا لجواب الشرط المحذوف إذ تقديره، فإنه عدو لله تعالى؛ لأنه الذي نزله على قلبك بإذنه.
والتعبير بـ " قلبك " أي أن التنزيل على قلبك للإشارة إلى أن القرآن ينزل على القلب ليحفظ في الصدور، لَا أن يكتفى فيه بالسطور؛ لأن السطور يجري فيها التصحيف والتحريف، أما ما يحفظ في القلب فإنه في أمان لَا يجري فيه تغيير(1/327)
ولا تبديل؛ ولذا قال تعالى في نزول القرآن الكريم وتلقى قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - له، ثم حفظه قلوب الصحابة من بعده، في سورة القيامة: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19).
هكذا بَيَّنَ الله تعالى طريقة نزول القرآن على القلب ليحفظه ويحتويه ثم يحفظه أصحابه، ثم يتواتر من بعد ذلك محفوظا، وإن كان مع ذلك مكتوبا بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)
وصرح القرآن بأن نزول جبريل به يكون متجها إلى قلب النبي عليه الصلاة والسلام في آيات أخرى، قد قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194).
ولقد قال في وصف القرآن الكريم الذي نزله بإذن الله جبريل على قلبه بأنه مصدق، وقوله تعالى: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْه) والمراد بما بين يديه من الكتب التي
________
(1) عَنْ البَرَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ} [النساء: 95] مِنَ المُؤْمِنِينَ " دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا، فَجَاءَ بِكَتِفٍ فَكَتَبَهَا، وَشَكَا ابْنُ أُمِّ [ص:25] مَكْتُومٍ ضَرَارَتَهُ، فَنَزَلَتْ: {لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}) -[رواه البخاري، واللفظ له: تفسير القرآنَ (4228) ومسًلم كتاب الإمارة (3516)].
وعن زَيْدٍ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الوَحْيَ - قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ اليَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي، فَقَالَ: إِنَّ القَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ اليَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ بِالقُرَّاءِ فِي المَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ إِلَّا أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لَأَرَى أَنْ تَجْمَعَ القُرْآنَ "، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُلْتُ لِعُمَرَ: «كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟» فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي، وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لاَ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ، وَلاَ نَتَّهِمُكَ، «كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ القُرْآنِ، قُلْتُ: «كَيْفَ تَفْعَلاَنِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ، وَالعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة: 128] إِلَى آخِرِهِمَا، وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا القُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ. [أخرجه آلبخارى: تفسَير القرآن (4311)، ورواه الترمذي وأحمد بنحوه.(1/328)
أنزلها تعالى على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، والتعبير ببين يديه كناية عن أنه أمامه فما يكون أمام الإنسان يكون بين يديه سابقًا له، فهو مصدق لكل ما اشتملت عليه الكتب السابقة التي لم يجر بها تحريف، ولم ينس فيها حظ مما ذكروا به.
وكان حقا عليهم ألا يعادوا الملك الذي اتخذه الله تعالى روحا أمينا نزل به، ولكنهم أعداء الحق دائمًا عادوا موسى وربَّه إذ كفروا بأنعم الله تعالى.
وقال تعالى في وصف الكتاب: (وَهُدًى) أي فيه الهداية إلى الحق في ذاته، وفيه البشرى بالنعيم المقيم للمؤمنين الذين من شأنهم الإيمان والإذعان للحق إذ جاءه، وهو مع ذلك شفاء للقلوب (وَنُنَزل مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمؤْمِنِينَ. . .).
وإن الله سبحانه وتعالى بعد أن بين عداوتهم لجبريل، لأنه الروح الأمين الذي نزل بالقرآن، بين سبحانه أنه من كان عدوا لله تعالى وملائكته، وكتبه ورسله، فإن الله عدو للكافرين.
في هذا النص الكريم إثبات أن من كان عدوا للملائكة أو لواحد منهم، ومن كان عدوا للكتب التي أنزلها التي لم تحرف والرسل الذين أرسلهم رحمة للعباد، وهداية لهم فهو عدو لله تعالى، وهو كافر، والله تعالى عدو للكافرين، ابتدأ الله تعالى بذكر عداوة الله تعالى فقال: (قُلْ) يا محمد أيها البشير النذير(1/329)
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
(مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ)، فابتدأ سبحانه بلفظ الجلالة الكبير في ذاته خالق الوجود، وخالق الملائكة والجن والإنس، والشمس والقمر والسماوات والأرض ابتدأ بذكره جل جلاله لبيان أن من عاداه، فقد تعرض لأعظم نقمة وأشد ضلال وخروج عن الحق، فالابتداء به سبحانه وتعالى لبيان أعظم خطورة يتعرضون لها بجهلهم وفساد نفوسهم وضلال فكرهم.
وثنى سبحانه بالملائكة، وأضافهم سبحانه وتعالى إليه للإشارة إلى أن عداوتهم هي عداوة له فهم يعادونه ابتداء بمعاداة ذاته العلية، ثم يعادونه ثانيا بمعاداة ملائكته الذين خلقهم لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم في(1/329)
الملكوت. . ثم ثَلث بكتبه التي أنزلها هداية للناس ورحمة، وشفاء لأدواء الجماعات، ونسبها سبحانه وتعالى إليه إشعارا لهم بأن عداوة هذه الكتب عداوة لله تعالى لأنها هجر لكلامه، ورد لرسالته، وأي ذنب أقبح من عداوة رسالات الله تعالى التي شرفت بإرساله واحتوت على البينات والحكم الباهرة، ثم بين بعد ذلك عداوتهم لرسله الأكرمين، وأنها عداوة لمن أرسلهم، فمن عادى الرسول فقد عادى من أرسله مبشرا ونذيرا، وداعيا إليه وسراجا منيرا.
وذكر سبحانه وتعالى عداوة جبريل وميكائيل وخصهما بالذكر مع أنهما دخلا في عموم الملائكة؛ لأن الله تعالى خصهما بالشرف والتفضيل على غيرهما من الملائكة وهو يختص برحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم، ولأن جبريل كان روح القدس الأمين الذي نزلت عن طريقه الرسالات الإلهية على من أرسلهم مبشرين ومنذرين، وأن اليهود حكى عنهم أنهم كانوا يفاضلون بين هذين الملكين الكبيرين، فيعادون جبريل، لأنه ينزل بالقرآن ويوالون ميكائيل؛ لأنه يأتي بالرحمة والغيث، فأشار سبحانه إلى أن عداوة أحدهما عداوة له، ومن عادى جبريل لأنه مكلف بالقيام بأمر من الله تعالى فقد عادى الآخر؛ لأنه قائم بمثل ماقام به.
هذا هو فعل الشرط الذي يتضمن عداوة الله وملائكته وكتبه ورسله، وجبريل وميكائيل، وجواب الشرط هو قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) فجزاء هذه العداوة الظالمة، كراهية عادلة، ويتبعها العقاب الشديد، وهنا إشارتان بيانيتان: إحداهما - في تقدم الكتب على الرسل، والسياق يسوغ تقديم الرسل على الكتب؛ لأنهم الذين جاءوا بها، ونزلت عليهم، فلم قدمت الكتب؛ والجواب عن ذلك أنها موضوع الرسالة ولبها، وهي المشتملة على أمر الله تعالى ونهيه وهي خطاب الله تعالى إلى عباده، فقدمت كما يقدم الكتاب الذي تكتبه على الرسول الذي تحمله الكتاب.
الثانية - أن الله تعالى أظهر في موضع الإضمار فقال: فإن الله عدو للكافرين، ولم يقل لهم، وذلك لبيان أنهم بهذه العداوة قد كفروا وجزاء الكفر(1/330)
العذاب الأليم فالإضمار كان فيه وصف هو سبب العقاب، ولقد جاء في البخاري في حديث قدسي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ".
* * *
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
* * *
يذكر القرآن أخلاق بني إسرائيل في ماضيهم الممتدة في حاضرهم، إذ قد اتصف بها حاضرهم كما اتصف بها ماضيهم، وهو الإنكار لكل ما يجيء به نبي من الأنبياء، فيذكر الله سبحانه وتعالى ما تلقوا به ما أنزل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من آيات بينات.
الآيات البينات هي القرآن، وقد فسر بعضهم الآيات بالآيات الكونية، وإن ذلك بعيد، لأن وصف الآيات بالبينات دليل على أنها الآيات المتلوة، وهي بينة؛ لأن الكتاب بين واضح في ذاته، وواضح الدلالة على رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونلاحظ إشارة بيانية في الدلالة على أنه معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي قوله تعالى:(1/331)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)
(أَنزَلْنَا إِلَيْكَ) بالتعدية بـ " إلى " دون التعدية بـ " على " إذ كان التعبير في غير هذه بالتعدية بـ " على "، كقوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)، وكانت التعدية للدلالة على أن النزول والرسالة هي متجهة إلى(1/331)
النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا النبي الأُميّ المقصود بالرسالة، وكان حقًّا عليهم أن يتبعوه بمقتضى البشارة التي بشرت به التوراة والإنجيل.
وقوله تعالى: (وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ) إشارة إلى أن هذه البينات وحدها فيها الدلالة على صدق ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي المعجزة الكبرى التي تحدى بها عباده أجمعين، الجن والإنس والأجيال كلها (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)، وقد جاءت على يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - خوارق للعادة حسية كثيرة، ولكنه لم يتحد المشركين وغيرهم أن يأتوا بمثله إلا بالقرآن، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحى إليّ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " (1).
وكانت المعجزة من هذا النوع؛ لأن رسالة محمد خاتمة الرسائل الإلهية، وهو خاتم النبيين، فكانت من نوع الكلام الذي يبقى متحديا الأجيال كلها حجة قائمة إلى يوم القيامة. .
ولقد أكد الله تعالى نزول القرآن باللام وقد، فقال تعالى: (وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَات) ولكن كفروا (وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ)، أي المتمردون في الكفر الخارجون عن كل حد، إذ إنها آيات واضحة شاهدة بصدق ما جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالفاسق الكافر المتمرد الخارج عن كل حد، وقد قال الحسن البصري: إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي، وقع على أعظم أفراد ذلك النوع من كفر أو غيره، فالفاسق الكافر أشد أنواع الكفر؛ لأنه تمرد على كل معقول.
وقوله تعالى: (وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ) نفيوإثبات للدلالة على أن الكفر بهذه الآيات البينات لَا يمكن أن يقع من إنسان فيه الفطرة الإنسانية، بل لَا يقع فيه
________
(1) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " مَا منْ الأنْبيَاءِ نَبِي إِلا أعْطِي مَا مِثلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذي أوتيتُ وَحْيًا أوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيًّ فَأرْجُو أنْ اكُوَنَ أكْثرهُمْ تَابِعا يَوْمَ الْقيَامَة ". [متفق عليه: رواه البخاري: فضائل القرآن (4598) ومسلم: الإيمان (217)].(1/332)
إلا المتمرد على الفطرة وعلى كل ما يتقاضاه العقل المدرك، واللام في (الْفَاسِقُونَ) للجنس، وليس المراد بها قوما معهودين، وإن كان أشد من ينطبق عليه الأمثال اليهود الذين كفروا بها. وإن اليهود إذا كانوا فسقوا، وكفروا بالقرآن الكريم معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهم قد نقضوا العهد الذي عاهدوا الله تعالى عليه في الميثاق الذي أخذ عليهم، وناقضوا أنفسهم، إذ كانوا يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ماعرفوا كفروا به.
فإذا كانوا قد كفروا بالكتاب الذي جاء به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد نقضوا عهدا أخذ عليهم مرارا، نقضوا الميثاق الذي أوجب تعالى عليهم أن يؤمنوا برسله، ونقضوا العهد الذي أخذوه على أنفسهم إذ كانوا يستفتحون على الذين كفروا، ولما عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - الميثاق بينهم وبينه عندما هاجر نقضوه جميعا؛ فنقضه بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير وأوى الناقضون إلى خيبر، وشنوها حربا مشبوبة على المؤمنين (1).
وقد بين الله تعالى أن ذلك شأنهم، فقال: (أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري لإنكار الواقع، وهو ما يقع منهم من نقض العهد، ونبذ للمواثيق، والواو عاطفة وهي مؤخرة عن تقديم، لأن الاستفهام له الصدارة دائما، والمعنى أنكروا الكتاب والنبي الذي عرفوه كما يعرفون أبناءهم ونقضوا الميثاق، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم إلى آخر الآية، وتأخير العاطف عن الاستفهام كثير في القرآن من مثل قوله تعالى: (أَفحُكْمَ الْجَاهِلِيةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، وقوله تعالى: (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كنتم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)، وهكذا مثل ذلك كثير في القرآن المبين.
________
(1) عَى ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَارَبَتْ النضِيرُ وَقُرَيْظَةُ، فَاجْلَى بَني النضير وَأقَرَّ قُرَيْظَةَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ، حَتي حَارَبَتْ قُرَيْظَةُ، فَقَتَلَ رجَالَهُمْ، وَقَسَمَ نِسَاءَهُمْ وَأوْلادَهُمْ وَامْوَالَهمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إلا بَعْضَهُمْ لَحِقُوا بِالنبِى - صلى الله عليه وسلم - فآمَنَهُمْ وَأسْلَمُوا، َ وَأجْلَى يَهُودَ الْمَدينَة كُلَّهُمْ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَهُمْ رَهْطُ عَبْد اللَّهِ بْنِ سَلايم وَيَهُودَ بَنِي حَارِثَةَ، وَكُل يَهُودِ المَدِينَةِ. [أخرجه البخَآرى: كتاب المغازي (3724)، ومسَلم: الجهاد والسير (3312)].(1/333)
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا ... (100) تدل على نقض العهد بين طرفين، وأكثر ما تكون عهود اليهود بين رب العالمين وبينهم، والعهد الذي يكون بين طرفين لَا ينقض إلا بتراضيهم، ولكنهم لَا يلتزمون بذلك، بل ينفردون بالنقض. أو بعبارة أدق لا يعرفون معهودهم، وقال تعالى: (نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهمْ) النبذ الطرح والرمي، ومعناه في العهود، نبذ الوفاء وطرحه، من غير موجب ولا مراعاة ذمامٍ، ولم يجز القرآن النبذ إلا عند الخيانة، كما قال تعالى: (وَإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ).
ونسب سبحانه وتعالى النبذ إلى فريق منهم ولم ينسبه إلى جميعهم، لأن الله العدل الحكيم لَا يقرر إلا ماهو عدل حكيم، وقد سكت سبحانه عن موقف الفريق الآخر فهل مالأه؟ الظاهر أنه إن لم يمالئ فلم يستنكر، ولم يمنع وهو قادر على المنع؛ ولذا يصح أن ينسب إلى جميعهم إذ كانوا لَا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون، ولقد حكم الله تعالى عليهم بقوله: (بَلْ أَكْثَرهمْ لا يُؤْمِنونَ) فـ " بل " هنا للإضراب ودفع معنى يتوهم من قبل، وهو أن أكثرهم فاضل، ومانع لهم من الشر، وذلك لقوله تعالى: (نَّبَذَهُ فَرِيقٌ منْهُمْ)، فبين سبحانه أن كثرتهم لَا يؤمن بالحق فقال تعالى: (أَكْثَرهمْ لَا يُؤْمِنُونَ) فنفَى سبحانه وتعالى عنهم أصل الإيمان بشيء من الفضيلة أو الخلق فبعضهم يمعن في الشر إمعانا والآخرون يسكتون ولا يتحركون لأن الأكثر لَا يؤمنون، فكل من كان على مثل حال هؤلاء اليهود كان كل كلامه وأفعاله لَا يصدر عن قلب مؤمن مذعن للحق. وإذا كانوا لا يؤمنون بكتاب الله تعالى الذي أنزل [منجها] (1) إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم أيضا لَا يؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، مع ما كان منهم قبل أن يبعث - صلى الله عليه وسلم -، وينبذون كتابه. ولذا قال الله تعالى:
_________
(1) في الأصل [منجها] ولعله خطأ مطبعي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(1/334)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ ... (101) قوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ منْ عِندِ اللَّهِ) التعبير بـ لما دليل على أنهم كانوا يتوقعون مجيئه، وقد كانوا يتوقعون ذلك ويعرفونه ويستفتحون على الذين كفروا،(1/334)
وعبر سبحانه بـ " رسول من عند الله " للإشارة إلى أنه من عند الله ذي الجلال الذي أنعم عليهم بالنعم المتوالية، و " رسول " التنكير فيها للتعظيم، أي رسول بالغ أقصى درجات الفضل وقد اختاره الله تعالى.
وقد وصفه الله تعالى بأنه مصدق لما معهم، وتصديقه لما معهم من ناحيتين.
الناحية الأولى: أنه قد جاء بالتكليفات الكثيرة التي جاءت في المواثيق التي أخذها الله تعالى عليهم، والناحية الثانية أنه تصديق للبشارات التي جاءت بها كتبهم، وقد بشرت به في عدة نصوص منها، كما أشار القرآن الكريمِ في مثل قوله تعالى:
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)،
ومثل قوله تعالى: (وَكَانُوا مِن قَبْلُ يسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كفَرُوا. . .).
هذا هو معنى التصديق، وليس التصديق الإقرار بصدق ما حرفوا وبدلوا حتى يقول ذلك الذين لَا يفهمون، فإن القرآن يفهم بعضه ببعض، وقد كفرهم، وسجل التحريف عليهم ولا يزالون يغيرون ويبدلون.
ولما جاءهم محمد - رسول الله - نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله أي طرحوه، وهو يدل على أنهم لم يأخذوا به، ونبذوا تعاليمه، وراءهم ظهريا، وعبر الله تعالى بالذين أوتوا الكتاب توبيخا لهم، وتنديدا بفعلهم فإنهم كانوا جديرين بأن يكونوا أول من يأخذ بالكتاب لَا أن ينبذوه ويجعلوه وراء ظهورهم، ودبر آذانهم. والكتاب الذي نبذوا تعاليمه وجعلوه وراء ظهورهم كما هو السياق يدل على أنه القرآن؛ لأنه هو الذي جاء به الرسول الكريم، الذي جاء به مصدقا لما معهم.
وقال بعض المفسرين: إن المراد بكتاب الله التوراة، أي أنهم نبذوا بشاراته بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وراء ظهورهم، ونرى أن ذلك بعيد، ولم نجد ذكرًا للتوراة في هذا المقام، ولأن الكلام في محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما جاء به.(1/335)
وقوله تعالى: (وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) مثل لمن يستغني عن شيء، فإنه يرميه وراء ظهره، ولا يعني به، أو يقبل عليه بوجهه، مثل قول العرب: (اجعل هذا خلف ظهرك، ودبرا منك وتحت قدمك).
فهذه أمثال للاستخفاف، وقوله تعالى: (وَرَاءَ طهُورِهِمْ) معناه أنهم لم يقرءوه؛ لأن ما وراء الظهر لَا يقرأ، وإنما يقرأ ما يكون أمامك، وتقبل عليه.
وقد صور الله سبحانه وتعالى حالهم فقال: (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) كأنهم لا يعلمون أمر النبوة ورسائل الله تعالى إلى رسله وهم أهل الكتاب، أو المعنى كأنهم لا يدركون ولا يفرقون بين علم نازل من قبل الله تعالى وأهوائهم، والله عزيز حكيم.
* * *
السحر(1/336)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
* * *
جاءت آيات الله بينات داعيات إلى الحق فنبذوها، وجاءهم رسول الله تعالى بكتاب مصدق للحق الذي معهم، فنبذوه وراءهم ظهريا.(1/336)
تركوا الحق الذي ظهر نوره، وكان من دأبهم أن يتركوا النور، ويتبعوا الظلام، لتعشعش فيه أوهامهم، ولذلك مع تباعد العهد بينهم وبين نبي الله سليمان عليه السلام الذي سخر الله له الطير والحيوان أخذوا يتبعون أوهاما كانوا قد حرفوا بها التوراة، لقد زادوا في التوراة قصة ما أنزل الله بها من سلطان، لأنهم كانوا يكتبون بأيديهم ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله.
لقد جاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر الملوك أن السحرة هم الذين أقاموا ملك سليمان، وأن سليمان ارتد وكفر، فأخذوا يذكرون هذا السحر!! وذلك لأن الذين يضلون دائما عن الحق يتبعون أوهامًا لَا أساس لها من المنطق ولا من العقل.
ترك اليهود كتاب الله تعالى الذي يتلى بينا هاديا مرشدا إلى الحق، واتبعوا كلام السحر المكذوب، وراحوا يرددونه في مدراسهم، ومواضع عبادتهم، ولذا قال تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطين عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) اتبعوا ذلك القول، وصغت قلوبهم العامرة الممتلئة بهذا العطَن من الأقوال الفاسدة، والشياطين هنا هم أهل الشر من الإنس، كما قال تعالى: (وَإِذَا لَقوا الَّذِينَ آمَنوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتهْزِئُونَ)، والشياطينِ يكونون من الإنس، كما يكونون من الجن كقوله تعالى: (وَكَذَلكَ جَعَلْنَا لكُلِّ نبِيّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض زُخْرفَ الْقَوْلِ غُرُورًا. . .).
فالظاهر في هذه الآية أن الشياطين هنا من الإنس، وقوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) أنهم يتبعونها مصغين إليها متتبعين لها، كما يتبع الكلام القيم؛ ولذا عبر بتتلو لأن التلاوة قراءة واضحة بينة تتوالى كلماتها، فعبر بذلك للإشارة إلى أن الشياطين يحسنون تنسيق الكلمات ويلقونها بنغمات معينة كسجع الكهان، وأولئك اليهود يستمعون إليها بعناية مصدقين، مع أنها كاذبة، ولكن أوهامهم يثبت لهم صدقها، فسمعوها محافظين على السماع.
والله سبحانه وتعالى رد عليهم أوهامهم التي سجلوها في التوراة على أنها من عند الله، وما هي عند الله فقال تعالى: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا).(1/337)
ما هو هذا الكفر الذي نفاه الله عن نبيه سليمان عليه السلام، أهو ما ادعته الكذبة التي ألحقت بالتوراة - بتوراتهم - وما هي منها؟ وهو أنه ارتد وكفر، فنفَى الله تعالى عنه ذلك الكفر، وتلك الردة، وأن شياطينهم الذين قالوا ذلك هم الذين كفروا بدعواهم على سليمان الكفر. وافترائهم عليه وادعائهم السحر، والتمويه على الناس به، فكل هذا كفر.
هذا هو ظاهر القول، إذ كان اليهود قد اتبعوا هذه القصة المكذوبة التي وضعت في التوراة افتراء على الله تعالى.
ونظر بعض المفسرين نظرة أخرى فقالوا: إن الكفر هو السحر، فما كفر سليمان بادعائهم أنه استعان بالسحر على تثبيت ملكه. وما كفر سليمان باتخاذه السحر واعتقاد أن فيه قوة ولا وقع منه ذلك، ولكن الشياطين الذين كانوا يتلونه على ملك سليمان، هم الذين كفروا باتخاذهم السحر وهو كفر.
وقوله تعالى: (مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) أي على تثبيت ملك سليمان في زعمهم، وقال بعض علماء اللغة إن عَلَى تجيء بمعنى في، والمعنى ما تتلو الشياطين في ملك سليمان، وعندي أن على في موضعها من حيث إنها تعويذات، والتعويذات تقع على موضوعها، وموضوعها هو ملك سليمان في زعمهم الفاسد، وكما كذب ما في توراتهم.
وقد بين سبحانه أن أولئك الشياطين لَا يقتصرون على ذكر ما ادعوه على ملك سليمان، وافتروه عليه، وهو النبي الذي سخر الله تعالى له بعض الرياح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، بل يتجاوزون ذلك إلى تعليم الناس السحر فقال تعالى: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَاووتَ وَمَاووتَ). هؤلاء الذين يسيطر عليهم الوهم، وتخيل الناس، فيتصورون أمورًا واقعة، وما هي بواقعة. ولكن حال السحر أهو حقيقة ثابتة أم هو تخييل وتصوير للأمور بغير صورتها فيخيل إليه أنه يرى؟.(1/338)
ونقول في الجواب عن ذلك: جاء السحر في القرآن ووصف بأوصاف، نتعرف حقيقته من هذه الأوصاف. . أول وصف جاء في أخبار موسى عليه السلام مع فرعون، فقد قال تعالى في سحر آل فرعون: (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)، ونرى أنه يتصف بأنه سحر أعين الناس، أي أنهم لم يجعلوا الحبال أفاعي، بل إن تأثيره أنه كان في الأعين لَا في الوقائع، فتأثيرهم في الرؤية لافى تغيير الحقيقة وتحويلها من حبال إلى ثعابين، وفي سورة طه قال الله تعالى حكاية عنهم عندما التقوا يوم الزينة: (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66).
ونرى أن السحر تأثير في الأعين المبصرة، وليس تغيير للحقائق الواقعة فلا يكون تغييرا، ولكن يكون تأثيرًا في العيون، ولكنه تأثير نفسي قبل أن يؤثر في العين؛ ولذا قال تعالى فيما تلونا من سورة الأعراف (اسْتَرْهَبُوهُمْ) أي اتجهوا إلى إلقاء الرهبة في قلوبهم؛ ولذا جاء في سحر بابل أرض السحر أنه لَا يؤثر في النفوس إلا بما يسبق إليها من تصديقه.
ولنذكر ما عرف من سحر بابل فقد جاء ذكره في الآية التي نتعرف معناها الكريم، فقد قال تعالى: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) إن تأثيره مثل له أبو بكر الرازي بمن يركب جارية تجري في الماء، فإن ضلال الأعين يجعل الناظر إلى الأشجار يحس أنها تسير لَا الباخرة.
وربط أهل بابل الذين كانوا يعبدون الكواكب تأثير سحرهم بالكواكب، وكانوا يقولون الرقى والتمائم والعقد والنفث باسمها ويوهمون العوام، والضعفاء صِدقها ويشترطون في القيام بأفعالهم الساحرة أن ينالوا أولا ثقة من يريدون التأثير فيهم، ويعقد مجالس سرية لذلك، ولقد جاء في أحكام القرآن لأبى بكر الرازي ما نصه: " وكانوا يدعون عوام الناس وجهالهم سرا، كما يفعل) الساعة (أي في أيامهم) كثير(1/339)
ممن يدعي ذلك مع النساء والأحداث الأغمار، والجهال الحشو، وكانوا يدعون من يعملون له ذلك إلى تصديق قولهم، والاعتراف بصحته ".
هذه إشارة إلى السحر، وما يعمله السحرة، وننتهي من ذلك إلى أن في السحر ثلاث صفات:
أولها - أنه يسبقه الثقة بالساحر ليستطيع أن يؤثر تأثيره في النفوس.
ثانيها - أنه يكون فيه إلقاء الرهبة في النفوس، وتحويلها إلى الرهبة من الساحر، كما قال تعالى: (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ).
الثالثة - أن السحر في أعلى صوره وأدناه يؤثر في النظر، فيجعل الرائي يتخيل غير ما يرى، ولا يمكن أن يعرف الحقائق، فالحبال حبال، وإن بدت ثعابين.
وإن هذه الأوصاف تتفق الآن مع الاستهواء الذي يفعله بعض الناس بالتأثير في غيرهم وتوجيه مشاعرهم وأهوائهم، والسيطرة على خواطرهم، ويمسحون أفكارهم، وهو ما يسمى بالتنويم المغناطيسي الذي يفعله كبار المجرمين الآن، ولا حول ولاقوة إلا بالله.
هذا هو السحر فيما نعلم، وقد مهر فيه أهل بابل، حتى ضللوا به، وكان السحرة علماء، وكان اليهود يعلمون الناس السحر (وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَينِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) فاليهود كانوا يعلمون ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، فهل هما ملكان حقيقيان نزلا لتعليم الناس السحر، أو طرق الوقاية منه، ولا يمكن أن نعرف طرق الوقاية إلا بمعرفة طريقة التأثير.
الظاهر أنهما ملكان؛ لأن الله تعالى سماهما ملكين، ولأن الله تعالى سمى ما كانا يقومان به أنزله تعالى عليهما، ولم يبين المدة التي أقاماها في بابل، لتعليم الوقاية منه وإنذار الناس منه، كما قال إمام الهدى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه، وإن نزول الملك للتعليم كما ثبت بنزول جبريل في حديث الإيمان الذي رويناه آنفا.(1/340)
وإننا نسير فيما نكتب في فقه الإسلام، وعلم القرآن على أساس أننا لَا نعدل عن الظاهر إلا إذا تعذر تحقيق الظاهر، ولا ننتقل منه إلى غيره إلا مهتدين بنص، ولذا نرى أنهما ملكان نزلا لبيان السحر في ذاته والتضليل به وطريق الوقاية منه فهما منذران كما قال الإمام علي.
ورأى بعض الكتاب المتأخرين في التفسير أن من سميا الملكين كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل وهي مدينة على نهر الفرات، ونالوا ثقة الناس حتى ظنوا أنهما ملكان نزلا من السماء، وبلغ مكر هذين الرجلين أنهما كانا يقولان: إنما نحن فتنة فلا تكفر.
واحتج الذين قالوا هذا القول من مفسري هذا القرن بأن الملك لَا ينزل إلى
الأرض معلما منذرا، لأن المشركين طلبوا أن ينزل ملك، فقال الله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ)، وكان المشركون يقولون: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7).
وقالوا: إن نزول الملك مستحيل، لأنه لو كان ممكنا لأرسل إليهم ملكا مؤيدا للرسول.
ونحن نقول إن نزوله ليس مستحيلا، والله لم يرد عليهم بأنه مستحيل، ولكن علم أنهم متعنتون، وقد طلبوا غير ذلك، وقالوا في طلبهم آيات أخرى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93).
فهم طلبوا هذه الآيات الحسية الكونية كما طلبوا أن ينزل ملك بقرطاس من السماء، وذلك كله كفر بالقرآن الذي تحداهم فعجزوا.
فهل هذا كله مستحيل أن يأتي الله به، أم أن الله تعالى لَا يريد أن [يأتيهم] بآيات أخرى وهو يعلم أنهم لن يؤمنوا؛ ولهذا نقول إنه لايوجد دليل [ ... ] [يمنع] (1)
_________
(1) ما بين المعقوفتين زيادة من المصحح حتى نتأكد من النص فالصفحة ممسوحة.(1/341)
أن ينزل الله تعالي ملكا إلى الأرض، وقد نزل جبريل عليه السلام في صورة رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإيمان الذي رواه البخاري.
لهذا نحن نرى كما ذكرنا أنهما ملكان؛ لأن الله تعالى ذكر أنهما ملكان، وسماهما وذكر أنه أنزل عليهما، وأنهما كانا يحتاطان في بيان السحر، ويقولان (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ).
كان هذان الملكان غير مضلين للناس، إنما جاءا لإنقاذ الناس من فتنة السحر إذ كانا يعلمان الحيل والتمويهات، وطرق الاستهواء التي أشرنا إليها من قبل آخذين لها من القرآن أدلة، كانا يعلمان الناس ذلك حتى لَا يضلوا بالسحر، وقد اشتد ظلامه، وطم سيله (وَمَا يُعَلّمَان مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ)، أي إن ما نعلمه فتنة يختبر الناس به (فَلَا تَكْفُرْ)، أي فلا تأخذ به لأنه كفر، وإنما علمناك هذا لتتخذ منه وقاية، ولتحذره، وليكون ذلك إنذارًا حتى لَا تصدقه بعد ذلك، ولتعلم أنه يضل السحر والساحر.
اتبع اليهود ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وتعلموا السحر، وأخذوا يعلمونه، وجاء الملكان ليبينا زيفه وطرق التمويه فبدل أن يحذروه تعلموه منهما.
وهكذا هم دائما يأخذون من كل شيء ما يضر ويتركون ما ينفع، فهم دائما يأخذون من التحذير طريق الوقوع في المحظور، كما أخذ إخوة يوسف من قول أبيهم يعقوب: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ. . .)، فقالوا عندما ألقوه في غيابة الجب: أكله الذئب.
علم الملكان أهل بابل التمويه الذي يكون في السحر ليتقوه، فأخذ اليهود ذلك، واتخذوه سبيلا؛ ولذا قال الله تعالى: (فَيَتعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) هذه صورة من أقبح الصور، ذكرها مثال لغيرها، كاستهواء النفوس بمسح تفكيرها، وأن يستبد بما فيها تفكيرا، ويسمون ذلك في هذه الأيام [ ... المخ] (1)
_________
(1) كلمة ممسوحة.(1/342)
وقال تعالى: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا) ولم يقل فيعلمانهم، لأن الملكين ما كانا بصدد تعليمه، بل كانا بصدد بيان زيفه ولكن هؤلاء تعلموه ليكون نقيض ما أراد الملكان كفقيه يبين الحيل الفقهية الباطلة، فيتخذها الفاسق سبيلا للتحايل على شرع الله سبحانه، وكرجل يجمع الأحاديث الموضوعة لكيلا تتخذ للاستشهاد فيجيء فسقة الناس وينشرونها، وهكذا شأن الفاسدين يتبعون الشواذ فيقولونه.
وما يفرقون به بين المرء وزوجه هو طريق الاستهواء بأن يعملوا بالطريق الذي يسمونه التنويم المغناطيسي، وهو من أشد أنواع السحر، ينزع شعور المحبة من أحد الزوجين لزوجه فيكون التفريق بينهما، والسحرة الآن لايفرقون بين المرء وزوجبما بل يفرقون بين المؤمن ودينه، والناس عنهم غافلون، ألا يستيقظ المسلمون وذلك كله فسوق عن أمر الله تعالى ونهيه.
وليس ذلك الكفر خارجا عن إرادة الله، ولذا قال تعالى: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ). ويطلق إذن الله تعالى تارة بمعنى الترخيص في فعل، كقوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)، ويطلق إذن الله تعالى تارة أخرى بمعنى تسخيره، ككون السم يؤثر في الجسم، والسحر يؤثر في النفس، والترياق في إزالة السم فعل هذا بإذن الله تعالى، كذلك السحر ما كان ليؤثر تأثيره في النفوس إلا بالأوهام الفاسدة إلا بتسخير من الله تعالى، أو إذن منه سبحانه وتعالى.
فتأثير السحر في النفوس إنما هو بتسخير الله تعالى اختبارًا للنفوس القوية التي تقاوم النفوس الشريرة والتآثير الفاسدة، وقد يسأل سائل: لماذا كان السحر، وهو على هذا النحو من الإفساد للنفوس وتخليق الأوهام؟
ونقول في الجواب عن ذلك، كما خلق الأفاعي والجرذ؛ فإنها خلق الله تعالى، خلقها لاختبار عباده، وقد يكون لها فوائد يعلمها الله تعالى، وإنه هو الفاعل، لَا يُسأل عما يفعل، وهم يسألون.(1/343)
ولقد بين سبحانه وتعالى أن اليهود الذين اختاروا السحر على علم الكتاب يتعلمون ما يضرهم ولا نفع فيه فقال تعالى: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) والضرر في السحر واضح لأنه يفسد العقول، فالساحر الدائب على السحر، ينتهي أمره بفساد عقله، فيضطرب وتسارع إليه الوساوس، فلا يكون عنده ميزان عقلي سليم، يدرك به الحق من الباطل، ويكون في وسواس مستمر، ويضر المجتمع؛ إذ به تفسد القلوب وتضطرب الأفهام، ولا يكون حق واضح، ولقد كان لنا صديق كان يتخذ السحر والتنويم المغناطيسي، وكان عالما رياضيا منظم العقل مستقيم الفكر، فلما أكثر من هذا التنويم الذي هو السحر، اضطربت موازين تقديره، وصار يصدق ما لَا يقبل التصديق ويقبل من القول ما لَا يصدقه.
وآخر كان مؤمنا أشد الإيمان، وأكثر من هذا التنويم الذي هو السحر حتى فسد التقدير عنده، وصار يهرف بقول لَا يصدر عن مؤمن عاقل، فيفضل الرسول على رب العالمين.
وذلك لأن السحر أفسد عقله المؤمن، وتفكيره السليم، ونفَى الله النفع منه، فقال تعالى: (وَلا يَنفَعُهُمْ) أي لَا ينفع متخذيه بأي صورة من صور النفع. وليس لعاقل أن يقوم بعمل مؤكد الضرر، ولا نفع فيه بأي صورة من النفع؛ ولذا قال تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاق).
أكدّ الله سبحانه وتعالى أن من اتخذ هذا النوع؛ أي أن من اشترى السحر، ودفع نفسه وعقله وإحساساته - ليس له نصيب في الآخرة، فالخلاق هو النصيب.
وأكد ذلك باللام الأولى الداخلة على قد، وبقد وباللام الثانية والجملة في معنى المجاز بتشبيه المشتري للسحر بتقديم نفسه العاقلة الطاهرة بحال من يشتري شيئا تافها، ويدفع فيه شيئا قيما ويبيع آخرته، فلا يكون له نصيب فيها.
ولقد أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى، فقال تعالت كلماته: (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) في هذه الجملة السامية تأكيد الذم للسحر وأكده باللام،(1/344)
وبئس فعل دال على الذم، أي بئس هذا السحر الذي باعوا به أنفسهم، أي أن السحر فوق مضراته الواضحة المفسدة للنفس وللجماعة هو في ذاته أمر مذموم لا يصح أن يطلب في ذاته، ولكنهم يدفعون فيه أغلى الأثمان إذ يدفعون أنفسهم، وعقلهم وإحساسهم وقلوبهم، وقوله تعالى: (شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ) أي باعوا؛ لأن شروا بمعنى باعوا، ولكنهم في عمياء من أمورهم؛ ولذا قال تعالى: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أي نوع من العلم، فلا يقدم عليه من عنده ذرة من العلم.
وإن الفقهاء أجمعين يقررون أنه من ثبت أنه يتخذ السحر عملًا يقتل لحماية الناس من إفساده للنفوس، وتفريقه للأخيار، والله تعالى بكل شيء محيط.
* * *
اليهود يختارون الشر
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
* * *
يرشد الله إلى الحق بدل الباطل لليهود؛ لأنهم يعرضون، ويطلبون السحر، وينبذون آيات الله تعالى البينات الداعية إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، وذلك من اضطراب إدراكهم وعدم إيمانهم كشأن من تحكمه الأوهام وتسيطر عليه الأهواء، ولذا قال تعالى:(1/345)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثوبَةٌ منْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ).(1/345)
لم يقل سبحانه آمنوا بمحمد. والضمير يعود إلى اليهود، بل قال سبحانه (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) وذلك لأنهم لَا إيمان عندهم بشيء، بل هم في اضطراب لَا قرار في قلوبهم بشيء، والإيمان إذعان للحقائق، وجعلها مستقرة في القلوب مصدقة للحق فالمعنى: لو ثبت أنهم آمنوا وأذعنوا وصدقوا بالحق واتقوا غضب الله تعالى وطلبوا رضاه، واتجهوا إلى السير في الطريق السوي لكان ذلك خيرا بدل الاعوجاج الذي اختاروه لأنفسهم، فساروا في طريق عوج، لو فعلوا ذلك لكان لهم ثواب، ولذا قال تعالى في جواب الشرط المقدر من " لو " (لَمَثُوبَةٌ منْ عِندِ اللَّهِ خَيْر)، أي لو ثبت أنهم آمنوا وأذعنوا وسكن ذلك قلوبهم، واتقوا أي اتقوا غضب الله بعمل صالح ينفعهم وينفع الناس، ويكونون به مصدر خير لخلطائهم من الناس - لكان لهم الثواب الدائم، فالمثوبة هي الثواب الدائم المستمر، وذكر سبحانه وتعالى أن ذلك خير لهم مماهم فيه من اضطراب مستمر وفساد قلب، وقوله تعالى: (خَيْرٌ) إما عطف بيان، دماما خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو خير.
وقد أكد الله تعالى المثوبة باللام المؤكدة الواقعة في جواب فعل لو المحذوف، وبين سبحانه وتعالى بعد علمهم بهذه الأمور التي يكون علمها والأخذ بها خيرا لهم، ولذا قال سبحانه: (لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) وعلماء النحو يقولون في " لو " أنها حرف امتناع لامتناع أي يمنع جوابها لَا متناع شرطها، والمعنى أنه يمتنع علمهم بذلك فيمتنع إيمانهم، فهم في ضلال مبين.
وإن اليهود دائما عشراء سوء، فكانوا يغمزون في القول دائما بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كان المؤمنون يتوجهون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - طالبين إرشاده وتوجيهه ودعاءه فكانوا يقولون (رَاعِنَا ... (104)
وأصل راعنا مفاعلة من رعى يرعى، ومعنى المفاعلة راعنا بالقول الموجه المرشد نرعك بالاستماع والإنصات، فإنك هادينا ومرشدنا وقد تفيد معنى اتجه إلينا، ولقد روي عن ابن عباس في تفسير كلمة (رَاعِنَا) أنه قال: " كان المسلمون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - راعنا على جهة الطلب والرغبة من المراعاة أي التفت إلينا، وكان هذا بلسان اليهود سبًّا أي اسمع لَا سمعت فانتهزها اليهود وقالوا: كنا نسبه سرًّا فالآن نسبه جهرًا.(1/346)
كانوا يخاطبون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم فقال لليهود: عليكم لعنة الله لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأضربن عنقه، فقالوا أولستم تقولونها فنزل قوله:(1/347)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
(يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقولُوا انظُرْ نَا وَاسْمَعوا).
نهاهم الله تعالى عن قول راعنا لأن اليهود فسروها بما يدل على السب كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه ولووا بها ألسنتهم بما يدل على أن معناها رعونة من القائل والمخاطب الكريم، ولقد صرح سبحانه وتعالى في موضع آخر بلى ألسنتهم فقال تعالت كلماته: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46).
كانوا يقولون: (رَاعِنَا) يقصدون الرعونة، بمعنى عدم الاستقرار الفعلي والفكري فأمر الله المؤمنين أن يتوقوا هذه الكلمة وأن يقولوا انظرنا بمعنى اشملنا بنظرتك وإرشادك وتوجيهك، وأمرهم مع ذلك بأن يسمعوا للرسول إرشاده وتوجيهه.
وإن ذلك يفيد أمرين:
أحدهما - إرشاد المؤمنين بأن يتخيروا العبارات التي لَا تثير حولها المرتابين إلى ما يتعدى مقاصدهم، وما يحرفونها عن مقصودها، وأن يتخيروا جميل الألفاظ التي لَا يؤذي جرسها الأسماع.
الأمر الثاني - أنه يجب الأخذ بسد ذرائع فساد الفهم، وما يؤدي إلى الغمز في القول، وإخراج الكلام عن معناه، وتعدى مقصده.
بل إن بعض المشتغلين بالفقه قال: " إنها دليل على الأخذ بمبدأ سد الذرائع الذي يقوم على أن الذرائع أو الوسائل تأخذ حكم ما تؤدي إليه، فما يؤدي إلى المطلوب يكون مطلوبا، وما يؤدي إلى المنوع يكون ممنوعا وإن لذلك وجها من(1/347)
القول، فإن نهى الله تعالي عن أن يقولوا (رَاعِنَا) سد لفساد اليهود الذين يغمزون في القول، ويتهكمون بهذا على المؤمنين، وعلى مقام النبوة السامي الجليل.
ولقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) والمراد من الكافرين اليهود الذين لووا ألسنتهم غمزا واستهزاء، وقد أظهر في موضع الإضمار لتسجيل الكفر عليهم ولبيان السبب في عذابهم فهم كافرون بما كان منهم، وجحودهم للنبوة المحمدية وإنكارهم للقرآن الكريم ونبذهم له وراءهم ظهريا، والكافر له عذاب أليم، وأليم بمعنى مؤلم، وتنكيره للدلالة على أنه عذاب أليم لا يدرون كنهه، ولا حقيقته.
وإن المشركين عبدة الأوثان لم ينزل عليهم كتاب بعد إبراهيم عليه السلام، واليهود أهل كتاب فنزل عليهم كتاب سماوي ثم حرفوه من بعده، ونسوا حظًّا منه وزادوا عليه أوهاما من عندهم، وكتموا جزءا كبيرا مما بأيديهم. إن هؤلاء المشركين واليهود جمعهم أمران: أحدهما الكفر، والثاني بغض محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو بغض ما جاء به، فإذا فرقهم العلم بكتاب سماوي، فقد جمعهم كفر وبغض لما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذا قال تعالى:(1/348)
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
(مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ... (105)
يود هنا معناها يحب، وإن الود يجيء بمعنى محبة الشيء، وبمعنى تمنيه، وهي هنا بمعنى المحبة فقط، وما هو بمعنى التمني قوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)، وقوله تعالى: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ. . .).
وهنا تكون بمعنى المحبة، أي ما يحب الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم، ونفي المحبة يومئ إلى الكراهية، أي يكرهون أن ينزل الله تعالى عليكم أي خير من ربكم، ومن في قوله تعالى: (مِّنْ خَيْرٍ من رَّبِّكمْ) لاستغراق النفي ومعناها أي خير من ربكم، وأعظم الخير من الله تعالى هو أن يكون رسولا من رب العالين، وربكم الذي رباكم وصنعكم على عينه.(1/348)
وقدم سبحانه وتعالى أهل الكتاب على المشركين، لأنَّ الكلام كان في أهل الكتاب؛ ولأنهم أشد جحودا وإعناتا؛ ولأن الجحود منهم وهم أهل كتاب أشد من جحود غيرهم الذين لم يؤتوا كتابا، فالجهل قد يكون عذرا أحيانا، وإن لم يكن هنا عذرا. وإن سبب كراهية أن ينزل عليكم خير من ربكم يختلف عند المشركين عنه عند اليهود، فهو عند المشركين كفر للوحدانية، وخوف الرياسة، والتنافس بين العشائر، وأما عند اليهود، فهو كراهية أن تكون الرسل في ولد إسماعيل، وهم في طبيعتهم الحسد، يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
وموضع الكراهية أن ينزل عليهم أي خير من ربهم، وتنزيل الخير من رب الوجود هو الرسالة، كان المشركون الذين عاندوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفسون على عشيرته بني هاشم، ولقد قال عمرو بن هشام أبو الحكم الذي لقبه الإسلام بأبى جهل في سبب كفره: (تنازعنا وبني عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، حتى تجاثينا على الركب، وصرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي فأنى يكون ذلك؟ والله لا نؤمن به).
واليهود قد علمنا أنهم كانوا يستفتحون به، فلما جاءهم ماعرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين.
ولقد رد الله تعالى كراهيتهم، وأنه سبحانه وتعالى يسير في اختيار نبيه على مقتضى حكمته وإرادته فقال تعالى: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ)، والله ذو الجلال والإكرام، والفاعل المختار يختص برحمته من يشاء وهي رحمة الرسالة التي ترحم الناس أجمعين، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، ورحمة القرآن الذي جاء هدى وشفاء ورحمة للمؤمنين.
فمعنى يختص برحمته، أي يختص بحمل رسالته وقرآنه من يشاء، أي من يختاره بحكمته والله أعلم حيث يجعل رسالته، وإن ذلك من فضله؛ ولذلك قال تعالى: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي صاحب الفضل العظيم الذي يلازمه سبحانه وتعالى، فلا يكون منه إلا فضل عظيم يعم الناس أجمعين.
* * *(1/349)
النسخ
(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
* * *
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى بعض أفعال اليهود من إنكار وجحود وكفر بالنعمة وكفر بما يعرفون صدقه واتخاذ السحر وأوهامه واتباع ما يضر. . بين سبحانه النسخ لأنه يتضمن نسخ بعض ما جاء في التوراة وإن صدق أصلها، ونسخ المعجزات التي كان يأتي بها موسى عليه الصلاة والسلام، ليؤمن بنو إسرائيل وآل فرعون، ذكر الله تعالى نسخ الشرائع القديمة ونسخ المعجزات الحسية السابقة وأنه أتى بمعجزة هي القرآن، وإنها أمر أوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان آخر صرح للنبوة، إذ كان محمد - صلى الله عليه وسلم - آخر لبنة في صرح النبوة، وكان خاتم النبيين.
بعد ذلك تعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - للنسخ في الشرائع والآيات.
النسخ معناه الإزلة كما تقول نسخت الشمس الظل، أي أزالته وحلت محله، ويطلق أيضا النسخ بمعنى نقل المكتوب كما قال: (إِنَّا كنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
والآيات تطلق على طائفة من القرآن مفصولة عما بعدها كآية الكرسي، وآيات المنافقين وآية الربا، وآية حد السرقة وغير ذلك من آيات الله تعالى البينات.(1/350)
وتطلق على الآيات الكونية التي تدل على قدرة الله تعالى وعلى حكمته، وبديع خلقه ومنها معجزات النبيين الحسية كالعصا، وفلق البحر وإبراء الأكمه وإحياء الموتى بإذن الله، والإخبار عما في بيوتهم، ومن ذلك قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً. . .)، ومن ذلك قوله تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)، ومن الآيات الحسية قوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثونَ)؛ لأن البناء العالي فيه دلالة على براعتهم في البناء.
والنسخ في اصطلاح الفقهاء على أساس أن الآية هي الآية القرآنية هو إزالة حكم الآية، ويقسمون النسخ إلى ثلاث:
القسم الأول - نسخ الحكم وبقاء التلاوة، كما ادعوا لآيات نسخ حكمها وبقيت تلاوتها، كاية تقديم الصدقة بين يدي الرسول إذا ناجوا الرسول في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صدَقَةً. . .).
والقسم الثاني - آية نسخت تلاوتها ولم ينسخ حكمها، كما قيل إنه كان في القرآن آية " إذا زنى الشيخ والشيخة، فارجموهما ألبتة " (1) فنسخت تلاوتها وبقي حكمها،
________
(1)
عن عَبْد اللَّه بْنَ عَباس يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب وَهُوَ جَالس عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ. [متفق عليه: َ رواه البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنةَ
(6778)، ومسلم: كتاب الحدود (3201) واللفظ له].
ورواه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب بلفظ: " إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ». أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ. فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَتَبْتُهَا - الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ - فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَاهَا قَالَ مَالِكٌ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ:، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: «فَمَا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ حَتَّى قُتِلَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ» قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: قَوْلُهُ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ يَعْنِي: «الثَّيِّبَ وَالثَّيِّبَةَ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ ". [موطأ مالك: كتاب الحدود (1297)].(1/351)
والقسم الثالث - وهو الأصل آيات محكمة لم يعرها نسخ ولا تأويل، وهذا القسم يقولون إنه أكثر القرآن.
وفى هذا الكلام نظر يستبين مما نقول إن شاء الله تعالى.
ويقولون: إن هذه أقسام بالنسبة لذات النسخ، أما بالنسبة للناسخ فيقولون القرآن ينسخ السنة، ولكن يشترط الشافعي لنسخ القرآن للسنة - أن يكون من السنة ما يدل على النسخ، كالسنة التي دلت على نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة.
وادعوا نسخ القرآن بالسنة بل ادعوا نسخ عموم القرآن بأحاديث الآحاد.
وكل على تفسير الآية في قوله تعالى:(1/352)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ منْهَا أَوْ مِثْلِهَا). فإنها الآية القرآنية المشتملة على أحكام تكليفية بإلغاء تكليف ووضع تكليف آخر في موضعه كنسخ تحريم بإباحة، أو إباحة بتحريم، ولكن يلاحظ أن نسخ القرآن بالسنة لَا يستقيم مع النص الكريم؛ لأن النسخ يوجب أن يأتي بخير من المنسوخة أو مثلها، ولا يمكن أن تكون السنة خيرا من القرآن أو مثله.
ولكن هل الآية تدل على وقوع النسخ، أو تدل فقط على جوازه على فرض تفسير الآية بالآية القرآنية (ولنا في ذلك نظر) نقول إن الآية تدل على الإمكان لا على الوقوع؛ لأن النص السامي بشرط وجواب هذا الشرط - إذ إن " ما " من أسماء الشرط جزم به ننسخ وجوابه: (نَأْتِ بِخَيْرٍ منْهَا أَوْ مِثْلِهَا) فهي دالة على الإمكان لَا على الوقوع بالفعل، والوقوع بالفعل يجيء من تتبع الأحكام الشرعية الناسخ منها والمنسوخة كما ادُّعي في الآيات التي ذكرنا، والأحكام التي تكلم فيها الفقهاء مدعين فيها نسخ آيات بآيات.
فالآية لَا تدل على وقوع النسخ، ولا على لزومه.
وقبل أن ننتقل بتفسير الآية إلى معنى آخر نتكلم في معنى (نُنسِهَا) وعلى هذه القراءة يكون ننسها من قلوب الناس لأنها من أنساها - من قلوب الناس، أي(1/352)
أنه أنساها للناس، وربما يتفق هذا على قول الذين يقولون إن ثمة آيات نسخت تلاوتها، وبقيت أحكامها، كما ادعى في الرجم.
وهناك قراءة (نَنسَأها) بفتحتين وهمزة، وبمعنى نؤجلها من النَسَاء بمعنى التأجيل، وخرج بعض اللغويين القراءة الأولى (أَوْ نُنسِهَا) على هذا المعنى، فقال إن الهمزة قلبت ياء إذ أصلها ننسئها فسهلت الهمزة فعوملت الياء معاملة حرف العلة فحذف في حال الجزم، وعلى هذا المعنى تتلاقى القراءتان على معنى التأجيل، ويكون المعنى لَا نزيل حكم آية أو نؤجل حكمها، إلا أتينا بخير منها أو مثلها. ثم قال تعالى مؤكدا جواب الشرط بقوله تعالت كلماته:(1/353)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
(ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ) والمعنى تعلم علمًا يقينيا مؤكدا أن الله تعالى على كل شيء قدير. وقدم قوله على كل شيء لاختصاصه تعالى بكمال القدرة وعمومها، (ألَمْ) استفهام للنفي مع التنبيه ونفي النفي إثبات مع التنبيه وتأكيد العلم.
وهذا القول كله على تفسير الآية بمعنى الآية القرآنية.
وأولئك كما ذكرنا يقررون النسخ في القرآن، وقرره الشافعي، وغيره من الفقهاء الكبار، وعلى رأسهم شيخهم أبو حنيفة وإمام دار الهجرة مالك وإمام السنة أحمد بن حنبل.
وحجة قولهم هذه الآية، وما جاء عن الصحابة من نسخ بعض آيات لأخرى وإن كانوا يسمونه التخصيص كما أثر عنِ ابن مسعود أنه قال في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْن بأنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشرا. . .)، وقوله تعالى في سورة الطلاق: (وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. . .)، وفيها ظاهر التفارق في التوفى عنها زوجها الحامل، فقرر ابن مسعود أنها تعتد بوضع الحمل، وهذا تخصيص للآية الأولى بأنها لغير الحامل، فقال رضي الله عنه: أشهد أن سورة النساء الصغرى، أي الطلاق نسخت الكبرى. وهي قد خصصتها، ولكن كان السلف يعتبرون التخصيص نسخا، ولا مُشاحة في الاصطلاح.(1/353)
وإن النسخ في ذاته لَا في القرآن بالذات لَا ينكره أحد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يربي المؤمنين، ويدع الدين الحق في قلوبهم، وقد مكث بينهم ثلاثة وعشرين عاما يربيهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، وما كانوا ليقبلوا ذلك التهذيب الكامل الذي ينقلهم من الجاهلية إلى العلم والتفكير، والعمل التقي الطاهر دفعة واحدة؛ بل لابد أن يأخذهم في رفق وأناة يقر أمورًا على رجاء التغيير، حتى تشرب قلوبهم حب الإسلام، وحب آدابه، ولقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما من نبوة إلا تناسخت " أي حولت النفوس بالتدريج، وترك أمور في مرتبة العفو حتى تتشرب النفوس الحقائق الإسلامية، وليس معنى ذلك أن الله تعالى كان يجهل الحقائق ثم علم وهو ما يسمى بالبداء، والله تعالى منزه عنه تبارك وتعالى، وإنما معناه أن الله عالم بكل شيء، ولكن نبيه كان كالمربي الذي يئدرج بتعليمه حتى يشب ويعلو فكره، فتتكامل الشريعة نزولا إذ تكامل عقله إدراكا وبيانا.
لذلك كان النسخ وكانت الأحكام الئى تجيء في السنة موضع التناسخ الثابت بالحديث.
ولكن هل يجيء النسخ في القرآن، قال جمهور العلماء ذلك مستدلين بقوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ منْهَا أَوْ مِثْلِهَا) ولكن نقول: إن الآية الكريمة كما في بيان الشرط وجوابه، وتدل على الإمكان لَا على الوقوع فعلًا، وإن هذا على أساس تفسير الآية بمعنى الآية القرآنية المشتملة على حكم تكليفي، ولكن كلمة الآية تدل معانيها على الآية الكونية، والمعجزات الكونية والحسية التي يجيء بها الرسل كإحياء عيسى عليه السلام الموتى بإذن الله تعالى، وإحياء الموتى من قبورهم، وتصويره كهيئة الطير فينفخ فيه فتكون طيرا بإذن الله تعالى، وكعصا موسى عليه السلام التي فلقت البحر وفجرت الماء من الحجر، وكإرسال الجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات.
وإن المشركين طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - آيات أي معجزات دالة على رسالته كمعجزات عيسى وموسى ويظهر أن اليهود طلبوا مثلها، فرد الله تعالى عليهم(1/354)
بقوله: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ منْهَا أَوْ مِثْلِهَا) أي ما ننزل آية لنبي أو رسول أو نؤجلها إلا أتينا بخير منها أو مثلها، وفي ذلك إشارة إلى أن معجزة القرآن خير من المعجزات التي سبقت كمعجزة موسى وعيسى، لأنَّ معجزاتهم حوادث تنقضي، وتنتهي بانتهاء وقتها ولا تؤثر إلا في نفوس من عاينوا، وشاهدوا، أما معجزة القرآن، فإنها باقية خالدة تتحدى الأجيال كلها إلى يوم القيامة.
وإننا نميل إلى تفسير الآية بالمعجزة، وذلك للأمور الآتية:
أولا - تعقيب النسخ والتغيير بقوله تعالى: (ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فإن ذلك يتناسب بوضوح مع الآية بمعنى المعجزة القاهرة التي تدل (على قدرة الله وصدق رسوله)، والمعجزة الكونية، ولا تظهر مناسبة مع آية التكليف.
وثانيا - قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (107)
فذكر هذا النص السامي يدل قياسًا أن النسخ أو الترك يكون لآلهة كونية بخير منها، تكون أبقى وأعظم أثرا.
ثالثا - أنه كان لوم على طلب آية أخرى، فقد قال تعالى:(1/355)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
(أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ) هذه الآيات كلها جاءت تالية لآية النسخ وهي في تواليها تناسب أن تكون الآية المنسوخة معجزة من معجزات الرسالة الإلهية، ومعجزات النبيين.
ورابعا - أن النسخ يقتضي ألا يمكن الجمع بين الناسخ والمنسوخ، وليس في القرآن آيات تتعارض، ولا يمكن التوفيق بينها، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.
وإن الله تعالى إذا أنزل معجزة لنبي، وبدل بها معجزة فذلك من كمال قدرته وليس لمؤمن أن ينكر معجزة، ولا يطلب معجزة معينة، وألا يقال: إن الرسول الذي جاء بالمعجزة القاطعة مغتر، فقد قال تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا(1/355)
يُنَزِّل قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، فإن الله العليم الحكيم هو الذي يختار من الآيات الدالة على رسالة أنبيائه ما يراه أقوى دلالة، وأكثر بقاء، فهو الذي يعلم الآيات كلها، وهو الذي يدبر كل شيء بحكمته، وإرادته، وإن الله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو أعلم بمكان آيته، ولقد قال تعالى في ذلك: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي أي إنكار الوقوع، فما بعدها يكون منفيا بها، ولم نافية لما بعدها، فيكون نفي النفي، ونفي النفي إثبات، كما يقر علماء البيان، والنفي على طريقة الاستفهام فيه تنبيه بليغ، لأن الاستفهام في ذاته فيه إثارة للانتباه، والمعنى: تعلم أيها الرسول، أن الله تعالى له السلطان الكامل في السماوات والأرض، فله التدبير المطلق الذي لَا قيد يقيده لَا يسأل عما يفعل وهم يسألون فإذا اختار آية دالة على رسالة نبي مرسل، فله أن يختار آية أخرى لنبي آخر، فإذا اختار تسع آيات لموسى، واختار مثلها لعيسى، فله أن يختار لمحمد - صلى الله عليه وسلم - غيرها أبقى وأدوم، وأقوى دليلا، وتحديا للأجيال كلها الإنس والجن.
وإن الله سبحانه وتعالى ببيان هذا العلم الشامل الواسع يشير سبحانه وتعالى إلى بيان القدرة على عقاب من يكذب وينكر، ويجحد بآيات الله تعالى ويقول حيث وضح الحق وقام، إنما أنت مفتر؛ ولذلك قال تعالى من بعد بيان شمول علم الله تعالى: (وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) وهذا أنفَى لهم عند العذاب النازل بهم من أن يكون لهم ولي، أي صديق، أو ذو ولاية عليهم يحميهم بولايته، ويكلؤهم بمحبته أو نصير ينصرهم والشدائد نازلة بهم يوم القيامة.
وقد أكد الله تعالى نفي الولي والنصير، بمن التي تدل على استغراق النفي، أي ليس للمعاندين لآيات الله تعالى ولي أي ولي كان، ولا نصير أي نصير كان قويا أو ضعيفا، وأكد سبحانه النفي بتكرار لَا. وإن ذلك النفي المؤكد يفيد أنهم يجيئون إلى الله تعالى فرادى كما خلقهم أول مرة، وهو سبحانه مالك يوم الدين.(1/356)
أشرنا إلى أننا اخترنا أن يكون النسخ في هذه الآيات الكريمات هو نسخ الآيات الدالة على رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن تغيير آية يأتي الله تعالى بخير منها أو مثلها، وإن قدرة الله على ذلك ثابتة وله فيما يفعل حكم ظاهرة قد نعلمها بإدراكنا الناقص، وقد تعلو على إدراكنا.
ولذا قال تعالى موجها الخطاب لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ملتفتا إليهم، وهم يشملون الوثنيين واليهود فهم جميعا أمة محمد فقد أرسل إلى الناس كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
(أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ ... (108)
أم للإضراب عن الكلام السابق إضرابا لفظيا، مؤداه علمتم أن الله على كل شيء قدير، وعلمتم أن الله تعالى له ملك السماوات والأرض، وأنه يصرف الآيات لرسله الكرام فيختار لكل رسول آية، ولا يستبعد أن تكون تلك الآيات كلها على نسق هذه الآية لمن يجيء بعده، والله يصرِّف دلائله وآياته.
أتريدون يا من تخاطبون برسالة محمد أن تسألوا رسولكم آية دالة على رسالته، كما سأل اليهود موسى من قبل، أي أتريدون أن تختاروا معجزة دالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما سئل موسى من قبل.
والاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي أنه كان ممن خاطبهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، ممن سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل عليهم كتابا من السماء يحمله ملك، ومنهم من سأل أن يكون المبعوث ملكا ولا يكون رجلا يمشي في الأسواق، كان ذلك من المشركين، ومن أهل الكتاب، وقد قال تعالى في سؤال أهل الكتاب: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153).(1/357)
والمخاطبون في قوله تعالى: (أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ) هم الذين خوطبوا برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهم الناس جميعا، مشركوهم وأهل الكتاب فميهم، فقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - للأحمر والأسود والذين طلبوا تغيير المعجزة المحمدية بغيرها من المعجزات الحسية كان منهم المشركون واليهود فهم أخص من بعث إليهم بالخطاب.
وقوله تعالى: (أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ) إلى آخره فيه الاستفهام متجه إلى إرادة السؤال لَا إلى السؤال نفسه، وإذا كان الاستنكار للإرادة فهو للسؤال أشد لأنه إذا استنكرت ذات الإرادة، فالأولى يكون للفعل، وإنهم ما أرادوا المشابهة بين فعلهم وفعل بني إسرائيل من قبل، إنما نبههم الله تعالى إلى المماثلة بقوله: (كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ)، أي مثل ما سئل موسى من قبل.
وإن ذلك انحراف عن السبيل، وترك للحق، وانصراف عما يوجبه الدليل، إلى سؤال عن دليل آخر مع سلامة هذا الدليل الذي يعترضون عليه؛ ولذا قال تعالى: (وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) أي ومن يجعل الإيمان في مقابل الكفر فقد سار في طريق منحرف ولم يسلك السبيل المستقيم، وضل يعني بعد، ومعنى ذلك أن من يطلب الكفر يترك سواء السبيل والقصد، وفي ذلك إشارة إلى أمرين:
أولا - أنهم ضلوا القصد ولم يسلكوا سواء السبيل أي وسطه؛ لأن وسط السبيل لَا يكون اعوجاجًا ولا انحرافًا، وأنهم إذ ضلوا سواء السبيل وبعدوا عنه سلكوا طريق الكفر، واختاروه على الإيمان.
ثانيا - أن السبب في سلوكهم طريق الغي والضلال وطلبهم معجزات يريدونها هو أنهم في أصلهم جاحدون كافرون، ومن ترك الطريق الواضح مع وضوحه وقيام برهانه فقد كفر؛ لأنه يتبدل الكفر بالإيمان.
* * *(1/358)
الحسد في الدين
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
* * *
كان المشركون والذين أوتوا الكتاب لَا يرضون معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة دالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تحداهم أن يأتوا بمثلها فعجزوا وعلموا مقامه من البيان، وأنه أعلى من البيان الإنساني حتى يقول قائلهم: (إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، والله ما يقول هذا بشر). فقد تبين لهم الحق، وأن ما يشتمل عليه هو الحق الذي لَا يأتيه الباطل، ومع ذلك جحدوا وكفروا وتمادوا واضطهدوا ضعاف المؤمنين، وكانوا يودون أن يعود النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه إلى ما هم عليه، حسدا لهم، إذا علموا أنهم على الحق، وليكونوا تحت سلطانهم وليحتفظوا بهم وكانوا بين إحساسين: إحساس السلطان وحسد أهل الإيمان، ولذا كانوا يتعنتون في طلب آيات غير القرآن.(1/359)
واليهود كانوا يستفتحون على الذين كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فالحق قد تبين وكان أشد تبينًا، لأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك طلبوا آيات أخرى وجحدوا، وما كان ذلك إلا تبريرًا لكفرهم بما علموا، ولم يكتفوا بكفرهم بل ودوا أن يكون المؤمنون مثلهم كفرًا وعنادًا.
ولذا قال تعالى:(1/360)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) ود هنا معناها تمنى، فإنها تستعمل بمعنى أحب، وبمعنى تمنى، وحيث كانت لو وما بعدها موضع الطلب كانت بمعنى تمنى؛ فإن أمنية أهل الكتاب (وكذلك المشركون) أن يختفي هذا الدين، ولا يكون إلا الوثنية وخصوصا الوثنيين الذين بقوا على وثنيتهم من الأوس والخزرج لكيلا يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه مسيطرين على المدينة.
ويلاحظ أمران:
أولهما - أن القرآن الكريم الذي أنزله العادل الحكيم لم يذكر أهل الكتاب جميعا، بل ذكر الكثير منهم فقال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ منْ أَهْلِ الْكِتَابِ)؛ لأن بعضهم يرجى إيمانه ويسير في طريق الإيمان، ومن سار في طريق الإيمان لَا يرجو زواله، ومن يريد الهداية لَا يود زوالها.
الأمر الثاني - أنه ذكر أهل الكتاب دون غيرهم لأنهم كانوا أشد رغبة في تضليل المؤمنين، وكان الحق عندهم أشد بيانا، وأقوى برهانا؛ ولأن حسدهم أوضح، فكلما كانت الحجة أقطع، كان حسدهم أوضح وأبين وعداوتهم أشد، ولجاجتهم في الباطل.
ويقول سبحانه في موضع التمني وباعثه: (لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِمِ) تمنوا أن تعودوا إلى الكفر، بعد أن ذقتم بشاشة الإيمان، وعبر بقوله تعالى: (يرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا) للإشارة إلى أن ذلك رجعة بعد تقدم، وانتكاسة بعد استقامة.(1/360)
وما كان الباعث على ذلك الحسد؛ وعبر عن حسدهم بأنه منبعث من نفوسهم، وذلك التعبير يشير إلى أمرين:
أولهما - أنه ليس له مبرر إلا من نفوسهم فلا وجه لأن يحسدوكم على ما آتاكم الله تعالى من فضله.
ثانيهما - تأكيد ما في نفوسهم من غل بقوله تعالى: (مِّنْ عِند أَنفُسِهِم. . .)، كما في قوله تعالى: (يَكْتُبُونَ الْكِتَاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمًّ يَقُولونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ. . .).
والحسد تمني زوال نعمة غيره، سواء أعادت النعمة إليه أم لم تعد. فالحاسد لا يريد الخير لغيره، وهو بهذا يملأ قلبه بالضغن والحقد من غير أن يعود إليه شيء؛ ولذلك قيل إن الحسد مرض نفسي، لَا يؤذي إلا صاحبه لأنه بمقدار ما ينال غيره من خير تتوالى آلامه، وخير الدنيا كثير فيزيد مرضه بمقدار ما يؤتى الناس من فضل، وقد يسمي بعض الناس حسدًا ما ينال الناس من غبطة كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله تعالى القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار " (1).
واستعمال الحسد هنا من قبيل المجاز؛ لأن موضوع الغبطة والحسد، هو الخير بيد أن الحاسد يتمنى الزوال والغابط يتمنى الدوام والإتباع، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وإن حسد اليهود كان باديا في كل معاملاتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي أقوالهم وأفعالهم، وحسد بعض الذين بقوا على وثنيتهم كان باديا في نفاقهم وفي أفعالهم، وكانوا يجاهرون بالحسد قبل وقوعه إذ كانوا يجاهرون به، ولا يخفون كفرهم.
يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان راكبا دابة فمر بمجلس فيه مسلمون، ويهود ومشركون من عبدة الأوثان من بقايا الأوس والخزرج الذين لم يكونوا قد دخلوا في الإسلام
________
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري بنحوه: كتاب التوحيد (6957)، ومسلم: صلاة المسافرين (1350).(1/361)
بعد، ولو نفاقا، فسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نزل عن دابته وأخذ يدعوهم إلى الإسلام، وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي: إن كان حقا، فلا تؤذِنَا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك. فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغش مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستَّب المشركون والمسلمون واليهود، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألم تسمع إلى ما قاله أبو حباب " يريد عبد الله بن أبي بن سلول فكنّاه تقريبًا لنفسه " قال كذا وكذا " فقال: أي رسول الله بأبي أنت وأمي! اعف عنه وأصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب بالحق لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوِّجوه ويعصِّبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق، فذلك فعل ما رأيت (1).
والحسد هنا واضح.
ولقد قال تعالى: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّه بِأمْرِهِ)، والعفو معناه، ترك المؤاخذة على الذنب والرفق في المظهر، والمعاملة الحسنة، والصفح هو إزالة كل أثر في النفس، فالعفو يتعلق بالمظهر كقوله تعالى: (خذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْف وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ)، والصفح ألا يبقى في النفس أثر من الآلام التي أثارها الحسد والعمل على مقتضاه، وكلاهما أعلى درجة من الصبر المجرد؛ لأن الصبر معناه الضبط والتحمل مع ملاحظة ورجاء، والعفو يتضمن كالصفح معنى الصبر، مع تجمل المظهر وألا تكون آلام قط مما يصنعون.
وقد حد الله تعالى نهاية للعفو والصفح، وهو أن يأتي أمر الله قال تعالى: (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ) وإن ذلك يكون بأحد أمور ثلاثة: إما بالقصاص منهم، بإجلائهم أو قتالهم، وإما بنزع الحسد والحقد من قلوبهم وهدايتهم، وإما بالغلب عليهم وأن يكونوا في ظل المسلمين، ويعلنوا إسلامهم وقلوبهم ليست مؤمنة وإن الأمر بالصفح والعفو كان لإرضاء قلوبهم، وإخراج الحسد من نفوسهم فإنه لَا يدني القلوب إلا عفو رفيق وصفح جميل.
________
(1) هذه القصة مذكورة في البخاري تفسير القرآن (4200)، ومسلم: الجهاد والسير (3356).(1/362)
ولقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بإثبات قدرة الله تعالى فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فإذا أمر الله كان قادرا على نزع الأحقاد من القلوب، والقصاص من الظالمين، وكشف ضلال المنافقين؛ لأنه قادر على كل شيء وقد أكد قدرته سبحانه بالجملة الاسمية وإن المؤكدة، وعموم موضوع قدرته واختصاصه سبحانه وتعالى بالقدرة على كل شيء بتقديم الجار والمجرور على قدير. تعالت قدرته وعظمته وحكمته.
وإن العفو والصفح صفحا جميلا لَا منَّة فيه، يحتاج إلى رياضة نفسية وطهارة روحية وإلف اجتماعي، ولذلك قرن الله تعالى الأمر بالمعروف والصفح والأمر بالصلاة والزكاة وتقديم الخير رجاء من عند الله قال الله تعالى:(1/363)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
(وَأَقيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَكَاةَ).
إقامة الصلاة أداؤها على الوجه الأكمل بأن يأتي بأركانها الظاهرة، وأركانها الباطنة مقومة غير معوجة طيبة خارجة من القلوب ليست النفس منفصلة عما تقوم به الجوارح، فإذا قال: " الله أكبر " شعر بعظمة الله وأحس برقابته، وأنه دخل بالتكبير في ظل رحمته، وأنه رقيب عليه وأنه يواجهه، وأنه في حضرة منشئ هذا الوجود بما فيه من سماء وأرض وجبال ووهاد، وأن نفسه في قبضة يده، والوجود كله في قبضته، وإنه بذلك يحس كأنه يرى الله لأنه في حضرته، وبذلك يعلو عن الأحقاد وعن الحسد، وعن كل ضغن وإحن، ولذا قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ. . .).
والزكاة تعاون إنساني، لأنها معاونة القوي للضعيف وإعطاء الغني للفقير، والربط بين الإنسان بالأخوة الجامعة والمحبة الراحمة والمودة الواصلة، وعندها يزول الحسد ولا يتمنى أحد زوال نعمة أحد، وعند ذلك يكون العفو الشامل والصفح الجميل، ويدرك معنى قوله تعالى فاصفح الصفح الجميل، ويراه بقلبه عيانا. وإن الأمر بالصلاة التي هي رمز للطهارة النفسية والائتلاف النفسي، وإيتاء الزكاء التي تدل على الطهارة الجماعية والائتلاف - أمر سبحانه وتعالى بفعل الخير(1/363)
في شتى صوره، وقال تعالى (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) و " ما " هنا من أسماء الشرط، وفعله تقدموا، وجوابه تجدوه عند الله، والنص الكريم حث على فعل الخير وبيان جزائه؛ لأن جزاءه يجده عند الله تعالى وما يجده عند الله أوفى مما قدَّم، وأكثر مما فعل، وقال تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ) ونلاحظ ثلاثة أمور في كل واحدة إشارة بيانية، وحكمة ربانية.
الإشارة الأولى - أن الله تعالى عبر عنِ فعل الخير سواء أكان لنفسه أم كان للجماعة بقوله: (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ) لأن فعل الخير للجماعة فعل لنفسه، والخير يعود على فاعله ابتداء، ويعود على الجماعة انتهاء، فمن تصدق فإنما يتصدق لنفسه؛ لأن الفائدة إليه إذ يعيش في مجتمع متكافل غير متدابر، ولتطيب بفعله القلوب وتسود المحبة الكامنة، وكذلك كل فعل خير يكون لنفسه، وهو يقدمه لنفسه أو يكون له ثوابه.
الإشارة الثانية - أنه يجد العمل قائما ثابتًا عند الله، فيكون مهيأ حاضرًا يراه ويعاينه، وذلك كناية عن جزائه الذي لاينقص عنه، بل قد يزيد عليه رحمة من الله تعالى، ويراه عند الله محفوظا لَا يضيع.
الإشارة الثالثة - تذييل الآية الكريمة بما يفيد علم الله تعالى بقوله تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وهذه الجملة السامية تفيد علم الله الذي لا تخفى عليه خافية، فلا يضيع عمل عامل منكم، وقد أكد سبحانه وتعالى إحاطة علمه بما يظهر وما يخفى مؤكدات ثلاث:
أولها - إحاطته وسموا ذلك بالتعبير بـ " ما " الدالة على العموم، فإنها بمعنى الذي، وهي تدل على العموم الشامل.
ثانيها - بالجملة الاسمية وتأكيد الجملة بأن وتقديم الجار والمجرور على بصير، والتقديم دال على التخصيص.
وثالثها - التعبير عن العلم بالبصير؛ فمعناه علم كأنه مبصور بالبصر، يعلم(1/364)
الخفي الدقيق، والجلي الواضح، فلا يخفى عليه شيء من عمل الإنسان ويعلمه علم من يبصره.
ذكر سبحانه وتعالى حسد اليهود بالمدينة، وكيف يداوي المؤمنون داء الحسد عند هؤلاء وهو بالعفو والصفح رجاء أن يقربوا بدل أن يستمروا على جفوتهم ونفرتهم، حتى يكون اليأس من إدنائهم فيكون القصاص أو الكشف والإبعاد، والله تعالى على كل شيء قدير.
ولقد بين سبحانه سبب حسدهم وهو غرورهم بأنهم أهل الجنة وحدهم فقال تعالى:(1/365)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
(وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ. . (111)
الضمير يعود على أهل الكتاب في قوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) والضمير في قوله تعالى: (وَقَالُوا) يتعيَّن عودته على أهل الكتاب للقول نفسه؛ لأن الذين قالوا هذا القول اليهود، والنصارى وهم أهل الكتاب وهم الذين كانوا يجاورون النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والقول بالترتيب الجماعي فاليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، وإلا فكل فريق لَا يؤمن بالآخر فاليهود لَا يعترفون بالنصرانية وهم الذين عادوا المسيح، وحرضوا على قتله وإن كان الله تعالى قد نجاه من دسهم وشبّه عليهم، وقد دل على ذلك قوله تعالى بعد ذلك: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ. . .).
وهود قيل إنها هنا بمعنى يهود، ولكنها بمعنى الجمع؛ لأن " مَنْ " هنا لفظ يدل على الجمع فالجمع أنسب إليه ويكون جمعا لها كعوذ جمع لعائذ، ولأنه مقابل لنصارى ونصارى جمع، وإن قولهم هذا كذب نشأ من غرورهم وإغلاق قلوبهم على ما عندهم، وما يتمنونه من أماني كاذبة إذ يتمنون ولا يعملون " ولذلك قال تعالى في تصوير حالهم: (تِلْكَ أَمَانِيّهمْ) وهي جمع أمنية وهي على وزن أفعولة فأصلها أمنوية اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وقد(1/365)
ذكرنا ذلك من قبل، أي أن " هذا ما يتمنونه، ولكن لماذا قال تلك أمانيهم ولم يقل تلك أمنيتهم فذكر ذلك بلفظ الجمع " قالوا "؟: إذ الجمع يدل على أنه أمنية كل واحد نعينه فجمعت للدلالة على عموم التمني، وذلك لأنهم يحكمون لأنفسهم بأمانيهم لا بأعمالهم بما يتمنونه لَا بما يتخذون لنيله الأسباب.
ولأن لفظ الجمع تأكيد لأن يكون هذا تمنيا لهم استجابة لغرورهم وأهوائهم، وقد قال تعالى لبيان أنها أمان كاذبة ليس لها من سبب ولا دليل (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) أقر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم: هاتوا برهانكم، ولم يقل سبحانه سنكل طلب البرهان إلينا، لأنه عالم الغيب والشهادة، يعلم كذب ما يقولون وافتراءهم، وقد حكم سبحانه وتعالى بأنه ما يتمنونه لَا ما يستحقون فلا يطلب الدليل من يعلم؛ وقد فرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطلب لَا ليقتنع ولكن ليبين كذبهم في ادعائهم.
طلب منهم أن يأتوا ببرهان، والبرهان هو الدليل القاطع الملزم الذي لَا يعتريه ريب ولا شك أنه ليس عندهم دليل ظني أو قطعي من كتاب منزل أو قول نبي مرسل.
ولذلك قال سبحانه: (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) فجعل أداة التعليق الدالة على الشك، وهي " إن "، إذ إنه لَا دليل عندهم فهم غير صادقين.
ثم بين سبحانه وتعالى أن دخول الجنة بالإخلاص والعمل لَا بالتمني الكاذب فقال تعالى:(1/366)
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
(بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنونَ (112)
بلى حرف للجواب بالنفي كما أن نعم للجواب بالإيجاب، وبلى تتضمن معنى الإضراب وهذا الكلام رد على المفترين الذين يتمنون الأماني الكاذبة فليست الجنة إلا جزاء المتقين ولا تكون للكذابين الجاحدين.
(مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَفوَ مُحْسِنٌ) ومعنى أسلم وجهه لله تعالى أسلم نفسه كلها لله تعالى، فتكون كل جوارحه وكل أحاسيسه وحركات قلبه خالصة لله تعالى خائفة منه خاضعة لكل ما يأمر وينهى، وعبر بالوجه فإنه كثير ما يعبر به عن الذات(1/366)
كما قال تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. . .)، ولأنه مظهر النفس، ولأنه هو الذي تكون به المواجهة وهو الذي يكون به السجود ومظاهر الطاعة والخضوع والاستجابة.
ولا يكون إسلام النفس إلا وهو معه الإحسان في الأعمال كلها، فمعنى وهو محسن أنه يكون محسنا للناس في معاملتهم فيمدهم بالعون عند موجبه يعين الضعيف ويغيث الملهوف، ويحمل الكَلّ، فلا يحسد الناس على ما آتاهم من خير ولا يكذب ولا يحقد ولا يمشي بنميم بين الناس ولا يتخذ السعاية سبيله، ولا يقطع ما وصل الله، ولا يفرق بين الأحبة، هذا كله يشمله معنى الإحسان وهو لا يحصى في خصائصه ومزاياه وجملة (وَهُوَ مُحْسِنٌ) حالية ومعناها أنه متلبس بالإحسان لَا يصدر عنه غيره.
و (مَنْ) مِن أسماء الشرط و (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) شرطه، وجزاؤه قوله تعالى: (فَلَهُ أَجْرُهُ) ثواب ذلك الإحسان وإسلام الوجه لله تعالى، أما الادعاء المغرور، والتمني الكاذب فجزاؤه جهنم وبئس المصير، وإنه لَا خوف عليهم من عقاب، ولا حزن يعتريهم من عمل أسلفوه.
ولذا قال تعالى: (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي أنهم لَا يخافون حسابا ولا عقابا ولا يحزنون لأمر نالهم، بل إن إخلاصهم لله، وإحسانهم العمل لَا يجعل للعقاب سبيلا لهم، فهم في أمن من الله لأنهم أطاعوه، أما غيرهم فهم في غيهم وغرورهم يوم القيامة يخافون مما يستقبلهم ويحزنون على ما فاتهم.
* * *(1/367)
الاختلاف بين أهل الكااب(1/368)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
* * *
زعم اليهود أنه لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وزعم النصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، وهم بذلك قد جمعهم الغرور، والأماني الكاذبة، لأن الاعتقادات الباطلة يجمع أهلها الأماني الكاذبة، أو يستحسنون أعمالهم ويحسبون أنها الأمور الحسنة، لتزين لهم أعمالهم، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا وأوهامهم تسيطر عليهم وتتردى بهم في مهاوي الضلال.
وفى هذه بين سبحانه وتعالى ما يفرقهم بعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى ما يجمعهم. وما يفرقهم هو التناكر أو التكذيب والتضليل، فاليهود يقولون: ليست النصارى على شيء والنصارى يقولون ليست اليهود على شيء، ومعنى على شيء: على شيء من العلم، ولا من الحق، ولا من الهداية، والتنكير لبيان عموم نفي الخير والأشياء الحسنة الطيبة التي ترفع صاحبها إلى مقام عال من الإنسانية الكاملة.
واختلفوا ذلك الاختلاف المفرق الذي يجعل كل فريق منهم في جانب مع أنهم علماء بالكتب السماوية، ونزل عليهم في أصل نحلتهم رسول من الله تعالى رب العالين؛ ولذا قال تعالى موبخا مبينا سوء تفكيرهم: (وَهُمْ يَتْلونَ الْكِتَابَ) والمراد الكتاب أي يقرأونه، ويعلمون ما فيه إن أرادوا ولم يحرفوه، وفيه الميزان بين الحق والباطل، وما فيه رضا الله، وما فيه غضبه، وفيه بيان ما يرفع، وبيان ما(1/368)
يخفض، ولكن أهواءهم هي التي تحكمهم، والهوى يفرق، والحق يجمع، والحق يهدي، والهوى يضل.
وإن هذا النوع من التفكير الخاضع للأهواء المردية الذي يسرف فيه صاحبه لا يفترق فيه من أوتي علم الكتاب عمن لم يؤت علما بكتاب، ولذلك كان المشركون يقولون مثل قولهم، لأن المنزع واحد، وأهل كل ملة يقولون مثل قولهم إذا كان مصدر الحكم الهوى والشهوة؛ لأن كل حزب بما لديهم فرحون، ولذا قال تعالى: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي قالوا ليس غيرهم على شيء من الحق والخير، بل الحق عندهم دون غيرهم وزينت لهم أفعالهم، فلم يروا غيرهم يستوجب الجنة فهي لهم وحدهم دون غيرهم.
ولعل عذرهم في عدم العلم، أما الذين يتلون الكتاب من يهود ونصارى فما عذرهم؟!
وقد بين سبحانه وتعالى أنه هو الذي يفصل بينهم يوم القيامة، فقال تعالت آياته: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون) أي ليست أمورهم سددا بددًا لَا حكم فيها يحكم، ولا الأهواء هي التي تتحكم، بل هناك الحاكم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض والسماء، وهناك يوم يكون فيه الميزان والحكم؛ ولذا قال: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ) أي الذي يحكم، هو الذي يعلم صغائر الأمور وكبيرها، هو الذي يحكم وسيكون حكمه الفصل يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين، وموضوع حكمه تسامى في علمه وعدله وما كانوا فيه يختلفون أي الأمر الذي كانوا فيه يختلفون ويتجدد خلافهم آنًا بعد آنٍ. وهذا كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17).
وإن الله تعالى نهى نبيه الأمين - صلى الله عليه وسلم - عن أن يكون من الذين يفرقون دينهم شيعا، ونهيه نهى لأمته، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُم فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).(1/369)
ومع هذا الخبر الناهي الذي فيه العبرة وقع المسلمون في الاختلاف ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* * *
المساجد للعبادة فلا يمنع منها أحد
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى ما يتوهمه أهل الكتاب وما يجري بينهم من خلاف يكَفِّرُ فيه بعضهم بعضا، وأن المشركين يفعلون مثل فعلهم، ويقولون مثل قولهم، بعد ذلك ذكر أمرًا حدث من أهل الكتاب ومن المشركين معا، وقد جمعتهم الأماني الكاذبة كما جمعهم الاعتداء على بيوت الله تعالى التي خصصت لعبادته.
فقد وقع ذلك من اليهود والنصارى إذ يمنعون غيرهم من المسجد الأقصى حتى دمره المتمردون من المغول والرومان والنصارى، منعوه أيضا بعد أن دخل قسطنطين وحرف النصرانية في مجمع نيقية على ما هو معروف، والمشركون منعوا المسلمين من حج بيت الله الحرامِ وصدوا المسلمين في الحديبية. فالمنع من المساجد. وقوله تعالى:(1/370)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ). " مَن " هنا للاستفهام بمعنى إنكار الوقوع أي النفي، فالمعنى لَا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيه اسمه، فقوله: (أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) بدل من المساجد، والمنع إنما هو من أن يذكر فيها اسمه وأضيف إلى المساجد للإشارة إلى أن ذلك اعتداء عليها، والاعتداء عليها اعتداء على الله سبحانه وتعالى؛ لأنها مساجد الله تعالى؛ إذ قد خصصت لعبادته سبحانه وتعالى، ومنع أن يذكر فيها اسمه، منع من ذكر الله تعالى وهو أكبر الآثام.(1/370)
ثم المنع أهو من مسجد واحد، أم منع من مساجد متعددة، أو حكم عام - وهو الظاهر - أم ذكر لوقائع معينة؟ قال بعض العلماء، وعلى رأسهم ابن جرير الطبري: إن المراد مسجد واحد، وهو المسجد الأقصى، إذ منع النصارى الصلاة وذكر الله فيه، وخربوه بعد أن حرفوا النصرانية ودخلوا في الديانة المحرفة.
وقال الأكثرون من المفسرين: إن الكعبة المكرمة هي التي منع المشركون في مكة أن يذكر فيها اسم الله تعالى، وذلك عام الحديبية فقد منعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من أن يدخلوا البيت الحرام. وعلى رأس هذا الفريق من مفسري السلف الحافظ ابن كثير رضي الله تبارك وتعالى عنه ولنترك الكلمة له. قال: والذي يظهر لي القول الثاني وهو أن المنع كان من البيت الحرام، وروي عن ابن عباس أن النصارى منعت اليهود الصلاة في بيت المقدس؛ لأن دينهم أقوم من دين اليهود (وفى ذلك نظر) وكانوا أقرب منهم، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا؛ لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، وأيضا فإن الله تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من مكة ومنعوهم من الصلاة في المسجد، وأما اعتماده (أي ابن جرير) على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة؛ فأي خراب أعظم مما فعلوا؟!! أخرجوا عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم كما قال تعالى: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34).
وقال تعالى: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18).
ويسترسل الحافظ ابن كثير في سوق الآيات الدالة على منع المشركين من أن يدخل المؤمنون البيت الحرام، وفسر تخريب البيت لَا بمعنى تدميره ونقض بنيانه،(1/371)
كما تمسك ابن جرير، بل فسر التخريب بمعنى خلوها من العبادة الحق، وإن ذلك هو الأقرب إلى الدلالة اللفظية؛ لأن الله تعالى لم يقل تخريبها أو تتبيرها كما عبر عن اليهود إذا دخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، حيث قال: (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبيرًا)، وإنما عبر في هذا المقام فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللًّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) أي أنهم بهذا المنع من ذكر الله تعالى سعوا في خرابها. وأي خراب لبيت من بيوت العبادة المخصصة لها ولذكر الله أعظم من منع هذا الذكر؟
ولذلك اختار ابن كثير أن يكون الذي منع ذكر الله تعالى فيه هو البيت
الحرام، إذ منعوا المؤمنين من دخوله، وقد قال تعالى في ذلك: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25).
فالخراب هو خلوها من العبادة. والبيت المسكون يكون خرابا إذا خلا من السكان، ويقول الحافظ: ليس المراد بالعمارة زخرفها وإقامة صورتها فقط، إنما عمارتها بذكر الله تعالى فيها، وإقامة شرعه. وإن هذا الكلام ينتهي لَا محالة إلى أن الكلام في المنع من مساجد الله تعالى المنع فيه كان منِ مسجد معين هو البيت الحرام، فلماذا عبر إذن بقوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَع مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يذْكرَ فِيهَا اسْمُهُ) فلماذا ذكر المساجد بدل المسجد؟ ونقول في ذلك: إن المنع كان في مسجد، وهو سبب النزول والاستنكار والظلم فيه شديد، ولكن الظلم يكون أيضا في المنع من غيره، فالسبب إذا كان واحدًا، قد يكون الحكم أوسع شمولا، ويكون الظلم في منع أي مسجد، ولأن التعبير بالجمع يدل على أن المنع ظلم لما يكون من جنس المساجد كلها، ولا يختص بواحد من بينها.
ولقد قرر الله تعالى لهم عقوبة الدنيا، بأن ينزل الله على هذا المانع الظالم عقابا دنيويا صارما، وهو أنهم لَا يدخلونها، لأن من سكن مكانا اعتدى فيه(1/372)
لا يدخله، والجزاء من جنس العمل، وقد نبأنا القرآن الكريم بأن العقاب سينزل بهم، وأن مكة وما حولهأ ستكون في قبضة أهل الإيمان، وأنهم من بعد ذلك لَا يملكون منعا به بل قد يُمنعون إن شاء الله تعالى؛ ولذا قال تعالى: (أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ)، الإشارة في أولئك إلى الذين منعوا مساجد الله تعالى أن يذكر فيها اسمه، والإشارة إلى موصوف تدل على أن هذه الأوصاف علة الحكم أو الخبر، وهو ألا يدخلوها إلا خائفين، وقد عبر الله عن ذلك بقوله تعالت كلماته: (مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ) أي ما كان يسوغ لهم أن يدخلوها إلا وقد خرجت من أيديهم فلا يدخلون مستمكنين قاعدين مستقرين، بل يدخلونها مضطربين فيها خائفين من أن يؤخذوا بظلمهم عالمين أنها بعيدة عليهم، وليست مكان استقرار، وقال ابن كثير: إن هذه الأخبار معناها الطلب أي لَا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت هدنة، وهذا النص لما فيه من أمر وطلب فيه بشارة بأن أمرهم زائل، وأنه خارج من أيديهم إلى أيدي محمد وأصحابه.
وذكر الله تعالى عقابا دنيويا آخر وهو أنهم يلحقهم الخزي بعد استعلائهم، والذل بعد استكبارهم، فقال تعالى: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْي) وهو أن يخرج البيت من أيديهم، ويكون أمره لغيرهم، وأن تهدم أصنامهم، وترمى من فوقه، ويطهر بناء البيت المكرم من رجسهم، ثم أن يُمنعوا من البيت إلا أن يكوِنوا مؤمنين وقد مُنعوا من البيت، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا. . .)، وقد بَلَّغ أبو بكر في السنة - التاسعة عندما كان أميرا على الحج، بألا يطوف بالبيت مشرك قط (1). وقد أشرنا في بدء كلامنا بهذه الآية الكريمة بأن اليهود قد منعوا من بيت المقدس وخربوه، والنصارى، وقلنا أنهم فعلوا ذلك بعد أن حرفوا الإنجيل، وآمنوا بالتثليث.
________
(1) عن حُمَيْد بْن عَبْد الرحمَنِ، انَّ أبَا هُرَيْرَةَ أخْبَرَهُ انَّ أبَا بكرِ الصديقَ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - بَعَثهُ فِى الْحَجةِ التِي امَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قبلَ حَجَّةِ الْوَدَاع يَوْمَ النَّحْرِ، فِى رَهْط يُؤَذنُ فِى النَّاسِ: " ألا لَا يَحُجُ بَعْدَ الْعَامِ مُشرِكٌ وَلا يَطُوفُ بِالْبًيْتِ عُرْيَان ". [متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الحج (5171) ومسلم: كتاب الحج (2401)].(1/373)
ولقد جاء في عبارة ابن كثير أنهم - أي النصارى - خير من اليهود، وأنهم أقرب اعتقادًا، ونقول: إن هذا ليس بصحيح. إنهم لَا يقلون فسادًا في اعتقادهم عن اليهود، وإنهم ملة واحدة في سوء الاعتقاد، وضياع الإيمان، وإذا كان بعض النصارى في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا أقرب مودة للذين آمنوا، فجلهم آمن واهتدى، ومن بعد ذلك فهم واليهود على سواء في العداوة الأثيمة.
والآية كما قال بعض المفسرين تشمل المشركين والنصارى واليهود، فالمشركون منعوا المسجد الحرام أن يذكر فيه اسم الله تعالى، والنصارى منعوا اليهود وخربوا المسجد الأقصى، واليهود بما حرفوا وبما عصوا واعتدوا، وبكفرهم عجزوا عن حماية المسجد الأقصى فدمره القوم عليهم تدميرًا.
وإن الذين قالوا هذا: إن هؤلاء جميعا نالهم خزي الدنيا، فالمشركون بإزالتهم أصنامهم، ومنعهم من دخول البيت وهم مشركون، واليهود والنصارى بالجزية تفرض، ويدفعونها خائفين غير مستكبرين.
ثم ذكر سبحانه العذاب الأنكى والأشد في الآخرة فقال تعالى: (وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وقوله " لهم " معناه أنه مختص بهم، ونكر العذاب لشدته، ووصف بأنه عظيم لقوته.
وكان اليهود الذين يساكنون النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة وعقد معهم العقود، وانتهكوا حرماتها، ونقضوها - كثيري القول في الإسلام، لايتركون أمرًا يظنونه مكيدة للمسلمين إلا فعلوه، ولا علما علموه فيه إلا نابذوه وأشاعوا بين المسلمين الشك كانت القبلة ابتداء - وقد هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس، فأخذوا يشيعون في المؤمنين تبعية محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى دينهم، وقد كان من قبل يتجه إلى القبلتين، ولكن لما هاجر كانت مكة تحت سلطان الشرك وفي قبضته والأوثان حولها ولم يكن في ظاهر الأمر أنها ستخرج من أيديهم، وإن كان أخذ يضايقهم في عيرهم؛ الرائح إلى الشام، والقافل منها.(1/374)
مكث المؤمنون على الاتجاه إلى بيت المقدس في صلاتهم ستة عشر شهرا حتى أذن الله تعالى بأن الأمور ستخرج من أيديهم، وقاربت غزوة بدر الكبرى في علم الله تعالى، فحول القبلة إلى الكعبة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على تحقيق ذلك، وكان يقلب وجهه في السماء طالبا داعيا، فحوله الله تعالى إليها، فأخذ اليهود يشددون غمزهم في القول لهذا التحويل، ويتخذون ذلك سبيلا للطعن في محمد - صلى الله عليه وسلم - ودينه، ويقولون إن ذلك تقلب في الإيمان واضطراب في معرفة الحق، كيف يتغير من القبلة الحق - في زعمهم - إلى ما دونها، وهم سفهاء حقا في كلامهم.
وقد بين الله سبحانه أن ذلك لَا يتعلق بلب الإيمان، فالقلب موطنه، والله يختار أي مكان يكون القبلة وذلك مثل قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177).
لما كثر لغط اليهود قال تعالى:(1/375)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي أن الأرض كلها ملك لله سبحانه وتعالى مشرقها ومغربها، وما بينهما، والمشرق المكان الذي تشرق منه الشمس، والمغرب، المكان الذي تغرب فيه، ولا فضل لمكان على مكان إلا باختيار الله تعالى له، (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) أينما شرطية دالة على المكان وتولوا الفعل مجزوم بها، لأنه فعل الشرط، والجواب دل عليه " فثم وجه الله " أي فولوه واتجهوا إليه، فإن هناك وجه الله تعالى، فثم بمعنى مكان أو هناك وجه الله، والمراد ذاته العلية الكريمة وعبر بالوجه لأن الوجه بالنسبة للعباد هو الجزء الواضح البادي، وإذا رؤي فقد رؤيت الذات، ولذا كان في التحدث عنِ الله تعالى الوجه هو الذات، كما قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27).(1/375)
ومعنى (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، ولُّوا وجوهكم فإنكم ستتجهون إلى الله تعالى إذ ستجدون الله بنوره وجلاله في أي مكان. ولا يضير الإيمان أن يتغير الاتجاه من قبلة إلى قبلة؛ لأنه حيث كان يجد الله فيتجه، والأمر إليه سبحانه في اختيار مكان اتجاه المؤمن.
ثم ذيل سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) والسعة بالنسبة لله تعالى سعة الملك، فالله تعالى واسع ملكه وسلطانه لَا يقتصر ملكه وسلطانه على مكان دون مكان، بل كله في ملكه سبحانه الذي وسع ملكه كل شيء، وهو عليم بما يجري فيه، فالعبادة المخلصة المحسنة يعلمها ويصل إلى صاحبها ثوابها، سبحانه وتعالى. .
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
* * *
ليس بوالد ولا ولد
(وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
* * *
تكلم القرآن الكريم عن اليهود، وخياناتهم وغدرهم في ماضيهم وحاضرهم وكفرهم بآيات الله تعالى، ومع ما صنعوا ادعوا أنهم أهل الجنة، وأن النار لن تمسهم إلا أياما، وقالوا مع النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا أو نصرانيا، وذكر عنهم اختلافهم وتنابذهم مع أنهم يتلون الكتاب، ثم أشار سبحانه إلى كلامهم في شأن القبلة ولجاجتهم في التشنيع على المسلمين بشأن تحويل القبلة إلى الكعبة يقول تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب).(1/376)
وبعد ذلك يشير إلى الوثنية في الديانة النصرانية المثلثة، التي ابتدأت بادعاء أن المسيح ابن الله، وإذا كان اليهود قد شاركوهم في أن عزيرًا ابن الله، فإنهم لم يلجوا فيه، ويجعلوه جزءا من دينهم، كما لج النصارى قبحهم الله، وزادهم ضلالا فوق ضلالهم، ووهْمًا فوق أوهامهم فقد ضلوا سواء السبيل ولا أمل في هدايتهم إلا أن يتخلصوا عن هذه الأوهام وإلا فذرهم في غيهم يعمهون، وإن الله تعالى يهدي من يشاء.
وقالوا - أي النصارى ومن قاربهم من اليهود، وإن لم يلجوا لجاجتهم - قالوا وعليهم إثم ذلك القول لأنه اختراع كاذب، ونسب سبحانه وتعالى القول إليهم، لأنه ضلالهم الذي به ضلوا، وخرجوا عن التوحيد إلى الوثنية.
وقولهم هو:(1/377)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
(اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) أي أن الله تعالى هو الذي اختار ولدا، أو جعله ولدا، وهذا يدل على زعمهم الباطل من أن الله تعالى احتاج إلى أن يكون له ولد، ورغب فيه وأراده، أو اشتهى كما يشتهي الأحياء أن يكون له ولد لحاجته إليه.
وقد رد الله تعالى عليهم ذلك الزعم بأربعة أدلة تدل على بطلان ذلك الزعم الوثني الذي يشابه مقالة عبدة الأصنام:
الدليل الأول: قوله تعالى: (سبْحَانَهُ) أي تنزه عن ذلك وتقدست ذاته العلية أن تكون مشابهة لأحد من الحوادث الذين يتوالدون ويتناسلون، فهو الواحد الأحد الذي لَا يشابه أحدا من خلقه، ليس كمثله شيء، ولو كان له ولد لكان مشابها للحوادث ولكان له زوج، كما قال تعالى:(1/377)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكن لَّهُ صَاحِبَةٌ. . .)، وأنه لو كان له ولد تولد منه لكان له والد، وهو منزه عن ذلك فهو الواحد الأحد الذي ليس له والد ولا ولد.
الدليل الثاني: أنه لو كان له ولد لكان مفتقدا إلى من يكمل وجوده؛ لأن الولد امتداد لأبيه، فهو كمال وجوده، والله تعالى ليس بمفتقر لأحد؛ لأنه الكامل المنفرد بالكمال، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك الدليل بقوله: (بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، وبل هنا للإضراب والانتقال من تنزيه إلى تنزيه، والمعنى أن له(1/377)
الملك الكامل والسلطان التام في السموات والأرض، فيستحيل أن يكون محتاجا إلى ولد، بل كل الوجود في سلطانه، وليس فقيرا إلى ولد يعينه، وهو يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، وأن كل شيء خاضع لسلطانه مسبح بحمده كما قال تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفورَا).
الدليل الثالث: أنه إذا كان الوجود كله ملكا له، فكيف يتخذ ولدًا، وإنه إذا كان الوجود كله ملكا له، فكيف يكون محتاجا له، وإن الوالد قد يحتاج للولد ليكون مسخرا في حاجاته يقوم بحق الوالد عليه، والله لَا يحتاج إلى ذلك، لأن الوجود كله في قبضة يده، وكلهم خاضعون له؛ ولذلك قال: (كُلٌّ لهُ قَانِتُونَ) والقنوت: هو الخضوع المطلق، والعبادة والتسبيح له سبحانه وتعالى. والتنوين في قوله تعالى: (كُلٌّ) دال على عموم كل من في الوجود خاضع لله تعالى لَا يحتاج إلى من يكون في طاعته.
والقنوت يشمل العبادة من ذوي الإرادة، ومن يقنتون بمقتضى التكوين الفطري، والتكوين كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ).
الدليل الرابع: أن الله تعالى هو الذي أبدع السماوات والأرض على غير مثال، وخلق الوجود كله الأرض والسماء والأحياء فهو الذي ذرأ من في السماوات والأرض، وكلهم عبيده، كما قال تعالى: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)، فكيف يكون له ولد، وأنه إذا كان له ولد، فإنه يكون من جنسه، ويكون من مثله والله المبدع للوجود والخالق منزه عن أن يكون بعضه من الحوادث والولد بعض أبيه وبضعة منه.
وقد أشار سبحانه إلى هذا بقوله تعالى: (بَدِيع السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) وبديع بمعنى مبدع أي منشئ على غير مثال سبق، وقد أخذ بعض المفسرين من هذا دليلًا(1/378)
على أنه لَا يمكن أن يكون الإبداع متفقا مع اتخاذ الولد، فقد قال الراغب في ذلك: " إن الأب هو عنصر للابن منه تكون، والله مبدع الأشياء كلها فلا يمكن أن يكون عنصرا للولد، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلاً " اهـ.
وإن هذا بلا ريب يتنافى مع الإبداع.
وإن الذين قالوا: إن الله اتخذ ولدا قالوا: إنه نشأ عنه ملازما له، كما ينشأ الضوء من الشمس وكما ينشأ النور من السراج، أي أنه نشأ من الموجد الأول نشوء المعلول من علته والمسبب عن سببه، وهم قالوا ذلك آخذين له من الفلسفة، وهي الأفلاطونية التي تتوافق مع النصرانية تمام التوافق، وهي بعد أن حرفت عما جاء به المسيح عليه السلام كما هي والأفلاطونية الحديثة على سواء.
فهم يقولون: إن الله ليس فاعلا مختارا وإنما نشأ الولد نشوء المعلول عن العلة؛ ولذلك كان رد الله تعالى عليهم بإثبات ملكه وقدرته على الخلق والتكوين، وأنه أبدع السماوات والأرض بإرادته رَدٌّ لكفرهم وضلال عقولهم، وأوهامهم الباطلة، التي ضلوا بها، وأضلوا الناس بالدعوة إلى تصديقها.
ولقد بين سبحانه إرادته المختارة بأنه مبدع السماوات، وبقوله تعالى: (وَإِذَا قَضي أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) أي أنه إذا أراد خلق شيء ممكن قال له كن فيكون.
والواو عاطفة والمعطوف عليه بديع السماوات والأرض، " بديع " صيغة مبالغة بمعنى مبدع فهي في معنى الفعل؛ ولذا صح عطف الفعل عليها، أو عطف الجملة الفعلية عليها.
وهي بيان الاختيار والفعل المنافي للتوالد، وقضى بمعنى أنشأ وخلق وكون، والأمر هنا هو بمعنى الشيء فإذا أراد الله تعالى خلق شيء لَا يكون بتوليد شيء في شيء أو مادة من مادة، إنما يكون بكلمة يقولها وهي " كن " والأمر أمر تكويني فيكون الشيء الذي أراده الله تعالى.(1/379)
وهذا يدل على أمرين:
أولهما - أنه سبحانه وتعالى فاعل مختار يفعل ما يريد، وأن الأشياء نشأت بإرادته المختارة، فهو فعال لما يريد، والأشياء لم تنشأ نشوء المعلول عن علته، أو المسبب عن سببه.
ثانيهما - أنه لَا يمكن أن يكون له ولد؛ لأن الولد يتولد عن والد، ولا يخلق الله تعالى الأشياء بطريق التوالد، من توليد لاحقٍ بسابق، بل إنه سبحانه وتعالى ينشئ في الابتداء، والتوالد بين الأحياء يكون بسلطانه، وبحكمته وهو العزيز العليم.
إن المسيحية بعد المسيح عليه السلام سارت في ذلك المسار الذي انتهى بوثنيتها وانحرافها، وتحللها من العقيدة التي دعا إليها المسيح عليه السلام، وهي عقيدة المسيح، وأنه رسول الله تعالى، وأنه عبده (لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ. . .)، وقد دم ذلك على النحو التالي:
أ - عندما توفى الله المسيح إليه، توالى التعذيب على أتباعه، والتعذيب ابتدأ في حياته عليه السلام في هذه الدنيا فقد اضطهده اليهود ودسوا عليه عند الرومان حتى هموا بصلبه ونجاه تعالى إذ شبه لهم، وما قتلوه وما صلبوه وتوالى من بعد ذلك تعذيب الرومان، في عهد ملوك كثيرين منهم، فكان منهم نيرون الذي كان يطلي أجسامهم بالقار ويشعل فيه، ويسيرون في مواكبهم مشتعلين، وكان زينة موكبه تلك المشاعل الإنسانية، ومنهم دقلديانوس الذي قتل مقتلة عظيمة في سنة 282، وإنه في وسط هذا الاضطهاد كان المسيحيون يقيمون شعائرهم الدينية في الخفاء إذ كلما ظهروا عذبوا، وكانوا إذا ظهروا أخفوا عقائدهم فكانوا يفتشون القلوب وينقبون عن خبايا النفوس، ولا يسلم الدين مع هذا الاختفاء إذ لَا يكون مرشد هاد، ولا رقيب يمنع دخول الزيف في دينهم.
بـ - وفي هذه العصور دخلت عناصر من الوثنيين يحملون وثنيتهم، وخلطوا ما بينها وبين عقيدة التوحيد التي جاء بها المسيح عليه السلام، وإن الاختلاط بمرضى الحقائق يجعل الضلال يسري إليهم كما تسري عدوى الأمراض.(1/380)
ولعل أشد الوثنيين الذين أغاروا عليهم - بولس، الذي سموه رسولا، فقد كان عدوا للمسيح في حياته في هذه الدنيا، كان إلبًا عليه يحرض الرومان، ثم ادعى أنه دخل المسيحية، وما دخل، أو دخلها ليخربها وهو أول من أدخل الوثنية فيها، واطرح فيها تعاليم المسيح اطراحًا.
جـ - وقد كانت الأفلاطونية الحديثة تتكون، وأساسها أن الأوثان الرومانية فقدت قوتها، والفلسفة هي الأخرى فقدت سلطانها، فأرادت الأفلاطونية الحديثة أن تصل إلى نفوس الرومان باسم الدين وأرادت أن تجمع من بقايا من الوثنية، ومن اليهودية والنصرانية التي ظهرت دينا جديدا، فكانت النصرانية التي خرجت عن دين المسيح عليه الصلاة والسلام، وهي جمعت بين الوثنية بألوهية المسيح وروح القدس مع الله، واليهودية باعتبار التوراة أصلًا لها فصارت النصرانية.
والأفلاطونية الحديثة التي يعد أكبر رؤسائها أفلوطين المتوفى سنة 27 ميلادية تعتقد أن العالم نشأ عن الشيء الأول، وهو الله أو العقل الأول عندهم، ثم نشأ عنه العقل الثاني وهو ما سمي عند النصارى بالابن، ثم نشأ عنهما الروح العامة المتصلة بالمخلوقات جميعا.
د - مع هذه الأعراض التي ظهرت في المسيحية، ومع هذه المحاولات الوثنية كان التوحيد هو المسيطر وهو الأكثر أتباعا في القرون الثلاثة الأول والثاني والثالث، وخصوصا في الأول والثاني، وإذا كانت وثنية تظهر، فإن الكثرة الموحدة تطردها كما يطرد الجسم السليم بحيويته الأمراض ويتغلب عليها، واستمرت كذلك طول هذه القرون الثلاثة.
حتى جاء بَطريق الإسكندرية، وهي موطن الأفلاطونية الحديثة، جاء باتفاق مع قسطنطين إمبراطور الرومان في أول القرن الرابع، وادعى أن التوحيد بدعة في المسيحية، وأن الأصل فيها ألوهية المسيح في زعمهم، وأن آريوس الموحد وكان في الإسكندرية قد ابتدع التوحيد مع أن كل كنائس مصر والشام موحدة لَا يرتاب أتباعها في ذلك.(1/381)
وأنه يجب طرد أريوس الموحد المنكر لألوهية المسيح من المسيحية، مع أنه صورة للكثرة المسيحية الكاثرة التي كانت منبثة في ربوع مصر والشام.
هـ - دعي بسبب هذا لعقد مؤتمر عام في نيقية الذي عده النصارى المصدر الأخير لديانتهم، دعى في هذا الجمع العام 2048، ثمانية وأربعون وألفا أسقف، وجرى بينهم اختلاف، والسائد فيهم التوحيد وإن كان فيه انحراف من بعض الطوائف.
ولكن قسطنطين يريد الدخول في النصرانية، بعد أن يصيرها قريبة من دينه بإدخال الوثنية فاختار من هذا العدد الكبير 318 أي ثمانية عشر وثلاثمائة، وقد رضوا بما يدعو إليه، وسلطهم على المسيحيين كلهم وأعطاهم شارة الملك وصولجانه.
فقرروا ألوهية الابن أي المسيح بقيادة بطريق الإسكندرية مهد الأفلاطونية الحديثة، وكان ذلك المجمع سنة 325.
ولكن المسيحيين عارضوا ذلك المجمع، واعتبروه خارجا على المسيحية، وأيدت المعارضة مؤتمرات في الشام كمؤتمر صور.
ولكن الأفلاطونية الحديثة لم تتم فصولها، فقد تقررت في هذا المجمع ألوهية الابن في زعمهم، ولكن ثالوث الأفلاطونية الحديثة الله أو الأب، أو العقل الأول، والابن أو العقل الثاني، وروح القدس لم يتقرر بعد! ولذا كان لابد من أن يتقدم بطريق من الإسكندرية سنة 381 بطلب تقرير ألوهية روح القدس فانعقد مؤتمر القسطنطينية، وقرر باقتراح بطريق الإسكندرية ألوهية روح القدس.
وبذلك تم ثالوث النصارى، وهو ثالوث الأفلاطونية الحديثة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ... )، وهم بهذا وثنيون يشركون مع الله أحدا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* * *(1/382)
تشابه المشركين وأهل الكتاب
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
* * *
اليهود يتعنتون والمشركون طلبوا آيات مختلفة، آيات حسية مطَّرحين الآيات المعنوية، مع أن الله تعالى أجرى على يديه خوارق للعادات باهرة كالإسراء، والطعام الكثير من الغذاء القليل، وَسَحِّ الماء بين يديه، وحنين الجذع إليه، وتعشيش اليمام حول الغار، وسير السحاب معه لتظله، ونصره بالرياح وقد اشتدت الشديدة، وغير ذلك كثير، ولكنه لم يتحد إلا بالقرآن؛ لأنه الآية الكبرى، والمعجزة الدائمة القاهرة.
ولقد قال تعالى في ذلك:(1/383)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم) الذين أي الذين لم يؤتوا علما سابقا وهم الأميون، وتكون الآية الكريمة نصًا في المشركين؛ لأنهم الأميون الذين لم يعلموا كتابا(1/383)
ولم يكونوا من أهل الكتاب، وقد جرى تعبير القرآن بذلك في مقابل أهل الكتاب، ولقد طلبوا آيات مختلفة، فطلبوا أن ينزل عليهم قرطاسا من السماء يخاطبهم به الله، أو ملكا رسولا، كما رد الله تعالى عليهم بقوله تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9).
وهذا على أن الذين لَا يعلمون هم المشركون، لقد طلبوا هذا وطلبوا آيات كثيرة في سورة الإسراء وتلونا من قبل قوله تعالى: (لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأتِينَا آيَةٌ) لولا هنا للتحريض والطلب، تقارب معنى هلا، وليست للشرط الدال على امتناع الجواب لوجود الشرط، مثل: (لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)، والفرق اللفظي أن لو التي تكون للطلب يكون بعدها الفعل، ولولا الشرطية يكون في صدر فعلها اسم، كما دل على ذلك استقراء اللغويين، وفسر كثيرون من الفقهاء، أن الذين لا يعلمون هم من أهل الكتاب الذين حضروا عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويرشح لهذا التفسير قوله تعالى: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ) فقد قال الذين من قبلهم أرنا الله جهرة.
وقوله تعالى: (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي في التعنت وطلب الآيات الحسية، وإذا كانوا قد طلبوا ذلك مع تسع آيات بينات حسية، فإن الذين فعلوا مثلهم طلبوا ذلك مع ما هو أعظم من ذلك، وهو القرآن المعجزة الإلهية الكبرى.
وليس في الأمر تضاد بين الرأيين، ولذلك يكون الجمع بينهما أولا، فالذين لا يعلمون الحق، ولا يدركون معاني الإيمان طلبوا ذلك سواء أكانوا من المشركين، أم كانوا من اليهود والنصارى المتعنتين الذين إذا كان علمهم بالكتاب فقد جهلوه أو تجاهلوه أو أنكروه، فهم مع الذين لَا يعلمون على حد سواء.
وقد بين الله سبحانه وتعالى تشابه ما بين ماضي الكافرين وحاضرهم، فقال تعالى: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أي أن قلوبهم تتشابه في الإلحاد في دين الله(1/384)
تعالى، وتعنتهم في طلباتهم، وجحودهم المستكن في قلوبهم الذي يظهر على أقوالهم، فإذا كانت أقوالهم متحدة، فلأنها ناشئة من قلوب متحدة في أنها لَا تؤمن بشيء، ولقد جاء عيسى ببينات قاطعة من إحياء للموتى وإخراج لما في القبور، وتصوير للطين ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله تعالى. جاءهم بكل هذا فقالوا: هذا سحر مبين فالجاحد لَا يؤمن بشيء وليس عدم إيمانه لنقص في الدليل، بل كلما زاد الدليل قوة زادوا عنتا وكفروا، وصرفوا عقولهم ونفوسهم لَا في الإيمان به، بل في إعمال الحيلة لرده.
ولذلك رد الله تعالى عليهم بقوله تعالى: (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أكد الله سبحانه وتعالى أنه بين للذين لَا يعلمون في الحاضر، والذين قالوا مثل قولهم في الماضي، وأتى لهم بآيات من شأنها أن تدخل إلى القلوب بالإيمان، ولكن بشرط تقبل القلوب للحقيقة، وإن من شأنها أن توقن بالحق إذا عين لها دليله؛ ولذا قال تعالى: (لِقَوْمٍ يوقِنُونَ)، أي من شأنهم أن يوقنوا عند وجود الدليل، لا يترددون وليس من شأنهم التردد، وينتهي ترددهم بالجحود.
إن الدليل إذا كان قويا صدقوا بعقولهم، ولكن إذعانهم لَا يكون إلا إذا كانت قلوبهم خاضعة من شأنها اليقين، وقد تستيقنها النفس ولكن لَا تسكن القلوب إلا إذا كان اليقين من القلب المؤمن بالحق أو المستعد له الذي يقذف الله تعالى في قلبه بالنور؛ ولذا قال تعالى في شأن الجاحدين المتعنتين: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ. . .).
والآيات هنا إذا كانت عامة للحاضرين والماضين فهي الآيات التي سبقت لموسى ولعيسى، وآية محمد الكبرى، وهي القرآن العظيم الخالد الباقي إلى يوم القيامة.
ومعنى قوله: (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ) قد أنزلنا بينة مقنعة بذاتها؛ لأنها العلامات والأمارات القاطعة في الدلالة على الله، وعلى نبوة الرسول الذي بعثه الله تعالى.(1/385)
ويلاحظ أن هذا في موضوع نسخ الآيات المعجزات، واستبدال آية بآية، والقرآن الكريم في هذا النسق يفصل بعضها وما عرض من أخبار اليهود والنصارى والقبلة. والاعتراض والرد لم يكن بعيدا عن ذلك بعدا تاما.
وإن هذا التعنت في طلب الآيات، وعقد مشابهة بين آيته الكبرى، وآيات النبيين السابقين التي لم تأت بإيمان أهل الكتاب بل عاندوها، وجحدوا بها، وقالوا: هذا سحر مبين، وقالوا ائتنا بآية غير هذا القرآن، وقد ذكر أنه إن نسخ آية أي تركها يأت بمثلها، أو خير منها.
ولذا ذكر سبحانه وتعالى أن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - حق في ذاته يدعو إلى نفسه، وقد أيدت بآية هي حق، ويدعو إلى الحق، فقال تعالى:(1/386)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ... (119)
أي إنا بعثناك نبيا مرسلا، مقترنة أو متلبسة رسالته بالحق، فهي حق يثبت نفسه، وما فيها حق، وما تدعو إليه حق، والحق وحده كاف لإقناع من يكون عنده قلب يدركه، ويمتلئ قلبه حكمة، وبصيرة، وإذا كان القلب مخلصا أدرك وآمن، يروى أن أكثم بن صيفي حكيم العرب عندما بلغه بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل ولده يسألون عما يدعو إليه فلما ذهبوا إليه تلا عليهم قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُر بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تذَكَّرونَ)، فلما عادوا تلوا على أبيهم ما تلاه عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال حكيم العرب: إن هذا إن لم يكن دينا كان في أخلاق الناس أمرًا حسنًا، كونوا يا بني في هذا الأمر أولاً، ولا تكونوا آخرًا فالحق نور يدعو إلى اتِّباعه.
وقوله تعالى: (وبَشِيرًا وَنَذِيرًا) أي مبينا الحق، ومبينا أن جزاء من تبعه الحسنى، ومبينا أن من يعانده يكون السوء مصيره فـ (بَشِيرًا) بيان لبشرى من يتبع، و (نَذِيرًا) بيان للسوءى لمن يعاند ويجحد، إنما أنت عليك البلاغ وإنما أنت نذير، لما قال تعالى: (وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَيَنَّكَ فإنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ)، و (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) لست أيها الرسول مسئولا عمن يتردون في الضلال، وهم أصحاب الجحيم، وعبر سبحانه وتعالى(1/386)
عنهم للدلالة على ما يستقبلهم من عقاب فللذين أحسنوا الحسنى وللذين أساءوا السوءى.
والجحيم وصف من الجحمة والجحمة شدة تأجج النيران، والمعنى لَا تسأل عن الذين يلازمون النار ملازمة الصاحب فهم أصحابها والمختصون بها.
وإنه لَا يسأل عنهم، فهو النذير العريان الذي لَا يتحمل تبعة مخالفة المخالفين، بل هذا جزاؤهم وهو بشير أو نذير، (بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا. . .)، (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)، فلست بمسئول عمن كفر وطغى.
وإن الذين يثيرون القول في الآيات البينات وخاصة معجزة القرآن هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين غلفت دون الهداية قلوبهم، وتعصبوا لأوهام باطلة سيطرت على نفوسهم، وحسبوا ألا يكون دين فوق دينهم يجب اتباعه، وجهلوا ما عندهم، وضلوا فيه ضلالا مبينا، وغاضبوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذا قال تعالى:(1/387)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
(وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ... (120)
في هذا النص إشارة إلى أنهم هم الذين يعارضون، ويتعنتون؛ لأنه سبق إليهم ما يحسبون به أنهم فوق أن يتبعوا غيرهم، بل غيرهم عليه هو أن يتبعهم، وقد أكد الله تعالى أن ذلك المعنى في نفوسهم، فنفَى عنهم الرضا على النبي - صلى الله عليه وسلم - نفيا مؤكدا للحال التي كانوا عليها عند المبعث المحمدي، لأن رسالته عليه الصلاة والسلام، واجهت في نفوسهم شعورا مملوءًا بالضلال والهوى والانحراف عن الجادة المستقيمة، ولكي يدخل الحق إليها لابد من تفريغ ما فيها من ضلال وفساد، وهداية النفس الخالية من فساد المنكر أقرب من النفس الممتلئة بالباطل.
فهم يريدون أن يكونوا متبوعين لَا تابعين، وتلك توجد فيهم جحودا، وقسوة في قبول الحق لَا يقل عن المشركين، في تمسكهم برياساتهم، وشرف قبائلهم وعشايرهم، والمنافسات بينهم.(1/387)
والملة هي الشريعة، وقد قال الراغب في مفرداته: (الملة كالدين وهي اسم لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء ليتوسلوا به إلى جوار الله تعالى، والفرق بينها وبين الدين أن الملة لَا تضاف إلا إلى النبي عليه السلام التي تسند إليه نحو (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ. . .)، (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي. . .)، ولا تكاد توجد مضافة إلى الله، ولا إلى آحاد أمة النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . لَا يقال: ملة الله، ولا يقال: ملتي، ولا: ملته).
وعلى ذلك يكون: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) أي الملة التي جاءتهم عن أحبارهم ورهبانهم، وإن ملة اليهود، ومثلها ملة النصارى أوهام أوجدتها شهوات حبيسة، فملة اليهود أهواء وملة النصارى أوهام وأهواء، وكلهم ضلال في ضلال.
ولذا قال تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أكد الله سبحانه وتعالى نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - باللام الدالة على القسم مع إن، وهما أشد ألفاظ التوكيد في بيان عاقبة الاتباع، وأنه إذا كان الاتباع المنهي عنه نهيا مؤكدا، فالعاقبة ألا يكون لمن اتبع أهواءه إلا أن ينزل عليه عقاب الله تعالى، ولا يكون له ولي محب يدفع عنه، ولا نصير ينصره من غير الله.
فمعنى النص السامي أنك أيها الرسول إن اتبعت أهواءهم فإنه من المؤكد أن العذاب نازل، ولا ينجيك منه ولي ولا نصير.
وهنا ملاحظتان بيانيتان: أولاهما - أن تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - لَا يقصد به شخصه أولا وبالذات، إنما يقصد به أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن عليهم أن يحرصوا على مجانبتهم، وألا يغتروا بهم، وإنه في وقت ضعف النفوس المؤمنة يكون كيد هؤلاء مستمرا، دائمًا ومذهبا يصلون به إلى قلوب ضعاف الإيمان، فقد يميلون - وإن لم يكفروا - فيستحسنوا ما عندهم، وإنا نرى من ضعفاء الإيمان في عصرنا من يستحسنون كل ما عند النصارى واليهود، فإذا ذكرت أحوالهم استحسنوها، وإذا(1/388)
ذكرت مكارم المسلمين استهجنوها، حتى طمع أولئك الفجرة الفسقة في بعض المسلمين، فأخذوا يستهوونهم بكل الأساليب، وقَى الله أهل الإيمان منهم.
الملاحظة الثانية - أن هؤلاء ما عندهم ليس بدين يتبع، ولكنه أهواء باطلة وأوهام فاسدة، وأي عقل يدرك أن الواحد اثنان وأن الاثنين ثلاثة؟!! ولكنها أوهام ضالة، والله المنقذ من الضلال.
وإن الله تعالى منصف في أحكامه، فهو سبحانه وتعالى لَا يعمم فتشمل البريء والسقيم؛ ولذا بعد أن ذكر حال اليهود في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن من أهل الكتاب من يتلونه حق تلاوته، ويتعرفون غايته ومراميه، وإن هؤلاء يؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويتبعونه؛ ولذا قال تعالت كلماته:(1/389)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ... (121)
آتيناهم معناها أعطيناهم، وتقبلوا العطاء بنفس شاكرة، وعقل مدرك وقلب مؤمن، فلم يكن إعطاؤهم كأي إعطاء، والكتاب هو ما أعطاهم الله تعالى من قبل كتوراة موسى أخذوها من غير محاولة تحريفها، وإنجيل عيسى أخذوه كما هو داعيا إلى الوحدانية مع الإيمان بأنه بشر كسائر البشر، رسول كغيره من الرسل أولي العزم، ليس ابنا ولا إلها، قال لقومه: اعبدوا الله ربي وربكم، فالكتاب هو كتاب أهل الكتاب، وهم الذين عرفوه، وقوله تعالى: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) أي يتعرفون معناه فينزجرون بزجره، ويتعظون بعظاته، ويعتبرون بقصصه؛ ولذلك فسر بعضهم التلاوة في هذا المقام بالاتباع، كما في (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا)، أي تلا الشمس أي اتبعها واستضاء بنورها.
فمعنى (حَقَّ تِلاوَتِهِ) أي التلاوة الحق، وهي التلاوة المتبعة المتفهمة المدركة، والمتقبلة غير المعاندة. وبين سبحانه وتعالى جزاءها وأوصاف أهلها فقال تعالت كلماته: (أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يصدقونه ويذعنون لما يأمر به وينهى عنه، ويعملون بموجبه.(1/389)
وهؤلاء من الذين قال الله تعالى فيهم: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115).
وهم الذين قال تعالى فيهم: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54).
هذا التفسير على أساس أن الكتاب هو كتاب أهل الكتاب الذي آمنوا به ولم يحرفوه عن مواضعه، ولم يكتبوه بأيديهم ويلوون به ألسنتهم، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله.
ولكن من المفسرين من قالوا إنه القرآن الكريم، وإطلاق اسم الكتاب عليه من غير ذكر أنه القرآن، للدلالة على كماله وأنه لَا يماثله من الكتب كتاب ولو كان سماويا، لأنه الكتاب الكامل الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، مثل قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ. . .).
ويكون معنى تلاوته حق تلاوته أن يتدبر معناه، ويتعظ بمواعظه، ويعتبر بقصصه كما ذكرنا آنفا، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلو القرآن إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ (1) ولقد قال عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، في معنى قوله: (ويَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ): الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منه ولقد قال الحسن البصري في الذين يتلونه حق تلاوته: هم الذين يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه، ويتفهمون معانيه.
________
(1) عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النبِي - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَة قَالَ فَافتحَ الْبَقَرَةَ فَقَرَأ حَتَّى بَلَغ رَأْسَ الْمِائَة فَقُلْتُ يَرْكَعُ ثُمَّ مَضَى حَتَّى بَلَغَ الْمِائتينِ فَقُلْتُ يَرْكَعُ. . . الحدَيث إلى أن قَالَ: " وَكَان إِذَا مَرَّ بِآيَة رَحْمَة سألَ وَإِذَا مَرَّ بآية فِيهَا عَذَابٌ تَعوَّذَ وَإِذَا مَرَّ بِآيَة فِيهَا تَنْزِيه لِلَّهِ عَزَّ وَجَل سَبَّحَ ". [أخرجه أحمد: كتَاب بَاقي مسند الأنصَار (22175) وغيره، وأصله عند مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها (1291)].(1/390)
هؤلاء هم أهل الإيمان - من الماضين - بكتبهم، المؤمنون بالقرآن الكتاب الأكمل، أما من كفروا فقد ذكر الله تعالى ما يستميلهم، فقال تعالت كلماته: (وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) الكفر به جحود بآياته وإنكار لأحكامه، ومعاندة، وقال أولئك الإشارة إليهم محكمين كفرهم متصفين به، وحكم سبحانه بالخسران مؤكدا له بضمير الفصل هم، وبالجملة الاسمية وبحصرهم في الخسران، والله أعلم بهم.
* * *(1/391)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
* * *
تقدم بيان معاني هاتين الآيتين الكريمتين (1)، وبقى أن يسأل سائل لماذا تكررت الآيتان، ونقول إنه ابتدأت قصة بني اسرائيل بهاتين الآيتين، وذكر من بعدها النعم المتوالية، والكفر المتوالي، وكيف كانت النعم لَا تزيدهم إلا كفرًا وخسارًا، وذكر سبحانه وتعالى تقلبهم في نعمه تبارك وتعالى، وكفرهم المتوالي بهذه النعم.
وفى ذلك اعتبار للناس، وتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان في قصصهم عبرة لأولي الأبصار، وأنه ما كان حديثا يفترى.
وفى ختام قصصهم في هذه السورة (سورة البقرة) تأكيد لنعمه عليهم، وتأكيد لم كان زجرهم؛ ليتبين أن ابتداء أمرهم كنهايته. (كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكرونَ).
* * *
________
(1) راجع تفسير الآيين 47، 48 من سورة البقرة في هذا التفسير المبارك.(1/391)
إبراهيم وبناء الكعبة
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
* * *
بعد أن قص الله تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل وما كفروا به هذه النعم في حاضرهم وماضيهم، وكانوا يفخرون بأنهم أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وإنهم لهذا أبناء الله وأحباؤه، وما أداهم ذلك الاعتقاد الواهم الباطل إلى ضلال توارثوه، وفساد فكر تناقلوه، وكفر بالله، وقتل للنبيين، أخذ سبحانه يقص قصص إبراهيم أبي إسماعيل وإسحاق وجدّ يعقوب وجدّ النبيين الذين ذكروا في التوراة والإنجيل والقرآن.
يقول سبحانه ة(1/392)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهنَّ) و " إذ " ظرف زمان يدل على الماضي متعلق بمحذوف تقديره: اذكر الوقت الذي ابتلى الله فيه إبراهيم بكلمات فأتمهن، وذكر الوقت ليس ذكرًا للزمن المجرد، إنما هو ذكر للوقائع في هذا الزمن، للعبرة بها، والاتعاظ في مثلها.
وقد ابتدأ هذه الوقائع بابتلاء إبراهيم عليه السلام بكلمات، والابتلاء معناه الاختبار من الله تعالى لَا عن جهل بما سيكون، بل لإظهار ما علمه الله تعالى عما(1/392)
يكون، ولا يكون إلا في أمر يعمله العبد بمجاهدة، وصبر وجهاد نفس، وقد كان الابتداء بذكر الابتلاء لبيان أن إمامة النبوة لَا تكون إلا بمجاهدة، وجهاد نفس، وقدم المفعول على الفاعل وهو " الكلمات " التي ابتلى بها؛ لأن موضع الحديث هو إبراهيم ذاته وليست الكلمات، فكان هو موضع الاهتمام وحده، وكان المراد كشف حال نفسه القوية الطاهرة، كما قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ. . .).
والكلمات التي اختبر الله تعالى بها إبراهيم، ليست هي ألفاظها وكلماتها وحروفها، إنما المراد بالكلمات المدلولات والمطلوبات التي تتضمنها من أوامر ونواه، ووقائع.
وقد اتجه بعض مفسري السلف إلى إحصاء ما تدل عليه هذه الكلمات، واعتمدوا في ذلك على أقوال الصحابة والتابعين، ولكن لم يسند فيها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيء؛ ولذا قال شيخ المفسرين السلفيين ابن جرير: لَا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع. . ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة يجب التسليم له. اهـ.
وإذا كان لم يصح خبر بهذه الكلمات أو بالوقائع التي تدل عليها الألفاظ، فإننا نتلمسها من القرآن الكريم سجل النبوات وأخبارها.
وأولى واقعة تجلى فيها اختبار الله تعالى لإبراهيم هو في طلبه معرفة ربه رب الوجود، ورب المشارق والمغارب، فقد اختبره الله تعالى بذلك - كما حكى القرآن الكريم - فقد كفر بالأوثان، ابتداء؛ لأنها لَا تنفع ولا تضر، ثم أخذ يتعرف رب الوجود من الوجود والملك واقرأ قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا(1/393)
أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
* * *
هذا اختبار من الله تعالى عرف به عقل إبراهيم السليم، وإدراكه المستقيم.
وقد اختبره الله تعالى وألهمه أن يحطم الأوثان فحطمها، وجعلها جذاذا، وألقوه في النار عقابا فقال الله تعالى: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ). واختبره الله تعالى بكلمة مدلولها أشد ما يكون على النفس البشرية أن يذبح ولده البكر إسماعيل عليه السلام، فاستجاب لأمر ربه، وأخذ يذبح ولده الحبيب استجابة للحبيب، ولكن فداه الله تعالى بذبح عظيم.
واختبره الله تعالى بالهجرة من بلده إلى الشام، وإلى مكة حيث ولده العزيز إسماعيل وأمه واختبره الله تعالى بالحنيفية السمحة فحملها وكانت ملته المتبعة، وما كان من المشركين.
اختبره الله تعالى بكلماته، أي بمدلولها، وما ذكرنا بعضها، فأتمهن أي أتم ما طلب منه فيها، وكان أمرها عظيما وكان إبراهيم في إتمامها عظيما.
ولذا كانت مكافأة الله تعالى له أعظم، فكانت جزاء وفاقا لما أتم به الكلمات، قال الله تبارك وتعالى لخليله إبراهيم: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) أي يقتدى به ويتبع، فالإمام ما يؤتم به ويتبع و " جاعلك " أي مصيِّرُك بإتمام الكلمات، ووفائك لهذا قدوة طيبة، وأسوة صالحة، فمن اتبعك فقد اهتدى، وأي امرى عنده طاقة إبراهيم أبي الأنبياء في القدرة على الاقتداء به، والاهتداء بهديه والوفاء بكلماته إن ذلك لمقام عظيم.
وإبراهيم كان شفيقا رفيقا محبا لأسرته في غير ظلم ولا اعتداء، وكان يعطف على الأطفال ويرفق بهم؛ ولذلك لم يكتف بأن كان هو الإمام، بل أراد أن يكون(1/394)
إمام من ذريته يعمل بمثل عمله ويقتدى به في الهداية، فهو يطلب الهداية لذريته لا استئثارا بالمحبة ولكن بالتقوى والهداية؛ ولذلك قال مناجيا ربه: (وَمِن ذُرِّيَّتِي) أي اجعل يا رب العالمين من ذريتي أئمة صالحين يؤتمون ويقتدى بهم، فهو يدعو الله تعالى إلى أن تكون ذريته طيبة صالحة يقتدى بهم، فتكون خلفا له في الإمامة لا بمجرد الانتساب إليه بل لعملهم وتقواهم وإيمانهم بكلمات الله.
ولكن الله تعالى العليم الذي يعلم كل شيء يعلم ما هو كائن، وما يكون أشار إلى أنه لن تكون ذرية إبراهيم كلها من الصالحين الذين يؤتم بهم، بل سيكون منهم الظالمون الذين يظلمون أنفسهم، وغيرهم بالمعاصي يرتكبونها وبالشر يعملونه ويطلبونه؛ ولذا قال تعالى: (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
أي أن ذريته سيكون منهم محسن، وسيكون منهم ظالم لنفسه، بالمعاصي، فالمحسنون ينالهم عهدي، ويكون منهم أئمة يقتدى بهم، وأما الظالمون فلن ينالوا إمامة في الدين من الله سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)، والمعنى أن ذرية إبراهيم من أحسن منها نال الإمامة، ومن لم يحسن فهو ظالم لَا ينالها؛ لأنه يضل الناس، ولا يهدي أحدا؛ ولذلك كان من ذريته أئمة في الدين، وقد قال تعالى:
(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27).
والعهد في اللغة مراعاة الشيء والمحافظة عليه، ومن ذلك قوله تعالى:
(وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْل فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)، والعهد أيضا الأمر الموثق الذي لَا يجوز نقضه، ومن ذلك قوله تعالى: (وَأَوْفوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْئولًا)، وقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا. . .).
والعهد في هذه الآية هو الإمامة، وكأنها مأخوذة من العهد بمعنى الرعاية فعهد الله تعالى أن يعهد برعاية الدين والإمامة إلى إمام في الدين، وإنه لَا ينال هذه(1/395)
الإمامة ظالم، ولا يشمل عهد الله بمعنى أن يعهد بالرعاية للظالمين، أي لَا يشمل عهدي ظالما قط.
وقد تكلم بعض المفسرين على ضوء هذه الآية الكريمة على الولاية وإمامة الناس، فقال بعضهم: إن هذه الآية تدل على أنه لَا يجوز ولاية الظالم، ولا يصح أن يكون إماما، وأنه إذا ولي ظالم لَا تجوز طاعته، أو على الأقل في ظلمه، وقال آخرون: تجب طاعته في الطاعة وتجب مخالفته في المعصية، لأنه لَا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويستمر في ولايته، ويُسعى في تغييره.
وإن الاتفاق على أنه لَا يجوز تولية الجائر، ولكن أتسقط ولايته بجوره؟، أم تبقى ويُسعى في تغييره؛ المعتزلة والشيعة والخوارج قالوا: لَا طاعة له، ويغير بالقوة.
والذي عليه الأكثرون كما قال القرطبي: أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الخوف بالأمن، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء وشن الغارات على المسلمين والفساد في الأرض.
وقد كان الإمام مالك يمنع محاربة الخوارج وأمثالهم إذا خرجوا على الظالمين ويقول: دعهم ينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما، ولكن إذا خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز وجب على الناس أن يقاتلوهم ويمنعوهم من طغيانهم.
أنعم الله تعالى على العرب بإبراهيم عليه السلام إذ جعل البيت الذي بناه وهو بيت الله الحرام مثابة للناس وأمنا، كما قال تعالى في سورة أخرى: (أَوَلم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيتَخَطَّفُ النَّاس مِنْ حَوْلِهِمْ. . .).
ولقد قال تعالى في ذلك:(1/396)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)، والمعنى واذكر الوقت الذي جعلنا فيه البيت مَثَابَةً لِلنَّاسِ، أي اذكر ذلك الوقت بما فيه من نعم، وإكرام لأهل التقوى، والبيت المراد منه المسجد الحرام، وإطلاق كلمة " البيت " وإرادة البيت الحرام إشعار بفضله، وإشارة إلى كماله، وإلى أنه أكمل بيت وضع(1/396)
للناس، لأنه أول بيت للعبادة، ولأنه بناء إبراهيم أبي الأنبياء، ولأنه موضع الأمن من الخوف، ومثابة الناس، ولأنه أنشئ مطهرا من الأصنام وما جاء بها العرب بعد ذلك إلا بعد أن انحرفوا عن ملة إبراهيم وإن كان - البيت - شرفهم ومحتدهم الكريم.
والمثابة: أي المرجع الذي يأوون إليه، والمثابة مصدر ثاب يثوب مثابا، وثووبا، أي مأوى يأوون إليه عندما تشتد بأحدهم شديدة ويريد الالتجاء إليه سبحانه.
وقوله تعالى:(1/397)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
(وَأَمْنًا) فهو مصدر موصوف به البيت فهو أمن للناس يأمنون فيه من القتل أو الاعتداء، حتى إن الرجل ليلقى فيه قاتل أبيه أو أخيه فلا يمتد إليه، وحرم فيه القتل والقتال، وكان محترما في الجملة من العرب أيام شركهم، وذلك من هداية الله تعالى لهم بالأخذ بأثارة من بقايا ملة إبراهيم.
ولقد قال الله تعالى في هذا البيت؛ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97).
وقوله تعالى: (مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) فيه إشارة أولا إلى أن الكعبة مثابة للناس، يجيئون إليها في حجهم، كما صرح سبحانه وتعالى، وفيها قبلتهم إذ يثوبون إليها في الصلاة ويلتفون حولها التفاف الدائرة حول قطبها، فهم يتجهون إليها من كل أرض الله تعالى.
وإن باني الكعبة المكرمة إبراهيم عليه السلام هو وابنه إسماعيل عليه السلام، وإنه ليبقى الاتصال بين الحاضر والماضي أمر الله تعالى أن يكون مقام إبراهيم للبناء مصلى لمن جاء بعده من الذين سماهم إبراهيم المسلمين، وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذا قال الله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قرئ بالطلب بكسر الخاء، وقرئ بالفتح على أنها خبر، وفي الحالين هي معطوفة على (جَعَلْنَا) فعلى قراءة فتح الخاء يكون المعنى جعلناه للناس مثابة وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وعلى قراءة(1/397)
الأمر يكون عطف جملة طلبية على مثلها لأن (جَعَلْنَا) وإن كانت بلفظ الخبر ولكن معناها الطلب؛ لأن المؤدى أنها أمر من الله تعالى بأن يكون البيت مثابة للناس يرجعون إليه ويأوون ويحيطون به في صلاتهم إحاطة الدائرة بقطبها، وأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.
و (مَّقَامِ) اسم مكان القيام، أي الشيء الذي قام إبراهيم عليه يبني البيت بمعاونة إسماعيل عليهما السلام، وقد قالوا إنه الحجر الذي يعرفه الناس، في الحج، واتخاذه مصلى، أي اتخاذ المكان الذي هو فيه مصلى أي مكانا للصلاة فالمصلى اسم مكان للصلاة.
وفى البخاري أن مقام إبراهيم الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت (1) وغرقت قدماه فيه، وقال أنس: رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه.
وإن اتخاذ مقام إبراهيم مكانا للصلاة إبقاء لذكر إبراهيم عليه السلام وتنويها بالصلاة في ذاتها وأنها الصلة بين الماضي والحاضر، وقد كانت بأمر الله تعالى، وليست بدعا قد أتيها.
وقد تكلم المؤرخون في الحجر الذي قام عليه إبراهيم لبناء الكعبة المكرمة، وأوثق من قال في ذلك ابن كثير، لقد قال في ذلك: " مقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده، وهذا الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت لما ارتفع الجدار، أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة، فيضعها بيده لرفع الجدار
________
(1) جاء في صحيح البخاري في حديث طويل عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي، قَالَ: فَجَاءَ فَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ؟ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ، قَالَ: قُولِي لَهُ إِذَا جَاءَ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ، قَالَ: أَنْتِ ذَاكِ، فَاذْهَبِي إِلَى أَهْلِكِ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي، قَالَ: فَجَاءَ، فَقَالَ: أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ؟ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ، فَقَالَتْ: أَلاَ تَنْزِلُ فَتَطْعَمَ وَتَشْرَبَ، فَقَالَ: وَمَا طَعَامُكُمْ وَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: طَعَامُنَا اللَّحْمُ وَشَرَابُنَا المَاءُ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ، قَالَ: فَقَالَ أَبُو القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَرَكَةٌ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ» قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي، فَجَاءَ فَوَافَقَ إِسْمَاعِيلَ مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ يُصْلِحُ نَبْلًا لَهُ، فَقَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا، قَالَ: أَطِعْ رَبَّكَ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ، قَالَ: إِذَنْ أَفْعَلَ، أَوْ كَمَا قَالَ: قَالَ فَقَامَا فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ وَيَقُولاَنِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} " َ [أحاديث الأنبياء: باب (واتخذ الله إبراهيم خليلا): (3114)].(1/398)
وكان كلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه وكلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى زم بناء جدران الكعبة ".
ويقول ابن كثير في موضعه الذي وضعه - إبراهيم بعد البناء: " وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما ومكانه معروف اليوم إلى مكان الباب مما يلي الحجرة يمين الداخل من البقعة المستقلة هناك، وكأن الخليل عليه السلام، لما فرغ من بناء الكعبة، وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا - والله أعلم - أمر الله تعالى بالصلاة عند الانتهاء من الطواف وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة ". اهـ
وبهذا تبين أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي كان يقف عليه إبراهيم لإتمام البناء، ولما أتمه وضعه بجوارها، وكأن الصلاة عقب الطواف عنده حيث انتهى إبراهيم من البناء وحيث انتهى الطائفون من طوافهم. ولقد جاء في العام السابع عشر من الهجرة سيل شديد نقل الحجر من موضعه فهال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وركب إلى مكة وتحري الموضع الذي كان فيه الحجر فوضعه فيه رضي الله تعالى عنه. لقد أقام البناء للبيت العتيق نبيان، وبهذا البناء بنيا مجد العرب، وبنيا أمنهما ومكان عبادة الناس، ومثابتهم التي يستقبلونها فيحيطون بها.
وقد بنياه طاهرا، مطهرا، وعهد الله تعالى إلى اللذين بنياه أن يقوما على استمرار طهارته ليتحقق الغرض الأول، وهو أن يكون مقصدا للحجيج الطائفين والذين يجاورونه عاكفين على العبادة فيه، فقال تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُكَّعِ السُّجُودِ).
والعهد في هذا النص السامي، من عهد إلى هذا برعاية بيته أو أهله في غيبه.
فمعنى (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعيلَ)، أي جعلنا لهما عهدا وفوضناهما برعاية البيت إنشاءً وتطهيرا وقوله تعالى: (أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ) تفسير للعهد المذكور، وتطهيره(1/399)
هو التطهير من الرجس الحسي من الخبائث الحسية، والتطهير المعنوي بأن يخصص لعبادة الله تعالى وحده فلا يكون مكانا لوثن، ولا معبدًا لغير الله تعالى، وقد قال تعالى في هذا المعنى السامي: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).
ويصح على هذا أن نقول إن العهد أن يبنياه مطهرا من كل خبث في بنائه بقلب سليم، ونفس مخلصة لوجه الله تعالى، وأن يجعلاه طاهرا معنى وحسا ليكون للقاصدين له من غير مكة، والمقيمين حوله، وسماهم هنا العاكفين مشيرا إلى أن البقاء بجواره مجاورين له قائمين بحقه عبادة، وعبر في الآية الأخرى بالقائمين أي المستمرين حوله. والطائفون عند أكثر الكاتبين هم القادمون للطواف وحج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا، وإنه مع أنه موطن الحجيج الطوافين والمقيمين حوله مجاورين معتكفين هو مسجد الله تعالى تقام فيه الصلاة، فيكون لهؤلاء الطائفين العاكفين ويكون للمقيمين للصلاة، وأشار إليهم سبحانه بقوله تعالت كلماته: (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) هم الراكعون وهو جمع تكسير، وهم الذين يخضعون لله تعالى راكعين متضرعين متبتلين، والسجود جمع ساجد، كقعود جمع قاعد، ورقود جمع راقد. ويراد الركوع الذي هو ركن الصلاة، والسجود الذي هو الركن أيضا، واكتفى بذكرهما دون بقية الأركان من قراءة وقيام وقعود؛ لأنهما مظهر الخضوع الكامل، والتطامن لرب العالمين.
بعد أن بني خليل الله أبو الأنبياء بيت الله تعالى بأمر ربه اتجه ضارعا إليه، أن يجعل ما حول البيت آمنا، وقد أقاموا في مكان جدب؛ ولذا دعا ربه أن يرزقهم من الثمرات، فقال تعالى حاكيا دعاءه: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) وفي هذا دعاء إلى أن يكون ما حول البيت بلدا آمنا، وأن يرزقه من الثمرات، وهذا يشير إلى أنه عند بناء البيت لم يكن البلد قد تكوّن، ولكن آية أخرى تشير أن هنا بلدا متكونًا؛ ولذلك ذكر بالتعريف، فقال تعالى: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبدَ الأَصْنَامَ).(1/400)
وقد قال بعض المفسرين إن الدعوة قد تكررت، فالدعوة الأولى كانت ولم يكن البلد، ولذلك كانت الدعوة بتكوين البلد وجعله آمنا، كما في قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)، وإنه عند تمام البيت استجاب الله تعالى لنبيه، فأخذ الناس يأوون إليه يبنون ويقيمون الخيام، وإن البلد ينشا بعد بضعِ سنين فلما نشأ، وإبراهيم ذو ضراعة، وأوّاه حليم دعا فقال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدَا آمِنًا) وخشي من الكثرة النسبية في البلد الذي وجد أن يكون فيهم عبدة الأوثان فضمن دعاءه قوله: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ)، وإن كثيرين يرون أن طلب إبراهيم لم يكن إنشاء بلد آمن، بل كان طلبه فقط أن يكون آمنا، فالطلب من إبراهيم عليه السلام كان منصبا على الأمن، والإشارة إلى المكان، فالمعنى اجعل هذا بلدا موصوفا بالأمن، ويكون المطلوب الأمن، كما تقول مشيرًا إلى ابنك اجعل هذا ابنا بارا، ويكون المراد وصفه بالبر، وقد أجاب الله سبحانه تضرعه، فجعله بيتا آمنا، ويتخطف الناس من حولهم.
(وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ)، والرزق الإعطاء والتمكين، ومن هنا للبعضية، أي ارزقهم بعض الثمرات فكان الطلب قانعا غير مسرف فيه، وكذلك شأن الذين لَا يسرفون على أنفسهم، والثمرات ظاهرها أنه يكون مما تنبت الأرض، وقد أعطاه الله تعالى الثمرات في حدائق الطائف وغيرها من نخيل وأعناب، وأعطاهم ثمرات التجارة، فكانت مكة موطن الاتجار فى الجزيرة العربية، وكانت مزار العرب في الحج، وقد كان ذلك إجابة لإبراهيم خليل الله تعالى إذ قال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
وإنه في هذه الآية طلب أن تهوي إليهم أفئدة الناس، فيقدموا على الحج، وطلب أن يعطيهم من الثمرات، كما طلب في الآية الكريمة التي، نتكلم في معناها(1/401)
السامي، وطلب الثمرات لايتنافى مع أنها غير ذات زرع؛ لأن الثمرات من الأشجار لا من الزرع وقد رزقهم النخيل والأعناب، والفاكهة والرمان، وغيره مما ينبت في الصحراء.
وخص خليل الله تعالى المؤمنين من ذريته بهذا الدعاء، فقال: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) وقوله تعالى: (مَنْ آمَنَ) بدل اشتمال من أهله فكان الطلب لهؤلاء فقط، وذلك لأن الله تعالى رد طلبه بتخصيص غير الظالمين بالنسبة للإمامة، إذ قال تعالى بعد إتمام الكلمات التي اختبره الله تعالى بها: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي) فرد الله تعالى طلبه بقوله: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فظن نبي الله تعالى أن الرزق يكون للمؤمنين فقط كالإمامة، فبين الله تعالى أن الرزق يعم والإمامة خاصة بالعادلين غير المشركين؛ ولذلك قال تعالى ردا لخليله: (قَالَ وَمَن كفَرَ) أي أن الرزق يعم، البريء والسقيم، والعادل والظالم، والمؤمن والكافر، بخلاف الإمامة التي تكون من الله تعالى، فلا تكون إلا لمؤمن عادل: ولقد قال تعالى في سورة الزخرف: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35).
وإن ذلك ليس للمحبة ولا للرضا عنِ كفره، ولكنه لاستدراجه إذا لم يرشد ويهتد كما قال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُفم مِّنْ حيْثُ لَا يَعْلَمونَ وَأملِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، ولذا قال سبحانه، بعد أن نبه خليله إبراهيم إلى أنه يرزق الكافر (فَأُمتِّعُهُ قَلِيلًا) أي أعطيه المتعة أمدا قليلا، وهو ما يكون في الدنيا، والدنيا مهما طالت أمد قليل بالنسبة للآخرة التي هي الباقية الخالدة، وعذابها خالد، ونعيمها مقيم، (ثُمَّ أَضْطَرّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ) والعطف بـ (ثُمَّ) هنا، للدلالة على تفاوت ما أعطاه من رزق وما ادخره من عذاب، واضطره معناها أُلجئه وأسوقه إلى جهنم سوقا، كما قال: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا)، أي يدفعون دفعا،(1/402)
وكما قال تعالى: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذوقُوا مَسَّ سَقَرَ). وبذلك ينالهم عذاب الحرمان، والإلجاء إلى جهنم فاقدي الاختيار؛ لأنه جزاءً وفاقًا لما قدموا، والثاني النار الدائمة كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها، جنَّبنا الله عقابه، وغفر الله لنا، وكتب ثوابه.
* * *
بناء الكعبة
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
* * *
كان بناء الكعبة من الكلمات التي اختبر الله تعالى بها نبيه إبراهيم، فقد قلنا إن المراد من الكلمة مدلولاتها من أمر ونهي، ونحوها، وقد أمر الله تعالى نبيه إبراهيم ببناء الكعبة لتكون المزار، وبها نسك الحج؛ ولذا قال تعالى:(1/403)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ)، و " إذ " ظرف زمان دال على الماضي، ويتعلق بمحذوف تقديره اذكر أو اذكروا الوقت الذي كان يرفع فيه القواعد من البيت وإسماعيل، وذكر الوقت ليس بذكر الزمان المجرد إنما يكون بذكر الوقائع التي وقعت فيه، وإنها تكون قليلة خطيرة، لها أثرها فيما وراءها، وحكى الله تعالى قصة البناء بقوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) وعبر بفعل المستقبل، وهي واقعة في الماضي؛ لأن الفعل المضارع يصور الواقع كأنه حاضر تستحضره، وتراه: شيخ هو خليل الله تعالى وشاب هو ذبيح الله تعالى يقومان معا ببناء البيت،(1/403)
ويتضرعان إلى الله تعالى في كل حجر يضعانه، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
والقواعد جمع قاعدة، وهي الأساس لما فوقها، وكل حجر يوضع هو قاعدة لما فوقه، والحجر الثاني قاعدة للثالث؛ ولذا قال تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) وعبر سبحانه عن وضع القواعد بعضها فوق بعض بـ " يرفع "؛ لأن البناء هو الغاية من الوضع، فعبر سبحانه وتعالى عن الفعل بغايته ونهايته.
وإن إبراهيم الخليل وولده الطاهر الذبيح المحتسب، لَا يبنيان لذات البناء ولا لغرض دنيوي ولا للمأوى والسكن، بل استجابة لأمر الله تعالى، بأمره، ويتضرعان بالبناء، طالبين قبوله.
ولقد ذكرنا أن البناء كان بأمر الله، روى البخاري وجاء مثله في مصنف عبد الرزاق أن إبراهيم عليه السلام كان يزور ولده - الذي تركه في البيداء - الوقت بعد الآخر، فجاءه وقد صار فتي سويا وتزوج فوجده يصلح النبل، فقال: يا إسماعيل إن ربي عز وجل أمرني أن أبني له بيتا، فقال الابن البار المطيع: أطع ربك عز وجل، قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه، فقال الشاب القوي: إذن أفعل، فقام فجعل إبراهيم يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة، ويقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (1).
والدعاء على ما بينه الحديث كان محفوفًا بالعمل فهما يعملان بأيديهم، ويحملان على عاتقهما، وقلوبهما ضارعة بالدعاء وألسنتهما لاهجة بالثناء على الله تعالى، والتقرب إليه، وقد قيل إن إبراهيم الخليل كان يبني وإسماعيل كان يدعو، وذلك يخالف النص في القرآن ويخالف الحديث ويخالف منطق العبادة، فإنه لا تكون عبادة أحدهما بالدعاء مغنية عن عبادة الآخر.
________
(1) سبق تخريجه قريبا.(1/404)
وإن هذا العمل من الخليل إبراهيم، وابنه الذبيح المفدَّى، يدل على أن أي عمل يمكن أن يكون عبادة إذا كان لله تعالى. . نعم إن ذلك العمل كان استجابة لأمر الله، فهو أجل من أي عمل، ولكن ذلك لَا يمنع أن أي عمل فيه أداء فرض كفاية يكون بأمر الله ما دام مطلوبًا لصالح الجماعة، وإذا اقترنت به نية القربى كان عبادة، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب العمل لَا يحبه إلا لله " (1).
أقام إبراهيم خليل الله مع ابنه المطيع لأبيه وربه البناء، ودارا حول جدرانه يتممانها، وهما يحفانه بدعائهما (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا)، وقد أحسا بالاستجابة، لكمال الضراعة، وخاطبا ربهما في إحساس بالقرب منه قائلين: (إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وقد أكدا أن علمه تعالى علم من يسمع من غير أذن، وعلم من يعلم علم إحاطة لا يخفى عليه شيء؛ أكداه أولا بالجملة الاسمية، وأكداه بإن، وأكداه بالتأكيد اللفظي بتكرار " أنت " وأكداه بتعريف الطرفين، أي أنه لَا سميع غيرك، ولا عليم سواك، وهكذا كانت ضراعة الإيمان.
أتم إبراهيم بناء الكعبة، وكان مما اختبره الله به، ومن الكلمات التي أتمها كما أشرنا إلى ذلك.
وقد اتجه الأواب الحليم بعد أن دعا ربه بقبول عمله، إذ قال: (تَقَبَّلْ مِنَّا)، أي اقبله راضيا عنا؛ لأن التقبل أبلغ من القبول، إذ القبول المجرد أقل من التقبل برضا، وجزاء لهذا العمل.
اتجه خليل الله تعالى إلى ربه داعيا لجماعته، بعد دعائه لنفسه وابنه، فقال هو وابنه عليهما السلام:
________
(1) يشهد له من الصحيح الكثير، ومنه ما رواه أبو داود في سننه عَنْ أبي أمَامَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قال: " مَن أحَبَّ للَهِ، وَأبْغَضَ لِلَّهِ، وَأعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدْ استكمًلَ الإيمَانَ ". [كتاب السَنة: باب زيادة الإيمان: 4061].(1/405)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ).
الواو في قوله تعالى (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ)، عاطفة على قوله تعالى: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) وكرر بين المعطوفين كلمة (ربنا) للشعور بكمال ربوبية الله تعالى، وبكمال(1/405)
الضراعة له سبحانه، فتكرار الربوبية شعور بذكر الله تعالى دائما، وبذكر نعمه، وأنه كالئ هذا الوجود كله.
(وَاجْعَلْنَا) جعل هنا بمعنى صيَّر، وكوَّن؛ أي اجعل في كوننا ووجودنا أن نكون مسلمين لك، أي مخلصين لك ولوجهك الكريم، والإسلام هنا بمعنى الإخلاص والاستسلام، وأن يكونا لله وحده، مثل قوله تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ محْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزنونَ)، وإن الإيمان والإسلام هنا بمعنى واحد، بل إن الإسلام في هذا المقام درجة عالية بعد الإيمان، فالإيمان تصديق وإذعان والإسلام هنا تصديق وإذعان، وإسلام النفس والعقل والجوارح كلها لله تعالى، فهو أعلى درجات الإيمان.
وإنهما لم يدعوا لأنفسهما فقط، بلِ دعوا أيضا لذريتهما، فقالا في دعائهما الضارع المخلص، (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةَ لَّكَ) أي: واجعل في ذريتنا أمة مسلمة لك.
و" مِن " هنا للتبعيض، والمعنى اجعل بعض ذريتنا أمة مسلمة، أي مؤمنة مصدقة مذعنة مسلمة وجهها لك، بحيث تكون كلها لك.
وقالوا: إن الدعاء لبعض الأمة اتعاظا بقول الله تعالى له: (لا يَنَال عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، ونحن نرى أن " مِنْ " بيانية؛ لأن الدعاء لله تعالى يكون بأعلى ما يطلب لَا بأدناه، والمعنى اجعل من ذريتنا أمة مسلمة، أي اجعل ذريتنا أمة مسلمة لك، والمقام مختلف عن دعاء الإمامة؛ لأن الإمامة لَا تكون للجميع، إنما تكون للبعض المختار منها، الذي يصلح أن يكون قدوة تتبع.
والأمة هنا الجماعة التي تجتمع على فكرة ثابتة قائمة.
هذا دعاء إبراهيم - عليه السلام - لذريته، وهو دعاء أب شفيق مخلص يرتاد لذريته أكمل المناهج، وأتم الإخلاص والضراعة ولقد دعا عليه السلام هو وابنه المخلص المطيع قالا: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) أي اجعلنا نبصر ونعلم مناسكنا، والمناسك(1/406)
جميع منسك، وأصل النسك الطهارة، وأصله الغسل والتنظيف، ثم أطلق بمعنى العبادة عامة، ويطلق على العباد بالحج، وإقامة شعائره من طواف، وسعي وذبح ورمي جمار بعد الوقوف بعرفة، وبالمزدلفة، ويقال كما ذكرنا لكل عبادة، ومن ذلك الناسك بمعنى المنصرف للعبادة.
وما المراد بالمناسك هنا؛، فسرها بعض العلماء بأنها العبادات الدينية سواء أكانت تتعلق بالحج، أم تعم كل العبادات كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها، ومنها الحج.
وقال بعض المفسرين إنها مناسك الحج من طواف، وسعي وذبح هديٍ ووقوف بعرفة والمزدلفة ورمي الجمار، وغير ذلك من شعائر الحج.
وإني أميل إلى تعميم مدلول المناسك ليشمل كل العبادات الشرعية.
والدعاء الذي يدل على قوة الإحساس الديني، وقوة إسلام الوجه هو قوله تعالى: (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التوبة: الرجوع إلى الله تعالى، وتاب عليه بمعنى قَبِلَ التوبة، ومعنى (وَتُبْ عَلَيْنَا)، اقبل توبتنا، وارجع علينا بالمغفرة إنك أنت التواب الرحيم، والتواب صيغة مبالغة من تائب، والمراد منها قبول التوبة، وكأن المعنى: إننا تبنا ومن الله تعالى قبول التوبة في رحمة، فالتواب كثير القبول لتوبة التائبين، كما قال تعالى في آية أخرى: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ. . .)، وإن قبول التوبة، والإكثار من قبولها هو من رحمة الله تعالى؛ ولذا قرن في هذه الآية الكريمة قبول التوبة ووصفه سبحانه وتعالى بها بوصفه بالرحمة؛ لأن من رحمته أن يقبل التوبة فهي من فضل الله تعالى ورحمته لَا عن استحقاق.
وهنا يسأل السائل: إن الأنبياء معصومون عن الذنوب، فلِمَ يتوبون، فإنه لا يحصل منهم ذنوب تستوجب التوبة والغفران؟ والجواب عن ذلك أن التوبة رجوع إلى الله وتقرب إليه سبحانه، والتوبة على ذلك مراتب:(1/407)
المرتبة الأولى وهي أدناها الإقلاع عن الذنوب بالندم على ارتكابها والابتعاد عنها، واعتزام ألا تقع من بعد ذلك وهذه تكون للعصاة الذين ارتكبوا كبائر أو أصروا على صغائر، وقد دعاهم الله تعالى إلى أن ينيبوا إلى ربهم فقال تعالى: (قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنوبَ جَمِيعَا. . .).
المرتبة الثانية: وهي متوسطة بين أعلاها وأدناها، وهي الاستغفار عما يكون من خطأ أو نسيان، أو هفوات إنسانية فقط مما يؤاخذ عليه الأبرار الأطهار، وهو الذي ينطبق عليه قول بعضهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
المرتبة الثالثة: وهي الإحساس بالقصور في حق الله تعالى لفرط إيمانهم، وقربهم من الله، وهذه توبة الأطهار من النبيين والرسل، فهذه توبة إبراهيم. والتوبة كيفما كانت رتبتها عبادة، وأهل الله يقولون: رب معصية أورثت ذلا خير من طاعة أورثت دَلا، فالطاعة من الأنبياء لَا تورث دَلا، بل نفوسهم لقربهم من الله تحس بالذل له، فيتوبون، ثم يتوبون.
وإن نبي الله وخليله وابنه لَا يكتفيان بالدعوة لذريتهما ولأنفسهما بالتوبة، بل يطلبان هاديًا مرشدًا لهم من بعدهما؛ ولذلك يقولان في دعواتهما:(1/408)
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ) الواو عاطفة عطفت " ابعث " على " واجعل "، واعترضت كلمة ربنا لكمال الضراعة والشعور بنعمة الربوبية، والرسول هو المرسل من قبل الله تعالى، وبعثه تكليفه بالقيام برسالة ربه، وتبليغها، و " فيهم " أي في وسطهم على أنه منهم، ليكون بهم أرحم وعليهم أعطف، ولهم اكف، كما قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ منْ أَنفُسِكمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رحِيمٌ)
، وواضح أن الرسول الذي دعا إبراهيم وإسماعيل ببعثته هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد روي أنه قال إجابة لنفر من الصحابة قالوا: يا رسول الله عرفنا بنفسك، فقال: " نعم، أنا دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى " فإبراهيم عليه السلام دعا، ببعثه وعيسى بشر به كما قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ(1/408)
اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ. . .).
وقد نكر " رسولًا " للتعظيم، أي رسولا عظيما كريما منهم. وقد ذكر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ما أرسل به إليه فقال: (يَتلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) والآيات هنا هي الآيات القرآنية، والقرآن هو المعجزة الكبرى الدالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومعنى " يتلو " يقرؤها مرتلة تتلو كل كلمة أختها، ويتلوها عليهم يعني يقرؤها فقد نزل مرتلًا كما قال تعالى: (وَقَالَ الَّذينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرتِيلًا)، أي أنزلناه كذلك لنثبت به فؤادك باستمرار نزوله، ولنعلمك ترتيله حتى تحفظه، وقيل إن الآيات هي الدلائل على نبوته، وإذا علمنا أن المعجزة الكبرى الدالة على رسالة محمد هي القرآن المتلو، تكون النتيجة واحدة، وهي أن المتلو القرآن.
وكان عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن يتلو عليهم الآيات مرتلة ترتيلا، أن يعلمهم علم الكتاب من أوامر ونواه لهم تبيينًا، ولذا قال تعالى: (وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) والكتاب هو القرآن لأنه الكتاب الكامل الذي إذا أطلق اسمه انصرف إليه، لأنه الكامل كمالا مطلقًا.
وتعليم الكتاب بتبيين أحكامه، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبين له، والشارح لأحكامه؛ ولذلك قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكرَ لِتبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ. . .).
فتعليمهم الكتاب هو تعليم أحكامه، وبيان شرائعه، وما اشتمل عليه، و " الحكمة ": قال الشافعي: إنها السنة؛ ولذلك اقترنت بالكتاب باعتبارها المصدر الثاني وروى ابن وهب عن الإمام مالك رضي الله تعالى عنه: المعرفة بالدين والفقه في التأويل والفهم الذي هو منحة ونور من الله تعالى، وقيل: الحكمة هي الحكم، والفصل في عدالة بين الناس.(1/409)
وإن الحكمة معناها حسن التدبير للأمور، وفهمها وفقه الدين، ومعرفة أسراره، وفي الجملة هي المعنى الجامع لصفة الإسلام وإدراك غاياته، وعلاجه للأمور، وسياسة الناس، وتصريف الأمور معهم، وكانت جلسات النبي - صلى الله عليه وسلم - تحوي الكثير من أدب النفس، وتعليم لياقة المجتمع والتقريب والتأليف بين النفوس، وكل ذلك من الحكمة النبوية حتى لقد قال أبو حنيفة: إن ساعة في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تغني عن فقه سنين. وإن عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد تلاوة الكتاب وتعليمه تزكية النفوس وتنميتها وتطهيرها فقال تعالى: (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم من رجس الجاهلية وينميهم، بمعنى ينمي فيهم قوة الخلق وقوة الدين، وما يكون سببا لنمو عددهم وشيوع أمر الإسلام، وبقائه خالدًا قائمًا.
وإنه يستفاد من هذا أن القرآن الكريم يتعبد بتلاوته وأشار إلى ذلك قوله: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ)، ويعلم الشرع منه؛ إذ فيه كله، ويشير إلى هذا قوله تعالى: (وَيعَلِّمهُمُ الْكِتَابَ).
وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يهذب النفوس، ويزكي القلوب بتعليم الحكمة والتزكية.
وقد ختم إبراهيم عليه السلام دعوته بالضراعة إلى ربه فقال: (إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم) العزيز: هو ذو العزة. وتتضمن معنى القدرة والمنعة، والغلب، والسلطان، أي أنت الغالب المعز العزيز الحكيم المدبر المنظم للوجود، الواضع كل شيء في موضعه بإحكام.
وأكد هذين الوصفين بإنَّ المؤكدة، وبتوكيد القول، بقوله " أنت "، وبتعريف الوصفين الدال على اختصاصه سبحانه وتعالى بالعزة والسلطان، فلا عزة لأحد بجوار عزته، ولا سلطان لأحد بجوار سلطانه.
* * *(1/410)
ملة إبراهيم هي ملة الأنبياء وهو أبوهم
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
* * *
إن إبراهيم أبو الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم وجاءوا بعده، وقد يكون هناك أنبياء آخرون بل لابد أن يكون ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: (وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذيرٌ)، ويقول: (مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ. . .).
ولقد دعا الله تعالى إلى ملة إبراهيم الناس جميعا من بعده، لأنها إجابة للفطرة، وتنبعث من النفس المستقيمة واتجاه العقل الحكيم، ولقد قال تعالى:(1/411)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
(وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِة نَفْسَهُ) ومَن هنا استفهام إنكاري يتضمن معنى نفي الوقوع، ويتضمن التوبيخ على من وقع منه هذا، والمعنى لَا يرغب عن ملة إبراهيم ويتركها متجاوزا لها إلى غيرها من الأوهام الباطلة إلا من سفه نفسه.
وقوله تعالى: (يَرْغَبُ عَن) فيها التجاوز والترك إلى أوهام، ونقيض يرغب عنها: يرغب فيها، فالرغبة فيها إقبال عليها، والرغبة عنها تجاوز عنها، وترك لها، وهذا يتضمن أمرين: أولهما - أنه علمها، وكان ينبغي أن يرغب فيها ولكنه تجاوزها وتركها لَا عن انصراف مجرد، بل عن قصد وإعراض، وثانيهما - أنه اتجه ورغب في غيرها، ونفَى الله تعالى الرغبة عنها إلا ممن سفه.(1/411)
وقوله تعالى: (إِلَّا مَن سَفِة نَفْسَة)، أي جهلها في حمق ورعونة؛ لأن النفس الإنسانية المستقيمة تتجه إلى الله لما في داخلها من ينبوع الخير الداعي إلى إدراك الحق المستقيم، ولأن كل ما في النفس من عقل مدرك، ويد تبطش وعين تبصر وأذن تسمع ورجل تسير بها كلها يدل على الإيمان الحق ويهدي، كما قال في الذين يضلون إذ ينسون خلقهم وكونهم، فيقول: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ. . .). فالنفس الإنسانية لو تأملنا خلقها وتكوينها تهدى وترشد إلى الحق، ولقد قال تعالى: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّمَاءِ رِزْفكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ).
وقوله تعالى: (إِلَّا مَن سَفِة نَفْسَهُ)، أي جهلها عن سفه وحمق ورعونة كما ذكرنا، والفرق بين جهل النفس، وأن يكون قد سفهها أن الجهل قد يكون عدم علم وعدم اهتداء إلى الحق، وألا يكون عنده أدوات العلم وطرق المعرفة، أما السفه فمعناه أن يجهل وعنده طرق المعرفة، وأسبابها ويتركها حمقًا ورعونة، ولقد قال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذينَ نَسوا اللَّهَ فَأنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ. . .)، وسفه نفسه، قيل إنها بمعنى سفَّه بتشديد الفاء بمعنى أوقعها في جهل وسلك بها غير ما تهدي إليه الفطرة.
وإن ملة إبراهيم هي ملة النبيين فقد قال تعالى: (فَاتَّبِعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أآل عمران، وقال تعالى في سورة الحج: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجِ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ. . .).
وإن ملة إبراهيم كانت ملة النبيين؛ لأن الله تعالى اختارة للإمامة، وابتلاه بالكلمات، ولأنه كان يشكر نعم ربه، ولأنه اختاره لبناء البيت، ولأنه اختاره لتعليم مناسك الحج، ولأنه اختاره ليكون أبا الأنبياء؛ ولذلك كله قال تعالى: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرةِ لَمِنَ الصَّالحِينَ) وقال تعالى في آية أخرى: (شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاط مّسْتَقِيمٍ).(1/412)
ومعنى اصطفاه الله تعالى، أي اختاره بعد أن ابتلاه بما صفى نفسه وخلصها لله تعالى، وصار ليس في قلبه موضع لغيره فاختاره من بين خلقه خليلا له، وكان أمة وإماما، وكان أواها حليما رجاعا إلى الله تعالى دائما.
وأكد سبحانه وتعالى أنه في الآخرة لمن الصالحين، ففي الدنيا اصطفاه، فكان معه فيها على الخير المطلق، وقد ابتلى فأحسن البلاء، وكان صفيا وكان وليا، واختص بأن يكون خليلا.
وقد وصف سبحانه وتعالى حاله في الآخرة مؤكدا فقال: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) وقد قال بعض الناس: إن العمل الصالح في الدنيا وإن جزاءه في الآخرة فالآخرة دار جزاء لَا دار عمل، فكيف يقال في الآخرة إنه من الصالحين؟! ونقول في الجواب عن ذلك إن ما ذكره الله تعالى عن حاله في الآخرة أنه سجل له الوصف بأنه من الصالحين فقد سجل عليه سبحانه وصف الصلاح، والمعنى أنه ختم أعماله في الدنيا بالخير، وصار في زمرة من كتب الله لهم الصلاح في الآخرة، ففي الآخرة جعله تعالى في جملة من رضي عنهم ووسمهم بالصلاح فكافأهم برضوانه تعالى وهو أكبر الجزاء، فليس في الآخرة عمل، وإنما في الآخرة تسجيل الصلاح، والجزاء عليه، وأنه يكون الصالح الذي جعل له لسان صدق في الآخرين.
وقد أكد سبحانه وتعالى أنه في زمرة الصالحين الذين نالوا رضوان الله بقوله: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) فأكد بإنَّ الدالة على توكيد الخبر، وأكد بـ " اللام " في قوله لمن الصالحين، وأكده بتقديم في الآخرة، وذلك التأكيد لأنه من الذين وصلوا إلى أعلى درجات الصلاح.
وإن عده من الصالحين يوم القيامة، إنما كان لأنه أخلص وأسلم وجهه لله رب العالمين مستجيبا طلب الله تعالى منه، إذ طلب ربه منه أن يكون كله له وحده؛ ولذا قال تعالى:(1/413)
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) الإسلام هنا هو الإخلاص والإذعان لله تعالى، وهو كالإسلام في قوله تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَه لِلَّهِ وَهوَ(1/413)
مُحْسِنٌ. . .)، فهو غاية الإيمان وأقصاه، وقد ذكرنا أن الإيمان تصديق وإذعان وتسليم، والإسلام تخليص القلب والنفس والجوارح لله تعالى، فهو أعلى درجات الإيمان.
وهو ليس الإسلام الذي هو نقيض الإيمان أو يغايره، وهو الإذعان المادي، والخضوع لأحكام الإسلام سواء أكانت مع القلب، أم لم تكن، وهو الذي قال فيه للأعراب إذ قالوا: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ. . .).
وهذا هو الإسلام الذي يفرق علماء الكلام بينه وبين الإيمان، وليس موضوعه، وإنما هنا الإسلام بمعنى إسلام الوجه والجوارح لله تعالى، وهو الذي قال الله تعالى فيه: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ. . .).
وقد يقال إن إبراهيم أثبت إخلاصه لله تعالى ودعا الله تعالى أن يجعله وابنه إسماعيل مسلمين، فقال في ذلك: (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ. . .)، فلم كان الأمر بذلك، وقد طلباه؟.
فقالوا في الإجابة عنه أنه أمر بالاستدامة على الإسلام وتثبيت التوحيد، ونقول في ذلك أيضا إن الآية لبيان مقام إبراهيم عليه السلام في الاستجابة لأمر ربه، وخلوص نفسه إذ أمره بذلك فاستجاب فورا قائلا أسلمت لرب العالمين، فهذا النص لبيان مدى استجابة خليل الله تعالى لربه غير متردد، ولا متلكئ، ولكن صار إبراهيم يقول: أسلمت أي خلصت نفسي وجعلتها لرب العالمين، أي لخالق العالمين والقائم عليهم وربهم وكالئهم، وإن ذلك شكر له، فهو في ذلك شاكر لأنعم الله تعالى كحاله دائما.
وإن إبراهيم عليه السلام، وصى بهذه الملة بنيه من بعده جيلا بعد جيل، وصى بها بنيه، ووصى بها أحفاده، وأبناءهم، فمن كفر بها، فقد كفر بالله وبوصية إبراهيم، وما كان إبراهيم ليرضى عنهم إذ كفروا بربهم كالمشركين، إذ غيروا وبدلوا في دين إبراهيم، وكاليهود الذين ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا، ولقد رد الله تعالى(1/414)
قولهم بقوله تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا. . .).
ذكر الله تعالى وصية إبراهيم وقال تعالى:(1/415)
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
(وَوَصَّى بِهَا إِبرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) الضمير في (بِهَا) يعود إلى ملة إبراهيم التي هي موضوع الذكر من قوله تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)، ووصى بأنها الإخلاص لله فقد قال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ رًبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فهي موضوع الحديث.
والتوصية طلب الشخص من غيره القيام بأمر معين والتشدد في طلبه، وهي غالبا يكون تنفيذها بعد الوفاة، فهي طلب أو إعطاء في الحياة أو في آخرها ليكون تنفيذها بعد وفاته.
وقد وصى إبراهيم بنيه بأن يستمروا مستمسكين بملته بعد وفاته، ويعقوب عليه السلام - وهو حفيد إبراهيم من إسحاق عليه السلام - قد وصى أيضًا بذلك.
وأولاد إبراهيم المذكورون في القرآن هم إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، وذريتهما من بعدهما، وقد قال تعالى في ذرية إسحاق: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّته النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)، وقال تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّته دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
وقوله: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) برفع يعقوب بالعطف على إبراهيم عليه السلام أي أن إبراهيم عليه السلام وصى بهذه الملة بنيه، ويعقوب وصى بها بنيه كذلك، وكانت صيغة الوصية كما ذكرها القرآن (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) وهذه الجملة السامية تفسير لمعنى ووصى، لأنها صيغة الوصية؛ ولذا قالوا إن هناك تقديرا، وهو أنْ بفتح الهمزة التي تدل على أن ما بعدها بيان لما قبلها.
والوصية أو صيغتها كانت بنداء كل من إبراهيم، ويعقوب لأبنائه بقوله: يا بني، بجمع المذكر السالم الذي حذفت منه النون بالإضافة إلى ياء المتكلم.(1/415)
وناداهم بهذه الصيغة التي تدل على النسبة إليه تقريبا لهم من نفسه، وفي ذلك دليل على الشفقة بهم والرفق، وأنه يؤثرهم بما يدل على محبته وحدبه عليهم، ومضمون الملة التي وصى بها (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ)، أي أن الله جل جلاله، وهو ربكم الذي ذراكم وأنعم عليكم، اختار لكم الدين الكامل، والدين هنا، هو ملة إبراهيم، فهي دين إبراهيم ودينكم ودين الخليقة من بعده، وهو ملته، وهو الإخلاص لله رب العالمين وإسلام الوجه له، كما فسر الله تعالى، من قبل بقوله تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
وقد صرح سبحانه وتعالى بغاية الوصية ونهايتها كما جاءت على لسانهم، (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، والفاء هي للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كانت هذه الملة هي الدين الذي اختاره لكم وهو الإسلام، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وقوله تعالى: (وَأَنتُم مُّسْلِمونَ) حال من تموتن.
وقد أكد سبحانه وتعالى الطلب بنون التوكيد الثقيلة، وليس النهي متجها إلى الموت؛ لأن الموت ليس أمرًا اختياريا يجري فيه التكليف بالأمر، وإنما الأمر منصب على البقاء على الإسلام، أي لابد أن تبقوا على الإسلام مؤكدًا ذلك حتى تموتوا وأنتم على حاله وقيامه، كما تقول: لَا تصل إلا وأنت خاشع فهو أمر بالخشوع وليس نهيًا عن الصلاة.
وقوله تعالى: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهُ اصْطَفَى لَكُمُ) أهي وصية إبراهيم وحفيده يعقوب معا؟ الظاهر ذلك، وقال بعضهم: إنها وصية إبراهيم وأمها وصية يعقوب فقد أشير إليها في قوله تعالى من بعد:(1/416)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
(أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133).
وأرى أن قوله تعالى: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهُ اصْطَفَى لَكُمُ) وصيتهما معا، ولما جادل اليهود في ذلك قال تعالى مفندا كلامهم، مبينا حقيقة الأمر (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَإِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) إلى آخر الآية، وعلى هذا التخريج فالوصية واحدة، اللهم إنَّا أسلمنا وجهنا لك كما أسلم إبراهيم وجهه لرب العالمين.
* * *(1/416)
(أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
* * *
ادعى المشركون أنهم على ملة إبراهيم، شرفهم وشرف محتدهم، وادعى اليهود أنهم يسيرون على ملة إبراهيم وقد غيروا وبدلوا، بل جرى على ألسنتهم ما يومئ إلى أن إبراهيم كان يهوديا، وبذلك يقلبون التاريخ، فيجعلون أوله آخره، وصدره عجزه، وادعى النصارى الذين يعبدون الأوهام أن ثالوثهم دين النبيين أجمعين وافتروا فرية واهمة تبهت العقول، ولكن الأوهام غلبتهم، فديانتهم وهم في وهم، ليس فيها إلا أوهام تكاثفت فاعتنقوها، والمسيح منهم براء.
هؤلاء جميعا، وخصوصا من كانوا ينتحلون نحلة ينسبونها إلى نبي من أبناء يعقوب عليه السلام كانوا يدعون أنهم على ملة إبراهيم وإسماعيل واسحاق ويعقوب.
ولقد وجه الخطاب إليهم، وخصوصا اليهود والنصارى لبيان أنهم ليسوا على ملة إبراهيم، وهم على غير الوصية التي وصى بها إبراهيم بنيه، ويعقوب، فقال تعالى: (أَمْ كنتُمْ شًهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) أم هنا تدل على الاستفهام والإضراب معا فهي تتضمن معنى " بل " و " الهمزة "، فهي استفهام إنكاري مع التوبيخ(1/417)
والإضراب عن إفكهم. والمعنى نضرب صفحا عما تقولون، ونسالكم: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْت) وشهداء جمع شاهد، كما قال تعالى في الشهادة على الديون: (وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ. . .)، وتكون جمع شهيد، والمعنى على كل حال أكنتم حاضرين الوقت الماضي الذي حضر فيه يعقوبَ الموتُ، أي كنتم حاضرين الوقت الذي بدت فيه على يعقوب أمارات الموت، فمعنى حضور الموت ظهور أماراته، ومقدماته، أي وهو يحتضر؛ ولذا كان التعبير بحضر، فحضور أماراته ومقدماته، حضوره؛ ولذا لم يقل نزل به إذ الأولى في قوله تعالى: (إِذْ حَضَرَ) تدل على وقت حلول الموت بمقدماته وأماراته، وقد ذكر سبحانه وتعالى (إِذْ) مرة أخرى في قوله: (إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) وهما يدلان على وقت واحد قد مضى.
قال يعقوب أبو بني إسرائيل الذين غيروا وبدلوا، قال لبنيه: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) أي من الذي تعبدونه من بعدى؟، وعبر بما هنا دون مَن لأن ما يستفهم بها عن الماهية فيقال ما الإنسان، فالسؤال متجه إلى طلب حقيقة ما يعبدون من بعده أيستمرون على عبادة الله تعالى؛ قالوا مجيبين في غير تردد ولا تلكؤ: (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا).
ابتدأوا إجابتهم بما يدل على الأسوة والقدوة الحسنة وهي تدل على أنهم لا يغيرون ولايبدلون بل هم مقتدون، ولذلك قالوا: (إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ) ولم يقولوا مثلا: نعبد الله وحده.
وإن أباهم إبراهيم وإسحاق وليس من آبائهم إسماعيل بل هو عم يعقوب وليس أباه ولا جده ولكن العرب تسمي على المجاز العم أبا - كما يسمى العم ابن أخيه ابنه، كما قال أبو طالب لقريش عندما طلبوا أن يعطوا أبا طالب بدلا لمحمد ابن أخيه أنهد فتى من قريش ليسلم إليهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم موبخا: آخذ ولدكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ وروى علي بن أبي طالب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(1/418)
" عم الرجل صنو أبيه " (1) هذا وإن عَدَّ إسماعيل عليه السلام في آباء يعقوب يدل على أن إسماعيل وإسحاق، لَا يفرق بينهما في نسب ولا دين كما يفعل الحاقدون من بني إسرائيل.
وقوله تعالى: (إِلَهًا وَاحِدًا) قيل إنها بدل من إلهك ولا مانع من أن تكون
النكرة بدلا من المعرفة مثل قوله تعالى: (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16).
ويصح أن تكون حالاً من إلهك، أي حال كونه إلها واحدا، أي نعبده على هذه الحال، ولعل اعتباره بدلا؛ على أنه يكون بدل اشتمال أي أن البدل والمبدل منه شيء واحد.
ونرى في ذكر الله سبحانه وتعالى مضافا إلى ضمير المخاطب يعقوب، ثم ذكره من بعد ذلك موصوفا بالوحدانية تصريح بالوحدانية في العبادة والامتناع عن إشراك غيره معه، وإشارة ثانية إلى الاتباع والقدوة والأخذ بالوصية التي أوصى بها إبراهيم ويعقوب، وفيها إثبات السلسلة الوحدة في أولاده في يعقوب عليه السلام، وإن هذا التوحيد هو الدين الذي اصطفاه الله تعالى لأنه دين الله تعالى؛ ولذا قال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
ولقد ختم الأبناء المخلصوِن إجابة أبيهم، البر الرحيم، الذي ضرب به المثل في الصبر والشفقة بقولهم: (وَنحْنُ لَهُ مُسْلِمُود)، أي مخلصون قد سلمنا وجوهنا وقلوبنا له وحده؛ ولذا قدم قوله: (لَهُ) على (مُسْلِمُونَ) لما يدل عليه التقديم من معنى اختصاصه سبحانه بإسلام أنفسهم له تبارك وتعالى، وقد أكدوا إسلام أنفسهم له بالجملة الاسمية.
________
(1) عَنْ عَلِي أن النَبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِعُمَرَ فِى الْعَباسِ: " إِن عَمَّ الرجلِ صِنْوُ أبِيهِ ". وَكَانَ عُمَرُ تكلَّمَ فِى صَدَقَته.
[رواه الترمذي: كتاب المناقب (3693) وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسن صَحِيح، كما رواه أحمد في مسند العشرَة المبشرين (687)، وبنحوه عند مسلم عن أبي هريرة: كتاب الزكاة (1634)].(1/419)
إن اليهود كانوا كلما ذكرت محمَدَة لإبراهيم وبنيه انتحلوها لأنفسهم، وتفاخروا بها على غيرهم حتى ظنهم الناس أنهم هداة آبائهم، وإن لم يهتدوا بهديهم. فرد الله سبحانه وتعالى قولهم وقول غيرهم ممن كانوا يتفاخرون بانهم سلالة إبراهيم وإسماعيل ولا يعملون عملهم، ولا يسلكون مسلكهم، وكانوا يحسبون مجرد النسب يكسبهم شرفا وذكرا عند الله والناس فقال:(1/420)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
الإشارة إلى هذه الجماعة الفاضلة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وذريتهم الذين اهتدوا بهديهم وقبسوا من نور الله تعالى بوصيتهم، وهي (قَدْ خَلتْ) أي مضت، وصارت في عبر التاريخ لهم ما كسبوه من خير فيكون عند الله جزاؤه، وعليكم معشر العرب أن تقتدوا بإبراهيم، وتأخذوا بوصيته، وأن تعبدوا إلها واحدا هو الله جل جلاله، إن كنتم تنتمون إليه فتجمعون بين شرف النسب وشرف الاتباع، والنسب وحده لَا يغني فتيلا من غير اتباع.
وكذلك أنتم معشر اليهود ليس لكم أن تفخروا بأن هؤلاء آباؤكم، وتلحقوا تاريخهم بتاريخكم إلا أن تتبعوهم في الإخلاص لله رب العالمين والإسلام له، وإلا كنتم الخارجين عليهم المحاربين لمآثرهم. وإن لم تجدوا في اتباعهم فلكم جزاء فعلكم.
ولذا قال تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكم ما كسَبْتُمْ) أي لها ما كسبته مكسوبًا إليها بقدره محسوبا لها في اليوم الآخر بجزائه، ويتضمن قوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ) الجزاء لهذا الكسب، وهو خير (وَلَكم مَّا كسَبتمْ)، إن عملتم مثل عملهم، واتبعتم هديهم وأخذتم بوصيتهم وكانت لكم شعارا ودثارًا تتحلون به، وهذا حث على الاقتداء، ودعوة إليه، فإن تجانفوا لإثم، وتخالفوا الوصية فعليكم إثم ما تفعلون.
وإنكم لستم مسئولين عن أفعالهم إن خيرا أو شرا فكذلك ليس لكم أن تدعوا أن عملهم عملكم ونسبهم نسبكم؛ لأنكم انفصلتم بعملكم عنهم؛ ولذا قال تعالى:(1/420)
(وَلا تُسْألُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وكذلك لَا يكفيكم عملهم، إن خيرا فخيره لهم إلا أن تكونوا قد عملتم مثل عملهم ولا تزر وازرة وزر أخرى.
إن ملة إبراهيم عليه السلام، وهي التوحيد، والطهارة من الوثنية هي لب الدين اصطفاه الله تعالى لنا، وهي الحق الذي لَا ريب فيه، وهي مقياس الحق الذي يتميز به من الباطل، فمن آمن بها فقد اهتدى، ومن خالفها فقد ضل وغوى، وأهل الكتاب الذين حرفوا القول عن مواضعه، وغيروا وبدلوا، وخرجوا عن المنهاج وتركوا ملة إبراهيم عليه السلام يزعمون أن ما عندهم حق، وهو الهداية، كذلك ضلت أفهامهم، فزعم اليهود أن في يهوديتهم السلامة، وزعم النصارى بنصرانيتهم الوثنية أنها الهداية وكل في غيهم يعمهون، ولذا قال تعالى:(1/421)
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
(وَقَالُوا كُونوا هُودًا أَو نَصَارَى تَهْتَدُوا) أي قال اليهود: أي الحاقدون الكافرون بأنعم الله التي توالت عليهم: كونوا هودا، أي كونوا يهودا تهتدوا، لأن الهداية تحوطهم، وهم في قبتها، وقال النصارى المثلثون الوثنيون: كونوا نصارى تهتدوا؛ لأن الهداية في حقبتهم لا تخرج عنهم أبدا والعاقبة لهم في زعمهم، مع أنهم وثنيون، لَا يتبعون نبيا مرسلًا، ولكن يتبعون فلسفة كاذبة ضالة مضلة (1).
قال اليهود ما قالوا، وقال النصارى المثلِّثون ما قالوا، فأمر الله تعالى نبيه بأن يرد قولهم بقوله: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكينَ).
قل لهم يا رسول الله: إن المقياس الصحيح الواجب الاتباع؛ لأجل البعد عن الباطل، والاهتداء بهدى الحق - مضربا عن كلامهم صفحا - هو ملة إبراهيم، ولذا قال تعالى: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا)، وبل هنا للإضراب عن أوهامهم وترهاتهم، وملة مفعول لفعل محذوف تقديره: بل اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا، أي مائلًا للاستقامة أو مائلًا نحو الحق هاديًا إليه، فالحنيفية السمحة أي الحق، وجَنفَ وَحَنَفَ معناهما الميل، بيد أن الجنف الميل إلى الباطل كما قال تعالى: (غَيْرَ مُتًجَانِف لإِثْمٍ)، والحنيف المائل نحو الحق، والحنفيف معناه الاستقامة والحنيف معناه المستقيم الذي لَا عوج فيه ولا انحراف.
________
(1) راجع: " محاضرات في النصرانية " للمؤلف.(1/421)
ويثبت الله سبحانه وتعالى الوحدانية في ملة إبراهيم، فيقول: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكينَ) وهذا نفي للشرك عن ملته، ورد للعرب المشركين عن تبعيته، وإن كانوا من سلالته.
ووكل الله تعالى إلى رسوله الأمين الرد على اليهود والنصارى والمشركين؛ لأنه من تبليغ رسالة ربه، وبيان الحقائق التي يجب عليه بيانها، وإن ذلك الرد كقوله تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكينَ).
* * *
وحدة المؤمنين باتباع ملة إبراهيم
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
* * *
يجمع الرسل على اختلاف ما أنزل على النبيين من كتب لَا تتباين في معناها، وإن اختلفت أزمانها، يجمع هذه الكتب أنها كلها في لبها وغايتها ملة إبراهيم عليه السلام، فهي ملة جامعة لَا تختلف رسائل النبيين ولا تتباين عندها،(1/422)
فهي ملة النبيين أجمعين، وقد كانت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي ملة إبراهيم عليه السلام! ولذا قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجِ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُم الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ. . .)، وقد تلونا هذا النص الكريم من قبل، ولذا دعا الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يعلنوا أنهم يؤمنون بذلك فقال تعالى مخاطبا المؤمنين:(1/423)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ومَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُو سَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ)
وإن هؤلاء جميعا على ملة إبراهيم، وهي التوحيد، وهذا كقوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13).
إن إبراهيم ويعقوب وصى كلاهما أبناءه بملته، واتبعه من بعدهم موسى وعيسى والنبيون الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، فهم جميعا على ملة واحدة جامعة، وهي ملة إبراهيم التي هي التوحيد والتنزيه، والاستقرار على الحق، والحنيفية السمحة.
وقد أمر الله تعالى المؤمنين، ولم يكن أمره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده، بل كان أمره له ولمن اتبعه، وفيه بيان أن إيمانهم هو إيمان إبراهيم، وبنيه، ويعقوب وبنيه، والنبيين أجمعين، فهو إيمان عام بالرسالة الإلهية لَا فرق بين رسول ورسول، ولذلك قال بحق بعض الذين علموا الإسلام وما يدعو إليه: إن الإسلام دين عام.
وقيل لمسيحي أسلم: لماذا خرجت عن المسيحية؟. فقال: إني لم أخرج عن المسيحية دين المسيح، ولكن دخلت فيها بدخولي في الإسلام.
أمر الله المؤمنين أن يقولوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ)، والأسباط هم ولد يعقوب عليه السلام الذي قال لهم: ما تعبدون من بعدي، وهم اثنا عشر، وقد ذكر القرآن لهم ذلك العدد في رؤيا يوسف بن يعقوب، إذ قال الله تعالى عنه: (إِذْ قَالَ يوسف لأبِيهِ يَا(1/423)
أَبَتِ إِنِّي رَأَيْت أَحَدَ عَشَرَ كَوْكبًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيتهُمْ لي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5). وإن الأحد عشر كوكبا رمز لأبناء يعقوب غير يوسف، وبضم يوسف إليهم يكونون اثني عشر. . والأسباط واحدهم سِبْط، وهو بمنزلة القبيلة في العرب، وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون، وقيل إن السبط هو الحفيد، وسموا بذلك لأنهم في أصلهم حفدة إبراهيم.
ولماذا ذكر الأسباط مع أن ذكر يعقوب يغني عن ذكرهم، لأنهم أبناء يعقوب، وقد وصاهم باتباع ملة إبراهيم وشدد في الوصية؟ والجواب عن ذلك أنهم صاروا من بعده جموعا، كونوا العشائر والقبائل، فكانت لهم صفة بهذا الانفراد وقد أمر الله تعالى المؤمنين، بأن يقولوا (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُم) لأنهم جميعا يتكلمون عن الله، ويذكرون أمره ونهيه، ورسالتهم رسالة من الله تعالى، (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمونَ)، أي أسلمنا وجهنا وقلوبنا وكل جوارحنا له سبحانه وتعالى، جمع الله قلوبنا ونفوسنا وحواسنا لتكون لله تعالى، وهو الحكيم العليم.
إن ذلك هو الإيمان الحق، وهو الإيمان الجامع غير المفرق؛ ولذلك كان هو ميزان الإيمان الصادق الموحد للناس حول ربهم، وهو الوحدانية لله تعالى، والوحدة في الرسالة الإلهية؛ ولذا قال تعالى:(1/424)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا).
الضمير في قوله تعالى: (فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم به) يعود إلى اليهود والنصارى؛ لأنهم هم الذين ظنوا أن الاهتداء عندهم فقط، َ (وَقَالُوا كونُوا فهدًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا. . .)، وأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
وفى الآية السابقة صورة للإيمان الموحد الجامع الذي لَا يفرق، فإن آمن اليهود والنصارى بمثل ذلك الإيمان الجامع غير المفرق فقد اهتدوا، لَا أن يكونوا قد اهتدوا بما هم عليه من الانحياز المفرق.(1/424)
(فَإِنْ آمَنُوا بِمِتْلِ مَا آمَنتُم بِهِ) والمعنى فإن آمنوا بإيمان مثل الذي آمنتم به، أي مشابه له من حيث إنه يجمع الناس على الوحدانية لله تعالى، والوحدة في الرسالة، والوحدة في الإنسانية بالصورة التي أنتم عليها - فقد اهتدوا، فكلمة " مثل " في موضعها من القول ولها دلالتها، فالمراد - وعند الله تعالى علمه - أن يؤمنوا بما آمنتم على أن يكون مثله في المعنى الجامع، ولقد تهجم بعض المفسرين في العصر الحديث، فقال إن مثل " مُقْحَم " أستغفر الله لي وله، إنه ليس في القرآن مقحم، إنما ألفاظ القرآن الكريم ليس فيها مقحم قط، إنما هي تنزيل من حكيم حميد.
ونقول إن الإيمان الذي ثبت من قوله تعالى: (قولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) إلى آخر الآية الكريمة، يتحقق فيه أمران: أولهما - الإيمان بالوحدانية، والثاني - الصفة الجامعة، فالمثلية ليست في أصل الإيمان، وإنما هي في الصور الجامعة غير المفرقة.
ولذا قال تعالى: (وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاق) التولي هو الترك الجسمي والبعد الذي يدل على الإعراض النفسي فإن أعرضوا عن الإيمان الجامع للرسالة الإلهية فهم في شقاق مستمر، لأن من ترك الوحدة في الرسالة الإلهية فقد اختار النزاع والمجادلة، وحيث دخل النزاع في الدين كانت العصبية والتعصب، والانحياز، ويفقد الدين سلطانه في القلوب، ويصير لجاجة، وعداوة وبغضاء بين الناس، ويكون كل ملة أو دين في شق منحاز لَا يلتقي ولا يهتدي؛ ولذلك قال: (فِي شِقَاق)، والشقاق: أن يكون كل جانب في شق من الأرض أو الفكر والنفس.
وإنه عند ذلك تكون العداوة المستحكمة من أولئك الذين تولوا عن الحق وأعرضوا عن الدين الجامع إلى الفرقة المعادية، وكأن الله تعالى ينبه نبيه الأمين، إلى أن يتوقع منهم الشر، والبغضاء المستمرة؛ ولذلك أشار سبحانه إلى أنه معه، وأنه(1/425)
ناصره تعالى عليهم؛ ولذا قال تعالى: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) والمعنى: إذا أظهروا العداوة المفرقة على الوحدة المقربة، وصاروا أعداء لكم فسيكفيكهم، أي فسيكون الله تعالى كافيا لك، ومانعك منهم. يقال كفاك هذا الرجل، أي منعك ودافع عنك، و " السين " هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل، فـ " السين " و " سوف " الدالان على المستقبل القريب أو البعيد، يدلان مع ذلك على تأكيد الوقوع، والمؤدى أن عداوتهم سترد في نحورهم وسيكون وبالهم عليهم.
وقد أكد سبحانه وتعالى حمايته لنبيه ولمن معه بقوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي أنه سبحانه وتعالى عليم بما ينوون، وما يخفون وما يعلنون، عليم علم من يسمع، ومن صفاته العلم فهو يعلم ما يكون وما يقع، وإنه بذلك العلم المحيط الدقيق يعلم خائنتهم، ويكفيك أمرهم، إنه نعم المولى ونعم النصير.
إن الإيمان الجامع بالنبيين أجمعين لَا يفرق بين أحد من رسله، لأنهم جميعا يحملون رسالات ربهم إلى عباده وهي واحدة، إن هذا الإيمان هو دين الله تعالى، وهوِ ملة إبراهيم وهي الشارة الوحيدة للدين الحق؛ ولذا قال تعالى:(1/426)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
(صِبْغَةَ اللَّهِ وَمنْ أَحْسنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنحْن لَهُ عَابِدُونَ).
الصبغة هي الملة التي اختارها الله تعالى، وهي ملة إبراهيم، وهي دين الله الحق الذي اصطفاه واختاره وصح أن يكون دينه.
والصبغة في الأصل ما يصبغ منه، ويتشربه الثوب حتى يصير لونا غير قابل للتغيير، بيد أن هذه الصبغة في القلب يتشربها فتكون لونا ثابتا مستقرا دائما بالإيمان والإذعان، يخالط مداركه، ويتشربها قلب المؤمن كما يتشرب الثوب صبغته؛ لأنه مفطور على الإيمان والإيمان في فطرته، إلى أن يتدرن بالأهواء والشهوات فتطمس الفطرة، ولقد قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ للدِّينِ حَنيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّين الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النًّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).(1/426)
ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء " (1).
وصبغة هنا منصوبة على الإغراء لفعل محذوف تقديره إلزم صبغة الله، فإنها إيمان القلوب، وزينة النفوس للمؤمنين؛ كما يتزين الجسم بزينة الثياب اللونة بأبهى الصباغ.
وإن التعبير عن الدين بأنه صبغة الله إشارة لما يفعله اليهود والنصارى من صبغ أولادهم باليهودية أو النصرانية بما يغمسونهم فيه بماء يسمى المعمودية.
فإذا كان هؤلاء يعملون تلك الأعمال حاسبين أنها تصبغهم بدينهم غير الحق الذي ارتضوا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يجعل القلوب تتشرب حب الدين الحق، فلا تتحول ولا تتغير ولا تتبدل.
ولقد بين سبحانه وتعالى أن صبغة الإيمان الجامع الذي اختاره الله تعالى دينا للعالمين هي أحسن صبغة وأبهاها حسا ومعنى، وطهارة؛ ولذا قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) أي لَا صبغة أفضل من صبغة الله تعالى؛ لأنها الحق والحق وحده زينة القلوب. وغيرها الباطل، وهو طمس للفطرة وفرق بين زين القلب وحسن الإيمان، والإشراق بنوره، وطمس النور منه وامتلائه بالظلمات.
وقد قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَق كَانَ لَهُ قَلْبٌ. . .)، من شأنه الإذعان للحق، والتمسك به، وقال هنا: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) فالقلوب قسمان: قلوب على الفطرة يدخلها نور الإيمان فيشرق فيها، وقلوب طمست عليها
________
(1) رواه أحمد عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَة، فَأبَوَاهُ يُهَودانه اوْ يُنَصرانِهِ اوْ يُمَجسانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً هًلْ تُحسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ " [مسند المكثَرين (6884)، َ وبنحوه في البخاري: الجنائز (1270)، ومسلم: القدَر (4403)]. والجدعاء: مقطوعة الأنف أو الأذن أو غيره، ولفظ البخاري: عن أبي هُرَيْرَةَ - رَضي اللَّهُ عَنْه - كَانَ يُحَدثُ: قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَة فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَاِنِهِ أوْ يُنَصرانه أوْ يُمَجسَانِه، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَة بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحسُّون فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ " ثُم يَقُولُ أبُو هُريْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: (فِطْرًتَ اللَّهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. . .].(1/427)
الأهواء وسيطرت عليها وأخفت منابع الهداية فهي فى عمياء عن الهدى، غلقت فلا تدخلها هداية.
وإنَّما يدرك جمال صبغة الله تعالى، وتزيينها للقلب والنفوس الذين يوقنون بالحق، ومن شاء الإيمان به إذا قامت دلائله، وبدرت محاسنه؛ ولذا قال تعالى: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) خاضعون له لَا لسواه؛ ولذا قدم " له " على " عابدون " إذ التقديم للاختصاص فلا نعبد سواه ولا نؤمن بغيره.
* * *
(قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
* * *
كان اليهود والنصارى يدَّعون أن ما عندهم هو دين الله تعالى، وأنهم أعلم الناس بالله، وأنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، وحسبوا أنهم أقرب إلى الله تعالى لأنهم ليسوا وثنيين ولم يشركوا به أحدا، والوثنيون ليسوا كذلك، وبذلك يحاجون النبي في أنهم أقرب إلى الله، وأنه أقرب إليهم، وأنهم أولى به، فأمر الله تعالى نبيه بأن يبين لهم أن الله ربنا وربكم، وأن القربى إليه بالعمل، فلنا أعمالنا ولكم أعمالكم فقال تعالى:(1/428)
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
(قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) كان الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وليتولى الحِجَاج معهم إعلاء لكلمة الله تعالى لمن يتولى المحاجة والمجادلة، والله(1/428)
أجل وأعلى من ذلك فترك للنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر هذه المحاجة. والاستفهام هنا للتوبيخ؛ أي ما كان لكم أن تحاجونا في الله تعالى بادعاء القرب، وأنكم أولى به وبمحبته ومعرفته، فالمحاجة في الله تعالى لَا في أصل وجوده، ولا في أصل وحدانيته لقوله تعالى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) (. ففي هذا النص كان الجدال في الله تعالى، من حيث وجوده، وأنه الفاعل المختار.
أما هنا في هذا النص الذي نتكلم في معانيه، فالمحاجة في الله تعالى من جهة القرب منه، والمنزلة عنده لَا محاجة أصل وجوده، والمحاجة من جانب اليهود والنصارى بادعائهم على الله سبحانه وتعالى بأن دينهم هو الذي ارتضاه وأنهم أقرب إلى الله، وأنهم أحبابه، وأنهم أبناؤه، إلى غير ذلك من الأوهام التي يثيرونها حول الله تعالى.
وهم يثيرون قولهم على اعتقاد أن النبي يحاجهم كما يحاجونه؛ ولذلك كانت صيغة المفاعلة.
وقد أمر الله تعالى نبيه، بأن يبين لهم أنه لاحاجة إلى المحاجة؛ ولذا أمره تعالى بأن يقول: (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) فصلتنا بالله واحدة، وهو أنه ربنا جميعا، وقد بين المماثلة في الصلة بالله تعالى لصلة الربوبية، وهي متحدة في معنى الربوبية، ولا تفاوت بيننا في هذا، فلستم أقرب إليه، ولا نحن أقرب من هذه الناحية، ونبههم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه بأن التفاوت إنما هو بالأعمال؛ ولذلك أمره تعالى بأن يقول لهم: (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكمْ أَعْمَالُكمْ) فأعمالنا بما فيها من خير ونفع تتحمل في ذاتها استحقاق جزائها، ولكم أعمالكم، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وأن القرب إلى الله تعالى أو البعد إنما هو بحسب الأعمال، فهي التي تقرب، وهي التي تبعد، وهي التي يكون عليها الجزاء.
وقد وصف الله آمرا نبيه بقوله: (وَنَحْن لَهُ مًخْلِصُونَ) أي نحن قد أخلصنا بقلوبنا في عبادة الله تعالى فلا نشرك في العبادة سواه، ولا نعكر إخلاصنا لله تعالى(1/429)
بسبب من أسباب الدنيا، فنحن صرنا لله نحب الشيء لَا نحبه إلا لله، وهذا تحريض لليهود وغيرهم على أن يكونوا مثلهم، فإن كانوا مثلهم التقوا على الإيمان الجامع غير المفرق.
والإخلاص كما قلنا تصفية النفس من أن يكون فيها غير الله تعالى، وتصفية الفعل من أن تكون لغير الله فيه شائبة، ولقد قال بعض الصوفية: الإخلاص سر بين العبد وبين الله لَا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده. وفي الجملة الإخلاص حصن العبادة الحصين.
إن اليهود والنصارى افتروا مع كفرهم وجحودهم وقولهم: عزير ابن الله، وقولهم: المسيح ابن الله وإيمانهم بالثالوث، وافتروا فادعوا أنهم أقرب إلى الله وأحب، ثم انحدروا في تفكيرهم فقلبوا التاريخ فجعلوا أوله لاحقا وآخره سابقا، وضلت عقولهم ضلالا بعيدا، فزعموا أن إبراهيم كان يهوديا أو كان نصرانيا ولقد قال تعالى في ذلك:(1/430)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كانُوا هُودَا أَوْ نَصَارَى).
وإن هذا قلب كما قلنا للأوضاع، فاليهود والنصارى أولاد ليعقوب عليه السلام، وهم تابعون له، ولآبائه، فكيف يقلبون المتبوع ويجعلونه تابعا، ولكنهم يحسبون لغرورهم أن ديانة إبراهيم وأبنائه كانت متفقة مع اليهودية أو النصرانية، اليهود يقولون إنهم كانوا على ديانتهم، والنصارى يبهتون الناس بالكذب فيدعون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا يؤمنون فيما يزعمون بثالوثهم الباطل بطلانا مطلقا، ولتفنيد أوهامهم أمر الله تعالى نبيه أن يرد عليهم ردا طيبا متفقا مع قوله: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. . .)
، وقال الله تعالى لنبيه: (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) كان جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم سؤالا لهم محرجا، كاشفا لهم؛ لأنهم ادعوا أنهم أعلم بعد أن كفروا، وإن قالوا أن الله أعلم فقد كذبوا على أنفسهم، فهو سؤال ينتهي برد كلامهم بأنفسهم، وهو سؤال من علَّمه تعالى الحكمة وفصل الخطاب.(1/430)
وإن أولئك اليهود والنصارى يعلمون أن ملة إبراهيم هي الإسلام، والإيمان الجامع لكل الرسل، ويعلمون ما حرف من التوراة والإنجيل، ويعلمون أن التوراة بشرت بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن الإنجيل بشر بأنه بعد المسيح رسول اسمه أحمد، يعلمون ذلك وغيره وينكرونه، ويكتمونه حتى لَا يعلم؛ ولذلك قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ)، والمعنى أنه لَا أحد أظلم ممن كتم شهادة أودعها الله تعالى في كتابه وما عنده من علم، فالاستفهام هنا إنكاري توبيخي لنفي الواقع والوقوع، فهو نفَى أنه لَا أحد أظلم ممن عنده شهادة من الله تعالى وكتمها، وفي الوقت نفسه أشارت الآية إلى أن ذلك وقع من أهل الكتاب من اليهود فهم يكتمون علم التوراة عن اليهود (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإنْ هُمْ إِلَّا يَظُنّونَ)، فيضلونهم بعلم، ويعلمون الكثير ويكتمونه.
والشهادة هي الخبر الذي يجب بيانه سواء أكان بين يدي القضاء أم لم يكن، فإن هذه الأخبار في التوراة كان يجب بيانها، ولم تكن أخبارًا تقرأ ولا تعلم، ولكنها حقائق يجب أن تعلم وتبين، فالإعلام بها كالإعلام بالشهادة. وقد هددهم الله تعالى بقوله تعالت كلماته (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فهذا وعيد، وإخبار بأمر الله تعالى، وقد نفَى الله تعالى نفيًا مؤكدا أنه غافل عن عملهم، بل إنه سبحانه آخذهم بذنوبهم، فنفَى بما وبالباء الدالة على استغراق النفي.
والغفلة هي: عدم التنبه إلى ما يقع، وهو مأخوذ من الأرض الغفل وهي التي لا معالم فيها ولا بناء، والآية تهديد ووعيد بلا ريب، وقد صور فخر الدين الرازي في تفسيره " مفاتيح الغيب " الوعيد في هذا فقال: هذا هو الكلام الجامع لكل وعيد، ومن تصور أن الله تعالى عالم بسره وإعلانه، ولا تخفى عليه خافية، وأنه من وراء ذلك مجازاته، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، لَا تمضي عليه طرفة عين إلا وهو خائف حذر، ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة السلطان يعد عليه الأنفاس لكان دائم الحذر والوجل، مع أن ذلك الرقيب لَا يعلم إلا الظاهر فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى إذا هدد وأوعد؟؟!!!.(1/431)
وقد نبه سبحانه وتعالى اليهود والنصارى وغيرهم إلى أنه لَا يصح لهم أن يتمسحوا بالأسلاف، فقال تعالى:(1/432)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وقد تكلمنا في معنى هذه الآية الكريمة في ماضي قولنا فلا نعيد ما قلنا في ذكر معاني ألفاظها.
ولكن نتلمس المعنى في إعادة ذكرها ونرى أنها ختام لما يقوله بنو إسرائيل وغيرهم بالنسبة لأسلافهم، ودعوة لهم إلى أن الله تعالى سائلهم عما يعملون هم لا ما عمل أسلافهم.
وأيضا فإن الناس تعودوا اتباع الأسلاف، فالله تعالى يكرر سبحانه أن كل امرئ بما كسب رهين، وأنه لَا تزر وازرة وزر أخرى، ولهم ما كسبوا وعليكم ما اكتسبتم، وأن خير الماضين ليس خيرا لكم وأن شرهم ليس وزره عليكم.
ولقد قال تعالى في ذلك: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا)، وقال تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. . .)، قالً تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى).
* * *(1/432)
القبلة
(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
* * *
اعلم أن القرآن كله متصل الأجزاء غير منفصل بعضها عن بعض، وقد رأينا في الجزء الأول اتصال معانيه ومبانيه اتصالا محكمًا حتى يكاد يكون لكل موضوع منه أجزاؤه المتصلة، فابتدئت سورة البقرة ببيان أقسام من تلقوا علم القرآن بعد الإشارة في ابتدائها إلى أنه الكتاب الكامل الجدير وحده بأن يختص باسم الكتاب.
وقد قسم الذين تلقوه إلى أهل الإيمان، وأهل الكفر، وأهل النفاق، وصور النفاق وأهله بتشبيهات حسية تبين معانيهم النفسية، ثم بين سبحانه قصة خلق آدم ومكانه بين العالمين من جن وإنس وأنه كامل التكوين.
ثم أشار تعالى إلى النعم التي توالت على بني إسرائيل، وتوالي كفرهم مفصلا آثامهم، وقتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم، وقد فصل بعض التفصيل أمر إبراهيم عليه السلام وبنيه من بعده، وحقيقة إيمان المؤمن الجامع الذي يؤمن بكل الرسائل الإلهية والأنبياء الذين جاءوا.(1/433)
وقد ذكر سبحانه أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة هو وابنه إسماعيل، وكان الأمن حول البيت إجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. . .).
وكان من مقتضى النسق أن يذكر عقب أخبار إبراهيم وبنيه، والإيمان الجامع لكل الرسالات الإلهية أن يذكر أمرًا يتعلق بالكعبة المشرفة، وهو أن تكون قبلة المسلمين الذين يتبعون ملة إبراهيم والذين سماهم إبراهيم - خليل الله - المسلمين ولذا قال تعالى:(1/434)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا).
وإن النبي بصريح هذا النص يشير إلى أنه كانت قبلته إلى الصلاة ليست هي الكعبة، وأن الله تعالى حوله عن القبلة السابقة إلى الكعبة، وذلك أنه عندما فرضت الصلوات الخمس عند، الإسراء والمعراج أمر الله نبيه أن يتجه إلى الصخرة حول المسجد الأقصى، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لَا يستدبر الكعبة في صلاته، بل يتجه إلى بيت المقدس واقفا بين الركنين من الكعبة متجها إلى بيت المقدس فكان في الحقيقة متجها إلى الكعبة وبيت المقدس (1).
ولما هاجر كان لَا يمكنه أن يتجه إلى القبلتين، فاتجه إلى بيت المقدس؛ لأن أمر الله بالاتجاه إليه قائم ثابت، ولم يكن من قبل أمر بالاتجاه إلى الكعبة، بل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على ألا يستدبرها تكريما لها وتشريفا، ولأنه كان يتجه إليها قبل الأمر بالاتجاه إلى بيت المقدس، وقد أخطأ من أهل الكتاب من زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إلى بيت المقدس ليتألف قلوب اليهود فما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشرع عبادة أو فرغا من عبادة من تلقاء نفسه،، بل إنه أمر تعبدي من الله تعالى لَا يملك فيه رسوله الأمين تحويلا ولا تبديلا.
وإنه بلا شك كان ثمة ناسخ ومنسوخ، وقد كان المنسوخ هو الصلاة إلى بيت المقدس، والناسخ هو الصلاة متجها إلى الكعبة، ثم إلى بيت الله الحرام.
________
(1) قاله ابن عباس وغيره، وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري: باب الصلاة من الإيمان.(1/434)
ولم يكن الناسخ والمنسوخ ثابتين بالقرآن، بل إن كليهما ثبت بالسنة فالمنسوخ ثبت بالسنة، وهي عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي من الله تعالى، وتحويل القبلة - وهو الناسخ - ثبت بالسنة أيضا، فقد روى البخاري عن البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت، وإن أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد - أي قباء - فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت (1).
ولقد أعلم من يصلون في قباء في صباح اليوم التالي، روى مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة (2).
ونرى من هذا أن استقبال بيت المقدس ثبت بالسنة، وثبت التحويل أيضا بالسنة، والقرآن ذكر آثار التحويل، وما يقوله الناس، وأكد التحويل، والقرآن الذي أشار إليه الراوي في الحديث هو الذي نزل بعد أن تحول النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه بالفعل، وقد تأكد أمر القبلة بقوله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِد الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. . .).
قوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ). قال بعض المفسرين أن الاستقبال هنا موضوع موضع الماضي؛ لأنهم قالوا: وإنما عبر بالمستقبل المؤكد بالسين للدلالة على دوام قولهم إذ قالوه في الماضي، وسيقولونه في المستقبل، فسفه القول لا ينتهي، بل هو يمتد ويكرر ما السفه قائما.
________
(1) سبق تخريجه في المقدمة من رواية البخاري ومسلم.
(2) متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الصلاة (388) ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (820).(1/435)
وإن ظاهر اللفظ يدل على أنهم سيقولون مع ما قالوا، وإن ذلك إخبار من الله تعالى، وخبر الله تعالى لَا يقبل التخلف، ولم يثبت أنهم قالوا ذلك من قبل نزول الآيات، إذ إن نزول الآيات اقترن بالتحويل، أو بعده بقليل وإن لم يكن التحويل به بل كان بوحى من الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، وما كان الله تعالى ليقرئه القرآن وهو يصلي، فإنه عند القراءة كان يقرئه تعالى فقد قال تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19).
وإنا لنستبعد أن يكون إنزال القرآن وإقراؤه وترتيله وهو في الصلاة يصلي، والله على كل شيء قدير.
والسفيه هو: الخفيف العقل، وذلك مأخوذ من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقد يكون السفه نوعيا، فقد يكون متزن العقل حكيما، ويكون في أمور أخرى سفيها، كبعض العرب الذين كان فيهم عقل، ولكن الإدراك الديني فيه سفه، وكبعض أهل الكتاب، فإنهم كانوا في أمور الدين سفهاء، إذا تكلموا سفهوا أنفسهم.
ومن هم السفهاء الذين تكلموا في القبلة متعجبين من تحويلها؛ قال بعضهم: المشركون، فقد توهموا أنه عندما حولت القبلة إلى مكة أن محمدا سيرجع إلى دينهم، وقالوا: لقد اشتاق محمد إلى مولده، وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقال اليهود: لقد التبس عليه أمره، وتحير، واستهزأ المنافقون بالمسلمين، وهم جميعا تساءلوا: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا).
الاستفهام هنا للتعجب الساخر المتهكم المستهزئ - لعنهم الله تعالى - وهم جديرون بهذا بوصف السفه، فليست الحقائق الدينية موضع تهكم إلا ممن سفه نفسه، وكان جهولا، ومعنى وَلَّاهُمْ أي جعلهم يعدلون صارفين النظر عن القبلة التي كانوا عليها، وهي بيت المقدس، فالتولية معناها العدول أو الانصراف أو الإعراض، وإن هذا السؤال يدل على جهلهم وعتوهم في الفساد؛ لأنهم نسوا أنهم يعترضون على الله تعالى.(1/436)
ولقد رد الله تعالى آمرًا النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قُل لِّلَّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) وقد أمر الله تعالى: بأن يتولى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرد عليهم، لأن الاعتراض المتهكم كان على النبي وأصحابه، وهم يرمونه بالتحير، وكان الرد (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)، أي أن الله تعالى مالك الأرض شرقيها وغربيها وشماليها وجنوبيها، وذكر الشرق والغرب؛ لأن من ملكهما ملك الأرض كلها، لَا فرق بين قريب وبعيد، وإذا كان هو المالك ملكية مطلقة للأرض، فهو يتخير لموضع قبلته ما يشاء من أرضه وليس لأحد سلطان فيما يريد، وهو يختار من أرضه مايراه أصلح وأقرب وأنسب، وقد اختار البيت الحرام، كما اختار من قبل بيت المقدس، والبيت الحرام بناء إبراهيم وأول بيت وضع للناس، وهو كما قال علماء الكون في وسط الأرض، واختصه الله تعالى بأن به وحوله مناسك الحج، وقالوا إنه منذ خلق الله تعالى مكة لم يكن بها زلزال ولا خسف، فكأن الله تعالى قد أمنها من هذه الظروف الكونية، كما كان الناس فيها آمنين من القتل، وجعله سبحانه وتعالى حرما آمنا، ويتخطف الناس من حولهم.
ولقد بين سبحانه وتعالى أن هذا الذي اختاره من قبلة هو الهداية لايرضي به إلا من هداه الله تعالى، فذيل الآية بقوله تعالت كلماته: (يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) أي أن الله تعالى بحكمته كان في عباده من اهتدى، وكان في عباده من ضل وغوى، فمن سلك الجدد، وحارب هواه، ووسوسة الشيطان، فإن الله تعالى يأخذ بيده، ويوجهه إلى صراط - أي طريق - مستقيم، والطريق المستقيم هو أقرب الطرق للوصول إلى الغاية، إذ إن الخط المستقيم أقرب خط بين نقطتي الابتداء والانتهاء.
وإن الله تعالى اختار خير أماكن الأرض لتكون قبلة الناس، وهي وسط الأرض وخير بقعة فيها، لما ذكرنا من مناقب لهذا البيت، ولأن منشئها أول نبي عرف بأنه حطم الأوثان، وجعلها جذاذا، ولقد كانت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - آخر محطم للأوثان - والذي جعلها جذاذا مطروحا - خير أمة، وإنه كما اختار الله خير بقعة في الأرض لتكون قبلة إذ أنشأها محطم الأوثان فكذلك جعل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير أمة أخرجت للناس، ولذا قال تعالى:(1/437)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا).(1/437)
الوسط " يطلق " بإطلاقين أحدهما الشيء المتوسط " أو الأمر المتوسط بين أمرين أو نحو ذلك مما يكون متوسطا، الثاني - الوسط بمعنى الخير، ومن ذلك قوله تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكمْ لَوْلا تُسَبحونَ)، أي: قال أعدلهم، ويقال وسط الوادي أي خير موضع فيه.
ولقد قال القائلون بالتفسير الثاني: إن الوسط كان خيرا، لأنه متوسط بين طرفين كلاهما إثم أو باطل، إذ الوسط مجانبة للغلو والتقصير، فاليهودية قصرت في حق الأنبياء، فقتلتهم، والنصرانية غلت في حق نبي فعبدته، فكان الوسط ألا يكون غلو ولا تقصير، بل تلق للرسالة، وإيمان بها، ولقد أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " خير الأمور أوسطها (1)؛ لأن الأوسط بعيد عن الغلو والتقصير ولقد أثر عن علي بن أبي طالب أنه قال: " عليكم بالنمط الأوسط فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل ".
ولأن التوسط خير دائما، صار يطلق الوسط على الخير فيقال عن أفاضل الناس أوساطهم، وعن خيار الأمور أوسطها، وكل موضع فيه إصلاح أو صلح بين الناس يقال فيه وسط.
والنسبية في قوله تعالى: (وَكَذَلكَ جَعَلْنَاكُمْ) من المشابهة بين خيرية الكعبة وخيرية الأمة، والمعنى كما جعلنا لكَم الكعبة قبلة، وهي خير بقعة في الأرض جعلناكم أمة وسطا.
وقد فسر بعض العلماء الوسط هنا بالإطلاق الأول، وهو التوسط بين أمرين، ومعنى التوسط أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فوق الأمم ودون الأنبياء، وهم على ذلك خير
________
(1) حديث: " خَيْرُ الأمُورِ أوْسَاطُهَا. رواه ابن السَّمعانيّ في (تاريخه)، من حديث عليّ بسند فيه من لَا يُعرف حالُه. وأخرجه ابن جرير في (تفسيره) من كلام مطرِّف بن عبد الله، ومن كلام يزيد بن مرَّة الجعفيّ. وروى أبو يعلى عن وهب بن منّبه قال: " إِنَّ لكُل شَىء طَرَفَيْنِ وَوَسَطا، فَماِذَا أمْسكَ أحَدُ الطَّرفَيْنِ مَالَ الآخَرُ، وَإِذَا أمْسِكَ الوَسَطُ اعتدَلَ الطَّرفَانِ. فَعَلًيْكُمْ بِالأوْسَاط مِنَ الأشياء ". [الدرر الَمنتثرة - ج 1 ص 415، وروى ابن ماجه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه قَالَ: كَان رَسُولُ الَلَّه - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خًطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلا صَوْتُهُ وَاشْتَد غَضَبُهُ كَأنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشِ. . . إلي أن قال: وَيَقُولُ: " أمَّا بَعْدُ فَإنَّ خَيْرَ الأمُورِ كتَابُ اللَّه وَخَيْرُ الْهَدْي هَدْىُ مُحَمَّدِ وَشَرّ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلّ بِدْعَةِ ضَلالَةٌ ". [المقدمة: اجتناب البدع والجدلَ (44)].(1/438)
الأمم وأعدلهم، وأقومهم سبيلا، وإن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - تعلم الناس، وإن محمدا يعلمها.
وفسرها بعض العلماء بأن معنى (أُمَّةً وَسَطًا) أي أمة عادلة قويمة ارتضاها الله تعالى دون غيرها من الأمم كما قال: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. . .).
ولماذا كانت أمة محمد الذين يتبعونه ويهتدون بهديه خير أمة أخرجت للناس؟ الجواب عن ذلك أن خيرية هذه الأمة أو كونها فوق الأمم كانت لأنها بعيدة عن غلو النصارى في عيسى، وسقوطها في الأوهام الباطلة، وبعيدة عن حسد اليهود ومقتهم لكل حق، وفوق ذلك أنها تؤمن بجميع الأنبياء كما تلونا قوله تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136).
فهي أمة الكمال الديني الجامع، وفوق ذلك هي الشمالية لملة إبراهيم حقا وصدقا، من أجل هذا الإيمان الكامل بالأنبياء جميعا والشرائع السماوية كلها، كان لهم حق الشهادة على غيرهم بأنهم آمنوا بالله الإيمان الكامل، هل آمنوا برسالاته الإلهية، أم لم يؤمنوا، ولذا قال تعالى: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرسولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).
أي تشهدون للناس بأنهم آمنوا بمثل إيمانكم، والرسول يشهد لكم بأنكم آمنتم بالله الإيمان الكامل وآمنتم بوحدة الرسالة الإلهية، فالرسول يشهد بإيمانكم الذي يسمح لكم بأن تشهدوا على غيركم، فمقياس الإيمان وميزانه عندكم.
واللام في قوله تعالى (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) هي للتعليل، أي لكونكم وسطا وعدولا في إيمانكم تكونون شهداء على الناس، مع شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم -(1/439)
عليكم، فالخيرية التي اتسمتم بها هي علة الشهادة، وهي باعثها، والسبب في أنكم فوق الناس تحكمون لهم أو عليهم (1).
ويصح أن تكون (اللام) ليست للتعليل، وتكون للعاقبة أو الغاية، والمعنى أن خيريتكم أو كونكم فوق الناس ودون الأنبياء غايتها وثمرتها أن تكونوا شهداء على الناس، وأن يكون الرسول شاهدا عليكم، بأنكم استحققتم هذه الخيرية. والشهداء يصح أن تكون جمعا لشاهد، أو جمعًا لشهيد، وقد ذكرنا أن منِ جمع الشاهد، قوله تعالى: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ. . .).
وهنا أنسب أن تكون جمعا لشهيد، وذلك لأن الله تعالى ذكر المفرد في قوله تعالى: (وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) والشاهد هو الحاضر الذي يعاين الأمر الذي يشهد عليه، وهذا الأمر الذي يعاينه، وينظر إليه إما أن يكون بعينه المبصرة، وإما أن يكون ببصيرته المدركة المؤمنة الفاهمة، ولا شك أن الشهادة في هذا المقام تكون بالأفئدة التي في الصدور، لَا بالأبصار التي ترى الحسيات، ويصح أن تكون رؤية القلوب واضحة بينة كرؤية الأبصار.
وهنا إشارة بيانية يجب أن نذكرها، وهي أنه تعالى عدَّى الشهادة بـ " على " دون اللام، فقال تعالى: (ولِّتَكُونُوا شئهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) مع أن الشهادة قد تكون لهم، وقد تكون عليهم. والجواب عن ذلك أن الشهادة هنا حكم، أو هي متضمنة معنى الحكم، ولذا تعدت بعلى، لتكون بمعنى الحكم، وقد تكون الشهادة بمعنى تعليم الناس، وشهادة الرسول بمعنى تعليم أمته.
وقد يسأل سائل: لماذا كانت القبلة أولا إلى بيت المقدس، ثم حولت إلى الكعبة، بعد أن كانت في مكة ملتزمة إلى أمد يسير؛ إذ كان مع الاتجاه إلى بيت
________
(1) عَنْ أبِى سَعيد الْخُدْرِى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] " وَالوَسَطُ: العَدْلُ. [رواه البخاري: كتاب تفسير القرآن (4127)].(1/440)
المقدس كان الاتجاه أيضا إلى الكعبة بعدم استدبارها كما نقلنا فيما سلف من قول.
ونقول في الجواب عن ذلك إن هناك بيانا لحكمة ذلك ذكره القرآن الكريم، وحكما أعظم وأعلى، وهناك سبب قد نتلمسه والسبب الذي نتلمسه هو أولاً: بيان وحدة الأديان السماوية، وثانيًا: الإشارة إلى أن بيت المقدس مسجده مقدس كالكعبة، وإن كان دونها تقديسا، وثالثًا: إن الكعبة كانت الأصنام تحوطها في ذلك الوقت. وأن التحويل إلى الكعبة كان إيذانا بتحطيم الأوثان وزوال دولتها؛ إذ كان التحويل في النصف من شعبان، وكان يوم الفرقان بغزوة بدر حول منتصف رمضان كما هو ثابت في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي سيرة الإسلام.
هذا ما نتلمسه وقد يكون غير ذلك.
أما ما ذكره الله سبحانه وتعالى، وهو المحكم الذي لَا يأتيه الباطل أبدا، فقد ذكره سبحانه في قوله تعالت كلماته: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) أي ما جعلنا القبلة التي كنت عليها متبعًا في صلاتك لها إلا لنعلم من يستمر على تبعيته للرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن ينقلب على عقبيه.
وما القبلة التي كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -: أهي بيت المقدس؛ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتجه إليه قبل هذا التحويل، وذلك ظاهر، لَا يحتاج إلى تأويل. . أم هي الكعبة؟، وهي التي كان عليها بمكة، وإن اشترك معها الاتجاه إلى بيت المقدس بأمر ربه كما ذكرنا من قبل، وكان يتجه إليهما، ولم يتغير ذلك الاتجاه إلا بعد أن هاجر، وللمفسرين في ذلك اتجاهان:
أولهما - أن القبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس، وقد كان الاختبار للمهاجرين، وللذين دخلوا في الإسلام، وفي قلوبهم مرض أو ضعف في الإيمان.
أما المهاجرون فقد ألفوا البيت الحرام، والاتجاه إليه، وقد كان مطافهم وشرفهم في الجاهلية، وقبلتهم في الإسلام، وإن كان الله تعالى قد أمر بالاتجاه إلى بيت المقدس، فقد كانوا يتجهون للاثنين على ما أشرنا وروينا، فكانت القبلة على ما(1/441)
ألفوا من غير منافرة ولا استدبار لها، فلما كانت الهجرة، وكانت القبلة إلى بيت المقدس فقط، واستدبروها كان الاختبار، وقد أحسنوا الاختبار، وما كان لمهاجر في سبيل الله أن يرتد على عقبيه.
وأما الذين في قلوبهم مرض، فكان الاتجاه إلى بيت المقدس ثم التحول عنه مظهرا ما بطن من كفر المنافقين، ومن ضعف إيمان من الضعفاء في إيمانهم ولذا ارتد منهم من ارتد، وأظهر الكفر من أظهر فمحص الله الذين آمنواء هذا على تفسير القبلة التي كانوا عليها ببيت المقدس.
ثانيهما - تفسيرها بالكعبة، فالمعنى على هذا: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها، وهي الكعبة قبل الهجرة، ثم الرجوع إليها إلا للاختبار، وقد وقع من المنافقين ما أظهر ما كانوا يخفون، وارتد بعض ضعقاء الإيمان، وبذلك كان التمحيص، وقد فسر بعضهم (كُنتَ عَلَيْهَا)، وهي الكعبة بمعنى صرت عليها، مثل قوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. . .)، أي صرتم بإيمانكم خير أمة أخرجت للناس.
وإني أرى أن تفسيرها ببيت المقدس هو الأقرب والأظهر، والتفسير لكتاب الله تعالى بما يكون ضاحيا واضحا أولى وإنه لَا يحتاج إلى تأويل، ومن المقررات اللغوية أن ما لَا يحتاج إلى تأويل أولى مما يحتاج إلى تأويل.
ولقول الله تعالى: (وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) أي وإن كانت القبلة في تحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة لكبيرة إلا على الذين أودع الله قلوبهم هداية ثابتة مطمئنة لَا تزعزعها الرياح، ولا مكان فيها للشبهات التي يثيرها من لا يؤمنون.
ف " إن " هنا مخففة من " إنَّ " الثقيلة، والدليل على ذلك دخول اللام المؤكدة، وهي لَا تدخل على " إنْ " إذا كانت نافية، وكانت دالة على تأكيد القول ببقاء الحال لمن ضل، وبعدها عمن اهتدى.(1/442)
والله سبحانه وتعالى العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما يبين أن الاختبار كبير لَا يثبت فيه من تزلزل إيمانه الشبهات وتطيحه الشكوك؛ ولذلك أكد عظم الاختبار بـ " إن " المخففة من الثقيلة وبالفعل الماضي (كانت) وباللام.
بقى أن نشير إلى أمر لابد من بيانه، وهو قوله تعالى: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) وهو: هل كان الله تعالى لَا يعلم من يتبع الرسول من غيره، وهو يحيط يكل شيء علما؟ ويجاب عن ذلك بجوابين:
أولهما - أن علم الله تعالى محيط بكل شيء، وهو يعلمه من قبل أن يقع، ومن بعد وقوعه ويعلمه واقعا، فذلك العلم لَا غيره هو الذي يظهر به الفعل ويستبين، فالمعنى ليظهر من يتبع ممن لَا يتبع، وليتبين الآثم من المطيع ومن يستمر على اتباعه ومن ينقلب على عقبيه.
والثاني - أن الضمير في (لِنَعْلَمَ) ليس لله وحده، ولكنه للجماعة المؤمنة والنبي - صلى الله عليه وسلم - مع الله تعالى، وكون الله معهم لَا يستلزم أنه لَا يعلم، إنما الذي لا يعلم هم المؤمنون، فالاختبار وظهور الطائع المتبع، والعاصي المرتد على عقبيه إنما هو للمؤمنين وهم داخلون في قوله تعالى: (لِنَعْلَمَ). والتعبير عن الأعلى، ويقصد من دونه كثير في اللغة العربية فإذا قال رئيس دولة استولينا على كذا، فإن الاستيلاء الفعلي يكون من الجند لَا منه، وكأن يقول رئيس دولة صادقا أو غير صادق نظمنا الإدارة، وأحكمنا العمل، والذي عمل ونظم غيره.
وقد عبر سبحانه وتعالى عن الذين لم يحسنوا البلاء وكشفهم الاختبار فارتدوا أو أعلنوا كفرهم، وما كانوا مؤمنين بقوله تعالى: (مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) والعقب هو مؤخر القدم، والمرتد على عقبيه، هو الخارج عن الإسلام، وهذا التعبير (عَلَى عَقِبَيْهِ) استعارة تمثيلية، فقد شبه الخارج عن الإسلام الذي دخل فيه أو أوشك أن يدخل الإيمان قلبه بحال المرتد إلى الوراء سائرا على عقبيه، سيرا مضطربا غير متماسك، فقد سجل عليه أنه رجع إلى الوراء بعد أن تقدم إلى الأمام، وأن رجوعه مضطرب بغير خطوات تسير بل على الأعقاب ينقلب، وهذا التشبيه على أساس أن الانقلاب بمعنى الرجوع إلى الوراء، بعد أن سار بضع خطوات إلى الأمام.(1/443)
ويصح أن يفسر الانقلاب بمعنى أن يجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، فيكون المعنى أنه شبه حال من يرتد بحال من انتكس فصار رأسه في أسفل، وعقباه في موضع رأسه، وفي هذا بيان أن من تكون هذه حاله معكوس منكوس قد نقض إنسانيته وكل مقومات الإنسانية في نفسه.
وإن بعض المؤمنين خافوا من أن تضيع صلاتهم الماضية، وخصوصا أن بعضهم قد مات، وصلاته بعد الهجرة كانت على القبلة إلى بيت المقدس، فشكا الأحياء منهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الله تعالى مطمئنا أنه لَا تضيع صلواتهم؛ ولذا قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيضِيعَ إِيمَانَكُمْ) والمراد من الإيمان هنا الصلاة، وعبر عن الصلاة بالإيمان؛ لأن الصلاة ركنه، وقوامه، فلا يعد الاعتقاد والإذعان إيمانًا من غير صلاة متجهة إلى الله تعالى، وإذا كان الاعتقاد به سلامة النفس والعقلِ، فالصلاة بها تأليف القلوب، وتطهيرها من الآثام، وقد قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنهى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. . .)، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا دين من غير صلاة " (1) فالتعبير عن الصلاة بالإيمان بيان لمكانها.
ولقد عبر سبحانه عن أن الله تعالى لَا يضيع الإيمان بقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيضِيعَ إِيمَانَكُمْ)، أي ما كان من شأن الله تعالى، وسنته في الوجود أن يضيع إيمان المؤمنين، ونفي الضياع يقتضي غيره والجزاء عليه بثوابه عنه يوم الحساب، وإن الله تعالى لَا يضيع عمل عامل، فقد قال تعالت كلماته في استجابة دعاء الضارعين إليه: (فَاسْتَجَابَ لَهمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضيعُ عَمَلَ عَامِلٍ منكم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثَى بَعْضكُم مِّن بَعْضٍ. . .)، وقال تعالى: (إِنَّا لَا نُضيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، فذلك شأن الله وما سَنَه، وهو العادل الحكيم.
وإنه لَا عقاب من غير شرع ينزل ببيان الأمر والنهي، فالذين صلوا على القبلة التي كانوا عليها كانوا طائعين، ولم يكونوا مخالفين عاصين، ولا عقوبة في طاعة.
________
(1) عن ابنِ عمرَ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " لَا إِيمَانَ لمَنْ لَا أمانَةَ له، ولا صَلاةَ لمَنْ لَا طُهورَ له، ولا دينَ لمَنْ لا صَلاةَ لَهُ، إِنَّما مَوْضِعُ الصَّلاة مِنَ الدينِ كمَوْضِع الرَّأْسِ مِنَ الجَسَد ". [رواه الطبراني في الَأوسط والصغير وقال: تفرد به الحسين ابنَ الحكم الحِبْري. وانظر مجمع الزوائد (4161)].(1/444)
وإن الله مع ما ذكر رؤوف رحيم؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) الرأفة في معناها اللغوي أشد من الرحمة، أو أعلى منها، وإن هذين الوصفين من صفات الذات العلية أو من أسماء الله تعالى، وهما متغايران وإن لم يكونا متعارضين، بل هما في حقيقتهما متلازمان، فحيث كانت الرأفة كانت الرحمة لا محالة، فالله رحيم بعباده في غفران ذنوبهم، وفي نعمه عليهم ظاهرة وباطنة، وفى كشف الضر عنهم، وفي قبول توبتهم، وفي أنه منع اليأس من رحمته، وهكذا وسعت رحمة الله تعالى كل شيء، ولو كان في بعض الرحمة آلام، كقطع العضو المئوف ليسلم الباقي.
والرأفة في أن الله يريد توبة العاصي، ولا يريد به خسارا، وفي الهداية إلى الصراط المستقيم، فيعين من كتب عليه الخروج من الشقاء، وهكذا نجد الرحمة والرأفة متقاربتين، وإن كانتا متغايرتين كتغاير الأخ عن أخيه، وإن الرأفة رحمة صافية لَا ألم فيها، أما الرحمة فقد يكون فيها ألم كالرحمة بالمريض في أخذ الدواء المر. وقد أكد سبحانه وتعالى وصفه بالرأفة والرحمة بالوصف برءوف ورحيم، وبالجملة الاسمية وبالتأكيد بإن، وباللام. نضرع إلى الله تعالى أن يعمنا برحمته، وأن يغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا، ويهدينا، إلى سواء الصراط، وأن يرحم المسلمين بالرجوع إليه.
* * *
(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ(1/445)
آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى أنه سيقول السفهاء: ما ولاهم عن قبلتهم، وأن منهم أهل الكتاب، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتجه إلى ربه بقلبه ووجهه راجيا أن تكون القبلة هي البيت الحرام، فكانت إجابة هذه الرغبة، وكان التحويل، والسفهاء قالوا ما قالوا، ولجَّ بنو إسرائيل في سفههم، وهم يعلمون أنه الحق، وهو تحويل القبلة إلى بيت الله الحرام، وقد قال الله تعالى في ذلك:(1/446)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرجو أن يحول من بيت المقدس إلى البيت الحرام؛ لأن الكعبة بناء إبراهيم، ولأن ملته هي ملة إبراهيم، ولأنه مثابة الناس وأمنهم، ولأنه مجتمع العرب، ومؤتلفهم، ولأن في الاتجاه إليه تأليف قلوبهم، ومعنى تقلب الوجه الكريم أن يخفضه خضوعا، ويرفعه رجاء، فالتقلب التردد بين الرفع لله راجيا ضارعا أن يحوله إلى قبلة يرضاها، وترضي العرب، ولا يكون فيها تابعا لبني إسرائيل، بل يولى وجهه إلى قبلة إبراهيم وإبراهيم أبو الأنيياء.
فتقلب الوجه، هو الضراعة إلى الله تعالى لكي تكون القبلة هي البيت الحرام، والرجاء منه بأن يتجه إلى السماء داعيا، وراجيا أن ينزل قرآن بتحويل القبلة.
وقد قصر بعض المفسرين تقلب الوجه وتردده بين رفعه ضارعا، وخفضه خاضعا على رجاء نزول قرآن بالتحويل، وظن أن الدعاء بتحويل القبلة تقدُّم بالطلب على الله تعالى، والحق أن التقلب لرجاء الوحي وللضراعة إليه والدعاء، وليس في(1/446)
ذلك تقدم على الله في طلب شرعه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام فهم أن الاتجاه إلى بيت المقدس ليس دائما، وأنه سيعود إلى بيت الله الحرام، فهو إذا دعا بذلك وتلصرع إنما يستنجز وعد الله تعالى، ويرجو أن ينزل قرآن بذلك.
ولقد أجابه سبحانه إلى ما يرضيه ويرجوه فقال تعالى: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) الفاء هنا تشير إلى أن ما قبلها سبب لما بعدها؛ أي أن الله تعالى استجاب لرجاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعائه، وقوله: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) معناها لنمكن لك ونعطيك القبلة التي ترضاها، من قبيل وليت الأمير أي جعلته واليا، فالمعنى لنحطينك القبلة التي ترضاها، أو لنولين وجهك ناحية القبلة التي ترضاها.
وقد أكد الله تعالى إجابة مطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو دعائه ورجائه بالقسم المطوي في الكلام الذي دل عليه جواب المصدر بلام القسم، وتقدير القول: فوالذي يحلف به لَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، وهي الحق الذي قدره الله تعالى في علمه المكنون أن المسلمين على ملة إبراهيم عليه السلام، فلابد أن يتجهوا إلى بنيته.
وإن هذه الآية في معناها سابقة على قوله تعالى: (سَيَقول السُّفَهَاء. . .)؛ لأن تقدير قول السفهاء لَا يكون إلا بعد أن حولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، كما نص القرآن الكريم.
وقد بين سبحانه القبلة بقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) والفاء للتفريع عما قبلها، والوجه المراد به حقيقة الوجه؛ لأنه يتجه بوجهه نحو البيت الحرام، وقد يراد به الشخص كله]. ويكون الوجه المراد به الذات، والتعبير بالوجه غن الذات؛ لأنه الذي تكون به المواجهة، ولأنه أظهر جزء في جسم الإنسان.
والشطر الناحية والاتجاه، والنحو، ولقد جاء في تفسير أبي السعود العمادي: وقيل الشطر اسم لما ينفصل من الشيء، ودار شطر، إذا كانت منفصلة عن الدور، ثم استعمل لجانبيه وإن لم ينفصل.(1/447)
ويستعمل أيضا في نصف الشيء أو جزئه، ومهما يكن من الأصل اللغوي فالمراد هنا الجهة أو الناحية أو نحو ذلك، والبيت الحرام قبلة الناس في مشارف الأرض ومغاربها، روي عن ابن عباس أنه قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي " (1).
وقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الخطاب فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو إجابة لما رجاه، فخصه أولا بالإجابة إرضاء وتقريبا وإيناسا، وتشريفا، ولتبيين منزلته عند الله تعالى.
وقد بين من بعد ذلك أن هذا حكم عام، وليس بخاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (وَحَيْثُ مَا كنتُمْ فَوَلُّوا وُجوهَكمْ شَطْرَهُ).
وقد كان النص السابق ربما يفيد معنى الخصوص، وإن كان لَا يدل عليه، فقد يفيد خصوص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخصوص المكان الذي يقيم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان هذا النص يفيد عموم الخطاب، وعموم الناس، وعموم الأمكنة، وكل يتعرف مكانه وموضع اتجاهه، ففي أي مكان حيث يكون يتجه إليه مجتهدا يتعرف مكان اتجاهه، جاعلا وجهه صوب الكعبة على جاتب من جوانبها، وعلى أي ريح من ريحها ما دام متجها نحوها، غير مستدبر لها.
وقد أشار القرآن الكريم إلى سفه الذين قالوا ويقولون: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا. . .)، وكان اليهود مبعث هذا التشكيك، وإن كانوا لم ينالوا فيه مأربا. وقد بين سبحانه وتعالى أنهم دائبون على إنكارهم وسفههم، وإثارتهم للريب وإن لم يستطيعوا، فقال تعالى مبينا مبالغتهم في الجحود مع علمهم بالحق: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) والضمير في قوله
________
(1) رواه البيهقي في سننه: باب من طلب باجتهاده الكعبة (2266) ج 2 ص 280. وانظر نصب الراية للزيلعي (52) ج 1 ص 253.(1/448)
تعالى: (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ) قد يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حاضر في الأنفس وفي العقول فكأنه حضور عقلي لَا يقل عن العود على مذكور، لأنه مبشر به في كتبهم، معلوم عند أحبارهم، ومعنى (أَنَّهُ الْحَقُّ) أي أن ما جاء به هو الحق، فليس فيما أتي به الباطل.
ولعل ذلك قد يكون بعيدا من ناحية الصياغة البيانية، لَا من ناحية الحقائق المنزلة؛ ولذا نرجح أن الضمير يعود على التحويل أو التولي الذي رجاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقلب وجهه رجاء أن ينزل به وحي الله تعالى، ورجحنا ذلك؛ لأنه في الموضوع، ولأن السياق البياني يتلاقى معه، ولأنه الجدير بأن يوصف بالمصدر وهو الحق، فالنبي عند الكلام في شأنه يقال إنه جاء بالحق أو الصدق، أو نحو هذا من البيان.
وإن ذلك هو الحق عندهم، فقد علموا مما عندهم من كتب أن النبي وجُدُودُه كانوا في " (اران)، وأن (فاران) هي بيت عبادة أولاد إسماعيل، و (فاران) هي مكة وما حولها.
وأكد الله تعالى علمهم بالحق فقال: (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) فأكد سبحانه كونه الحق بأن المؤكدة، وبالقصر بتعريف الطرفين، فهو الحق، ولا حق سواه، ثم إنه وصفه بأنه من عند ربهم الذي خلقهم ورباهم، وخلق الأرض كلها، وله مشارق الأرض ومغاربها، فهو أعلم حيث تكون القبلة التي يختارها كما أنه أعلم حيث يجعل رسالته.
ثم بين ما يعقب أقوالهم وإثارتهم للريب، فقال تعالت كلماته: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِل عَمَّا يَعْمَلُونَ) أي أن الله تعالى عليم بهم علم من لَا يغفل عن أفعالهم من بث للشك، وغمز من القول، ومنهم ساخر بأعمال الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي هي من عند ربه، فهم مراقبون في أعمالهم، وذنوبهم وآثامهم لَا تخفى عليه، و " هو آخذهم بها يوم القيامة.(1/449)
إذا كان الذين أوتوا الكتاب قد أثاروا عاصفة من الشك حول تحويل القبلة من بيت القدس، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، فليس ذلك لجهل منهم بالحق كما بينا، ولكن للتعصب الذي استولى على قلوبهم، والتعصب إذا سكن القلوب حال بينها وبين الإدراك السليم فلا تغني الآيات والنذر، ولا تزيدهم البينات إلاخسارا؛ لذا قال تعالى:(1/450)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعوا قِبْلَتَكَ).
اللام في قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ) هي اللام الموطئة للقسم أي الدالة على أن ثمة قسما محفوظا، وأن جوابه سد مسد جواب الشرط، وهو (مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) أي والذي يقسم به إن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية قاطعة ملائمة للعقل الحر الخالي من العناد والتكبر والتعصب لكي يتبعوا قبلتك ما اتبعوها؛ لأنهم ليسوا طلاب حق يقنعهم الدليل، بل هم معاندون مكابرون، لَا تزيدهم الحجة القوية إلا إصرارًا، ولقد قال تعالى: (بِكُلِّ آيَة)، أي لو جمعت الحجج كلها، ورميت بها، ما تزايلوا عن إنكارهم الذي سيطر عليهم عداوة وبغضاء واستكبارا.
وقال المفسرون: إن الكلام السامي فيه إظهار في موضع الإضمار فقد قال: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) وكان موضع الإضمار، لأنهم ذكروا بهذا الاسم في الآية السابقة، وكان الإظهار لبيان موضع الإنكار عليهم في تعصبهم، وإنغاض رءوسهم عن الحق وقد قاصت أماراته وأدلته مما بين أيديهم، ومع ذلك إذا زدتهم آيات أخرى ما تبعوا قبلتك.
ولقد قال الله تعالى بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه لَا يتبع قبلتهم، لأن الحق لا يخضع للباطل المعاند المستكبر، ولذا قال: (وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) أي أنت على الحق، ولست بتابع باطلهم، وقد أكد سبحانه وتعالى أنه عليه الصلاة والسلام لا يتبع قبلتهم بالجملة الاسمية الدالة على استمرار نفي تبعيته عليه السلام لقبلتهم، وبضمير الخطاب وهو أنت، أي أنت بصفتك التي في علمهم، وهو أنك المرسل وهم الكذابون المبطلون، وأكده أيضا بالباء في (بِتَابِعٍ) الدالة على استغراق النفي(1/450)
وتأكيده، وكان النفي وكانت المحاجة موجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقومه في اتباع القبلة تبعًا له وهم من ورائه وهو إمامهم.
كان النفي وكانت المحاجة موجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم كانوا يحاجون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو عليه الصلاة والسلام الذي يمكنه أن يأتي لهم بكل آية، ولقد روى إن اليهود عندما تحولت القبلة أصابهم غم شديد بمقدار ما كان قد أصابهم من فرح عندما كانت القبلة متجهة شطر بيت المقدس، وقد كانوا يقولون: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكوِن صاحبنا الذي ننتظره وكان ذلك تغريرًا وخداعا، (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهمْ وَمَا يشْعُرونَ).
وإنه في الواقع أن أهل الكتاب ليست لهم قبلة واحدة، فاليهود لهم قبلتهم إلى الصخرة كما سارت عليه تقاليدهم، والنصارى كانت قبلتهم إلى المشرق حيثما كانوا كما روته التقاليد، لَا كما جاءت به نصوص عندهم، ولقد عبر القرآن بإفراد القبلة دون جمعها مع تعددها؛ لإثبات أنها كلها باطلة في أصلها، لانتهاء دياناتهم، وبطلان ما هم عليه، بما فيها قبلتهم.
ولقد قال تعالى في اختلاف قبلتهم: (وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) أي ليس اليهود قابلين لأن يتبعوا قبلة النصارى إلى المشرق حيثما كانوا، كأنهم يعبدون الشمس في شروقها في مطلعها، وليس النصارى بمختارين قبلة اليهود قبلة لهمْ، فكلا الفريقين يتعصب لقبلته، ويعاند الآخر، ويستكبر عن اتباع قبلته، فهم في عناد مستمر، وكلاهما يتبع هواه، ولا يتبع نصا جاء به دينه، فليس في التوراة نص على قبلة معينة حتى يكون ما هم عليه اتباعا لنص، وكذلك النصارى ليس في الإنجيل نص على قبلة، وإنهم بعد نزول القرآن وبيان القبلة يتمسكون بأهوائهم في التعصب والعناد؛ ولذا قال تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).
أي لئن اتبعت ما يدعون إليه، وليس له مصدر ديني عندهم، وهو يخالف ما جاءك من العلم الحق في أمر القبلة وغيرها فقد اتبعت الهوى، والأهواء جمع هوى، وهو ما يبتدعونه على حسب هواهم، إذ اتخذوا إلههم هواهم، ومن اتبع(1/451)
هوى الفاسدين الذين يكون هواهم منبعثا من شهواتهم الجامحة لَا من دين " اتبعوه، ولا من نصوص، بل هواهم، وليس كمن قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " (1)، بل أهواؤهم تبعا لشهواتهم، وتبعًا لانحراف في نفوسهم.
لَئِنِ اللام فيها دالة على القسم، والجواب جواب القسم وقد سد مسد جواب الشرط، وهو قوله تعالى منبها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أنه لَا يقع في اتباع أهوائهم إلا الظالمون (إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) ففي هذا تحذير للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ظاهر اللفظ وهو تحذير لأمته، وخصوصا من يقعون تحت مثل هذا الإغراء بإِتيان الهوى، وإنه يجب الحذر من أن يكون في سلك الظالمين.
وقوله تعالى: (إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) فيه إذن الدالة على الشرطية والجزاء والدالة على ترتب الحكم على ما كان من اتباع أهوائهم، إذ معنى إذن، أنه إذا كان ذلك الاتباع قد وقع، فبسببه تكون من الظالمين، فوقوع (إذن) بين اسم إن وخبرها فيه إشارة إلى سبب الحكم وهو هذا الاتباع الذي لَا يمكن أن يكون ممن جاءه العلم النبوي بمقتضى الرسالة الإلهية. .
هذا وإن الكلام فرضي لَا واقعي، ولكنه فرضي فيه تحذير من الوقوع فيه، فالمعنى: إن فرض واتبعت أهواءهم مع علمك ببطلان ما عندهم، فقد سايرت الذين ظلموا ورسخوا في ظلمهم، فإنك إذن معدود في سلكهم وجمعهم الآثم. وقد أكد الله سبحانه وتعالى الظلم ممن يتبع الهوى، وهو عالم غير غافل أولا بإِن، وثانيا باللام، وثالثا بالجملة الاسمية الدالة على الاستمرار والثبات، وإن ذلك كله للتحذير من اتباع الهوى، وموافقة الآثمين في إثمهم، والله سبحانه وتعالى هو العاصم من الضلال.
* * *
________
(1) عن أبِى هُرَيْرَة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يُؤْمِن أحَدكُمْ حَتَّى يكون هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ " أخْرَجَهُ الْحَسَن بْن سُفْيَان وَغَيْره، وَرِجَاله ثِقَات، وَقَدْ صَحَّحَهُ النَوَوِى فِى آخِر الأرْبَعِينَ. [فتح الباري: يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم (6764)].(1/452)
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
* * *
إن أهل الكتاب جادلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر رسالته، وقد كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا بالنبي المنتظر في حروبهم مع المشركين، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وقد جادلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر القبلة، وظنوا أنهم يستطيعون إغراءه عليه الصلاة والسلام بقبلتهم، وهم يعلمون أن أمرها معروف في التوراة عندهم، ولهذا سجل الله تعالى معرفتهم له - صلى الله عليه وسلم - معرفة مستيقن وهو علم جازم قاطع فقال تعالى:(1/453)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُئم الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) وذلك تشبيه يفيد اليقين في المعرفة، فإن الإنسان لَا يمكن أن يجهل ولده الذي يعرف نسبه ساعة من زمان ما دام عاقلا مدركا، وقد يجهل نفسه في الوقت الذي لم يكن قد بلغ فيه سن التمييز، فكما أن الذين أوتوا الكتاب لَا يمكن أن يجهلوا أبناءهم الذين من أصلابهم؛ فكذلك لَا يجهلون الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم -، روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال لعبد الله بن سلام، وهو ممن آمن من أهل الكتاب: أتعرف محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كما تعرف ابنك؟ فقال عبد الله بن سلام: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابني لَا أدرى ما كان من أمه، والضمير في قوله (يَعْرِفُونَهُ) يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن بعض شريعته موضوع المحاجة بين نبيه عليه الصلاة والسلام وبين اليهود، وهو حاضر في العقول والنفوس دائما.(1/453)
ومعرفة أهل الكتاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - معرفة لرسالته، وما جاء به من حلال وحرام، وللأرض التي يبعث منها، ولقومه الأميين، ولقد قال تعالى في ذكره عليه السلام في كتبهم: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157).
وإن أهل الكتاب من يهود ونصارى كانوا من وقت بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - قسمين: قسم آمن واهتدى، وقسم كابر وعاند فغوى؛ ولذلك قال: (وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي أن فريقا من أهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ليكتمون ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنهم أعلنوا قبل مبعثه أنهم يعرفونه، وكانوا يستفتحون به على المشركين، وعبر سبحانه وتعالى عن النبي وشريعته، وأظهر في موضع الإضمار، فقال: (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ)، وذلك لبيان فساد نفوسهم ومقام ما أنكروه من رسالة ونبوة وشريعة، فهم يكتمون الحق، ومن يكتم الحق يكتم النور، ولابد من أن يظهر، ثم أكد فساد نفوسهم، فقال: (وَهُمْ يَعْلَمُون)، أي والحال أنهم يعلمون أنه حق، وأن من يكتم الحق يضل ويفسد، فهم يعلمون أن فعلهم إثم ويعلمون نتائج ذلك الإثم، ولكنهم في غيٍّ دائم وضلال مستمر.
هذا شأن الذين يعلمون الحق ويكتمونه، وبالإشارة إليه يتبين أن هناك من يقر به، ويؤمن به، وقوله تعالى: (وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قد يشير إلى أن هناك من لَا يعلم، كما قال تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)، وإثم هؤلاء على من كتموا الحق وهم يعلمون فوق ما عليهم من إثم؛ إذ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاهم إلى الحق.
وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجاور اليهود، والمؤمنون كانوا يختلطون بهم، ومنهم من كانت لهم محالفة ببعض منهم؛ ولذلك ثبت الله قلوب المؤمنين، حتى لَا تجرهم المودة إلى أهوائهم، أو الشك فيما عندهم؛ ولذا قال تعالى: (الْحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).(1/454)
بعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى أنه لَا يجوز لمن جاءه الحق هو ومن معه أن يتبعوا أهواء الذين أوتوا الكتاب، وأن من يفعل ذلك يكون من الظالمين ظلما مؤكدا لا مرية فيه، بعد هذا بين أن ما عند النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين هو الدين وأنه الحق فقال:(1/455)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
(الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) أي الحق الجدير بالاتباع الذي لَا ريب فيه هو الذي ينزل عليك من ربك وما غيره باطل لَا يتبع، فإن خالفت ما جاء من ربك، فقد خالفته إلى الظلم؛ لأن ماعداه سير وراء هوى التعصب المنحرف والشرك، وقوله: (مِن رَّبِّكَ) إشارة إلى أنه من عند الله ذي الجلال الذي رباك وعلمك وهذبك وهداك، وهو الذي يعلم ما ينفع وما يضر وما فيه الهداية وما فيه الضلال.
وإذا كان الحق لَا يكون إلا ما هو من جانب الله وأن ما عند غيره هو هوى النفوس، ووسوسة الشياطين (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الفاء لبيان أن ما قبلها سبب لما بعدها، والمعنى إذا كان ما نزل عليك هو الحق من منزل الحق الذي لَا ريب فيه فلا تكونن من الممترين. والامتراء التردد بين الشك واليقين، بحيث يعتريه دور يحس فيه باليقين ودور يحس بالشك الذي يناقض اليقين، وقد يطلق على مجرد الشك لتردده بين اليقين والشك، بل إن هذا التردد هو الشك في ذاته، فمعنى الشك موجود، واحتمال الشك ولو من وجه ينافي العلم الجازم.
والنهي عن الامتراء نهي عن أن تدخل أسبابه النفس، وأمر باليقين الدائم ويقول بعض المفسرين: إنه أمر بالاحتياط والتوقي، ذلك أن الشك يدخل النفوس بسريان ما عند أهل الأهواء إلى غيرهم، يبتدئ باستحسان ما عندهم، وأول الشر استحسانه، ثم يدخل الشر إلى النفس شيئا فشيئا حتى يحدث الشك فيما عنده.
وقال الله تعالى: (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، أي لَا تدخل في صفوف أهل الشك، وفي ذلك إيذان بأنه لو شك فيما عنده لدخل في صف الذين يمارون في الحق ويشككون فيه.
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أمر لأمته، فإن الشك أو الامتراء غير متصور منه، وغير متصور أن تكون من النبي - صلى الله عليه وسلم - أسباب الامتراء أو أن يدخل في صفوف المرتابين في(1/455)
أمر ربهم الذين يكتمون الحق وهم يعلمون، إنما هو أمر لأمته، بأن يحتاطوا لدينهم الحق، فيزودوا أنفسهم دائما بالعلم الذي يزيدهم إيمانا، وبالقيام بالفرائض، واتباع السنن التي تزيدهم قوة في الاعتقاد، وتبعدهم عن مواطن الشبهات فيزدادوا يقينا، ولا يُبعد الشك ويحدث الاطمئنان إلا العمل الصالح وذكر الله تعالى دائما (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
وإن الله تعالى ينبهنا إلى أننا يجب علينا أن نتجه إلى قبلتنا وشرعنا، وليس علينا أن نغير ما عند غيرنا إن اتبعوا أهواءهم بعد أن نبين لهم الحق وندلهم عليه بالآيات البينات، فإن أعرضوا فلهم أعمالهم، ولنا أعمالنا؛ ولذا قال تعالى:(1/456)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ).
الوجهة قال كثير من المفسرين إنها القبلة، والتنكير في " لكل " دال على محذوف، والمعنى: لكل ملة أو جماعة قبلة يتجهون إليها، وتبين الحق في هذه الجهات، ببينة الله وقبلته المختارة من بينها، وإن العبرة بعد الاتجاه إلى القبلة الحق أن تستبقوا الخيرات، أي تسارعوا متسابقين إليها، غير مدخرين جهدا في الوصول إلى الخير من عمل صالح، وصلاة وصوم وزكاة، وتعاون على البر والتقوى، وهذا كقوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ. . .).
هذا على تفسير الوجهة بالقبلة، ويصِح أن تفسر الوجهة بالملة أو الشريعة أو الحق كقوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)، وكقوله تعالى: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67).
وإن المعنى على هذا: إن لكل أمة اتجاها في اعتقاداتهم، وهم سائرون على ملتهم التي اختاروها، وعقيدتهم التي أرادوها ولهم طريقهم ومنهاجهم، ولا نجادلهم، ولكن أمرنا بأن نستبق بالمسارعة في السبق إلى الخيرات، أي كل ما هو فيه(1/456)
خير في ذاته، وفيه نفع للناس والأنفس، وما فيه تطهير القلوب، والاتجاه بها إلى الله تعالى رب الوجود ومن في الوجود.
وإنه بعد الاستباق إلى الخير، والاختلاف في الملة سيكون الحساب، والثواب والعقاب، وبيان الحق والباطل؛ ولذا قال: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأتِ بِكُمُ اللَّه جَمِيعًا) وأينما اسم شرط دال على المكان، وجواب الشرط يأت بكم الله جميعا.
والمعنى أنه في أي مكان كنتم لابد أن يأتي الله تعالى بكم وتجتمعوا يوم القيامة، فيعرف أهل الحق من أهل الضلال، ويحاسب كل على ما قدَّم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وإن هذا النص السامي فيه تبشير وإنذار؛ فيه تبشير لمن استبقوا إلى الخير، وكان دينهم الحق، وإنذار لمن اعتقدوا الباطل، ولجُّوا فيه وعاندوا أهل الحق وكابروا.
وقوله تعالى: (يَأتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) فيه إشارة إلى أنها حياة لَا يجيئون إليها مختارين، بل يأتي بهم الله تعالى طائعين أو كارهين، ومن يأتي بهم هو الله تعالى القاهر فوق عباده، ولذا ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وقد أكد قدرته بهذه الجملة السامية المؤكدة بإن والجملة الاسمية، وتصديرها بلفظ الجلالة الدال على القدرة التي ليست فوقها قدرة، وهو سبحانه وتعالى الغالب على كل هذا الوجود، كل شيء في قدرته وفي سلطانه، وهو العزيز العليم.
* * *
(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ(1/457)
شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
* * *
تبين في الآيات السابقة اتباع القبلة في حال المقيمين، فبينت حيث يقيم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبينت حيث يقيم المسلمون في الأماكن الإسلامية، كل في مكان إقامته، فقال فيما تلونا من قبل: (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
وفى النص السامي يبين أن القبلة لابد من الاتجاه إليها في السفر كما يجب الاتجاه إليها في حال الإقامة، فإذا خرج من مكان إقامته اتجه إليها، فلا تسقط فرضيتها في السفر؛ ولذا قال تعالى:(1/458)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) " من " هنا أي من أي مكان خرجت، وفي أي مكان حللت، فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، أي ناحيته؛ إذ لَا فرق بين مكان ومكان ولا سفر ولا إقامة، فالاتجاه ضروري، أي أن السفر لَا يسوغّ ترك الاتجاه شطر البيت أي ناحيته ووجهته.
وذكر ذلك النص لتأكيد الاتجاه، وأنه شرط لصحة الصلاة دائم مستمر لَا فرق
بين سفر وحضر، ولا فرق بين راكب وراجل، ولقد روى الدارقطني عن أنس ابن مالك قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في سفر فأراد أن يصلي على راحلته استقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به " (1)، أي أنه كان يلاحظ دائما أن يكون ناحية القبلة.
وقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ) الفاء هنا في معنى جواب الشرط.
________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة: باب التطوع على الراحلة (1036) بلفظ: عن أنَس بْن مَالِكٍ " أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا سَافَرَ، فَأرَادَ انْ يتطوَّعَ، اسْتَقْبَلَ بِنَاقَته الْقبْلَةَ، فكثرَ ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ وَجَّهَهُ رِكَابُهُ ".
كما رواه أحمد (12635) في مسنده عن أنس قال، َ " كًانَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أرَادَ انْ يُصَلي عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فكبَّرَ لِلصَّلاةِ ثُمَ خَلَّى عَنْ رَاحِلَتِهِ فَصَلَّى حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ "(1/458)
وقد أكد الله تعالى القبلة إلى البيت الحرام، فقال: (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) والضمير يعود على تولية الوجه، وقد أثبت الله تعالى بهذا أنه الحق، وأكده بإن واللام، والجملة الاسمية، وإسناد هذا الحق لله تعالى، والتعبير عن الله جل جلاله للدلالة بربك للإشارة إلى أنه اقتضته تربيته لك، وقيامه على شئونك، وأنه سار على حكمته، ولأنه رأى تقلب وجهك في السماء، وإن ذلك الحق ثابت في كتبهم، فإنه ثابت في التوراة أن القبلة تتحول إلى فاران أي إلى مكة.
وبعد أن أكد سبحانه وتعالى وجوب الاتجاه إلى القبلة في السفر والإقامة - بيَّن سبحانه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تحت سلطان علمه وحكمته، وأنه رقيب على المؤمنين ليس بغافل عنهِم ليتحروا القبلة ويتعرفوها، ولا يصلوا إلا بعد هذا التحري فقال تعالت كلماته: (ومَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلونَ).
نفَى الله تعالى وجل جلاله عن نفسه الغفلة، أي أثبت العلم الكامل، بتأكيد نفي أن يقع فعل في الوجود على غير علم منه، باستغراق النفي، وبذكر لفظ الجلالة الذي يتصف بكل كمال، ويستحيل عليه أي نقص، وبالباء الدالة على استغراق النفي.
وإن هذا الكلام السامي قد يكون إنذارًا، ولكنه موجه إلى المؤمنين، وليس موجها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بدليل أن الخطاب كان باللفظ الدال على الجمع، (عَمَّا تَعْمَلُونَ).
وقد أكد سبحانه وتعالى الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بتكراره، وذكر الأمر للمؤمنين أجمعين تعميما للأماكن، حيثما كانوا في سفر أو إقامة كما أشرنا، فقال تعالى:(1/459)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). وكان التكرار في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لتعدد أسفاره، وغزواته، وأن القبلة الاتجاه إليها شرط لصحة الصلاة في كل الأحوال إلا أن يكون ذلك في حال الخوف، وتكون صلاة الخوف، ولا يمكن الاتجاه إلى القبلة، إذ يستدبر العدو، فيأتي هم من حيث لَا يشعرون، وقد بين الله تعالى صلاة الخوف فقال تعالى: (وَإذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ منْهُم(1/459)
مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103).
* * *
وقد تشير هذه النصوص الكريمة إلى أن استقبال القبلة إذا تعذر في حال الحرب جاز الاتجاه إلى غيرها من غير استدبار للضرورة والله تعالى هو الواقي.
وإن الله سبحانه وتعالى كرر طلب الاتجاه إلى البيت الحرام حيثما كانوا، ومن حيث خرجوا في سفرهم وفي مغازيهم، وكرر ذلك تأكيدا للطلب لكيلا يرتاب مرتاب، ولكي يكون حجة على الناس، ولا يكون لهم حجة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولذا قال تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي أكدنا الاتجاه إلى البيت من أجل ألا يكون للناس حجة في عدم العلم، ودليل عليكم في عدم تحويل القبلة إلى الكعبة، وأن يسيروا على القبلة التي كنتم عليها، وهي إلى بيت المقدس، والحجة هي التي يستدل بها المخالف، وذلك لأن اليهود والمنافقين لجُّوا في التساؤل والمناقشة وتوهين ذلك التحويل، فأكد الله تعالى التوجه إلى البيت الحرام، والحجة التي نفاها الله تعالى هي حجة عدم العلم فأكده.
وقد استثنى الله تعالى من الذين لَا تقوم لهم قائمة الذين ظلموا فقال: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهذا الاستثناء أهو استثناء متصل أم استثناء منقطع بمعنى لكن؛ لقد قال الطبري: إنه استثناء متصل بمعنى أن الذين ظلموا لَا تنتفي حجتهم، وإن كانت واهية داحضة عند ربهم، وقال: المعنى لَا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا: " مَا وَلَّاهُم "، وقالوا: تحير محمد في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه، وغير ذلك من الأقوال التي لَا تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق، أي أنه لَا حجة عليكم إلا المماراة وما يحسبونه حججا. وهو أقوال واهية(1/460)
تدل على ضعف الإيمان عند قائلها وأنهم يقولون ما لَا يؤمنون به، ويكون الذين ظلموا هم اليهود والمنافقون.
وقال بعضهم: إن الاستثناء منقطع، ويكون المعنى: لئلا يكون للناس حجة عليكم، لكن الذين ظلموا، لَا يقنعهم دليل ولا تعظهم حجة، بل إنهم يلجون في الباطل بأوهام باطلة، فلا تنتظر منهم أن يلزموا أنفسهم بدليل مهما كانت قوته؛ لأنهم معاندون جاحدون مكابرون.
ولذا قال: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) الخشية نوعان: خشية الله تعالى وهي طمأنينة في القلوب تبعث على التوقي مما يغضب الله تعالى، وهذه هي الخشية من الله تعالى وقد أمرنا بها، وأن تمتلئ قلوبنا بالاطمئنان مع التوقي مما يغضب الله.
والخشية الأخرى الخوف والفزع، وهي ما نهانا الله تعالى عنه، فنهى أن نخاف أو أن نفزع أو أن نتوقع الأذى من هؤلاء الظالمين، وأن نخشى الله تعالى فتمتلى نفوصنا بالاطمئنان والتقوى.
كان التأكيد للاتجاه إلى البيت الحرام لذلك، ولأمر جليل آخر، أشار إليه بقوله تعالى: (وَلأتِمَّ نعْمَتِي عَلَيْكُمْ) أي كانت القبلة لكيلا يكون للناس حجة عليكم.
(وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيكمْ)، إن نعم الله تعالى تتوالى على النبي ومن معه من المؤمنين ومن تمامها نعمة الاتجاه إلى الكعبة، إذ إنها تضمنت إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان يقلب وجهه في السماء ليوليه قبلة يرضاها، ولما فيه من تشريف البيت الحرام، ولما فيه من إحياء ملة إبراهيم عليه السلام، ولما فيه من تأليف للعرب، ولأن ذلك إيذان بفتح مكة وإزالة دولة الأوثان، وإقامة دعائم الإسلام، وتلك كبرى النعم.
وذكر الله تعالى أمرًا آخر، وهو جماع الأمور كلها، وسبيل الحق والإيمان وهو رجاء الهداية الكاملة، فهذا من طرقها (وَلَعَلَّكمْ تَهْتَدونَ) الرجاء من الناس لا من الله، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
* * *(1/461)
(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
* * *
ولى الله تعالى نبيه إلى الكعبة، تكريما للبيت وتشريفًا له ولبانيه، وأتم نعمته عليهم بالإيذان بإزالة الأصنام عنه، فعل الله تعالى ذلك لتتم الهداية كما أرسل رسولا منهم، ولذا قال تعالى:(1/462)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتنَا) وفي هذا إجابة لدعوة إبراهيم عليه ألسلام، إذ قال تعالى في ذكر دعائه: (رَبًّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ. .)، فكما أجاب دعاءه عليه السلام بجعله بلدا آمنا وأن يكون مثابة للناس وأمنًا أجاب دعاءه بإرسال رسول منهم يتلو عليهم آياته.
يمن الله تعالى على العرب بأن جعل فيهم رسولا منهم ليقول مانًّا عليهم بذلك كما منَّ عليهم بجعل القبلة إلى الحرم الآمن الذي قدسوه وكرموه، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسل فيهم وهو منهم، كما قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكمْ رَسُولٌ منْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رحِيمٌ).
فهو فيهم ومنهم، وهو أكثر تأليفا لقلوبهم. ورعاية لنفوسهم وهو الحق من ربهم كما قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ... ). وتلاوة الآيات التي جاءت في قوله: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ)، تلاوة الآيات هنا أي القرآن بقراءته في ترتيل وفهم، وإدراك لمعانيه، وإجابة لأمره، واعتبار بقصصه، وذلك عبادة (وَيُعَلِّمُكُم الْكتَابَ) أي تعليمهم علم القرآن من بيان للصلاة والزكاة والحج والصوم وأحكام الأسرة،(1/462)
وأحكام الحرب وما يحل فيها وما يحرم، وعلاقة الإنسان بالإنسان، وآداب وأخلاق المسلم فهو مأدبة الله تعالى، وهو سجل المعجزات التي جاء بها الرسل من عهد نوح إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام.
والحكمة هي الشريعة، وما فيها من إصلاح بين الناس، وإقامة للعلاقة الإنسانية. وفسرها الشافعي بأنها السنة وقد بيناها عند ذكر قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ. . .)، فارجع؛ إليها.
(وَيُزَكِّيكُمْ) أي يطهركم من أرجاس الجاهلية ومآثمها كوأد البنات وشرب الخمر ولعب الميسر بله عبادة الأوثان والأنصاب، وينمي فيهم قوة الخلق والشكيمة ويوجهها نحو مكارم الأخلاق.
وقال الله تعالى: (وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) علمهم الله علما لم يكونوا يعلمونه من قبل؛ علمهم علم النبوة، وعلمهم علم البعث والنشور والقيامة والحساب، وعلمهم علوما تنفعهم في الحياة الدنيا، وتزودهم بالخير في الآخرة، وعلمهم مكارم الأخلاق وعلمهم تنظيم الدولة، وقيام حكم صالح يستظل في ظله البر والفاجر، وعلمهم العدالة والامتناع عن الظلم. . وأخيرا علمهم علم الإسلام، وقد جمعه تعالى في قوله جلت حكمته: (إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، وجعل منهم دولة الإسلام الفاضلة التي لم تر الإنسانية لها نظيرا من يوم أن خلق السماوات والأرض.
بين الله تعالى نعمة الرسالة المحمدية في العرب، وفي الإنسانية كلها، وإن ذلك يقتضي أن يشكر صاحب هذه النعم (وَإن تَعُدُّوا نعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا. . .)
ولذلك قال تعالى:(1/463)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
(فَاذْكُرُونِي أذْكُرْكمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)، الفاء هنا هي ما تسمى فاء السببية، وهي ما يكون قبلها سببا لما بعدها، وذكر الله تعالى امتلاء النفس بعظمته وقدرته وجلالته والإحساس بنعمه الظاهرة والباطنة، وليس ذكره جلت قدرته بترديد اللسان فقط، ولا بترطيب القول بذكر(1/463)
جلاله وإنما تكون أولا بامتلاء النفس بذكره، حتى يكون كأنه سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، نطق اللسان أو صمت أو جهر به أو خفت، كما قال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُم تَضرُّعًا وَخفْيَةً. . . .)، و (وَاذْكر رَّبَّكَ فِي نَفْسكَ تَضرُّعًا وَخِيفَةَ وَذونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ)، وإن الله تعالى يقول اذكروني أذكركم؛ اذكروني في كل حياتكم وفي قلوبكم أذكركم بالنعم والغفران، اذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة: (أنا مع عبدي حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هو خير منه وإن اقترب إليَّ شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إليَّ ذراعا، اقتربت منه باعا وإن أتاني يمشي أتيت إليه هرولة، وقد أخرجه البخاري (1). وإن ذكر الله تعالى يكون في القلب، ويبدو في العمل].
فالطاعات التي يقصد بها وجه الله تعالى ويبتهل فيها إليه ويطلب رضوانه بها هي ذكر لله.
وكل أعمال كالتجارة والصناعة والزراعة إذا قام بحقها، وتوكل على الله تعالى حق توكله هي ذكر لله، وكل عمل لَا يعمل إلا لحب الله تعالى، فالصانع في مصنعه، والزارع في مزرعته]. . والتاجر في متجره إذا قصد وجه الله تعالى ونفع.
الناس يكون ذاكرًا لله تعالى، وإن المؤمن لَا يفرغ قلبه من ذكره، إذا قام بحق الله تعالى، وإن ذكر الله تعالى يصحبه الخوف من الله فيتقي الله تعالى في كل عمل يعمله ويكون دائما في حذر من غضب الله تعالى، وقد قال تعالى في وصف المؤمنين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2).
________
(1) البخاري: كتاب التوحيد - باب: قول الله تعالى: ويحذركم الله نفسه (6856) ومسلم: الذكر والدعاء (4732).(1/464)
إن ذكر الله تعالى هو الخير كله، روى ابن ماجه أن أعرابيا قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت على فأنبئني منها بشيء أتشبث به قال: " لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل " (1).
وإن أعلى درجات الذكر شكر الله تعالى، ولذا قال تعالى بعد الأمر بالذكر: (وَاشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ) وهنا نجد الشكر تعدى باللام وقد قال الفراء: إن ذلك هو الأفصح، ولكن يجوز اشكر لي واشكرني.
وشكر العبد لله تعالى؛ الثناء عليه، وأن تكون نعمه لما خلقت له من طاعة، خلق له السمع فشكره لنعمته ألا يسمع زور القول ولا ينفذه، وشكر نعمة اللسان ألا ينطق إلا بالحق، وشكر نعمة اليد ألا يبطش إلا لتحقيق العدل، وألا يعمل إلا ما هو حق وألا يعتدى على حق غيره، وألا يؤذي، وأن يحمي الضعيف وينصر المظلوم، ويغيث المستغيث، ويدفع الكوارث عن المؤمنين، وأن يفك العاني. .
وشكر نعمة الرِّجل ألا يسعى إلا في خير، وألا يسعى في ظلم، وأن يذكر دائما أن من سعى مع ظالم فقد ظلم.
وإن شكر نعم الله تعالى ليرجو به الشاكر زيادتها، ولقد قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ولَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).
وإذا كان الله تعالى قد أمر بالشكر، وهو الطاعات، والأخذ بالهدى المحمدي، فقد نهى عن الكفر فقال: (وَلا تَكْفُرُون) والنهي عن الكفر معطوف على قوله تعالى: (وَاشْكُرُوا لِي) يجعلنا نتصور أن تكفرون فيها ياء المتكلم محذوفة أو بالياء كما قى قوله تعالى: (فَلا تَخْشَوا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ. . .)
ويكون معنى كفر الله تعالى عدم ذكره، وعدم معرفة حقيقة نعمه، ولكن الظاهر أن المراد النهي عن الكفر المطلق، وهو ألا يعتقد بالوحدانية وألا يؤمن برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو مقابل للشكر لأن حقيقة الشكر ابتداء هي القيام بالطاعات كلها، وهو مع ذكر الله تعالى الإحساس بأنه كله لله تعالى. وفقنا الله تعالى للشكر وجنبنا الكفر.
* * *
________
(1) رواه ابن ماجه: الأدب - فضل الذكر (3793) عن عبد الله بن بسر، وبنحوه عند الترمذي: الدعوات - فضل الذكر (3375) وأحمد: مسند الشاميين - حديث عبد الله بن يسر (17245).(1/465)
أول الجهاد جهاد النفس
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
* * *
اتجه المسلمون بأمر الله تعالى إلى البيت الحرام الذي جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا، وقد اتجهوا إليه في الصلاة إيذانا بإبعاده عن الشرك، وأن تحيط به الأوثان، وقد أشار سبحانه وتعالى بأنه سيكون الفتح، وأنه سيكون في حوزة أهل التوحيد، وأنه من بعد سيكون يأس الشيطان من أن يعبد في الأرض المباركة، وقد كان البيت الحرام في أيدي المشركين ولا يخرجون منه إلا بجهاد لإخراج أعداء الله من بيت الله، أو لجعل كلمة الله تعالى العليا في بيته، وإنه بالتحقيق ثبت بالتقريب أن تحويل القبلة كان في الليلة الخامسة عشرة من شعبان، وكان ابتداء يوم الفرقان لغزوة بدر الكبرى في السابع عشر من رمضان، فكان بين التحويل ويوم الفرقان شهر واحد.
ولذلك جاءت الدعوة إلى الجهاد، عقب تحويل القبلة، وأول الجهاد جهاد النفس، فجهاد النفس قبل امتشاق الحسام في الميدان، وجهاد النفس بتعويدها الصبر(1/466)
وقمع الأهواء والشهوات والاتجاه إلى الله تعالى؛ ولذا ابتدأ به فقال تعالى:(1/467)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) استعينوا في أموركم، وفي استجابة أوامر ربكم والأخذ بأحكام دينكم وإعداد العدة للقاء عدوكم، فمجاهدة النفس مقدمة على جهاد العدو، بل هي عدته وقوته.
والصبر ضبط النفس والاستيلاء عليها، وهو يتنوع بتنوع موضوعه، فهناك صبر على منازعة الأهواء والشهوات لتعميمها والاستيلاء عليها بجعل الشهوة أَمَةً للعقل ليست مسيطرة عليه، ولا مسيرة للنفس، وهناك صبر لأداء الطاعات والقيام بالواجبات فإن ذلك يحتاج إلى عزم قوي لَا يكل ولا يمل، وهناك صبر على لغو القول من الناس، واستهزاء السفهاء، وتهكم ذوي الأهواء، وهناك صبر بالإقامة مع الضعفاء وقد قال الله تعالى فيه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. . .).
وهناك صبر عند المصائب في الدنيا فلا يفزع ولا يجزع ويعلم أن الصبر فيه أجر وأن الجزع فيه وزر، وهناك صبر عند لقاء الأعداء ولعله نتيجة لصفة الصبر وتشعبها في كل النواحي التي ذكرناها.
والصبر خير كله، وهو أول صفات المؤمنين، ومن الصبر ألا يكفر عند النعمة وألا ييئس عند النقمة، ولقد قال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11).
ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم بسنده عن صهيب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " (1) فالصبر كله خير، وهو عدة الإيمان والأخلاق، وبناء المجتمع الصالح، وهو أقوى عدة للجهاد.
________
(1) رواه مسلم: كتاب الزهد والرقائق (5318)، وبنحوه رواه أحمد والدارمي.(1/467)
هذا أمر الصبر والاستعانة به مناجاة العبد لربه، وصرف القلب " إليه، والاتجاه إليه، وهي التي تملأ القلب بذكر الله تعالى فينسى ما بينه وبين الناس، وهي استحضار العزة من الله، وامتلاء الإنسان بجبروت الله، وأنه فوق قوى البشر، والاستعانة هي سلوك المؤمن، روى " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حزبه أمر صلى " (1).
ولقد أمر الله تعالى نبيه بالصبر والصلاة إذا اشتدت عليه شديدة الناس بالقول والعمل، فقال تعالت كلماته: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130).
فعبر عن الصلاة هنا بالتسبيح فسبيل الرضا بالنوازل والشدائد من الناس - كما تدل الآية - الصبر على ما يقولون، والصلاة إذ هي اطمئنان القلوب، وسرور النفوس وبها تستبدل النعمة بالنقمة، والسراء بالضراء.
وختم الله تعالى الآية بقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بمعاونته لهم، فينصرهم، بسيطرتهم على نفوسهم، ثم ينصرهم على أعدائهم، ثم يغلبهم على كل شر في الحياة، ثم تقوية عزمهم، وضبطهم لنفوسهم، فالله معهم في كل أعمالهم، وهو وليهم ونعم المولى ونعم النصير.
هذا ما يعذ الله به تعالى نفوس المجتهدين، صبر وذكر لله تعالى، وإنه من بعد ذلك يكون القتال، ويكون الشهداء، وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس القتال شهوة، ولا نزهة، ولكنه فداء وبلاء، واستشهاد، وإن الشهداء لَا يموتون ولكنهم أحياء عند ربهم يرزقون، والحياة ليست للأشباح فقط، بل هي للأرواحِ، ولذا قال تعالى:
________
(1) رواه أحمد (22210)، وأبو داود (1124). عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.(1/468)
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
(وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) النهي عن القول، والقول دليل الاعتقاد فهو نهي عن الاعتقاد، وقد صرح الله تعالى بالنهي عن الاعتقاد في آية أخرى في معنى هذه الآية الكريمة وفي موضوعها فقال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عندَ رَبِّهِم يُرْزَقُونَ)، وفي الآية التي نتكلم في معناها قال الله تعالى: (وَلَكِن(1/468)
لا تَشْعُرُونَ)، أي ولكن لَا تحسونهم بمرأى العين، وذلك لَا يقتضي أنهم ماتوا، بلِ هم عند ربهم يرزقون، ولقد قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171).
ْوإن حياتهم روحية يستبشرون بها بأنهم فدوا إخوانهم، وأنهم قدموا أنفسهم، وآثروا إخوانهم، ولقد صور النبي - صلى الله عليه وسلم - حياتهم فيما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لَا يتركون من أن يسألوا قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل مرة أخرى، فيقول الربُّ جل جلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون " (1).
هذا حديث مصور لحياتهم الروحية، وأنهم في جنات النعيم، وأنهم ما ندموا على أن قتلوا شهداء بل إنهم فرحون بذلك، وأنهم يتمنون أن يعودوا ليقتلوا في سبيل الله تعالى؛ لأنهم راضون بما فعلوا، فهم يطلبون الشهادة بأرواحهم كما
________
(1) رواه مسلم، عَن مَسْرُوق قَالَ: سَألنا عَبْدَ اللَّه - أي ابن مسعود - عَنْ هَذه الآيَة (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران [آل عمران: 169] قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً»، فَقَالَ: " هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا ".
وبنحوه عند الترمَذي (2937) في كتاب التفسيَرَ - باب تفسير سورة آل عمران وابن ماجه (2791) في كتاب الجهاد - باب فضل الشهادة في سبيل الله (2791) وجاء من رواية جابر بن عبد الله عند الترِمذي (2936) وابن ماجه (0 279) واللفظ له يَقُولُ: " لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ أُحُدٍ، لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا جَابِرُ، أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللَّهُ لِأَبِيكَ؟» وَقَالَ: يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ، فَقَالَ: «يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا "، قَالَ: «أَفَلَا أُبَشِّرُكَ، بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟»، قَالَ: بَلَى: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي، فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ".(1/469)
طلبوها بأبدانهم، وإن ذكر الشهداء بعد الأمر بالصبر والصلاة تأكيد لضرورة الصبر، ولا يكون من غير صلاة. وإن الجهاد بلاء، ولابد أن يستعدوا له، فهو اختبار؛ ولذلك قال تعالى:(1/470)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) إن هذا النص جاء توطئة للجهاد، وليتحملوا كل ما فيه من شدائد، وكله شدائد إلا على المؤمنين الصابرين، وإنه يجب أن يتوقعوا ذلك ويتحملوه، فإن الأمر المتوقع إذا وقع سهل حمله، وإذا جاء على غير توقع صعب وقعه، وهلعت النفوس، وهذا النص كقوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)، ومثل قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَم الَلَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)، فهذه من أخوات هذه الآية التي نتكلم في معناها، فهي بيان لما يتوقعه المجاهدون، وخصوصا إن هذه الآية كما يبدو من سياقها مع الآيات كانت في السنة الثانية من الهجرة، وقد فتح باب الجهاد أبر ويوم الفرقان قريب الوقوع وهو بدر الكبرى الذي فرق بين عهد النصر المؤزر، وعهد الاستضعاف.
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) البلاء الاختبار لَا ليعلم الله تعالى، بل ليظهر للناس ما أكنَّه الله تعالى في علمه المكنون، ولقد أكد الله تعالى البلاء ليؤكد موضوعه بالقسم الذي دلت عليه لام القسم، ونون التوكيد الثقيلة (بِشَيْء مِنَ الْخَوْفِ) قال بعض العلماء: التنكير فيه للتقليل، وإني أرى أن المقام موجب أن يكون التنكير فيه للتكثير لكي يتحقق معنى الابتلاء فيقدمون على حرب لقوم شداد غلاظ من شأنهم أن يُخَوِّفوا ويُفَزِّعوا، وقد قيل إن ذلك الخوف يتنافى مع الشجاعة التي عرف بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصحبه الكرام أمثال حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وعلي بن أبي طالب فارس الإسلام والزبير وغيرهم من الصناديد الذين يتقدمون في الميدان لَا يهابون إلا الله، ونقول في ذلك إن الشجاعة لَا تنافى الخوف؛ لأن الخوف يحمل على تدبير الأمور،(1/470)
وبعد تدبيرها يفترق الشجاع عنا الجبان، فالجبان لَا يُقْدِم والشجاع مُقْدِمٌ مقدرا النواحي المخوفة، والنواحي التي فيها جانب الله تعالى فيقدم على بينة، وقد حقق الذين درسوا النفوس فقرروا أن الشجاعة لَا تكون شجاعة إلا إذا أحس بخطورة الأمر وأقدم غير هياب، وإن المؤمنين قد أصيبوا بما من شأنه أن يخيف ولكن لم يجبنوا عن اللقاء، بل أقدموا عليه في غير تلكؤٍ ولا اضطراب.
هذا شأن الخوف، ثم قال تعالى: (وَالْجُوعِ) فقد أصيبوا بشيء غير قليل من الجوع، وقد كانوا يربطون الأحجار على بطونهم.
كما كانوا يفعلون في حفر الخندق، (وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ)، فإنه في الحروب يتوقف اشتغال المؤمنين بالتجارة وغيرها، فهل كان أبو بكر التاجر تجري متاجره، والحروب قائمة؛ وهل كان عثمان ذو النورين تستمر متاجره غادية رائحة والحرب قائمة بين الشرك وأهل التوحيد. (وَالأَنفسِ)؛ فإن ملحمة الحرب يكون فيها الشهداء، وقتل الأبطال. (وَالثَمَرَاتِ) وقد أصيب الأنصار في المعارك وقد خرجوا للجهاد فلم يسقوا زرعهم ولم يرعوا ثمرات نخيلهم فنقصت ثمارها.
ذكر الله تعالى ذلك الابتلاء قبل وقوعه، وكانوا على مقربة منه؛ لأن ذلك كان قبيل غزوة بدر الكبرى، فذكر الله تعالى ذلك ليتوقعوه قبل أن يقع فيعدوا له الأنفس بالصبر، وضبط النفس، والاستعانة بقوى النفس في الجهاد وتحمل الأذي من الحرب، فقد كتب عليكم القتال، وهو كره لكم، ولكنه خير في نتيجته ما دام ردا للاعتداء ومنعا للفتنة وفتحا لطريق الدعوة.
ولذا قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) والبشارة هي النصر الكامل، وذكر أن المبشَّرين هم الصابرون، فالوصف علة للحكم فكانت البشارة بالنصر بسبب الصبر؛ لأن الصبر عدة النصر، كما قال علي رضي الله عنه بطل الحرب الإسلامية: كنا ننصر بالصبر والتأييد.
وإن الصابرين هم الذين يضبطون أنفسهم فلا تنخلع قلوبهم بفزع، ولا يصيبهم عندما يفاجئون بما لَا يحبون؛ ولذا عرفهم الله بقوله: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)(1/471)
الصبر يكون بمعنى ضبط النفس عن الأهواء والشهوات، وعما يكون فيه معصية الله تعالى، ويكون بعزمة المؤمن القوي في طاعة الله، وبتحمل ما ينزل مما يفزع القلب، واطمئنان من غير أنين، ومن هذا النوع الصبر على ما يصيب من نوائب الدهر ومصائبه.
والمصائب جمع مصيبة، وهي كل ما يصيب الإنسان بالأذى في نفسه من مرض، أو ماله من خسارة فادحة، أو فقد حبيب، أو مفاجأة بما لَا يسر بل يضر كهزيمة في حرب، أو غدر غادر، أو غير ذلك مما يكرث الإنسان من كوارث، والصبر المحمود في هذه الأحوال وغيرها هو الصبر الجميل الذي يكون من غير أنين وشكوى كصبر يعقوب عندما غاب ابنه يوسف إذ قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).
وإنه مما يجعل الصبر جميلا لَا أنين فيه ولا شكوى، ولا تململ مما أنزل الله تعالى أن يفوض أمره إلى الله تعالى، وأن يحيل المرجع والمآب إليه، وأن يعتقد أن كل شيء من الله تعالى، وأن إليه مرجع الأمور وعنده المستقر والمعاد؛ ولذا قال تعالى في حال الصابرين وقولهم عندما تصيبهم المصيبة وتنزل بهم النازلة لَا قبل لهم بها:(1/472)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ). وإن هذه الجملة فيها من كمال التفويض والاعتزاز بجلال الله تعالى والاطمئنان إلى قدرته ما يعلو بالنفس على الأنين والشكوى لغير الله تعالى العلي القدير.
ومعنى (إِنَّا لِلَّهِ) أي أننا ملك له تعالى يتصرف فينا كيف يشاء، وأمورنا بين يديه يصرفها كما يشاء، وهو نعم المعتمد في كشف الضر وإزالة الكرب، وإنه مَلكَنَا بخلقه وتقديره وتصريفه فينا وله الأمر والتدبير، وإليه مرجعنا فنحن راجعون إليه وحده، ولذا قدم الجار والمجرور (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فنحن هنا في الحياة مملوكون له، ومن بعد ذلك نرجع إليه وعسى أن يكون ذلك خيرا لنا. روى مسلم بسنده عن(1/472)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفّر به من سيئاته " (1).
وقوله تعالى: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) إقرار بالتوحيد واستشعار للعبودية، وإيمان بالبعث والنشور، وفي ذلك عزاء أي عزاء وسلوى عن البلاء، ولقد روى مسلم بسنده عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها " (2).
وإن الصالحين لَا يفرون من المصائب تنزل بهم، ولا يرونها من جانبها الشديد، بل يرونها من جانبها الصالح المفيد، فهي تربي في المؤمن الإحساس بالربوبية والضعف أمام القدرة الإلهية والإخلاص لله تعالى، فالإخلاص حيث الضعف أمام الله، وأنه لَا كاشف للضر سواه، وإن ذلك يجعله يرجع إلى الله تعالى ويكون ممن أناب إليه سبحانه كما قال الله تعالى: (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. . .)، وحيث يحس بشدة المصيبة يتضرع إليه، فيدعو إليه متضرعا ليكشف عنه الضر. وإن المصائب تجعل النفوس بعيدة عن الاستكبار فتطمئن إلى الضعفاء، ويتربى فيها الحلم، والعفو وكثرة الثواب بكثرة الصبر، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)، وإن الصالحين لهذه المصائب وثمراتها من طهارة القلب وتنزيه النفس يفرحون ولا يكربون، وإن كانت تجعل غيرهم في كرب، وإنه إذا فرح شكره وإنها تمحص القلوب وتطهرها من الغطرسة والعتو.
________
(1) متفق عليه، رواه البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كتاب المرضى (5210)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب (4670) واللفظ له عن أبي هريرة - رضي الله عنه.
(2) رواه بهذا اللفظ مسلم: كتاب الجنائز: باب ما يقال عند المصيبة (1525)، وبنحوه عند أحمد (25417) في مسنده عن أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها -. كما رواه الترمذي، وابن ماجه، والنسائي، ومالك، والدارمي.(1/473)
وإن الصالحين بتفويضهم أمورهم لله تعالى، وثقتهم بالله تعالى يعلمون أن وراء ما نزل من مصيبة ضرا لهم ولخيرهم (فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّه فِيهِ خَيْرًا كثيرًا) أالنساء، وإن المصائب تفطم النفس عن الأشر، وتبعد عن الترف، ووراء الترف الظلم فيكون الاستماع للبشير النذير قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَة مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ).
وإن الرضا بقدر الله تعالى فيما ينزل من نوازل يجعل النفس في اطمئنان من الجزع والهلع، وبعد عن السخط والغضب.
وأخيرا إن المصائب تصقل النفوس، وتربي فيها قوة الاحتمال إن صبرت وفوضت، ورجوت الثواب والفرج من الله تعالى، وفيها يكثر الدعاء لله تعالى، والدعاء مخ العبادة، ولقد قال تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. . .)، وكان بعض الصالحين إذا ألم به مرض أو وصب دعا ربه أن يجعله يحس بنعمة المرض والسقم، إذ إنه يقربه من ربه فلا يطغى ولا يستغني بنفسه عن ربه.
ولقد قال تعالى في جزاء الصابرين عند النازلة التي تكرثهم، والرضا بما يأتي به الله تعالى:(1/474)
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
(أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
الإشارة هنا إلى الصابرين الذين يتحملون الخوف مهما يكن مقداره، ونقص الأموال والأنفس والثمرات في سبيل الله تعالى، وإذا نزلت بهم نازلة أصابت نفوسهم من فقد حبيب أو حرمان من مطلب من مطالب الدنيا. هؤلاء الذين تلك أحوالهم، هم من الصديقين والشهداء (عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ من رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) الصلوات جمع صلاة، وجمعها الله تعالى لكثرتها، وتنوع آحادها، والصلاة معناها الدعاء ولكنها من الله تعالى استجابة الدعاء، وذلك بالعفو والمغفرة، وعفو الله ومغفرته دليل رضوانه، ورضوان الله تعالى أكبر الجزاء، كما قال تعالى في(1/474)
ختام جزاء الآخرة: (وَرِضْوَانٌ منَ اللَّهِ أَكْبَرُ. . .)، وإن الله تعالى لم يمن على عباده الصابرين بالمغفرة والرضوان فقط، وحسبهما جزاء للصبر ولكن منَّ بالرحمة، رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء، فرحمهم في الدنيا بالهداية والتوفيق لفعل الخير، ورحمهم في الآخرة بالنعيم المقيم.
وقد وصفهم سبحانه بأنهم المهتدون، فقال تعالت كلماته: (وَأولَئِكَ همُ الْمهْتَدُونَ) أي المتصفون بالصبر على الشدائد من الخوف ونقص في الأموال والأنفس والثمرات، هم الذين كتب الله تعالى لهم الهداية، وفي النص السامي (وَأُوْلَئِكَ هُم الْمُهْتَدُونَ) إشارة إلى قصر الهداية عليهم وأنهم المهتدون حقا، وذلك بتعريف المسند والمسند إليه وبالضمير " هم " وذلك أشرف بيان أنهم المختصون وحدهم بالهداية الكاملة وهبنا الله تعالى عفوه ومغفرته ورحمته وهدايته.
* * *
مقدسات البيت الحرام
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
* * *(1/475)
ما زالت النصوص القرآنية الشريفة السامية تتكلم حول الكعبة من ناحية كونها قبلة، وأن الصلاة لَا تصح من غير الاتجاه إلى البيت الحرام، وإنه مما حول البيت والصفا والمروة، وهما جبلان مجاوران للكعبة، قيل إن هاجر أم إسماعيل كانت تتردد بينهما عندما أصابهما الجوع والعطش وهي تناجي ربها أن يمنَّ عليها بالغوث فأنبع الله تعالى لها زمزم، وقيل كانت لها طعم وغذاء وشفاء للعلة من عطشها، وقد قال تعالى فيها:(1/476)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
والشعائر جمع شعيرة، وهي المتعبد الذي يكون فيه عبادة الله تعالى والقيام بحق الطاعة، وفي هذا النص تقرير بأن الصفا والمروة موضعا تعبد لله تعالى، وقد قال بعض العلماء: إن ذكر أنهما من شعائر الله دليل على طلب السعي بينهما، ولكن ابن جزي الكلبي الفقيه المالكي ضعف هذا، ولكنا لَا نجد فيه ما يسوغ التضعيف لأن كونهما متعبدا يدل على طلب التعبد عندهما، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - التعبد فيهما بطلب السعي بينهما فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " كتب عليكم السعي فاسعوا " (1) وإنه - صلى الله عليه وسلم - في حجة واعتماره سعى والناس بين يديه وهو وراءهم، لأنه كان راكبا، فهو منسك من مناسك الحج والعمرة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لتأخذوا عني مناسككم " (2).
ويقول تعالى: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) فمن قصد البيت حاجا أو معتمرًا فلا جناح عليه أن يطوف بهما والحج هو المعرف بأركانه وركنه الأكبر الوقوف بعرفات، ومن مناسكه النحر ورمي الجمار، والوقوف بالمزدلفة، أما العمرة فهي زيارة البيت والطواف حوله، والسعي بين الصفا والمروة، وقد سعى فيهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
________
(1) عَن صَفِيةَ بنْتِ شَيْبَةَ أنَّ امْرَأةَ أخْبَرَتْهَا أنهَا سَمِعَتْ النبِي - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الصفَا وَالْمَرْوَةِ يَقُولُ: " كُتِبَ عَلَيْكُمْ السَّعْي فَاسْعَوْا]. [رواه أحمد في مسند القبائل (26191)].
(2) رواه مسلم: كتاب الحج (2286)، وأبو داود: المناسك (1680) وأحمد في مسنده (14091) عن جابر بن عبد الله بلفظ: رَأيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمِى عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النحْرِ وَيَقُولُ: " لِتأخُذُوا مَنَاسِككُمْ فإني لَا أدْرِي لَعَلي لَا أحُجُّ بَعْدَ حَجتِي هَذِهِ ".(1/476)
ولكن كان النص في هذه الآية، (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أونتكلم هنا في ثلاثة أمور:
أولها: إن نفي الجناح - والجناح هو الميل إلى الإثم - يقتضي نفي الإثم لا الوجوب؛ لأن نفي الإثم يؤدي إلى معنى الجواز لَا الوجوب، أو الطلب فرضا أو سنة، فمن أين جاء الطلب؟ نقول إن الطلب جاء من كلمة " شعائر " أولا، وقد بينا ذلك، ومن بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن بين أن السعي كتب علينا، ومن مداومته - صلى الله عليه وسلم - على السعي في عمرته وحجه، ولذلك قال مالك وأحمد والشافعي: إن السعي فرض، وقال أبو حنيفة: واجب وهو مرتبة بين السنة المؤكدة والفرض، ويعرفونه بأنه ما ثبت طلبه الحتمي اللازم بدليل ظني فيه شبهة.
الثاني: لماذا عبر سبحانه بنفي الجناح، ولم يعبر بالطلب ولا شك أنه كان ثمة موجب لنفي الإثم، وجعله أساس القول، ولقد قيل في هذا كلام فرددته بعض كتب التفسير قالوا: إنه كان على الصفا صنم اسمه إساف، وعلى المروة صنم اسمه نائلة، وقد تحرج بعض المسلمين من السعي بينهما لمكان هذين الصنمين اللذين كان أهل الجاهلية يعبدونهما، ولأن الوحدانية طردت الوثنية من القلوب، فنفَى الله تعالى الإثم لهذا، ولا يمنع نفي الإثم من الوجوب أو الطلب بشكل عام، وقيل إن بعض الأنصار لم يجدوا النص على السعي في القرآن فتحرجوا من أن يفعلوا ما كان يفعله الجاهليون من غير نص، فبين أنه لَا إثم، ودل على الطلب بالنص الذي صدر به القول فيهما وبعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله.
الأمر الثالث: قوله تعالى: (أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أصل يطوف يتطوف قلبت التاء طاء وأدغمت الطاء في الطاء قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، والتطوف المبالغة في الطواف بأن يعددوه، ولا يكتفوا بواحدة، ولكن الصفا والمروة لَا يطوف حولهما ولكن يسعى بينهما، والمشابهة بينهما ليست بعيدة؛ لأن السعي سير على الأرض بينهما وتكرار ذلك سبع مرات، فكان كالطواف في الأرض(1/477)
التي بينهما والله سبحانه وتعالى هو مبين مناسك الحج بالقرآن والسنة النبوية المبينة للقرآن.
(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) التطوع المبالغة في الطاعة فيما أمر الله تعالى به من فرض وواجب ومندوب، فهي المبالغة في أصل الطاعة، وإطلاقها على النفل غير المفروض والمندوبات ونحو ذلك هو من قبيل الاصطلاح الفقهي باعتبار أن النوافل والمندوبات مكملات للفرائض التي هي أصل الطاعات، و (خيرا) وصف لمصدر محذوف وهو مفعول مطلق، والوصف يقوم فيه أحيانا مقام المصدر كما في ْقوله تعالى: (وَاذْكرُوا اللَّهَ كَثِيرًا. . .).
والخير كل ما يكون فيه نفع للناس، وأداء لما أمر الله، وقيام بالواجبات الاجتماعية والإنسانية والدينية، ووصف طاعات الله أو المبالغة في الأداء بأنها خير؛ لأنها في ذاتها خير، ولا يكون ما يأمر الله تعالى به إلا خيرا خالصا، ونافعا خالصا، فكل أمر من الله تعالى فهو خير نافع لَا ينفع سواه.
(وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا) فعل شرط جزاؤه قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) وهذه الجملة السامية هي دالة على الجزاء، متضمنة له؛ لأن تقدير الجواب فله أجر يكافئ ما فعل؛ لأن الله شاكر عليم، أي مُجازٍ جزاء حسنا على ما فعل؛ لأن الله شاكر، والتعبير بالشكر في هذا، وهو أعظم من أن يشكر عبدًا له فالكل منه وإليه، وقد وصف نفسه بأنه غفور شكور، فكيف يشكر المنعم من أنعم عليه؟! وكل ما يقدم العبد من طاعات هو شكر للمنعم جل جلاله، وشكر المنعم واجب بالعقل والنقل، فكيف يكون الله شاكرًا لأنعمه؛ ولكن عبر بذلك، تكميلا لنعمه وتفضله أولا، كما يشكر من يقوم بالواجب تفضلا، ولتحريض العبد على كمال الطاعة ثانيا، ولتعليم العبد شكر النعم ثالثا، ولإثبات رضوان الله تعالى رضوانا كاملا، فإن الشكر زيادة في الرضوان، والرضوان الجزاء.
وقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه مع الشكر الدال على الرضا بقوله: " عليم " أي وصف نفسه بالعلم؛ للدلالة على أنه عالم بمن يقوم بالطاعات فيجازيه،(1/478)
ومن يعمل بالمعصيه، فيجزيه بالسوء سوءا، فهو إشعار للطائع بأنه يعمل تحت رعاية الله تعالى، تحت سمعه وبصره، وهو القائم بكل ما في الوجود، وهو القادر على مكافأة كل بما يعمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وإن الله تعالى من أول قوله تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ. . .)، كان كلامه في بني إسرائيل، وكفرهم بنعم الله تعالى ومخالفتهم لشرائع النبيين الجامعة لرسائل الله تعالى إلى خلقه، وما تخلل ذلك من استقبال القبلة كان ردا على سفاهتهم وغيهم، ثم ما كان يومئ إليه تحويل القبلة من إيذان بفتح مكة، وأن ذلك يحتاج إلى جهاد، فبين سبحانه أن عدة الجهاد الصبر والصلاة، وجاء ذكر الصفا والمروة تبعا لذكر الكعبة وما حولها.
ويختم الله تعالى الكلام في أهل الكتاب ببيان أقبح ما كانوا يعملون، وهو كتمان آياته، ويكتبون بدلها بأيديهم ما يسمونه كتاب الله على أنه من عنده سبحانه، وما هو من عنده فقال تعالى:(1/479)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى)، البينات الأخبار البينة، والأحكام المبينة في الكتاب بعد بيانها، وقد أنزلها الله تعالى في كتبه التي كانت للنبيين السابقين، والهدى هو ما بينه سبحانه من أوامر ومنهيات، فمن كتم البينات الدالة على الرسالات، والأخبار الصادقة عن النبيين، والأحكام الهادية إلى الصراط، فقد كتم علم الله، والكتمان للعلم، إنما يكون حيث تكون الحاجة إلى البيان من قبل أن يكون المقام مقام بيان وتوجيه وإرشاد، فيكون ممن عنده علم كما أنكر اليهود والنصارى ما عندهم من علم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومكة وما حولها، وإبراهيم وأولاده، وكما ينكر العلم من يسأل عنه فلا يجيب، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَن سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار " (1).
والآية موضوعها كل كتمان لعلم أو هداية، وقالوا إنها نزلت في اليهود، ولكن حكمهاء عام يشمل كل كتمان لعلم فيه هداية للناس، فيشمل الذين يعلمون رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يبلغونها للناس، ومن لَا يبينون الشرع الإسلامي لأهله،
________
(1) أخرجه أحمد في مسنده عن أبي هريرة (8284)، وأبو داود: كتاب العلم (3273)، وابن ماجه (262).
وله طريق أخرى من رواية أنس بن مالك - رضي الله عنه.(1/479)
قربوا أو بعدوا، ولمن يجهله، فإنه كما قال علي كرم الله وجهه: لَا يسأل الجهلاء لِمَ لَمْ يتعلموا، حتى يسأل العلماء لِمَ لَمْ يُعلِّموا.
وقد حكم الله تعالى على الذين يكتمون العلم بقوله تعالت كلماته: (أُوْلَئكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) اللعن الإبعاد والطرد، والنبذ من جماعة الخير، وجماعة الحق، وأولئك إشارة إلى الذين يكتمون العلم، والإشارة إلى موصوف بوصف، إشارة إلى أن الوصف علة الحكم، فكتمان العلم علة للإبعاد عن رحمة الله تعالى، ونبذه من الناس، ولعن الوجود كله، واللاعنون تشمل الملائكة والجن والإنس، وكل من يسبح بحمد الله تعالى.
ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء " (1) وهذا إذا بين العلم وذكره للناس وهدى من ليس عنده علم، فإذا كتمه لعنه كل شيء لعنته الملائكة، ولعنه الناس، ولعنه كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء، فاللعن عند الكتمان جزاء، هو نظير الاستغفار عند البيان.
وقد استثنى من هؤلاء اللعونين الذين يبينون من بعد الكتمان، فقال تعالى:
________
(1) روى الترمذي: كتاب العلم - باب فضل العلم (2606)، عن أبي الدرداء قال: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ». كما رواه ابن مَاجه في المقدمة (219)، وأبو داود: العلم (57 31)، وأحمد في مسنده في مسنده (20723) وغيرهم.(1/480)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوأهه التوبة هي الإقلاع عن الذنب، والشعور بالندم، والعزم المؤكد على ألا يعود إليه من بعد، وإذا كان الذنب بالترك عمل، وإذا كان الذنب بالعمل ترك، فذنب الكاتمين كان بترك البيان والتبليغ فتكون التوبة بالبيان والتبليغ؛ ولذلك قال تعالى " وبينوا " أي أكدوا بفعل نقيض ما ارتكبوا.
وقوله " وأصلحوا "، أي تركوا الإفساد واتجهوا إلى الإصلاح، وعمارة الوجود، ونشر الخير بين الناس وإرشادهم إلى أقوم السبل في هذه الحياة، وفي ذلك إشارة إلى أمرين جليلين:(1/480)
أولهما - أن كتمان العلم فيه فساد في الأرض؛ لأنه يجعل الناس في متاهة من الباطل فتنقلب الأوضاع، ويختلط الحق بالباطل، ولا يعرف الناس سبيلا للهداية، وتسد مسالك الخير؛ إذ لَا هادي إلا أن يرحم الله عباده بها، ويرشدهم إليها.
ثانيهما - أن بيان الخير والحق هو الإصلاح في هذا الوجود فلا سلامة يسكت فيها الحق، وينطق فيها الباطل، وقد لعن بنو إسرائيل لسكوتهم عن البيان في وقت الحاجة إليه، وقد قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79). وكما قالت الحكمة: السكوت عن الحق نطق بالباطل، والساكت عن الحق ناطق بالباطل.
وقد جزى الله تعالى التائبين العاملين المؤكدين لتوبتهم بالبيان للحق والإصلاح بأنه يقبل توبتهم، فقال تعالت كلماته: (فَأُوْلَئكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَحِيمُ).
هنا التفات من الإخبار إلى التكلم، فالله تعالى أخبر عنهم في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمًونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ) إلى آخر الآية، ثم التفت من الإخبار إلى التكلم عند الجزاء، وكذلك الأمر في أكثر البيان يكون ذكر المعاصي والتوبة منها بالإخبار أو الخطاب؛ ويكون الجزاء من الله تعالى بضمير المتكلم تربية للمهابة، والإشراق في النفس، والإشعار بالرضا، وإن قبول التوبة أحب إلى العاصي التائب من كل ما في الوجود، وهو رفع له من ذلة الذنب وخسته إلى رفعة الحق وعزته؛ ولذا قال عز من قائل: (فَأوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) الإشارة إلى الموصوفين بالتوبة الذين بينوا ما كتموا وأقاموا الإصلاح مكان الإفساد، وكما قلنا وكررنا الإشارة إلى الموصوف بيان أن العلة هي الوصف، فقبول التوبة سببه التوبة النصوح، والعمل على نقيض المعصية وما ترتب عليها، و " أتوب عليهم " معناها أرجع عليهم(1/481)
بالقبول والجزاء، فكما أنهم رجعوا إليَّ من تيه المعصية أرجع بقبول التوبة وغفران الذنوب، ثم قال عز من قائل: (وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي كثير قبول التوبة لأني رحيم بعبادي، وإن كان الناس لَا يذنبون أتيت بمن يذنب لأقبل توبته كما ورد في معنى الأثر (1).
وإن هاتين الآيتين تدلان على وجوب بيان الهادي إلى الرشاد، كما ورد في الأثر، وإن تبليغ العلم يجب أن يكون على علم بسياسة البيان بأن يبين للناس ما يطيقون، ويتدرج من اليسير، حتى يكون العسير سهلا يسيرًا، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " حدث الناس بما يفهمون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟! " (2).
ويجب بيان الحق الذي لَا زيغ فيه، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها، فتظلموها " (3) وقال عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى: " لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير " (4). وفق الله العلماء للنطق بالحق وألا يفتحوا باب التأويل لذوي السلطان حتى لَا يضعوا الدر في أعناق الخنازير.
* * *
________
(1) عَنْ أبي ايُوبَ أنَّهُ قَالَ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: كُنْتُ كَتمْتُ عَنْكُمْ شَيْئا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَوْلا انَّكُمْ تُذْنِبُونَ لَخَلَقَ اللَّهُ خَلْقَا يُذْنبُونَ يَغْفِرُ لَهُمْ ".
رواه مسلمَ: كتاب التوبة (4934) ورواه أيضا (4936) عن أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْبم يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ". كما رواه أحمد والترمذي.
(2) أخرجه البخاري عن علي موقوفا: " حَدثوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أتُحِبُونَ أنْ يكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟! " [كتاب العلم: (134)].
(3) جاء في كشف الخفا (3124): لَا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
رواه ابن عساكر عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم قام في بني إسرائيل فقال: يا معشر الحواريين لَا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتظلموها، والأمور ثلاثة: أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين لكم غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف عليكم فيه فذروا علمه إلى الله تعالى.
(4) جاء في سنن ابن ماجه: المقدمة (220) عَنْ أنَسِ بْنِ مَالكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " طَلَبُ الْعِلْم فَرِيضَةٌ عَلَى كُل مُسْلِم، وَوَاضِعُ الْعِلْم عِنْدَ غَيْرِ أهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنًازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللؤْلُؤَ وَالَذَّهَبَ ".(1/482)
الوحدانية والوثنيون
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
* * *
بعد أن أنهى الله تعالى موضوعات أهل الكتاب في هذا الموضع من القرآن، وقد كان فيهم كفران النعم، والنفاق وكثرة العدوان والفساد في الأرض، والعبث بالأحكام، والاستهزاء بآيات الله تعالى. بعد ذلك أخذ يبين أقوال الوثنيين وإثبات وحدانية الله تعالى، وابتدأ القول في بيان حال الكفار من المشركين وأهل الكتاب الذين ماتوا على الكفر، فقال تعالى:(1/483)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَروا وَمَاتوا وَهُمْ. . .).
ذكر بعض العلماء أن موضوع الآية الكريمة كفار مكة الوثنيون قبل أن يدخلوا في الإسلام، بدليل الكلام بعد ذلك في الوثنية والوثنيين، وبيان الوحدانية ودليل التوحيد من خلق الكون.(1/483)
ونحن نرى أن وصف الكفر يعم المشركين والكتابيين، فالكتابيون كافرون كما قال تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ. . .)، ولقوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ. . .)، ولقوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).
وهذه أوصاف الكفار؛ لأنهم لَا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، فهم داخلون في وصف الكفار، والكفر كله ملة واحدة، فلا تفاوت فيهم، ولا فضل لكافر على كافر وليس كفرٌ دون كفر، بل جميعهم في الجحيم على سواء.
وقد حكم الله تعالى عليهم الحكم الأبدي، إذا ماتوا على الكفر مصرين عليه بعد أن بلغوا بالرسالة فكفروا بها، وماتوا على الكفر بها جاحدين معاندين منافرين معذبين الضعفاء، ومثيرين للبغضاء والأحقاد، حكم الله تعالى عليهم بقوله عز من قائل: (أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ولعنة الله تعالى إبعادهم من رحمته، وألا ينظر إليهم نظرة رضا، ومن تكون حاله كذلك يكون في النار خالدا فيها، ولعنة الملائكة تعذيبهم لهم بأمر الله تعالى، وإبعادهم عن رحمته، ولعنة الناس بنبذهم، والدعاء باللعنة عليهم.
وهنا أمران بيانيان نشير إليهما ونجمل ولا نفصل:
أولهما - أن الإشارة في قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ) تعود على الكفار الذين ماتوا مصرين على الكفر قد بلغتهم دعوة الله، وكما قلنا ونكرر الإشارة إلى موصوف فيه إشارة إلى أن علة الحكم الوصف، وهو موتهم على الكفر بعد البيان والإنذار الشديد، (. . . وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسولًا).(1/484)
الثاني - أن الله تعالى ذكر في بيان عذابهم أن عليهم اللعنة، أي أن اللعنة تنصب على رءوسهم انصبابا وتحيط بهم من فوق رءوسهم وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، فهم بعداء عن رحمته، وعليهم غضب الله والملائكة والناس أجمعين، وإن تلك اللعنة تنالهم بسبب موتهم على الجحود والإصرار على الكفر.
وقد أثار الناس جدلا موضوعه هل تجوز لعنة الكافر وهو حيٌّ، فناس لم يجيزوها، لأنه يجوز أن يتوب الله تعالى عليه، وجواز اللعنة إنما كانت على الكفار الذين ماتوا على الكفر، ومن كان حيا ترجى توبته، أو تجوز توبته.
ومن العلماء من أجاز اللعنة على الحال التي هو عليها، وخصوصا إذا كان ممن يؤذون صاحب الدعوة، ويروى في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن عمرو بن العاص، وهو على الكفر، فيروى في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أني لست بشاعر، فالعنه واهجه عدد ما هجاني ".
وقد اتفق أهل العلم على أن اللعن الذي ذكرته هذه الآية عقاب من الله تعالى، وغضب على الكافر، وجزاء له كجزاء جهنم.
وأكثر العلماء على أن لعن المسلم لَا يجوز ولو كان عاصيا، لأنه يخزيه ويذله، وخزيانه وذله يقربه من الشيطان ويجعل للشيطان مدخلا في نفسه، يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أُتي بشارب خمر مرارا، فقال بعض من حضره: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: " لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم " (1).
وقد بين سبحانه أنهم خالدون في عذابهم، فقال تعالت كلماته:
________
(1) [أخرجه البخاري: كتاب الحدود - باب ما يكره من لعن شارب الخمر (6283)، كما أخرجه أبو داود (3882) وأحمد (5 764)].(1/485)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
(خَالِدِينَ فِيهَا لَا يخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ) الخلود هو البقاء الدائم الذي لَا نهاية له، وكثيرا ما يذكر الخلود موصوفا بالدوام، وبصيغة مؤكدة، وقد انحرف بعض الناس فقال إنهم يبقون في العذاب بمقدار جرمهم الدنيوي وزمانه، وذلك انحراف في الفكر وإن قاله بعض الذين لم يعرفوا بالانحراف.(1/485)
والضمير في (فيها) يعود على اللعنة، وتكون اللعنة من الله تعالى مقتضية الدخول في النار، لأنها متضمنة غضب الله تعالى يوم القيامة، وغضب الله تعالى مقترن به عذابه، وإنه عذاب مؤلم مستمر لَا يخفف عنهم، ولا ينقطع بل هو مستمر، لأن سببه استمر طول حياتهم في الدنيا، ولا ينظرون، وقد أكد الله تعالى أنهم لَا ينظرون ولا يؤجلون بذكر ضمير الفصل الذي يؤكد الحكم.
وقد صرح الله سبحانه وتعالى بالوحدانية، فقال تعالى:(1/486)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
وقوله تعالى: " وإلهكم " بالإضافة إليهم فيه إشارة إلى أن المعبود الذي تعبدونه بحق إله واحد، فالذين تعبدونهم من أوثان وأحجار ليسوا بالهة بل إلهكم الحق الذي يجب أن تعبدوه واحد لَا إله إلا هو، لَا يعبد بحق إلا هو، ولا يمكن أن يسمى غيره من الأوثان باسمه، إنما هي أسماء سميتموها ما أنزل الله بها من سلطان، فالإله هو الخالق الذي ينفع ويضر، وأنشأ الوجود برحمته، وعمهم بنعمته، ولقد وصفه سبحانه وتعالى بأنه " الرحمن الرحيم " الذي يتصف بالرحمة، وتعتبر صفة من صفاته، وهو الذي يرحم العباد فعلا، وقد بينا معنى الاسمين الكاملين من قبل.
وقد ذكر سبحانه وتعالى هذين الوصفين من بين الأسماء الحسنى؛ لأنهم يحسون بأنهم في آلائه، ورحمته، فهم إذا كانوا في شدة لَا يستغيثون بآلهتهم، وإذا كانوا في ضر لَا يلجئون إلا إليه (أَمَّن يُجيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ معَ اللَّهِ. . .)، ويقول تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)، ويقول تعالى في بيان حالهم في مأساتهم وشدائدهم وأنهم يضرعون إليه: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64).
فأولئك الوثنيون من العرب كانوا يعرفون الله تعالى ولكن يعبدون أوثانهم، وعندما تشتد الشديدة عليهم يلجئون إلى الله وحده مستعينين طالبين الرحمة من(1/486)
عنده، ولا يرجون الرحمة من غيره قط؛ ولذا كان وصفه بالرحمة؛ لأنهم يلجئون إليه وحده عند رجاء الرحمة فلا يرجونها من غيره، وكأن المعنى: الواحد الأحد هو الذي يرحمكم عندما تضرعون إليه فكان المنطق يوجب عليكم ألا تعبدوا غيره.
ولقد بين سبحانه دلائل وحدانيته، وأن خلق الوجود بإرادته، ولم يخلق الوجود من غير إرادة خلاقة مسيطرة على ما في الوجود، يعرف ما خلق، ويدبره والدليل على ذلك:
أولا - تنوع خلقه من سماوات وأرضين، ومن ماء ينزل فيحي الأرض بعد موتها، مما يدل على أنه مخلوق بإرادة واحدة.
ثانيا - تصريف الوجود من حال إلى حال، من ظلمة ونور وليل ونهار، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل.
ثالثا - المخلوقات المستمرة من رياح تتحرك وسحاب مسخر، وجريان الفُلك على الماء بأمره، وكل ذاك لمعنى أريد، وغاية قصدت لَا تكون إلا من خالق مريد منفرد بالإيجاد.
رابعا - الإيجاد بالتوالد المستمر، وانتظام هذا الوجود مما يدل على وحدة الموجد، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).
فهذه الآية الكريمة تشير إلى القدرة المنفردة بالتكوين، فتنفرد لَا محالة بالعبادة والألوهية، وفي معنى هذه الآية وإن كانت بأسلوب بياني آخر، (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11).(1/487)
هذه إشارات إلى بعض ما في الآية من بينات، وأدلة على أن خالق الكون واحد مدبر وحده لَا يشاركه في هذا الإيجاد المحكم الذي يسير على سنة رسمها منشئه، لَا تقدير لخلق إلا من الله وحده، وهو العليم الحكيم. ولنذكر ما ساقه سبحانه وتعالى من كلمات في هذا الكون.
قوله تعالى:(1/488)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ... (164) قالوا: إن المشركين لما ذكر الله سبحانه وتعالى وحدانيته طلبوا دليلا على الدعوى، وإردافها ببينة واضحة، فقال الله تعالى ذلك، وإذا لم يكن سؤال، فإنها جواب على فرض سؤال إذ العقل طُلَعَة يريد معرفة سر كل شيء.
والسماوات جمع سماء، وجمعت لأنها تشتمل على طبقات مختلفة من أبراج ونجوم وكواكب يمسكهن الله تعالى برباط محكم مما سنه في الكون من جاذبية رابطة، ونسق بهيج، (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَد مِنْ بَعْدِهِ. . .)،، فهو سبحانه خلقها وأمسكها وحفظها من أن تنتثر أو أن تنفطر ووحد الأرض؛ لأنها في سطحها وظاهرها شيء واحد، وإن كانت هي الأخرى طبقات.
وآية السماوات ما فيها من أبرج ونجوم وارتفاعها بغير عمد ترفعها، وما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة الباهرة مشرقة ومغربة نيرة، وغير نيرة.
وآية الأرض ما فيها من بحار وجبال رواسي، وما في باطنها من فلزات ومعادن وماس، وما فى بحارها من لآلئ ومرجان وعنبر، فكل هذا آية على وجود الله تعالى ووحدانيته؛ فهو خالق الوجود وحده.
وقوله تعالى: (وَاخْتِلافِ الَّليْلِ وَالنَّهَارِ) بأن يكون كل واحد منهما خلفا، كما قال تعالى: (وَهوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً. . .)، واختلافهما من حيث الظلمة والنور، ومن حيث الطول والقصر وأن يطول الليل مرة أكثر من النهار وأن يطول النهار أخرى أكثر كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ. . .)، وقد قال تعالى: (وَآيَةٌ لهُمُ اللَّيْلُ(1/488)
نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ)، وآية الليل والنهار هي انتظامهما وتغير أحوالهما بفعل الواحد الحكيم العليم.
وقوله تعالى: (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ) والفلك تذكر - وتؤنث، وهي السفن التي تحمل الأثقال وتنقلها من بلد إلى آخر، أو إقليم إلى آخر، لينتفع أهل الأرض بكل خيراتها، وما يفضل من إقليم ينقل إلى غيرها، فيعم الخير، ويتبادل الناس جميعا ما في الأرض من نبات وحيوان؛ ولذا قال سبحانه: (الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ) وآية الفلك أنها تحمل أثقالا ويحملها الماء السائل الرقيق، ولقد قال تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44).
وإن في الفلك آيات أخرى في تسخير الله تعالى لها بالرياح تجريها وتتحرك حيث أراد محركها، وإنه بعد اتساع العلم، وقدرة الإنسان في تسخير الآلات والسيطرة عليها ما زالت الرياح عاملا قائما في تسيير الجاريات وقوله: (وَمَا أَنزَلَ اللَّه مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء) السماء المراد بها ما علا مما يتصل بالأرض، وإن الله وحده هو الذي ينزل الماء أي الأمطار، ولأنها تجيء من غير حسبان، وتجيء بالاستسقاء أحيانا، أسند إنزال الماء إليه سبحانه وتعالى، لأنه المصرف للسحاب، ولا يمكن ابن الأرض أن يعرف متى تمطر السماء، ومتى يكون مطرها غيثًا يسقى الناس والدواب والأنعام والحرث والنسل ومتى يكون وابلًا عاصفًا مفسدا وفاسدا. وبين الله تعالى وجهًا من وجوه النعمة في نزول المياه من السماء إلى الأرض بتسخيره، فقال تعالى: (فَأحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) والمراد الظاهر أنها من قبله كانت جرداء لَا نبات فيها، ولا زرع ولا ثمر، فكانت كالميت فينزل الماء فيحييها بالخضرة والنضرة، وتصير كأنها الحي، في ريِّقِ حياته، كما قال تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35).(1/489)
وقوله تعالى: (وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ) الدابة كل ما يدب على الأرض من الحيوان كما قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا. . .)، وبث أي فرقها ونشرها من أنعام وإنسان وطير وغير ذلك من الحيوان، فإن ذلك كله من الماء الذي ينزل من السماء سواء أكان سيلا يسيل، أم نهرا يجري، أم عينا تختزن فيها مياه الأمطار في باطن الأرض، ولقد قال تعالى: (. . . وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)، والآية في ذلك أن الماء به الحياة، والله تعالى منزله ومجريه ولو شاء ما كان في الناس هذه الحياة من كل زوج بهيج.
وقوله: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ)، معناه إرسالها على غير صورة واحدة، فقد تكون عقيما، وقد تكون مملوءة ماء، وقد تكون عاصفا وقد تكون رخاء، وتكون حارة أحيانا وباردة أحيانا، وقد تجيء من الشمال وقد تكون من الجنوب ومن الشرق أحيانا، ومن الغرب أحيانا أخرى، وفي مقدار تسييرها للسفن الجاريات في البحر ما بين كبيرة وصغيرة ودافعة ورافعه، وإن ذلك كله بتقدير العزيز العليم، وقد يقولون: إن ذلك كله يكون تابعا لسنن كونية آتية من حرارة الأرض أو برودتها، وإن ذلك لحق، ولكن من الذي سن هذه السنن الكونية؛ إنه هو الله تعالى، وهو قادر على تغييرها، وهذه آية من آيات الله تعالى في الكون، وفيه بيان قدرة الله تعالى وحكمته العالية.
وإن الله تعالى نصر نبيه بالريح في غزوة الخندق، وقد روى ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " نصرت بالصَّبا، وأهلكت عاد بالدَّبور " (1)، ولقد قال تعالى في غزوة الخندق: (فَأرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا. . .)، وكل خواص الرياح من آيات الله تعالى الدالة على وحدانيته وانفراده بالخلق والتكوين وذلك يقتضي انفراده تعالى بالعبادة فلا يعبد سواه ولا إله إلا الله.
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الجمعة (977)، ومسلم: كتاب الاستسقاء (1498) عن ابن عباس - رضي الله عنهما.(1/490)
وقوله: (والسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) والسحاب ظلال تنتقل بين السماء والأرض، وسميت سحابا لانسحابها من مكان إلى آخر، وهي قد تكون ممتلئة فتنزل على الأرض إذا بردت، ويكون منها الودق، وقد قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43). والسحاب المسخر المذلل لأوامر الله تعالى يبعثه من مكان إلى مكان كما يريد سبحانه، وهو العليم الخبير، فيذهب بمطره إلى الأرضِ التي يريد الله تعالى إحياءها، ولقد قال تعالى: (وَاللَّه الَّذي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابَا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ. . .)، ويقول تعالى: (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ. . .)، فالسحب هي التي سخرت لتوزيع المياه بإرادة الله تعالى من أرض لَا تنبت إلى أرض أخرى تنبت، فإذا كان الله ينزل من السماء ماء ليكون منه حياة كل شيء، فالله سبحانه وتعالى سخر السحاب لتوزيع هذا الماء الذي ينزله على حسب الحاجة وعلى حسب حكمته، وسنته.
هذا الذي ذكره سبحانه من خلق السماوات والأرض والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، والمطر الذي ينزله من السماء، وتصريف الرياح بسق كونية نظمها، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، فيه آيات بينات، وأدلة واضحات قاطعة تدل على وجود الله تعالى وانفراده سبحانه بتدبير الكون، وعلى أن إرادة واحدة هي التي أنشأته وهي التي تديره، سبحان الله رب العالمين؛ ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر تلك الآيات البينات (لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) هذه الجملة السامية فيها جواب " إن " في قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَات وَالأَرْضِ) إلى آخر الآية الكريمة. " آيات "، أي أدلة قاطعة لَا مجال للريب فيها (لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يعملون عقولهم لَا أهواءهم، ولم تطمس عليها أوهام توارثوها، وتقليد استمسكوا به، وقالوا ما نعبد إلا ما كان يعبد آباؤنا من قبل.
وعبر سبحانه وتعالى بـ " قوم " للإشارة إلى الأقوام التي لَا تعقل ولا تفكر.
* * *(1/491)
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
* * *
ذكر الله وحدانيته سبحانه وتعالى، وأنه لَا إله إلا هو، وذكر الأدلة على الوحدانية، وأنه حافظ الإنسانية ومنميها، والأحياء جميعا، ومع هذه الأدلة الواضحة ومع ما غمر الإنسان من نعم ووجود وكيان قائم، مع ذلك وجد من يجعلِ للخالق المدبر أندادًا في العبادة؛ ولذا قال:(1/492)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا) الأنداد جمع ند وهو النظير المقابل المماثل، وأنهم يتخذون الأصنام أو الأشجار أندادا مماثلة لله تعالى يتعبدون الأصنام، ولا يذكرون الله إلا قليلا، أو الأشخاص فيطيعونهم كأن أوامرهم هي من الله تعالى، وإن ذلك كله مع قيام الأدلة التي لَا ريب فيها مما نيط بهم في هذا الكون الذي هو في ذاته دليل الوحدانية، ونعم من آلائه، سبحانه وتعالى فالإنكار ابتداء هو في اتخاذهم هؤلاء الأنداد أيا كانوا، وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ) فيه إشارتان بيانيتان: الإشارة الأولى - التعبير (وَمِنَ النَّاسِ) فمن للبعضية، أي بعض الناس، وفي ذلك تصغير لشأنهم وتهوين لأمرهم سواء أكانوا عددا قليلا، أم كانوا عددا كثيرا(1/492)
فهم مهينون في تفكيرهم، إذ هم رفضوا الدليل المشتق من وجودهم، وما يحيط بهم، فضلوا ضلالا بعيدًا، والتعبير عنهم بذلك (وَمِنَ النَّاسِ) إشارة إلى أنهم ليس لهم من وصف إلا أن يقال إنهم من الناس، فليس لهم وصف علم ولا إيمان، ولا شيء من المكارم التي تعلى الإنسان وتسير به في مدارج الرقي، كما تقول عن رجل محتقرا: هذا الآدمي، أي ليس له من الصفات إلا أنه آدمي.
الإشارة الثانية - أن الله تعالى قال: (يَتَّخِذ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا). فيه إشارة إلى أنهم - أي الأنداد - ليس لهم وجود ذاتي بهذا الاعتبار، إنما هم الذين جعلوهم كذلك جعلا، فما كان لهم ذلك إلا بزعمهم الباطل وحدهم، وهم يحسبون أنهم بهذا الاتخاذ يحسنون صنعا.
وإنهم لَا يكتفون بذلك الاتخاذ الباطل، بل يعبدونهم ويحبونهم كحب الله تعالى بأن يجعلوهم نظراء الله تعالى في المحبة والخضوع وطلب الرضا.
وقوله تعالى: (كَحُبِّ اللَّهِ) قد يكون معناه أنهم يسوونهم بالله تعالى في العبودية، والطاعة والرضا بما يعتبرونه مرضيا لهم مع أنهم يرون أنهم لَا ينفعون ولا يضرون، وإذا أنزلت بهم شديدة لَا يلجأون إلا لله، ولا يطلبون كشف الضر إلا منه كما تلونا من كتاب الله تعالى ما يحكيه عنهم، فهم يفرقون بين معبوداتهم، وبين الله في شدائدهم، ولا يفرقون في رخائهم، وقد علمت أن وثنيي العرب ما كانوا ينكرون وجود الله وأنه المنشئ المكون للوجود، (وَلَئِن سَآلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقولُنَّ اللَّهُ. . .)، ويقولون في أوثانهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله.
وهذا التخريج هو الأقرب إلى الخاطر، وهناك تخريج آخر، يقول إن معنى قوله تعالى (كحُبِّ اللَّهِ) أنهم يحبونهم كحب المؤمنين لله تعالى، فهم ينزلون أندادهم منزلة الله تعالى عند أهل الإيمان فيفردونها بالعبادة كما يفرد المؤمنون الله تعالى بالعبادة وحده.(1/493)
والتخريج الأول أظهر وأقرب إلى الخاطر، وهو المتبادر، ولقد قال بعد ذلك: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ)، أي أن المؤمنين لوصفهم بالإيمان ولإذعانهم بالحق ولأنهم يعبدون من يملك النفع والضر، وأنه خالق الكون؛ ولأن حبهم مقصور على الذات العلية، فإنهم بذلك أشد حبا لله، ومظهر حب الله تعالى الإخلاص له، وتسليم الوجه والطاعة له، والخضوع له، ولما يأتي من عنده، فحب الله طاعته، وأن تمتلئ النفس بذكره، وأن يكون حبه كله لله تعالى لَا يحب شيئًا في الوجود إلا لله، كما قال تعالى: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ... ) ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا لله " (1) فالله في قلبه وفي عمله، وقوله واختلاطه بالناس، وهو معه دائما.
وإن الله تعالى قد أعد العقاب الشديد لأولئك الذين اتخذوا الأنداد، وقدسوا الحجارة، وعبدوا الطاغوت، وقد قال تعالى في وصف عقابهم الهائل: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) والذين ظلموا هم الذين اتخذوا الأنداد، وأظهرهم، ولم يعبر عنهم بالضمير أو الإشارة، لبيان أنهم ظالمون ظلموا أنفسهم وظلموا الحقيقة، وضلوا وأضلوا، وإن ما ينالهم من جزاء هو بسبب ظلمهم، وقوله تعالى: (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) مفعول يرى، ويصح أن تكون يرى الأولى علمية، ويكون المؤدى أن ذلك يوم القيامة وظلمهم كان في الدنيا، ويكون سياق الكلام هكذا: لو يرى الذين ظلموا أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب، لو يرى الذين ظلموا ذلك، وهم يرون العذاب الواقع فعلا، والمعنى يرون العذاب رأي العين بالعين البصرية يوم القيامة ويعلمون أن القوة لله جميعا، وأن الله شديد العقاب.
فهم يرون العذاب فعلا رأي العين، وقد علموا في ذلك الوقت أن الله سبحانه وتعالى له القوة جميعا، فلا قوة لأحد أن يزحزحهم من النار التي هم فيها، ويعلمون أن الله شديد العقاب.
________
(1) عَنْ أبِي أمَامَةَ، عَنْ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: " مَنْ أحَبَّ لِلَّهِ وَأبْغَضَ لِلَّهِ وَأعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَد اسْتكمَلَ الإِيمَانَ ". [سنن أبي داود: كتاب السنة (4061)].(1/494)
وهنا إشارتان بيانيتان لابد من ذكرهما:
الأولى - أنه سبحانه يقرر أن الذين ظلموا لو علموا قوة الله وأنه شديد العقاب، (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) وهم يرون العذاب برؤية العين البصرية، وإذ هنا للزمن الماضي وذكرت هنا لبيان تحقق الرؤية كما يذكر الماضي في موضع المستقبل لتأكد الوقوع.
الثانية - أن قوله تعالى: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) إلى آخره، هذا فعل شرط، فأين الجواب؟ ونقول: إن الجواب محذوف ومقدر بما يناسب المقام، وهو الهوان الشديد، ويكون المعنى لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لرأوا هولا شديدا لا يكتنه كنهه، ولا تدرك حقيقته إلا عند رؤيته.
وإن العلم بقوة الله تعالى، وشدة عقابه، وأنهم قد رأوا بوادره، فيه تهديد شديد، وعذاب شديد، ويلاحظ أن الله تعالى قال: شديد العقاب، ولم يقل شديد العذاب كما قال في موضع آخر؛ لأنه ذكر الجريمة، وهو اتخاذهم الأنداد، فالعذاب الذي يرونه هو عقاب، والعقاب دائما من جنس الفعل، وليس عذابا لذات العذاب بل هو جزاء وفاق لما قدموا.
وإنهم في هذا اليوم لَا يكون لهم خل ولا شفيع، وإن الذين يتبرءون منهم، لأنهم جميعا في عذاب أليم، وكل يفكر في هول ما نزل به، ولذا قال تعالى:(1/495)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) تبرأ المتبوع من التابع وتبرأ الرئيس المتغطرس من المرءوس الذليل الضعيف، وهذا كما قال الله تعالى في سورة إبراهيم (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22).(1/495)
وقوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) " إذ " للدلالة على الزمن الماضي، وهي هنا للمستقبل فيكون استحضار الحال المستقبل، أو يقال إنها لزمن القول، وهو عن زمن في الماضي وفيما بعد إخبار عن المستقبل، يتبرأ المتبوعون من التابعين الذين يقولون: هؤلاء الذين أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار. فيتبرأ المتبوعون منهم ويقال: لكل ضعف ولكن لَا تعلمون. فهم إذ يرون العذاب لَا يفكر أحد منهم في تضليله للآخر، وإن ذلك التبرؤ وهم قد رأوا العذاب. لقد ضل التابع وضل المتبوع وقد كان مآل الفريقين النار.
وقد كانت بينهم مودة موصولة جعلت بعضهم يتبع الآخر على الشرك والضلالة، وكانت أحيانا تكون الصلة نسبية، أو عصبية جاهلية، وقد بين سبحانه أن تلك الصلات كلها تتقطع، ولذا قال عز من قائل: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) الأسباب جمع سبب وهو في الأصل الحبل الذي يشد به الشيء أو يصل بين أمرين برباط بينهما والمراد هنا الصلات التي كانت تربطهم من عصبية جاهلية أو رحم أو رياسة أو من أي تبعية كانت. هذه الصلات تقطعت، وتقطعت مبالغة في القطع، أي أنها قطعت من كل ناحية بحيث لَا يمكن وصلها بحال من الأحوال.
وإن أولئك الذين أضلهم كبراؤهم، وأخذوا عليهم طريق الهداية ينالهم الألم المرير، لأنه كان - بين طريق الحق المستقيم ومخاوف الشيطان على الطريق - النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ويهدي، وعلى رأس السبل الأخرى شياطين الإنس يقودونهم إلى الضلال، فسلكوا طريقهم، فلما كان عذاب يوم القيامة يتخلى عنهم الذين قادوهم إلى مهاوي الشر، وكانوا معهم في النيران وتبرءوا منهم، فتمنى التابعون أن يعودوا إلى الدنيا، ليتبرأوا منهم كما تبرأوا هم منهم، ولذا قال الله تعالى:(1/496)
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
(وَقَالَ الَّذِينَ اتبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا) " الكرَّة ": الرجعة مرة أخرى إلى ما كانوا في الدنيا، و " لو " للتمنى، ومعنى الجملة لو ثبت أن لنا كرة نتمناها (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا)، وإن تفسير هذا التمني أنهم في الآخرة، أخلوا بهم وتبرأوا منهم فتمنيهم العود إلى الدنيا ليتبرءوا من دعوتهم إلى الباطل وينفروا منهم ويتبعوا(1/496)
الصالحات. فالمتبِعون يتبرءون منهم في الآخرة، ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا، ليعلنوا التبرؤ منهم ومنافرتهم بالبعد عنهم كما خذلوهم في هذه الشدة، وقد بين سبحانه أن تمنياتهم لو حققت ما تبرأوا وما عملوا فقال تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ. . .)، وإن غرور الحياة لَا يمكنهم من أن يعتبروا بل ستدفعهم أهواؤهم إلى مثل ما فعلوا أولا فهم في ريبهم يترددون، وإن ذلك التصوير الذي صوره الله تعالى لحالهم يوم القيامة هو ليريهم أعمالهم حسرات عليهم، ولذلك قال تعالى: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ).
أي كان هذا منهم كذلك ليكون ذلك عقابا لهم فوق عقابهم بعذاب النار، وذلك العقاب بأن يريهم أعمالهم التي مضت على أنها حسرات، توالت عليهم حسرة بعد حسرة، فكان جمعها للدلالة على كثرتها وأنها متوالية حسرة تخلفها حسرة، وإذ أعمالهم كثيرة، فحسراتهم كثيرة، وحسرات مفعول ثان؛ فالله تعالى يريهم تلك الأعمال حسرات تكبو لها النفوس بعد أن كانت في الدنيا مسرة يفرحون بها ويطربون بسوء ما يفعلون.
ومع هذه التمنيات التي تجعل نفوسهم متلهفة على العودة إن كان ذلك ممكنا، والحسرات المتتابعة فهم في النار خالدون فيها، ولذا قال تعالى: (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) فنفَى الله تعالى نفيا باتا قاطعا خروجهم من النار، وأكد ذلك النفي باستغراق النفي الثابت بالباء وبضمير الفصل وبالجملة الاسمية.
* * *
الطيبات حلال الله، والشيطان يأمر بالفحشاء
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)(1/497)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
* * *
النداء بقوله تعالى(1/498)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) يشمل الناس جميعا مؤمنهم ومشركهم، وكافرهم سواء أكان وثنيا أم كان كتابيا، وإن الله تعالى بين حال الذين اتخذوا من دون الله تعالى أندادا. وأنه يوسوس لهم في طعامهم وطيباتهم وما أحل الله تعالى لهم، ولذا جاء الأمر بالأكل من الحلال والنهي عن تتبع خطوات الشيطان، بعد التنديد باتخاذ الأنداد، وبيان الذين يتخذونها يوم القيامة.
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا) الأمر هنا للإباحة من حيث الجزء، ولكنه للطلب المفروض من حيث الكل، فيباح الأكل بالجزء في الأوقات التي يتخيرها، وفي الطيبات التي يستحسنها، ولكن لَا يباح أن يترك الأكل جملة، لأنه يؤدي إلى الهلاك وهذا منهي عنه.
وقوله تعالى: (مِمَّا فِي الأَرْضِ) أي مما تخرحه الأرض من نبات وزرع وثمار وما يمشي من حيوان طيب يحل أكله وما يكون في جوها من طير يطيب أكله.
وقد ذكر سبحانه وتعالى ما يباح أكله أو يطلب بوصفين: أحدهما أن يكون حلالا لم يحظر أكله كالخنزير والميتة وسباع البهائم وسباع الطير والمنخنقة والموقوذة والمتردية في بئر حتى ماتت، والنطيحة، وما أكل السبع من غير تذكية، وما كان في أصله حلالا، ولكن اقترن به ما جعله محظورا كالذبح على النصب والاستقسام بالأزلام أو سمي عليه بغير اسم الله، أو لم يذك تذكية شرعية فإن ذلك كله ليس بحلال.(1/498)
والطيب هو الذي تستطيبه النفوس، وينميها ويغذيها غذاء صالحا، ولا يكون طيبًا إلا إذا كان كسبه من حلال ولا يكون من حرام، ولا يكون حلالا إذا كان من الرشوة أو من السحت أو الربا أو من غلول، وفي الجملة أن يكون كسبه خبيثا، ولو كان في أصله طيبا. روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا) فقال عليه الصلاة والسلام: " والذي نفسي بيده، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت أو الربا، فالنار أولى به " (1).
وبعد الأمر بالحلال نهى عن كل حرام بألا يطيع الشيطان، فقال تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) وهذا يصل الكلام بالآية السابقة التي بينت أن من الناس من اتخذ أندادا بوسوسته وإغرائه.
الخطوات جمع خُطوة بضم الخاء وهي الأفصح، ويجوز فيها خَطوة بفتحها والخطوة ما بين القدمين عند انتقالهما، والخطوات ما بينهما متتابعا، وهذا كناية عن السير في طريق، وتتبع السير فيه، باتباع حركاته، وسيرها، وكأنما شبهت حال أتباعه بحال من يتبع سيره خطوة بعد خطوة، فلو سار به في ضلال سار معه، وانهوى به في هاوية من الفساد، وإن السير وراءه هو سير وراء عدو واضح العداوة، ولذا قال تعالى معللا النهي بقوله تعالى: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مبِينٌ)، بمعنى بيِّن العداوة لا يخفيها ولا يطويها، فمبين بمعنى إن عداوته جلية واضحة؛ لأنه يبينها ولا يخفيها من يوم أن عارض آدم كما قال تعالى: (اهْبطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ. . .)، وكما قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبه ليَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)، وكما قال تعالى: (إِنَّهُ عَدُوٌّ مضِلٌّ مبِينٌ)، وكما قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُم الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ. . .).
________
(1) رواه بهذا اللفظ الطبراني في الصغير عن ابن عباس رضي الله عنهما. [راجع مجمع الزوائد (10181)، والترغيب والترهيب (2664) وتخريج أحاديث الإحياء للعراقي ج 2 ص 90 (الحلبي)].(1/499)
وإن النهي عن اتباع خطوات الشيطان له مغزاه ومعناه، ذلك أن الشيطان يجيء من الحلال الطيب الذي تشتهيه الأنفس فيخلطه بغيره، ويأخذ بالنفس التي تطيعه من طيب المال إلى سوئه، ويأخذهم من مشتبهات الحلال إلى الحرام، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات " (1)، فهو يجيئهم من هذه المشتبهات ومن أجل ذلك كان الأمر بالحلال قد اقترن به النهي عن تتبع خطوات الشيطان الآثمة لأنها تجيء على مقربة من الحلال.
وكذلك من تتبع خطوات الشيطان أن يحرم المباح على نفسه كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّه. . .)، ولقد أتي عبد الله بن مسعود بضرع وملح وجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم فقال: لَا أريد. فقال: أصائم أنت؟ قال: لَا. قال: فما شأنك؟ قال: حرمت أن آكل ضرعا أبدًا فقال ابن مسعود: " هذا من خطوات الشيطان " (2)، وكذلك كل تحريم للطيبات هو من خطوات الشيطان، فكان النهي عن اتباع الخطوات مقترنا بإباحة ما أحل الله تعالى؛ لأنه مخالفة لما قرره الشرع.
ولقد ذكر الله تعالى أن الشيطان لَا يكون منه خير قط، بل سوء وفحشاء، وما لَا يكون فطريا، فقال تعالى معللا النهي عن اتباع خطواته:
________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب الإيمان (50) ومسلم: كتاب المساقاة. (2996) عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه.
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى (15339) ج 11 ص 259.(1/500)
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
(إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). الأمر هنا من الشيطان هو الغواية القوية، كما قال مخاطبا ربه: (لأُغْوِيَنَّهمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). ولما كان أهل الغواية يطيعونه شبه بالأمر فعبر عنه بالأمر، والسوء: هو ما يسوء وتكون عاقبته السوءى، سواء أكانت السوءى في النفس، فتسوء الأنفس، أم كانت الإساءة للمجتمع، فالسوء هو ما يكون فيه فساد وهو ضد المصلحة التي يأمر بها الله تعالى، وإذا كان إغواء الشيطان بما يسوء خاصة وعامة بلا ريب يكون مقتا للنفس وللجماعة وللأخلاق أن تتبع خطواته؛ لأنها إلى ضرر لَا محالة.(1/500)
ويأمر أيضا بالفحشاء أي يغوى بها، والفحشاء من الفحش والأمر الفاحش، وهو الذي يكون خارجا عن الفطرة المستقيمة،؛ إذ الأمر الفاحش هو الزائد زيادة كبيرة، والفحشاء باعتبارها خروجا على الفطرة الإنسانية تعم المعاصي كلها من زنى وشرب خمر، وسعي في الأرض بالفساد، والإيقاع بين الناس بالنميمة والغيبة، وغير ذلك من المعاصي النفسية واللسانية والاجتماعية، وتطلق في كثير من آيات القرآن على الزنى فقط، كقوله تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15).
وتطلق الفحشاء على المعاصي الكبيرة التي تزيد عنِ المعقول، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ويَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكمْ لَعَلَّكمْ تَذَكًّرُونَ).
فالشيطان لَا يأمر إلا بما فيه مفسدة تسوء الآحاد والجماعات وإلا بالمعاصي التي تفحش حتى لَا يستسيغها عاقل إلا من يكون الشيطان قد أغواه.
ويأمر الشيطان أيضا، أي يغوي ويضل على ما فسرنا معنى الأمر، بأن يحرموا على أنفسهم ما لَا يعلمون أن الله حرمه، ويقولون على الله تعالى ما لا يعلمون له دليلا من عند الله؛ ولذا قال تعالى في الأمر الثالث الذي يغوي به الشيطان بعد إغوائه بالسوء والفحشاء (وَأَن تَقولوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أغواهم الشيطان بأن يحرموا على أنفسهم بعض الغنم من الإبل والبقر والنعم يحرمون أنواعا منها، ويزعمون أن الله تعالى حرمها عليهم من غير حجة من عند الله، كما أشركوا وادعوا أن الله تعالى لَا يكره ذلك، ولو كان يكرهه لمنعنا، وقال الله تعالى في ذلك: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ (1) كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)، فالشيطان كما سول لهم
________
(1) قال المصنف رحمه الله: أي من النعم.(1/501)
الشرك بالله تعالى سول لهم أيضا أن يحرموا على أنفسهم ما لم يحرم الله ونسبوا ذلك لله تعالى، وهذا تطاول على الله تعالى كتطاول الشرك؛ إذ يقولون على الله ما لَا يعلمون أنه قاله وحكمِ به، بظن آثم من عندهم، ولقد قال الله في جملة ما حرم: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33).
ونرى من هذا أن الشيطان يأمر بنقيض ما يأمر الله تعالى، وأن الشيطان يغري بالظنون الفاسدة التي لَا أصل لها، وإن من أقبح ما يقع فيه الإنسان أن يحل ويحرمِ وينسب إلى الله تعالى قوله كما قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117).
وإن إغواء الشيطان لَا حدود له فمخارفه مختلفة متكاثرة وصراط الله المستقيم واحد؛ ولذا يغري أتباعه باتباع الباطل بكل الطرق يغريهم بالإشراك هم وآباؤهم، ويغريهم بتحريم ما أحل الله هم وآباؤهم، ويظهره لهم كأنه الحق جليا بينا، ولقد قال تعالى في ذلك:(1/502)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
(وَإِذَا قِيلَ لَهُم اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ).
نهانا سبحانه وتعالى أن نتبع خطوات الشيطان، وبين لنا أنه يأمرنا بالسوء والفحشاء وأن نفتري على الله الكذب، وأشار سبحانه وتعالى إلى أثره في إغواء المشركين، وبين سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة إغواء شديدا آخر لهم، وهو اتباع الآباء من غير فكر ولا عقل يتدبر فعلهم وأقوالهم، يتدبر ما أثر عنهم أهو حق فيتبع أم باطل فينبذ، أو هو صدق فيقبل أم كذب فيرد، أو هو حسن فيقتدى بهم أم هو قبيح عليهم فينكره عليهم، لَا يفكرون في شيء من ذلك، بل إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، وألفينا معناها وجدنا آباء كانوا واستمروا إلى أن جاءوا وهم تابعون لهم. يقال لهم اتبعوا ما أنزل الله، وما أنزل(1/502)
الله تعالى يحمل حجته في ذاته؛ لأنه أنزله الله ذو الجلال الخالق الرزاق ذو القوة المتين، فدليله معه لأنه من عند الله وكفى بهذا دليلا مبينا.
ولكنهم يعرضون عن هذا الأمر الموجِّه للحق إلى باطل لَا دليل فيه، (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)، يضربون عن طلب اتباع الله ويستبدلون به اتباع ما وجدوا عليه آباءهم من غير حجة قائمة هادية، ولا دليل مرشد موجه. إن اتباع الآباء وحده ليس حجة، وكونهم استمروا عليه ليس دليلا مرشدا، وإن اتباع الآباء إنما يكون حجة إذا كان عن علم وبينة، وإذا علمتم أنه كان عن علم وبينة فيكون اتباعهم للحق في ذاته لَا لآبائهم لمجرد أنهم آباؤهم، ولكنهم يتبعونهم من غير بينة ولا دليل، بل لمجرد التقليد الذي لَا يهدي ولا يرشد؛ ولذا قال تعالى منددا بتقليدهم الذي أضلهم: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ).
الهمزة للاستفهام التوبيخي الذي هو إنكار ما وقع منهم فقد اتبعوا على غير عقل يوجه، ولا على اعتقاد هداية قائمة، والهمزة داخلة على فعل محذوف، أي أيتبعونهم، ولو كانوا لَا يعقلون ولا يدركون بعقولهم أي شيء في هذا الاتباع، يتبعونهم في إشراكهم بالله، ويتبعونهم في تحريم ما أحل الله من طيبات من غير أي سبب موجب، ولا أي دليل مرشد، ولا هو فيه هداية، بل فيه ضلال مبين، لم يكن عند آبائهم دليل على ما هم عليه عقلوه، ولم يكن عندهم داعية حق يهتدون بهديه، وذكر قوله " لَا يهتدون " بجوار قوله " لا يعقلون " لاختلاف موضوعهما، فموضوع العقل تفكُر وتدبّر وطريقه المنطق والبرهان، وموضوع الاهتداء اتباع لهاد مرشد كنبي مرسل، فما كان لهم عقل مفكر ولا هاد يهتدون بهديه، ولقد قسم الغزالي أهل الإيمان إلى قسمين: قسم يدرك بالبرهان ويسير بالقسط المستقيم، وقسم يطمئن قلبه إلى الحق ويرتضيه بإشراق قلبه بنور الحكمة والفطرة المستقيمة، أو باتباع هاد يهديه ويوجهه ويهتدي به، وقد فقد هؤلاء الأمرين فليس لهم عقل يتدبر ولا هاد يهدي إلى التي هي أقوم؛ ولذلك استنكر الله تعالى على المشركين اتباع آبائهم في الشرك وتحريم ما أحل الله تعالى حيث حرموه ونسبوا التحريم إلى الله تعالى من غير حجة ولا سلطان مبين.(1/503)
وإن ذلك مثل قوله تعالى في موضع آخر من الذكر الحكيم: (وَإِذَا قيلَ لَهمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا. . .)، ومثل قوله تعالى عنهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ).
وإن هذا النص السامي الكريم يدل على أن التقليد في العقائد لَا يجوز، وشذ من قال غير ذلك، وعلى الذين لَا يعرفون دليلا أن يسألوا أهل العلم بذلك كما قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذكرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)؛ ولذا يجب على العلماء أن يبينوا للناس عقائدهم، لَا بطريق علم الكلام، بل بطريق القرآن، فدليل القرآن هو الغذاء والدواء الشافي، وأدلة علم الكلام كالدواء الذي يعطي بقدر لمن أصيبوا في عقيدتهم.
وإن المشركين الذين يتبعون خطوات الشيطان في عقيدتهم، ويتبعونه فيما يحلون وما يحرمون، ويقولون نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، ويقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون بسبب ما أركسوا أنفسهم فيه قد صموا أنفسهم عن سماع الحق، ولذا قال سبحانه في حالهم:(1/504)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
(وَمَثَلُ الَّذِين كفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً).
وقد تكلم المفسرون في هذا التمثيل البليغ، فقال بعضهم: إن ذلك التمثيل هو تمثيل لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - والذين كفروا كمثل الراعي الذي يرعى غنمه، فينعق: أي فيصيح بالغنم التي لَا تسمع إلا دعاء ونداء زاجرا لينتقل بهم من كلأ إلى كلأ، ولكن هذا التشبيه لَا يليق بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها لَا تسمى بهذا الاسم وهو النعيق.
وقال بعضهم: إن ذلك تشبيه للذين كفروا في دعوتهم إلى أصنامهم التي لا تملك نفعا ولا ضرا، كمثل الراعي الذي ينادي غنما لَا تسمع إلا دعاء ونداء ما يزجره في الانتقال من كلأ إلى كلأ، وهذا تشبيه حنسن في ذاته، ولكن القرآن نسق واحد في البيان تأخذ كلماته بعضها بحجز بعض، وربما لَا يتقارب هذا التفسير مع(1/504)
قوله بعد ذلك (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) لأ ن هذه أوصاف للكافرين وليست أوصافا للغنم.
بقي التخريج الثالث للمثل وهو بأن يشبه الذين كفروا وما معهم من غنم يرعونها، يشبهون بالبهائم التي تنعق بأن تصيح بما لَا يسمع إلا دعاء إن كانوا في كرب، ونداء إن كانوا بعيدا.
والكافرون مع غنمهم مثلهم كناعق ينعق بما لَا يسمع إلا دعاء ونداء، فأصوات الغنم تتبادل بنعيق لَا يفهم، وبصياح مجاوب للنداء، فالجميع يتصايح بالنعيق، والجميع لَا يفهم إلا دعاء ونداء.
ولذا صح أن يوصف المشركون بالأوصاف التي ذكرها الله عنهم، فقال (صمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) أي أنهم في عدم سماعهم للحق الذي دعوا إليه كالصم الذين لَا يسمعون، وهو تشبيه حالهم المعنوية في عدم سماعهم لدعوة الحق إذا نادى المنادي به بحال الأصم الذي لَا يشمع شيئا، وفي عدم نطقهم بالحق، واستجابتهم له بحال الأبكم الذي لَا يتكلم. شبه عدم إدراكهم الحق الذي بدت معالمه، وظهر نوره بحال الأعمى الذي لَا يبصر (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصّدُورِ).
وقد ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (لا يَعْقِلُونَ) ما يدعون إليه، ويتفكرون فيه ويبدون وكأنهم لم يسمعوه، ولا يفكرون في الاستجابة بالإذعان والتسليم ولا يستضيئون بنوره.
فتح الله قلوبنا للحق إذ نسمع داعيه، ورطب ألسنتنا بالحق لنجيب نداءه، وأنار بصرنا وبصيرتنا لنراه إنه سميع الدعاء.
* * *(1/505)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى أننا فيما أباحه الله لنا لَا نتبع خطوات الذي يغوينا بتحريم ما أحل لنا، وذكر حال المشركين في اعتقاداتهم ثم بين بعد ذلك ما أحله وما حرمه، فقال تعالى:(1/506)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) وكان النداء إلى الناس الذين كان منهم من اتبع خطوات الشيطان، أما الآن فالخطاب للمؤمنين خاصة، وهم لَا يتبعون خطوات الشيطان إنما يتبعون شرع الرحمن.
الأمر هنا للإباحة، والإباحة بالجزء، أي لنا أن نتخير من الطيبات، وعلينا أن نتناول ما نحب لَا ما لَا نحب، من غير أن نحرم على أنفسنا شيئا كما تلونا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)، وبالنسبة لمجموعة الأوقات فالأكل من الطيبات فرض، فهو وإن كان مباحا بالجزء مطلوب بالكل، ليس لأحد أن يترك الأكل من الطيبات فإن ذلك يكون حراما، ويؤدي إلى الهلاك كما ذكرنا في ماضي قولنا.
والطيبات هي ما تستطيبه النفوس، ويكون حلالا، والأكل منه مطلوب لتقوى الأجسام ولتقوى العقول والنفوس في ذاتها، ولتقوى للجهاد في سبيله وبشرط أن تكون حلالا، وحرم الله الخبائث التي تكون في ذاتها مستقذرة كالخنزير والميتة أو التي تكون من كسب حرام كالربا والسحت، وأكل مال الناس بالباطل. وإن من(1/506)
أعظم القربات بعد تقوى الله، طلب الطيبات الحلال. وقد روى مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها" (1).
ولقد أردف الله سبحانه وتعالى الأمر بالأكل من الطيبات بالأمر بالشكر؛ لأن هذه الإباحة للطيبات نعمة، والنعمة توجب الشكر من المنعم، الذي أباح ومكن، والشكر يكون بترك المعاصي ولزوم الطاعات والتقوى والتقرب إليه سبحانه وتعالى، وطلب رضوانه، ويقول سبحانه: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ. . .)، ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر " (2).
وإن هذه المباحات نعم الله تعالى في هذه الدنيا يُسأل عن حقها وعن شكرها، فقد قال تعالى: (ثُمَّ لَتُسْألُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)، وإن الشكر هو الطاعات الكاملة، والعمل الصالح، وإن ذلك شريعة الرسائل الإلهية كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلونَ عَلِيمٌ).
وقوله تعالى: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) أضيفت الطيبات، وهي إضافة تشير إلى المصدر، وهو إنعام المنعم؛ لأن الطيبات مما رزق الله تعالى، ومما تمكن عباده منه، فكان هنا نعمتان أنعم الله تعالى بهما، وهما: نعمة الرزق والعطاء، ونعمة الإباحة للطيبات، وكان الشكر على النعمتين واجبا.
ولذا قال تعالى: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) أي اشكروا الله، وقد بينا أن " شكر " تتعدى باللام، وهو الأفصح، وتتعدى بنفسها، وإن الشكر ملازم للعبادة أو هو منها، أو
________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الدعاء (4915) والترمذي في الأطعمة (1738) وأحمد في مسنده (11535) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) ذكره البخاري تعليقا في كتاب الأطعمة - ترجمة باب الطاعم الشاكر، ورواه الترمذي: كتاب صفة القيامة ْ (2410)، وابن ماجه: كتاب الصيام (1754)، ومن طريق عند أحمد بسند منقطع (7473) كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/507)
هو هي، ولذا قال تعالى: (إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي إن كنتم تعبدونه وحدي من غير إشراك غير، وتقديم الضمير على الفعل للإشارة إلى اختصاصه تعالى بالعبادة وحده، اللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمائك وراضين في السراء والضراء.
بعد أن ذكر الله ما أحله من طيبات بين ما حرمه من حبائث سواء أكانت هذه الخبائث حسية أم كانت معنوية، فقال تعالى:(1/508)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
حرم الله تعالى ثلاثة أشياء من الخبائث الحسية، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير، ومن الخبائث المعنوية ما أهل به لغير الله، أي ما ذبح لصنم ونحو ذلك.
والميتة هي التي ماتت حتف أنفها من غير ذبح شرعي، وتشمل النطيحة والمتردية، ولذا قال في الخبائث المحرمة في سورة المائدة: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ. . .).
وإنه يدخل في الميتة كل ما مات من غير أن يُسالَ دمه ولو بسبب من العباد أو السبع، فيدخل في الميتة المنخنقة التي ماتت بالخنق من غير ذبح يسيل دمها، والموقوذة التي رميت حتى ماتت، والنطيحة التي ماتت بنطح ولم يسل لها دم، والمتردية وهي التي تردت في حفرة أو بئر فماتت بهذا التردي، ولم تذبح وما أكل السبع بعضه، ولم يذبح فإنه أيضا يكون محرمًا، وحرم الاستقسام بالأزلام وهي أقداح الميسر كما حرم الذبح على النصب، وحرمت هذه الأشياء لَا لخبث في ذاتها ولكن لما اقترن بذبحها وهو النصب، كما حرم الاستقسام بالأزلام فهي في ذاتها طيبة حسيا، ولكن لازمها خبث معنوي وهو ما يقترن بها من ميسر، والقرآن الكريم قد حصر التحريم في هذه الأشياء المذكورة فقال تعالى: (إِنَّمَا حَرَمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) وإنما أداة من أدوات القصر، أي حرمت هذه الأشياء من النعم التي هي البقر(1/508)
والإبل والغنم وغيرها مما يشبهها آكلة العشب كالغزال والأوعال، أما سباع البهائم كالأسد والذئب وغيرها فهي محرمة بذاتها، لأن لحمها لَا يؤكل وتعافه النفوس المستقيمة، فالحصر في التحريم، إنما هو بالنسبة للنعم وما يشبهها من آكلة العشب، والمحرمات هي الميتة ويدخل فيها كما سبق من القول المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا أن يذكى بأن يبقى بعد أكله حيا، فيذكى والتذكية إسالة الدم.
والميتة يبقى فيها الدم، فبمضي الزمن يفسد أجزاء جسمها وتتعفن ببقائه فيها فيفسد لحمها وتسارع إليها الجراثيم المفسدة، فتكون خبيثة وتتحول من لحم طيب إلى لحم خبيث، ويدخل في ذلك الموقوذة والمنخنقة والمتردية والنطيحة والدم، والمراد به الدم المسفوح، أي السائل، وليس المتجمد بأصل تكوينه وإن كان التكوين من الدم وهو الكبد والطحال، والدم المسفوح يسارع إليه الفساد وهو ثقيل الهضم وهو يفسد الجسم والنفس، وإنما قيد الدم بالمسفوح، لأنه صرح في آية الأنعام بأن المحرم هو الدم المسفوح فقال تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. . .).
ومن المقررات أن المطلق يحمل على المقيد إذا اتحد الحكم والسبب، فيجمل الدم المذكور في الآية التي نتكلم في معناها على المقيد في آية الأنعام، والدم يسارع إليه الفساد وأكله يربي القسوة وهو ثقيل الهضم.
ولحم الخنزير ذكر الله تعالى في القرآن أنه رجس أي قذر يحتوي على كل ما يضر البنية الإنسانية، وقد ثبت بالتجربة أنه أثقل طعام على المعدة، والمعدة بيت الداء، وثبت أنه يحوي من الديدان ما يضر الجسم، وأنه يحدث فقد الشهوة، ويوجد أعراضا عصبية، ويظن كثيرون أنه مورد من موارد داء السرطان العضال. وما أهل لغير الله تعالى به، والإهلال رفع الصوت بذكر الله تعالى عند الذبح، والإهلال لغير الله تعالى بأن يذكر عند الذبح أنه لصنم أو وثن أو نار أو نحو ذلك،(1/509)
ويدخل في ذلك ما ذبح على النصب التي كانت تقام للأوثان وتذبح الذبائح عليها.
وقد بين سبحانه وتعالى أن ذلك عند الاختيار، وأما عند الاضطرار فإنها يرفع عنها الإثم؛ ولذا قال تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي من كان في حال ضرورة، بحيث تتعرض الحياة للهلاك إذا لم يأكل شيئا من هذه المحرمات، فإنه لَا إثم عليه إذا أكل، ويكون واجبا عليه أن يأكل إن لم يجد غيرها؛ لأن ضرر الموت أشد من ضرر الأكل، والضرر القليل يتحمل في سبيل دفع الضرر الكبير، ولقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الضرورة لمن سأله عن ذلك، فقال: " أن يأتي الصبوح والغبوق ولا تجد ما تأكله " (1)، ولقد قال تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ولقد قيد الله تعالى رفع الإثم، فقال تعالت كلماته: (غَيْرَ بَاغِ وَلا عَادٍ) أي غير طالب لها تبتغي إشباع رغبتك، كأن يكون في عطش شديد ولم يجد إلا خمرا، فيشربها مبتغيا لها لَا يقصد دفع الضرورة ولكن يرغب فيها، وكمن يكون في حال ضرورة فيكون بين يديه الميتة والخنزير فيبتغي الخنزير اشتهاء له ورغبة فيه، ولا عاد أي غير متجاوز حد الضرورة، والضرورة تدفع بأقل قدر فلا يتجاوزه، فيتعدى ما رفع الله تعالى الإثم عنه.
وروي عن مجاهد وابن جبير أنهما قالا في معنى باغ وعاد، غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم، فيدخل في الباغي والعادي الخارج على السلطان العادل وقاطع الطريق، وبهذا أخذ الشافعي في أحد قوليه فمن كان مضطرًا للطعام ولا يجد
________
(1) عن أبي واقد الليثى قال: قلت: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها مخمصة، فما يحل لنا من الميتة؛ قال: " إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا بقلا فشانكم بها ". رواه أحمد في مسند الأنصار (20893)، والدارمي في الأضاحي (1912) والحاكم في المستدرك (7234) وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
والمخمصة: المجاعة والشدة، والصَّبوح: شرب أول النهار، والغبوق: شرب آخر النهار، أي اللبن، ثم توسعوا فأطلقوه على الطعام أول النهار وآخره، وهو مقصود الحديث، وتحتفئوا: تقتلعوا فتأكلوا.(1/510)
إلا بعض هذه المحرمات وكان خارجًا في معصية فإنه لَا يترخص له في أكل واحد من هذه المحرمات؛ لأن وقوع الضرورة بسبب معصية، والمعصية لَا تحل المحرم.
وأبو حنيفة ومالك وأحمد، والرأي الثاني عند الشافعي أن الرخصة قائمة وسببها ليس هو المعصية أو غير المعصية، وإنما سببها الاضطرار والخشية من الهلاك والمعصية في قتل النفس أشد من المعصية في الخروج على الأحكام؛ ولأن الجهة منفكة؛ فرفع الإثم لدفع الجوع والظلم في العصيان فلا خلط بينهما، ومن المقررات أن الظالم في معصية لَا يحرم من حقوقه في ناحية أخرى، وإلا كان ظلما والظالم لا يظلم، ولكن يقتص منه في موضع ظلمه، هذا وإن الرخصة نتيجتها أن يرفع الإثم لَا أن تباح الميتة وأخواتها، ولكن قرروا أنه في حال الضرورة هذا يكون الأكل مطلوبا طلبا حتميا بحيث يأثم إن لم يأكل، لأن عدم الأخذ بالرخصة قتل للنفس والله تعالى يقول: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا).
ولقد ختم الله تعالى النص الكريم بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ).
هذا النص السامي فيه تسجيل لرحمة الله تعالى، ولغفرانه في الدنيا والآخرة ما يرتكب إن كان بقصد حفظ النفس من التلف، وكان من غفرانه أن رفع الإثم وسببه قائم عن المضطر إلى أكل المحرمات، وكان من رحمته أن أباح هذه الطيبات، وإن حرم الخبائث، فتحريم الخبائث لأضرارها، وإباحة الطيبات لنفعها من رحمته سبحانه، إذ إن الشريعة الغراء قامت على جلب ما هو نافع ودفع ما هو ضار، وكان من رحمته جلت قدرته أن رفع الإثم عند الاضطرار.
وقبل أن ننتقل إلى آياته البينات نقرر أمرين. أولهما: ما قرره بعض العلماء ذوي النظر الثاقب أن الجوع الشديد يجعل الجسم يستطيع تناول هذه الخبائث الضارة إذ الجوع يذهب بأضرارها، أو لَا يجعلها تؤثر بالأذى في الجسم ما دام لَا يتعدى حد الضرورة، فإن تعداها كان الضرر المؤكد من هذه الخبائث. الثاني: إن هذه المحرمات إنما هي في حيوانات البر والنعم كما قررنا، أما صيد البحر فإنه حلال كما قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا. . .). جعل الله طعامنا حلالا طَيبا، وهنيئا مريئا.
* * *(1/511)
كتمان الحق
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
* * *
بعد أن بين الله تعالى في كتابه الحكيم ما يحل وما يحرم، وذكر أن الشيطان يجيء بوسوسته فيما يحل فيحرمه، وفيما يحرم فيبيحه فهو يجعل المشركين يحرمون على أنفسهم بعض ما أحل، ويحملهم على أن يستبيحوا الزنى والقذف والخمر والقتل والغصب، بعد ذلك بين سبحانه أن ما جاء في كتاب الله تعالى يجب أن يبين، وما جاء في الكتب السابقة يجب ألا يكتم من بشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وحلال وحرام في هذه الكتب، وأن من يكتم الذي أنزله الله سبحانه لغرض من أغراض أو هوى من هوى الأنفس أو رجاء رشوة أو سحت من المال، إنما يبيع الحق بثمن بخسٍ مهما يكن مقداره؛ ولذا قال تعالت كلماته:(1/512)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أوْلَئِكَ مَا يَأكلُونَ). الكلام في كل من يكتمون ما أنزل الله في الكتاب سواء أكانوا مؤمنين لَا يبلغون الدعوة إلى الله ويبينون ما اشتمل عليه الكتاب من الأحكام التي يجب إعلانها وبيانها للناس، أم كانوا من اليهود أو النصارى الذين يعلمون أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما يجيء به من أحكام ويكتمونها، وقد قال تعالى في ذلك: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتوبًا عِندَهُمْ فِي(1/512)
التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ. .. ).
وكان من المناسب ذكر كتمانهم، والقرآن الكريم يبين الطيبات التي أحلها، والخبائث التي حرمها، والأغلال التي رفعها، وقد كتموا أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته.
وقوله تعالىٍ: (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا) معناه يقدمونه في نظير قليل، وعبر سبحانه بقوله تعالى: (ويشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) لأن المشتري طالب لمقابل المبيع، فهم يتركونها طالبين ثمنها راغبين، وهو مهما يكن مقداره قليل، فهم يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، والثمن هو استعلاء واستكبار عن الاتباع، وإنكار وجحود، وعرض من أعراض الدنيا وقد بين الله تعالى سوء فعلتهم في الدنيا، وعذابهم في الآخرة، فقال تعالى: (أُوْلَئِكَ مَا يَأكُلُونَ فِي بُطونِهِمْ إِلَّا النَّار وَلا يُكَلِّمُهمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ).
الإشارة إلى الذين يكتمون ما أنزل الله في الكتاب الحق، وتركوا الواجب في نظير قليل بالنسبة لما تركوه فهو زهيد مهما يكن مقداره بجوار الحق الذي باعوه، فقد باعوا غاليا بما لَا يكافئه مهما يكن قدره، الإشارة إلى هؤلاء الذين اتصفوا بذلك، والإشارة إلى الموصوف بصفة يبين أن سبب الحكم هو هذه الصفة.
وقد حكم الله تعالى عليهم بأربعة أحكام: أولها أنهم ما يأكلون من الثمن الذي أخذوه إلا النار تلهب بطونهم، وقوله (مَا يَأكلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) مجاز فيه عبر عن حالهم بالمآل الذين يئولون إليه، فعبر سبحانه عن حالهم في الثمن الذي أخذوه شرها، طمعا وإيثارا للباطل، وتركا للحق بأنهم أكلوا نارا، نزلت في بطونهم وألهبتها ومزقت لحومهم، واختار التعبير بكون النار في بطونهم؛ لأن المال الباطل يطلب لأجل شهوة البطن وملذاتها والتعبير عن الجزء وإرادة الكل إذ المراد أن النار تعمهم، وتشمل كل أجزائهم، ولكن عبر بالجزء؛ لأن ذلك الجزء له مزيد من الاختصاص؛ لأن شهوتهم وشرههم هو الذي جعلهم يختارون ذلك الثمن الحقير وإن كان كبيرا فإن الذي تركوه من الحق أكبر وأعظم وهو الحق الذي كتموه.(1/513)
والعقاب الثاني: أنهم ينالهم غضب الله تعالى، وغضب الله الواحد القهار فيه إيلام لأهل الضمائر وإنذار شديد لأهل الشر، لأنه غضب المقتص الجبار الذي لا يفلت منه أثيم، ولا تنفع عنده شفاعة الشافعين، ولا يغني أمامه سبحانه وتعالى شى في الوجود مهما يكن ومهما تكن صلته، (الأَخِلَّاءُ يوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ. . .).
والعقاب الثالث: أن الله تعالى لَا يزكيهم أي لَا يطهرهم من ذنوبهم فإنهم في كون الجزاء، لَا يخفف عنهم ولا يرجعون، يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا، ولكن لا يعودون، ولا يخرجون من النار التي تحيط بهم.
والعقاب الرابع: أن لهم عذابا أليما أي مؤلما، نتيجة لغضب الله تعالى، وعبر سبحانه وتعالى عن غضبه عليهم بأنه لَا يكلمهم، وكأنه يقول لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون.
وإن الآية كما يقولون نزلت في اليهود أو النصارى كذلك، فإن اللفظ أعم وأشمل فهو يشمل اليهود الذين كتموا الحق غرورا واستعلاء وكبرياء وطلبا للدنيا وما فيها من سيطرة وسلطة ويشمل كل من يكتم الحق من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشمل الذين تقاصروا عن الدعوة إلى الإسلام، وهم عليها قادرون، وتركوها استرخاء، وتقاصرا في الهمم وتركا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويشمل الوصف الذين لا يذكرون ما أحل الله تعالى وما حرم، تهاونا وكسلا، أو لينالوا مأربا من مآرب الدنيا، وهو الثمن البخس الذي تركوا الواجب لأجله.
ويشمل الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تخاذلا عن الحق، ورضا بالباطل، ويشمل الذين يمالئون الحكام، ويخطون على هواهم، ويقررون من الأحكام ما يخالف النقل والعقل، كأولئك الذين يستبيحون الربا، والذين يدعون إلى قتل النسل، لإرضاء الحاكمين وتقربا وإزدلافا إليهم، ويشمل الذين يفتون الناس على حسب أهوائهم بأجر معلوم، أو رجاء معونة عند الحكام الذين ليس للدين حريجة في قلوبهم، وكل أولئك نراه في عصرنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(1/514)
وإن أولئك الذين كتموا الحق الذي أنزله تعالى لغرض أو لمال أو لجاه، أو لرشوة وسحت أو لمنصب يريدونه أو يرجونه، هؤلاء تركوا الهداية وطلبوا الضلالة؛ ولذا قال تعالى مشيرا إليهم:(1/515)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ). الإشارة في الأولى إشارة للذين اتصفوا بكتمان الحق وقت الحاجة إلى بيانه، وأن ذلك الوصف هو سبب الحكم الذي تقرر عليهم، وهو أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، أي تركوا الحق، وهو المبيع الثمين لأنه هدى الله تعالى وهو الطريق، وهو الإعلام بالحق المبين تركوه، وباعوه بثمن حقير في ذاته بالنسبة لمقابله، فهو الضلالة، في مقابل الهداية، قد تركوا الطريق المستقيم وهو الهداية التي منحهم الله تعالى بحكم الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها، تركوا ذلك الطريق المستقيم إلى متعرجات الشيطان فضلوا في صحراء هذا الوجود ضلالا بعيدا.
وكما استبدلوا بالهداية الضلالة استبدلوا أيضا العذاب بالمغفرة، أي سلكوا الطريق الموصل إلى العذاب وتركوا الطريق الموصل إلى مغفرة الله تعالى، وقد عبر الله تعالى بالعذاب، والظاهر أنه أراد سببه والطريق الموصل إليه، إشارة إلى أنه موصل إليه لَا محالة، والمغفرة هي الثواب والنعيم المقيم الذي أعده الله تعالى للمهتدين، وعبر عن الثواب بالمغفرة، لأن المغفرة دليل الرضا أولا، وللإشارة إلى أن من يعمل صالحا يغفر الله له ما عساه يكون من سيئات؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات ثانيا، ولأن من ينال غفران الله تعالى من المقربين.
وقد أكد الله تعالى دوام عذابهم بقوله تعالت كلماته: (فَمَا أَصْبرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي أنهم يأخذون في أسباب الجحيم، ودخول النار والبقاء، ويقال في مثل من يكون في حالهم ممن يسيرون سيرهم، ما أصبرهم على النار وهو من قبيل التهكم كما يقول القائلون لمن يرتكب أسباب العقوبة من حد أو تعزير: ما أصبرك على السياط تكوي ظهرك كيا، لأنه يتخذ أسبابها، وقد يقال إن الصبر بمعناه اللغوي وهو الحبس كقوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ(1/515)
وَجْهَهُ. . .)، ويكون المعنى ما أطول وأدوم حبسهم على النار يصلونها.
روي عن الكسائي أنه قال: أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه، فوجبت اليمين على أحدهما فحلف فقال له صاحبه: ما أصبرك على الله أي ما أجرأك عليه. والمعنى على ذلك: ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملا يؤدي إليها. . اللهم قنا عذاب النار، وألهمنا الصبر على النطق بالحق إنك أنت الرحمن الرحيم.
وما كان ذلك الوجوب إعلام بإعلان الحق في الكتاب الكريم والعقاب على الكتمان إلا لأن الكتاب أنزل بالحق، والذين يختلفون فيه اختاروا المشاقَّة على الإيمان؛ ولذلك قال تعالى:(1/516)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
(ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) أي أن الله تعالى نزل القرآن في مدى ثلاث وعشرين سنة بالحق الثابت الذي لَا مرية فيه، ولا شك أن من يكتمه ولا يبينه للناس ليستضيئوا بنوره، وليهتدوا بهديه - يرتكب إثما عظيما، يستحق عليه عقابا أليما، وهو الطريق المستقيم، ولا ينبغي لأحد أن يخالفه أو يختلف في شأنه وصدقه؛ ولذا قال عز من قائل: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاق بَعِيد)، فمن يؤمن ببعض ويكفر ببعض ويترك ما يدعو إليه، أو يجعله عضين مفرقا يفهمه غير مستقيم في فهمه بل يفهمه متناقضا على حسب هواه، لا على مقتضى نسقه الحكيم، من يفعل ذلك فشانه في شقاق بحيث يتخذ كل واحد شقة من القول، ويكون كل شق بعيدا عن الآخر، لَا يتلاقون أبدا فهم في خلاف وكل حزب بما لديهم فرحون.
* * *(1/516)
البر(1/517)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
* * *
كان أمر تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام أمر هذه النفوس المؤمنة، والنفوس المشركة والكتابية وأثار جدلا وحماسة، فالمؤمنون تقبلوها بقبول حسن، لأنها بناء إبراهيم، وهو الذي سماهم مسلمين، وهو الحرم الآمن الذي جعله الله تعالى للناس مثابة وأمنا، وهو مزار العرب إليه يحجون ويعتمرون من وقت أن بناه إبراهيم عليه السلام، وهو عزهم، وأما المشركون من العرب فقد ظنوا أن محمدًا عاد أو سيعود إليهم وما علموا أن ذلك إيذان بذهاب دولة الأوثان، وإزالتها من حول الكعبة، وأما اليهود فقد أذهب أطماعهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وعلموا أنه هو النبي الأُميّ الذي بشر به في التوراة يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، وقد صدفهم الله تعالى.
إن هذا الأمر الذي يشغلهم جميعا، إنه الأمر الأعظم، وهو مقصد الأديان كلها، وغاياتها، وهو الذي يهذب النفوس، والمجتمعات ويربيها ويقيمها على التعاون على البر والتقوى ويحميها ويدفع عنها وهو نسب الأديان كلها؛ ولذا قال تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أي ليس هذا هو البر(1/517)
المقصود الجامع لكل معاني الخير، الذي حرص الدين عليه حرصا كاملا، بل هو إلى الشكل أقرب، أو هو الوسيلة وما يكون من الأمة هو الغاية العليا من كل دين جاء من الله تعالى لهداية البشر، وتوجيههم نحو الصلاح الإنساني آحاد وجماعات؛ صلاحا يمس نفوسهم ويملأ قلوبهم إيمانا، وليس في العبارة السامية ما يومئ إلى الاستهانة بأمر القبلة، بل إن فيها توجيها إلى الناحية التهذيبية والكمالية للإنسان في آحاده، وجماعاته؛ ولذا قال تعالى مستدركا مثبتا: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ).
قال العلماء: إن " من آمن بالله " إن الكلام فيها على تقدير مضاف ومعناه، ولكن البر بر من آمن بالله واليوم الآخر. . وحذف المضاف إذا دل عليه المضاف إليه كثير في القرآن وهو من إيجاز الحذف البليغ كقوله تعالى: (وَاسْأَل الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا. . .)، أي أهل القرية، وكقوله تعالى: (فَلْيَدْعُ نَادِيه)، أي فليدع أهل ناديه.
وإن ذلك الإيجاز من دلائل الإعجاز، وإننا نرى أن حذف المضاف أو عدم تقديره يعلو بالكلام إلى أعلى درجات البيان، إن الكلام يكون دالا على البر بمفهوم الحال المكونة من الكلام كله، فيكون المعنى ليس البر المقصود من الديانات الإلهية أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر المقصود وهو الغاية من الديانات الإلهية هو الحال التي يكون عليها من آمن بالله واليوم الآخر. . وآتي المال على حبه ذوي القربى إلى آخر ما بينته الآيات، فهذه الحال المجتمعة من تلك الصفات، وهذه الأعمال المهذبة المربية لمجتمع فاضل هي البر، وعلى ذلك لَا تحتاج إلى تقدير، والبر كما يقول المفسرون هو المعنى الجامع لكل ما فيه نفع للنفس وللناس، وإني أراه مرادفًا في العرف الخلقي.
وقد ذكر الله تعالى صنوف البر كلها في هذه الآية الكريمة، وكانت بحق آية البر، لأنها جمعت أطرافه، ونواحيه كلها، وهي من أجمع الآيات للتكليفات الدينية.(1/518)
* وأول البر وسنامه وأصله الإيمان، وهو التصديق والإذعان، وأول من يجب الإيمان به الله، فالإيمان به هو لب الإيمان كله، وهو الخضوع والإذعان والعبادة له وحده لَا شريك له، وامتلاء النفس بذكره، بحيث لَا تذكر غيره في الغدو والآصال، وفي الصحو، وفي المنام، ومن الإيمان بالله تعالى الإيمان بأنه وحده الخالق للوجود، والإيمان بأنه وحده الموصوف بصفات الكمال، والإيمان بأنه وحده المستحق للعبادة، فليس في الوجود من يستحق العبادة سواه.
والإيمان باليوم الآخر، ويشمل الإيمان بالبعث والنشور، والإيمان بيوم القيامة، وما يجري فيه من حساب وعقاب وثواب، وأن من أحسن فله النعيم المقيم، ورضوان من الله أكبر، وأن من خالف وغير وبدل فجزاؤه جهنم، وبئس المصير، وإن ذلك كله مادي حسي، وليس روحيا كما توهم بعض الكاتبين.
وكان الإيمان باليوم الآخر تاليا للإيمان بالله تعالى، لأنه تصديق لما أمر الله به، ولأنه سلوان المحسن العابد وإنذار للمشرك المكذب، والمعاند المستكبر الجاحد، وقد تبين له الحق.
ثم يلي الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالملائكة الأخيار الأطهار الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وهو إيمان بالغيب الذي لَا يرى ولا يحس، وأول شعار المؤمن الإيمان، وهو الفيصل بين المسلم والزنديق، فالزنديق أو الملحد في دين الله تعالى لَا يؤمن إلا بالمحسوس، ولا يصدق ما لَا يرى ويحس، والمؤمن يعلم أن وراء المحسوس سرا خفيا، وقد أمرنا الله تعالى بالإيمان فحق علينا أن نؤمن بوجودهم، وهم مذكورون في كتابه الكريم، وفي الكتب التي صدقها، فالكفر بهم كفر بالله وبالقرآن، وذكر الله بعد ذلك الإيمان بالكتاب، وهو القرآن الكريم، والإيمان تصديق بكل ما جاء به ويدخل في ذلك الإيمان بالكتب السابقة؛ لأنه سجلها في قصصه، فهو سجل النبوة كله، فيه ذكر كتبها، وفيه بيان معجزات النبيين، فلولا قصصه الحكم الصادق ما عرف كتاب من كتب النبيين، ولا معجزة من معجزاتهم.(1/519)
وذكر سبحانه وجوب الإيمان بالنبيين السابقين؛ لأن الإيمان الذي جاء به القرآن هو الإيمان الجامع بالنبوات الإلهية كلها، كما قال تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136).
هذا هو الإيمان الذي أمر به الله تعالى، وكانت حال المتصف به والقائم بما يأتي من تكليف، وأعمال، هي البر المطلق من الإنسان في كل دين.
ولننتقل إلى بيان الأعمال التي هي بر في ذاتها، وحال القائم بها هي البر الخالص التي تأمر به كل الأديان التي جاءت من الله لَا من أوهام البشر: * في حال من آتي المال على حبه، ولقد قال تعالى فيه، (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) أي أعطى المال على حبه له فالضمير يعود إلى المال، والمعنى على حبه للمال ورغبته في اقتنائه، ولكنه آثر العطاء وعلى هذا السبب وذلك كقوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حبِّهِ مسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسيرًا)، وكقوله تعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمًّا تُحِبُّونَ. . .).
ويفسر هذا ما رواه البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل: أي الصدقة أعظم أجرا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان " (1).
وقد فسر بعضهم بأن الضمير يعود على الإيتاء وهو المصدر المنسبك من آتى، والمعنى أعطى المال محبا للإعطاء راغبا فيه راضي النفس، طيبا بالعطاء، راغبا في رضاء الله به، وبذلك يجتمع له قربتان قربة العطاء في نفسه، وقربة الاتجاه إلى إرضاء ربه.
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الزكاة - باب فضل صدقة الصحيح الشحيح (1330) ومسلم: كتاب الزكاة: بيان أن فضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح (1713).(1/520)
وهو في موداه لَا يختلف عن التقدير الأول، وإن كان الأول يدل على مجاهدة النفس في العطاء بين ما يحبه ويشح به، بين إرضاء الله بالعطاء فيؤثر إرضاء الله تعالى على شح نفسه، فتكون قربة العطاء، وقربة المجاهدة حتى يكون مطيعا لله تعالى متقربا إليه، طالبا رضاه، وهو الغني الحميد.
وقد ذكرت الآية الكريمة من يخصهم بعطائه، أو من يؤثرهم بهذا العطاء، ويبدو من الذكر ومعناه ترتيبهم في العطاء وأن بعضهم يفضل في العطاء على بعض إن لم يتسع ماله لهم أجمعين.
(أ) ذوو القربى؛ ولذا قال تعالى: (وآتى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) وهم قراباته، ويفضل الأقرب فالأقرب ويبدأ بالوالدين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ردا على من سأله من أحق الناس بحسن صحبتي: " أمك " كررها ثلاث مرات مع تكرار السؤال، ثم قال: ثم من؟ قال: " أبوك، ثم الأقرب فالأقرب " (1)، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه النسائي: " إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة " (2)، ولأن الإسلام أقام على دعامة الأسر المتحابة المتعاونة المتكاتفة، والأسرة مقصورة على الأبوين والأولاد، بل هي ممتدة إلى أن تشمل الأقارب؛ ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " من أراد منكم أن يبارك له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه " (3)، ولقد عد من ذوي القربى الزوج إذا كان فقيرا، فقد سألت امرأة عبد الله بن مسعود النبي - صلى الله عليه وسلم - أيعد إعطاء زوجها صدقة؛، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " نعم " (4).
________
(1) عن بَهْز بْن حكيم، حَدَّثَنِي أبِى عَنْ جَدي، قَالَ: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أبَر؟ قَالَ: أمَّكَ. قَالَ: قلْتُ: ثُم مَنْ؟ قَالَ: أَمكَ. قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أمكَ. قَالَ: قُلْتُ: ثمَ مَنْ؟ قَالَ: ثُم أبَاكَ، ثُمَّ الأقْرَبَ فَالأقْرَبَ ". [رواه الترمذي: كتاب البر والصلة (1819) وأبو داود: كتاب الأدب (4473) وأحمد: أول مسند البصريين (19175)].
(2) رواه الترمذي: كتاب الزكاة (541) والنسائي (2535) وابن ماجه (1834) وأحمد في مسنده (15644) عن سلمان بن عامر.
(3) عن أنَس بْن مَالِكٍ أن رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ لَهُ فِى رِزْقِهِ وَيُنْسَأ لَهُ فِى أثَره فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ". متفق عليه من رواية البخَارى: كتاب الأدب (5527) ومسلم: كتاب البر والصلة (4639).
(4) رواه بالمعنى وأصله في الصحيحين من رواية البخاري: كتاب الزكاة (1369)، ومسلم: كتاب الايمان (114) عَنْ أبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِى - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى أضْحَى - أوْ فِطْرٍ - إِلَى =(1/521)
(ب) والذين يلون أولى القربى في العطاء اليتامى، سواء أكانوا من ذوي القربى أم لم يكونوا، وإذا كانوا من ذوي القربى يكونون أولى من غيرهم من الأقارب إلا الأبوين.
واليتيم هو الذي مات أبوه، وهو صغير، ورعاية اليتيم مما حرض عليه الإسلام في عدة أحاديث، وأوصى القرآن بهذه الرعاية في عدة من آي القرآن، وأنه يجب ألا يذل ولا يقهر؛ ذلك لأن اليتيم إن أهمل كان عضوا هداما في المجتمع، إذ يخرج إلى الحياة ناقما عليها متمردا لَا يألف ولا يؤلف، إذ إن تربية النزوع إلى الألفة تكون من الأبوين، ومن الشعور بالرحمة والحياطة والعناية وخصوصا من الأب الحاني الرفيق الحاني العطوف.
فإذا حرم من ذلك فقد يتربى على النفور وعداوة المجتمع إن لم يجد من يحل محله في إلفه ومودته وحياطته؛ ولذا نهى الإسلام عن قهر اليتيم، حتى لَا يتربى فيه نزوع النفور، فقال تعالى؛ (فَأمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " خير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم، وشر بيوت المسلمين بيت يقهر فيه يتيم " (1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وقال بإصبعيه السبابة والوسطى " (2).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا فإليَّ وعليَّ " (3) وهو اليتيم.
_________
= المُصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَعَظَ النَّاسَ، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، تَصَدَّقُوا»، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقُلْنَ: وَبِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ، أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ، مِنْ إِحْدَاكُنَّ، يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ» ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ، جَاءَتْ زَيْنَبُ، امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ زَيْنَبُ، فَقَالَ: «أَيُّ الزَّيَانِبِ؟» فَقِيلَ: امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «نَعَمْ، ائْذَنُوا لَهَا» فَأُذِنَ لَهَا، قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّكَ أَمَرْتَ اليَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ».
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الأدب (5546). وقال بإِصبعيه: أي أشار بهما يقرن بينهما، كما صرحت به رواية
أحمد ومالك وغيرهما.
(3) متفق عليه أخرجه البخاري: كتاب الفرائض - ميراث الأسير (6266): ومسلم: كتاب الفرائض: باب من
ترك مالا فلورثته (3043) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (مَنْ تَرَكَ مَالا فَلِوَرَثتِهِ وَمَن تَرَكَ كَلا
فَإلَيْنَا ". والكل: العاجز الفقير الذي يحتاج من يعوله ويدخل فيه اليتيم الذي هذه صفته. =(1/522)
(جـ) والمرتبة التي تلي اليتيم في العطاء، هو المسكين وهو من أسكنته الحاجة، وهذا يشمل الزمِن أي المريض بمرض مع الفقر، وعدم القدرة على العمل، ويشمل أولئك الفقراء الذين لَا يملكون شيئا، ويتعففون عن أن يسألوا الناس، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك " ليس المسكين هو الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين هو الذي لَا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه " (1) وهو الذي ينطبق عليه قول الله تعالى: (لِلْفقَراءِ الَّذينَ أُحْصِروا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ. . .).
(د) والذي يلي المساكين ابن السبيل وهو الذي انقطع عن ماله، وصار في مكان لَا يجد فيه ما يمده بأسباب الحياة من طعام يطعمه، أو مال ينفقه أو مأوى يأوي إليه، ولذلك أطلق عليه ابن السبيل؛ لأنه انقطع إلا عن السبيل الذي يسير فيه، وإن إيتاء المال لهذا يكون بإعطائه ما يسعفه من قوت، وبإيوائه حتى يئوب، وإعطائه قدرا يصل به إلى بلده، ويصح أن يسهم في إنشاء مضيف يأوي إليه أبناء السبيل الذين ينقطع بهم الطريق، ولا يجدون مأوى، ولقد قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، ومحمد الباقر: إن ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين، وهو لتعبير جدير ببني هاشم الأكرمين، فقد سماه ضيفًا يجب إكرامه.
(هـ) ويلي ابن السبيل في المرتبة التي تؤتى المال على حبه فيها السائلون وهم الذين يسالون ما يقوتهم من طعام أو مال يشترون به قوتهم، وهم لهم حق على كل مسلم له غنى أو فضل مال، وقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حقّ مَّعْلُومٌ
_________
= وجاء في سن أبي داود: كتاب الخراج - أرزاق الذرية (2565) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْد اللَّه قَالَ كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: " أنَا أوْلَى بالْمُؤْمِنينَ منْ أنْفُسِهِمْ مَنْ تَرَكَ مَالا فَلأهْله، وَمَنْ تَرَك دَيْنًا أو ضَيَاعًا فَإلَيَّ وَعًلَيَّ]. والضياع الأبناء والذَرية الَذينَ لَا يجدون من يعولهم.
(1) روى مسلم: كتاب الزكاة: (1722) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَافِ اثَذي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدهُ اللقْمَةُ وَاللقْمَتَان وَالتَمْرَةُ وَالتَمْرَتَانِ " قَالُوا: فَمَا الْمسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: " الذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدقَ عَلَيه وَلا يَسْألُ النَّاسَ شَيْئا!.َ وبنحوه النسائي (2525).
ورواه أحمد عن أبي هريرة في مسنده (9422).(1/523)
لِلسَّائِل وَالْمَحْرُومِ)، وقد روى الإمام أحمد عن الإمام الحسين أحد السبطين والثاني لسيدي شباب أهل الجنة (1)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " للسائل حق وإن جاء على فرس " (2)، وإنه لَا يرتكب مذلة السؤال إلا عن حاجة، ومن اللؤم أن تسأله عن مقدار حاجته.
هذا ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان هناك بيت مال يسد حاجة كل محتاج، ويبحث عن المحاويج ليعطيهم ما يغنيهم عن السؤال.
وكيف تكون الحال، ولا توجد أية ناحية تبحث عن المحاويج لتغنيهم عن السؤال؟! إنه يكون إعطاء السائل أهم وأوجب، ولكن من الناس من يمنع الماعون عن هؤلاء؛ بحجة أن هؤلاء لهم مال ويتخذون تكفف الناس حرفة يحترفونها، ويؤثر المنع على العطاء، بل إنهم يذهب بهم فرط مغالاتهم في المنع إلى أن يحرموا العطاء، ولا حجة لهم إلا ادعاؤهم أنهم محترفون، فهل فتشتم عن حالهم، ونقبتم في بيوتهم، وكيف يفرون من أن للسائل والمحروم حقا معلوما كما في الكتاب السامي وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود " للسائل حق ولو جاء على فرس " (3) إنهم يظنون الظن، ويحكمون به من غير أن يستيقنوا في الأمر شيئا ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(و) المرتبة الأخيرة التي تؤتى المال على حبه هم العبيد ليفك عتقهم، وعبر عنهم رب العالمين بقوله عز من قائل: (وَفِي الرِّقَابِ) والرقاب جمع رقبة، والمراد العبد الذي تعلق به الرق، وعبر عن الرقيق بالرقبة من قبيل التعبير بالجزء وإرادة الجميع، وعبر عنه بالرقبة؛ لأن الرقبة هي مظهر الخضوع حسا، إذ يطأطئ العبد رقبته، خشوعا وخضوعا، وكان تعبير القرآن عن الرقيق بالرقبة مثل قوله تعالى:
________
(1) روى الترمذي (3701) عَنْ أبِى سَعيد الْخُدْرِى - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الْحَسَنُ والْحُسَيْنُ سيدَا شَبَابِ أهْلِ الجنة ". قَالً أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح.
(2) رراه أبو دارد: كتاب الزكاة - حق السائل (1418) وأحمد في مسند أهل البيت - رضي الله عنهم.
(3) سبق آنفا.(1/524)
(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)، وقال في كفارة القتل الخطأ (ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رقَبَةٍ مؤْمِنَةٍ. . .).
وقوله: (وَفِي الرِّقَابِ) أي يؤتي المال على حبه في الرقاب أي في فكها، وذلك يشمل إعطاء المكاتِب وهو الذي تعاقد مع مالكه على أن يعطيه ثمنه أو ما تراضيا عليه على أن يعتقه، وقد أمر الله تعالى بالمكاتبة، فقال تعالى: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكمْ. . .)، وإيتاء المال بأن يعطيه ما يستعين به على ما تعهد به لفك رقبته.
ويشمل الإعطاء في الرقاب أن يشترى عبيدا ويعتقها، كما يشمل الإعتاق إن كان له رقيق.
وإن إعتاق الرقاب من أحب ما يطلبه الله تعالى من عباده إليه؛ لأن في ذلك صيانة لكرامة الإنسان من الابتذال، وقد قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70).
ولأن في الحرية كمال الإنسانية وكمال التكليف الاجتماعي، ولأن في الحرية قوة وتحمل الأعباء وأن يكون جزءًا من المجتمع يسيره إلى الخير.
* ابتدأ سبحانه وتعالى في ذكر الخلال التي يتكون من مجموعها حال البر الذي هو غاية الغايات من الأديان الإلهية بالإيمان الجامع في معناه، ثم ثنى ببيان المحبة للخير والإنسانية بإعطاء المال عن رغبة ومحبة للمحاويج من الأقرب فالأقرب من بني الإنسان ثم ذكر التربية النفسية والاجتماعية في الآحاد، والجماعات، فقال تعالت حكمته: (وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفًونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدوا).
وإن هذه أمور تهذب النفس والمجتمع في الأمة، ومجتمع الإنسانية فإقامة الصلاة بأدائها على وجهها الذي شرعت له، وهو إخلاص النفس لله، وامتلاؤها بذكر الله، والإتيان بها مستوفية الأركان من قيام وقراءة وركوع وسجود، واستشعار خشية الله تعالى في كل حركاتها، بحيث تكون النفس مستحضرة عظمة الله في كل(1/525)
حركة من حركاتها، وتلاوة للقرآن فيها، ويكون القلب مع الجوارح في معانيها، وتكون كلها ذكر لله تعالى وتفضي إلى غايتها، كما قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْر اللَّهِ أَكْبَرُ. . .).
* وإيتاء الزكاة المفروضة، وهي التي تكون في المال النامي المنتج إذا بلغ نصابا مقدورا بنحو عشرة مثاقيل، أو يكون من أرض زراعية أو شجر مثمر، أو نحوهما بمقدار العشر صافيا من النفقات على ما هو مصرح به في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومستنبط من جملة الأحكام التي قررها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والزكاة يجمعها ولي الأمر وينفقها في مصارفها المذكورة في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، فولي الأمر هو الذي يجمعها، وهو الذي يوزعها.
وقد أجمع العلماء على أن في المال حقا غير الزكاة، وهو الذي أشار إليه الله في قوله تعالى: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) إلى آخر النص الكريم في موضوع إيتاء المال على حبه.
وذلك لأن الزكاة مفروضة وموزعة بالحق وفي مصارف ثابتة منها الفقراء والمساكين وفي الرقاب، ومنها الغارمون وابن السبيل، وفي سبيل الله أولئك في نطاق علم ولي الأمر، أو ما يصل أمره إلى ولي الأمر، وفوق ذلك هناك واجبات غير الزكاة فإذا كان له ذوو قربى يحتاجون إلى ماله يكون إعطاؤهم واجبًا غير واجب الزكاة، فإذا كان له أبوان فقيران فمن الإحسان إليهما الإنفاق عليهما، وكذلك ذوو قربى القرابات القريبة.
ومن اليتامى من لَا يعلم ولي الأمر حالهم فكل من يعرف يتيما يجب عليه أن يكرمه ويعزه، وكذلك أولئك المساكين المتجملون الذين لَا يسألون الناس إلحافا تعففًا وتجملا، وأولئك لَا يعرف أمرهم إلا الأقربون منهم، وأبناء السبيل حالهم تكون عارضة وتحتاج إلى إصلاح سريع، وسد حاجة، ومعاونتهم على إعادتهم.(1/526)
ومن الناس من تضطرهم الحاجة إلى السؤال لصعوبة وصولهم إلى بيت المال، الذي يجمع الزكاة ويوزعها في مصارفها، ومنهم من يكون في صحراء بعيدا عن العمران فيكونون في حاجة إلى الإسعاف السريع.
وكل هؤلاء وأولئك هم مصارف من يؤتى المال على حبه، والجزاء عند الله تعالى.
* وذكر الله سبحانه الوفاء بالعهد، وهو يشمل الوفاء بالعقود التي تعقد بين الناس في بيوعهم وتجاراتهم والجماعات في تعاملها.
وهي أظهر في معاملات الدولة الإسلامية في علاقاتها بغيرها من الدول والجماعات، فالوفاء بها تنظيم من الإسلام للعلاقات الإنسانية بين أهل الأرض، ولقد قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْئولًا)، وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92).
فالوفاء بالعهد قوة، وهو أساس التنظيم بين الدول، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لكل غادر لواء يوم القيامة، وأعظم لواء غدرة لواء أمير عامة " (1). * والأمر الأخير في الأمور التي جعلها الله تعالى قوام البر الكامل - الصبر، وهو ملاك الأخلاق الإنسانية كلها، فما من خلق كريم إلا كان الصبر قوامه، وهو قوة يقين تعين على كل ما ذكر في آية البر، فإيتاء المال على حبه يحتاج إلى الصبر، والصلاة والزكاة والوفاء بالعهد، كل هذا يحتاج إلى الصبر وضبط النفس، وقوة العزيمة.
________
(1) عَنْ أبِي سَعيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " لكُلً غَادر لِوَاء يَوْمَ الْقِيَامَة يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدرِه، ألا وَلا غَادِرَ أعْظَمُ غَدْرًا مِن أمِيرِ عَامَّة " [رواه مَسلم: كتاب السيَر - باب تحريم الغدر (3272)]. كمَا رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه.(1/527)
ْوقد قال تعالى (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ)
وإن مقتضى النسق أن يقول سبحانه والصابرون بالعطف على الموفون بعهدهم إذا عاهدوا ولكن كان النصب على أنه مفعول لفعل محذوف هو أخصّ الصابرين فهي منصوبة على الاختصاص، لمعنى في الصبر وهو واحد في الفضائل وأفعال الخير السابقة.
وهنا يسأل سائل، إن الجمل السابقة متعاطفة فقوله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) عطف عليها (وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ) فلماذا كان عند الكلام على الوفاء والصبر عبر بالوصف دون الفعل؟ والجواب عن ذلك فيما يظهر لي - والحقيقة عند منزل القرآن فعنده سر البيان الذي لَا نسمو إلى إدراكه - وهو أن إعطاء المال وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة أفعال مطلوبة في ذاتها، وهي تتجدد آنًا بعد آنٍ وإن كانت واجبة على الدوام، أما الوفاء فالفضيلة فيه أن يكون صفة دائمة لَا أن يكون فعلا ثم ينقطع، بل يكون حلية يتحلى بها المكلف، وكذلك الصبر المطلوب فيه أن يكون صفة مستمرة تظهر في كل أعماله من عبادات ومعاملات وأعمال، يصبر في كل أمر يقتضي الصبر على النعماء فيرضى ويشكر، ويصبر على الشديدة فلا يفزع، ويصبر على الضراء فلا يئن.
وقد ذكر سبحانه وتعالى مواطن للصبر يختبر فيها النفس فلا تطيش ولا تضطرب؛ إذ الصبر ضبط النفس فلا تهلع ولا تتبرم ولا تجزع ولا تضطرب ولا تطيش. وقد ذكر الله الصبر في البأساء وهي الشدة التي تنزل من فقر مدقع، ومن طاغية يطغى، ومن نوازل تنزل، كخسف أو ريح عاصف، أو سوء معاملة أو نحو ذلك مما يصيب الإنسان في الحياة، والصبر فيها هو ألا يهلع، وأن يفوض أمره إلى الله تعالى، ويرجو كشف الغمة ولا تذهب نفسه شَعاعا، بل يكون مالكا لنفسه مدركا بقلبه ومبصرًا بما يدفع عنه الأذى راجيا من الله تعالى العون في هذه الشديدة النازلة.(1/528)
والصبر في الضراء، والضراء ما ينال الجسم والنفس من مرض عارض أو من مرض مزمن، أو من فقد عضو من الأعضاء أو إصابته، والصبر في هذه الحال ألا يشكو ولا يئن ولا ييئس من رحمة الله تعالى، روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " يقول الله تعالى: أيما عبد من عبادي ابتليته في فراشه فلم يشك إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه، ودما خير من دمه، فإن قبضته فإلى رحمتي، وإن عافيته عافيته وليس له ذنب " (1).
والموطن الثالث الذي يكون فيه الصبر، وفضله كبير لأنه يحمي الجماعة، وهو " حين البأس "، والبأس هنا هو الحرب وقال تعالى: " حين " إشارة إلى أن الحرب تجيء وقتًا بعد وقت، وليست مستمرة، وإن استمرت أمدا طويلا تبدل الرجال بعد الرجال، ولا يحارب الجيش كله.
وأصل البأس الشدة، ومنه قوله تعالى: (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَفم بِعَذَابٍ بَئِيسٍ. . .)، أي شديد، وسميت الحرب بأسا لما فيها من الشدة، وإن هؤلاء الذين كانت حالهم برا قد قرر تعالى حكمه فيهم فقال تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمتَّقُونَ).
الإشارة الأولى والثانية إلى الذين اتصفوا بالبر، حتى كأنهم هم البر في أعمالهم المؤلفة للقلوب، والمقربة للنفوس، وصفاتهم المثبتة لقوة الإيمان وحسن العمل، والإشارة إلى الأوصاف كما ذكرنا فيها إيذان بأن هذه الأوصاف هي علة الحكم وقد حكم الله تعالى الحكم وأكده بضمير الفصل " هم "، وحكم لهم بحكمين مؤكدين: أولهما: أنهم صدقوا، والثاني: أنهم المتقون.
________
(1) ذكره القرطبي بتمامه في هذا الموضع من تفسيره. [كتاب الجامع - ما جاء في أجر المريض (1475)].
وروى البيهقي (6580) والحاكم في المستدرك (1323) عن أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قالَ الله تَعالى: إِذا ابْتَلَيْتُ عَبْدي الْمُؤْمِنَ وَلَمْ يَشكُنى إِلى عَوّادِهِ أطلَقْتُهُ مِنْ أسارى ثُم أبْدَلْتُهُ لَحْما خَيْراً مِن لَحْمِهِ وَدَما خَيْرا مِنْ دَمِهِ ثُم يَسْتَأنِفُ الْعَمَلَ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.(1/529)
وهم صدقوا في إيمانهم بأن كان إيمانا ساكنا في القلب، والنفس مذعنة خاشعة، وصدقوا في العمل، فكان عملهم منبعثا من إيمانهم، وصدقوا ما عاهدوا ْالله تعالى عليه، وصدقوا في عهودهم إذا عاهدوا، وصدقوا في الصبر من غير أنين ولا ضجر، ولا تململ ولا امتعاض، وصدقوا في الحرب فلم يفروا يوم الزحف وكانوا الصابرين من غير هلع ولافزع، وطلبوا إحدى الحسنيين النصر أو الاستشهاد، فكانوا بهذه الأعمال هم الصادقون.
والوصف الثاني هو التقوى، فهم المتقون الذين وضعوا وقاية بينهم وبين العذاب، وادرعوا بطاعته فيما أمر ونهى، وهو العزيز الحكيم.
* * *
البرفى القصاص
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
* * *
هذا كلام في البر أيضا، ذلك أن البر عمل موجب وعمل مانع، أو عمل يبني الجماعات فيكون موجبا، وعمل يحميها فيكون حاميا مانعا، والأول تبين بقوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. . .)، إلى(1/530)
آخر الآية، والآية التي نتعرض للكلام في معانيها الآن، هي لحماية الجماعة الإسلامية من الآفات التي تفتك في بنائها، وتحميها أيضا من الاعتداء وتفريق النفوس، وتأريث الأحقاد، فإذا كان من البر إعطاء المال على حبه للضعفاء، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصبر لأنه يؤلف القلوب، فمن البر أيضا الضرب على أيدي المفسدين، ومنعهم من أن يعيثوا في الأرض فسادا.
ولذا كانت آية القصاص في ترتيب التنزيل وراء آية البر؛ لأن كليهما في بناء الجماعات الإسلامية، ونفي ما يهدد بنيانها، وإن العرب في الجاهلية كانوا لا يقتصون من الجاني، وإنما يثارون من القبيلة، والدماء فيهم لَا تتكافأ في نظر العصبية الجاهلية، فماذا قتل رجل من عامة الناس رئيس قبيلة لَا يقتل القاتل أو لَا يكتفي بقتله، بل يقتل من يكافئ رئيس القبيلة، وقد يقتل بالواحد مئات لكي يتكافئوا مع من قتل، وهكذا كان قانون الغلب، وقانون العصبية لَا قانون القصاص العادل هو الذي يحكم، وكان ذلك ناشئا من العصبية أولا، وفرض التفاوت ثانيا، والثأر الذي لا عدل فيه ثالثا.
جاء القرآن الكريم ليمحو هذه العادة الجاهلية، وإثبات أن الناس جميعا سواء، وأن المسلمين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم " (1)، وفي ذلك إشارة إلى أنهم لَا يكون أقوياء أمام من سواهم إلا بالعدل الذي لَا يفرق بين شريف وضعيف.
________
(1) أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد: مسند المكثرين (6506) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وذكره، وبنحوه أخرجه أبو داود في الجهاد (2371) وابن ماجه: الديات (2675).
ورواه النسائي: كتاب القسامة (4650) من طريق أخرى قال: عَنْ قَيْس بْنِ عُبَاد قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَالْأَشْتَرُ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْنَا: هَلْ عَهِدَ إِلَيْكَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مَا كَانَ فِي كِتَابِي هَذَا، فَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ، فَإِذَا فِيهِ «الْمُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ أَلَا لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ بِعَهْدِهِ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَى نَفْسِهِ أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ". وأصله في البخاري ومسلم. وقد سبق في المقدمة.(1/531)
وجاءت هذه الآية الكريمة لرد هذه العادة الأثيمة فقال تعالى(1/532)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)، وكُتِبَ معناها فُرِضَ فرضًا مؤكدًا مسجَّلا، لَا مرية فيه، والفرضية على الجماعة الإسلامية كلها، فيفرض على الحاكم أن يقتص من القاتل أو المقتول بشكل عام، وفرض على القاتل أن يقدم نفسه، وفرض على ولي الدم أن يطالب بالدم، أو يعفو حتى لَا يُطَلُّ دم قط في الإسلام، وفرض على الجماعة كلها أن يعين ولي الدم ليقتص القاضي من المعتدي، ولو كان ولي الأمر، فقد قرر الفقهاء على ضوء هذه الآية أن ولي الأمر، ولو كان الجامعة الأعظم إذا قتل شخصا بغير حق، وأراد ولي الأمر القصاص وجب على الأمة مجتمعة أن تعينه على القصاص فإنه لَا يُطَلُّ دم قط في الإسلام كما قال إمام الهدى علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه (1).
والقصاص مصدر قاص، وهو المساواة وتتبع الأثر، وقد كتبه الله تعالى بأن يؤخذ الجاني بما جنى، وتكون العقوبة مساوية للجريمة، وأساس الإسلام في قواعده العامة، وإن ذلك هو العدل، وهو أردع للجاني؛ لأنه إذا علم أنه سينزل مثل ما نزل بالجاني، فإنه يتردد في الارتكاب ثم يعدل، ولقد قال بعض علماء الاجتماع والقانون: إن العقوبة إذا اشتقت من الجريمة كانت رادعة إذ تجعل المجرم يحس بأنه نازل به مثل إجرامه.
وقد فصل الله تعالى حكم القصاص، فقال تعالت كلماته: (الْحرُّ بِالْحُرِّ) أي الحر يقتل في مقابل الحر، (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) والعبد يقتل في مقابل العبد، (وَالأُنثَى بِالأُنثَى) والأنثى تقتل في مقابل الأنثى.
هذا هو العدل، وهو رد على الجاهليين الذين كانوا لَا يسوون في الدماء، فالعبد إذا قتل حرا من قبيلة أو الحر إذا قتل حرا من قبيلة، وكان الأول من دهماء
________
(1) جاء في صحيح ابن خزيمة (2372) عن بشير بن يسار أن رجلًا من أهله يقال له ابن أبي حثمة أخبره: لأ أن نفرا منهم انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا أحدهم قتيلا، فقالوا للذين وجدوه عندهم: قتلتم صاحبنا، قالوا: يا رسول الله إنا انطلقنا إلى خيبر. . . ". فذكر الحديث وقال في آخره: " فكره نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُطَلَّ دمه ففداه بمائة من إبل الصدقة ".(1/532)
الناس، وكان الثاني من أشرافهم لَا يقتل به بل يبحث عمن يكافئه وربما لَا يكافئه واحد، وذلك من العصبية الجاهلية، ومن نظام التفاوت الذي لَا يزال يسري بين الناس مقيتا، وإن كان مألوفا.
وبين القرآن حال المساواة في الوصف من حرية ورق، وذكورة وأنوثة، ولم يذكر إذا اختلف الوصف أو الجنس بأن قتل الحر العبد، والعبد الحر، والمرأة الرجل، والرجل المرأة، وذلك لأن النص سيق لإبطال العادة الجاهلية التي كانت تقتل غير القاتل، وتتعدى القاتل إلى قبيلة، وغير الشريف في زعمهم إذا كان هو القاتل إلى شرفائها، فرد الله تعالى زعمهم، وصحح الأمر في هذا المقام بالقصاص العادل.
أما التساوي في النفوس لَا في الأوصاف، فقد ثبت بقوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهِا أَن النَّفْسَ بالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوح قِصَاصٌ. .. )، (فَمَن جَاءَهُ مَوْعظَةٌ من رَّبّه فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ. . .).
وثبت أيضا بقوله تعالى بعد أن ذكر قصة ولدي آدم حين قتل قابيل أخاه هابيل لأنهما قدما قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، (قَالَ لأَقْتلَنَّكَ. . .)، إلى أن قال: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَه. . .)، بعد هذه القصة التي تصور الاعتداء في أقبحِ صوره، قال الله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا. . .).
وقد تقرر بذلك القصاص على أساس تساوي النفوس، وعلى ذلك يقتل الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، والعبد بالحر، والحر بالعبد.
ولكن ترد هنا أسئلة من حيث شمول هذه الآية، والآيات التي تلونا للصور الآتية:
أولا: تكافؤ الدم بين المسلم والذمي، أيقتل المسلم بالكافر؟، قد اتفقوا على أن الكافر إذا قتل المسلم قتل به، ولكن كان الأكثرون على ألا يقتل المسلم بالكافر لما(1/533)
ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يقتل مسلم بكافر " (1) ولعدم التكافؤ بين دم في أصله مباح، ودم في أصله حرام.
قال أبو حنيفة والثوري: يقتل المسلم بالكافر إذا قتله عمدًا بمحدّد؛ وذلك لأننا أخذنا عليهم العهد بأن يكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولأننا أعطيناهم العهد بحقن دمائهم ولو لم يقتص لهم لكان في ذلك إخلال بالعهد، ولأنهم وقد عقدوا الذمة معنا صار دمهم حراما كدمنا، ولأننا إذا وجد من يسرق الذمي قطعنا يده، ومؤدى ذلك أن ماله غير مباح فبالأولى دمه.
ثانيا: إذا قتل الحر العبد أيقتص منه؟ قال جمهور الفقهاء: لَا يقتص لأنهما ليسا سواء فالعبد مملوك والحر مالك ولأنه لَا ند، والعبد شيء يقوم بقيمته فإذا قتل به الحر وهو ليس بمال لَا يكون عدلا، لأن الإنسان لَا يقتل في نظير مال.
ولكن قال الإمام أحمد ونُفاة القياس والثوري وبعض الكوفيين: إن الحر يقتل بالعبد إذا قتله؛ لأنه نفس والإسلام جعل أساس القصاص المساواة في النفوس، وقال عليه الصلاة والسلام: " النفس بالنفس " وهؤلاء الذين قالوا إن الحر يقتل بالعبد قالوا: إن المالك يقتل إن قتل عبده، لما ذكرنا، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه النسائي وأبو داود: " من قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه، ومن أخصاه خصيناه " (2) وقد أخذ به البخاري وارتأى ما اشتمل عليه الخبر صحيحا، فكان تصحيحا ضمنيا له (3).
________
(1) أخرجه البخاري: كتاب العلم (108)، والترمذي: الديات (1332)، والنسائي: القسامة (4653)، وابن ماجه: الديات (3648)، وأحمد: مسند العشرة (565)، والدارمي (2250) من حديث على - رضي الله عنه.
(2) رواه النسائي بهذا اللفظ: كتاب القسامة (4655) وأبو داود. كما رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه والدارمي من غير " ومن أخصاه خصيناه " كلهم عن سمرة بن جندب. قال الحاكم في المستدرك ج 1 ص 408) (8163): هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وله شاهد من حديث أبي هريرة.
(3) قال البخاري: قال علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، وأخذ بحديثه: " مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ " وأكثر أهل العلم على أنه لَا يقتل السيد بعبده. [راجع نيل الأوطار للشوكاني: الدماء - ج 7 ص 9].(1/534)
ولما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من إكرام للرقيق، وفوق ذلك فإن الأساس هو المساواة في النفس، وهي ثابتة فكان القصاص حقا على الحر إذا قتل عبدا، وعلى المالك إذا قتل عبده.
ثالثا: إذا قتل الجماعة واحدا فهل يؤخذون به؛ فجمهور الفقهاء أقروا على أنهم يقتلون به لأنه ما داموا قد اشتركوا في القتل فقد قتل كل واحد منهم فيؤخذ بحكم القصاص، وإن تعددوا، وبهذا الاعتبار يكون التساوي لَا بين الجماعة مجتمعين، بل بين كل واحد منهم، واستحق كل واحد منهم القصاص عليه.
ولأنه لو لم نقتل الجماعة بالواحد، لأهدرت الدماء، وإذا رأى واحد قَتْل شخص فقد تضافر مع غيره من الآثمين فيقتلون، وإن الآثار من الصحابة قد أقرت قتل الجماعة بالواحد، وقد روي عن الإمام عمر رضي الله تعالى عنه أن سبعة قتلوا واحدا، فقتلهم به، وقال كلمة حازمة: لو تمالأ أهل صنعاء عليه لقتلتهم به.
وقتل علي كرم الله وجهه جماعة من الخوارج لقتل عبد الله بن خباب بن الأرت، فإنه عندما أخبر الإمام علي بذلك قال الله أكبر، فدعاهم وقال لهم: أخرجوا إلينا قاتل عبد الله، فقالوا: كلنا قتلناه، ثلاث مرات، فقال الإمام لأصحابه: دونكم القوم. فما لبث أن قتلهم.
واقتص علي كرم الله وجهه بذلك من قتلة عبد الله بن خباب بن الأرت، هذا ما نرى أن الأخذ بالقصاص في الآية ينطبق عليه، وثمة فروع في القصاص كقتل الرجل ولده وعدم جواز القصاص بتركه، لأنه ليس تطبيقا للآية، ولكنه أخذ بحديث (1).
والقصاص بإجماع الفقهاء كما قرر القرطبي في أحكام القرآن يتولاه ولي الأمر بطلب ولي الدم، لقوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33).
________
(1) راجع كتاب " العقوبة في الإسلام " للمؤلف دار الفكر العربي.(1/535)
(العفو)
والآية الكريمة فتحت باب العفو، وهو من سلطان ولي الدم، فقال تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ).
وفى هذا النص تحريض على العفو، لكيلا تنهار دماء المسلمين، ولكيلا تتأرث الأحقاد، ولينسل البغض ويعود التسامح بين المسلمين، ولأن جعل الحق للولي في القصاص يرهب الجاني، وقد يكون القصاص ضارا لولي الدم، كرجل قتل أخاه، وولي الدم أبوهما فإنه إن كان القصاص، وأغلق باب العفو، فإن الأب المكلوم يفقد الولدين معا.
ولذلك كان من التخفيف والرحمة أن يكون حق القصاص قابلا للعفو، وإنه إذا كان العفو كانت الدية كما قال كثيرون من الفقهاء، ودل على ذلك قوله تعالى: (فَمَنْ غفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) وهذا يدل ضمنا على وجوب الدية، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " أيما عبد أصيب بقتل أو خَبْل - أي جرح - فله إحدى ثلاث: القصاص أو الدية أو العفو فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه " (1).
وقوله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) يدل على ثلاثة أمور:
أولها: التحريض على العفو بذكر الأخوة الرابطة التي لم يقطعها الاعتداء؛ لأنها برباط الله تعالى فلا يفكه العبد.
ثانيها: أن أي قدر من العفو يسقط القصاص، فلو تعدد الأولياء في درجة واحدة، وعفا أحدهم سقط القصاص.
________
(1) عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أُصِيبَ بِقَتْلٍ، أَوْ خَبْلٍ، فَإِنَّهُ يَخْتَارُ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَقْتَصَّ، وَإِمَّا أَنْ يَعْفُوَ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، وَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ". رواه أبو داود: كتاب الديات (3898) ورواه أحمد (15780) بلفظ: " مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ أَوْ خَبْلٍ ـ الْخَبْلُ الْجِرَاحُ ـ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَقْتَصَّ، أَوْ يَأْخُذَ الْعَقْلَ، أَوْ يَعْفُوَ، فَإِنْ أَرَادَ رَابِعَةً فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ عَدَا بَعْدُ فَقَتَلَ فَلَهُ النَّارُ خَالِدًا فِيهَا مُخَلَّدًا ".
ورواه ابن ماجه (2623)، والدارمي (2245).(1/536)
ثالثها: أن التعبير بالبناء للمجهول يدل على تلمس العفو.
ثم قال تعالى: (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْروفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَان).
أي إذا كان العفو، فالأمر ينتقل من إراقة دم جديد إلى أن يكون اتباعا للقاتل من غير إرهاق بالملازمة، بل بالأمر الذي لَا يستنكر في العرف وتتعاون أسرة القاتل في أدائه من غير غباب، وهذا من جانب ولي الدم، ومن جانب القاتل وأسرته يكون الوإجب هو الأداء بإحسان، أي تكون نفوسهم سمحة، ويؤدون الدية في مواقيتها من غير ليٍّ، والإحسان الإجادة والإتقان وهو في مثل هذا المقام يكون بالمسارعة في الأداء والسماحة ولا مانع من الزيادة تطييبًا للنفوس المكلومة.
والنص الكريم يفيد بالإشارة إلى أن الدية بدل من القصاص عند العفو، ولذلك ذكرت مترتبة عليه، وكأنه إذا كان العفو ننتقل من القصاص صورة ومعنى بقتل القاتل، إلى القصاص معنى وهو الدية، فالقصاص ثابت في الحالين، وإن اختلف الشكل.
ولقد قال تعالى: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ من رَّبّكمْ وَرَحْمَةٌ) الإشارة إلى العفو بعد وجوب القصاص، فهو تخفيف من عنف القتل قصاصا، الذي يفزع النفوس، ويزعج وهو قاس؛ إذ يقدم للقود في وقت لَا يكون فيه انفعال مغيظ محنق، بل في صبر وأناة، وذلك يكون أشد وأعنف، وفيه رحمة بالجاني، إذ خرجت رقبته من القتل الذريع إلى الفداء بمال، ورحمة بالعافي إذ به يتخلص من الأحقاد، وأضغانها، وقد يكون فيه رحمة خاصة بأسرته، على النحو الذي ذكرناه، ورحمة بالأمة لكونه بدل أن ينقص عددها اثنين ينقص إلى واحد، وبدل أن تتبادل الدماء تنتهي المعركة.
وإن ذلك لَا يسوغ الاعتداء ولا يسهله، ولا يفتح الباب لاعتداء جديد، بعد أن أفلتت الرقبة من ضرب سيف قاطع، ولذا قال تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أى فمن اعتدى بعد العفو والدية، وبعد شرعية القصاص العادل، فله عذاب أليم في الدنيا، وله عذاب أليم أي مؤلم في الآخرة، ولقد فهم بعض الفقهاء(1/537)
أن عذابه فى الدنيا أن يحرم من رحمة العفو، وتحقيقه؛ ولذلك قرر كثيرون من الفقهاء أنه إذا عاد المعفو عنه في قصاص إلى القتل مرة أخرى، فإنه يكون من المفسدين، فيقتل حدا وليس قصاصا، وذلك لأنه قد يكون من الشُّطَّار الذين اعتادوا الاعتداء على الأنفس، وإرهاب النفس، ويكون عفو الولي رهبة منه لَا رغبة، فعندئذ يكون القتل لمنع فساده، ولقطع طريق الشر، ولذلك لَا يكون محلا للعفو إذ يكون تمكينا من الشر.
وهنا نلاحظ أن فتح باب العفو، وأن يكون القصاص بطلب ولي الدم يخالف القوانين القائمة على أن جريمة الدماء تكون اعتداء على الجماعة، ويكون المجني عليه شاهدا، وليس صاحب الحق الأول، وإن العدل هو في النظرية الشرعية التي تعتبر الجريمة ابتداء متجهة إلى أسرة المجني عليه، وعن طريقها تتجه إلى الجماعة، وذلك تمكين للأسرة من أن تنال حقها، وردع للأشرار عن طريق القصاص، أو التمكين منه، ويكون منعا للثارات والفساد في الأرض، والعقوبة واحدة، القصاص صورة ومعنى أو صورة فقط، ولا يفتح باب للتخفيف من عقوبة أشد إلى أخف منها إلا بإرادة المجني عليه، فيكون ذلك أمنع له من أن يفكر في ثأر، أو يكون في نفسه غيظ مكظوم دفين.
وإن شرعية القصاص على النحو الذي ذكره القرآن الكريم فيه حفظ للأنفس، وإشاعة للطمأنينة في النفوس وإرهاب للعصاة المتمردين على المجتمع، وإحساس بالراحة؛ ولذلك قال تعالى:(1/538)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) وإن هذه الكلمات السامية أبلغ تعبير عن آثار شرعية القصاص في الأمة.
والقصاص كلمة عامة يشمل القصاص في الأنفس الذي اختصت به آية القصاص، إذ قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) أما في هذه الآية (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) فإن القصاص يشمل الأنفس والأطراف والجروح، كما قال تعالى في سورة المائدة، بل يشمل القصاص في الضرب واللطم على ما حققه فقهاء السلف، وأخذ به الإمام أحمد.(1/538)
وفى قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) تعميم للقصاص مع تعريفه بأل التي تفيد الاستغراق، وتنكيره لكلمة حياة، والتنكير هنا للتعظيم، أي حياة سعيدة هادئة مطمئنة خالية من عبث السفاكين، واعتداء المعتدين واستهزاء المستهزئين هي حياة كريمة تظهر فيها الفضيلة، وتختفي فيها الرذيلة، تحترم فيها الحقوق، وتحقق فيها الواجبات؛ يقام فيها العدل، ويختفي فيها الظلم، ويتحقق الاجتماع، ولا يكون التنابذ والافتراق فلا شيء يربط الحياة بين الجماعات والآحاد سوى العدل والحق.
وكلمة الله السامية: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) اشتملت على إيجاز القِصَر البليغ إلى ما لَا يصل إليه إلا كلام رب العالمين، ولقد كان هناك مثل سائر في العرب، يقولون إنه أبلغ الكلام في إيجازه، وأعمقه في أدائه، وهو قولهم: " القتل أنفَى للقتل "، وعقد بعض العلماء موازنة بينها، وبين الجملة السامية (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) وقد استنكر ابن الأثير هذه الموازنة؛ لأنه لَا يوزن كلام الله تعالى بكلام أحد من الناس، وعقد هواة الموازنة ربما يكون فيها تنزيل من مقام المعجز الذي لَا يستطيع أحد من البشر أو الجن أن يأتي بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
وإن الموازنة انتهت بأنه لَا يمكن المماثلة بين كلام العرب وكلام الله تعالى، وأنه بالنظرة العابرة نرى كلام الله تعالى في مكانة وكلام العرب في دركه، فنجد أولا التكرار في لفظ " القتل أنفَى للقتل "، ولا تكرار في قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) ونجد أن الآية تدل على القصاص العادل، و " القتل أنفَى للقتل " لا تدل على القتل العادل، بل تدل على مجرد القتل، ونجد أن القصاص يشمل القتل وقطع الأطراف، بينما كلمة العرب لَا تدل إلا على القتل فقط، ونجد أن لفظ العرب لا يدل على حياة الجماعة، بينما أن النص القرآني السامي لَا يدل فقط على نفي القتل بل يدل على قيام الحياة الكريمة من هذا القصاص العادل، وإن المقابلة بين القصاص والحياة الكريمة تبين منزلة العدالة في القصاص.(1/539)
وهكذا نجد أوجه الإعجاز في هذا الإيجاز بما لَا يمكن أن يصل إليه كلام مهما بلغت مكانته من البيان عندهم، فهي بلاغة تليق بكلام الإنسان، وتتقاصر عن أن تصل إلى كلام الديان، وكلام الناس يجري في مساره، ولا يصل إلى برج القرآن الأقدس، تعالت كلماته وتعالى منزله.
ولقد قال نعالى مخاطبا الذين يدركون ما فى القصاص من ثمرة وهي الحياة العزيزة الآمنة الطاهرة من رجس الآثام وفسق الفساق واعتداء المعتدين، فقال نعالى: (يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) الألباب جمع لب وهو العقل المدرك الذي لَا يكتفى في إدراكه بمظاهر الأمور، فهؤلاء أصحاب الألباب التي تغوص إلى الحقائق فتدركها.
ثم قال سبحانه وتعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ولعل هنا للرجاء والرجاء من الناس لَا من الله تعالى، فالتقوى منهم وهو سبحانه وتعالى يتقبلها ويقرب بها عباده إليه سبحانه وتعالى، والتقوى رجاء من عند الله تعالى أن يتقوا بها عذاب النار وأن يتقوا في جماعتهم كل ما يفرقها، ويعملوا على أن يقوا من شر فسق الفاسقين واعتداء المعتدين والله سبحانه وتعالى ولينا، وهو نعم المولى ونعم النصير.
* * *
الوصية في الأسرة
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
* * *(1/540)
بعد أن بين سبحانه بناء الجماعة الإسلامية بما ذكره في آية البر، وبين حماية الجماعة الإسلامية من آفات المجتمع من الاعتداء والتفريق بالقصاص بين سبحانه وتعالى بعض أحكام الأسرة التي تربط بينها بعد الوفاة، وبين في آية البر إيتاء ذوي القربى في حياته، وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى الوصية بالإيتاء بعد وفاته.
فقال:(1/541)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ).
وقد قال بعض الفقهاء مناسبة الآية بعد آية القصاص فوق ما ذكرنا أن آية القصاص تفيد أن للولي أن يقتص فيكون هذا الذي يقتص منه قد حضرته الوفاة، فكان له أن يوصي، بما يوصيه، إذ قد حضره الموت، فيجب عليه أن يوصي، إن ترك خيرا.
وهذه أول آية ذكرت فيها الوصية، وقد ذكرت بعد ذلك في توزيع الميراث، وأنه يكون بعد وصية يوصي بها أو دين، ثم ذكرت في آخر المائدة عند الشهادة عليها، إن حضر الموت وهو في سفر.
وقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) إلى آخر الآية، كُتِب تدل على الفرضية المؤكدة مما يؤكد به القول عادة وهو الكتابة المقيدة المسجلة.
وقد قال بعض الفقهاء: إن الوصية لمن كان عنده مال يسمى " خيرا " تكون واجبة، وقد احتجوا بما روي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي به فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " (1) وإذا استدل على هذا بأن ذلك إذا أراد الوصية، فإذا لم يردها لَا جناح عليه إذا لم يوص ولم
________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: الوصايا (2533) ومسلم: الوصية (74 0 3) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما.(1/541)
يكتبْ، فنقول إنه بعد ذكر صيغة الوجوب، وهي " كتب " الدالة على الفرضية يكون الحديث دالا على الكتابة تنفيذًا للفرضية وتأكيدا لها، وتثبيتا، وقال الأكثرون الوصية ليست واجبة في غير الودائع، والديون التي عليه، والصدقات التي وجبت ولم يؤدها، وقد اتفق الفقهاء على وجوب الوصية في هذه الأمور التي تكون حقا عليه، ولم يقم بأدائه في حياته فيوصي به بعد وفاته.
والظاهرية من نفاة القياس قرروا أن الوصية واجبة بظاهر الوجوب في قوله تعالى: (كتِبَ عَلَيْكُمْ) وأنه إن لم يقم بذلك كان للقاضي أن يأخذ قدرا من الوصية يعطيه لمن يستحقه أي قدر كان.
وقد علق تعالى طلب الوصية على وجود قدر من المال يسمى " خيرا " فقال تعالى: (إِن تَرَكَ خَيْرًا) وما المراد بالخير؛ قال بعض العلماء: إن أي قدر من المال خير، لأن الله تعالى سماه خيرا فقال تعالى: (ومَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتمْ لَا تُظْلَمُونَ)، وإن المال القليل يطلق عليه إنه خير؛ ولذا قال تعالى عن موسى عليه السلام: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِليَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)، وإطلاق كلمة خير على المال قل أو جل لأنه سبيل للخير، وخلق المال لجلب الخير، ودفع الضر.
وروي عن كثير من الصحابة أن الخير المراد به في الآية الكثير كثرة نسبية النسبة لحال الورثة وعددهم، روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال لها: إني أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف درهم. قالت: فكم عيالك؟ قال: أربعة. قالت: إن الله تعالى يقول: (إِن تَرَكَ خَيْرًا) وهذا شيء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك (1).
________
(1) عن أم المؤمنين عائشةَ بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - قالتْ: قالَ لَهَا رَجُلٌ: إنِّى أريدُ أنْ أوْصِي، قالتْ: كَمْ مالُكَ؟ قالَ: ثلاثةُ آلاف، قالتْ: كم عيَالُكَ؟ قالَ: أرْبَعَة، فقالتْ: قالَ الله سُبْحَانَهُ: (إِن ترَكَ خَيْرًا الْوصِية. . .)، وإنَّ هَذَا لشىَء يسيرٌ، فاترُكْهُ لِعِيَالِك فهو أفْضَلُ. [رواه البيهقي في السنن الكبرى: باب من استحب ترك الوصية إذا لم يترك شيئا كثيرا (12727)].(1/542)
وروي أن عليا كرم الله وجهه دخل على رجل يعوده، فقال الرجل: أوصي؟
فقال الإمام كرم الله وجهه: " قال الله تعالى: (إِن تَرَكَ خَيْرًا) إنما تركت شيئا يسيرا فاتركه لأولادك " (1).
ويفهم من هذا أن المراد بالخير المال الكثير، وتقديره نسبي بحسب حال الورثة وحاجتهم وعددهم؛ ولذلك اختلف الصحابة في تقدير الكثرة فمعظمهم قدرها بما فوق الستين دينارا، وقدرها بعضهم بثمانين دينارا فأكثر، وروي عن قتادة أنه قال: ألف فما فوقها، أي من الدراهم. وهكذا نرى أن الكثرة من علماء الصحابة فسروا الخير بأنه المال الكثير الذي يتناسب مع حاله وحال ورثته وعددهم وأن أحدا من الصحابة لم يفسره بأنه أي مال.
ولم يقدر مقدار الموصى به، ولا دليل على تقدير قدر معين له، وقد ترك التقدير لتحقيق كلمة بالمعروف، أي الأمر الذي لَا تستنكره العقول، وتعرفه وتقر به، وتعبير القرآن الكريم في قوله: (بِالْمَعْروفِ) يدل على ما لَا يستنكر في العرف والعادات، المستقيم الذي يضع الأمور في مواضعها ويزنها بميزان الحق.
وقوله تعالى: (لِلْوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) وقد ذكرنا معنى بالمعروف، وقد كان النصب يوجب على من يقول بالوجوب الوصية للوالدين والأقربين وذكر الوالدين أولا؛ لأن الله تعالى أوصى بالإحسان إليهما وأكد الإحسان ولو كانا مشركين وقال تعالى: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا معْرُوفَا. . .).
والأقربون من الأقارب هم الذي تدنو قرابتهم أكثر من غيرهم كالإخوة والأخوات والأبناء والبنات، وغيرهم من ذوي العلاقات المباشرة بالقرابة كالعم وابن الأخ.
________
(1) رواه البيهقي: كالسابق (12726) عن هشام بن عروة، بلفظ: إنَّ الله تَعَالَى يقولُ: (إِن تَرَكَ خَيْرًا الوَصيَّة. . .)، وإنَّكَ إنما تَدعُ شيئا يسيرا، فَدَعْهُ لِعِيَالكَ، فإنهُ أفْضَلُ.(1/543)
وهنا يثور بحث أيوصي لها وجوبا بالمعروف، ولو كان لهم ميراث مقرر في آية المواريث، والميراث فريضة محكمة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " (1).
لقد قال الأكثرون من الفقهاء: إن هذه الآية إنما يؤخذ بها إذا كان هؤلاء غير وارثين كما كان الأمر في أول الإسلام إذا أسلم وأبواه مشركان، وكما كان من بعد من تزاحم الورثة أو تقديم بعضهم على بعض، كان يكون له أخت شقيقة أو لأب، وله ابن، فإن الأخت لَا ترث وهي من الأقربين، وكذلك أخوه؛ لأن الابن حجبه ففي الحال إذا كان الأخ ذا حاجة كمتقدم السن فإنه يوصى له.
ولذا قال هؤلاء الغلبة من الفقهاء إنه يجمع بين آية الوصية وآية المواريث وتكون آية الميراث مخصصة لآية الوصية بأنها في غير الوارثين من الأقارب.
هذا ما عليه الجمهرة العظمى من الفقهاء، ولا يقال إن آية الميراث نسخت آية الوصية؛ لأنها بقيت شريعتها في غير الوارثين، وهي في ذاتها سير لما عساه يكون من حاجة عند بعض الأقارب الأقربين الذين لم يصل إليهم تقسيم الميراث ويكون هذا هو العدل، وهو البر والرحمة بذوي قرباه.
ويرى بعض الفقهاء أنه لَا تعارض لَا في الكل ولا في الجزء بين آيات الميراث، وآية الوصية، فآية الوصية في الثلث يوصي به لمن يراه أشد حاجة وأقوى
________
(1) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ التَّابِعَةُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لَا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الطَّعَامَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا» ثُمَّ قَالَ: «العَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ، وَالمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ، وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ، وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ». رواه بهذا اللفظ الترمذي: كتاب الوصايا (2046).
ورواه أبو داود مختصرا: كتاب البيوع (3094) ورواه ابن ماجه بلفظ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِى خُطْبَتِهِ عَامَ حِجةِ الْوَدَاع: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّهُ فَلا وَصِيةَ لِوَارِثِ ".(1/544)
قرابة، والميراث في الثلثين، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله تصدق عليكم في آخر أعماركم بثلث أموالكم فضعوه حيث شئتم " (1).
ولقد قال ذلك القول من الشيعة الجعفرية، وقالوا: إنه حديث " إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث إلا بالثلث ". ولعلهم عللوا ذلك بأن بعض الورثة ربما لَا يسد نصيبه حاجته، فالأخ قد يكون ذا متربة فلا يسد نصيبه حاجته، وقد يكون أحد الورثة زمنا مريضا بمرض لَا يرجى البرء منه، وهو في حاجة إلى أكبر من نصيبه، فيوصى له بما يكمل حاجته وقد شرع الله تعالى الوصية لتكميل ما عساه يكون في توزيع الميراث من رأب يجب سده.
وقد أخذ القانون المصري برأي الإمامية في جواز الوصية.
ونقول إن الاعتبار في حال الأخذ بجواز الوصية للوارث أن يكون ذلك بالأمر المعروف الذي لايستنكره الشرع ولا يستنكره العقل، فإن فعل فقد ارتكب إثما، فلا يوصي لابنة الغني، أو الذي يكون من الزوج المحبوبة ويترك الآخر، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " سووا بين أولادكم " (2) أو يوصي لابنه، ويترك ابنته فإن الوصية للوارث مهما يكن مبررها هي مخالفة للميراث، أو استثناء من أحكامه ويستقيم الاستثناء إذا كان في بر وعدل، لَا في قطيعة وإثم.
وإن القاعدة الشرعية في الأمور الاستثنائية أو الاستحسانية التي تجيء على خلاف القاعدة أن تكون مكملة للقاعدة أو الأصل العام والباعث عليه، غير مناقضة
له.
________
(1) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ اللَّهُ تَصَدقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أمْوَالِكُمْ زِيَادَة لكُمْ فِى أعْمَالِكُمْ " [رواه ابن ماجه: كتاب الوصايا: الوصية بالثلث (2700) وأحمد عن أبي الدرداء (6221) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ اللَّهُ تَصَدقَ عَلَيْكُمْ بثُلُثِ أمْوَالِكم عِنْدَ وَفَاتكُمْ ".
(2) عن الشعبي قال: سمعت النعمان (هو ابن بشير) علَى منبرنا هذا يقول: قَال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " سَوا بَينَ أوْلادِكُمْ فِى العَطِيةِ، كَمَا تحِبونَ أنْ يُسَووا بَيْنكمْ فِى البِر " [شرح معاني الآئار: كتاب الهبة والصدقة ج 4 ص 58].(1/545)
ْولقد أكد سبحانه طلب الو صية، فقال " تعالى (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) وحَقًّا في الآية مفعولا لفعل محذوف يقدر بما يناسب القول أو الحكم، فيقدر مثلا يجعلها الله حقا، أو أوجبه حقا على المتقين.
وإن اقتران حكم الوصية الدال على وجوبها للوالدين والأقربين يومئ إلى أنها محكمة لَا تنسخ، لأن الله تعالى لَا يؤكد حكما جرى في علمه المكنون أنه سينسخه ذلك التأكيد.
وهو يدل على الوجوب ويؤكده، وذكر الوجوب على المتقين للإشارة إلى أنهم الذين يطيعونه اتقاء غضب الله سبحانه وتعالى وابتغاء رضوانه، وإلى أنهم يسارعون بإجابته، وأنهم ينفذون في دائرة المعروف غير المنكور.
وإن الوصية تكون عطاء من رجل فانٍ يتركها لمن بعده من ذوي قرابته أو الاتصال به، وهي تكون وديعة بين أيديهم، هي وديعة ذلك المتوفى الذي صار لا يملك من أمره شيئا، وهي أيضا وديعة الله إذا كانت في سبيل الخير الذي يرضاه الله تعالى؛ ولذا نهى الله تعالى عن تبديلها، وقال تعالى:(1/546)
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
(فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) وهذا يدل على أن التبديل إثم ممن يقع منه التبديل سواء أكان وصيا في التركة أم كان وصيا على الورثة الضعفاء أم كان شاهدا، أم كان قد أُودع الوصية، وبعبارة عامة، كل من يكون في قدرته التبديل والتغيير في موضوعها، أو في مقدارها، أو في مستحقها، ولا يقال إن التبديل من الموصى نفسه للسياق، إذ يقول (بَعْدَمَا سَمِعَهُ)، أي القول الدال على الوصية، والموصى لم يسمع القول بل قاله، متفق عليه أن الموصى له أن يغير في الوصية، ويبدل ما دام حيا؛ لأنها تصرف غير لازم، ولا تنفذ إلا بعد وفاة، ولا يأثم إلا إذا غيرها من خير إلى غيره، ولا يكون الإثم إلا من قصد الشر.
وكان التبديل إثما لأنه خيانة للموصِي الذي استودعه أسراره، ولأنه اعتدى فغير وبدل فيما لَا يملك التغيير، ولأنه كشاهد الزور الذي يشهد بغير ما يعلم أنه الحق، ولأنه يفوت الخير المعروف الذي قصده الموصِي بوصيته.(1/546)
وقوله تعالى: (فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) الفاء هنا واقعة في جواب الشرط، و " إنما " دالة على القصر، أي فإن الإثم واقع على الذين يبدلونه، وليس على الموصِي وزر فيما فعلوه، فقد احتسب الخير ونواه، وأراد تنفيذه، وليس عليه وزر الذين غيروا وبدلوا.
وقوله تعالى: (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) بواو الجمع، وقد يكون الذي غيره واحدًا، للإشارة إلى أن ذلك التغيير عادة يكون من الورثة الذين يريدون أن يغيروا إرادة المورِث، ففي التعبير بواو الجماعة إشارة إلى ائتمار منه ولا ينسب إلى واحد يتحمل وحده الوزر، بل يتحملون جميعا الوزر.
ولقد هدد الله تعالى أولئك المغيرين المبدلين المناعين للخير، بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ سميعٌ عَلِيمٌ) أي أنه سبحانه وتعالى سميع لأقوالهم التي غيروا بها وبدلوا، ومنعوا الخير عن صاحبه، وعليم بكل شيء، عليم بالوصية الحق التي كتبها الموصي، وعليم بمن غير وبدل وهو المتصف بالعلم الكامل، وهو الذي أحاط بكل شيء علما سبحانه وتعالى.
وإن ذلك إنذار شديد لمن يغير.
وقد أكد سبحانه الكلام بإن المؤكدة، والجملة الاسمية، وذكر اسم (الله) سبحانه وتعالى العالم بكل شيء.
وإنه قد يكون الموصي ظالما، أو ميالا لظلم، أو يريد إثما لوصيته كمن يوصي في موضع، أو يعين في وصيته على إثم فهل تنفذ هذه الوصية، وهل يجوز تغييرها؛ قال الله تعالى في ذلك:(1/547)
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
(فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ).
الخوف يكون في الأمر المتوقع فيخاف أن يقع، فتقول أخاف أن تفعل كذا، إذا كنت تتوقع الفعل المَخُوف، كما قال يحقوب: (وَأَخَافُ أَن يَأكلَهُ الذِّئْبُ. . .)، أو رأيت بوادره من قول أو فعل أو نحو ذلك، والجنف الميل إلى ناحية(1/547)
الظلمْ، وهو ضد الحنف فهو الميل إلى ناحية العدل فقوله تعالى (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا) معناه من خاف من موص ميلا إلى ظلم، أو توجها خطأ إلى ظلم أو إثما مقصودا فأصلح بينهم أي بينه وبين ورثته وحمله على الاتجاه إلى العدل والخير، أو قصد إثما بأن أوصى لبنيه دون بناته أو أراد أن يوصي في معصية، أو في ناحية لَا خير فيها، فحملوه على اختيار ما لَا معصية فيه ولا ظلم، فإنه لَا يكون عليه إثم، كإثم التبديل، لأنه ما بدل إنما الذي بدل الموصي، وله فضل الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر وفضل الصلح والصلح خير، وفضل منع الظلم، ومنع الظلم خير لَا شك فيه.
وإن مثل هذا عمل عام يجب القيام به على عامة المؤمنين، وإن قام به البعض سقط الحرج عن الباقين، وإنه يجب على والي الحسبة القيام بالإصلاح في هذه الوصايا التي تجنف لإثم والقاصدة الإثم.
وإذا كانت الوصية فيها جنف لإثم أو تعمد لإثم، ومات الموصِي مصرا عليها، كأن يوصي لغير قرابته، وهم أغنياء، وفي قرابته فقراء فإنه إن حولت الوصية إلى فقراء ذوي قربا كان أولى لأنها عدلت إلى خير.
وقد روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أن معنى الآية من علم بعد موت الموصي جنفًا أو تعمد إيذاء بعض فأصلح ما وقع من الإثم وما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم أي لَا يكون إثم التبديل، بل يكون له ثواب الإصلاح، وروى النسائي أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته، وليس له مال غيرهم فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فغضب من ذلك وقال: " لقد هممت ألا أصلي عليه "، ثم دعا مملوكيه فجزأهم ثلاثة أجزاء، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة (1)، وقد أخرج مسلم هذا الحديث.
________
(1) رواه بهذا اللفظ عن عمران بن حصين النسائي: كتاب الجنائز - باب من يحيف في وصته (1932)، ورواية مسلم عنه أيضا بلفظ: " أنَّ رَجُلا أعْتَقَ سِتةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عنْدَ مَوْتهِ، لَم يكن لَه مَالٌ غَيْرَهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَزأهُمْ أثْلاثا، ثم أقرَعَ بَيْنَهُمْ فَأعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأرًقَّ أربعَة، وَقَالَ لَهُ قَوْلا شَدِيدًا. [كتاب الأيمان - باب من أعتق شركا له في عبد (3154)].(1/548)
وقد اشترط في نفاذ الوصية ألا يكون فيها مضارة، فلقد قال تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ. . .)، وقرر مالك أن كل وصية فيها مضارة تكون باطلة.
هذا وقد اتفق الفقهاء على أن الوصية بمعصية تكون باطلة، وكذلك الوصايا التي يكون الباعث عليها معصية من المعاصي كان يوصِي لخليلته لتبقى معه على العشرة الحرام، وإن تكلموا في مدى قوة الباعث.
وفى الجملة إن الآية الكريمة تدل على أنه لَا إثم على من بدل وصية آثمة فحولها إلى الخير، أو أبطلها إن لم يمكن تحويلها، وإن ذلك يكون للقضاء أو لوالي الحسبة.
ولأن التبديل لَا يكون في دائرة الإثم ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ) أي إن الله تعالى بالغ الغفر؛ غفار للموصِي أن همَّ وعدل، وغفار لمن أصلح ونجح، ولا يأثم من غيَّر بعد الوفاة، وحولها من جنف إلى عدل، وأن الله يرحم الموصي ويرجى ألا يؤاخذه ما دام لم يتم ما أقدم عليه، وقد أكد سبحانه الغفران والرحمة بصيغة الغفور الرحيم، وبإن المؤكدة، وبالجملة الاسمية. اللهم اجعلنا ندخل في غفرانك، ونحن في رحمتك.
* * *
(الصوم)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ(1/549)
لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
* * *
ذكر الله تعالى في آية البر، أن من البر إتيان المال مع حبه، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأشار إلى الجهاد، ولم يذكر الصوم والحج، وقد ذكر هنا الصوم، وسيذكر من بعد الحج في محكم آياته، وبذلك تجتمع الأركان الخمسة التي هي عماد الإسلام، وهي الإيمان بالله وشهادة أن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.
وقد بين الله تعالى صوم رمضان في هذه الآيات الكريمات التي تلوناها ونتكلم في معناها الآن، قال الله تعالى:(1/550)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) كتب بمعنى فرض لأنه قرره الله تعالى، وكتبه حتى صار مكتوبا على المؤمنين، وقد أكد سبحانه الفرضية بقوله تعالى عليكم، وبأنه شريعة النبيين أجمعين؛ ولذا قال تعالى: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) وأنه سبيل لتقوى النفس، ولذا قال: (ولَعَلَّكمْ) وذكر أنه أياما معدودات معروفة القدر، مبينة الابتداء والانتهاء، وقد بينها سبحانه وتعالى في قوله تعالت كلماته:
(شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ. .. (185)(1/550)
والصوم في اللغة الإمساك، وذلك كقول مريم فيما حكى القرآن: (فَقولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا)، والصوم في المعنى الديني القرآني الظاهر هو الإمساك عن الطعام والشراب، وعن النساء من طلوعِ الفجر إلى غروب الشمس كما قال تعالى فيما سيأتي: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّن لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ. . .)، بهذا النص الكريم يحد الصيام من طلوع الفجر، حتى يدخل الليل وذلك بغروب الشمس.
كتب الصوم على الذين آمنوا فهو فرض مؤكد، وقد قال: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) من أهل الديانات السماوية كديانة موسى عليه السلام، وديانة عيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والتشبيه كما قال معاذ بن جبل من فقهاء الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم: التشبيه واقع على أصل الصوم، لا على صفته وعدد أيامه. وهذا يكفي في التشبيه فهو يثبت أن الصوم شريعة في الشرائع السماوية كلها، وهذا يدل على كمال فرضيته، وأنه لَا يختص بالمسلمين وحدهم بل يعم الديانات السماوية كلها.
وقد بين الله تعالى حكمة شرعيته الأزلية الباقية بقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي رجاء منكم لأن تصلوا إلى درجة المتقين، فتتقوا المعاصي، وسيطرة الأهواء والشهوات على نفوسكم؛ وذلك لأن الصوم يربى النفس على الضبط، والاستيلاء على أهوائها وشهواتها وحيث قويت الإرادة قوي سلطانها على الالتواء وعلى الشهوات، ولذلك كان من آدابه المكملة له أن يمتنع عن المحظورات كلها فلا يسب ولا يقول الزور، ولا يعمل به، ولا يجترح المنهيات بلسانه، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " (1) وقال
________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الصوم (1770) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، كما أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد.(1/551)
- صلى الله عليه وسلم -: " الصوم جنة " (1) وإن الصوم بهذه المعاني الجليلة المهذبة للنفس الضابطة للإرادة كان من أعظم العبادات عند الله تعالى؛ ولذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه: " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " (2)، وكان الصوم من بين العبادات مختصا بأنه لله تعالى وحده؛ لأنه تجرد روحي، وانخلاع من الأهواء والشهوات وعلو بالنفس الإنسانية عن العالم المادي وشهواته وهو سر بين العبد وربه.
وحدَّ الله سبحانه وتعالى مقدار الصوم بأنه أيام معدودات ليست كثيرة، ولا مرهقة، ولكنها في مؤداها جليلة وهذه الأيام المعدودات التي لَا تتجاوز الحسبة هي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان.
وإن الصيام في هذه الأيام المعدودات فرض، رخِّص فيه لذوي الأعذار أن يفطروا ويؤدوا بدل الأيام ولذا قال تعالى:
________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: باب فضل الصوم (1761)، ومسلم (1941) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: " الصيام جنة،، وفي بعض رواياته عند الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، والدارمي بلفظ: " الصوم جنة ".
(2) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (1771)، ومسلم (1944) عن أبي هُرَيْرَةَ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " قَالَ اللَّهُ: كُل عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصيامَ فَإِنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ، وَالصيامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمَِ أحَدكُمْ فَلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ، فَإنْ سَابهُ أحَدٌ اوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إني امْرُؤٌ صَائمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّد بيَده لَخُلُوفُ فَم الصَّائِم أطيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيح الْمِسْكِ، لِلصَّائِم فرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ ربَّهُ فَرِحَ بِصَومِهِ ".(1/552)
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
(فَمَن كانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام).
العدة العدد من الأيام، وقال أحمد: إن هذه العدة تبتدئ من وقت قدرته على الصوم بعد رمضان، وأوجب الشافعي أن تكون في السنة التي يكون فيها رمضان، وقال أبو حنيفة: إن القضاء واجب على التراخي وهو يقدر، ويحسن أن يكون عند القدرة، والمرض الذي يبيح الإفطار قسمان: أحدهما - المرض الذي لَا يسع المريض فيه أن يصوم قط، وهذا بالاتفاق يسوغ الإفطار والقضاء، والقسم الثاني - مرض يمكن معه الإفطار والصوم، ولكن الصوم يكون بمشقة زائدة عن المعتاد من المشقات(1/552)
التي يجيز الشارع احتمالها، وقالوا إنه الصوم الذي يزيد المرض شدة، أو يطيل مدته، أو يخبر طبيب مسلم عادل بأن الصوم يضره لوجود هذا المرض.
والسفر الذي يجيز الإفطار اختلف فيه الفقهاء باختلاف أنظارهم في السفر الذي يوجد مشقة توجد الرخصة، فقيل سفر يوم وليلة: وقال أبو حنيفة ثلاثة أيام، بالسير المعتاد للإبل بحيث يسير نصف النهار، ويستريح النصف الآخر وإن السفر بدابة على هذا المعنى مشقة - ولقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: لولا الأثر لقلت العذاب قطعة من السفر، والأثر الذي يشير إليه حبر الأمة هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " السفر قطعة من العذاب " (1) ولا شك أن الانتقال في الصحراء ينطبق عليه ذلك الوصف.
وهنا يثار بحث: أيكون الأفضل في المرض والسفر الفطر، أم الصوم؟ وقد أجاب عن ذلك بعض العلماء بأنه إذا لم يجد مشقة شديدة في المرض يكون خيرا أن يصوم، ولا يكون معاندا لرخصة الله تعالى، ولكن يكون محتاطا في معنى المرض الذي يسوغ الرخصة، وإلا فالرخصة أفضل، وكذلك في حال السفر، إذا كان يرى أنه يستطيع الصوم من غير إجهاد، فالأفضل الصوم، ويكون ذلك ليس معاندة للرخصة.
والسفر المجرد في هذه الأيام لَا مشقة فيه؛ ولذا أرى أن الأفضل الصوم، من غير أن نقرر وجوبه حتى لَا نكون معاندين لرخص الله؛ فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه.
والسفر أقسام ثلاثة: سفر للجهاد في سبيل الله، وهذا لَا يحسن فيه الصوم، وإلا خالف السنة وعارض الرخصة؛ لأن الله تعالى اختبر المؤمنين في غزوتين كانتا في رمضان وهما غزوة بدر الكبرى، وفتح مكة، كانت الأولى في السابع عشر من
________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب الحج (1677)، ومسلم: كتاب الإمارة (3554) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " السفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَاب يَمْنَعُ أحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ فَإذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجلْ إِلَى أهْلِهِ ".(1/553)
رمضان، والثانية في الثالث عشرا، وقد أفطر فيهما النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ومن معه من المجاهدين.
والقسم الثاني: السفر في مباح كالتجارة، والانتقال من بلد إلى بلد للإقامة ويترك الأمر فيه إلى حال المسافر على النحو الذي ذكرناه، إن وجد المشقة شديدة أفطر وإلا صام وينطبق عليه رأينا في السفر في السكة الحديدية.
القسم الثالث: السفر للمعصية، وكثيرون من الفقهاء لَا يرون أن الرخصة تشمله لأنه عاص بسفره، والرخصة نعمة، والمعصية لَا تبرر النعمة.
وهناك عذر يبرر الإفطار من غير قضاء ولكن تكون فدية هي طعام مسكين يوما، وقد قال الله تعالى فيه: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) والإطاقة كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: الطاقة اسم لمقدار ما يمكن الإنسان أن يفعله بمشقة. .، فقوله تعالى: (وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَة لَنَا بِهِ. . .)، معناه ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه لَا تحملنا ما لَا قدرة لنا.
والمعنى على ذلك لقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونهُ) أي يتكلفون مشقة هي أقصى الطاقة لايستطيعون المداومة عليها، وهم الشيوخ الفانون الذين تقدمت سنهم، وقد قال ابن مسعود في تفسير " يطيقونه " أي يصلون إلى أقصى المشقة، ولا أمل لهم، في قضاء وقال ابن عباس: إن قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ) نزلت في الشيخ والشيخة إذا كانا لَا يصومان إلا بمشقة. .
وقد أفطر أنس خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما طال عمره، فأفطر سنتين في آخر حياته، وكانت الجفان تقام لإطعام المساكين ثلاثين جفنة لثلاثين مسكينا على عدد أيام الصوم.
ولقد قال تعالى بعد ذلك: (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لكُمْ إِن كُنتمْ تَعْلَمُونَ).
(فَمَن تَطَوَّعَ) الفاء هنا للإفصاح، أي إذا كان قد كتب عليكم الصوم ويسر الله تعالى عليكم بالرخص التي رخص بها فمن تطوع خيرا، أي فمن قصد الطاعة، وتكلفها قاصدا الخير فهو خير يدخره له يوم القيامة، فالتطوع هنا ليس النافلة كما(1/554)
قال الفقهاء فإن ذلك اصطلاح فقهي لَا تخضع له عبارات القرآن في دلالاتها، بل تخضع للغة، والآثار النبوية فقط، والتطوع هنا هو المبالغة في الطاعة قاصدا أو طالبا خيرا، فهو خير له وقوله تعالى: (وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لكُمْ) تحريض على القيام بالواجب المفروض الذي كتب عليكم وعلى الذين من قبلكم ولا شك أن أداء الواجب خير عظيم، وقال تعالى: (إِن كُنتمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون ما هو خير لكم، وما الواجب عليكم، وقد ذكر سبحانه التعليق بـ " إن " حثًّا على طلب علم الغاية من فرضية الصيام وهو تربية نفوسكم على الصبر، ولقد ورد أن الصوم نصف الصبر، والصبر صفة المؤمنين، كما أشرنا من قبل.
ويلحق بذوي الأعذار الحامل والمرضع، وقد اختلف في شأنهما أهُمَا ملحقان بالمرضي مرضا قريب البرء فيكون لهما الإفطار وعليهما عدة من أيام أخر، إذ هما كحال المريض الذي يصعب الصوم عليه، ويضره الصوم، أو يضر ما في أرحام الحوامل، ومن يتغذي منهما، ونظر آخرون إلى أن المرأة الولود، وهي التي ينبغي التزوج منها، إما أن تكون حاملا، وإما أن تكون حائلًا، وفي هذه الحال تكون مرضعًا فتتردد بين الإرضاع والحمل، ولا فرصة لأن تكون لها عدة من أيام أخر؛ ولذلك تدخل فيمن لَا يطيقون، ويكون عليهن فدية، وروي عن ابن عباس: لا فدية، وتكون كالمريض بمرض مزمن إذا كان لَا يجد ما يفدي به، يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر.
وبعد أن بين سبحانه وتعالى فرضية الصوم أياما معدودات ذكر الله تعالى تلك الأيام وعينها بشهر رمضان، فقال تعالى:(1/555)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
(شَهْر رَمَضَانَ الَّذي أُنزلَ فيه الْقرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ منَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).
أي هذه الأيام هي شهر رمضان الذي كان أول نزول القرآن فيه، فقد أنزله تعالى في ليلة القدر وهي في العشر الأواخر منه، كما قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5).(1/555)
وإن اختصاص شهر رمضان بالصوم؛ لأنه نزل فيه القرآن فيه تذكير بمبدأ الوحي، واحتفال بأكبر خير نزل في الأرض وهو بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه نور الأرض وإشراقها، والاحتفال به احتفال بنعمة الهداية، ونعمة الخروج من الظلمات إلى النور، ونعمة إرسال نبي الرحمة، فقد قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ).
ولقد ذكر فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير ما خلاصته: إنه في شهر رمضان نزلت هداية الله تعالى من السماء إلى الأرض فناسب ذلك أن يفرض فيه الصوم؛ لأن الصوم فبما فيه من إمساك عن شهوتي البطن والفرج، وفيه علو من الأرض إلى السماء بالتجرد الروحي الذي كان في الصوم، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشهر الذي هو احتفال بذكرى البعث المحمدي: " إن الله تبارك وتعالى فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه احتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " (1).
وقد وصف الله تعالى القرآن بأنه هدى للناس، فقال: (هُدًى لِّلنَّاسِ) أي حال كونه هاديا للناس؛ لأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، وهو معجزة الله تعالى الكبرى وهو بهذا هداية وتوجيه إلى مقام الرسالة المحمدية، وهو مع ذلك فيه آياته البينات؛ ولذا قال تعالى: (وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى) أي أن آياته بينات واضحة من الهدى وهو الشريعة التي جاء بها، والفرقان أي الأمر الفارق بين الحق والباطل، والظلم والعدل والشورى والاستبداد، والإصلاح والإفساد، وعمران الأرض وخرابها.
هذا شهر رمضان شهر البركات، ولقد بينه سبحانه وتعالى، والابتداء يرمز إلى الانتهاء فقال تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ منْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وقد تكلمنا في أعذار المرض والسفر والعجز في الآيات السابقة.
________
(1) رواه - عن عبد الرحمن بن عوف - النسائي: الصيام (2180) واللفظ له، وأحمد في مسند العشرة (1572)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1318).(1/556)
وقال - الله تعالى في ابتدائه (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ)، ويريد سبحانه بالشهر هنا هلال رمضان، وشهده أي حضره ورآه، وعبر عن الهلال بالشهر؛ لأن العرب كانت ترى الهلال ويراد الشهر عرفا عندهم، وهذا في الأصل مجاز، والمجاز إذا اشتهر صار عرفا وإطلاق الشهر وإرادة الهلال من قبيل إطلاق المسبب وإرادة السبب، وذلك من علاقات المجاز المرسل؛ لأن الهلال أمارة ابتداء الشهر فكان جاريا مجرى السبب، ولأن الاعتبار بالرؤية، والرؤية لَا تكون إلا لمحسوس والشهر عدد من الأيام يعد بالحساب، وذلك معنى نعيش فيه ولا نراه، والهلال هو الذي يرى فكان التعبير بالشهر عنه تعبير بالمدلول على الدال الذي يرى ويعلن الابتداء.
وإذا كان الهلال دليل الابتداء فهو الذي نيط به الوجود، فيكون دليلا على الانتهاء، برؤية هلال الشهر فهو دليل الابتداء والانتهاء معا، ولقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فقال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن كم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " (1) وهذا النص يدل على أمرين:
أولهما: أن الصوم يجب عند رؤية الهلال، في ابتداء الشهر، والفطر عند رؤية هلال شوال أي الشهر الثاني، وإنه إن غم أولا أو آخرا فتكمل العدة ثلاثين يوما، فإن غم الهلال أولاً أكمل عدة شعبان ثلاثين وذلك بعد ارتقاب الهلال في التاسع والعشرين من شعبان، فتكمل ثلاثين إن غم، وكذلك هلال شوال إذا غم تكمل عدة رمضان.
الأمر الثاني: الحديث يدل على أن الهلال واحد، وذلك أنه القمر في أول منازله، والقمر واحد، في كل الشهور وفي كل شهر يتغير من هلال حتى يصير بدرا، ثم يتغير من بعد ذلك حتى يكون المحاق، ويرتقب من بعد ذلك الهلال، فالأخير، والأول واحد.
________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: الصيام (1776)، ومسلم (1810) بنحوه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وبلفظ المصنف - رحمه الله - أخرجه النسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: كتاب الصيام - ذكر الاختلاف على عمرو بن دينار (2095).(1/557)
ويثار في هذا الموضوع أمران:
أولهما: إذا غم الهلال أيمكن تعرف الهلال أولد أم لم يولد بالحساب، وقد كان معروفا بتتبع أدوار القمر في منازله من حاله هلالا، حتى يصير بدرا، ثم يضؤل من بعد حتى يختفي في السرار، أم نقف عند حد الغمة فتكون ثلاثين كما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلامه في المنزلة الأولى ولا معقب لقوله؟ رأى الجمهور الأكبر من العلماء الوقوف عند النص، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمي عليكم فأكلملوا العدد " (1) وإن الشريعة نزلت ابتداء لقوم أميين لا يعرفون حساب النجوم، فيكون على قدر ما يحسون ويرون، وجاء الحديث بذلك.
وقد ذهب مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير وهو من كبار التابعين وابن قتيبة فقالا: يعول على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان، حتى إنه لو كان صحوا لرؤي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإن أغمي عليكم فاقدروا له " (1) أي استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام الشهر بحسابه " (2).
وقد قال بذلك بعض الشافعية، وروى ابن نافع عن مالك أنه أجاز ابتداء الشهر بالحساب، وانتهاءه بالحساب (3).
وإن الأخذ بالحساب الدقيق قد يكون ممكنا، وخصوصا أن الإرصاد يكون رؤيةً بآلة فهل يؤخذ بها؛ يقول الله تعالى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40).
________
(1) رواه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه: كتاب الصيام - صوموا لرؤيته (1810) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. راجع - متفضلا - التخريج السابق والذي قبله.
(2) هذه رواية مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: كتاب الصيام (1995، 1996).
(3) ذكر المصنف - رحمه الله - أنه أفاد هذا المبحث من (تفسير القرطبي) وهو كذلك من بداية قوله: وقد ذهب مطرف بن الشخير [تفسير سورة البقرة: 185].(1/558)
وإن التقدير بالمنازل كان ممكنا عند العرب والأعراب، حتى إنهم كانوا يعرفون اليوم من الشهر بمعرفة منزلة الهلال ليعرفوا اليوم الأول من رؤيته في ليلة، واليوم الثاني بما كان من تغيير، وهكذا حتى يصير بدرا، ثم اليوم السادس عشر من التغير إلى آخره. ونقول في هذه القضية: بعد أن كانت الأرصاد، وهي تخترق الغمة فيرى الهلال من ورائها، يجوز الاعتماد عليها عند الغمة، وتكون هذه رؤية، ويكون الصوم لرؤيته والإفطار لرؤيته، ويكون العمل بالحديث قائما. ويكون الحديث بظاهره منطبقا على من ليس عندهم أرصاد، فإنه يؤخذ بالنظر المجرد إذا لَا سبيل إلى الرؤية إلا بالنظر الطبيعي وعلى ذلك قرر مجمع العلماء في القاهرة، وأقره المؤتمر الإسلامي العام أنه يؤخذ بالحساب العلمي إذ غمت الشمس ولم تمكن الرؤية.
الأمر الثاني الذي يثار وقد أثير في القديم وهو أن مطالع القمر مختلفة في البلاد شرقا وغربا، فقد يرى الهلال في المشرق، قبل أن يرى في المغرب، فهل يصوم كل على مطلعه، أم الأساس هو أول رؤية، فيصوم أهل الغرب مثلا على رؤية أهل الشرق الهلال على أساس أول رؤية، ولا اعتداد باختلاف المطالع، لأن الأمة الإسلامية أمة واحدة، ولا يفرق بينها اختلاف الأقاليم ليكون ابتداء الصوم واحدا، وانتهاؤه واحدا فلا يصوم إقليم ويفطر آخر في يوم واحد؟.
قال الشافعي الرأي الأول، وقال الجمهور الرأي الثاني، أي أن الاعتداد بأول رؤية، وروي عن ابن عباس، وقد كان بمكة فرأى أهل الشام الهلال ليلة الجمعة فصاموا يومها، ورأى أهل الحجاز الهلال ليلة السبت فلم يصوموا السبت، وقال: هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
________
(1) عَنْ كُرَيْبٍ، أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ، بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ، فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، وَاسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ، وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: " لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ، أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَوَ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ: لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
[أخرجه مسلم: كتاب الصيام - بيان أن لكل بلدَ رؤيتهم (1819)].(1/559)
ْففهم الشافعي من هذا أن اختلاف المطالع يعتبر، بحيث لَا يكلف أهل مطلع، إلا على مقتضى مطلعهم، وإني أرى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن العبرة بمطلع مكة؛ أولا: لأنه كان بمكة ولم يعتبر برؤية الشام وثانيا: لأن مكة قبلة المسلمين يتوحدون عندها، فيكونون كالدائرة حولها، وثالثا: أن هلال ذي الحجة لا يعد إلا بهلالها، ويوم عرفة وأيام التشريق وغيرها لَا يعتد إلا بها، ولأنها مجتمع الوحدة في الصلاة والحج فتكون مجتمع الوحدة الإسلامية في الصوم.
هذا رأى رأيناه وعرضناه والله أعلم بالصواب.
وإن شرعية صيام رمضان مع الرخص التي تسوغ الإفطار هو من تيسير أداء الفريضة؛ ذلك أن من شأن هذه الشريعة أنها إذا كلفت تكليفا فيه مشقة فتحت باب الترخيص ليسهل الأداء وليداوم عليه ويستمر من غير تململ، ولا تحمل المكلفين على أقصى المشقات ولذا قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكمُ الْيسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعسْرَ)، وهذا النص الكريم فيه إشارة إلى تعليل هذه الرخص، وفيه إشارة إلى الوصف العام لشرع الله تعالى، الذي دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يسروا ولا تعسروا وما خير النبي بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن معصية، وقال تعالى: (وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. . .)، ولمقام التعليل في قوله تعالى: (يُرِيد اللَّهُ بكمُ الْيسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، عطف عليه تعليل آخر، وهو قوله: (وَلِتكْمِلُوا الْعِدَّةً) أي لتتموا عدة الشهر في يسر من غير إعنات، وهنا فعل محذوف تقديره، شرع لكم ذاك التيسير لكيلا يكون حرج وضيق في صومكم، ولتكلموا العدة أي لتستطيعوا أداء العدد كاملا غير منقوص بالأداء لمن لَا عذر له، وبالأداء مع القضاء من أيام أخر لمن كان ذا رخصة تجيز الفطر وتوجب القضاء، فتكون عدة الشهر قد كملت، أداء وقضاء أوأداء فقط لمن له عذر.
(وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ)، ولتتجهوا إلى الله مكبرين ضارعين إليه جل جلاله على هدايته لكم بأن وفقكم للإيمان بدل الكفر، وبأن مكنكم من أداء الواجب كاملا.(1/560)
وقالوا إن ذلك إيذان بالعيد، وهو تكبير الله إذ إن التكبير يكون للفرح بالعيد، وللصائم فرحتان يوم فطره ويوم لقاء ربه (1) وفرحته يوم فطره هي فرحته بأداء الواجب وسروره بالطاعة وفرحته يوم لقاء ربه هي فرحته بالنعيم المقيم، وبالرضوان من الله تعالى وهو لدى الأبرار أكبر من النعيم كما قال تعالى: (وَرِضْوَانٌ منَ اللَّهِ أَكبَر. . .).
وإن هذه النعم نعمة الإيمان، ونعمة التيسير، ونعمة أداء الواجب كاملا ونعمة الفرحة به يوم الفطر، وتكبيره سبحانه وتعالى يقتضي الشكر، ولذا قال تعالى: (وَلَعَلَّكمْ تَشْكُرُونَ) ولعل للرجاء وهو من الناس، ومن ترتيب الأمور، لا من الله تعالى أي لترجوا شكرا لله تعالى على هذه النعم المتوالية، والله غفور رحيم.
* * *
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
________
(1) متفق عليه من رواية أبي هريرة. وقد سبق قريبا.(2/561)
إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
* * *
إن شهر رمضان شهر التجرد الروحي، والاتجاه إلى الله تعالى، فقد كتب الله تعالى علينا صيامه، وسن - صلى الله عليه وسلم - قيامه، وسن - صلى الله عليه وسلم - الاعتكاف في المساجد، وإن المؤمن إذا تجرد ذلك التجرد كان الله تعالى ملء قلبه وناجى ربه سرا وعلانية، وذكره خفية وجهرة، ودعا ربه ضارعا إليه، وقد وعده الله تعالى بإجابة دعائه، وأنه قريب منه وأنه مستجيب له لأنه استجاب له؛ ولذا قال تعالى:(2/562)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) وإن العبد إذا أحس بعظمة الله تعالى، وامتلأ قلبه بخشيته أحس بأنه عونه، وأنه سنده، وإن أولئك الذين يشكرون لله تعالى نعمته في شرعه الرخص بجوار العزائم يتجهون إلى الله تعالى، وكأنهم يسألون قربه ليصل دعاؤهم فقامت حالهم مقام سؤالهم، أو هم سألوا فعلا؛ ولذا قال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) جعل سبحانه الشرطية تتعدى بإذا - الدالة على تحقق السؤال وقد كان بحالهم الخاشعة الضارعة الطالبة، وقال سبحانه عن السائلين بحال نفوسهم: " عبادي أي " الذين يشعرون بحق العبودية ويرتضونها طيبة نفوسهم راضية خائفة قلوبهم فإذا سألوك فإني قريب منهم قرب نفوسهم بإِحساسهم بمقام العبودية وأنا قريب منهم بالربوبية ثم قال سبحانه عن نتيجة هذا القرب: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) أي أن هذا القرب ليس قرب مكان ولكن قرب إجابة ورضا ورحمة وكأنه سبحانه وتعالى يقول: ادعوني أستجب لكم كما قال في آية أخرى: (وَقَالَ رَبُكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، وهذا يدل على أن الدعاء عبادة إذ قال عن الذين لَا يدعون: (إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي): فالدعاء عبادة وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الدعاء مخ(2/562)
العبادة " (1)، وإن الله تعالى يحب دعاء عبيده وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يحب المُلحين في الدعاء " (2)، روي عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من لم يدع الله تعالي غضب عليه " (3).
فالدعاء على هذا عبادة واستغاثة واتجاه إلى الله تعالى كما جاء في المعنى اللغوي فقد جاء في القاموس وشرحه: الدعاء الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير، والابتهال إليه بالعبادة والاستعانة، وبالثناء عليه تعالت ذاته العلية عن الشبيه والمثيل.
وإذا كان ذلك شأن الدعاء ومقامه، فقد قرب الله الداعين إليه وقال تعالى: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
ْالفاء للإفصاح عن شرط مقدر مضمونه إذا كنت قريبا منهم أجيب دعوتهم إذا دعوني وأقبل عبادتهم - إذ كان دعاؤهم عبادة واستغاثة وثناء عليه سبحانه - إذا كنت كذلك بالنسبة لهم فليستجيبوا لي فيما أدعوهم إليه من إقامة للعدل ودفع للظلم، وإصلاح في الأرض، ومنع للفساد، وإصلاح ذات بينهم، ومن إفراده بالعبادة والالتجاء إليه. والاستجابة الإجابة بعد معالجة النفس وحملها على الإجابة أو المبالغة في الإجابة بالطاعة والإحسان فيها وأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فليشعر أنه في رقابة الله تعالى.
قال تعالى: (وَلْيُؤْمِنوا بِي) أي حق الإيمان بأن يؤمنوا بأن الله واحد أحد لا شريك له، وأن يؤمنوا بقدرته التي أبدعت وخلقت كل شيء فقدرته تقديرا، وأنه المستعان في الشدائد والملجا في المكاره، وليستنوا بسنته في كل أحوالهم، ولقد قال تغالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2).
________
(1) سبق تخريجه من رواية الترمذي عن أنس بن مالكَ رضي الله عنه -.
(2) أخرجه الطبراني في الدعاء بسند رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية عن عائشة - رضي الله عنها - مرفوعا [أفدته من فتح الباري - أول كتاب الدعوات].
(3) رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده بـ 2 ص 443، 477، بلفظ (من لم يدع الله غضب الله عليه).(2/563)
ثم بين سبحانه وتعالى أن طاعة الله تعالى في كل ما يأمر به، وينهى عنه، والإيمان به حق الإيمان هو سبيل الرشاد في هذه الدنيا، وإدراك حقيقتها وفهمها والإصلاح فيها، ولذلك قال تعالى: (لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ)، أي يرجون بالإيمان الصادق والالتجاء إليه سبحانه وحده أن يرشدوا بأن يسيروا في طريق الرشاد الذي لا عوج فيه فيصلحون ويصلح الناس بهم، ويسلكون جميعا طريق الهداية والله يهدي من يشاء.
كانت آية الدعاء وقرب الله تعالى لمن يدعوه واستجابته له، كان هذا إشارة إلى صفاء النفس الذي يكون للصائم إذا قام بحق الصيام، وقرب من الله تعالى، ولقد كان ابن عمر - وغيره من الصحابة المقربين - كثير الدعاء في رمضان، وسماه بعض العباد شهر الاستجابة.
وبعد ذلك أخذ القرآن الكريم يبين بعض أحكام الصيام يشرح وقته، وإزالة بعض الأوهام، فقال تعالى:(2/564)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نسَائكُمْ هُنَّ لبَاسٌ لكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لهُنَّ ... (187) فهم بعض الناس أن اتصال الرجل بأهله في ليل رمضان كان ممنوعا ثم أحل، وفهم ذلك من قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)، فالإحلال لا يكون إلا في موضع كان محرما، وقد نسخ التحريم، وإن ذلك ظن الذين يفْرطون في ذكر الناسخ والمنسوخ في القرآن، وعندي أن " أحل " تدل على أن الرفث إلى النساء حلال قد أحله الله تعالى، وذكر بالبناء للمجهول للدلالة على أنه حلال من قبل ومن بعد.
وإنه قد جاءت الروايات عن الصحابة بأن بعضهم حسب أنه بمجرد نوم أحدهم ينتهي وقت الفطر، ويبتدئ وقت الصوم (1)، ويظن من يأتي أمرأته بعد أن
________
(1) عَنِ البَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الإِفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلاَ يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لاَ وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ =(2/564)
ينام أنه قد انتهك حرمة الصوم، فرد الله تعالى ذلك الزعم بقوله تعالت حكمته: (أُحِلَّ لَكمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ)، والرفث ذكر ما يكون بين الرجل والمرأة من جماع ومقدماته ونحو ذلك من القول، وهو هنا كناية عن الجماع كما يكنَّى بلفظ لامستم النساء عن الجماع، وكذلك بلفظ لمستم.
وقول الله تعالى (إِلَى نِسَائِكُمْ) لتضمُّن الرفث معنى الإفضاء إلى النساء بجماعهن كما قال تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21).
وقد بين الله تعالى صلة الرجل بأمرأته بأدق عبارة وأرق قول، فقال تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لكُمْ وَأَنتمْ لِبَاسٌ لهُنَّ) اللباس ما يستر البدن للرجل والمرأة، فالعلاقة بين الزوجين تجعل الزوجة كأنها لباس لزوجها تستره، وتمس جسمه وتكون منه بمنزلة الشعار والدثار (1)، وهو لها كأنه لباس يسترها، ويكون منها بمنزلة الشعار والدثار يلامس جسمها جسمه، فتكون المشاعر التي تثير وتهيج.
وإن هذا اللفظ يدل على الحاجة الحسية من الرجل لامرأته، ومن المرأة لزوجها، والحاجة النفسية والرباط الروحي الذي يربط بينهم بالمودة والرحمة، كما قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً. . .).
وقد بين الله تعالى أنهم كانوا يكلفون أنفسهم ما لم يكلفوا، فكانوا يمتنعون عن مباشرة النساء ظانين أن ذلك غير حلال لهم فقال تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ
_________
= هَذِهِ الآيَةُ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] [رواه البخاري: كتاب الصوم (1782)].
(1) الشِّعار: ما ولي شَعَرَ جَسَد الإِنسان دون ما سواه. والدثارُ: الثوب الذي يُسْتَدْفَأ به من فوق الشعار. وفي المثل: هم الشعارُ دون الدثارِ؛ يصفهم بالمودّة والقرب. لسان العرب.(2/565)
تَخْتَانُوْنَ أَنفُسَكُمْ) " أى تخونون باستباحة ما أحل الله لكم إذ تضطرون بحكم العلاقة الشرعية والإنسانية أن يكون منكم لأزواجكم ما يظنونه ممنوعا، وهو غير ممنوع فتاب عليكم من هذا الظن وبين لكم أنه حلال قال تعالى آمرا بإباحة المباشرة، وحدا لميقات الصوم (فَالآنَ بَاشِرُوهنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكمْ).
المباشرة كناية عن الجماع، ككناية الملامسة، والرفث إليهن، ولكنها أقرب إلى الصراحة من الملامسة والمس. وابتغاء ما كتب الله تعالى هو ابتغاء الولد حفظا للنسل، وعمارة للكون بالإنسان الذي هو الخليفة في هذه الأرض، فالنكاح ما شرعه الله تعالى إلا لابتغاء ذلك لَا لمجرد الشهوة، وإن الله تعالى قد أودع غرائز الإنسان ما ينوط به تكليفه فأودع فيه الشهوة ليسهل وجود النسل وتكاثره، وإن الأسرة تكليف شديد، ويتعلق به تبعات كثيرة من تربية الأولاد، والإنفاق وحضانتهم، وحمله كرها ووضعه كرها، وحمله وهنًا على وهن، وغير ذلك من المشاق الظاهرة ولولا الشهوة الدافعة ما تزوج ولا تزوجت، ولكن الله تعالى لحكمته، ولما كتبه من البقاء للإنسان ركب فيه هذه الغريزة الجنسية لتدفعه إلى الزواج راغبا ولطلب الولد محبا. والذين يدعون إلى الحد من النسل وأن تكون الشهوة للشهوة لَا لطلب الولد، محاربون للفطرة، وينحدرون إلى درك دون الإنسان، بل دون الحيوان.
وذكر نعمة الولد وقال: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)، أي ما قدر الله تعالى لكم من ولد وهذا إشارة إلى أن الولد، رزق كتبه الله تعالى لكم، فأكرموه؛ لأنه عطاء الله واحفظوه لأنه أمانته التي كتبها لكم وائتمنكم عليها.
وحدَّ الله تعالى ميقات الإفطار والصوم، فقال تعالت كلماته: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَى يَتَبَيَنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).(2/566)
والخيط الأبيض هو خيط الفجر يشق السماء بنور كالخط ثم ينتشر ذلك الخط شيئا فشيئا حتى يختفي الظلام ويكون النهار. . والخيط الأسود ما يكون حول ذلك الخط الأبيض من ظلام وقوله من الفجر من هنا بيانية أي أن الخطين يبدوان في الفجر وهو ابتداء النهار وهو ابتداء الصوم؛ ولذا قال تعالى: (ثُمَّ أَتِمُوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) أي إلى غروب الشمس فالخط الأبيض في سواد الليل هو نهاية الأكل والشرب وكل المباحات في الإفطار وابتداء المنع بالصيام حتى يكون الغروب، وبذلك حد الوقت للإفطار وللصوم معا.
وإنه في العشرة الأخيرة من رمضان يستحب الاعتكاف في المسجد بأن يبقى فيه متعبدا متنسكا لَا يخرج منه إلا لحاجة ضرورية ويعود فور زوالها ويمنع من النساء؛ ولذا قال تعالى: (ولا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).
وبهذا أشار سبحانه وتعالى إلى استحسان الاعتكاف وهو سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه بهذا البيان الحكيم قد حد الله تعالى ما يحل وما لَا يحل ووقت الحل ووقت الصوم، وحد ميعاد الصوم وميعاد الفطر؛ ولذلك قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تقْرَبوهَا) فالتزموها ولا تقاربوا الابتداء ولا الانتهاء، أو لَا تقربوها بمعنى لَا تعتدوا عليها فتمتنعوا حيث لَا يجوز المنع كالامتناع عن الأكل والشرب، ثم قال تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلناسِ لَعَلَّهُمْ يتَّقُونَ) أي كذلك البيان الذي بين فيه الصوم ورخصه وعزائمه وحدوده وما يجوز فيه وما لَا يجوز ولا بيان كهذا البيان، يبين الله تعالى الأحكام والتكليفات رجاء أن يتقوا الله تعالى ويجعلوا وقاية بينهم وبين غضبه سبحانه وتعالى وينالون رضوانه.
فقوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يتَّقُونَ) لعل فيه للرجاء، والرجاء من العباد لَا من الله تعالى؛ لأن الرجاء معنى لَا يليق بذات الله العلية الذي جل علمه وتنزهت ذاته.
وهذا يفيد أن كل التكليفات الشرعية وخصوصا العبادات لتربية النفس المؤمنة على التقوى، وإيداع المهابة من الله تعالى في قلوب العباد فلا يجترئون فينتهكوا حرمات الشهر الذي عظمه الله تعالى، وجعله مباركا، وأنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
* * *(2/567)
تطهير النفس من المال الخبيث(2/568)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
* * *
بعد أن بين سبحانه وتعالى الصوم وما فيه من تهذيب النفس - بين سبحانه وتعالى أن من التهذيب النفسي أو بث التقوى في روح الجماعة الإسلامية نزاهة المال عن الخبث كنزاهة النفس؛ ولذا عطف على الأوامر والنواهي الخاصة بالصوم النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، فقال تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بالْبَاطل وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ).
الواو هنا عاطفة على ما سبق من إباحة ونهى، في قوله، (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ) وما تبع ذلك من صيغة أمر تبيح الأكل والشرب، ونهى عن المباشرة، وجاء النهي بعد ذلك عن أكل مال الناس بالباطل، لأنه من جنس الأوامر والنواهي السابقة، فإذا كانت لنزاهة النفس وطهارتها، فالنهي عن أكل مال الناس بالباطل، لنزاهة النفس والمجتمع وطهارته من أسباب النزاع، فالنواهي تتدرج في الخصوص الإسلامية في هذه الآيات من إبعاد نفوس الآحاد عن الإرجاس في العبادات، إلى النهي للجماعة كلها عما يفنى الجماعات من أخذ المال بالباطل؛ لأنه قتل لها كما قال تعالى في آية أخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُمِ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ منكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بكُمْ رَحيمًا).
فأخذ أموال الناس بالباطل، وشيوع ذلك، واستمراؤه يقتل الأمة؛ لأنه يشيع فيها الفساد، ضياع الحقوق، وألا يحترم العدل، ويسود الظلم، وبذلك تفنى الأمم، وتذهب قوتها أمام من يتربص بها الدوائر.(2/568)
وقوله: (وَلا تَاكلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) أمر عام للجماعة الإسلامية، بأن يكون التعامل المالي بينها على أساس من احترام كل حق الآخرين، وألا يأخذ مالاً إلا بحقه، فلا يأخذه بربا أو غش أو تدليس أو بميسر، أيا كان شكله، ولا بسرقة أو غصب.
وعبر سبحانه وتعالى عن الأخذ بالأكل؛ لأن أظهر مظاهر الانتفاع بالمال الأكل حلالا أو حراما وهو أشد ما يطلب المال لأجله، ولأن الأكل إن لم يكن مصدره حلالا كان كالنار وتدخل بطن الآكل.
وقال تعالى: (أَمْوَالَكم) للإشارة إلى أن مال الآحاد مال الأمة، إن نما قويت، وإن ضعف ضعفت، وإن كان حلالا كان طيبا، كان عِزا، والإشارة إلى وجوب التعاون بين الناس في جعله لخير الجماعة، وتنميته لعمومها، وللناس كافة مع بقاء كل ملك كان على ملكيته لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه " (1).
وقوله تعالى: " بينكم "، أي متبادلا بينكم منتقلا من حيز إلى حيز بالحق، وفى ذلك إشارة إلى أنه لَا يصح أن ينقل بينكم إلا بالحق، فلا يصح أن ينتقل من حيز إلى حيز إلا بالحق ولا يجوز أن ينتقل بالباطل، سواء أكان برضا كالربا، والبيوع الربوية وكالميسر، والعقود التي تشتمل عليه، وغير ذلك من العقود التي جاءت على غير ما أمر به الشرع، أم كانت بغير رضا صحيح كامل، كالغصب والسرقة والغش والتدليس والتغرير، فإن أخذ المال بهذا الشكل لَا يجوز مطلقا؛ لأنه غير مبني على علم صحيح فلا يكون الرضا كاملا.
وقال تعالى بعد ذلك: (وَتدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ) هذا معطوف على النهي، فالنهي منصب على أكل مال المؤمنين بينهم، وعن
________
(1) رواه أحمد في مسنده عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه، في حديث خطبة الوداع الطويل، وأورده أبو يعلى بلفظ المؤلف دون زيادات - عنه أيضا - في باب مسند أبي سعيد الخدري، ج 3 ص 140) 1570)، والدارقطني عنه ج 1 ص 21 (2843)، كما أورده الدارقطني من رواية أنس - رضي الله عنه (2842).(2/569)
الإدلاء إلى الحكام، وقد وردت قراءة أُبيّ بزيادة " لا "، وهي أقرب إلى أن تكون تفسيرا، ومهما يكن فإن النهي ثابت عن الإدلاء، كالنهي عن الأكل؛ لأنه ينتهي إلى أكل للمال بالباطل، فالآية تنهى عن الأكل الظالم سواء أكان في ضمن التعامل الآثم بينكم، أم كان بالاستعانة بالحكام، بتضليل القضاء، أو بتحويل الحاكم عن الإنصاف بسحت من المال يقدم.
والإدلاء في أصله إلقاء الدلو في الماء ليحمل الماء إليه من البئر، أو من حفرة فيها ماء، ثم أطلق على إرسال أي شيء يأتي بما يفيد، وأطلق على الذي يحتج على غيره، أدلى بحجته لأنه أرسلها، ليأخذ الحق من غيره، ويقال أدلى بنسب إنما اتصل بالنسبة.
ومعنى أدلى إلى الحكام بالمال، أي أنهم يقدمونها للحكام الآثمين، من نسقه الذين يجلسون في مناصب القضاء، أو الحكام الذين يملكون العطاء والمنع، أو يملكون القسمة بين الناس، ومعنى الإدلاء بالمال على هذا تقديم المال لهؤلاء ليعدلوا بهم عن قسمة الحق إلى القسمة الضيزى التي تمنع الحق، وتقرر الباطل. . والرشوة لها صور شتى، فمرة تكون بإِعطاء المال لتحول من هو في منصب القضاء عن العدل، أو بالإهداء، أو بالضيافة، أو بأداء الخدمات حلالها وحرامها، أو بمقارضة الظلم، كأن يظلم في قضية لمجلس في منصب القاضي، ليظلم في قضيته وكل ذلك استخدام للمال، أو ما يقوم مقامه من أداء أمور تقوم بمال أو لَا تقوم بمال وفيها نفع واضح.
هذا تفسيو قوله تعالى: (وَتُدلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لتَأكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإِثْم) أي أكلا متلبسا بالإثم، وأنتم تعلمون أنه إثم، لَا حق لكم في أكله، وهذا تَاكيد لمعنى الإثم والظلم واكل أموال الناس بالباطل، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله الراشي والمرتشي " (1).
________
(1) " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي، رواه الترمذي. الأحكام - ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم (1257) عن عبد الله بن عمرو، وقال: حديث حسن صحيح، كما رواه أبو داود، وابن ماجه، وأخرجه أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص (6246).(2/570)
وهناك تخريج آخر لقوله تعالى: (وَتُدلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لتَأكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإِثْم) بأن المراد بالإدلاء بها الخصومة بشأنها، والترافع في أمرها، وأنت تعلم أنك آخذها بغير حق، ولكن لَا حجة لخصمك على أن ما في يدك سلطانك عليه بالباطل، ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية: (وَتُدلوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) في الرجل يكون عنده مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال ويجاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه.
فهؤلاء رشوا من هو في منصب القضاء، ولكن يضله ليأكل مقدارا من أموال الناس بالإثم، فكلمة فريق معناها مقدار قطعه من مال الناس، وهو يعلم أنه إثم.
ومن هؤلاء من يلحن بالحجة لضل الحاكم، وقد روت أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ألا إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار " (1).
هذان تخريجان لمعنى النص الكريم (وَتُدلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) وإن الإدلاء لتحويل الحكام عن الحكم يكون بسحت من المال يقدم لحكام السوء، فيحولهم عن الحق إلى الباطل، وإما بحجة براقة، أو نقصان في دليل الخصم يتحولون به مخطئين من الحق إلى الباطل، ويصح الجمع بين التخريجين إذ لَا معارضة بينهما. والحكام هم المنفذون للأحكام.
* * *
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: الأحكام - موعظة الإمام للخصوم (6634)، ومسلم: الأقضية: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (3231).(2/571)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
(الأهلَّة)
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الشهر وهو الهلال هو حد ابتداء شهر رمضان، وحد انتهائه، ففي أوله برؤية هلاله، وفي آخره برؤية هلاله، فناسب بعد تمام ما أراد الله تعالى بيانه من الصوم أن أشار سبحانه إلى ما كان يدور على الألسنة خاصا بالأهلة بجوار ما ابتدعه الجاهليون من دخول البيوت من ظهورها في موسم الحج، فقال تعالت كلماته: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ).
كان الناس من اليهود والمشركين، وبعض المسلمين يسألون عن أمور ليست من الدين وقد تكون عن الكون، وما يجري فيه أمر الوجود، وما كانت الشريعة الإلهية لذلك، إنما هي لبيان ما يعبد الله تعالى به، وما يصلح به العباد في معاشهم، فليس منها لماذا كانت الشمس مضيئة كحجمها، والقمر نور يتغير حجمه من هلال كالخيط، ثم يزيد، حتى يصير بدرا، ثم يأخذ مرة ثانية في الضيق حتى يكون المحاق.
كانوا يسألون هذه الأسئلة، وهي في موضوعها معقولة من حيث علم الخلق والتكوين والبحث في أسرار الوجود، ولكنها ليست من أحكام الدين، وما يجب أن يبينه ويعلم الناس به، بل أمره إليهم يتعلمونه ويتعرفونه ويذاكرونه على أمور دنياهم، لَا من أمور دينهم الذي به صلاح معاشهم ومعادهم.(2/572)
ولذلك لما سألوا هذه الأسئلة التي لَا تتعلق بعلم الدين صرف الله تعالى نظرهم، وأخذهم إلى الناحية الدينية التي يجب أن يعرفوها ويدركوها، فقال تعالى: (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) وهذا لفت لهم إلى أن الواجب أن يسألوا عن فوائدها في الدين والمعاملات، وهذا يقال عنه في علوم البلاغة الأسلوب الحكيم، وذلك هو أن يكون السؤال في غير موضعه فيجيب المسئول عن أمر آخر هو الذي ينبغي أن يكون السؤال فيه، ومن ذلك في القرآن الكريم: (يَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ. . .)، فيجيبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه: (قُلْ مَا أَنفقتم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ. . .)، إلى أخر الآية الكريمة، وكذلك هنا سألوا النبي عن الأهلة عن كونها، وبُدُوِّها للناظر صغيرة ثم تكبر فأمر الله تعالى نبيه بأن يقول: (هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ).
مواقيت للناس في معاملاتهم، وفي بيوعهم وفي ديونهم المؤجلة وإجاراتهم، ومزارعاتهم، ومساقاتهم وغير ذلك مما يجري، وفيها تتبين مواقيت الحج، (الْحَجُّ أَشْهُرٌ معْلُومَاتٌ. . .)، وبها تعين أوقات المناسك، ويضاف إلى ذلك مواقيت الصيام، إلى آخر ما هو معلوم في الدين وأعراف الناس.
وجمع في الآية الأهلة وهي هلال واحد في كل الأوقات والشهور، ولكن لتغير حاله من ضمور فاتساع حتى يصير بدرًا، ثم يصير كالعرجون القديم عدت هذه الصور أهلة، وإن كانت الحقيقة واحدة، والتغير في المنظر بسبب توسط الأرض بين الشمس والقمر في دورانها حولها.
والقمر حساب يدل العرب في صفو الصحراء على أيام الشهر، ولقد قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ. . .).
ولقد بين سبحانه وتعالى أن الأمور يجب أن توضع في مواضعها، وأن يعلم أن البر هو التقوى، وليس المظاهر والأشكال، كما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله(2/573)
لا ينظْر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكمٍ " (1)؛ ولذا قال تعالى (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).
قيل إن بعض العرب كان إذا أحرم، لَا يدخل بيته من بابه وإنما يدخل من ظهره، قال ابن عباس في رواية عنه كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج، فإن كان من أهل المدر (أي البيوت المبنية بالآجر) نقب في ظهر بيته نقبا،، فمنه يدخل ومنه يخرج، أو يضع سلما فيصعد منه ويحدر عليه، وإن كان من أهل الوبر (دار أهل الخيام) يدخل من خلف الخيمة.
وقالوا إن الآية نزلت لإبطال هذه العادة التي كانت بقية من بقايا الجاهلية، وبين أن هذا ليس من الإسلام؛ لأن هذه أمور شكلية لم يأمر بها الله تعالى، وكل ما لم يأمر به الله تعالى ويتخذ على أنه عبادة يكون بدعة محرمة وخصوصا إن كان له صلة بالعبادة.
هذا هو التخريج الذي يتفق مع بعض المأثورات وإن كانت لم تثبت صحتها على وجه الجزم واليقين.
وهناك تخريج آخر، وهو أن هذا الكلام تصوير للذين يسألون عن الأهلة، ولا يعنون بصلتها الشرعية من حيث إنها مواقيت للناس والحج، من حيث إنهم مثل الذين ينظرون إلى أمور من ظواهر الشرع، فلا يأتون الأمور من بابها، وهو ما يتعلق بالقلب فهم لم يدخلوا الأمور من بابها بتساؤلهم عن الأهلة، وأخذوها من غير بابها، وقد قال في ذلك الراغب في تفسيره قال الله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) بأن تطلبوا الأمر من غير وجهه، وذلك أنه يقال إن فلان أتى الأمر من غير وجهه، وجعل ذلك مثلا بسؤالهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هو ليس من العلم المختص بالنبوءات وإن ذلك عدول عن النهج، وذلك أن العلوم ضربان: دنيوي يتعلق بأمر المعاش لمعرفة الصنائع، ومعرفة حركات النجوم ومعرفة المعادن والنبات،
________
(1) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِن الله لَا يَنظُرُ إِلَى صُوَرِكم وَأمْوَالكُمْ، وَلكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعمَالِكُم ". [رواه مسلم: كتاب البَر والصلة (4651)].(2/574)
وطبائع الحيوانات، وقد جعل سبيلا إلى معرفته على غير لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
الضرب الثاني: شريعة وهو البر ولا سبيل لأخذه إلا من جهته، وهو أحكام التقوى ومؤدى ذلك أن قوله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) إلى آخر الآية رد على الذين سالوا عن أدوار الأهلة. إنهم طلبوا العلم الإسلامي من غير طريقه المرسوم كمن أتى البيت من ظهره لَا من بابه، وإنه كان عليهم أن يسألوا عن البر في الشريعة لأنه المختص بالنبوة.
ولذا قال تعالى: (وَلَكِن الْبِرَّ) يتمثل فيمن اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها، فاسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يختص به، وهو تبليغ رسالة الله تعالى حتى ترشدوا وتدركوا لعلكم تفلحون، أي رجاء أن تفلحوا وتنالوا الفوز برضا الله تعالى، وهو التواب الرحيم.
* * *
أحكام الجهاد (1)
ذكر الله تعالى في آية البر أن من أعلى أوصاف أهل البر، (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَاسَاءِ وَالضرًّاءِ وَحِينَ الْبَأسِ. . .)، والجهاد هو البأس الذي يوجب الصبر، ولذا قال تعالى:
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ
________
(1) بدءا من الآية 190: 193 من سورة البقرة ساقط من الأصل؛ وقد آثرنا استكماله من تفسير القرطبي، لما له من مركز الصدارة في مراجع المؤلف رحمه الله، وإتماما للفائدة بعيدا عن اجتهادٍ ربما لَا يرضاه المصنف رحمه الله تعالى. والله من وراء القصد. الناشر.(2/575)
فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
* * *
قوله تعالى:(2/576)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). فيه ثلاث مسائل:
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَقاتِلُوا " هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْقِتَالَ كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِقَوْلِهِ: " ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " [فصلت: 34] وقوله: " فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ " [المائدة: 13] وقوله: " وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا " [المزمل: 10] وقوله: " لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ " [الغاشية: 22] وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ. فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ أُمِرَ بِالْقِتَالِ فَنَزَلَ: " وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ " قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ: " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا " [الحج: 39]. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، وَأَنَّ آيَةَ الْإِذْنِ إِنَّمَا نَزَلَتْ في القتال عامة لمن فاتل وَلِمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ إِلَى مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْحُدَيْبِيَةَ بِقُرْبِ مَكَّةَ- وَالْحُدَيْبِيَةُ اسْمُ بِئْرٍ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ بِاسْمِ تِلْكَ الْبِئْرِ- فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ، وَأَقَامَ بِالْحُدَيْبِيَةِ شَهْرًا، فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ كَمَا جَاءَ، عَلَى أَنْ تُخْلَى لَهُ مَكَّةُ فِي الْعَامِ الْمُسْتَقْبِلِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَصَالَحُوهُ عَلَى أَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ عَشْرَ سِنِينَ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ قَابِلٍ تَجَهَّزَ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَخَافَ الْمُسْلِمُونَ غَدْرَ الْكُفَّارِ وَكَرِهُوا الْقِتَالَ فِي الْحَرَمِ وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَيْ يَحِلُّ لَكُمُ الْقِتَالُ إِنْ قَاتَلَكُمُ الْكُفَّارُ. فَالْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِ الْحَجِّ وَإِتْيَانِ البيوت مِنْ ظُهُورِهَا، فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُقَاتِلُ مَنْ قَاتَلَهُ وَيَكُفُّ عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُ، حَتَّى نَزَلَ " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ " [التوبة: 5] فَنُسِخَتْ هَذِهِ(2/576)