تفسير قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)
قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
هؤلاء عندما يسمعون آية وعندما تُقرأ عليهم سورة ألا يتدبرونها؟ ألا يتمعنون فيها؟ ألا يفهمونها ويقومون بما فيها من مفهوم ومنطوق؟ أليست لهؤلاء عقول تدرك أو قلوب تعي وتفهم ((أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))؟ فسّروا (أم) هنا بـ (بل) أي: بل على القلوب أقفالها.
والأقفال: جمع قفل، وهو القفل المعروف.
يمثّل الله بعمى قلوب هؤلاء كمن لو جيء بقفل فرُبط على قلبه فلا يفهم، ولا يدرك، ولا يعي، ولا يفقه شيئاً، فالقلوب مصمتة، والآذان مغلقة، أصابها الصمم فصُكّت كأنها غطيت، وكأنها غلفت بحديد ومواد حالت بينها وبين السماع.
((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) وهذا يعم كل من يسمع القرآن أو يتلوه فلا يتدبره ولا يتفكر في معناه: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] ويأمر التالي للقرآن والمنصت للقرآن أن يتمعن في معانيه، وأن يعي أحكامه وآدابه ورقائقه وعقائده، وكل ما نطق به.(348/6)
تفسير سورة محمد [25 - 30]
النفاق داء عضال ينخر في جسد الإسلام، والمنافقون أنواع وأقسام، فمنهم المرتدون والزنادقة، وقد كاد الله أن يكشفهم لرسوله صلى الله عليه وسلم بأسمائهم، ثم أخبره أنهم يعرفون بلحن القول، فيجب الحذر منهم على الدين والإسلام.(349/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد:25].
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} هذا ينطبق على فئتين من الناس أو ثلاث: على قوم أسلموا ثم نافقوا وأصبح إسلامهم ظاهراً، فهم يُبطنون غير ما يُظهرون، ويُظهرون غير ما يُبطنون، فهم المسمون بالمنافقين.
والفئة الثانية: فئة أسلمت عن صدق وإخلاص، ثم تلاعب بها الشيطان، وأساتذة الكفر والسوء والبيئة الفاسدة من أمومة وأبوة ومدرسة وأستاذية، فارتدوا عن الإسلام وأصبحوا شيوعيين أو اشتراكيين أو قاديانيين أو وجوديين أو بهائيين، أو على أي ملة من ملل الكفر، هؤلاء كذلك ينطبق عليهم أنهم ارتدوا بعد أن علموا الحق وسمعوه ووعوه وآمنوا به.
والفئة الثالثة: أهل الكتاب من اليهود والنصارى، أنزلت كتبهم على أنبيائهم التوراة والإنجيل والزبور، وفيها جميعاً النذارة بالنبي عليه الصلاة والسلام وبأنه سيأتي، والإخبار بنبي آخر الزمان الذي يظهر في جبال مكة وفي أرض الحجاز، وأنه لا نبي بعده ولا رسول، يدعو البشر كلهم مشرقهم ومغربهم أبيضهم وأسودهم إلى الله الواحد.
فعندما ظهر عليه الصلاة والسلام أعرضوا عنه.
{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد:25] أي: من بعد ما ظهر لهم الحق والهدى والنور، وزال الظلام والباطل بما عرفوه في الكتب السابقة، وما عرفوه بعد ذلك في الكتاب الخاتم القرآن الكريم، وما نطق به خاتم الأنبياء وإمامهم صلى الله عليه وسلم.
قوله: {ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [محمد:25] أي: إلى الخلف والوراء، وصفهم بالرجعية و (أدبارهم) جمع دبر أي: عادوا للخلف وعادوا للكفر والنفاق.
قوله: {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد:25] أي: هؤلاء إنما سول لهم الشيطان وزين لهم باطلهم وردتهم، وكفرهم وضلالهم، وأملى لهم الأماني، وأطمعهم وأنهم على حق، فزين لهم أعمالهم، وأملى لهم وأغراهم بطول البقاء أغراهم بأن الحق لهم وما كانوا إلا مرتدين، وعن الحق معرضين، وإلى جهنم مقدمين.(349/2)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم)
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:26].
(ذلك) أي: ردتهم ونفاقهم وحالهم ذلك كان بسبب أنهم: {قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} [محمد:26] أي: قالوا للكافرين ولليهود من أهل المدينة؛ ولا يكره ما نزل الله إلا كافر أو منافق، وكلاهما سواء إلا أن المنافق في الدرك الأسفل من النار.
قوله: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد:26] أي: قالوا لهؤلاء الكفرة: سنتبعكم في بعض الأمر ونمالئكم على محمد، ونتجسس لكم على الإسلام وجيوشه ودولة الإسلام، ودواخل الإسلام، وبواطن المسلمين.
هؤلاء الذين نافقوا أظهروا وجهاً وأبطنوا وجهاً آخر، وتعهدوا للكفار والمنافقين أنهم سيطيعونهم في بعض أمرهم، بأن يتجسسوا لهم ويخبروهم بأعمال المسلمين في حياة رسول الله، ويخبروهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، هؤلاء الذين يفعلون ذلك يكونون كفرة مثلهم ومنافقين يحل عليهم ما يحل على أمثالهم من اللعنة والغضب والعقاب.
قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:26]، أو (أسرَارَهم) وهي قراءة ثانية أي: هم قالوا ذلك سراً متآمرين، وخشوا أن يبلغ الأمر في دولة الإسلام لنبي الله عليه الصلاة والسلام من أصحاب من جيشه ومن أتباعه من مسلمين في كل عصر وزمان، ولكن الله يعلم السر وأخفى، فكشفهم وأعلن أسرارهم لنبي الله والمؤمنين، كما يكشف حال المنافقين للمسلمين أيؤدبونهم ويقتلونهم ويطردونهم من أوساطهم ومن مجتمعات المسلمين ويعاقبونهم بما هم أهل له من القتل؟ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:26] أو يعلم إصرارهم.(349/3)
تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم)
قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27].
أي: كيف حال هؤلاء إذا بقوا على هذا، ولم يجددوا التوبة، ولم يرجعوا إلى الله، ولم يخافوا من عذاب الله؟ كيف بهم إذا حضرهم الموت، وحضرتهم ملائكة الموت، وهم يستخرجون أرواحهم من أجسادهم وشرايينهم وخلايا أجسامهم وهي تأبى الخروج وإذا بالملائكة يخرجونها عنفاً بالضرب على الوجه، والضرب على الأدبار، والسحب من الرأس ومن الرجل حتى تزهق الروح وتذهب إلى لعنة الله إلى جهنم وبئس المصير؟ كيف يكون حال هؤلاء الذين عاشوا على النفاق والكذب، وعلى التجسس على المسلمين، وعلى كشف عورات المسلمين؟ يعيشون مع إخوانهم بوجه ومع الكفار بوجه؛ هؤلاء عليهم لعنات الله تترا إذا بقوا كذلك، وحضرتهم ملائكة الموت تراهم ينزعون منهم أرواحهم بالعنف والضرب على الوجه والأدبار، وكذا تراها حتى تزهق الروح إلى بارئها إلى جهنم وبئس المصير!(349/4)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه)
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28].
أي: عندما تضربهم الملائكة على الوجوه والأدبار؛ فذلك بأنهم كرهوا ما يرضي الله.
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد:28] أي: سبب ذلك بأنهم اتبعوا كل نقيصة ورذيلة، واتبعوا كل مصيبة فيما يسخط ربهم عليهم {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد:28]، أي: كرهوا أن يرضى الله عليهم وكرهوا أن يدخلهم الله الجنة كرهوا أن يكونوا مؤمنين صادقين مؤمنين مخلصين! وسبب نزع ملائكة العذاب الأرواح وضربهم على وجوههم وأدبارهم وسبب ذلك أنهم {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد:28] أي: اتبعوا كل رذيلة كل سيئة كل مصيبة كل الكبائر والصغائر: {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] أي: أحبط أعمالهم وجعلها هباءً منثوراً، لم يقبل منهم صدقة، ولم يقبل منهم صلة رحم ولا أي عمل لم تسبقه لا إله إلا الله، ولم يسبقه توحيد، فهم يعيشون منافقين كفاراً، فإذا فعلوا شيئاً يعتبر في مجتمع ما يعتبر صلة رحم وصدقة، لا يقبل ذلك؛ فتحبط أعمالهم، أو كانوا مؤمنين يوماً فارتدوا؛ فتحبط جميع أعمالهم، فلا صلاة ولا زكاة، ولا أي عمل قدموه، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] وهذا من ذاك!(349/5)
تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم)
قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد:29].
أي: أحسب المنافقون الكذبة أظن الكفرة ذوو الوجهين وجه مع المؤمنين ووجه مع الكافرين: {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد:29].
والأضغان: جمع ضغن، والضغن: الحقد والحسد والبغضاء والنفاق.
يقول الله عن هؤلاء: أحسب هؤلاء وظنوا أن الله لا يكشف نفاقهم ولا أحقادهم ولا يكشف بغضاءهم حتى يراها القريب والبعيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أسر سريرة ألبسه الله رداءها).
المنافق يكاد وجهه يعرب عنه، وفلتات لسانه تخبر عنه، من أسر سريرة وكتم شيئاً خاصاً بينه وبين نفسه من البغضاء للإسلام والحقد على المسلمين يلبسه الله رداء ذلك النفاق حتى يتبين -كما يقول عثمان - في لفتات وجهه، وفلتات لسانه، هذا المنافق تشعر بنفاقه بنظرة شزراء وبوجه أصفر مقيت، وبحركات تعرب عن نفسها أن صاحبها كافر غير مؤمن، منافق غير مخلص، وهكذا كان هؤلاء المنافقون!(349/6)
تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم)
قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30].
يقول الله لنبيه: {وَلَوْ نَشَاءُ} [محمد:30] أي: لو أردنا لو صدرت مشيئتنا وإرادتنا {لَأَرَيْنَاكَهُمْ} [محمد:30] أي: لعرفناك بهم واحداً واحداً، ولكشفنا لك عن سرائرهم ودخائلهم.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30] يقول الله لنبيه: لو نشاء لكشفنا لك عن هؤلاء المنافقين، ولعرفتهم بسيماهم وبعلامتهم وبفلتات لسانهم في تقاسيم وجوههم، وبنظرات كلامهم.
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] يقول الله لنبيه ويلفت نظره: (ولتعرفنهم) يؤكد عليه بلام الابتداء والنون المؤكدة الثقيلة فستعرفهم {فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] اللحن يكون بمعنى: الميل عن الصواب، ومجانبة الصواب، واللحن يكون بمعنى: التعريض، ففي الحديث الصحيح: (لعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من أحد) أي: يكون أبين وأفصح وأعرف إبانة للدليل والبرهان من غيره.
واللحن: الكلام بالتعريض والكلام بالإشارة والرمز، وهو يعتبر في لغة العرب من رفيع الأدب وبديع رموزه، ويعتبر في لغة المنافقين من النفاق الواضح النفاق البائن النفاق المرسوم الذي لا يكاد يخفى على أحد.
يقول الله لنبيه: لو نشاء لعرفناكهم وستعرفهم بسيماهم، وستعرفهم في لحن القول، عند ذاك كان النبي عليه الصلاة والسلام ينتبه لكلام هؤلاء، وأنه كله معاريض، يقولون شيئاً ويقصدون غيره، ويقولون غيره ويقصدونه بالذات، كالكلام بالإشارة وبالرمز.
قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30] أي: يعلم عمل كل واحد منا، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وإن صدقاً فصدق، وإن نفاقاً فنفاق، لا تخفى عليه جل جلاله خافية.
قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30]، الله علق مشيئته على (لو) لم يعد وعداً مطلقاً بأننا سنعرفك إياهم، قال بعض المفسرين: كان ذلك من الله ستراً لهؤلاء المنافقين أو لبعضهم؛ عسى أن يتوبوا ويئوبوا، حيث إن الله لم يعرفه بهم جميعاً كما عرفه ببعضهم، ولكنه أشار إليه بسيماهم ولحن قولهم.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ} [محمد:30] أي: رأي العين فقلنا: هم فلان فلان فلان ابن فلان! عشيرة فلان.
{فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30] أي: في تقاطيع وجوههم بألوانهم وطولهم وأشخاصهم حتى كأنهم معك، وذلك مثلما شخص له الجنة والنار في قبلته وهو يصلي حتى رآهما، ولكن الله قال له بعد ذلك: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] فأشار إليه بأنه سيعرفهم في معارض كلامهم، وفي إشارات حركاتهم، وفي نظرات قولهم، وفي مقاطع وجوههم، أعطاه علامة فيه ليعرفها وليعرفهم بها.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30]، يعرف عمل المخلص من عمل المنافق، يعلم عمل الخائن من عمل الصابر، ويعلم كل شيء جل جلاله.
يقول عقبة بن عامر كما في مسند أحمد: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وإذا به يذكر المنافقين فقال: فيكم منافقون فسأعرفكم بهم، وأخذ يقول وهو على المنبر يوم الجمعة: قم فلان! قم فلان!)، إلى أن أقام ستة وثلاثين رجلاً وطردهم من المسجد، وأعلن نفاقهم، ومع ذلك عاد فقال للحاضرين: (وفيكم منافقون) كشف من المنافقين ستة وثلاثين واحداً، وسكت عن منافقين أخر إما ستراً من الله لهم أو ستراً من النبي عليه الصلاة والسلام رجاء أن يتوبوا عن نفاقهم، ويعودوا للإخلاص والإيمان الحق.
قال: {وَلَوْ نَشَاءُ} [محمد:30]، ولم يقل: شئنا أن نكشفهم لكم، لأن هؤلاء ما يزالون مستمسكين بلا إله إلا الله، ولم يظهر ذلك ظهوراً بيناً، وبقي في القلوب.
وهذا أسامة بن زيد رضي الله عنه قتل رجلاً بعد أن قال: لا إله إلا الله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقتلت رجلاً قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! إنما قالها فراراً من السيف، قال: هل شققت عن قلبه)، القلوب متروكة لله، وهو أعلم ببواطنها، فنحن أمرنا أن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر ما لم يكشف الإنسان عن نفسه.
ولي عمر بن الخطاب الخلافة بعد أبي بكر، فكانت خطبة الخلافة أن قال: أيها الناس! الوحي انقطع، ولا يعلم ما في القلوب إلا الله، ولا يعلم الغيب إلا الله، من أظهر لنا خيراً عاملناه به، ومن أظهر لنا غير ذلك عاملناه بما أظهر، ونكل بواطنهم وقلوبهم لخالقهم.
لو جاءني إنسان قال: فلان كافر! فناديته أصحيح أنت كافر؟ قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم يثبت عليه شيء يدعو إلى ردته، فقد يأتيك من يقول: رأيته يقول: كلمة كفر أو رأيته يصنع صنيع كفر، فما دام الأمر لا يزال قاصراً عليه فيترك لله، ولكن هؤلاء الستة والثلاثون الذين كشفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وطردهم من المسجد كانوا أظهر نفاقاً من غيرهم، وأكثر أذى من غيرهم، وكانوا سماً مدسوساً بين أوساط المسلمين، يتجسسون في مجالس رسول الله عن رسول الله والمؤمنين ويذهبون في ذلك للمنافقين.
فكشفهم النبي صلى الله عليه وسلم لكي لا يؤذى بهم أحد بعد؛ ولكي لا يغتر بهم أحد بعد، والمنافقون الأخر لم يكونوا كذلك، كانوا في أنفسهم مترددين متشككين غير مطمئنين، وإلا فبعد وفاة رسول الله فما حمل عشرات الآلاف من الخلق على الردة إلا أن بعضهم كانوا منافقين، وكان بعضهم ضعاف إيمان مترددين، فعندما توفي النبي عليه الصلاة والسلام ظنوا أن الإسلام قد انتهى لن يعود، وسيصبح الأمر لفارس والروم.
ولكن الله تعالى قد سبق في كتابه المحفوظ وعلمه الأزلي السابق أن ينشر الإسلام مشارق ومغارب، وأن يذل عدوه وينصر دينه، وأن يكون اسم محمد مقترناً باسمه جل وعلا، وصلى الله على نبينا في مختلف بقاع الأرض وقاراتها، فلا تقال: لا إله إلا الله، إلا ويقال بجانبها: محمد رسول الله، ولا يتم إيمان مؤمن إلا بذلك، وهكذا وإلى اليوم تذهب إلى بلاد الكفار فتجد المؤذن يؤذن على المآذن بشهادة الحق: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
هذا المنافق في عصر النبي صلى الله عليه وسلم قد علمه الله ما علمه بما لم يعلمه غيره، وقد تنازع الفقهاء في حكم المنافق بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو ما يسمى في الفقه بالزنديق، فما حكم الزنديق؟ أي: ما حكم المنافق؟ فجمهور الأئمة والفقهاء في طليعتهم الإمام مالك يقول: يقتل الزنديق ولو قال: أنا تائب؛ لنفاقه وعدم إخلاصه، ولتلاعبه في القول؛ فإنه يقول صباحاً ما يخلفه مساءً ويقول مساءً ما يخلفه صباحاً، فهو لا يوصف بالإيمان، ولا بتوبة، ولذلك كان من صالح المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية أن يقتل، وأمره بعد ذلك إلى الله.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل منافقاً، بل طرد هؤلاء الستة والثلاثين وما قتل منهم واحداً، وكان رأس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول - أبي أبوه، وسلول أمه- وطالما حرض عمر رسول الله على قتله، والنبي يأبى؛ لأن عبد الله بن أبي لا يكاد يبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه شيء عنه إلا وجاء مسرعاً يكذب ذلك، ويقسم الأيمان الفاجرة على صدقه، وعلى إيمانه وإخلاصه.
ولم يكشف ألبتة إلا بعد موته وهلاكه، حيث صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مجاملة لولده عبد الله المؤمن المخلص الصادق، فعندما صلى عليه جاء أمر الله في نهييه عن ذلك مرة ثانية فقال: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، حكم عليه بالكفر وكشف أمره، ولو كشف هذا حال حياته لما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله.
ولذلك المنافق لا يعاد، ولا يصاهر، ولا يشارك، ولا يزار قبره، ولا يرد عليه سلام، والنفاق قد كثر في الأرض اليوم، فكل من يقول: هو شيوعي أي: هو كاذب منافق تجد اسمه إسلامياً، وتجده متزوجاً مسلمة، فلا يجوز ذلك في حال، لا يزوج، ولا يصاهر، لا تعطه، ولا تأخذ منه، ولا يشارك، ولا يصاحب، ولا يسلم عليه لا بداية ولا جواباً، وإذا كثر النفاق في قوم وجب الجهاد في الداخل قبل الخارج، وماذا يقول الإنسان؟ لقد كثر الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد كثرت الذنوب والآثام، وكثر البعد عن الإسلام مجتمعات وهيئات وأفراداً ونساء ورجالاً وحكومات، ضل من ضل، ونرجو الله تعالى أن يمن على عباده المسلمين بالتوبة والصلاح والإخلاص.(349/7)
تفسير سورة محمد [31 - 35]
إن الله قد أعد للمؤمنين جنات النعيم، لكن لابد من الابتلاء والتمحيص حتى يعلم الصادق من الكاذب والمجاهد من المخذل.
وأما الكفرة الذين يحاربون دين الإسلام ورسوله وأتباعه، فإنهم لا يضرون الله شيئاً، لكنهم بكفرهم تحبط أعمالهم ويستحقون العذاب الشديد في الدنيا والاخرة.(350/1)
تفسير قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين)
قال الله ربنا جل جلاله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31].
بعد أن حدثنا الله جل جلاله عن المنافقين والكافرين، وكشف أفكارهم، وأعلم بها نبينا صلى الله عليه وسلم، فطرد بعضاً وسكت عن بعض لعلهم يتوبون ويرجعون؛ يقول الله لنا: (ولنبلونكم) أي: لنختبرنكم، واللام: هنا للقسم، وأكده بنون التوكيد الثقيلة.
يقول جل جلاله: إنه يمتحن ويختبر الناس ليعلم منهم المجاهد الصادق والصابر على الجهاد.
{وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] أي: ويعلم الأخبار الظاهرة والباطنة، الخفية والمعلنة، والله جل جلاله هو يعلمه منذ أمر الملائكة بكتبه في اللوح المحفوظ، ولكن معنى العلم هنا الرؤية، كما يقول عبد الله بن عباس؛ أي: ولنبلونكم لنرى أعمالكم، ونرى ما تقومون به بعد الأمر والنهي.
يقول الإمام القرطبي: الله جل جلاله لا يعاقبه على علمه، وإنما يعاقبه على الأعمال؛ ولذلك خلق الخلق واختبرهم بالأعمال وهو يعلم ماذا سيعملون قبل، ولكنه لا يعاقبهم إن أساءوا ولا يحسن إليهم إن أحسنوا حتى يعملوا، فيكون جزاؤه حسب أعمالهم وامتثالهم، وحسب إيمانهم.(350/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32].
يقول ربنا جل جلاله بعد الاختبار والابتلاء: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:32] أي: كفروا ومنعوا الناس من الإيمان، ودفعوهم عن الإسلام، وزينوا لهم الأهواء والوساوس، وما يسخط الله جل جلاله؛ فهؤلاء كفروا في أنفسهم، ونشئوا بين غيرهم صادين ومنفرين الناس عن سبيل الله، وعن الإيمان والإسلام والطاعة والامتثال.
قوله: {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} [محمد:32] أي: خرجوا عن شقه، فشقوا الطاعة عليه، وعصوه وخالفوه.
قوله: {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32] هؤلاء الذين كفروا بالله، ثم ازدادوا كفراً فصدوا عن سبيل الله، ثم ازدادوا شركاً وكفراً بالله فشاقوا الرسول خرجوا عن طاعته، وكان الرسول في شق وجانب وكانوا هم في شق وجانب، هؤلاء لن يضروا الله شيئاً، إنما ضررهم يعود على أنفسهم؛ لكفرهم وخسرانهم أنفسهم في الدنيا والآخرة.
وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) أي: لو كفر أهل السماء والأرض فلن يضر كفرهم إلا أنفسهم، ولن يجنوه إلا على أنفسهم، {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] المتقي المؤمن الصالح هو الذي ينفع نفسه، والكافر لا يضر إلا نفسه.
قوله: {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32] أي: هؤلاء الكفرة المرتدون عن سبيل الله، المشاقون المخالفون لرسول الله {سَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32] أي: سيبطلها ويجعلها هباءً منثوراً، ولن يضروا إلا أنفسهم.
والله جمع بين طاعته وطاعة نبيه، وهذا زيادة في التأكيد، على أن التوحيد لا يتم إلا بالإيمان بالله واحداً وطاعة الله، وإلا بالإيمان بمحمد عبداً ورسولاً، وطاعته وعدم الخروج عنه، ومن لم يفعل ذلك فضر نفسه وأحبط عمله، ولا يلومن أحد إلا نفسه إن خرج عن الهدى والتقى والصلاح.(350/3)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33].
يأمر الله جل جلاله بطاعته وطاعة رسوله، وكما يقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، فطاعة الرسول طاعة لله، والطاعة لله هي كذلك طاعة لرسول الله؛ لأن الرسول جاء عن الله، وبلغ كتاب الله، وبلغ رسالة الله، فطاعته طاعة لله، والخروج عنه خروج عن الله.
فالله يؤكد ذلك ويأمر ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] أي: لا ترتدوا عن دينكم بعد الهداية، ولا ترتدوا عن الطريق المستقيم بعد معرفتكم به، لا ترتكبوا الكبائر والفواحش فيخاف على إيمانكم إن أنتم زدتم في ذلك وأغرقتم فيه.
قال بعض الصحابة: إبطال الأعمال في ارتكاب الكبائر، فأخذوا يحرصون على الاجتناب عن الكبائر زناً وسرقة، ورباً وفاحشة، وكل كبيرة حذر الله منها وبنى عليها حداً، ورتب عليها اللعنة والطرد عن الله ورحمته؛ قال: وإذا بنا بعد ذلك ينزل قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فعادت إلينا نفوسنا، وعلمنا أن الكبائر لا تكفر صاحبها، ولكننا مع ذلك بقينا بين الخوف والرجاء؛ لعل الله يقبل أعمالنا، لعل الله لا يحبط أعمالنا، والإحباط هنا هو الكفر، والإحباط الردة، فإسقاط الأعمال يكون بالردة والخروج عن الإسلام، وقد يكون ذلك بكلمة يقولها الإنسان لا يلقي لها بالاً، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في قعر جهنم سبعين خريفاً).
قد يقول القائل كلمة يظن أنه يمزح، ولكن المزاح لا يكون مع السماء، وإذا به يقول كلامه الذي يخرجه عن الإسلام ويهوي به في قعر جهنم، ويستمر هويه سبعين عاماً؛ لأن السنة ليس فيها إلا خريف واحد.
ثلاثة من الشباب الفقهاء العلماء كانوا في الأندلس، وإذا بأحدهم يريد أن يمزح، وكانت السماء قد أخذت تمطر وترش رذاذاً خفيفاً فقال أحد هؤلاء: إن الدباغ يرش جلوده، وكانوا يمزحون، وإذا بالاثنين الآخرين يلتفتان إليه ويقولان له: أنت تمزح أرضاً وإذا بك تناولت الذات العلية بما ارتددت وخرجت عن الإسلام، ورفعوا به قضية، وإذا به يقول: كنت أمزح، أيكون المزاح بالكفر؟ أيكون المزاح بقلة الأدب مع الذات العلية؟ فما أتم يومه إلا مفصولاً رأسه عن جسده.
وهكذا من يقول عن الله ما لا يليق بجلال الله، ومن لا يتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلقى نفس العقاب والعذاب.
فهم الفقهاء من قوله تعالى: ((وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)) كما فهم الإمام مالك وجماعة من الأئمة: أن النوافل عند الشروع فيها تصبح ملزمة، ولا يجوز إبطالها، فمن صام نافلة فلا يجوز له أن يلغي صومه؛ لأنه يكون قد أبطل عمله، ومن ابتدأ صلاة نافلة لا يجوز له قطعها، وإلا كان قد أبطل عمله.
ولكن الإمام الشافعي له فهم آخر قال: المتنفل عندما صام وصلى لم يكن الأمر واجباً عليه، فهو إن شاء صام، وإن شاء أفطر، أما في الصيام فالدليل مع الإمام الشافعي، لقد قال عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر) ومن أجل ذلك في مذهب الإمام الشافعي: من أكل وهو صائم ناسياً لا إعادة عليه، وأكثر من ذلك من دعي إلى صديق فأصر عليه بالطعام عنده، له أن يفطر وليسر صديقه بذلك.
والآية عامة، ولكن الصيام مستثنى: (المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر).(350/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد:34].
يقول ربنا تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد:34] أي: كفروا بالله، وبكتاب الله، وبرسول الله.
{وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:34] أي: صدوا عن الله وطاعته، وعن رسول الله والإيمان به.
{ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [محمد:34] أي: عاشوا كافرين صادين عن الله، وماتوا وهم كافرون.
{فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد:34] وهذه الآية كالآية الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] وحرم الله الجنة على الكافرين، فمن مات على كفره وضلاله ولم يقل قبل أن يغرغر: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا بعث ومات على الكفر لن يغفر الله ذنبه، ويخلد في النار أبد الآبدين، ودهر الداهرين.(350/5)
تفسير قوله تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون)
قال تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].
يقول الله للمؤمنين وهم أهل العزة والكرامة والسيادة، وهم سادة الأرض، وهم أنصار الله ورسوله، وهم المؤمنون المتبعون الحق، لقد قال ربنا: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
يقول تعالى: {فَلا تَهِنُوا} [محمد:35] أي: فلا تضعفوا أمام العدو، ولا تذلوا له، ولا تطأطئوا إليه، ولا تهابوه، ولا تبتدئوا بطلب الصلح، بل ولا تطلبوا الصلح في حال كونكم أقوياء.
قوله: {فَلا تَهِنُوا} [محمد:35] من الوهن وهو الضعف.
((وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)) السَلم والسِلم قراءتان سبعيتان متواترتان والمعنى: لا تضعفوا فتدعوا عدوكم وتنادوه إلى الصلح والسلام، ذاك ضعف، وذاك هوان، وذاك ذلة لا يزيد الله فاعلها إلا ذلاً وهواناً، ويكون عاصياً لربه وخارجاً عن أمره.
قوله: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد:35] أي: أنتم الأعلى والأشرف؛ لأنكم المؤمنون الموحدون؛ لأنكم أصحاب الأرض وليس لغيركم ما أخذه إلا بحسب العارية، {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر:6] ما أعاد وأرجع، فما في يد الأعداء هو للمؤمنين أصلاً، ويجب أن يعود للمؤمنين وليس للكافرين في ذلك حق، فإن أخذه فبسيف القوة، بل ولتذلل المسلمين وضعفهم، وعدم جهادهم للعدو وقتالهم واسترجاع ما أخذ منهم.
قوله: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35] ومن كان الله معه كان معه النصر، وكان معه التأييد، وكان معه أهل السماء والأرض، ولا يضر المؤمن بعد ذلك أن يكون الشيطان وحزب الشيطان ضده.
كانت جماعة من الصحابة ينتضلون، أي: يتعلمون الرمي والجري والسباق على الخيل، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لطائفة: (ارموا بني إسماعيل وأنا معكم؛ فكف الآخرون أيديهم وقالوا: يا رسول الله! إن كنت معهم فهم الحزب الأقوى، فعاد فقال: ارموا أنا معكم جميعاً) عند ذلك تسابقوا وعادوا وقد تعلموا الرمي والمسايفة وما إلى ذلك، فمن كان الله معه غلب كل شيء، ومن كان الله عليه غلبه كل شيء، والمؤمن الله معه.
قوله: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35] أي: لن ينقصكم أعمالكم، فمن عمل خيراً زاده على كل حسنة عشر حسنات إلى أضعاف كثيرة إلى سبعمائة ضعف إلى ما يريد الله جل جلاله، ومن كرمه أنه لا يجازي على السيئات إن لم يغفرها إلا بسيئة واحدة.
{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35] يقال: وتره إذا نقصه، ومنه الحديث النبوي: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) أي: كأنه فقد الأهل والمال، فمن فاتته العصر بلا سبب حتى غربت الشمس يكون حاله بين الناس كحال من فقد الأهل والمال، وكيف بمن فقد الأهل والمال؟ ولم التأكيد على العصر بالذات؟ لأنها الصلاة الوسطى كما في الصحاح: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم ناراً).
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] أمر بالصلوات بصفة عامة، وأمر بالوسطى بصفة خاصة، فكانت العناية فيها أكثر أجراً وثواباً والتفريط فيها أكثر إثماً وعذاباً.
قوله: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35] أي: لن يفقدكم إياها، ولن ينقصكم منها، هكذا عفو الله، وهكذا كرم الله جل جلاله.(350/6)
تفسير سورة محمد [36 - 38]
يتسابق الناس على الدنيا ويتزاحمون على حطامها، ويحرصون على جمعها، وهي في الحقيقة لعب ولهو، وإن معرفة المؤمن لدين الإسلام خير من الدنيا وما فيها، ولذلك ينبغي على المسلم ألا يبالي بالدنيا، بل ينفقها في سبيل الله، ويسخرها فيما يقربه من الله، فذلك خير له من جمعها والشح بها، فمن شح وبخل فعلى نفسه.(351/1)
تفسير قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا)
قال تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36].
حث الله على طاعته وطاعة نبيه، ووعد على ذلك برضاه ورحمته وجنته، ثم بعد ذلك حذر من الدنيا ونفر عنها وقال: (إنما) بأداة الحصر {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36] أي: كل ما في الدنيا سوى ذكر الله وطاعة الله (لعب ولهو) فهو باطل في باطل، يلهي الإنسان زمنه، ويضيع عمره، ويبدد أيامه، وإنما هو يلعب ويلهو كما يلعب الأطفال ويلهون، ولا يحفظ له ولا يسجل له إلا الركيعات التي يقوم بها، والأيام التي يقوم فيها، والطاعات التي يلتزمها من طاعة لله، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} [محمد:36] أي: إن تؤمنوا بالله وتتقوا المعاصي فلا ترتكبوها، وتجعلوا بينكم وبين المعاصي وقاية تحفظكم من اكتسابها وفعلها.
قوله: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} [محمد:36] أي: ليس لكم في الدنيا إلا الإيمان والتقوى والعمل الصالح، والبعد عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وضابط الطاعة كما في النص النبوي: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا) الفعل: هو أوسع من قدرة الإنسان، أما الترك فهو في وسع الإنسان، ولا يحتاج إلى إرادة، اترك الفواحش جميعها دون ذكر التفاصيل، ليس بينك وبين ذلك إلا قوة إرادة وعزم، نهى الله عن الفواحش، وهي ما عليها حد وما عليها لعنة أو تحذير، فأنت حيث لا تفعل فقمت بما وجب عليك، ولم يحتج ذلك منك إلا لإرادة وعزيمة.
قوله: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} [محمد:36] أي: يثيبكم بالجنة وبالرحمة.
{وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36] الأموال عزيزة على الناس، وهي أحياناً تكون عند بعض الناس أعز من الأكباد والأولاد، وهي عند المؤمن نعمة أتى الله بها إليه ليستعين بها على الطاعات، ونفقة الأهل والأولاد، والصدقة على الفقراء والمساكين والمحاويج، وأن تصل به الأرحام، وكما وصف الله المؤمن: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25].
وقد جمع الله بين حقه وحق الفقراء من العباد: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43].
وأول حرب أهلية في الإسلام الحرب على مانعي الزكاة، وعندما خولف أبو بكر لأول مرة حاجهم وانتصر عليهم وفلجهم أصبح ذلك إجماعاً، وقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ما استمسك السيف في يدي.
فأي قرية أو بلدة أو شعب تواطئوا على منع الزكاة فيجب أن يؤدوها، وإلا قوتلوا كما قاتل أمثالهم أبو بكر والصحابة، وكذلك إذا تواطأ أهل قرية على منع الصلاة قوتلوا حتى يصلوا.
قوله: {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36] طلب الله منا أعمالاً بدنية، أما المال فإنما طلب منا شيئاً قليلاً لا يكاد يذكر، فقد طلب ربع العشر فقط.
قال تعالى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36] أي: الأموال التي تحبونها وتحرصون على كنزها لم يطلبها جميعاً، وإنما سيطلب منها سهماً للفقراء والمساكين والمحاويج، وهذا بعد النفقة على العيال.(351/2)
تفسير قوله تعالى: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم)
قال تعالى: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37].
أي: إن يطلب منكم أموالكم جميعها زائدة على الزكاة (تبخلوا).
طلب الله الزكاة وهي شيء لا يكاد يذكر ومع ذلك تركوا الزكاة، ومنعوا الفقراء حقوقهم، فكان الجزاء من جنس العمل في الدنيا قبل الآخرة، ولعذاب الله أشد وأنكى، فسلط الله الحكومات تأخذ من الضرائب ما يتجاوز الأربعين أو الخمسين أو الستين في المائة بلا كرامة وبلا أجر ولا ثواب، وسلط الشيوعيين فأخذوا المال كله، ولم يتركوا لأحد إلا ما قل، جزاء وفاقاً، لمنعهم الزكاة وخروجهم عن أمر الله، امتنعوا أن يعطوا القليل؛ فسلط الله عليهم من يأخذ الكثير الكثير، بل ومن يأخذ الكل.
قوله: {فَيُحْفِكُمْ} [محمد:37] الإحفاء: الإلحاح في السؤال.
وقد علم الله حقيقة خلقه فلم يطلب منهم جميع مالهم.
قوله: {فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37] أي: يكون ذلك سبباً لخروج الأضغان وإظهارها.
والأضغان جمع ضغن: وهو الحقد والعداوة.
وقد امتنعت طائفة من أداء الزكاة بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، وقالت: الزكاة أخت الجزية، وكنا نعطيها لرسول الله، أما لأحد بعده فلا، ولكن الخليفة الأول رضوان الله عليه وجد أن ركناً من أركان الإسلام الخمسة سيعطل، ويوشك أن تعطل بقية الأركان، وإذا به يعزم ويشد الرواحل ويرسل الصحابة كبارهم وصغارهم تحت قيادة خالد بن الوليد سيف الله، وقاتل الممتنعين من الزكاة، فانتصر، ونصر الله دينه، ومات من مات منهم على جريمته ومخالفته، وتاب من تاب الله عليه وعاد للطاعة والإيمان بالأركان كلها والعمل بها جميعاً.(351/3)
تفسير قوله تعالى: (هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله)(351/4)
معنى قوله تعالى: (هاأنتم هؤلاء)
قال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:38].
قوله: {هَاأَنْتُمْ} [محمد:38] الله لم يطلب الكل، ومع ذلك خاطبهم بـ (ها) التنبيه: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:38].
أي: يا هؤلاء أيها المؤمنون دعاكم الله ورسوله لتنفقوا في سبيل الله، والنفقة: هي الزكاة الواجبة، وهي النفقة الواجبة على الأهل والأولاد، وهي الاستجابة للسائل والمحروم، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (للسائل حق ولو جاء على فرس) لو صدق السائل ما أفلح المسئول إن امتنع عن الاستجابة في العطاء.
قوله: {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} [محمد:38] أي: دعيتم فمنكم من بخل ولم يؤد الزكاة، فإن كان هذا وقت نزول الآية فما بالك في عصرنا الذي يكاد المسلمون أن يعطلوا هذه الفريضة، وهذا الركن من أداء الزكاة، ولو أن أهل مدينة وقرية أدوا الزكاة الواجبة كما فرضها الله لما وجد في تلك القرية والمدينة فقير ولا محتاج.
والمجتمع المسلم لا يكون فيه فقير إن أدى الناس زكاتهم الواجبة، ففي الحديث النبوي يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله فرض في أموال الأغنياء ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا فبمنع الأغنياء، وحق على الله أن يحاسبهم ويعاقبهم على ذلك) أي: على امتناعهم من كفاية الفقير والمحتاج.
ولذا يجب منع التسول، التسول يقوم به الأجانب، ولو كان الأغنياء يؤدون واجباتهم وزكاتهم المفروضة لما وجد متسول، فواحد يموت في التخمة، ويكاد يأكل الذهب والفضة ويتمرغ في الحرير والدمقس والديباج، وآخر يموت جوعاً وهو على مرمى حجر منه؛ لا ينتفع بماله إلا ضال مضل، ولا تصرف أمواله إلا في الفساد والفاحشة، وفي البنوك الربوية، وفي الرشوة، وفي المناسبات من الأفراح والحفلات والعزائم التي لا تكون لله، ولا ليأكل منها الفقير المحتاج، ولا تكون إلا مباهاة وضياعاً لأموال الفقراء والمساكين.(351/5)
معنى قوله تعالى: (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه)
قوله: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38].
يقول ربنا: هؤلاء الذين بخلوا بأداء زكاة أموالهم هم في الحقيقة إنما يبخلون على أنفسهم؛ لأنهم سيضرونها، وسيحاسبون على منع الزكاة، وسيعاقبون، وكما قلت وأقول دوماً: العقاب كان من جنس العمل في الدنيا قبل الآخرة، سلط الله الحكومات فأخذت الضرائب التي لم ينزل الله بها من سلطان، أخذت خمسين في المائة وستين وسبعين، وسلط الله الشيوعية -وتكاد تعم ثلثي سكان الأرض- فأخذت المال كله، وأفقرت الغني، وما أغنت الفقير قط، وما كان ذلك إلا جزاءً وفاقاً لمنع الأغنياء حقوق الفقراء والمحاويج والسائلين والمحرومين، ولعذاب الله يوم القيامة أشد وأنكى.
قوله: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] أي: سيكون بخله في الحسنات التي سينالها، في الأجر والثواب الذي أعده الله للمطيعين السميعين، الذين أدوا زكاة مالهم طائعة بها أنفسهم، دون إكراه ولا رياء ولا سمعة.(351/6)
معنى قوله تعالى: (والله الغني وأنتم الفقراء)
قوله: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38].
أي: عندما يسألكم الله بعض أموالكم لتصرف على محاويجكم، وفقرائكم، ومجاوريكم، وأقاربكم، لا يطلبها لنفسه، فهو الغني جل جلاله، هو الغني عن الخلق ذاتاً، وأنتم الفقراء ذاتاً، نحن الفقراء إلى الله، فقراء في الحياة، في المال، في العافية، في الأعمال، فقراء في كل شيء، خلقنا يوم خلقنا من بطون أمهاتنا لا نملك شيئاً، ثم أخذ يعطينا؛ ولذلك أمر وقال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] هو مال الله وليس مال أحد، أعطوهم من المال الذي جعله الله وديعة في أيديكم، ستهلكون يوماً وستبقى تلك الأموال، ويأخذها من لا يرحمكم فيصرفها في الباطل وفي الحرام.(351/7)
معنى قوله تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)
قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} [محمد:38] أي: إن تعرضوا عن الله، وعن طاعة الله، يبدل الله بكم قوماً آخرين، ويصيب الأمة التي امتنعت والشعب الذي امتنع بكارثة وبلاء، ويصيبهم بمرض يفنيهم، ويعوضهم بالأولاد والأسباط، أو يعوضهم بشعوب أخرى، أين الشعوب التي كانت من قبل؟ فإنها بادت وهلكت بأعمالها الخيرة والشريرة، والله ينذرنا، وقد وقعت هذه النذارة؛ حين خالف الآباء والأجداد فسلط الله عليهم من لم يرحمهم من اليهود والنصارى، عدنا فقلنا: يا رب! وضرعنا إليه وبكينا فجاءنا بالاستقلال فأخرج الأعداء عن بلادنا، وإذا بنا بعد ذلك نكفر النعمة، فعصينا الله في نعمته فسلط علينا أذل خلقه وأقبحهم وألعنهم.
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} [محمد:38] أي: إن تعرضوا عن طاعة الله وتولوها ظهوركم وأدباركم.
{يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد:38] أي: يأتي بدلكم بأقوام غيركم.
قوله: {ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] أي: لا يكونوا في مثل معصيتكم ومخالفتكم وكفركم، وخروجكم عن أمر الله.
وقال الصحابة: من هؤلاء الذين يبدل الله بهم العرب؟ تساءلوا بهذا عندما كان الصحابة والتابعون -أي: العرب- سكان الأرض؛ لكن نحن الذين جئنا بعدهم رأينا، وقرأنا، وسجل التاريخ أن الله أبدل المسلمين العرب بالروم، أبدلهم بالأمريكان، أبدلهم بالكفرة، أبدلهم بكل ظالم طاغ عقوبة لهم.
أبدل العرب جميعاً بآل عثمان حكموا ديار الإسلام سبعمائة عام أحسن منهم من أحسن، وأساء آخراً منهم من أساء، ولكنهم على العموم كانوا دولة مسلمة، وكانوا شعباً مسلماً، إلى أن سلطت عليهم اليهود والمجوسية فأعادتهم للكفر، وهم الآن بدءوا يعودون للإيمان.
يقول أبو هريرة: (تلا رسول الله هذه الآية: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] فقالوا: يا رسول الله! من هؤلاء القوم الذين إن تولينا استبدلهم الله بنا؟! وكان بجانبه سلمان الفارسي فوضع يده على كتف سلمان وقال عليه الصلاة والسلام: لو كان الدين في الثريا لناله رجال من فارس).
وهكذا أصبحت فارس أرض إسلام وشعباً مسلماً، فكان منهم رجال الحديث والتفسير، فأعظم إمام في التفسير الرجل الفارسي الأصل محمد بن جرير الطبري، فهو يعتبر أبا المفسرين، وكتابه مرجع المفسرين، وأعظم محدث جمع الصحيح الإمام البخاري، وهو فارسي، وأعظم إمام في لغة العرب جمع أطرافها، وكان كتابه الإمام والمرجع في لغة العرب هو سيبويه، وهم محسوبون بالآلاف ليس بالمئات ولا بالعشرات.
ونكتفي بهذا ونكون قد ختمنا سورة القتال سورة محمد صلى الله عليه وسلم.(351/8)
تفسير سورة الحجرات [1 - 3]
من عظيم فضل الله على المؤمنين أنه أنزل إليهم كتاباً مبيناً يعلمهم الأحكام ويبين لهم الآداب، ومن ذلك الأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز للمؤمن أن يتقدم بين يدي الله ورسوله، ولا أن يرفع صوته على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم.(352/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)(352/2)
معنى قوله تعالى: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].
هذه سورة الحجرات، والحجرات: جمع حجرة، ويراد بها حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت في السورة، وسميت بها من باب تسمية الكل باسم البعض، كسائر سور القرآن الكريم.
والسورة مدنية حيث نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وهي تشتمل على ثماني عشرة آية، وهي في الآداب والأخلاق، ومنها الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعظيمه واحترامه، وتعليم المسلمين كيف يكلمونه، وكيف يجالسونه، وكيف ينادونه، وألا يرفعوا أصواتهم بحضرته، وألا يرفعوا أصواتهم على صوته، وأن يغضوا أصواتهم بمحضره، وألا ينادوه وهو في داخل بيته، وإذا نادوه لا ينادونه كما ينادي الناس بعضهم بعضاً، ففعل ذلك جرائم وكبائر قد توصل إلى إحباط الأعمال.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1].
وإذا سمعت: (يا أيها الذين آمنوا) فأعرها أذنك، واستعد لسماع الحكمة والحلال والحرام والآداب من الله جل جلاله.
ونجد أنه إذا خاطب الله المؤمنين بفروع الشريعة قال: (يا أيها الذين آمنوا)، وإذا خاطب بأصول الشريعة، وبالدعوة إلى التوحيد، وإلى ترك الأوثان والأصنام والأوثان والشركاء قال: ((يا أيها الناس)).
والخطاب في هذه السورة هو للمؤمنين في بيان كيف يتأدبون، وكيف يكون سلوكهم وعشرتهم ومجالستهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]، وقرئ في السبع: (لا تَقَدَّموا بين يدي الله ورسوله) بحذف إحدى التائين، أي: لا تتقدموا بين يدي الله ورسوله، والمؤدى واحد.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]، أي: لا تسبقوا ربكم ولا تسبقوا نبيكم في الحكم بالحلال والحرام، فلا يليق لكم أن تجمعوا وتشرعوا من أنفسكم أحكاماً ما أنزل الله بها من سلطان، فلا تسبقوا كتاب ربكم، ولا تلغوا أحكامه وتجعلونه وراء ظهوركم معرضين عنه، فلا تخرجوا عن أمر الله، ولا تتقدموا أمر الله، ولا تقدموا شيئاً بين يدي كتاب ربكم وسنة نبيكم، ففاعل ذلك فاعل حراماً، ومرتكب كبيرة قد تصل به إلى الكفر والردة.(352/3)
ذكر سبب نزول الآية
وقد ذكر في سبب نزول الآية أسباباً، وجمعيها يمكن أن تكون صحيحة وتفسر الآية بها، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فذكر من الأسباب: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان بحضرته أبو بكر وعمر، فأراد أن يؤمر أميراً على فئة أو على قرية، فقال له أبو بكر: أمر - يا رسول الله - ابن معبد، فقال له عمر: لا، بل أمر ابن حابس، فقال أبو بكر: إنما تريد مخالفتي، فقال عمر: لا أريد مخالفتك، وارتفعت أصواتهما حتى كاد الخيران أبو بكر وعمر يهلكان؛ لأنهما رفعا أصواتهما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبقا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتراح في تعيين الأمير قبل أن يُسألا أو يُستشارا أو يُطلب ذلك منهما.
وقيل: إن السبب هو أن قوماً ذبحوا مناحرهم ومناسكهم قبل أن ينحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهوا عن ذلك، وأُكِّد هذا القول بأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في يوم النحر: (أول ما نبدأ به يومنا أن نصلي ثم نذبح بعد ذلك نسيكتنا)، فمن ذبح قبل ذلك لم يقدم إلا لحماً، ولم يضح، ما لم تصل صلاة العيد ويخطب لها الخطبتان.
وقيل: كان السبب في ذلك: أن جماعة من الأصحاب أخذوا يقولون: لو نزلت آية في كذا، لو نزلت سورة في كذا، وأخذوا يقترحون على ربهم بأن ينزل في هذا آية، وفي هذه سورة فمنعوا من ذلك.(352/4)
العموم في الأدب الوارد في الآية الكريمة
وأياً كان السبب فالله جل جلاله أدب المؤمنين بألاَّ يتقدموا بين يدي ربهم، وبين يدي نبيهم، أي: أن يتقدموا أمام كتاب الله بالقول بما لم ينزل الله به من سلطان، وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لم ينطق ولم يتكلم به، فذلك ما لا يجوز.
فالمعنى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، والتزموا الطاعة في كل أمر وفي كل نهي، وفي كل حلال وحرام، وفي كل أدب، و (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّه) قولاً، ولا عملاً، ولا اقتراحاً، ولا رأياً.
فالله جل جلاله هو خالق الخلق وأعلم بما يصلحهم في الدنيا والآخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم المتكلم عن الله، والآمر بأمر الله، والناهي بنهي الله، فطاعته طاعة الله، فمن خرج عنها خرج عن الله وطاعته، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله.
ولا تقدموا بين يدي رسول الله، فلا تسبقوه بالقول، ولا تسبقوه بالعمل في حكم من الأحكام، وفي أي قسم من الشرائع، بل خذوا ذلك من كتاب الله وكونوا له ممتثلين، وخذوا ذلك من كلام رسول الله وكونوا له مطيعين.(352/5)
معنى قوله تعالى: (واتقوا الله إن الله سميع عليم)
قوله تعالى: (واتقوا الله) أي: اتقوا الله في المخالفة، فلا تخالفوا ربكم، ولا تخالفوا نبيكم، واتقوا الله في أن تفتاتوا على شريعتكم فتزيدوا فيها أو تنقصوا منها، أو تتركوها إلى شريعة الشيطان وإلى دين الشيطان، كما يفعل اليوم دول المسلمين قاطبة، إلا ما رحم ربك، وقليل ما هم.
تركوا كتاب الله وراءهم ظهرياً، وتركوا سنة رسول الله وراءهم ظهرياً، والتزموا بقوانين اليهود والنصارى وآدابهم، وأعرضوا عن الله وكتاب الله، وأعرض الله عنهم وسلط عليهم أعداءهم من كل ملة وكل دين.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]، سميع لأقوالكم، عليم بأفعالكم، فيحاسب كلاً على قوله أو على عمله بحسبه، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً.(352/6)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي)(352/7)
معنى قوله تعالى: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات:2].
هذا الأدب الثاني مع رسول الله، في بيان كيف يكلمه المسلم حياً، وكيف يتكلم عند ضريحه، وتلاوة سنته، ومدارسة الكتاب المنزل عليه.
فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:2] الخطاب للمؤمنين؛ لأنهم الملتزمون - بعد الشهادتين - بكل شعيرة من الشعائر، وكل حكم من أحكام الإسلام.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2]، أي: إذا تكلمتم معه وتحدثتم فإياكم أن ترفعوا أصواتكم حتى تعلو على صوته، ويحتاج لسماع كلامكم إلى انتهاء ضجيجكم وانتهاء لغطكم، بل إذا جلستم في مجلسه وتحدثتم إليه فغضوا أصواتكم، وتكلموا وأنتم غاضون أصواتكم بحيث يعلو صوت النبي أصواتكم.(352/8)
معنى قوله تعالى: (ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض)
يقول تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} [الحجرات:2].
أي: إذا تكلمتم معه فلا يكن قولكم وكلامكم معه جهراً مرتفعاً بلغط وصياح، كشأن غير المؤدبين من أجلاف البدو والأعراب، فرسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يوقر، ويجب أن يعزر، ويجب أن يحترم، ومن ذلك غض أصواتكم بمحضره وعند مكالمته وعند الحديث معه.
قال تعالى: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات:2]، أي: لا تحدثوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تكلمونه كما يكلم بعضكم بعضاً بأصوات مرتفعة، فإنه إن جاز هذا فيما بينكم فلا يجوز بحال أن يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]، فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته، ولا تنادوه: (يا محمد)، ولا تنادوه: (يا أبا القاسم)، بل نادوه: (يا رسول الله)، (يا نبي الله)، وإذا ذكر فصلوا عليه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي).
وقال ربنا جل جلاله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
فإن كان الله يصلي على عبده، وملائكته تصلي على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فمن باب أولى أن يصلي عليه المسلمون وأن يسلموا تسليماً، أي: صلاةً كثيرة متتابعة متوالية دائمة عندما يذكر، ويستحب ذلك بالتأكيد في يوم الجمعة منذ طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والاستحباب قائم في جميع الأوقات، وفي تحياتنا عندما نجلس للتحيات في الجلسة الأولى والجلسة الثانية وجميع جلسات الصلوات يكون من جملة التحية السلام على رسول الله بقولنا: (السلام عليك - أيها النبي - ورحمة الله تعالى وبركاته).
فقوله تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} [الحجرات:2]، أي: لا يكن قولكم بمحضره بصوت مرتفع، فهذا من أخلاق المنافقين، والكافرين، والأجلاف من الأعراب الذين هم جديرون بأن لا تمتلئ قلوبهم بالإيمان، وأركانهم بالأعمال.(352/9)
معنى قوله تعالى: (أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون)
وقوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، أي: خشية أن تحبط الأعمال، فهي كبيرة من الكبائر يوشك مرتكبها أن يرتد ويكفر، فلا يبقى له شيءٌ من الأعمال، بل تذهب هباء منثوراً كأنه لم يعبد الله يوماً ولم يصل ولم يحج ولم يزك؛ لقلة أدبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، أي: قد يكون ذلك بحيث لا تشعرون ولا تحسون ولا تدركون، فذلك عند الله عظيم، فهذا أبو بكر وعمر سيدا الناس بعد الأنبياء عندما رفعا أصواتهما بمحضر رسول الله أنبِّا وأنذرا بهذه الآيات الكريمة.
ولذلك يروى أن عمر يوماً سمع شخصين يتكلمان بأصوات مرتفعة عند قبر النبي عليه الصلاة والسلام، فأتى بهما، فقال لهما: من أين أنتما؟ قالا: من الطائف، فقال لهما: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً، ألم تعلما أن الأدب مع رسول الله حياً كالأدب معه ميتاً؟! فالمسلم بصفة عامة قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حرمة المسلم ميتاً كحرمته حياً)، فكيف بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهذا أمر أجمعوا عليه، وهو أنه لا يجوز رفع الأصوات في مسجد رسول الله وعند مرقد رسول الله، وعند قراءة حديث رسول الله، وعند تفسير كتاب الله المنزل عليه، وإن رفع المعلم صوته فليس ذلك ليرفع صوته على رسول الله، ولكن ليسمع الحاضرين، وليسمع المنصتين، وليسمع المتعلمين حيث لا طريقة لسماعه إلا أن يرفع صوته، وهو بذلك نائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (العلماء ورثة الأنبياء).
وقد نص علماؤنا على عدم رفع الأصوات بمحضر رسول الله حياً وميتاً، وعدم رفعها بمحضر خلفائه العادلين، وخلفائه الوارثين العلماء، فرفع الأصوات على أصواتهم وبمحضرهم يعد رفع صوت على صوت رسول الله، وقلة أدب مع رسول الله؛ لأن الخليفة له حرمة ومقام من حرمة من خلفه وقام مقامه وورثه في علمه وفي دعوته.
قوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، وفي الحديث النبوي: (إن أحدكم ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً فيدخل بها الجنة، وإن أحدكم ليتكلم الكلمة لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في قعر جهنم سبعين خريفاً) إلى أن يصل إلى قعر جهنم نتيجة القالة التي قالها وفيها كفر أو قلة أدب مع الله ومع رسول الله ومع المقدسات المحترمات من دين الله وشريعة الله وكتاب الله وحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(352/10)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله)
قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3].
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات:3]، غض الصوت هو خفضه، يقال: غض من صوته، أي: لم يرفعه، وتكلم بأدب، وتكلم بصوت منخفض.
فبعد نزول هذه الآية أخذ الصحابة لا يتكلمون بمحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا ابتدأهم، فإذا أجابوه كان كلامهم في غاية ما يكون من خفض الصوت مع غض البصر والأدب التام، كما وصفوا بأنه كان جلوسهم بين يدي رسول الله كالميت بين يدي الغاسل، وكمن على رأسه طير يخاف أن يطير، فهو على غاية ما يكون من الأدب والسكون.(352/11)
معنى قوله تعالى: (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى)
وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3] أي: أولئك الغاضون أصواتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، وعند تلاوة الكتاب المنزل عليه والسنة التي فسر بها كتاب الله، وعند خلفائه العادلين وورثته من العلماء العاملين، أولئك امتحن الله قلوبهم للتقوى، أي: أخلصها للتقوى.
يقال: امتحن الذهب والحديد ليعلم الزائف من الأصيل، فهؤلاء الذين تأدبوا مع رسول الله أخلص الله قلوبهم للتقوى، فأصبحوا من المؤمنين المتقين، والمؤمنين الصالحين، والمؤمنين المتأدبين، والمؤمنين العاملين.
وذكر القلوب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات: (التقوى هاهنا) وأشار إلى صدره، أي: الإيمان التصديق، بأن يصدق القلب اللسان، وتطبق ذلك الأركان، فإذا طابق الإيمان القلبي الإسلام اللساني والعمل الأركاني فذلك الإسلام، ولذلك يكثر الله في كتابه من قوله: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فالإيمان بالقلب، وعمل الصالحات بالأركان هو الإسلام علانية.
قوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3]، فالله تعالى غفر ذنوبهم وأعظم أجورهم، ورفع درجاتهم، وكفر سيئاتهم، وجعلهم في عليين مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.(352/12)
ذكر خبر ثابت بن قيس رضي الله عنه
وقد كان ثابت بن قيس بن شماس جهوري الصوت، وهو من الصحابة الأنصار، فعندما نزلت هذه الآية قعد في بيته يبكي، وأغلق عليه بابه، وقال: لن أخرج حتى يستغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أظن هذه الآية نزلت إلا في، فإني كنت إذا تحدثت بمحضر رسول الله أرفع صوتي على صوته.
ومضت أيام دون أن يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فافتقده فسأل عنه فقال: (هل ثابت يشتكي؟)، أي: أمريض هو؟ قالوا: لا، وذكر جار له أنه ما سمعه يشتكي، فذهب إليه يقول له: إن رسول الله يسأل عنك، فجاء إلى رسول الله يبكي وقال: يا رسول الله! قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، فما أظن هذه الآية نزلت إلا في فأنا معك أرفع صوتي على صوتك، فقد حبط عملي! فأخبره رسول الله بأنه ليس الأمر بالنسبة له كذلك، وأنه سيعيش حميداً، ويموت شهيداً، ويدخل الجنة، ففرح ثابت ببشرى الله ورسوله.
وانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وقام مسيلمة الكذاب بدعواه النبوة، وقد ادعاها في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصدى له خليفته الأول أبو بكر، وأرسل الجيوش من المدينة تحت قيادة سيف الله المسلول خالد بن الوليد، وإذا بـ ثابت بن قيس يستشهد في المعركة، فكان كما قال عليه الصلاة والسلام: (وتموت شهيداً)، فقد مات شهيداً لإعلاء كلمة الله ولمحاربة أعداء الله وللدفاع عن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان.
وقد حدث بعد موته حادثة غريبة لم يكن لها نظير في الأحكام، حيث رآه رجل في المنام فقال له ثابت: يا فلان! إن فلاناً في آخر المعسكر أخذ درعي، وهي في مكان كذا عند فرس ربطها بحبل طويل وهي تدور مع هذا الحبل، فقل لـ خالد يأخذ تلك الدرع ويبيعها ويتصدق بها، وقل لـ أبي بكر: إن غلماني أحرار وعتقاء لله جل جلاله، فجاء هذا الرجل وبلغ خالداً، فبحث عن الرجل الذي وصفه ثابت فوجده كما وصفه، ووجد الدرع تحت البرمة، فأخذها، ثم انتهت المعركة بنصر المسلمين واستشهاد كثير منهم، وعادوا إلى المدينة منتصرين فقال خالد لـ أبي بكر: إن ثابتاً استشهد، وقد أوصى بعد موته بأن يعتق عبيده وبأن تباع الدرع، وقد أخذها رجل ممن كان في المعركة، ووجدتها كذلك، فأمضى أبو بكر وصيته وأعتق العبيد عنه، وهذه أول حادثة في تاريخ الإسلام وأحكام الإسلام تنفذ فيها وصية ميت.(352/13)
تفسير سورة الحجرات [4 - 7]
لقد عظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن وأمر بتعظيمه، وألا نجعل دعاءه كدعاء بعضنا، فليس من الأدب مناداته بالاسم المجرد (محمد) دون ذكر النبوة والرسالة، وليس من توقيره ذكره دون الصلاة والسلام عليه فعل الأجلاف من الأعراب، وليس من تبجيله إيذاؤه بالنداء من وراء الحجرات.
ومن آداب المسلم أنه إذا جاءه فاسق بنبأ أن يتثبت من ذلك النبأ ولا يرتب عليه الأحكام قبل التثبت فيندم.(353/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:4 - 5].
هذه آداب أخر مضافة إلى عدم التقدم بين يدي الله ورسوله، وعدم رفع الأصوات على رسول الله حياً وميتاً.
وهاتان الآيتان كان سبب نزولهما: أن أعراباً من بني تميم جاءوا وهم لا يزالون على دينهم الوثني وقد أسر منهم أسرى، فوصلوا إلى المسجد النبوي والنبي صلى الله عليه وسلم قائل، إذ قد جاء في الآثار النبوية: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل).
فجاءوا فسألوا عنه، فعلموا أنه في إحدى حجرات نسائه، فأخذوا يصيحون: يا محمد، يا محمد، إلى أن أيقظوه، فخرج إليهم، فقال له عيينة بن حصن: يا محمد! إن مدحنا زين وإن ذمنا شين، فقال: (ذاك الله الذي مدحه زين وذمه شين).
قال: جئنا نفاخرك بشعرائنا وخطبائنا، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: لم آت للشعر ولم آت للمفاخرة، ولكن هاتوا ما عندكم، فخطب خطيبهم وتربع في القول، فالتفت النبي عليه الصلاة والسلام إلى أحد خطبائه - وهو ثابت بن قيس الأنصاري - فخطب، فكان خطيب رسول الله البليغ الفصيح الذي إذا خطب رفع صوته هز الأركان، وكاد يصم الآذان، وفعل ذلك بأمر رسول الله.
ثم عادوا فأتوا بشاعرهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ حسان: أجبهم، فأجابهم حسان رضي الله عنه، فإذا بـ عيينة يقول: والله إن خطيبهم لأخطب من خطيبنا، وإن شاعرهم لأشعر من شاعرنا، وإن هذا الرجل لمأتي.
أي: محظوظ.
وقال قوم: سبب نزول الآية أن قوماً جاءوا وقد سمعوا بأن قرشياً هاشمياً يدعي النبوة، فقال قوم منهم: يطلب ملكاً، وقال آخرون: هو نبي الله ورسول الله.
فتداعوا وقالوا: هيا بنا نذهب إلى هذا الرجل، فإن كان نبياً فسنكون أسعد الناس به، وإن كان ملكاً فلعلنا نعيش تحت جناحه وتحت سلطانه فنستفيد منه، فجاءوا يصيحون: يا محمد يا محمد، فنزل قوله تعالى مؤدباً لهم ومقرعاً لهم ومؤدباً لعموم المسلمين الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم ومن سيأتي بعد إلى عصرنا بأنه لا ينادى رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه، ولا يرفع الصوت عليه في حياته وفي مماته كذلك، فلا يقال: يا محمد، أو: محمد من غير ذكر الرسالة والنبوة والصلاة، كرسول الله، ونبي الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فنزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4].
أي: إن هؤلاء البدو الأجلاف الأعراب غير مؤدبين ولا مهذبين، هؤلاء الذين ينادونك برفع أصواتهم وبتسميتك مجرداً عن الرسالة والنبوة من وراء الحجرات ومن وراء حيطان بيتك أكثرهم لا يعقلون، أي: الذين نادوا والذين أقروا هذا النداء، أما القلة التي استنكرت ذلك وكانت مهذبة ولو لم تكن مسلمة فليست كذلك.(353/2)
تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم)
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:5].
أي: ولو أن هؤلاء صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم، فلو انتظروا إلى أن تقوم من قيلولتك وتخرج إليهم فيكلموك لكان ذلك خيراً لهم في أدبهم وخيراً لهم في معاملتهم وفيما جاءوا من أجله، فقد قيل: إن قبيلة أُسِر بعض رجالها من قبل سرية إسلامية، فجاء أهلوهم يطلبون فك أسر أولئك الذين أسروا، فقال الله جل جلاله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات:5]، فلو جاءوا بأدب للنبي صلى الله عليه وسلم لنفذ رغبتهم وأطلق سراح جميع أسراهم؛ فهذا بالنسبة لما جاءوا من أجله.
أما بالنسبة للآخرة فذلك أقرب لأن يكونوا مؤمنين ولأن يكونوا مسلمين، ولعل ذلك يكون خيراً وبركة، فيهدهم الله ويشرح صدروهم للإسلام.
قال تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:5]، غفر الله هذه الزلة لأول مرة، ورحمهم لعلهم يؤمنون ولعلهم يسلمون، وستكون الكبيرة وسيكون إحباط الأعمال بعد هذا الأمر الإلهي والتأديب الإلهي، وبعد أن علموا ما يحل ويحرم، أما قبل ذلك فكانوا على أخلاقهم، وليس كل العرب كذلك، بل البدو فقط.
وذلك الفعل كان مغايراً لما كان عليه الصحابة تجاه النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما قدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى مكة عام الحديبية يريد عمرة وصده كفار مكة أخذت الرسل تتوارد بينه وبين أهل مكة، فقال بعض رسل أهل مكة: رأينا الملوك على الأسرة، ورأينا قيصر على عرشه، وكسرى في ديوانه، وما رأينا قوماً يجلون كبيرهم ويعظمونه كإجلال المؤمنين لمحمد صلى الله عليه وسلم، لا يرفعون رءوسهم في حضرته، ولا يكلمونه إلا سراً، ولا يتكلم بكلام إلا ويسمعون له وكأنما على رءوسهم الطير، هكذا كان أدبهم، وكان المهاجرون والأنصار أهل حضارة وأهل مدنية.(353/3)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)(353/4)
سبب نزول الآية
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
هذه الآية كذلك لها سبب في نزولها، وسبب نزولها: ما ذكر في شأن الوليد بن عقبة بن أبي معيط القرشي، وهو ابن عقبة بن أبي معيط الكافر عدو الله والرسول، المؤذي للرسول صلى الله عليه وسلم، المأخوذ أسيراً في غزوة بدر، والمقتول صبراً، وعندما جيء به ليقتل قال: يا محمد! من للصبية؟ يريد أن يجعله يرق لأولاده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النار، وكان الوليد من أولاده، والآية نزلت بسببه.
وذلك أن بني المصطلق كانوا قد أسلموا، فقالوا لرسول الله: ابعث لنا عند تمام الحول رسولك لنعطيه زكاة أموالنا.
وفي الميعاد لم يأت رسوله؛ إذ إن الوليد بن عقبة لما بلغ نصف الطريق خاف على نفسه فرجع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسله لأخذ الزكاة، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: منعوا الزكاة وأرادوا قتلي.
فلما انتظر أولئك مقدم رسول رسول الله فلم يأت خافوا وقالوا: لم يأتنا رسول رسول الله إلا لأن به سخطاً علينا، فذهب وفد منهم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإذا بجيش رسول الله - وعلى رأسه خالد - يأتي لقتالهم بعد أن أمر بالتبين والانتظار؛ ليعلم حقيقة دعوى الوليد وإذا بـ خالد يقف في باب محلتهم فيسمع أذان المغرب ويسمع أذان العشاء، والأذان وهو شعار المسلمين، وهو العلامة على أن أهل القرية مسلمون.
فلما رأى القوم الجيش خافوا، فقال لهم خالد: بلغنا أنكم ارتددتم وأنكم أردتم قتل رسول رسول الله ومنعتم إعطاء زكاتكم لرسول رسول الله! فأنكروا ذلك، فنزلت الآية.(353/5)
المعنى الإجمالي للآية
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات:6]، أي: بخبر: {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، أي: تحققوا في الأمر ليبين ويظهر الحق من الباطل، والصدق من الكذب.
{أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات:6]، كي لا تصيبوا ولا تؤذوا قوماً بظلم: {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
فعندما يظهر لكم الحق الصراح وكذب هذا الفاسق تكونون قد بادرتم إلى الجهالة، فتصبحون نادمين، فلا تستعجلوا لمجرد سماع القول، بل تريثوا وانتظروا ليظهر الحق من الباطل، ومن هنا كان يقول عليه الصلاة والسلام: (التأني من الرحمن، والعجلة من الشيطان).
وقوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، أي: لا تبادروا بالعقوبة حتى يتبين لكم صدق هذا الفاسق من كذبه، وكأنه بعد الروية تَحُل العقوبة بمن يستحقها، والإحسان بمن يستحقه، ولا خير في العجلة، فالعجلة من الشيطان.
ولو أن بني المصطلق قتلوا وأخذت أموالهم لندم بعد ذلك الأصحاب، ولندم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم سيكونون قد قتلوا إخوانهم المسلمين وصادروا أموالهم وهي عليهم حرام، وفي الحديث: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه).
فأنزل الله هذه الآية التي بقيت دستوراً وحكماً عاماً شاملاً في كل من جاء بنبأ في العصر النبوي وبعده إلى يوم القيامة، سواء أكان ذلك في الأمور الخاصة أم في الأمور العامة، كأن يأتيك فاسق فينقل لك شيئاً باطلاً عن زوجتك أو عن ولدك أو عن صديقك أو عن شريكك، وكأن يأتي جاسوس من المخابرات فيكتب عن زيد أنه قال كذا وفعل كذا وصنع كذا قبل أن يتبين الحق من الباطل، والصدق من الكذب، ويأخذ المال على هذا الكذب.
وهنا ما حرمه الله وأكد عليه في هذه الآية، حيث حكم على الكاذب في الخبر بأنه فاسق.(353/6)
دلالة الآية على النظر في حال ناقل الرواية وغيرها
وهذه الآية أصل الجرح والتعديل عند أهل الحديث، فهم لا يقبلون رواية المجهول؛ إذ قد يكون المجهول لم يخلق بعد، ولا وجود له، ولكن الراوي عنه اخترعه ليصل السند ويقال عنه: هو صحيح ومتصل، وذاك من فسقه ومن ضلاله ومن كذبه على الله ورسوله.
أو يكون ذلك المجهول معلوم الوجود، ولكن لا يعلم أصادق هو أم كاذب، فإذا وجد في سند الحديث مجهول لم يقبل، ويكون هو سبب الطعن في الحديث؛ لأن هذا المجهول قد يكون فاسقاً، وقد حرم الله علينا قبول خبر فاسق، سواء في الشهادة أو في الرواية أو في الفتوى أو في القضاء، فالفاسق على أي حال مرفوض الرواية النبأ بأي حال من الأحوال.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات:6]، أي: خوفاً من أن تصيبوا قوماً فتقتلوا المظلوم والبريء، وتقاتلوا المؤمن، وتغنموا أموال المسلمين.
{فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، فيصير العمل بعد ذلك ندماً، وهيهات هيهات أن يفيد الندم بعد وقوع الزلل، فلذلك كان عليه الصلاة والسلام يؤدب المؤمنين ويقول: (التأني من الرحمن، والعجلة من الشيطان).
فلا يعجل من بلغه خبر - خاصة إن كان عن حميم أو قريب - لمجرد قوله ذلك، فكم حدث في التاريخ القديم والحديث نتيجة أنباء الفسقة الكاذبين من قتل بظلم، وسجن بظلم، وأخذ مال بظلم، وحصل الندم، ولكن بعد فوات الأوان، فإن كان الأذى موتاً فلا حيلة في إحيائه مرة أخرى، وإن كان ضرباً وإيذاءً فلا حيلة في زوال ذلك الضرب وقد أوذي المرء وأهين.
وهذه الآية ستبقى دستوراً للأخبار والمعاملات للرواة وللمحدثين ولأهل العلم وللحكومات وللقضاة وللمتتبعين للأخبار، بحيث يستوثقون من أي خبر جاء، خاصة إذا كان المخبر يأخذ مالاً ويأخذ راتباً على هذه الأخبار، فهو عندما لا يجد خبراً ولا يسمع نبأ يذهب ويكذب ويخترع ليحوز المال، فهو كاذب، ولا يفرح لمثل هذا، فانتقام الله منه يكون عظيماً في الدنيا قبل الآخرة.(353/7)
تفسير قوله تعالى: (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم)
قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7].
يقول الله جل جلاله لمن عاصر رسول الله من الأنصار والمهاجرين وغيرهم: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات:7]، وهم يعلمون أن رسول الله فيهم، ولكن هذه الجملة قيلت تمهيداً لما سيأتي بعدها، وهو قوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات:7]، فيأتي الكثير من الأصحاب فيقول كل منهم: أَمِّر فلاناً، واعزل فلاناً، وقاتل فلاناً، وأعط فلاناً، وامنع فلاناً، وقد يستشيرهم وإذا بهم يشيرون بالكثير من الآراء المتضاربة.
وقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يستشير أصحابه؛ لقول الله له: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، وليست الاستشارة ملزمة، وقد يكثرون عليه من الإشارات: افعل كذا، اصنع كذا، وكان البعض ممن لا يعمل بمشورتهم ولا يقبل رأيهم يغضبون وينزعجون ويقولون: قبل رأي فلان ورفض رأي فلان، وفلان لا يزال شاباً صغيراً وهذا كان زعيماً في الجاهلية وكبير السن، فهو أعقل وأدرى وأعلم.
قوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات:7]، فلو أطاعهم رسول الله في كثير من إشاراتهم ومطالبهم لعنتوا، أي: لوجدوا مشقة وإثماً وعظيمة من العظائم، وذلك بما سيكون في اقتراحاتهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم، والله جل جلاله يرعاه مهما أكثروا عليه من الإشارة، فلا يفعل إلا ما أوحي إليه به وألهمه الله عمله ورآه الحق والصواب: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
فقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات:7]، معناه أن الآراء والأوامر والإشارات لو أطاعكم فيها حسب رغبتكم لانقلب ذلك عليكم مشقة وإثماً وبلاءً ومحنة، وهو أعلم بما يصلحكم في دنياكم وأخراكم، إذ هو معصوم ومعه تأييد إلهي، فلا يليق أن تكثروا عليه ولا أن تقترحوا عليه، فإذا استشاركم فكلمة أو كلمتان، فإن قبل ذلك فذاك، وإلا فدعوا الأمر له مفوضين.(353/8)
تفسير سورة الحجرات [7 - 10]
من آداب المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطيعوه ويلتزموا ما اختاره، ويذكروا نعم الله الذي حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر.
ومن آداب المسلمين فيما بينهم أن يسعوا إلى الإصلاح بين المتنازعين والمتقاتلين، وأن يقفوا في وجوه البغاة حتى يعودوا إلى الحق وإلى أمر الله.(354/1)
تفسير قوله تعالى: (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم)
قال الله ربنا جل جلاله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7 - 8].
في هذه السورة الكريمة يعلم الله جل جلاله عباده المؤمنين الأدب مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيعلمهم كيف يجالسونه، وكيف يحدثونه، وكيف ينصتون إليه، وكيف يكون بعضهم مع بعض في الأخلاق.
يقول تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ)، وهم يعلمون ذلك، ولكن الله تعالى يذكرهم بهذا ليبني عليه آداباً وليبني عليه أخلاقاً ليتلزموها ويعملوا بها، فقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ)، أي وقروه، وعزروه، وعظموه، وأنصتوا إليه، وأطيعوا قوله، واقتدوا بفعله، والتزموا طاعته، ولا تقدموا عليه، ولا تكثروا عليه الإشارة والقول.
قال تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات:7]، أي: لو يطيعكم في كثير مما اقترحتم عليه؛ لكان في ذلك عنتكم ومشقتكم وإثمكم وعذابكم، فالله جل جلاله جعل النبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم فهو يختار لهم الأكرم والأصلح، واستشارته لهم إنما هي تطييب لنفوسهم وامتثال لأمر الله له: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159].
فقوله: (لَعَنِتُّمْ) مأخوذ من العنت، وهو المشقة والإثم والعذاب، فإذا استشاركم فأشيروا، فإن قبل فذاك، وإلا فما عليكم إلا السمع والطاعة.
يقول تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7].
أي: يا أيها الذين آمنوا! إن الله هو الذي حبب إليكم الإيمان، فحملكم على حبه والتزامه، والعمل به، وكونكم مؤمنين ومسلمين هو من تحبيب الله ذلك لكم.
وقوله تعالى: (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) جعله زيناً مقبولاً، فالواحد منا عندما يقول: (لا إله إلا الله) فيلتزم بها قولاً وعملاً يشعر بأن الله جل جلاله أكرمه بهذا الإيمان، فحببه إليه، وزينه في قلبه، وجعله يعتقد أن كل ما على وجه الأرض من أديان وملل سماوية نسخت، أو أرضية اخترعت وكانت من الشيطان، أشرف منها الإيمان بالله، والإيمان بمحمد رسول الله، فهو أشرف ما يعيش به، والذي أكرمه بذلك وحببه إليه وزينه في قلبه هو الله جل جلاله.
قوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]، أي: كره إليكم الكبائر، وكره إليكم العظائم، وجميع أنواع المعاصي.
فالذين أكرمهم الله فحبب إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، هم الذين كره الله إليهم الكفر فاجتنبوه وتركوه، وكره إليهم الفسوق، وهو الخروج عن أمر الله، وعن طاعة الله بأنواع الكبائر والعظائم.
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] أي: الذين أرشدهم الله وأصلحهم فأصبحوا ذوي رشاد، وذوي صلاح، وذوي هداية.(354/2)
تفسير قوله تعالى: (فضلاً من الله ونعمة)
قال تعالى: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:8].
فليس ذلك من قبل أنفسهم، ولكن ذلك فضل من الله ونعمة، فتحبيب الإيمان وتكريه الكفر والعصيان فضل من الله، ونعمة منه تفضل بها على المؤمنين وأنعم بها على المؤمنين.
قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:8]، عليم بمن يصلحه ذلك، حكيم في أقواله، حكيم في أفعاله، حكيم في قدره.
والحكيم: الذي يضع الأمور في مواضعها، فالله جل جلاله هو المتفضل على المؤمن حيث حبب إليه الإيمان وجعله مؤمناً، وأبعده عن الكفر وجعله عدواً للكفر والمعاصي، فذلك من فضل الله، وذلك من نعمة الله، والله هو العليم بعباده وما يصلحهم، والحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها.(354/3)
تفسير قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما)
يقول تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9].
إن المؤمنين إخوة، فكل من قال: (لا إله إلا الله) هو أقرب إليك من أخيك لأبيك وأمك إن لم يكن مؤمناً، فالله ربط بين قلوب المؤمنين فجعلهم إخوة، وأعطاهم من الحقوق ما للإخوة من مواساة وإكرام وإعانة، ومن أجل ذلك قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9].
أي: إن فئتان وجماعتان من المؤمنين اقتتلوا فقاتلت إحداهما الأخرى وطغت عليها فأصلحوا بينهما، ولا تكونوا مع إحداهما على الأخرى، ولا تتحزبوا بباطل، ولا تناصروا على الفساد وقتل المؤمنين، بل كل واحد فيهما أخ لكم وقريب لكم، فأصلحوا بين الفئتين والطائفتين اللتين اقتتلا.(354/4)
معنى قوله تعالى: (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي)
قال تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9].
فإن أبت إحدى الفئتين وإحدى الطائفتين الصلح والخضوع للحق، فقاتلوها، حتى تجبروها على الاستسلام وعلى الخضوع للحق.
فقوله تعالى: (فَإِنْ بَغَتْ) أي: ظلمت وانتقلت من الصلح إلى البغي والفساد وظلم المسلمين.
وقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} [الحجرات:9]، أي: بغت طائفة على طائفة {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]، أي: قاتلوا الفئة الباغية الظالمة المعتدية، ولا ينتهي قتالكم لها وحربكم عليها حتى تخضع لأمر الله.
فقوله تعالى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] أي: حتى تعود إلى الحق وتحقيق الأخوة، فالأخ لا يظلم أخاه ولا يقاتله.
وفي الحديث: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه).
وفي الحديث: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله، التقوى هاهنا)، أي: الإسلام علانية، والإيمان في القلب، كما قال عليه الصلاة والسلام.(354/5)
معنى قوله تعالى: (فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا)
قال تعالى: {فَإِنْ فَاءَتْ} [الحجرات:9]، فإن عادت للحق، ورمت السلاح {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} [الحجرات:9]، أصلحوا بين هاتين الفئتين والطائفتين بالعدل، ولا تنحازوا لجانب على آخر، فأصحاب الطائفتين إخوة لكم برابطة الدين ورابطة الإسلام، فإن فاءت هذه الباغية فاعدلوا بينهما (وَأَقْسِطُوا).
يقال: القسط والإقساط، والإقساط: العدل، والقسط: الظلم، فقوله تعالى: (وَأَقْسِطُوا) أي: اعدلوا عندما تحكمون بين الفئتين بعد رمي السلاح وإلقائه، فانظروا لمعرفة القاتل من المقتول، والضائع ماله، والمنتهكة حرمته، فخذوا له حقه ممن ظلمه.
أي: فليكن إصلاحكم وحكمكم بالعدل الذي لا ظلم فيه، وبالقسط الذي لا حيف فيه.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]، أي: يحب العادلين، وفي الحديث النبوي أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المقسطون على منابر من نور يوم القيامة على يمين عرش الله).
وبالعدل قامت السموات والأرض، وقد قال ربنا جل جلاله في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا).
فالله جل جلاله لا يسئل عما يفعل، وقد حرم الظلم على نفسه وأمر بالعدل، وهو أحكم الحاكمين جل جلاله، فهو يأمر الناس بالعدل وبالقسط وبعدم الظلم.
وبغي الباغي لا يخرجه عن الإيمان، والآية صريحة في ذلك.(354/6)
ذكر من يوصف بالبغي
ولا يوصف بالبغي الكافر، وكثيراً ما يقال: إسرائيل باغية، والحق أنها مرتكبة أعظم من البغي، فإسرائيل كافرة لعينة أخت القردة والخنازير وعبد الطاغوت.
فالبغي إنما يوصف به المسلم، فالمسلم عندما يظلم أخاه ويقاتل أخاه يقال له: باغ، أما الكافر فيقال عنه: كافر أعلن الحرب على الله، وأعلنها على رسول الله، فيقاتل لكفره، ويقاتل لظلمه.
وأحكام البغاة أخذت من حروب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لما بغى عليه أهل الشام، وقاموا في وجهه وأنكروا خلافته، فكانوا بغاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر الذي رواه أكثر من عشرة من الأصحاب: (ويح عمار! تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار).
فالنبي يصف من قتل عماراً بالبغي، وقد قتله أهل الشام المتمردون على علي وخلافة علي، فكانوا البغاة، وكان جيش علي هو الداعي إلى الجنة وأولئك الدعاة إلى النار، وهم البغاة.
وحكم الله في الباغي عندما ينتصر عليه أن لا تؤخذ أمواله غنائم، ولا أولاده إماءً وعبيداً، ولا يجهز على جريح، ولا يلاحق مدبر، وإنما ذاك مع الكفار، فهم الذين تؤخذ أموالهم غنائم وأولادهم أرقاء وعبيداً إن شاء الحاكم والإمام ذلك، ورآه من مصلحة المسلمين، وأما البغاة فإنما يقاتلون ليخضعوا للحق وليخضعوا للعدل، فإن خضعوا واستسلموا رفع السيف عنهم، ثم يطالبون بعد ذلك بما أزهقوا من أرواح واستلبوا من أموال وهتكوا من حرمات، وهنا يقول الله جل جلاله: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} [الحجرات:9]، أي: أصلحوا بين الفئتين المتقاتلتين العائدتين إلى الحق، واحكموا بينهما بالعدل بلا ظلم ولا حيف ولا انحياز لواحدة دون الأخرى.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]، وإذا أحب الله شيئاً أحب فاعله، وإذا كره الله شيئاً كان مرتكبه آثماً، وكان مرتكبه ظالماً.(354/7)
تفسير قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم)
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].
يقول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، فهم وحدهم الإخوة، وليس الكافر لنا بأخ، كما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
فمن تولى اليهود فهو منهم، ومن تولى النصارى فهو منهم، ومن تولى المنافقين فهو منهم، ومن تنكر للمسلمين فأصبح عدواً لهم فذلك قد يخرجه عن جماعة المسلمين، وقد قال الله لهؤلاء: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) يعامل معاملتهم ويقاتل قتالهم، وبنفس ما نعامل به اليهودي والنصراني نعامل المنافق.
يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، وهذا عام، فأصلحوا بينهما إذا ظلم أحدهما الآخر، وإذا طغى أحدهما على أخيه، وإذا حاول أن يغصبه حقه، وإذا حاول أن ينتقص من مقامه، فأصلحوا بينهما، فهما أخوان لكم، فاتقوا الله في هذا، وأصلحوا بين الفئتين المتقاتلتين من المسلمين.
وهذا الأمر من الواجبات التي تركها المسلمون منذ قرون، فقد قوتل مسلمو اليمن ما يزيد على أربع سنوات، والناس يرونهم وكأنهم ليسوا بمسلمين، وقد علموا من الباغي، فلم يصلحوا بين الفئتين، ولم يردعوا الفئة الباغية، وحدث هذا في جميع ديار وأقطار المسلمين، حيث ظلم المسلمون من مسلمين، وانتهكت حرماتهم وقتلوا ظلماً وعدواناً، وأصيبت أموالهم، ولا يزال هذا قائماً في أكثر البلاد التي تنتسب للإسلام، وبقية المسلمين يرون هذا وهم ساكتون عنه، ولا ينصاعون لمثل هذه الآيات الكريمة: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:10] أي: فاتقوا الله في الإصلاح بين الإخوة، والتزام أخوة المسلمين، والسعي في صالحهم، والبعد عن أذاهم وضررهم.
قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]، أي: لعل الله أن يرحمكم إن أنتم عدلتم بين إخوتكم وأصلحتم بين إخوتكم وانتصرتم للحق على الباطل.
و (لعل) في كتاب الله إن جاءت كانت للتحقيق لا للترجي فقط، أي: إن الله يرحمكم إن رحمتم إخوانكم وأخذتم على يدي الباغي وألزمتموه بالعدل والقسطاس، فإن لم تفعلوا فيوشك أن يعمكم الله بعقاب من السماء والأرض، وقد قال نبي الله عليه الصلاة والسلام: (إذا هابت أمتي أن تقول للظالم: يا ظالم؛ فقد تودع منها)، فإذا لم يقل المسلم للظالم: (يا ظالم) وعامله بمقتضى ظلمه وردعه عن الظلم، فإن الله يدع الكل ويتخلى عن الكل ويعاقب الكل.
وكما هو حادث في عصرنا، فالمسلمون يعذبون في جميع بقاع الأرض، في ديار المسلمين، وفي ديار الكافرين، وسائر المسلمين على قوتهم وعلى غناهم وعلى اقتدارهم لا يحركون ساكناً أمامهم وكأنهم ليسوا لهم بإخوة، حتى إذا ابتلي أولئك الذين خذلوا إخوانهم وسلط عليهم أعظم من ذلك فإنهم ينادون: يا ويلتاه! لم ننصر إخواننا فخذلونا عندما احتجنا إلى نصرتهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم، لا يخذله ولا يسلمه ولا يظلمه)، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقيل: يا رسول الله! هذا المظلوم، فكيف ننصر الظالم؟! فقال: أن تحجزه عن ظلمه، فذلك نصر له).
فردع الظالم عن ظلمه هو نصرته؛ لأنك أبعدته عن الباطل وقربته للحق، فعسى أن يئوب إليه وأن يفيء إلى الحق ويقول: رب اغفر لي إساءتي يوم الدين.(354/8)
تفسير سورة الحجرات [11 - 12]
السخرية والاستهزاء والغيبة والنميمة والتجسس أدواء قاتلة وأمراض اجتماعية مزمنة، يسعى القرآن العظيم بتعاليمه السامية إلى اقتلاع هذه الأدواء من جذورها، فهو يحذر منها أشد التحذير، لما فيها من إنهاك للروابط الأخوية وهتك لأستار الله على المسلمين.(355/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم)(355/2)
معنى قوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].
بعد أن ألزمنا الله وأوجب علينا ووجهنا وعلمنا بأن المؤمنين لنا إخوة، بين تعالى أن مقتضى هذه الأخوة ألا يهزأ الأخ بأخيه، ولا يسخر منه، ولا يلزمه، ولا يهمزه، ولا يعيبه، ولا يحتقره، فإن فعل ذلك لم يعتبر أخًا، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11].
والسخرية: الهزء والتحقير، فقوله: (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) أي: فئة من الرجال بفئة أخرى من الرجال.
(عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) أي: عسى أن يكون أولئك الساخرون أحقر من أولئك، فهم الأجدر بأن يهزأ بهم، وأن يسخر بهم، وأولئك الذين سخر منهم أكرم عند الله وأشرف وأتقى من هؤلاء البغاة الظالمين المستهزئين المتنقصين لإخوانهم المسلمين، ولذلك كان الهزء بالمسلم كبيرة من الكبائر، وعظيمة من العظائم، من ارتكبها ولم يتب إلى الله يوشك أن يأخذه الله، ويوشك أن يعود ما هزئ به عليه، ويصبح مكان هزء الناس واحتقارهم.(355/3)
معنى قوله تعالى: (ولا نساء من نساء)
قال تعالى: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11].
المعلوم في اللغة أن كلمة (القوم) تعم الرجال والنساء.
وقال قوم: كلمة (قوم) تخص الرجال دون النساء، واستدلوا بهذه الآية، والصحيح أنها تعم الرجال والنساء، كما في النداءات النبوية بـ (يا قوم) من أنبياء الله السابقين، فالخطاب فيها للرجال والنساء، والنساء شقائق الرجال.
ولكن هنا عندما قال تعالى: (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) دخل الرجال والنساء، ثم خص تعالى النساء بالذكر لأن الهزء يكون من النساء أكثر، فلا يفلت من النساء أحد من الهزء، حيث يهزأن بقصره وبلونه، وبكلامه، وبفقره، فالنساء لا يكدن يجتمعن إلا على الشتم والتنقيص والهزء، وإذا افترقن عادت كل واحدة بالهزء على الأخرى، فالله عمم عندما قال: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11] ثم خص فقال: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11]، وكأن النساء خوطبن مرتين؛ لأن ذلك من لوازم مجالسهن ولوازم أحاديثهن.(355/4)
معنى قوله تعالى: (ولا تلمزوا أنفسكم)
قال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11].
أي: لا يلمز بعضكم بعضاً، يقال: الهمز واللمز، فاللمز: العيب في شخص آخر بالقول، والهمز يكون بالفعل، وقد لعن الله فاعلي ذلك وهددهم بالويل، وهو الصديد في جهنم، حيث قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1]، فيا ويله ويا حقارته من عذاب الله يوم القيامة، فشرابه من الويل، وهو صديد أهل النار.
فقوله تعالى: (وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، أي: لا يقتل بعضكم بعضاً.
فالمراد هنا: لا يعب أحدكم الآخر، ولا ينتقصه بكلمة، ولا يعبه بكلمة، فإن فعل كان من اللمازين الهمازين الذين قال الله عنهم: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1].
ونحن لا نتكلم عن المزاح بالشتائم، فالمزاح بالعيب وبالشتائم من أخلاق الفاسقين التي ذكرت عن قوم لوط الذين كانوا يرتكبون المنكر في مجالسهم بالقول والفعل، والذي يتأدب بآداب الإسلام لا يكون مزاحه إذا مزح إلا حقاً، فقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً.
فاللمز والهمز -سواء أكان مزاحاً أم كان جداً- يعتبر من أخلاق المنافقين وأخلاق قوم لوط أقبح الأمم الذين ارتكبوا البلايا التي ما سبقوا بمثلها قط.
وهناك كثير من الآباء غير مهذبين بالتهذيب الحضاري ولا بالتهذيب الإسلامي، فيريدون أن يلاعبوا أولادهم الصغار فيجرئونهم على الشتائم باسم المزاح، وقد يجرئون أولئك الأطفال على الضيفان، فإذا حاول الضيف أن يستنكر أو أدب ذلك الولد بلطمة أو صفعة صاح ذلك الأب وقال: هو يمزح معك، فهي قلة أدب من الكبير، وهي أخلاق المنافقين وقوم لوط، وتلك اللطمة ينبغي أن تكون للأب قبل أن تكون للولد، فينشأ الولد من الصغر وهو هماز لماز شتام.(355/5)
معنى قوله تعالى: (ولا تنابزوا بالألقاب)
قال تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11].
النبز بالألقاب: أن تنبز أخاك المسلم بلقب يكرهه، كأن تقول له: القصير، أو تقول له: الأعمى، أو تقول له: الأعرج، أو تقول له: البليد، أو أي لقب مما يكرهه، وهو مما حرم الله تعالى.
إلا إذا كان اللقب قد غلب حتى صار علماً، فهنا لا يكون قصد قائله العيب ولا الغمز، وقد نقل من ذلك لقب الأعرج، والأعمش، ونحوهما، فشهروا بالألقاب، بحيث لو قلت في الأعرج: عبد الرحمن بن هرمز فإنه لا يكاد يعرف إلا عند المحدثين.
وهناك ألقاب كثيرة غير مقبولة، والقليل منها تجده مقبولاً يحبه صاحبه ولا يتأذى من اللقب، فالألقاب الفاضلة فعلها رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد لقب أبا بكر بـ الصديق، ولقب عمر بـ الفاروق، وعثمان بـ ذي النورين، ولقب خالداً بسيف الله، ولقب أبا عبيدة بأمين هذه الأمة، وهذا لم يمنعه الشارع، وإنما منع الألفاظ التي هي للعيب وللمز وللتحقير والتصغير.(355/6)
معنى قوله تعالى: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان)
قال تعالى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:11].
فما أقبح أن ينتقل المرء من مؤمن إلى فاسق؛ لأن لمز أخيك المسلم، والهزء بأخيك المسلم يجعلك تكون فاسقاً، ولا يليق بمسلم أن يقبل مثل هذا اللقب.
فذاك جزاء من يفعل مثل هذا، ولما كانت الألقاب ليست بالأمر الهين كان الجزاء بها عقوبة قائلها بغير صدق، فلو قال إنسان: هذا زانٍ وكان الأمر كذلك فهو قد لقبه بما يستحق، وإن كان الأمر على غير ذلك فإنه يكون قاذفاً، وحد القذف أن يجلد صاحبه ثمانين جلدة، وهو كبيرة من الكبائر، {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:11].
فما أقبح وأهون أن ينتقل المرء من الإيمان إلى الفسوق؛ لأنه ارتكب أفعال الفساق الخارجين عن العدل والحق، العصاة لله فيما به أمر، والعصاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما به أمر، أو عنه نهى.
فالله تعالى ينفر المؤمن من هزئه بإخوانه المسلمين بأن يقول الناس عنه: إنه فاسق؛ لأنه هزأ بأخيه ولمزه وتنقصه.
قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]، فهؤلاء الذين يفعلون ذلك وقد نهاهم الله عنه وأعلن شين ذلك وقبحه دعاهم ربهم إلى التوبة، فإن تابوا تاب الله عليهم وغفر ذنوبهم وكفر عنهم سيئاتهم، فإن لم يتوبوا فأولئك هم الظالمون.
ومن كان ظالماً استوجب عقوبة القاضي بالتأديب والتعزير وعقوبة الله باللعنة ودخول النار وتعذيبه بها جزاءً وفاقاً على ما آذى به أخاه المسلم وأنكر أخوته وأنكر حقه، والجزاء بحسب العمل.
فالله حكم عليه بالظلم إذا لم يتب، والظلم تترتب عليه عقوبات في الدنيا، وعقوبات في الآخرة، فعلى الحاكم أن يتولى عقوبة الظالم، وإن شاء الله تعالى بعد ذلك زاده عذاباً على عذاب، وإن تاب وأناب غفر الله وهو خير من يغفر وخير من يعفو جل جلاله.(355/7)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن)(355/8)
معنى قوله تعالى: (اجتنبوا كثيراً من الظن)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].
هذه السورة قليلة الآيات عظيمة الأحكام والآداب والأخلاق في بلاغة وفصاحة.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12].
دعا الله المؤمنين إلى ترك الظن واجتنابه والابتعاد عنه في كثير منه، ولم يقل: في جميعه؛ لأن بعض الناس في سيرتهم وفي تصرفاتهم يحملون الناس على سوء ظن بهم، فإذا وجدنا رجلاً علمنا دينه وتقواه وصلاحه وبره يوماً يمشي مع امرأة ونحن لا نعلم عنه إلا خيراً؛ فلا نبادر برميه بالسوء فنقول: ما مشى مع هذه المرأة إلا وهي خليلة، فلا داعي لهذا الظن السيئ؟! فمثل هذا نهى الله عنه؛ لأن هذا الذي عرف بالخير لا يجوز بحال من الأحوال أن يرمى بسوء الظن لمجرد أنك رأيته مع امرأة، فقد تكون أمه، وقد تكون زوجته، وقد تكون أخته، وقد تكون ابنته، وإن كان هو ينبغي أن يتحاشى ذلك ويبتعد عنه؛ لأن النبي يقول عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف مواقف التهم)، ولكن قد يحتاج الإنسان أحياناً - ولا مفر من ذلك - أن يأخذ بعض حريمه إلى الحج أو عمرة أو لصلة رحم، وليس هناك من يذهب معها من المحارم إلا هو، فكيف يظن به السوء!؟ ولكن إذا علمنا رجلاً قد حد على ذنب، أو علمنا عنه السوء واشتهر به فهذا يكون ظن السوء هو الأولى به.
ومن هنا قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، وليس كل الظن إثماً، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من الحزم سوء الظن)، فإذا كنت تريد أن تعامل إنساناً معاملة مالية في شركة تجارية أو زراعية أو شيء وأنت لا تعلم عنه شيئاً فمن الحزم ألا تضيع مالك وتدخل معه في المحاكم والمرافعات لوثوقك من أول مرة بأمانته وخبرته بهذا العمل، ومع هذا لا تذكره بسوء، فلا تقل: أنا أظن كذا وأنت لم تعلم عنه خيراً ولا شراً، فلا تذكره بسوء، كأن تقول: أظن أنه ليس ابن أبيه، أو: أظن أنه لا يؤتمن، فهذا لا يجوز.
وإن استشارك أخوك المسلم في إنسان ليصاهره أو ليشترك وإياه في عمل أو أي شيء وكنت تعلم عنه سوءاً فلا تكتمه، ولا يعتبر ذلك غيبة ولا نقصاً ولا ظن سوء، ولكنَّه يعتبر نصيحة لأخيك المسلم، ويروى أن النبي عليه الصلاة والسلام جاءه مرة أحد أجلاف الأعراب، وقبل أن يدخل عليه قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (أحمق مطاع)، فوصفه بالحمق، فعندما دخل عليه أحسن استقباله، فانتبهت لذلك عائشة التي سمعت الحديث، فقالت: (يا رسول الله! قبل أن يدخل قلت: أحمق مطاع، وعندما جاءك أحسنت استقباله، فقال: نعم)، ومن هنا قالت عائشة: أمرنا أن ننزل الناس منازلهم.
على أن إكرام الضيف من أخلاق المؤمنين، فكيف برسول الله الإمام والقدوة والأسوة لعموم الناس صلى الله عليه وسلم.
وليست هذه شتيمة وليست بغيبة، ولكنها تعريف بأن هذا الرجل على زعامته بدوي، وقومه بدو أجلاف لا يحسنون الاختيار لمن يتزعمهم، فأرسلوه وافدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما فيه.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12]، أي: ابتعدوا عنه، وكان سفيان الثوري يقول: الظن ظنان: أحدهما إثم، وهو أن تظن وتتكلم به، والآخر ليس بإثم، وهو أن تظن ولا تتكلم.
وإذا رأيت أهل الفسق وأهل الكفر فلا بد من أن تأخذ بالحزم وتظن السوء بما يقومون به من فسق ومن كفر.
أما أن تظن بالصالح سوءاً فذلك ما حرمه الله، حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، فبعض الظن يرتكب فاعله الإثم، كأن يظن بصالح سوءاً بظنون وأوهام وأمان غايتها الطعن في الصالحين، والناس يبادرون عادة بالطعن في الصالحين وفي الكبار.
فهي ظنون وأوهام دخلت في عقولهم وليس لها في واقع الحال نصيب، وظن السوء بأهل الخير والصلاح يكون فاعله قد ارتكب الإثم بظن السوء واغتاب أخاه المسلم إذا تكلم بذلك، فلذلك ربط الله بين سوء الظن والغيبة.(355/9)
معنى قوله تعالى: (ولا تجسسوا)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12].
وجاء التجسس بعد الظن لتأكيده، فقد يظن إنسان شيئاً بالإنسان فيريد أن يحقق ظنه فيتتبعه، من سمع لغطاً في دار ليلاً فقال: لا بد أن هناك أجنبياً، فذهب يتجسس وجلس يسترق السمع خلف الأبواب، فهذا تجسس حرمه الله.
ويروى أن عمر بن الخطاب كان يقوم بالعس في الليل بنفسه، فخرج يوماً ومعه عبد الرحمن بن عوف، فسمع أصواتاً فجاء ومعه عبد الرحمن فتسور الجدار ودخل على أهل البيت وفاجأهم فوجد غناء ونساء، وكان صاحب البيت كبيرهم، فقال: يا فلان! أمثلك يفعل هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت قد أسأت مرة فقد أسأت ثلاثاً، فالله يقول: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189]، وأنت تسورت علينا الجدار، ويقول: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27]، ودخلت بغير إذن، ويقول: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]، وأنت تجسست! فالتفت عمر إلى عبد الرحمن وقال: أكذلك يا ابن عوف؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين، فخرج، فلما زالت السكرة عن صاحب البيت وجاءت الفكرة أصبح يخجل من أن يرى عمر رضي الله عنه، فكان إذا ذهب للصلاة يختفي بين أركان المسجد.
فـ عمر لم يعاقبه؛ لأن الطريقة التي اطلع بها على منكر هؤلاء لم تكن شرعية، ولم تكن مأذوناً بها، ولذلك ألغى عقوبته، ومن جانب آخر أراد منه أن يقلع بلا تهديد ولا إنذار، فقال له: يا فلان! السر الذي بيني وبينك ما أخبرت به أحداً؛ لأنه سيكون غيبة، ولكن إياك أن تعود لمثل ذلك، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، فبعد ذلك إن عاد سيعتبره فاسقاً، وفي حديث نبوي: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، ولو تكرر ذلك منه لكانت صفته صفة الفساق الذين لا يصلحون، وقد ثبت عنه أنه لم يعدها قط.
فقوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12].
قال بعض أهل اللغة: تجسس وتحسس بمعنى واحد، وهو أنه ذهب يستطلع الأسرار ويستخبر المكتوم.
وقال بعضهم: التجسس يكون في السوء، والتحسس يكون في الخير، ومنه قوله تعالى حكاية عن يعقوب حين أرسل بنيه إلى مصر: {فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:87]، أي: ائتوني بخبر تبشروني به بأن يوسف لا يزال حياً، وأن أخاه الذي لحق به لا يزال حياً.
والجاسوس إن تجسس على الناس فإنه يعزر بعشر جلدات، وقد يرى الحاكم أكثر من ذلك، وإن ذهب يتجسس بالنظر في ثقوب الباب فلصاحب البيت إن رآه أن يفقأ عينه، وقد فعل هذا أحد قليلي الأدب من ضعاف الإيمان مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بما كان يريد أن يفقأ به عينه فوجده قد رفع رأسه، فقال: (لو ثبت لفقأت عينك).
وهذا الأمر اعتبره جمهور الفقهاء تهديداً، ولكن الظاهرية الشافعية قالوا: ليس هو بالتهديد، بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مطاع، ولذلك فجزاء كل من تجسس بالنظر في ثقوب الأبواب أن تفقأ عينه.
وعقوبة الجاسوس من المسلمين على عورات المسلمين ليبلغها للكافرين هي القتل؛ إذ قد استباح أعراض إخوانه المسلمين، وأعان الكافرين عليهم، فمن فعل ذلك فعقوبته الموت، إذا علمنا أنه فعله وقد ارتد عن الإسلام بقول أو فعل فإنا نقتله على أنه مرتد، ونعامله معاملة المرتدين، بحيث لا نغسله ولا نكفنه ولا نصلي عليه ولا ندفنه في مقابر المسلمين.
أما التجسس بالفضول فصاحبه مرتكب ما يعتبر عيباً وعاراً، فيعزر، والتعزير عند جمهور الفقهاء يكون بعشر ضربات، وعند المالكية يصل التعزير إلى الموت إن رأى الحاكم ذلك لمصلحة الأمن العام.(355/10)
معنى قوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاً)
قال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12]، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة، فقيل: يا رسول الله! أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ فقال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) أي: قد كذبت عليه ببهتان.
والغيبة: هي ذكرك أخاك المسلم بما يكره مما هو قائم به، إلا إذا كان قد جاهر بالفسق وبالمعاصي، ففي الحديث النبوي: (اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس)، كأن يجاورك جار أنت تعلم فسقه وتعلم فساده، فلك أن تحذر أهل الحي والجيران منه فتقول عنه: هذا فاسق.
ولا تكون هذه غيبة.
وقد قال الحسن البصري رضي الله عنه: من ارتكب المعاصي وجاهر بها سقطت حرمته من الغيبة؛ لأنه أعلن المنكرات بنفسه ولم يرع حرمة، لأن الحرام هو حرام في حد ذاته، فإذا أعلن فقد أصبح حرامين، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من ارتكب إثماً فليستتر).
فالستر في الآثام مطلوب في حد ذاته، أما إذا جوهر به فذلك إثم آخر، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (من ارتكب الحرمتين فاقتلوه)، وقد كنت أفتيت مرة وأنا في الشام بأن الآكل في رمضان علناً في الشوارع يقتل، لأنه ارتكب الحرام الأول بأن انتهك حرمة رمضان، فأفطر في رمضان بدون عذر ولا سبب من سفر أو مرض، ثم بعد ذلك جاهر بهذه الجريمة وأعلنها بين الناس، ولسان حاله يقول: من أنتم؟ وما دينكم؟ وما رمضان؟ وقد كنت مرة في آخر أيام رمضان ذاهباً إلى المدينة، فوقفت بالسيارة لأملأها بالوقود، فإذا بي أجد اثنين مفطرين في رمضان، فتقدمت إليهما وقلت لهما: أأنتما من اليهود؟ فقالا: نعم، فقلت: كيف تدخلان مكة وأنتما يهوديان؟! وهذا منهما استهتار، وبعد ذلك قرأت فتوى لمفتي الشام الشيخ عبدين يقول: إن منتهك حرمة رمضان جهاراً نهاراً قد ارتكب حرمتين: الجهر بالمعصية والكبيرة، وانتهاك حرمة الشهر، فمن فعل ذلك فقد ارتكب الحرمتين، وفيها يقول عليه الصلاة والسلام: (من ارتكب الحرمتين فاقتلوه).(355/11)
تفسير سورة الحجرات [12 - 13]
ومن الأدواء الخبيثة المنتشرة في المجتمع داء الغيبة والطعن في الأعراض، والذي يغتاب أخيه فكأنما أكل لحمه ميتاً.
والله تعالى خلق الناس وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا لا ليتفاخروا، فإنه لا فضل لأحد ولا كرامة عند الله إلا بالتقوى.(356/1)
تفسير قوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاً)
قال الله جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].
يخاطب الله جل جلاله عباده المسلمين بألا يغتاب بعضهم بعضاً، وألا يتخذوا الريبة والظنون السيئة مطية للطعن في الصالحين منهم لمجرد أوهام ليس عليها دليل يؤكد ظاهرها، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12]، فأمر باجتناب الكثير من الظن لا الظن كله، ومعنى ذلك أن بعض الظن تدعو إليه الضرورة، حيث يدعو إليه فسق الفاسق وفساد الفاسد ومعصية العاصي، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من الحزم سوء الظن).
فالرجل الصالح والمرأة الصالحة لا يجوز أن يشكك في أمرهما، وسوء الظن يدعو إلى الغيبة، والدعوة للغيبة تجعل الإنسان في حالة يوشك أن يخرج فيها عن الطريق السوي المستقيم، أما الفاسق فقد جاء في شأنه في الحديث النبوي: (اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس)، فقد يكون معلماً، وقد يكون أباً، وقد يكون مربياً، لكي يحذر الناس أخلاقه وفساده، إذ لا بد من معرفة ذلك.
ومن هنا كان الجرح والتعديل عند المحدثين، حيث يقولون: هذا ثقة، وهذا واهم، وهذا كذاب، ليحذر الناس روايته.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (الظن أكذب الحديث)، فهو أكذب الحديث عندما يكون مبنياً على غير موجب، وإنما هو أوهام أقرب إلى الخواطر التي لا دليل عليها، فذاك ما حرم الله، وهو كبيرة من الكبائر.
يقول تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، ومنه الظن بالصالحين والصالحات ظن السوء مما يطعن به في أعراضهم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه).(356/2)
معنى قوله تعالى: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)
قال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]، فذكر أخاك بما يكره كأنك أكلت لحمه ميتاً.
وقوله تعالى: (فَكَرِهْتُمُوهُ) أي: كما تكرهون أكل لحم إنسان من البشر ميتاً يجب أن تكرهوا الغيبة امتثالاً لأمر الله وطاعة لما أدب به عباده المؤمنين الصالحين.
وقد بلغ النبي عليه الصلاة والسلام أن امرأتين صائمتين وقعتا في غيرهما بالغيبة وبالشتيمة، فناداهما ودعا بإناء فقال لهما: تقيئا، فتقيئا دماً وصديداً ولحماً، فقال: (إن هاتين صامتا عما أحل الله وأفطرتا على ما حرم الله).
وقد جاء ماعز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله أصبت حداً، فأعرض عنه النبي عليه الصلاة والسلام أربع مرات، وفي الخامسة التفت إليه وقال: ما تريد بذلك؟ قال: أن تطهرني، ثم أمر برجمه فرجم، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ضواحي المدينة وإذا برجلين ممن معه قد أخذا يشتمان ماعزاً ويقولان: رجل ستر الله عليه ففضح نفسه حتى رجم، فسكت عنهما صلى الله عليه وسلم زمناً، وبعد برهة من الزمن مروا على جيفة حمار فقال لهما: (كلا، فقالا له: غفر الله لك يا رسول الله، فقال: ما أكلتما من لحم أخيكما آنفاً أبغض عند الله من أكلكما من هذه الجيفة لو فعلتما).
فالله جل جلاله شبه غيبة أخيك المسلم بأكل لحمه ميتاً، فكما أن أكلك لحمه ميتاً لا يشعر به، فكذلك اغتيابك له وهو غائب عن مجلسك لا يشعر به.
ولذلك اعتبرت الغيبة كبيرة من الكبائر عقوبتها التعزير، والتعزير عند الفقهاء الأئمة هو أن يضرب المذنب والمخالف بعشر ضربات على أن يحضر عذابه طائفة من المؤمنين؛ ليكون ذلك أردع لذنبه ولغيره ممن تحدثه نفسه بمثل ذلك.
يقول تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].
أي: كيف أحببتم غيبة أخيكم المسلم ولم تكرهوها وتكرهوا أكل لحمه وهو ميت؟! فكما تكرهون أكل لحمه ميتاً يجب عليكم أن تكرهوا ذكره بالسوء وهو غائب عنكم.(356/3)
معنى قوله تعالى: (واتقوا الله إن الله تواب رحيم)
قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12]، أي: اتقوا الله فأطيعوا أوامره واجتنبوا نواهيه وأحسنوا أخوتكم؛ فإنما المؤمنون إخوة.
فالمؤمن لا يُسلم ولا يخذل ولا يظلم ولا يؤذى ولا يغتاب ولا يتجسس عليه ولا يظن به السوء، ومن فعل ذلك يكون قد أنكر أخوة ربطها الله من فوق عرشه جل جلاله وعز مقامه، فاتقوا الله في الذنوب والمعاصي، واجعلوا بينكم وبين المعاصي وقاية تقيكم العصيان والمخالفة.
{إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] يجود على من تاب مما قد سبق منه من التجسس على المسلمين وظن السوء بهم، وغيبتهم وأكل لحومهم، فالله تعالى تواب على من تاب، رحيم بمن عاد إليه وندم على ما اقترف منه.(356/4)
حكم إخبار المرء أخاه بغيبته له ليتحلل منها
وهنا مسألة، وهي: هل من الضروري إذا تبت من الغيبة أن تخبر من اغتبته بذلك ليحللك من الإثم؟ يقول الجمهور من الفقهاء: لا يجب ذلك؛ لأنه ليس حقاً من حقوق المال ونحوها، فالغيبة شيء غاب عنه وجهله، ولعلك إذا أخبرته يجد في نفسه شيئاً عليك، فلتكن التوبة بينك وبين ربك، ثم تذكره بالصالحات وبالدعاء له، فيوشك أن يتوب الله عليك وأن يرحمك بهذه التوبة.(356/5)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)(356/6)
معنى قوله تعالى: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
لما نهى الله المؤمنين أن يهزأ أحدهم بأخيه المؤمن أو ينبزه أو يلمزه أو يتنقصه أو يظن السوء به عاد فبين سبب ذلك، أي لأنكم سواء، وكلكم من طينه واحدة، فأبوكم واحد وأمكم واحدة، فلم التعاظم على الخلق؟ ولم الكبرياء على الناس وأنتم كلكم من تراب، وكلكم من آدم وحواء.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الحجرات:13]، هكذا نرى عندما يخاطب الله الناس بأصول الشريعة، حيث يخاطب المسلم وغير المسلم بلفظ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) فالمسلم من ذكر وأنثى، والكافر كذلك من ذكر وأنثى، وعندما يخاطب الله بفروع الشريعة يخاطب بلفظ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).
قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13]، أي: فأنتم أبناء آدم وأنتم أبناء حواء، فلا يفضل ذلك أخ على أخ، ولا أخت على أخت، فالأب واحد والأم واحدة.
وإنما يقع التفاضل بالأخلاق وبالصلاح وبالطاعة، فالأكثر تديناً وامتثالاً لأمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نهى الله عنه ورسوله هو الفاضل.(356/7)
معنى قوله تعالى: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13].
الشعوب: جمع شعب، والقبائل: جمع قبيلة، والشعوب بالنسبة للعجم، والقبائل بالنسبة للعرب؛ لأن العجم لا ينتسبون لقبائل، ولذلك لا تجد لهم أنساباً، وليس كذلك العرب، فهؤلاء قرشيون، وهؤلاء قحطانيون، وهؤلاء عدنانيون وهكذا.
ولذلك تجد النسبة العربية إلى القبائل وتجد النسبة الأعجمية وطنية وشعوبية، فغير العربي ينتسب لبلد وينتسب لوطن، وقد يحدث هذا لعرب انتسبوا حديثاً لمدن وشعوب لا لقبائل.
والشعب: أمة من الناس يتشابهون في اللغة ويتشابهون في العادات والتقاليد والأخلاق، وكذلك القبائل.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13].
فالله خلق الناس من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، فعندما كثر الرجال وكثر النساء تعارف الناس بالشعوب والقبائل التي ينتسبون إليها فخلقنا الله من أرومة واحدة وأصل واحد، ثم تكاثرنا، فانبنى على ذلك الحاجة إلى التعارف، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)، ويوشك من لا يعلم نسبه أن يتزوج ذات محرم.
وصلة الأرحام فرض لازم، وقد ذكرها الله في غير ما آية وسورة، وأكدها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأصبح من المعلوم من الدين بالضرورة صلة الأرحام بين الناس، وصلة الأرحام لا تكون إلا بمعرفة الأنساب، فتعرف صلة هذا بأبيك وعمك وخالك وخالتك وعمتك.(356/8)
معنى قوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)
يقول النبي عليه الصلاة والسلام في خطبة من الخطب: (يا أيها الناس! إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية، كلكم لآدم وآدم من تراب، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13])، ثم أنهى خطبته عليه الصلاة والسلام.
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (تنكح المرأة لدينها ولحسبها ولنسبها ولجمالها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)، حث على الدين والتقوى لأن من كانت زوجه كذلك فيوشك أن تكون ذريته ذرية صلاح وتقى ومروءة.
يقول تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وذلك لأن الأصل واحد.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن إلهكم واحد وأباكم واحد وأمكم واحدة، ليس هناك فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي).
وهكذا جعل الإسلام الأنساب والأحساب والمناصب والأموال والألوان كلها لا عبرة بها في الجماعة المسلمة، وقد قال أحد الأصحاب لأخ له كانت أمه سوداء: يا ابن السوداء! فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، فلست أحسن من أبيض ولا أحمر ولا أسود، فكلكم لآدم وآدم من تراب، والله هو الذي خلق الألوان وخلق الأشكال، فلا يعير الإنسان بشيءٍ لا يملكه ولم يكن له فيه خيار.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، فهو العليم بأحوالكم، وهو الخبير بالصالح والفاسد، ومن يستحق الجنة نتيجة تقواه ومن يستحق النار نتيجة عصيانه ومخالفته.(356/9)
تفسير سورة الحجرات [14 - 18]
يذكر الله تعالى في آخر سورة الحجرات ما كان من الأعراب ودعواهم الإيمان، فرد عليهم مبيناً أنهم أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.
ثم بين الله تعالى حقيقة الإيمان والمؤمنين، وأن المنة له على المؤمنين أن هداهم للإيمان.(357/1)
تفسير قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا)
الشيخ: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:14].
هؤلاء القبائل من البدو والأعراب جاءوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يريدون حقن دمائهم وحفظ أموالهم، فقالوا: آمنا، فكذبهم الله وقال لهم: لا تقولوا: آمنا، ولكن قولوا: أسلمنا، أي: استسلمنا لك يا رسول الله، فلا تحاربنا محاربة الأعداء، ولا تأخذ منا أموالنا غنائم، وكان ذلك قولاً قالوه، وإلا فالإيمان الذي هو التصديق بالجنان لما يدخل بعد في قلوبهم، كما قال عليه الصلاة والسلام عن الشاعر اللبيب عندما سمع شعره: (آمن لسانه وكفر قلبه) أي: قال باللسان ما لم يعتقد بالجنان.
فهؤلاء الأعراب جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا منافقين، فقالوا: أسلمنا وهم لم يؤمنوا بعد، ولم يصدقوا، كما قال جمهور المفسرين.
وقيل: أسلموا صادقين، ولكن الإيمان والتصديق لم يدخل القلوب بعد، فلم يعرفوا له معنى ولم يتخلقوا بأخلاقه، فالله نبههم وحذرهم من أن يستمر ذلك فيهم.
وفي حديث جبريل أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، ثم سأله عن الإيمان، ثم سأله عن الإحسان، فجعل الإيمان غير الإسلام، فالإيمان: التصديق بالقلب، والإسلام: العمل بالجوارح، وهو الاستسلام لأوامر الله ورسوله من صلاة وزكاة وصيام وحج، وترك المنكرات ظاهرها وباطنها، وفعل الصالحات ظاهرها وباطنها.
أما الإيمان: فهو التصديق بالقلب، أن يكون القلب مصادقاً للسان فيما يقوله، وعندما يقول: أشهد أن لا إله إلا الله يكون قد آمن قلبه بأن كل من جعلت له الإلهية من بشر أو جن أو ملائكة أو حجر فإلهيته باطلة، فلا إله بحق ولا معبود بحق إلا الله جل جلاله.
قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14]، أي: قلتم آمنا، ولم تؤمنوا {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، أي: جئنا مستسلمين حقناً لدمائنا وحفظاً لأموالنا.
قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، (لما) نافية، أي: لم يحدث ذلك بعد، فإنما أسلم منكم اللسان ونطق بالشهادتين، أما الإيمان الذي هو التصديق بالجنان ومصادقة القلب لما يقوله اللسان فلم يحدث منكم بعد.
قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14].
أي: إن أنتم أخلصتم في الطاعة لله فيما به أمر وعنه نهى، وأطعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما به أمر وعنه نهى بإخلاص {لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14]، أي: لا ينقصكم من أجوركم وأعمالكم شيئاً، بل يزيدكم الحسنة بعشرة أمثالها إلى أضعاف مضاعفة مما يشاء الله جل جلاله.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:14] فالله يغفر لمن استغفره ويرحم من تاب إليه وأناب وعاد إلى الصراط المستقيم.(357/2)
تفسير قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله)
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15].
أي: إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان الذين آمنوا بالله وبمحمد رسول لله صلى الله عليه وعلى آله بقلوبهم وألسنتهم.
{ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، فلم يكن عندهم شك في الإيمان ولا تردد.
{وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات:15]، أي: وتقدموا مجاهدين أعداء الله اليهود والنصارى والكفرة والمرتدين بموالاتهم.
فهؤلاء المؤمنون الذين بذلوا الأموال رخيصة في سبيل الله، والذين جاهدوا بالأنفس فبذلوا أنفسهم رخيصة لله، وجاهدوا فقاتلوا وقتلوا، هؤلاء هم المؤمنون حقاً، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، لا من قال: آمنت، ولما يدخل الإيمان قلبه، فالمؤمن الحق الكامل هو من آمن بالله مخلصاً وبالرسول مخلصاً، ثم جاهد بماله وجاهد بنفسه في سبيل الله.(357/3)
تفسير قوله تعالى: (قل أتعلمون الله بدينكم)
يقول الله تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات:16].
أي: أبلغ بكم السفه والجهل إلى أن تعلموا الله وتخبروه بأنكم مؤمنون وأنتم لستم كذلك، فكأنكم تخبرونه بشيء لا يعلمه ولا يطلع عليه؟! قال الله جل جلاله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) وأنتم ظننتم بجهلكم لعدم دخول الإيمان في قلوبكم أنكم بقولكم: آمنا أخبرتموه تعالى بما لا يعلم.
قوله تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ} [الحجرات:16]، أي: قل - يا رسولنا - لهؤلاء: {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [الحجرات:16]، أتخبرونه بما لا يعلم؟! أتخبرونه بدينكم وهو الذي وسع علمه ما في السموات وما في الأرض؟! ولذا قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات:16].
فالله عليم بكل شيء، فهو عليم بما في السماوات وبما في الأرض وبالخواطر وبالضمائر وبما تخفي النفوس وبكل شيء.(357/4)
تفسير قوله تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا)
قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
فهؤلاء قبائل من البدو الأعراب جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وقالوا: نحن المهاجرون، هاجرنا بأموالنا وبأنفسنا إلى الله ورسوله، وأخذوا يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين: يا رسول الله! نحن قد آمنا بك وآمنا بربك، ولم نقاتلك كما قاتلتك قبائل العرب وهم الذين قالوا: آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.
قال تعالى: {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]، فالمن لله الذي هداكم ووفقكم فآمنتم وأسلمتم، هذا إن كان إيمانكم وإسلامكم صدقاً، وقد قال تعالى في الآية السابقة: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14].
فامتنان الله عليهم بالإيمان فيما إذا كان الخبر قد صدق، والجنان قد صدق اللسان وكانوا مؤمنين حقاً، ولذلك قال تعالى: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]، أي: إن كانوا صادقين في إيمانهم.(357/5)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يعلم غيب السماوات والأرض)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات:18].
أكد الله على أنه يعلم ما في السموات ويعلم ما في الأرض وما في ضمائرهم وما تتحدث به نفوسهم، لا تخفى عليه خافية جل جلاله وعز مقامه، فكيف بقول هؤلاء الجاهلين عندما زعموا الإيمان ولم يكونوا صادقين وأرادوا بذلك أن يصدقهم رسول الله وأن يقبل الله منهم؟! فهيهات هيهات أن يقبل منهم وهو أعلم بضمائرهم وبحقيقة إيمانهم وبصدق الصادق منهم وكذب الكاذب! قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحجرات:18]، يعلم ما غاب في السماوات من عبادة وما يحدث فيها من أمر، وما يحدث فيها من خلق، ويعلم ما غاب في الأرض مما في الأرحام ومما لا يزال في حكم الغيب، يعلمه الله جل جلاله وعز مقامه، فقد خلق الخلق ودبره، وعلم باطنه وظاهره، وانفرد بذلك جل جلاله.
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:27]، وخاصة رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد علمه الكثير وأخبره بالكثير من الغيب مما مضى ومما عاصره ومما أتى بعده، وذلك من معجزاته ودلائل صدق نبوته وصدق ما جاء به صلى الله عليه وعلى آله.
قال تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات:18].
فالله بصير وناظر ومراقب لعملكم، يعلم الصادق من الكاذب، والبار من الفاجر، ويعلم كل شيء، لا تخفى عليه خافية، ولذلك فالمؤمن الحق عندما يريد أن يرتكب حراماً لا يحسب حساباً للناس ولا لحاكم ولا لقريب ولا لبعيد، ولكن الحساب كله عنده أن الله يعلم حركته ويعلم غيبه، ويعلم عمله، ويعلم ما في ضميره وما تتحدث به نفسه، فتجده في كل الأحوال يخاف من ربه أن يخرج عن أمره وعن طاعته فيغضب عليه ويعذبه، وقد يحبط عمله.
وبهذا نكون قد ختمنا تفسير سورة الحجرات بعون الله جل جلاله، فمنه العون، وبه نقوم، ولا حول لنا ولا قول ولا قوة إلا بالله جل جلاله.(357/6)