تفسير قوله تعالى: (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله)
قال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:56 - 58].
بعد أن قال ربنا لنا: أنيبوا إلى الله وأسلموا له واستغفروه، {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [الزمر:55] أي: اتبعوا القرآن الكريم وأطيعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، وأطيعوا الرسول الذي أمركم الله بطاعته إذْ قال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]؛ قال لنا: بادروا بذلك {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:55 - 56].
فقوله: (أن تقول): أي: كي لا تقول، والمعنى: بادروا بالتوبة لكي لا تضطروا أن تقولوا يوم القيامة: (يا حسرتا) ولات حين مندم، ولات حين حسرة، ولات حين عودة.
قال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56]، كي لا تقول نفس مذنبة مسيئة: يا حسرتا.
والتحسر: الندم وشدة الحزن والآلام والتفجع يقال: يا أسفا، ويقال: يا أسفي، ويقال: ((يَا حَسْرَتَا))، ويقال: يا حسرتي.
فقوله: (يا حسرتا) الألف للندبة والاستغاثة، فهو يندب نفسه ويندب حظه، ويستعين ولا معين؛ لأنه أشرك بالله والشرك لا يغفره الله.
قوله: {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56]، أي: على ما ظهر مني من تقصير وإخلال في جنب الله، وفي أوامر ربي ونواهيه، وهيهات هيهات ولات حين مندم.
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56]، أي: ويقول: وكنت مع تفريطي في حق الله وفي جانب الله من الساخرين المستهزئين.
فلقد كان من الساخرين بالمؤمنين والعابدين المتقين، لم يكن فقط مقصراً، ولم يكن فقط مشركاً، ولم يكن فقط مغالطاً، بل كان يسخر ويهزأ بالمؤمنين الصالحين، ويسخر بالدعاة إلى الله؛ ويزداد بذلك حسرة وألماً وندماً، وهيهات هيهات أن تنفع الحسرات، فإنما الحسرة تزيده ألماً وفجيعة وندماً.
قال تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57]، فيا من لا يزال على الحرام، اغتنم حياتك قبل موتك، وأسرع إلى عبادة ربك، واستغفره من ذنوبك، وتب إليه مما ارتكبت من كبائر، دع الشرك وعد إلى الإيمان والتوحيد، وأنب إلى ربك وأسلم له وجهك قبل أن يأتيك العذاب، أو يأتيك الموت فتتحسر وتبكي وتندم، تارة تقول: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56]، وتارة تقول: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57]، وتقول أخرى حين ترى العذاب: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58]: وكل ذلك يدل على الندم والحسرة والتوجع ولكن لن ينفع ذلك، فبعد الموت يعذب في النار، فقد أوعده الله به وأوعده أنبياؤه، حين أمروه فلم يأتمر، ونهوه فلم ينته، وهو فوق ذلك في حسرة وتندم، تارة يقول: يا حسرتا على ما صدر مني من تقصير، وأخرى يقول: لو أن الله هداني لكنت من المتقين، أي: لو أن الله هداه وعلمه وأرسل له رسلاً وأنزل له كتباً فيكون من المتقين، أو يقول حين يرى العذاب: لو أن لي كرة -أي: عودة إلى دار الدنيا- {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58]، أي: لو أن الله يعيده للدنيا فيتوب ويكون من الموحدين المطيعين.
وهذه أمانٍ وتحسرات يقولها المشركون ولكن الله كذب كل هؤلاء فقال: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا} [الزمر:59]، فقوله: {بَلَى} [الزمر:59]، يبين الله أن قولهم السابق كان كلاماً باطلاً، وليس بصحيح.(278/5)
تفسير قوله تعالى: (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها)
قال تعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59].
يقول لهؤلاء الذين ماتوا على الكفر والشرك وهم في العذاب يتمنون لو أتاهم هادٍ أو كتاب هداية ليكونوا من المتقين، ويتمنون لو أنهم عادوا للدنيا وأحسنوا وأطاعوا وعبدوا، فقال الله لهم جميعاً: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} [الزمر:59]، أي: جاءتك علامات قدرتي، وأرسلت لكم رسلاً يبشرون وينذرون فعلموكم وأرشدوكم وهدوكم وأبيتم هدايتهم؛ وأخذتم تكذبونهم وتكفرون بهم، وأخذتم تهزئون بهم وبأتباعهم.
فقوله: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} [الزمر:59]، أي: علامات ودلائل ومعجزات صدق الأنبياء.
قوله: {فَكَذَّبْتَ بِهَا} [الزمر:59] أي: لم تصدقها.
قوله: {وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59]، كما قال تعالى: {إنهم كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] أي: استكبروا عن الإيمان والإسلام بكلامهم وبجهدهم الباطل، فتكبروا على رسل الله، وعلى ورثتهم من العلماء والدعاة والهادين إلى الله؛ قال تعالى: {وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59].
فيا أيها المتحذلق المتألي، هأنت تتمنى الهداية وقد جاءتك، تتمنى أن تعود للدنيا لتعمل وقد كنت فيها ولم تعمل، ولو عدت إلى الدنيا لرجعت إلى ما نهيت عنه، ولعدت للكبر، فالنفس الخبيثة تأبى إلا أن تفعل الشر، والنفس الكافرة تأبى إلا الدوام على الكفر.
فما دام الكافر لم يؤمن في دار الدنيا فهو في الآخرة لن ينفعه الإيمان، لأن نفسه لم تكسب في إيمانها خيراً، قد سبقه الزمن والوقت، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
فقوله: (وكنت من الكافرين)، أي: كنت من الكافرين بالرسل وبالكتب وبالأوامر والنواهي، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي المتكبرون يوم القيامة كالذر في صور بني آدم يدوسهم الناس بأقدامهم)، قد جمعوا كالذر الصغار، نتيجة تعاليهم على الحق وعلى أهله، فيكونون كالذر حقارةً وصغاراً.(278/6)
تفسير سورة الزمر [60 - 67]
يوم القيامة هو اليوم الفاصل الذي يتبين فيه فلاح المؤمنين وفوزهم، وبوار الكافرين وبؤسهم وخيبتهم حين يأتون ووجوههم مسودة، وذلك أن الله قد أعلمنا عن طريق رسله أن من أشرك حبط عمله، ولكن الكافرين ما قدروا الله حق قدره.(279/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة)
قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60].
يقول ربنا جل جلاله: إن هؤلاء الذين تكبروا على رسل الله، وعلى الإيمان بكتب الله، وعلى الالتزام بأوامر الله ورسله، يأتون يوم القيامة ووجوههم مسودة، قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60] أي: هؤلاء الذين كذبوا على الله ونسبوا إليه ولداً وصاحبة وبنات، وقالوا: هو ثالث ثلاثة وغير ذلك، ترى وجوههم مسودة يوم القيامة نتيجة الكذب، فهو سواد الكذب وسواد الكبر واللعنة والحقارة.
قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60]، استفهام تقريعي توبيخي، والمعنى: ذلك مقامهم، فقوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} [الزمر:60] أي: مقام ومنزل، {لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60].
هؤلاء الذين كفروا في دار الدنيا وتكبروا وظلموا وعصوا وخالفوا؛ أليس في جهنم مثوىً ومقام لهم؟ فيجاب: بلى، خلقت النار للمتكبر ولأمثاله، فهي تتلذذ بإحراقهم، وتقول: هل من مزيد؟ إلى أن يضع الرحمن جل جلاله قدمه عليها فتقول: يكفيني يكفيني! فقوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60]
الجواب
بلى! وهو مفهوم من سياق الآية، أي: بلى، خلقت مثوىً ومقاماً لهؤلاء المتكبرين المتعجرفين الكافرين بالحق حين جاءهم، الرافضين له عندما دعوا إلى الله، وأرسلت إليهم رسل الله، وأنزلت عليهم كتب الله.(279/2)
تفسير قوله تعالى: (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم)
قال تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61].
يقول الله تعالى: إن جهنم هي جزاء الكافرين المتكبرين المشركين الذين هلكوا وماتوا ولم يتوبوا إلى الله، أما أولئك الذين ماتوا وهم مؤمنون مستغفرون تائبون فإن الله تعالى يقول: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر:61] أي: ينجيهم وينقذهم من عذاب الله وغضبه، فيرحمهم ويرضى عليهم ويغفر ذنوبهم.
فقوله تعالى: ((بِمَفَازَتِهِمْ)) أي: بما فازوا فيه في حال الدنيا، وفازوا برضا الرحمن وبغفران ذنوبهم، وفازوا بالسكنى في الجنان خالدين فيها أبداً.
قال تعالى: {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} [الزمر:61] أي: لا يؤذيهم سوء ولا عذاب ولا لعنة، أو سكنى في جهنم.
قال تعالى: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61] أي: لا يحزنون أبداً؛ لأن الله قد أكرمهم وأفرحهم وتاب عليهم وغفر لهم ذنوبهم وأسكنهم في الجنان؛ بتوبتهم وبمغفرة الصغائر من الذنوب، وبسبب ثباتهم على التوحيد، وقد طردوا الشرك عن عقائدهم وإيمانهم، فأنجاهم الله من العذاب ودفع عنهم سوء العذاب، وجعلهم لا يحزنون؛ لأنهم لا يساء إليهم ولا يعذبون نتيجة إيمانهم واستغفارهم.(279/3)
تفسير قوله تعالى: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل)
قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62].
إن الله سبحانه وتعالى يعلم المؤمنين ليزدادوا إيماناً، وينذر الكافرين ليتركوا شركهم وكفرهم؛ وذلك لأنه سبحانه هو الخالق لكل شيء، خالق السماوات والأرض وما بينهما، وخالق الملائكة والجن والإنس والحيوان والجماد، ليس له شريك ولا مؤازر ولا ند في خلق شيء أو ملك شيء أو مؤازرة في عمل أي شيء، فالله هو المنفرد وحده لا حاجة له إلى شريك ولا مؤازر ولا مصاحب، وهو القادر على كل شيء.
قال تعالى: ((وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)).
أي: فهو الوكيل والقائم والمدبر على كل شيء في الأرض، وهو الذي توكل في خلق السماوات والأرض، ودبر شئونها ورزق أحياءها، وأمات حياتها، ورزق المحتاجين منها خيراتٍ وطعاماً وشراباً، وأصح أجسامهم مدة حياتهم، حتى إذا قضى قضاءه مرض من مرض، ومات من مات بلا مرض، فهو القيوم والمدبر لكل شيء في الكون؛ لأنه الخالق والرازق وهو على كل شيء قدير، لا شريك له ولا ند.(279/4)
تفسير قوله تعالى: (له مقاليد السماوات والأرض)
قال تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر:63].
المقاليد: المفاتيح، أي: له مفاتيح خزائن السماوات والأرض، فله مخازن الخير من السماء بالأمطار والغيث، وله مخازن الأرض ومفاتيحها بالنبات والإنبات، كما أن في طيها كنوزاً وخيرات، فالله بيده المفاتيح وله المخازن وهو خالقها، يعطي من يشاء مقدراً، ويعطي من يشاء بغير حساب ويرزق من يشاء ويبسط له.
ويقول بعض المفسرين: إن كلمة (مقاليد) أصلها فارسي، وهذا قول صدر منه دون تفكر ولا تمعن، لأنه ليس في القرآن إلا الكلام العربي مفرداتٍ وجملاً، فهو كلام عربي أنزله الله على نبي عربي، وهذا المعنى طالما تصدى له الإمام الشافعي في كتابه الرسالة بأدلة وقوارع لا تقبل جدلاً، ولا نقضاً.
وكون الكلمة توجد في القرآن ولها ما يشبهها في لغات أخرى ليس ذلك دليلاً، ولم لا نقول: تلك اللغات أخذت عن لغة العرب؟ أو أن هذه الكلمات تشابهت في لغات مختلفة، وهذا كثير في اللغات، وأصلها من لغة واحدة، ثم خلق منها زوجها، ثم بث منهما رجالاً كثيراً ونساء، ثم تبدلت اللغات وتكاثرت حسب الحاجة والمصلحة للناس.
أما أن تكون لغة القرآن فيها فارسي وحبشي وفيها كلمات من لغات مختلفة فلا، وإنما هي أقوال يقول بها مفسر فارسي، ومفسر حبشي، ومفسر رومي وليس لذلك أصل، وعلامة ذلك الاتفاق في أصل الكلمة، فمقاليد هي من مادة: قلد يقلد تقليداً، يقال: قلدت غلاماً، ويقال: قلدت لي غلاماً ووضعت في عنقه قلادة، والقلادة والتقليد هو من الفعل: قلد يقلد تقليداً، والاسم منها: قلادة، وقلده بها في عنقه، فهذه الاشتقاقات من فاعل ومفعول وفعل ومصدر تدل الدلالة القاطعة على أن الكلمة عربية بمشتقاتها وبأصلها وبما يتفرع منها.
وإذا كان مثل هذا يوجد في اللغة الفارسية فلم لا نقول: إنهم أخذوها عن العربية، ولم لا نقول: إن بين اللغتين في بعض الكلمات اشتراكاً، وهذا يعلمه علماء اللغات، فلغات الأرض في أصلها لغة واحدة تشعبت وتبلبلت وتثاقلت ثم تناثرت، وبقي من أفعلها كلمات يشبه بعضها البعض، ككلمة أم وأب مثلاً، هذه الكلمة في جميع لغات الأرض كلمة واحدة.
ولبعض علماء مصر كتاب في هذا مطبوع، وقد ذكر الكلمات المتشابهة في كثير من لغات أهل الأرض، وأن لها أصلاً في العربية، وكونهم أخذوها عن العربية فهو الأرجح، وهو الأكثر قبولاً.
فمثلاً: أمريكا تم اكتشافها منذ ستمائة عامة، وقد وجدوا في الحفريات -والحفريات أصدق دليل في التاريخ- آثاراً، ووجدوا كتابة في حجارة وفي بيوت بلغة العرب، فذاك دليل على أن العرب وصلوا إلى هناك قبل أن تكتشف هذه الأرض وقبل أن تعرف، وبه نعلم يقيناً أن عرب الأندلس هم الذين اكتشفوها.
أما كولومبوس فلم يكن إلا إنساناً اطلع على مخططات المسلمين ورحلاتهم وأين وصلوا فيها، واستغل هذه المعلومات بعدهم بزمن بعد أن ضاعت الأندلس، وقد نقلت بعض الآثار التاريخية أنه كان هناك جماعة من الشباب الجغرافيين، اقترحوا على ملوك طوائفهم أن يبحروا في المحيط ليكتشفوا ما وراءه، فقيل لهم: إن البحر محيط بالأرض، فقال هؤلاء الشباب: ليس هذا البحر محيطاً، بل وراءه عمار آخر، فذهبوا، ذهبت مائتا سفينة ولم تعد إلا سفينة واحدة، والقصة طويلة ذكرت في بعض المناسبات، وعادوا بهم بعد أن قال لهم أمير تلك البلدة التي وصلوا إليها -بلاد أمريكا-: إنكم لشباب مغرورون، فأعادوهم في السفن إلى أن وصلوا إلى شاطئ، ففتحوا أعينهم هناك فانتبهوا ورأوا ناساً، فقالوا: أين نحن؟ قالوا: أنتم على شاطئ أرض المغرب الأقصى.
اللغة العربية انتشرت في الأرض قبل الإسلام وكانت أوسع اللغات على الإطلاق، دليل ذلك: سعتها في القرآن الكريم، فإن كلام الله العظيم بما اشتملت عليه من معانٍ عامة وخاصة، دنيوية وأخروية، وفيما يتعلق بذات الله وبصفاته، وبأمور الآخرة وأمور الدنيا.
فكلمة ((مَقَالِيدُ)) كلمة عربية أصيلة وليس في القرآن كلمة واحدة ليست بعربية.
قوله: ((لَهُ مَقَالِيدُ)) أي: مفاتيح السماوات والأرض، ومقادير السماوات والأرض.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر:63].
أي: والذين كفروا بعلامات قدرة الله وبمعجزات وحدانية الله، والذين أعموا بصائرهم قبل أن يعموا أبصارهم عن رؤية الأدلة الواضحة البينة، أولئك الذين كذبوا والذين لم يؤمنوا و ((أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ))، أي: الذين خسروا دنياهم ثم خسروا آخرتهم، ثم خسروا أنفسهم وأصبحوا من أهل النار.(279/5)
تفسير قوله تعالى: (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون)
قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64].
قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا لك: اعبد آلهة آبائنا، فإن فعلت عبدنا إلهك، وكانوا قد طلبوا ذلك من أبي طالب ليأمر ابن أخيه محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال الله له: ((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)).
أي: أتامروني أن أعبد غير الله، أيخطر في بال إنسان عاقل أن نبياً جاء يأمركم بالتوحيد وبالقضاء على الأوثان والأصنام، يعبد آلهتكم التي نهاكم عن عبادتها، ألهذه الدرجة ضاعت عقولكم وجننتم؟ فقوله: (تأمروني) مخففة النون، وقرئت بالتشديد عوضاً عن النون، وأصلها: تأمرونني، وكل ذلك فصيح في لغة العرب التي بها نزل القرآن.
فقوله تعالى: ((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ))، أي: أتنتظرون مني أن أعبد غير الله كيف ذلك؟! أضاعت عقولكم أجننتم؟(279/6)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
أي: لقد أوحينا إليك وإلى من سبقك: لئن اتخذتم مع الله شريكاً ليحبطن أعمالكم، فيحبط عملك يا محمد كما حبط عمل غيرك ممن أشركوا بالله.
قال تعالى: ((وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ))، الذين خسروا حياتهم ودنياهم وأخراهم ورسالتهم، قال هذا خطاباً لنبي الله، ولكن الأنبياء معصومون عن الكبائر فضلاً عن الشرك، فهذا القول إخبار لنا بأن الشرك يحبط الأعمال؛ لأن الله أمرنا بالتوحيد وجميع الأنبياء السابقين، فأنذرهم إن هم أشركوا مع الله أن تحبط أعمالهم وتترك وتكون كلها ضائعة ويكونوا من الخاسرين.
وإحباط الأعمال بالشرك هو ما عليه جماهير الفقهاء، ومن يرتد من المسلمين يحبط عمله؛ وإذا كان متزوجاً فسخ عقد زواجه، وأصبحت المرأة محرمة عليه، وتعتبر طلقةً بائنة لا تعود إليه ولو أسلم إلا بعقد جديد، فإن كان قد حقق هدى الإسلام ورجع وتاب جاز له أن يعيدها، هكذا تكون أعماله في الدنيا، وأعماله في الآخرة أكثر وأشد، وكذلك لا توارث بينه وبين ورثته، فلا توارث بين دينين.
قوله: (ليحبطن عملك) اللام للتوكيد موطئة للقسم، أما التوكيد فالمعنى: إن أشركت حبط عملك وذهب، وهذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر لأتباعه؛ لأن الرسل معصومون لا يشركون بالله سبحانه.(279/7)
تفسير قوله تعالى: (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين)
قال تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:66].
يقول الله لنبيه جواباً عن أولئك الذين قالوا: لن نعبد الله وحده، قال الله: بل، أي: فاضرب عن قول أولئك وأهمله، ولا تلتفت إليه.
وفي قوله: ((بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ))، قُدِّم المعمول على العامل، وهذا يفيد الحصر، أي: لا تعبد إلا الله، ولا تخلص إلا لله، واحصر عبادتك لله الواحد بإخلاص لا رياء فيه ولا سمعة، وهو أمر لرسول الله وأمر لجميع المؤمنين.
قال تعالى: ((وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)) أي: اشكر الله على ما وفقك إليه من إجابته وعبادته وحده والإيمان به وبرسله وبالكتب المنزلة عليه.(279/8)
تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة)
قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
يقول جل جلاله عن هؤلاء الكافرين الذين أشركوا مع الله غيره وعبدوا سواه: إنهم ما قدروا الله حق قدره، أي: ما عظموه ولا سبحوه ولا بجلوه ولا نزهوه حق قدره.
وحق قدره من التبجيل ومن التعظيم أن يفرد بالألوهية وبالعبودية، وأن يفرد بالخلق والأمر، فهو سبحانه القادر على كل شيء، وهو الله الواحد لا شريك له في ذات ولا في صفات ولا أفعال، هو الله الذي يخلق ولا يُخلق، يرزق ولا يُرزق، ولا يحتاج إلى مساعد ولا معين، أما هؤلاء الذين أشركوا به ما قدروه قدره وما عظموه عظمته وما بجلوه تبجيله.
قال تعالى: ((وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، فالأرض جميعاً من سبع أرضين وما فيها وما عليها هي بيد الله يوم القيامة، هو الذي يحييها ويفنيها، وتكون باليد، أي في منتهى تصرفه ومنتهى إرادته وقدرته فيها فيفنيها، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185].
فلا يبقى إلا الله وحده جل جلاله والدنيا ستفنى، ويوم القيامة يأمر الله الأرضين السبع والسماوات السبع أن تتصدع فيجعلها هباءً منبثاً، وكلها تكون في يمينه، وهي كلمات متشابهة، نقول: لله يمين ولله عين، ولله قدم، ولله وجه، ولكن كل ذلك ليس كما هي للخلق، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، بل {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، فكل ما يخطر على بالك فالله بخلاف ذلك، لا نؤول ولا نفسر بظاهر القول، والظاهر من السياق أن السماوات والأرضين التي في قبضة الله وفي قدرته وإرادته يفنيها ويدمرها ويهلكها، ويعيد الحياة من جديد يوم القيامة في الدار الآخرة التي لا تفنى ولا تزول.(279/9)
تفسير سورة الزمر [71 - 75]
يجمع الله يوم القيامة جميع الخلائق للحساب، فحينئذ يظهر جزاء كل فريق بما قدم، فالذين كفروا يساقون إلى النار زمراً، والذين اتقوا يساقون إلى الجنة زمراً، والملائكة يكونون حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم، وقضي بين الناس بالحق.(280/1)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها)
يقول تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71] أي: بوابوها المكلفون بها، يقولون لهؤلاء الكفار الذي جاءوها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الزمر:71]، أي: كيف حصل لكم هذا؟ ألم يأتكم رسل منكم أيام حياتكم ليكونوا أبلغ في الإدراك، وأدرى في التفهيم، وحتى لا يكونوا بعداء عن لغتهم وعن جنسهم، فلو كانت الأنبياء ملائكة لما استطعنا أن نأخذ عنهم ولا أن يعلمونا، ولو كانت الأنبياء جناً لفزعنا منهم ولما استطعنا أن نأخذ عنهم رسالاتهم، ولكن الله أرسل الأنبياء منا ومن جنسنا وعلى شاكلتنا.
فقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} [الزمر:71]، أي: ألم يأتكم الرسل يتلون عليكم الآيات والعلامات والمعجزات والأحكام والرسالات.
{وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر:71] أي: ألم يخوفوكم بمثل هذا اليوم الذي أصبحتم في واقعه؟ ألم يقولوا لكم: من أتى الآخرة كافراً مشركاً مكذباً لكتاب ربه ولرسله فإنه سيحصل له كذا وكذا؟ {قَالُوا بَلَى} [الزمر:71]، اعترفوا بالواقع ولا يسعهم إلا ذلك، إذا قد قبلوه ورضوه؛ لأنهم أعلم بجرائم أنفسهم وبكفرهم.
قال تعالى: {قَالُوا بَلَى حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71] أي: ولكن وجبت كلمة العذاب، قال تعالى: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، تلك كلمة العذاب وقد قالها الله في كتابه، أنذرهم وهم لا يزالون أحياء في دنياهم، فلم يبادروا بالتوبة قبل الموت، وهكذا إلى أن داهمهم الموت وهم مشركون بالله.
{قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ} [الزمر:71]، أضربوا عن القول الثابت الذي قالوه، فهم يقولون: قد أتانا الرسل وأنذرونا وبينوا لنا وعلمونا، ولكن الله سبحانه قد وجبت كلمة عذابه علينا فلا مبدل لها ولا مغير.
قوله: (على الكافرين) أي: على الذين كفروا بالله رباً، وبمحمد نبياً ورسولاً، وبالقرآن كتاباً، وكفرو بيوم البعث والنشور ويوم العرض على الله، وهيهات هيهات أن ينكروا ما تراه الأعين، وتسمعه الآذان، وتحسه البشرة.(280/2)
تفسير قوله تعالى: (قيل ادخلوا أبواب جهنم)
قال تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:72].
تقول لهم الخزنة بعد أن اعترفوا بكفرهم، واعترفوا بأنهم ليسوا بمظلومين، واعترفوا بعدل قضاء الله فيهم {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:72].
فما أقبح وما أبأس مقام جهنم ومنزله، فقد أصبحت اليوم جهنم مثواكم، أي: داركم ومكان إقامتكم.(280/3)
تفسير قوله تعالى: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً)
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73].
الله جل جلاله عودنا في كتابه أن يجمع باستمرار بين الخوف والرجاء، وبين حال الكافرين وحال المؤمنين، وهكذا بعد أن وصف حال الكافرين، وصف حال المؤمنين وقد قضي لهم بالحق وجاء وقت التنفيذ، فقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73]، اللهم اجعلنا منهم.
فهؤلاء كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يأتون الجنة على نوق لها أجنحة وتأتي الملائكة تأخذ بلجم هذه النوق يسوقون بهم سوقاً رفيقاً) يساقون بود ومحبة، يساقون سوق الغبطة إلى الجنة، فالكافرون سيقوا سحباً على وجوههم، والمؤمنون يساقون بنوق لها أجنحة، وفيها كذا وكذا مما وصف النبي عليه الصلاة والسلام.
فقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73] أي: جماعات بعد جماعات، يقال: جاء القوم زمراً أي: جماعات متفرقة، ومعناه: كل رفقة أتت مع أمثالها، فتبدأ زمر أهل الجنة بزمرة الأنبياء، ثم بزمرة الصحابة، ثم بزمرة الأولياء، ثم بزمرة العلماء، ثم بزمرة المؤمنين، وكلٌ على حسب مقامه وطاعته وعبادته.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73].
أي: حتى إذا جيء بهؤلاء إلى الجنة وفتحت لهم أبوابها.
قال الله عن أهل النار: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:71]، يعني: كانت مغلقة وفتحت بعد مجيئهم، وقال عن أهل الجنة: {إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73] فذكر واو الحال، أي: جاءوها والأبواب مفتحة لهم مستعجلة قدومهم مرحبة بمجيئهم، وفي الأحاديث النبوية الصحيحة: (يؤتى بالمؤمنين يريدون دخول الجنة، فيكون أول داخل نبينا عليه الصلاة والسلام، فيستأذن في الدخول ويطرق الباب فيقول له الخازن وهو رضوان: من أنت؟ يقول: محمد، فيقول له: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك).
فرضوان كبير بوابي الجنة يقول: أمرت من قبل الحق أن لا أفتح باب الجنة لأحد يدخلها حتى تدخلها أنت يا محمد! فقد أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام بأنه يكون أول من يدخلها، وما ذاك إلا بما أعطاه الله حيث قال له: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5].
فمقام المصطفى صلى الله عليه وسلم أكثر أجراً وثواباً وأكثر رفعة، ولذلك فإن الله يعطيه إلى أن يرضيه، ومن ذلك أن يكون أول شافع، وأول طارق لأبواب الجنة، وأول داخل للجنة، وهذا من تمام إكرام الله له، كذلك يعطيه المقام المحمود الذي نص الله عليه، وأنه يشفع في الخلائق كلها، وقد مضى هذا مفصلاً في كثير من الآيات الماضيات.
قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الزمر:73].
فخزنة جهنم استقبلوا أهل النار بالعنف والشدة، وهؤلاء المؤمنون استقبلهم خزنة الجنة ضاحكين مستبشرين مسلّمين مؤمّنين، قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الزمر:73]، أي: سلموا عليهم وأمنوهم بسلام الله وبأمانه، وأنهم لن يروا بعد اليوم عذاباً، ولا مشقة ولا تعباً، فهم في راحة أبدية وسلام أبدي، وفي أمان من عذاب الله أبدي، لا يجوعون ولا يظمئون ولا يملون، ولا يتمخطون ولا يتبولون، ولا يتغوطون.
يقول علي كرم الله وجهه: قبل أن يصلوا إلى الجنة يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار عند أصل الشجرة، فيجدون عينين نابعتين، فيغتسلون بعين تطهرهم وتزيل جميع أمراضهم وجميع أدرانهم الظاهرة، ثم يشربون من العين الثانية فتطهر كل ما في بواطنهم وأمعائهم من أمراض وعلل، فيدخلون الجنة على غاية ما يكونون صحة وصفاءً ونوراً وراحةً وإشراقاً.
فأهل الجنة يحدث لهم ما قصه الله علينا في أيوب عليه السلام الذي طال به العذاب والمحنة إلى أن دعا الله تعالى أن يرفع ما به من ضر، فقال له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42]، فركض برجله فنبعت عين عند رجله اغتسل منها فأزالت كل أمراضه ثم ركض برجله فنبعت عين فشرب منها فطهرت جميع باطنه، وهكذا أصبح أحسن الخلق جمالاً وكأنه عاد إلى شبابه الأول، بل أحسن وأكمل وأصح.
قولهم: {طِبْتُمْ} [الزمر:73]، دعوا لهم بالطيب وبالراحة والسعادة والسلام، وأخبروهم أن أيامهم ستكون في الجنة سعيدة لا عذاب فيها ولا شقاء ولا ألم.
قال تعالى: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]، فالجنة مثوى المؤمنين، ويستقبل المسلم داخل الجنة زوجتاه الإنسيتان وسبعون من الحور العين فيقلن له: نحن الخالدات فلا نموت، نحن المنعمات فلا نمل، نحن المقصورات عليك.(280/4)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده)
جعلنا الله ممن يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74]، فهم يحمدون الله أن الله صدقهم ما كان وعدهم من الجنان والحور العين، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
قال تعالى: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74].
فيقول سكان الجنة: نحمد الله ونشكره على ما أكرمنا به من كونه صدقنا وعده، وجازانا بالجنة وبوأنا من أرضها، أي: جعلها لنا منزلاً ووطناً ومتبوءاً نختار فيها ما نشاء من القصور ومن الحور العين، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
قال تعالى: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74]، تقول لهم الملائكة: نعم عملكم وما أحسنه! فهذا نعيم العاملين الذين عملوا بالتوحيد وبالطاعات وتركوا المعاصي، فكانوا بربهم مؤمنين، ولأوامر نبيهم ممتثلين.(280/5)
تفسير قوله تعالى: (وترى الملائكة حافين من حول العرش)
قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75].
يخبر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة يتنعمون بنعيمها، وأعظم نعيمها رؤية الحق جل جلاله، ثم قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر:75].
أي: وترى -يا محمد- ملائكة الرحمن حافين، أي: يحيطون بعرش الرحمن ينتظرون أمراً، وينتظرون عذاب من يأمر الله بعذابه، ورحمة من يأمر الله برحمته، كما سيقت زمر النار إلى النار، وسيق زمر الجنة إلى الجنة.
قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر:75]، أي: يقولون: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ويقولون: سبحان ربنا ما أعظم جلال ربنا! ويقولون: لا إله إلا الله، وهي الكلمة التي أخبر عنها المصطفى عليه الصلاة والسلام أنها أعظم كلمة قالها الأنبياء من قبل، ويقولها الناس بعدهم.
فقوله: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر:75] أي: يعظمونه ويبجلونه ويقدسونه ويسجدون ويركعون ويذكرون ويهللون ويكبرون، فكل ذلك داخل في التسبيح تنزيهاً وتعظيماً وإجلالاً وإكباراً.
قال تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر:75]، أي: قضي بين العباد بالعدل، فزمر النار إلى النار، وزمر الجنة إلى الجنة، وهكذا قضى الله ونفذ أحكامه، وأصبح من في الجنة خالداً فيها أبد الآبدين، ومن في جهنم خالداً فيها أبد الآبدين، وطويت الصحف، وحفت الملائكة بعرش ربها.
{وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، معناه: أن كل الكون ملائكة وجناً وإنساً، ومن في الجنة، ومن في النار كلهم يقولون: الحمد لله رب العالمين، أي: الحمد لله على قضائه العادل، والحمد لله على قضائه بالحق، والحمد لله الذي أرانا الحق حقاً في صدق أنبيائه وصدق كتبه، ذلك ما يقوله المؤمن رضاءً، ويقوله الكافر مرغماً.
وهكذا بدأ الله القول بالحمد وختمه بالحمد {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:1]، فالسموات والأرض خلقت بحمد الله وشكره، ولما كان يوم العرض على الله فدخل من دخل في العذاب، ودخل من دخل للرحمة، قال الكون كله: الحمد لله رب العالمين.
ومن هنا نعلم عظمته وجلاله سبحانه، فنحن نقرأ (الحمد لله) في كل ركعة في الصلوات الواجبات والنوافل، فنقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2 - 3].
ومن هنا أخذ المغاربة والأندلسيون البدء في الرسائل بالحمد، والانتهاء بالحمد، ومن المغاربة من يبتدئون بالبسملة وينتهون بالحمد، فالمغاربة والأندلسيون كانوا ولا يزالون يبتدئون الرسائل بالحمد لله رب العالمين، وينتهون بالحمد لله رب العالمين.(280/6)
تفسير سورة غافر [1 - 4]
سورة غافر تسمى بسورة المؤمن وهي لب القرآن، وهي أول الحواميم، وهي روضة من رياض القرآن، وجنة من جناته، وهي ديباجة القرآن؛ لما اشتملت عليه هذه السورة من ذكر لصفات الله الحسنى، وما أعده الله تعالى للمؤمنين، وما توعد به الكافرين.(281/1)
تفسير قوله تعالى: (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم)
قال الله جل جلاله: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:1 - 3].
هذه سورة مكية تشتمل على خمس وثمانين آية كلها نزلت على قلب نبينا عليه الصلاة والسلام من الروح الأمين جبريل عليه السلام عن الله جل جلاله، ومنها بضع آيات -اثنتان أو ثلاث- هن مدنيات.
وتسمى سورة المؤمن، وتسمى سورة غافر، وسميت سورة المؤمن لما فيها من ذكر المؤمن ومقامه ومكانته، وسميت سورة غافر باسم الله الغافر المذكور في بداية السورة، وهو من باب تسمية الكل باسم الجزء، والسور التي مضت معنا كلها كذلك، وعلى هذه الطريقة وهذا المنوال تسمى الآية ببعض ما فيها.
قال عنها ابن مسعود وابن عباس وجماعة من التابعين رضي الله عنهم: لكل شيء لب ولباب القرآن سورة المؤمن، وقالوا عن سور (حم): الحواميم عرائس القرآن الكريم، وقالوا عنها: هي روضات وجنات القرآن، وقالوا عنها: هي ديباجة القرآن، وذلك لما اشتملت عليه هذه السور الكريمة من ذكر لصفات الله جل جلاله، وما أعد الله للمؤمنين، وما أوعد به الكافرين، ولما فيها كذلك من نعوت وصفات لذات الله جل جلاله العلي الكريم، وفي سنن أبي داود ومسند البزار وجامع الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي وأول سورة حم يعصمه الله في ذلك اليوم من كل سوء)، آية الكرسي معروفة، وبداية هذه السورة غافر قوله: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:1 - 3]، من قرأها في يومه وقرأ معها آية الكرسي صانه الله وحفظه، وجنبه كل سوء في ذلك اليوم.
{حم} [غافر:1] حاء وميم من الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد مضى تفسيرها وشرحها وبيانها ابتداءً من سورة البقرة إلى هذه السورة المباركة، وقد قالوا: هي أسماء من أسماء الله ذي الجلال والإكرام.
وقالوا: هي رموز لمعان، وأتينا بتفسير الزمخشري ومن كان له من معاصرين، وحققنا قولهم في أن الحاء والميم وهذه الحروف المقطعة التي افتتحت بها السور أو كثير من السور هي من حروف الهجاء العربية، وكأنها جواب لمن يسأل: لمَ الإعجاز في القرآن؟! فالقرآن نزل بلغة العرب، ولغة العرب يتقنها الكثير من العرب وغيرهم، منذ كان العرب في الدنيا، فما الإعجاز؟ وكأن
الجواب
القرآن الكريم -وهو كلام الله ذي الجلال والإكرام- ركب ونظم من هذه الحروف؛ حروف التهجي العربية، ومع ذلك فإن هذه الحروف التي ركب منها القرآن تعرفونها وما استطاع أحد منكم أن يعارض القرآن ويتكلم بمثل فصاحته وبلاغته وإعجازه، فليصنع إن شاء، ولو شاء لما استطاع ولرجع بخفي حنين ذليلاً خاسئاً؛ لأن كلام الله جل جلاله بينه وبين كلام غيره من المخلوقين ما بين الخالق والمخلوق، ولو أن ذلك بلغة العرب التي يتقنها أهلها ومتكلموها، ومع ذلك فالنظم ذلك وبلاغة ذلك، وإعجاز ذلك في اللفظ والمعنى ما يعجز عنه كل فرد ملائكة وجناً وإنساً، وقد تحدى الله وقت نزول القرآن على أن يأتي الناس والجن بمثل هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وقد جئنا نحن بعد نزوله بـ (1400) عام، فكان هذا الإعجاز المعجزة الأولى والدائمة السرمدية إلى يوم القيامة من معجزات القرآن، وأن الأمر كما تحدى الله وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مضت كل هذه القرون والتعجيز لا يزال قائماً، والبشر والخلق كلهم لا يزالون عاجزين، وقد حاول مجانين ضائعي العقل قبل أن يكونوا ضائعي الدين أن يقولوا مثل ذلك، لقد حاول ذلك الكذاب المتنبئ مسيلمة الكذاب فأتى بالقول المضحك الذي يضحك الثكالى، وجاء بمثل ذلك فيما زعموا المعري، ومع ذلك فقد جاء بالقول المضحك الذي لا يكاد يقبله عاقل فضلاً عن الاعتراف بفصاحته وبلاغته فكيف بإعجازه.
هذه الحروف منها ترتب القرآن، وهو مشتمل على هذه الحروف، ولم يأت بسواها ولم ينطق إلا بها، فمن استطاع فليفعل، وهيهات هيهات لقد أعجزه الله جل جلاله، وعجزت كل هذه القرون أن تأتي بسورة مثله.
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2] الكتاب إذا أطلق فلا ينصرف إلا إلى القرآن الكريم، هذا الذي نتشرف بمدارسته وببيانه وبتفسيره في هذا المكان المقدس في بيت الله الحرام باتجاه الكعبة المشرفة، وهذا القرآن الكريم هو تنزيل من الله العزيز العليم، فالله هو الذي نزله، وهو الذي قاله، وهو الذي تكلم به، وهو الذي أوحى به إلى محمد سيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، نزل به إليه الروح الأمين عن الله جل جلاله، فهو كلام الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكل من شك في ذلك -فضلاً على الإنكار- يكون كافراً حلال الدم، إن كان مسلماً فقد ارتد، وإن كان كافراً من الأصل فهو كافر على كل اعتبار، ولا يزيده ذلك إلا كفراً وبعداً عن الله، وإصراراً على الجحود والكفر.
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ} [غافر:2] أي: تنزيل القرآن {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2]، وهو منزل من الله على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
{مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2] العزيز الذي لا يغالب، والعزيز الذي لا يظلم أحد في جنابه، والعزيز الذي من اعتز به عز، ومن اعتز بغيره ذل كما أخبر نبينا صلى الله عليه وعلى آله، (العليم) بكل شيء، ما خفي وما أعلن، ما بقي في الضمائر والنفوس ولم يتحدث به لسان، وما نطق به، وما أعلن، وهو العليم جل جلاله بما كان وما يكون، وما لو كان كيف يكون، هذا العليم جل جلاله هو الذي أنزل من علمه على قلب نبيه وعقله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وهذا المعنى مما يكرر ومما يؤكد ومما يذكر بعد بضع آيات وفي كثير من السور وفي كثير من الآي، وهو ما وصف به كتاب الله، وأنه متشابه مثاني، أي: يثنى ويكرر؛ تبعاً للقاعدة العربية: ما تكرر تقرر، فالشيء إذا تكرر أصبح قراراً ثابتاً، ويصبح قاعدة لا تقبل نزاعاً ولا جدالاً، وهذا من ذاك.
فالقرآن الكريم هو كلام الله جل جلاله بجميع آيه وحركاته ووقفاته وسوره، والكل أنزل من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، كما أنزل كتباً قبله على رسل آخرين، كالزبور والتوراة والإنجيل على داود وموسى وعيسى عليهم وعلى نبينا أفضل الضلاة وأزكى السلام.(281/2)
تفسير قوله تعالى: (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب)
{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3].
قوله: (غافر الذنب) أي: الذي يغفر ذنب المذنب إذا استغفر، والذي يغفر الذنوب جميعاً إذا جاء المذنب وهو موحد غير كافر، والذي يغفر لمن استغفره حتى من ذنوب الشرك ومن الكفر بالله إذا تاب وأناب، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، فهو غافر الذنب الذي مضى، قابل التوب بما يستقبل من أيام، فمن تاب إليه تاب عليه، فهو يقبل توبة من كانت توبته توبة نصوحاً، وكان صادق التوبة، وعلامة صدق التوبة: أن يندم الإنسان على ما صدر عنه من ذلك، وأن يعزم في نفسه على ألا يعود، وأن يصلح ما أفسده، وأن يحسن مكان كل شيء، وليستبدل سيئاته حسنات، فهذا عسى الله أن يتوب عليه، وقد وعد ربنا بالمغفرة والتوبة ولا يخلف الله الميعاد، قال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111].
{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3] أي: يقبل توبة من تاب، ويغفر الذنب من المذنب إذا استغفره، وهو مع ذلك شديد العقاب، وكثيراً ما يقرن الله في آيه وسور كتابه بين الرحمة وبين العذاب، وبين العقاب وبين المغفرة؛ ليبقى المؤمن طوال مدة حياته يحيا بين الرجاء والأمل، يأمل إذا أحسن وتاب واستغفر، ويخاف ويهاب إذا أذنب فلم يستغفر ولم يتب.
{شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3] لمن مات ولم يستغفر، ولمن مات على الشرك والكفر، على أن الله قد يغفر الذنوب حتى لمن لم يستغفر إذا لم يكن فيها شرك، والمغفرة بيد الله إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وهو قد خلق النار والجنة لتمتلئ هذه وتمتلئ هذه، ومن العقائد المقطوع بها: أن النار ستمتلئ بالمذنبين من المسلمين ومن الكافرين المشركين، ولكن مآل المسلم على أي حال هو الخروج من النار، ومآل الكافر الذي مات على الكفر البقاء في جهنم خالداً فيها أبداً، وهؤلاء الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة سيعيشون زمناً في الجنة وأثر حريق النار على جباههم، ويعرفون بين سكان الجنة الذين سبقوهم: بالجهنميين، وهم سيتألمون من ذلك، وسيدعون ربهم، ويكثرون الدعاء والضراعة أن يزيل عنهم تلك العلامة التي ميزتهم عن المؤمنين الذين دخلوا الجنة من أول مرة، فيستجيب الله دعاءهم ويزيل عنهم تلك الصفة المؤذية لهم جزئياً، ويصبحون وغيرهم على شاكلة واحدة، فيغفر الله لكل مذنب استغفره، ولكل عائد عاد إليه.
وهو شديد العقاب وشديد الانتقام، وشديد العذاب لمن مات على كفره، ولمن مات ولم يستغفر من ذنبه.
{ذِي الطَّوْلِ} [غافر:3] الطول: الغنى والسعة، وربنا واسع الغنى، واسع المغفرة، والطول: هو المنُّ والإنعام، فهو واسع المن وواسع الإكرام والإنعام، والكل بمعنىً واحد، فربنا جل جلاله عندما يغفر الذنوب ويعلي الدرجات يوسع الرحمة، ويوسع الإنعام، ويوسع التفضل على من تفضل عليه من المؤمنين التائبين المستغفرين من سكان أهل الجنة.
(ذي الطول) الطول: الغنى، فهو الغني عن عباده؛ كفر من كفر وآمن من آمن، فلا كفر الكافر يضره ولا إيمان المؤمن ينفعه، قال تعالى في الحديث القدسي: (إن هي إلا أعمالكم أوفيها إليكم) فمن جاء بالخير فله الخير، ومن جاء بسوى ذلك فله الضر، وإن رأى الإنسان أن يندم على ما فات فنفسه أحسن إليها، وإلا فنفسه التي أضرها وأساء إليها.
قال تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وجنكم وإنسكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي! إن هي إلا أعمالكم أوفيها إليكم فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه).
يقول أحد العارفين: كنت يوماً في الطريق وإذا برجل يأتيني راكباً فيتدارك مشيتي، وسمعني أتلو القرآن وأقرأ هذه الآية، فقال لي: يا عبد الله! إذا قرأت: (غافر الذنب) فقل: يا رب! اغفر ذنبي، وإذا قرأت: (قابل التوب) فقل: يا رب! اقبل توبتي، وإذا تلوت: (شديد العقاب) قل: يا رب! جنبني عقوبتك، وإن قرأت: (ذي الطول) قل: يا رب! تطول علي بنعمتك وبإنعامك وبسعة رزقك.
قال وإذا بي ألتفت فلم أره، فسألت الغادي والرائح: هل رأيتم راكباً؟ فقالوا: لا، فقالوا: لعله إياه -هذا الذي ذكرت الآثار أنه هو الخضر - فإنه سيعيش زمناً الله أعلم بمدته قبل أن يموت؛ لأنه شرب من ماء الحياة الذي من شرب منه طال عمره آلاف السنين.
{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:3] (لا إله) أي: معبود بحق إلا هو، ولا رزاق سواه، ولا مميت ولا محيي غيره، ولا مدبر لأمر الخلق غيره، ولا رب ولا خالق ولا رازق إلا الله جل جلاله وعز مقامه.
{إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3] إلى الله مصيرنا ومعادنا وعودتنا، فنحن قد أحيانا الله ثم يميتنا ثم يحيينا فيكون مصيرنا إليه، والحساب والعرض عليه: إما إلى جنة وإما إلى نار، وما يقوله المشركون، وما يقوله عباد الأصنام: من أحياء أو أموات فكل ذلك ضلال في ضلال، وباطل في باطل، ما أنزل الله به من سلطان، إن هو إلا الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.(281/3)
تفسير قوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا)
قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4].
يقول ربنا لهؤلاء المشركين: ألا يجادلوا ولا ينازعوا ولا يتلاعبوا بالقول بلا دليل ولا برهان، بمثل ما يقوله المشركون للأنبياء: هل يكون النبي بشراً؟ لِمَ لم يكن النبي ملكاً؟ ولِمَ يأكل النبي الطعام ويمشي في الأسواق؟ ولِمَ النبي لم تكن معه ملائكة تصدقه؟ ولِمَ لا تفجر له أنهار وأرزاق تكون له؟ فيجادلون بمثل هذا الجدال والكلام الباطل، وبمثل هذا الغث من القول الذي لا يعود على صاحبه إلا بالكفر، وبتشتيت العقل، وبالإصرار على الوثنية والشرك بالله، فهذا هو الجدال المحرم.
وفي مثله يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (المراء في القرآن كفر)، فالذي يحاول أن يجادل ويقول: لِمَ أنزل القرآن على زيد ولم ينزل على عمرو؟ ولِمَ نزل بلغة العرب ولم يكن بلغة فارس؟ ولماذا نزل منجماً على ثلاث وعشرين سنة ولم ينزل في سنة واحدة؟ فهذا كلام لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يوجد له دليل عقل أو دليل برهان، فهذا الذي قاله الكافرون الماضون، ويقوله الكافرون الحاضرون هو جدال وغث من القول، يضحك الناس على قائله، ويدل على سخافة عقله وفهمه وإدراكه، ولكن المحاورة والاستجابة والاستنزال على الحق هي التي أتى بها القرآن، كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، ولعلا بعضهم على بعض، فلو كان للأرض عدة آلهة لحاول بعضهم أن يعلو على بعض، كما تعلو الدول والملوك المتجاورة على بعضها، وكما يعلو القوي على الضعيف، وهذا كلام حق، ولطلب هذا الموت ولأمر هذا بالحياة، فإن تم ذلك لزعزعت الأرض، ولهلك الكون، ولحار الناس ما يصنعون، فالحوار يكون بالعقل وبالدليل والبرهان بميزان كتاب الله وعلى أساسه.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم الخلائق إلى الإيمان بالله، كأن نقول: زعموا أن النبي عليه الصلاة والسلام كاذب -وحاشاه من ذلك- مع اعترافهم أنه عاش بينهم أربعين عاماً ولم يكذب كذبة على الناس، أيكذب بعد أن بلغ الأربعين على الله؟ بل كانوا يلقبونه بالأمين والصادق، وهو رجل عاش بينهم أمياً لا يقرأ ولا يكتب مدة أربعين عاماً، وإذا به في يوم من الأيام يصبح يعلم من العلوم من أولها وآخرها: علوم الأولين والآخرين، فمن أين ذلك؟ ومن الذي علمه؟ ومن أفهمه؟ فهذا دليل عقلي على أنه رسول من الله خاصة، وقد جاءهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (وأنا في غار حراء أتحنث إذا بملك جاءني فقال لي: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فكررها ثلاثاً، ثم ضمني إليه حتى كادت ضلوعي تتداخل بعضها في بعض، فقال لي: اقرأ، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1 - 2]).
هذا الذي أتى به القرآن بدليل العقول هو ما يؤكده العقل والبيان والفهم والعلم، وأما الجدال: لم أتى محمد بالنبوة ولم يأت بها أبو لهب؟ وقولهم: لِمَ لم ينزل القرآن على عظيم من القريتين: وهما مكة والطائف؟ فأجاب عليهم الله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]، ومن قال لهم: إن أبا لهب عظيم؟! ومن قال: إن أبا جهل عظيم؟! فالعظمة يجعلها الله فيمن يشاء من عباده، قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، فلستم أنتم من تقسمون رحمة الله، فالاستدلال بالدليل والبرهان هو ما جاء به القرآن، وأتى به الرسول عليه الصلاة والسلام.
وأما الجدال فهو من الجدل، وهو الكلام المبني على غير دليل ولا منطق ولا عقل.
{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4] فهم الذين يجادلون بالغث من القول، وبالباطل من الاستدلال، وهم الذين يقولون مثل هذا الكلام: لم لم يُزل جبال مكة؟ ويقولون: لِمَ لم يفجر أرضها أنهاراً؟ ولِمَ كان محمد وهو من البشر ولم يكن النبي ملكاً؟ ولِمَ لم تنزل الرسالة على عظيم من القريتين؟ وهذا كله غث من القول، وجدل باطل، وقد دل على عقول هؤلاء الضعفاء، وهو الجدال الذي كرهه الله، وزيفه الله، ومنعه، وهو الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (جدال في القرآن كفر)، فلا جدال في آيات الله، قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4]، فلا يجادل بمثل هذا الغث من القول، وبمثل هذا الباطل من الكلام إلا الكافرون.
يقول ربنا: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4]، وكأن إنساناً يسأل ويقول: إن كان أمثال هؤلاء كافرين فلِمَ أغناهم وخصهم الله؟ ولِمَ ملكهم وغلبهم الله؟ قال الله لنا في مثل هذا: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4] أي: لا تغتر بهذا، إن هو إلا ذكرى واستدراج لزيادة العذاب، فتنقلهم وسياحتهم وسفرياتهم للتجارة وللزراعة، وللضرب في الأرض، وللتحكم والظلم والقهر ما ذلك إلا استدراج يستدرجهم الله جل جلاله؛ ليزدادوا عذاباً ويزدادوا عقوبة، وتكون الحجة البالغة لله، وقد أمهلهم ولم يهملهم، فقد أعطاهم سنوات مهلة لعل الكافر أن يؤمن، وإذا بالسنوات لم تزدهم إلا كفراً، ولم تزدهم إلا إصراراً على الكفر، وهو ما يسمى الاستدراج، وهي فتنة فتنهم الله وابتلاهم واختبرهم بها، فمن سبقت له العناية من الله تنبه وتاب وأناب وعاد إلى الله، ومن اغتر بذلك وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] وبمعرفتي، وبعقلي، وبدهائي، وقد أعطاني الله ما أعطانيه في الدنيا، وهو سيعطيني يوم القيامة أكثر مما أعطاني في الدنيا، فذلك من تلاعب الشيطان به، ومن ضياع عقله، ومن ذهاب إيمانه.(281/4)
تفسير سورة غافر [5 - 7]
يحذر الله تعالى المشركين من أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة التي كذبت رسلها وعصتهم، فكان عقابها الهلاك والدمار، فهذه العاقبة ستكون لكل من عمل عملهم وفعل فعلهم، فليس بين الله تعالى وبين أحد من خلقه نسب حتى يعامله معاملة خاصة.(282/1)
تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم)
قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5].
يقول الله جل جلاله معزياً للنبي عليه الصلاة والسلام ومسلياً ومصبراً: يا محمد! لا تبتئس ولا تحزن لكفر قومك بك، ولا تحزن من شرك هؤلاء من قومك ومن غيرهم من كفار المشرق والمغرب، ممن أرسلت إليهم، وكلفت بتبليغهم، فمنهم من كذبوك، ومنهم من لم يؤمنوا بك، فقد سبق أن كان ذلك منذ أول الرسل نوح عليه السلام.
فآدم كان نبياً، ثم أرسل بعد ذلك إلى أولاده، وأولاده ابتدأوا بولدين، وانتهوا بمجموعة، وأما نوح لما أرسل فقد كان القوم قد تكاثروا، وزعموا أنه مضى من أيام نوح إلى آدم ألف عام، وهذا كافٍ لأن يصبح الناس عشرات الآلاف، فأرسل إليهم نوح عليه السلام فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى عبادة الله الواحد، وكانوا قد أشركوا بالله، وأخذوا يعبدون أوثاناً وأصناماً، يعكفون عليها صباحاً ومساءً، وطوال هذه المدة ما آمن به إلا قليل، ثم أخبره الله وقال: {إنَّه لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]، ولم يؤمن به أكثر من سبعين شخصاً، والكثير من العلماء قالوا: إنه لم يؤمن به إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة فقط، بل حتى بعض أهله كفروا به كولده، فالله يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه إن كُذِّب فقد كذبت أمم من قبله، فكذب نوح في قومه، ثم كذبت الأحزاب من بعده، والأحزاب هي الفئات والشعوب والأمم، كقوم عاد وثمود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم موسى وهارون، وأقوام إبراهيم إلى عيسى، فالنبي يعزى صلى الله عليه وسلم من قبل ربه الكريم بأنك إن كُذبْت فقد كُذِبَت أمم من قبلك، فعوقب الذين كذبوا على تكذيبهم، ولقوا عذاب الله، واستحقوا العذاب الأليم الخالد في جهنم؛ جزاء شركهم وكفرهم بالله.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [غافر:5] أي: قبل قوم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت كذبت بالتأنيث لاختلاف اللفظ.
والله يقول لنبيه في آية أخرى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] أي: لعلك مهلكها على أنهم لم يؤمنوا، فلا تفعل ذلك، فإن تلك هي سنة الأقوام والشعوب قبلك، ولكن النهاية أن النصر حليفك كما نصر الأنبياء قبلك، وعقوبة أولئك كما عوقبت الملل والشعوب قبلك، فالله ناصركم، والعاقبة للمتقين.
{وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5] الهم: شبه العزم، وقد يصل إلى حد العزم، وهموا أي: حاولت كل أمة أن تقتل نبيها، وقد فعل بعض بني إسرائيل ذلك، وقد حاولوا ذلك بنبينا عليه الصلاة والسلام، فقد حاول قومه من قريش وقتله، وقد تآمروا عليه في دار الندوة، ومكانها كان جوار الصفا والمروة، وأخذوا يتآمرون عليه ليقتلوه، واتفقوا على القتل، وأن يقتله شباب من قبائل مختلفة؛ ليهدر دمه ويتوزع في القبائل، وبنو هاشم أقل من أن يعلنوا القبض على جميع القبائل، ولكن الله نصره عليهم، وخرج من بينهم وذهب مهاجراً إلى الله ورسوله إلى المدينة المنورة، وفي المدينة همت اليهود أن ترمي عليه يوماً رحى، وذهب وصعد السطح من حاول أن يرميها على رأسه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم انتبه أو نُبه من قبل جبريل، فعاد إلى المدينة وقد كان خارجها، وسممته يهودية اسمها زينب وسألت: أي نوع من اللحم يعجب محمداً؟ فقالوا لها: الذارع، فأخذت ذراع ضأن وسممته، فأكل منه لقمة، وأكل من كان معه لقمتين فمات شخصان من توهم، والنبي لفظ اللقمة وقال: إن هذا اللحم يحدثني بأنه مسموم، وكان هذا عام خيبر قبل موته عليه الصلاة والسلام بثلاث سنوات، وكان يقول: (لا تزال أكلة خيبر تعاودني حتى قطعت نياط قلبي)، بمعنى أن السم بقي في دم النبي صلى الله عليه وسلم وفي عروقه يكبر ويكبر مضعفاً له، وبذلك وصفت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم في آخر آيامه أنه كان كثير الأحزان، كثير الأمراض.
وسئلت مرة: يا أم المؤمنين! قلنا: خطيبة تعلمت من بيت النبوة وهي أم المؤمنين، قلنا: نسابة، فإنها بنت أبي بكر، وكان أبو بكر نسابة العرب، فعنه تعلمت، وقلنا: عالمة، فلِمَ العجب؟ فقد نشأت وتربت في بيت النبوة، حيث ذكْر الله والحكمة، ولكن الطب من أين لك؟ فقد كانت عائشة على درجة من الطب حتى وصفت بالطبيبة، فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم الأمراض، فكان يأتيه الأطباء ويصفون الدواء له، وكنت أشرف على تمريضه وعلى علاجه من هناك تعلمت الأمراض وتعلمت أدويتها، تعلمت الأدواء والأدوية، وكان ذلك إثر هذه الأكلة، فالنبي لم يكن بدعاً من الرسل قبله.
{وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5] أي: ليقتلوه، وليأخذوا نفسه وروحه، وقد فعل هذا حتى بنبينا عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ} [غافر:5] أي: ليذهبوا ويبطلوا به الحق، فكانوا يجادلون في الغث من القول، وبالكلام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، والذي يتضاحك منه الأطفال.
(وجادلوا بالباطل) أي: أدخلوا الباطل في الجدال، فحصلوا القول الذي لا يعتمد عليه، وجعلوه أداة للجدال وللسؤال.
(ليدحظوا) من الدحض وهو الزوال، أي: يضيعوا به الحق، وهيهات هيهات فعلى الحق نور لن يزول منه قط، كما فعل نبينا لما دخل مكة فاتحاً، وجاء إلى الأصنام إليها فأخذت تتهاوى وتسقط إلى الأرض، وهو يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، فالباطل في طبيعته زهوق ضائع؛ لأنه لا يقبله عقل عاقل، ولا فكر مفكر، ولا اعتبار معتبر، فهو يتهاوى في نفسه، فحتى الأطفال وعجائز النساء الذين لم يدرسوا ولم يتدربوا على الجدال لا يقبلون الباطل بحال قط.
{فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5] أي: أهلكهم ودمرهم وأغرق قوم نوح، ثم عاقب هذه الأمم بين صعق وبلاء وزلازل من الأرض، وصواعق من السماء، وقلبت أرض أهل السوء عاليها سافلها، وهكذا ما من أمة من الأمم المشركة إلا وعاقبها وبالغ في عقوبتها، وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم -تكرمة من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يفعل بها ما فعله بالأمم من قبلهم، ولكنه عاقبهم بأن جعل بأسهم بينهم شديد، ومثال ذلك: أن يقوم شخص من بينهم ويستسلم لليهود، فيتهود في نفسه ثم يلتفت إلى قومه فيسبهم ويلعنهم ويشكك بهم، فيكون هذا العقاب هو الذي جعله الله عقوبة للمؤمنين عندما يخرجون عن أمر الله، يسلط الله بعضهم على بعض.
وأما ما أصاب الأمم السابقة من غرق تام، ومن صعق تام، ومن جعل الأرض عاليها سافلها، فإن هذا لن يصيب أمة محمد؛ رحمة من الله، وتكرمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله يمهل ولا يهمل، ويفعل هذا لعل المجرمين يتوبون، ولعلهم يتقون.
{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5].
يسأل الله نبيه وكل من تلا هذه الآية سؤال تقرير: كيف رأيت عقابي لهؤلاء؟ والجواب بالتصريح: كان عقاباً بالغاً مدمراً، وكان عقاباً مميتاً، وكان عبرة للمعتبر، وكان درساً للدارسين، وتاريخاً للمؤرخين.
وقد مضت على هذه الشعوب قرون وآلاف من السنين، ولا يزالون يذكرون بذنوبهم وآثامهم وعقوباتهم؛ ليكونوا عبرة للمعتبر، وليأخذ منهم المؤمن ومن أدرك رسالة محمد صلى الله عليه وسلم العبرة والدرس، حتى إذا حاول أحد من أمة محمد أن يشرك ويكفر ويخالف ويعصي تذكر -إن كان من أهل الذكر وممن سبقت له العناية- أن من حاول فعل ذلك وأمثاله عوقب بالدمار، وعوقب بالغرق فلا يفعل مثل ذلك، وهذه حكمة هذه القصص.
فعندما يقصها الله علينا في القرآن ليس المراد منها أن يسلينا بالقصص والحكايات، ولم ينزل القرآن لمثل هذا.
ولذلك لم يسمِّ ربنا جل جلاله، ولا نبينا صلى الله عليه وسلم بعض الشخصيات أو تحديد تواريخ القصص؛ لأنه ليس المقصود من ذلك القصة، ولكن المقصود الحكمة العبرة من القصة، والدرس من كفر هؤلاء وذكرهم.(282/2)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار)
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6].
(حقت) أي: وجبت، وحقت من الحق، ومغزى ذكر الحكاية: أن من فعل مثل قوم نوح، أو مثل عمل الأحزاب من بعدهم، فكفر كفرهم، وأشرك شركهم، وعصى بنيه كعصيانهم، فكذلك نفعل به.
{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [غافر:6].
أي: كلمة العذاب، والكلمة التي يقولها عندما يريد شيئاً هي: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117].
وهكذا كان في المعاقبين من المشركين من الأمم الماضية، التي كذبت رسولها، والتي عبدت مع الله غيره، وأشركت به أصناماً وأوثانا.
وكذلك الذين كفروا بسنة محمد، وكل الخلق بعد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الديار المقدسة كلهم أمة محمدية، فمن آمن به من الأمم سميت أمة مستجيبة، ومن كفر سميت أمة متمردة عاصية، وأما رسالة موسى فقد انتهت، وكذلك رسالة عيسى، وكلاهما قد مسخ ونسخ، وانتقل اليهود من ديانة التوحيد إلى عبادة العزير، واعتقدوا أنهم أبناء الله.
وانتقلت ديانة النصارى من عبادة الله الواحد إلى زعمهم بأن عيسى هو الله، وأنه ابن الله، وأنه ثالث ثلاثة، وأنهم جميعاً أبناء الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فقد نسخت هذه الديانات في حد ذاتها، ثم بعد ذلك جاء الإسلام ونسخها جميعها، فلذلك يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (والله! لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي)، فلا بد على كل أحد أن يؤمن بنبينا، فمن لم يؤمن به كان كافراً، و (لو) حرف شرط، ولا يلزم من الشرط الوقوع، وعيسى سينزل في آخر الزمان، وسينزل على دين محمد، ولذلك عد من الأصحاب، وترجم في كتب الأصحاب أنه من أصحاب النبي عليه الصلاة السلام.
ومن هنا قال ربنا جل جلاله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
فلا دين كل ما فيه حق إلا دين الإسلام، فمن جاء بغيره فقد جاء بأباطيل وأكاذيب وضلالات ما أنزل الله بها من سلطان، ولن يقبل الله سوى الإسلام، فالإسلام ليس كما يحاول أن يفهمه كل إنسان، لقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (اختلفت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، واختلفت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستختلف أمتي على ثلاث وسبعين فرقه، كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! ومن هي هذه الواحدة؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) أي: السابقون الأولون كما وصفهم الله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100].
فحتى الصحابة ليسوا جميعهم، بل السابقون الأول من المهاجرين الذين هجروا دار الكفر إلى دار الإسلام، والذين سبقوا إلى الإسلام وتحملوا في سبيله الشدائد والعذاب، ومن الأنصار الذين أسلموا في الأيام الأولى والإسلام لا يزال ضعيفاً ومضطهداً، فهؤلاء هم الصحابة الذين أمرنا بإتباعهم.
{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6]، أي: بأنهم أصحاب النار، وهكذا من جاء قبل هؤلاء من الأقوام السابقين، من أقوام نوح وهود وصالح ولوط، وأقوام إبراهيم، وأقوام أنبياء بني إسرائيل من الذين لم يؤمنوا بأنبيائهم، فضلوا وأضلوا.
كذلك أي فرقة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كفرت ولم تؤمن به، فهي من أصحاب النار، ومآلها جهنم مع أولئك، ونهايتها النار مع أولئك.(282/3)
تفسير قوله تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم)
قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7].
يقول ربنا جل جلاله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:7] الملائكة عباد الله المكرَمين الذين يطيعونه ويمتثلون أمره، ويكونون عند أمره ونهيه جل جلاله، والملائكة الذين يحملون العرش هم ثمانية، فالذين من حول العرش ومن يحمل العرش على عواتقهم هم ثمانية، فهؤلاء ليسوا كالكفار، أي: اقتدوا بهؤلاء: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90].
{يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:7] أي: يعظمون ويجلون ربهم، ويسبحون بحمده، وينزهونه ويعظمونه ويقدسونه، يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ويقولون هذا وهم يطوفون ويدورون كما نطوف بالكعبة، فهم يطوفون بعرش ربهم، ويحمله ثمانية.
والثمانية وصفوا من الهيبة والكِبَر والعظم أن ما بين كل أذني واحد كما بين السماء والأرض.
والثمانية وهم يحملون عرش ربهم، لا يرفعون أبصارهم عن الأرض قط؛ هيبة وجلالا وخوفاً من الله وجلاله، واسمهم الكروبيون وتجدهم بين طائفتين: فالذين يحملون العرش على رءوسهم يضعون أيديهم على عواتقهم، والذين يطوفون حول العرش يجعلون أيمانهم على شمائلهم، كما نفعل في الصلاة.
وهم يسبحون ربهم بهذه الصيغ السابقة وغيرها من الصيغ، يقولون: لا إله إلا الله، ويقولون: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وغيرها من أنواع الذكر لله، ما نعلم وما لا نعلمه، وكله تقديس، وكله تعظيم، وكله إكبار وإجلال لله جل جلاله.
والعرش له كرسي، فقد قال نبينا عليه الصلاة السلام في هذا الكرسي أنه أمام العرش كحلقة ملقاة في الأرض، والدنيا بالنسبة للكرسي هي هذا الخاتم فكبر الكرسي أمام كبر الكون ككبر الأرض على الخاتم، فالعرش أعظم من الكرسي الذي الكون بالنسبة إليه كخاتم ألقي في فلاة.
والكرسي هو خلق من خلق الله، وما بين كل سماء وسماء مسافة خمسمائة عام، ما بين الأرض والسماء الدنيا مسافة خمسمائة عام، فلو ذهب الإنسان طائراً فلا يصل إلا بعد خمسمائة عام، والعام هل هو من أعوام الدنيا أو غيره، الله أعلم بذلك، فعام الدنيا اثنا عشر شهراً، والشهر فيه ثلاثون يوماً، واليوم فيها أربع وعشرون ساعة، ويوم الآخرة ألف سنة مما تعدون.
فلا ندري هل الخمسمائة سنة من سني أهل الأرض، أم من أعوام الآخرة أو أعظم من ذلك.
وما بين كل سماء وسماء كما بين الأرض والسماء، وفوق السماء السابعة العرش، علو من السماء الأولى إلى السماء السابعة، وحين أسري بنبينا صلى الله عليه وسلم ووصل إلى سدرة المنتهى وقف جبريل، وقال: أنا لا أزيد أكثر من ذلك، فزاد نبينا عليه الصلاة السلام حيث لم يزغ: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17].
وقد تخطى ذلك بكل ثبات وصمود، فموسى وهو من الخمسة أولي العزم من الرسل عندما طلب رؤية ربه قال الله له: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143].
ما استطاع موسى أن يصبر لتجلي الله للجبل، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام رأى من آيات ربه ما رأى، ومع ذلك لم يزغ بصره، ولم تضطرب نفسه أو أعضاؤه، وبقي ثابتاً.
وجبريل قال: أنا لا استطيع أن أزيد أكثر من ذلك، فوصل النبي إلى حيث سمع صريف الأقلام في اللوح المحفوظ، حتى أمره ربه مكالمة بلا ملك، فأمره بالصلاة خمسين صلاة في اليوم والليلة، إلى آخر القصة، حيث رجع إلى السماء السادسة ولقي موسى فقال له: ارجع إلى ربك؛ فقد عاشرت الناس قبلك فقومك لا يستطيعون، وبقي يذهب ويصعد ويمضي إلى أن وقفت إلى خمس صلوات، فقال: (هي خمس في العدد وهي خمسون في الآخرة، لا يبدل القول لدي) فهي خمس في العمل، وهي خمسون من حيث الأجر والثواب؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها.
وقد سبق أن قلت في أكثر من مناسبة: اللوح لوحان: لوح من قبل الملائكة يتلقون منه الأمر والنهي، ولوح من قبل الله، وهذا الذي من قبل الملائكة يقول الله عنه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39]، ويقول عن اللوح الثاني: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].
ويقول عن أم الكتاب: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:29]، وهذا الأخير لا يختلف زيادة ولا نقصاناً، واللوح الذي من قبل الملائكة فيه الزيادة والنقصان، ومن هذا ما فيه من الأحاديث مثل: (الصدقة تدفع غضب الرب)، وقوله: (صلة الأرحام تطيل الأعمار)، (والصدقة تطيل العمر والدعاء لأخيك في ظهر الغيب مستجاب، ودعاء الوالد لولده في ظهر الغيب كذلك)، هذه الزيادة في العمر أو النقص تكون في اللوح الذي من قبل الملائكة، وأما الذي من قبل الله الذي يقول عنه: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:29] فلا يزيد ولا ينقص.
قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر:7] فهم يطوفون ويدورون بالعرش، هؤلاء جميعهم: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7].
قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7].
قال العلماء المفسرون: أنصح خلق الله للإنسان المؤمن الملائكة، وأكثرهم غشاً للإنسان الشياطين، فالشيطان عدو أبينا الأول وأمنا الأولى؛ آدم وحواء، وهو عدونا وعدو ذرياتنا من بعدنا، والملائكة أنصح الخلق لنا، فهم يستغفرون الله لنا، وبيننا ويبنهم ملايين من الأميال.
فهم يحملون عرش ربهم، ويطوفون بعرشه، ويستغفرون للذين آمنوا قائلين: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7].
وهذا النص يقال له نص تفسير، والمعنى: ربنا وسع علمك كل شيء، ووسعت رحمتك كل شيء، وسبقت رحمته غضبه جل جلاله، العالم بكل شيء ما ظهر وما بطن، وما أعلن وما أخفي، فمع حلمه وسعة رحمته كل شيء: المؤمن والكافر، للإنسان وللحيوان والهوام وكل شيء، ومن رحمته بالكافر أنه أمد له في حياته، ورزقه وأعطاه؛ لعله يوماً يتذكر ويقول: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7].
إذاً فالمرجع مبني على التوبة، فهم يدعون للمؤمنين الذين تابوا من الشرك، ولا مغفرة من الشرك إلا بالرجوع عنه.
{لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7] أي: واتبعوا دينك الذي أرسلت به رسلك وأنبياءك، أي: المؤمنين الموحدين.
{وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] أي: عذاب النار، وعذاب جهنم، وعذاب الحريق، فأي دعوة أعظم من هذه: أن تُطلب المغفرة من الله، وأن يصلنا الله ويحفظنا، ويجعل لنا وقاية بيننا وبين عذاب النار.
واسترسل الملائكة في الدعاء فقالوا: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:8].
يدعون لنا فيقولون: (ربنا أدخلهم جنات عدن التي وعدتهم) أدخل عبادك الموحدين التائبين المستغفرين أدخلهم الجنة التي وعدتهم بدخولها وهم في دار الدنيا عندما آمنوا بك وأسلموا.
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} [غافر:8] فهي جنات وليس جنة واحدة؛ لأن الجنة مراتب ودرجات ومنازل.
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} [غافر:8] أي: جنات إقامة، فعدن بمعنى إقامة، أي: إقامة دائمة خالدة باقين فيها أبداً سرمداً.
{الَّتِي وَعَدْتَهُم} [غافر:8] فقد وعدتهم بها، وأنت لا تخلف الميعاد.
{وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [غافر:8] أي: من قال: لا إله إلا الله، ومن آمن وخرج عن الكفر، ومن صلح بعد شرك وكفر من آبائهم ومن أزواجهم.
و (من): اسم موصل يطلق على المذكر والمؤنث، وعلى المفرد والمثنى والجمع.
{وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} [غافر:8] أي: من آباء المؤمنين التائبين المستغفرين، ومن صلح من أزواجهم، ومن صلح من ذرياتهم وأبنائهم كذلك.
وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام: أن المؤمنين في الدار الآخرة قد تتفاوت درجاتهم في الجنة، فيفرق بين الزوج وزوجته والأب والولد، وبين الابن وأبيه في درجات من الجنة كما بين الأرض والسماء، فيبحث الولد عن والدة فيجده أقل منه بدرجة، فيقول: يا رب! أكرمتني بالجنة وبالمغفرة، فلتكن زوجتي معي -وهي في الجنة كذلك ولكنها في درجة أدنى-، وكذلك أريد ولدي معي، فيقال له: لم يفعلوا فعلك، ولم يعبدوا عبادتك، فيقول: يا رب! إني عبدتك ووحدتك لتغفر لي، وتلحق بي أولادي، وتلحق بي أهلي، فيستجيب الله له دعاءه، فيرفع الولد للوالد، والزوجة للزوج، والوالد للولد، والحفيد للجد وهكذا دواليك.
وقالوا: إن العرش هو في سمت الكعبة، فكما أن الكعبة يطوف بها المسلمون ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاء، ربيعاً وخريفاً، لا تكاد تفرغ لحظة من زمن، فكذلك العرش، فالملائكة الذين حوله يطوفون يسبحون ويوحدون ويعظمون ويمجدون ربهم.(282/4)
تفسير سورة غافر [8 - 14]
في هذه الآيات ذكر الله تعالى دعاء الملائكة للمؤمنين بأن يدخلهم جنات عدن التي وعدهم، ويدخل أيضاً من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وذكر فيها أيضاً مناداة ملائكة النار للكافرين وتبشيرهم بأن مقت الله تعالى لهم وهم في الدنيا معرضون عن الله وعن دينه ورسله، بأن هذا المقت أكبر من مقتهم لأنفسهم عندما شاهدوا النار وويلاتها.(283/1)
تفسير قوله تعالى: (ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم)
قال الله جل جلاله: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:8].
يقص الله علينا ما تقوله الملائكة حملة العرش من الكروبيين سادات الملائكة، وأشراف الملائكة، وقد مضى تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7] أي: يقولون: ربنا وسع علمك ورحمتك كل شيء في خلقك.
{فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] أي: يقولون ذلك، ولا يزال السياق فيما يقوله الملائكة، فيقولون: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} [غافر:8] أي: يقول الملائكة الكرام ذلك ويدعون للمستغفرين وللتائبين وللموحدين المؤمنين، ويستغفرون الله لهم من ذنوبهم، ويدعون الله لهم أن يدخلهم جنات عدن.
قوله: {الَّتِي وَعَدْتَهُم} [غافر:8] أي: الجنة التي وعد الله عباده المؤمنين، كما قال تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران:194]، والوعد الذي أتت به الرسل هو دخول الموحدين للجنان، ودخول الكافرين للنيران، وملائكة الله الكرام حملة العرش {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر:75] فيقولون: سبحانك ربنا، ويقولون: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ويستغفرون للمؤمنين وللذين تابوا، ويدعون ربهم: ((رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ)) أي: أدخل الموحدين المؤمنين ((جَنَّاتِ عَدْنٍ))، والعدن هي الإقامة، أي: أدخلهم جناتك الخالدة، فيقيمون فيها أبداً سرمداً.
((جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم)) أي: وعدتهم بها وهم لا يزالون أحياء، وذاك مما زادهم إيماناً وتشجيعاً وإغراء، فالملائكة -سلام الله عليهم- يدعون للمؤمنين الموحدين بهذه الدعوات الصالحات.
قوله: ((وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ))، من صلح أي: من وحد وآمن وأسلم، فهم يدعون للمؤمنين، وكذلك لآباء المؤمنين من المؤمنين، ولأزواجهم وذرياتهم.
ولذلك يقول سلفنا الصالح: أنصح الخلق للبشر هم ملائكة الله، وأغش الناس للبشر هم الشياطين.
فسادات الملائكة وأشرافهم الملائكة من حملة عرش ربنا وهم ثمانية، وممن يطوفون بالعرش وهم سبعون ألف صف، خلف كل صف سبعون ألف صف لا يحصي عدد ذلك إلا الله خالقهم، يطوفون بالعرش مسبحين معظمين مبجلين ذاكرين، وهم على هذه الحالة يدعون للمؤمنين بالمغفرة وبالتوبة وبدخول الجنان، مجتمعين مع آبائهم ومع أزواجهم، ومع ذرياتهم وأولادهم إلى آخر ذرية منهم.
ويوم القيامة كما يحدثنا نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم شارحاً لكتاب الله، مبلغاً عن الله: بأن المؤمن يدخل الجنة فيقول: أين أبي؟ وأين زوجي؟ وأين ولدي؟ فيقال له: إنهم في درجات أدنى من درجاتك، إنهم عملوا أقل من عملك، فيقول: وهل عملنا إلا لنا ولهم، اجمعنا اللهم بهم، فيستجيب الله له، فيرفع من كانوا أقل درجة إلى أعلى درجة بمن فيها من والد وولد وزوج، ولا ينزل الأعلى درجة إلى الأقل درجة، بل يكرمهم بأن يرفع من هو دون درجة أولئك إلى درجاتهم العلى.
((رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ))، وأدخل كذلك الصالحين المؤمنين من آباء المؤمنين، وأزواجهم المؤمنين، وذرياتهم المؤمنين.
وأما من مات على الشرك فلا يرجى له رحمة، ولا يفيد معه استغفار، وقد حرم الله الجنة على الكافرين.
((إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) تقول ملائكة الله لله جل جلاله وهم يدعون للمؤمنين: إنك يا ربنا أنت العزيز الذي لا ينال مقامه؛ ولا ينال جنابه، وأنت الذي من اعتز بك عز، ومن اعتز بغيرك ذل، وأنت الحكيم في أقوالك وفي أعمالك وفي قدرك، فبفضل منك يا ربنا! اغفر للمؤمنين واجمعهم جميعاً: الآباء والأجداد والذريات والأزواج في مكان واحد، وفي درجات العلو من الجنان، فأنت العزيز وأنت الحكيم.
قال تعالى: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:9] هذا مما يقوله الملائكة كذلك، (قِ) فعل أمر، من الوقاية، أي: يا ربنا احفظهم وصنهم وادفع عنهم السيئات، فإما أن تدفعها عنهم بألا يفعلوها، وإذا فعلوها أن تحفظهم من وبالها ومن آثامها.
((وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ)) أي: وبال الذنوب والمعاصي، إما أنهم لا يرتكبونها، وإذا ارتكبوها فصنهم واحفظهم، وادفع عنهم سوءها ووبالها وعذابها.
{وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر:9] من تقه السيئات ومن تدافع عنه، ومن تحفظه من السيئات، وتجعل بينه وبينها وقاية من فعلها أو من وبال فعلها.
((يَوْمَئِذٍ)) أي: يوم القيامة.
((فَقَدْ رَحِمْتَهُ)) أي: من وقيته وحفظته من ارتكاب السيئات وآثامها ووبالها، فقد أكرمته وقد رحمته برحمتك، وقد غفرت ذنبه فضلاً وجوداً منك.
قال تعالى: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:9] أي: من وقي العذاب، ومن وقي ارتكاب السيئات، ومن حفظ من وبال السيئات وأعمالها فقد أكرمه الله، وقد غفر ذنوبه، وقد كفر سيئاته، وقد رفع درجاته.
((وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) أي: هو النجاح والنصر والفلاح، فلا فوز أعظم من ذلك، ولا رتبة أعلى من ذلك؛ وذلك هو الفوز الدائم، والفلاح السرمدي.(283/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إلى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10].
يخبر ربنا جل جلاله بأن الكفار يوم القيامة ينادون من قبل ملائكة النار وملائكة العذاب عن أمر الله: ((يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ))، ومعنى الكلام: أنه عندما يصل الكفار إلى النار، ويتذكرون ما مضى من حياتهم في دار الدنيا، وأنهم كانوا يؤمرون فيخالفون، فكان الناس يوحدون ويؤمنون، وهم يشركون ويكفرون فهناك يمقتون أنفسهم، ويحقرونها، ويجرمونها، وتصبح أنفسهم لديهم من المقت ومن التحقير ومن الإذلال بالدرجة العليا، وهم في غاية ما يكونون من الحسرة والندم والألم النفسي والروحي مضافاً إلى الألم الجسدي، وهم يعذبون في نار جهنم، وهم في هذه الحال ينادون: يا ويلهم! يا بلاءهم! يا خسارة دينهم ودنياهم! فتقول لهم الملائكة: إن مقت الله لكم في الدنيا وأنتم تدعون إلى كتاب الله، وإلى الإيمان بالله، والرسل ينادونكم صباحاً ومساء، سفراً وحضراً، وفي جميع الأوقات وأنتم في دار الدنيا، فأرسل لكم رسلاً مبشرين ومنذرين، وأنزل عليكم كتباً معلمة موجهة، ومنذرة ومبشرة، وأنتم تأبون إلا الكفر والعقوق، وتأبون إلا الخروج عن أمر الله، لقد كان مقت الله لكم وأنتم في دنياكم أكبر من مقتكم لأنفسكم، وماذا عسى يفيدكم هذا بعد أن جئتم الآخرة وأنتم مشركون بربكم، كافرون بأنبيائكم، تكذبون بالكتب المنزلة على أنبيائكم! فلا خلاص ولا خروج ولا عودة لدار الدنيا، فقد فنيت وذهبت وانتهت ولم يبق لها وجود.
((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ)) أي: تناديهم الملائكة، ((يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ)) أي: غضب الله وتحقيره لكم.
((أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)) أي: مقت الله وغضبه وتحقيره لكم وأنتم في دار الدنيا أكبر من هذا المقت الذي مقتم به أنفسكم وحقرتموها بعد أن أصبحتم في النيران وبين جدران جهنم.
((إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ)) أي: إذ كنتم في دار الدنيا تدعون من قبل أنبيائكم وعلمائكم الذين هم ورثة الأنبياء يدعونكم إلى أن تقولوا: لا إله إلا الله، وكنتم تنكصون عن قولها، وتبتعدون عن الإيمان بها، إذ ذاك كنتم في غاية المقت، وفي غاية الغضب، وكان مقت الله لكم وبغضه لكم، وتحقيره إياكم أكبر بكثير من مقتكم الآن لأنفسكم.(283/3)
تفسير قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين)
قال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11].
أخذوا يتوددون ويتمنون أن تعاد لهم حياتهم في الدنيا؛ ليطيعوا ويعبدوا، ولكن هيهات هيهات، فقالوا: يا ربنا! أنت الحاكم العدل، والحجة البالغة لك، فنعترف بذلك، ((أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ)) أي: الموت الأول هو العدم قبل الخروج إلى دار الدنيا، حيث كنا في العدم، وحيث كان لا وجود لنا، حيث كنا ذراً في أصلاب آبائنا، وفي صلب أبينا الأول آدم عليه السلام، فكان ذلك عدماً وموتاً، فتلك الموتة الأولى.
وكانت الموتة الثانية عندما خرجوا للوجود ودعوا للإيمان بالله، وبرسله وبكتبه ثم ماتوا الموتة الثانية، فهم قد اعترفوا إن الله هو القادر على كل شيء، وأنه أخردهم من العدم للوجود، ثم أماتهم الموتة الثانية بعد الوجود.
قالوا: ((فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا)) يا ربنا قد اعترفنا أنك القادر على كل شيء، فلا شريك لك ولا ند، وأنت وحدك الذي أحييتنا بعد عدم، ثم أحييتنا بعد وجود، فهي حياتان، ثم أنت -جل جلالك- أمتنا يوم لم نكن، ثم أمتنا بعد أن كنا، فنحن قد اعترفنا بوحدانيتك وبربوبيتك، واعترفنا بذنوبنا ومعاصينا.
((فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)).
تلك كانت مقدمة يرجون بها ربهم؛ فهل يمكن بعد ذلك الإيمان والاعتراف وقد فات زمنه، هل يمكن أن يرجعوا مرة ثانية إلى دار الدنيا؛ ليعبدوا وليوحدوا وليطيعوا؟ هيهات هيهات، وإلى أين يرجعون؟ فالدنيا انتهت وفنيت، والأنبياء فد أدوا مهماتهم وقاموا بوظائفهم، فمن الذي سيدعوهم من جديد، فهم إذاً يتمنون الأماني الباطلة، ويتمنون ما لا يكون.
(فهل إلى خروج من سبيل) أي: فهل إلى مرد ورجوع وخروج من النار، والعودة إلى الدنيا سبيل؟ فهم يستفهمون،
و
الجواب
لا عودة ولا رجعة أبداً إلى الدنيا.(283/4)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم)
قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12] أي: سبب عدم العودة والخروج من النار، وسبب عدم الرجوع إلى دار الدنيا، ((ذَلِكُمْ)) (ذا) اسم إشارة، (كم) للمخاطبين الجماعة وهم سكان النار.
{ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12].
ومعنى ذلك أنكم كنتم -وهذا ناتج من فساد قلوبكم- إذا دعي وعبد الله، وإذا ذكر الله وحده كفرتم بذلك، وكفرتم بالله الواحد الخالق الرازق المحيي المميت.
((وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا)) وإن سمعتم من يقول: إن الله ثالث ثلاثة، وإذا سمعتم من يقول: عزير ابن الله، وإذا سمعتم من يقول: نحن أبناء الله أعجبكم ذلك وسركم، وآمنتم به، فأشركتم مع المشركين، وكفرتم مع الكافرين.
فإذا ذكر اسم الله، وإذا وحد الله نفرت قلوبهم واشمأزت، وكفرت وتعالت على الله.
((وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)) أي: دعي الذين من دونه من المشركين ((إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ))، وهذا يقال لهم يوم القيامة، وقد قيل في الدنيا.
((ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ))، فهو الحاكم الأبدي، وهو الحاكم العادل، فلا حاكم معه، ولا شريك له، فهو العلي الكبير، العلي الذي لا أعلى منه، والكبير الذي لا أكبر منه، وشعار المؤمن في كل حال: الله أكبر، فالله أكبر من كل كبير، وهو يقولها سواء مصلياً قائماً أو ساجداً وجالساً، وهو على كل اعتبار ينادى في الأذان: الله أكبر، وفي الإقامة: الله أكبر، وفي الصلاة في جميع حركتها.(283/5)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي يريكم آياته)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13].
فالله جل جلاله هو الذي يرينا آياته، وعلامات قدرته ووحدانيته، ومعجزات أنبيائه، وكتبه، فقد أراناها في زمن الحياة النبوية وبعدها؛ وقرأناها في السماء وفي الأرض، وفي كل عصر من العصور، ومن المعجزات التي نعيشها: القرآن الكريم الذي قال الله فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقد نزلت هذه والصحابة متوافرون، وبعد أكثر من 1400 عام إذا بكتاب الله كما يخبر الله عنه لم يبدل، ولم يؤول، ولم تبدل ولم تنقص منه كلمة، ولم تنقص منه حركة، وكأنه نزل ساعة نهاره غضاً طرياً كما أنزل، فنحن نتلوه ونقرؤه كما كان يتلوه المصطفى صلى الله عليه وسلم في محاريب البيت الحرام ومسجده النبوي.
وهذه أكبر المعجزات وأكبر الدلالات التي شاهدناها وعشناها، ولقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه معجزته الخالدة الثابتة السرمدية.
وقد يقول قائل: لم لم يحفظ الزبور وهو كلام الله والتوراة والإنجيل كذلك، فقد بدلت جميعها وغيرت وحرفت عن مواضعها؟
و
الجواب
أن من أنزل عليهم من بني إسرائيل استحفظوا على كتاب الله، فطولبوا بحفظه وبصيانته وبالقوام عليه فتعززوا عن ذلك، ولكن القرآن الكريم لم يكل الله حفظه إلى أحد من الخلق، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
والذكر يشمل القرآن والسنة والفقه، ولغة العرب؛ لأن في ذلك كله من القرآن، فالقرآن نزل بلغة العرب، والسنة مبينة شارحة، والفقه خلاصة ذلك، واللغة الأداة للفهم وللدرس والمدارسة، فحفظ الله كل ذلك، وسيبقى قائماً على دين الله، وعلى كتاب الله، وعلى سنة نبيه عليه الصلاة والسلام من يحفظها من التحريف إلى يوم القيامة، كما يخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم وهم على ذلك إلى يوم القيامة)، فمهما كفر الكافرون، ونافق المنافقون، فلابد وأن تبقى حجج الله في الأرض؛ لتخبر بصدق وببيان القرآن، وسلامته من النقصان.
((هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا)) أي: يغذي عقولكم بالعلم والمعرفة، ويغذي أجسادكم بالطعام والشراب.
ونزول الرزق من السماء: هو نزول المطر والغيث، ونزول الرحمة من ربنا، فهو أنزل ذلك غذاء لقلوبنا وأجسامنا، وأرانا آياته في الأرض غذاء لعقولنا، وغذاء لأرواحنا جل جلاله، فهو الكريم الجواد المتعال.
قال تعالى: ((وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ)) أي: لا يتذكر هذه المعاني، ولا يدركها ويعيها ولا يعطيها فكره وعقله ووعيه إلا من ينيب إلى الله ويعود ويرجع إليه، ومن تطهر من الشرك ومن درنه وأوساخه ومن المعاصي وقاذوراتها، ومن نظف ظاهره ونظف باطنه لتلقي الحقائق والعلوم والمعارف، ولتلقي وحي الله في كتابه الكريم، ومن بيان نبيه في سنته، عليه أزكى الصلاة والسلام.
((وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ)) أي: إلا من أناب وعاد إلى الله، واستغفر من شركه، وأما وهو مادام على شركه فنيته قذرة وسخة لا تقبل النور، وكما تقول الحكمة: التخلية قبل التحلية.
والعروس عندما نريد زفافها لعريسها ندخلها الحمام أولاً، فتطهر بدنها، وتنظف جسدها، وتلبس جديداً من الثياب، وتلبس الحلي والحلل، أما وهي على أوساخ المطبخ وأوساخ الدار وروائح البصل والثوم ونقوم نلبسها الحرير والديباج! فليس هذا عمل العقلاء.
فالمؤمن إذا أراد الفهم والوعي والإدراك وإنارة بصيرته فعليه أن يتخلى عن أوساخ ذنوبه، وقاذورات المعاصي، فيستغفر الله ويتوب إليه، ويندم على ما فات منه، ويقرع قلبه وصدره ووعيه وفهمه لتلقي فهم كتاب الله وفهم رسوله.
وأما إذا أراد أن يتذكر وهو على المعاصي، وهو على فساده وقاذوراته وأوساخه فهيهات هيهات، فلابد أولاً من التخلي عن القاذورات والأوساخ؛ ليتحلى بالطاعات، وليتحلى بالرضا والعلم ومدارسته.(283/6)
تفسير قوله تعالى: (فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)
قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14].
يدعونا ربنا إلى طاعته، وإلى الإنابة إليه، وإلى العودة إليه من ذنوبنا ومن معاصينا، وأن نستغفره ونتوب إليه؛ لنكون محل دعوات الملائكة عندما يستغفرون الله لنا، وعندما يدعون الله لنا، بأن نكون في اجتماع آبائنا أولادنا وأزواجنا، ليرفع الوضيع إلى حيث الرفيع في أعلى الدرجات، ولن يكون هذا إلا إذا دعونا الله مخلصين له الدين.
((فَادْعُوا اللَّهَ)) أي: فاعبدوا واشكروا ووحدوا الله.
((مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) مخلصين طاعتكم وعبادتكم له، بلا رياء ولا سمعة ولا شريك ولا ند ولا مثيل، فالله وحده هو القادر الخالق الرازق المحيي المميت، فيجب أن تنحصر عبادتنا له وحده، فلا نشوبها برياء ولا بتسميع فضلاً عن أنواع الشرك الأخرى.
((فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) أي: تفرغوا لعبادة الله وحده، على أن يكون الدين الخالص لله لا لأحد معه لا لثناء ولا لجزاء من غيره، فالله وحده هو الذي يجزي، والله وحده هو المثيب.
((وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ))، يقول تعالى هذا للمؤمنين عندما يكفر الكفرة بدعوتهم، وعندما يبقون ثابتين ثبوت الجبال، وراسخين رسوخ الراسيات على دينهم، فلا يهتمون بكفر كافر، ولا بنفاق منافق.
ولذلك نجد الكثيرين في عصرنا ممن يخجل من إظهار صلاته، ويجامل الكافرين، فيخفي صلاته وعبادته، فهو لا يملك القوة القلبية ولا الجرأة النفسية ليعلن دينه حيث كان.
والمسلمون مطالبون إذا كانوا مارين في بلاد الكفر بإعلان الأذان جهاراً، ثم تقام الصلاة جهاراً، ثم يقوم المسلمون فيصلون ولا يلتفتون إلى غيرهم من الكافرين.
وذاك مما يحزن الكافرين والمنافقين، ونحن عندنا من الإخلاص لله أن نعلن عبادتنا.
ومن أشد ما يؤلمهم ويسيء نفوسهم أن تأتي في مجتمعاتهم وتعلن طاعتك وتعلن عبادته، وتعلن شعار إيمانك: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهكذا يدعونا الله فيقول: (فادعوا الله مخلصين له الدين)، فتمحضون دينكم له بلا رياء ولا سمعة، ولا ند ولا شريك.
((وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) أي: لا عليكم في كراهيتهم إن كرهوكم، فالله يحب ذلك منكم، ويجازيكم عليه، ويدخلكم جناته، ويخلفكم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وعن عبد الله بن الزبير -كما في صحيح مسلم وبقية الصحاح والسنن- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة -أي: عقب كل فريضة ينتهي منها-: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، له المجد وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرين).
((وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) وإلى جهنم وبئس المصير.
ومن بركات الأذان للصلاة: أن المسلم عندما يعلن صلاته يكون ساعة إعلانه لها داعية إلى الله بعمله قبل قوله، ففي أرض سويسرا نزلت طائرة حجاج آتية من أرض السنغال، فنزل هناك الركاب وعليهم الثياب البيض وهم محرمون، فبادروا إلى الماء فتوضئوا وتقدمهم أحدهم فأذن أعلن الأذان، ثم تقدم إمام وأخذ يصلي، فكان النصارى ينظرون إلى ما لم تره أعينهم من قبل، إلى أن انتهوا من الصلاة، فجاء واحد منهم وكان طبيباً، وسأل هذا الإمام: ماذا تصنعون؟ وشعب سويسرا يتكلمون بالفرنسية، فقال: نصلي، قال: ما الصلاة؟ قال: ما رأيتم، قال: لم هذا الترتيب العسكري؟ فهناك واحد يصلون بصلاته، ويركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، قال: هكذا أمرنا الله، فصلاتنا وعبادتنا وديننا نظامي لا يقبل الفوضى في شيء من الأشياء، قال: ولم صليتم في هذه الجهة ولم تصلوا في الأخرى؟ قالوا: نستقبل الكعبة، فهي مكان اتجاه المسلمين في الأرض كلها.
فواصلت الطائرة رحلتها، وبعد ذلك أسلم هذا الطبيب وبحث عن كتب إسلامية وأسلم على يديه آلاف من أهل بلده، والآن في سويسرا مساجد ومعابد ومدارس ومؤمنون موحدون، وكان سبب إسلامهم وإيمانهم هذه الصلاة المعلنة من هؤلاء السود وقد جاءوا من السنغال، ولم يكن يخطر لهم ببال يوماً أن يكونوا دعاة إلى الله.(283/7)
تفسير سورة غافر [15 - 19]
إن الله تعالى هو رفيع الدرجات وذو العرش، وهو الذي يرفع من يشاء من عباده درجات، فجعل بعضهم درجات ومراتب.
والملك في الدنيا والآخرة هو لله تعالى لا شريك له، فإذا حشر الخلق وجمعهم يوم القيامة قال لهم: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيقول: لله الواحد القهار، وهو سبحانه من عظمته يعلم خائنة الأعين وما تخفيه الصدور والنفوس.(284/1)
تفسير قوله تعالى: (رفيع الدرجات ذو العرش)
قال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15].
يصف نفسه جل جلاله وعلا مقامه بأنه رفيع الدرجات، وعرشه أعلى شيء في هذا الكون، فإن بيننا وبين سماء الدنيا خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبعد السماء السابعة سدرة المنتهى، وفوق ذلك العرش ولا أعلى منه، ويخبرنا تعالى عن المسافة إليه: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، تعرج الملائكة أي: أنها تطير ولا تمشي على رجلين، وإنما تطير إليه في يوم مقداره من سنوات الأرض وتوقيتها: خمسون ألف سنة.
(ذو العرش) أي: صاحب العرش، ومن عظمة الله أن العرش عظيم، وما قدر السماوات والأرض إليه إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وهذا يدل على عظم وكبر العرش، وبهذا فسر قوله: (رفيع الدرجات) وبعضهم فسرها: رافع الدرجات، فيكون فعيل بمعنى فاعل، أي: يرفع درجات عباده من الدرجة الأولى في الجنة إلى ما هو أعلى منها، إلى الفردوس الأعلى، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (الجنة درجات، وما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، وأعلى درجات الجنان الفردوس، وهي منازل الأنبياء والمرسلين).
وقال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253] وصاحب أعلى الدرجات هو نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، والأنبياء درجات: فأفضلهم الخمسة أولو العزم، ومنهم من هم دونهم، وهكذا الناس منهم الصالح التقي العارف بالله، ومنهم العاصي المقصر، وكذلك الصحابة، والذي يفعل ذلك فيرفع الدرجات هو ربنا.
ومن الناس من ليس له أكثر من لا إله إلا الله، ولذا نكون على خير إن متنا على كلمة التوحيد، ولكن مع ذلك شتان بين من هو مؤمن ومن هو عاص مذنب.
{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر:15] أي: رافع عباده وخلقه درجات، فهناك الملائكة المخلوقون من نور، وهناك الشياطين المخلوقون من نار، وشتان بين النور والنار، وهناك البشر المخلوق من طين، ومع ذلك حكم الله البشر وهم المخلوقين من الطين فمنه يخرج النبت ومنه رزق الأرض، فكان صالح المؤمنين أفضل من الملائكة، وكان البشر أفضل من الجن، وكان الملائكة أفضل من الخلق إلا من الصالحين العارفين بالله الكبار، وأعلاهم الأنبياء والمرسلون، فهذا المعنى أيضاً تحتمله الآية وكل ذلك حق.
{ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15] أي: خالقه ومكونه ومدبره، هذا الذي يحمله من الملائكة ثمانية، والذي يطوف حوله سبعون ألف صف، وخلف كل صف سبعون ألف صف آخر من الملائكة، كلهم يذكرون ويعبدون الله ويوحدون الله ويؤمنون بالله، ويستغفرون للمؤمنين من أهل الأرض.
{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر:15] معنى الروح: إما الوحي وإما جبريل، والمؤدى واحد، فإنه ينزل جبريل بالوحي إلى من يشاء من عباده، فيجعلهم رسلاً ينقلون رسائل الله ورسالته إلى البشر وإلى الجن.
والوحي كذلك، فالوحي ينزل على من يشاء من عباده من الأنبياء والمرسلين، بداية للخلق، بداية للجن والإنس.
(يلقي الروح من أمره) أي: بأمره، فيكون ذلك عن أمر الله، وعن إرادة الله، وبما يريد الله جل جلاله.
(يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده) ومن ألقي إليه الوحي وجاءه جبريل بالرسالة كان نبياً أو رسولاً، إما نبي أمر بالعمل في نفسه، ولم يؤمر بنشر ذلك لغيره، وإما أمر بالعمل بنفسه وأن ينشر لغيره وهو الرسول، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً.
{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15] أي: لينذر هذا الذي أنزل إليه الروح، وبعث إليه رسالته فيوعد ويهدد وينذر (يوم التلاق)، وهذا اسم من أسماء يوم القيامة، ومعناه اليوم الذي يلتقي فيه الخالق بخلقه، ويلتقي فيه آدم مع جميع أبنائه وإلى آخر ولد منهم، ويلتقي المؤمنون والكافرون، ويلتقي كل الخلق ملائكة وجن وإنس، منذ أمة آدم وإلى أمة نبينا وإلى آخر واحد منهم.
{يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15] يوم قضاء الله بين العباد، يوم يؤخذ من الظالم للمظلوم، ومن القوي للضعيف، يوم يحاسب الكافر على كفره، والمسلم على إسلامه، هذا إلى جنة وذاك إلى نار.
{لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15] لينذر الناس يوم القيامة، يقول للناس: اتقوا يوم القيامة، اتقوا اليوم الآخر، اتقوا الآخرة فإننا لم نُخلق عبثاً، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فاتقوا الله في مثل هذا اليوم الذي يعرض فيه الخلق على الله فيحاكم الإنسان على النقير والقطمير، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
والله جعل الكفر بالآخرة شعاراً للفكر فقال: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الزمر:45]، فصفة الكافرين أنهم يكفرون بيوم القيامة؛ فإنهم يقولون: لا حياة بعد الموت، ولا مرجع ولا نشر ولا بعث ولا حساب ولا عقاب، وقد وجدت طائفة من ضالي المؤمنين ومن كفرتهم ممن يزعمون الإسلام وهم من اليهود والنصارى في النار كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهم الذين يقولون: البعث بالأرواح لا بالأجسام، وهم كفرة منكرون لما جاء في كتاب الله واضحاً بيناً، ولما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(284/2)
تفسير قوله تعالى: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء)
{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].
قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} [غافر:16] أي: اليوم الذي يبرز الخلق فيه أمام الله، فلا يسترهم جبل ولا تلة ولا يحجبهم شيء، فيبرزون لله ويظهرون عراة حفاة غرلاً، في يوم كان مقداره كألف سنة مما تعدون، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:34 - 35]، يوم يأتون وكل يقول نفسي نفسي، فلا يسأل الأب عن الولد، ولا يسأل الولد عن الوالد، يوم يأتي الناس وجميع الأمم إلى آدم وهم يقولون: يا أبانا يا آدم! انظر لما نحن عليه من كرب وغم، فيقول: نفسي نفسي.
وهكذا يقول نوح وإبراهيم وبقية الأنبياء بما فيهم عيسى، كل واحد يقول: نفسي نفسي، إلى أن يرشدوا ويقال لهم: (اذهبوا إلى محمد، فيأتون إليه فيقول: أنا لها، أنا لها) فيقع ساجداً تحت العرش وعند ساق العرش، فيدعو الله بمحامد لا يعلمها إلا ذلك الوقت، كما أخبر عن نفسه عليه الصلاة والسلام، ويبقى ما شاء الله أن يبقى، فقد يبقى سنة أو سنتين أو أكثر، فالله أعلم بهذا الزمن خصوصاً، إذا علمنا أن اليوم هناك بألف سنة، فيقال له بعد ذلك: (ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع)، صلى الله عليه وعلى آله.
اللهم اجعلنا من أهل شفاعته وكرامته.
{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} [غافر:16] أي: في يوم التلاق، يوم الاالتقاء والاجتماع.
{لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} [غافر:16] فهو يعلم ظاهرهم وباطنهم، ويعلم ما تحدث به نفوسهم، وما يهمسون به مع بعضهم، وما يعلنون وما يكتمون، وهو العالم بالأسرار وبالضمائر، وبما تحدث به النفس وما تخفيه.
{لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16].
لقد انتهت ملوك الأرض، وانتهت الأساطيل والجاه والبيوت والأموال، وأصبحوا عبيداً، وفي هذه الساعة يقول الله جل جلاله: (أنا الملك، أنا الجبار، أنا المتكبر، أين المتكبرون؟ أين الجبابرة؟ أين ملوك الأرض؟) فعندما لا يجيبه أحد يقول: (أنا الملك، أنا الملك، أنا الملك)، يقول هذا عن نفسه جل جلاله، ولا يجيبه أحد، لأنه لا ملك ولا ملوك.
{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] أي: يسأل الله فيقول ذلك، فعندما لا يجيبه أحد يجيب نفسه بنفسه فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] أي: لله الواحد الذي لا ثاني له، لا في الوجود، ولا في الملك ولا في شيء من الأشياء، وهو الذي قهر العباد فخلقهم من عدم، وأعادهم إلى العدم، وأحياهم مرة ثانية، قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، فقهرهم بالموت وبالحاجة وبالحساب، ولذلك فالله وحده هو القاهر والجبار، ولم ينازعه أحد من خلقه في ذلك إلا وقصمه الله، ومن يتأله على الله يهلكه؛ لأننا نحن لا نملك أنفسنا، ولم نخلقها ولم نرزقها، فالكل من الله والكل إليه، فهو الذي خلقنا فيتصرف فينا كيف شاء، وهو سيدنا والحكم له، والقضاء له، ولا أحد معه، وكل ما يسع المؤمن أن يستجيب لدعوات الرسل فيقول: لا إله إلا الله مع الموحدين من البشر، فيرجو رحمة ربه، وأن ينال رضا الله وجنة الله يوم القيامة، ومن حصل على ذلك فذلك هو الفوز العظيم.(284/3)
تفسير قوله تعالى: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت)
قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17].
(اليوم) أي: يوم الآزفة، ويوم التلاق، أي: اليوم الذي هم بارزون فيه أمام الله لا يسترهم شيء، ففي هذا اليوم {تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر:17]، يوم يحاسب الخلق وتجازى كل نفس بالذي كسبته، وبما تخولته وصنعته وفعلته وأصبح كسباً لها من خير أو شر، فأما الذي كتب الخير فله الخير، وله الرحمة والجنان، والذي اكتسب الشر وارتكب الشر فله الإثم والغضب والنيران.
{ْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر:17] كل نفس كانت لذكر أو أنثى، أو كانت لجن أو إنس، تحاسب كل نفس على حدة، فقد خرجنا وحداناً إلى العالم من بطون أمهاتنا، وسنعود وحداناً، وسنحاسب وحداناً، فمن أتى بالخيرات والطاعات والعبادات فيا فوزه ويا سعادته! فمن نجا فإنه لا يذل ولا يخزى ولا يُلعن، ومن خسر فقد خسر الدنيا والآخرة، خسر أهله وولده ووجوده.
{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] يقول الله جل جلاله: لن نظلم أحداً، وبيان هذا جاء في حديث قدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم) إلى آخر الحديث، ثم قال: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) فالله لن يظلم أحداً وحاشاه ذلك، فقد حرم الظلم على نفسه كما حرمه على خلقه.
{لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، فحساب هذه الخلائق بما فيها من عشرات ومئات وملايين كحساب شخص واحد، قال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]، فقد خلقنا ونحن بهذه الأعداد، وأماتنا ونحن في هذه الأعداد، وذلك كما لو بعث نفساً واحدة أو خلق نفساً واحدة، وهو لا يعرف كللاً ولا سأماً، لا كما يقول الكفار من النصارى عليهم لعنات الله: إنه خلق الدنيا في ستة أيام ثم استراح اليوم السابع.
وهذا قول العقول السخيفة الكافرة التي تتطاول على عظمة الله، تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً.
{مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] فإذا أراد أمراً فإنما يقول له: كن، فيكون، ولن يحتاج الأمر إلى أكثر ذلك.
(إن الله سريع الحساب)، قد يتساءل المتسائل: هؤلاء الخلائق من عصر آدم إلى عصرنا كم يحتاجون لوقت لإنهاء حسابهم؟
و
الجواب
أن الله سريع الحساب ينهي ذلك في لحظات، فهو قادر على ذلك في لحظات، ومثال ذلك: أننا نرى في المنام أننا تزوجنا وولدنا وحاربنا وقاتلنا، وسافرنا وعدنا، فتصحوا وتنظر إلى الساعة فإذا بكل ذلك قد تم خلال خمس دقائق، وفي المنام تظن أنك عشت سنوات، ومن ذلك يمكن للإنسان أن يتصور سرعة الحساب بقدرة الله.(284/4)
تفسير قوله تعالى: (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين)
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18].
قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ} [غافر:18] يقول جل جلاله لمن اختارهم للوحي، ولمن اختارهم للرسالة، ويقول لنبينا عليه الصلاة والسلام ويقص الله عليه عمله مع الأنبياء والمرسلين من قبله، بأن ينذروا يوم التلاق، وقال هنا: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر:18] والآزفة كذلك اسم من أسماء يوم القيامة، والآزفة من أزف يأزف إذا قرب، قال تعالى: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:57 - 58].
فأنذر الناس وهددهم وخوفهم وأوعدهم وتوعدهم يوم القيامة، وانصحهم بذلك؛ لعلهم يتوبون ويئوبون ويوحدون.
{إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر:18] وذلك من شدة الفزع، فمن الهول ومن الكرب فالقلوب تصعد إلى الحناجر، وتكاد تخرج للفم، ولكنها لا تخرج ولا ترجع لمكانها، فتبقى على هذه الحال، والإنسان لا يموت، فلا القلب رجع لمكانه من الصدر، ولا خرج من فمات واستراح، فيظل القلب باقياً للوجع وللرعب والهلع؛ نتيجة هذا اليوم العظيم.
{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] والظالمون هم الكافرون.
وأما المؤمنون فيجدون الأنبياء يشفعون لهم، والصالحين من الآباء ومن الشيوخ ومن الأقارب ومن الأصدقاء يشفعون للمؤمن الموحد، وأما الظالم المشرك الكافر بالله فيقول الله فيه: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} [غافر:18] أي: من قريب، كابن عم أو أخ.
{وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] ليس له قريب يطاع في شأنه ويتلطف له، ويشفع له، ولا شفيع من غير الأقارب يشفع للظالم؛ لأنه لا شفاعة إلا للمؤمن، ولا شفاعة إلا بإذن الله، وإلا لمن ارتضى الله.
وأما غير المؤمن فلن يشفع، ولن تقبل له شفاعة، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، ولن يشفع إلا من ارتضى، ومن سوى المؤمن لا يشفع ولا تقبل له شفاعة، وهو لا يستطيع أن يشفع لنفسه فينقذها من عذاب النار قبل أن يشفع لغيره.(284/5)
تفسير قوله تعالى: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)
قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
ربنا جل جلاله يعلم العين الخائنة، العين التي تنظر إلى الحرام خلسة، أو بالنظر والغمز واللمز، حتى تلك العين يعرفها ويراها ويحاسب عليها.(284/6)
تفسير سورة غافر [19 - 22]
إن الله تبارك وتعالى له العلم المطلق والإحاطة التامة بكل شيء، فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفيه الصدور، ويعلم السر وأخفى.
وقد أمر الله تعالى العباد في هذه الآيات أن يسيروا في الأرض؛ كي يروا عاقبة الأمم المكذبة السابقة، وما حل بهم لما عصوا أمر ربهم.(285/1)
تفسير قوله تعالى: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)
قال الله جل جلاله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
إن ربنا جل جلاله لا يخفى عنه شيء، ويعلم ما تسر الأنفس وما تعلن، وهو جل جلاله يذكر هنا أنه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} أي: يعلم الأعين الخائنة، وهي التي تسارق النظر فيما حرم الله، كأن تمر امرأة فيحاول أن ينظر إليها حراماً، فإذا انتبه له غض بصره، وإذا غض الناس عنه رفع بصره يتتبع عورات النساء.
فالعين الخائنة هي التي تنظر إلى ما حرم الله من عورات الرجال والنساء، ومن الإشراف على ما لا يحل له أن ينظر إليه، والنبي عليه الصلاة والسلام طرق بابه أحد يوماً في المدينة المنورة فجعل ينظر من خلل الباب، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبحث عن شيء ليفقأ به عينه، ثم خرج إليه وقال: (لو وجدتك تنظر لفقأت عينك) ولذلك يقول الأئمة: إن جزاء من ينظر إلى ما حرم الله أو إلى عورات ما يكون عادة مخفياً في البيت -وما جعلت الأبواب إلا لستر ذلك- أن تفقأ عينه من صاحب البيت أو صاحب الشأن، فيكون قد عاقبه بما أمر به الشرع.
والنبي عليه الصلاة والسلام عند فتح مكة أهدر دم أربعة عشر إنساناً: ثمانية رجال وست نساء وقال: (اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة) فقتل من قتل، وفر من فر، وإذا بـ عثمان بن عفان رضي الله عنه يأتي بواحد -وهو قريب له نسباً- ممن أهدر النبي عليه الصلاة والسلام دمه واسمه عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقال: (يا رسول الله! اقبل من ابن أخيك توبته وإيمانه، فسكت عنه النبي عليه الصلاة والسلام ولم يلتفت إليه زمناً من الوقت، وبعد إلحاح عثمان قبل توبته)، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يحترم عثمان ويستحيي منه؛ إذ كان قد خرج عن قومه بني أمية وقد ظاهروا النبي عليه الصلاة والسلام بالعداوة والحرب على وتيرة واحدة، كما هو شأنهم في الجاهلية، وتولى حرب رسول الله والمسلمين كبيرهم أبو سفيان بن حرب، فخرج عثمان عنهم وآمن برسول الله وكان من السابقين الأولين صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعندما جاء شفيعاً لـ عبد الله بن أبي سرح سكت عنه النبي زمناً، وبعد ذلك الزمن قبل منه عليه الصلاة والسلام، ومد يده إليه فجدد توبته وإيمانه، ثم التفت للحاضرين فقال لهم: (ألم يكن منكم أحد يقوم إليه فيقتله؟ قالوا: يا رسول الله! ألا أشرت إلينا بعينك لنقتله؟! قال: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين) أي: ما يجوز وما ينبغي من نبي معصوم أن يقابل الناس بوجه وأن يكتم عنهم وجهاً، ففي هذه الحالة يكون ذلك تغرير لا يليق برسول الله، بل ولا يليق بالمؤمن الفاضل، فإما أن يقتل علناً ويجدد الأمر بقتله، أو يتركه كما قد فعل، أما أن يوهمه بأنه سيتركه ثم يغمز بعينه ليقتل فهي خائنة الأعين.
والعين الخائنة: هي التي أظهرت شيئاً وأبطنت شيئاً آخر، وهو ما يقول الله تعالى عنه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} [غافر:19].
وعبد الله بن أبي سرح كان قد أسلم قبل وكتب الوحي، ثم ارتد عن الإسلام، فأهدر النبي دمه، ولكن الله أراد شيئاً وأراد النبي غيره، وما يريده الله هو الأصلح والأكمل؛ لأنه خالق العباد، وهو أدرى بمصالحهم، فـ ابن أبي سرح هذا أخذ يكذب عندما ارتد، وقال: كان يأمرني أن أكتب (شديد العقاب)، فأكتب (غفور رحيم)، فيبدل ويغير، فلو قتل لقال أعداء الإسلام: ها هو رجل كان يكتب الوحي، فلما كشف السر قتله النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الله أبقى ابن أبي سرح إلى أن أسلم، فلما حسن إسلامه جعل يكذب نفسه في المجالس ويقول: لا والله، ما غيرت كلمة مما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابتها، ولكن الشيطان تلاعب به وأغراه، فأخذ يكذب على الله ورسوله، فهو تائب إلى الله ولن يعود، وهو الذي كان قائد الجيش في فتح طرابلس وبرقة التي أصبحت تسمى أخيراً باسم: ليبيا.
قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} أي: يخبر جل جلاله بأنه العالم بكل شيء، حتى بغمزة العين، وما يريد صاحبها أن يقول، كما يعلم ما تسره الضمائر، وما تبطنه النفوس مما لا يتكلم ولا ينطق به؛ ولذلك فالله جل جلاله لا تخفى عليه خافية، فمن حاول أن يكتم شروره وآثامه فإن لم يعلمها البشر فالله جل جلاله يعلمها، وهو لا تخفى عليه خافية، حتى إذا جاء يوم القيامة وجده معروضاً على الله للحساب: كل ما كان يعمله في الحياة الدنيا من جرائم وذنوب وآثام، فإما أن يغفر الله له وقد جاء موحداً مؤمناً، وإما أن يأتي مشركاً فلا توبة ولا رحمة لمشرك إن مات على شركه.(285/2)
تفسير قوله تعالى: (والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء)
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:20].
يخبر ربنا جل جلاله أنه هو الذي يقضي بالحق، فالله قضاؤه حق، وأمره حق، وهو الحق جل جلاله ولا يقضي ولا يحكم إلا بالحق، ولا يحكم إلا بالعدل، ولا يحكم بين الناس إلا لنصرة المظلوم وأخذ حقه من الظالم، والله يقضي بالحق، أي: بالعدل والإنصاف، فيحكم بين عباده يوم عرضهم عليه بالحق.
قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ)) الأصنام والأوثان هي التي يدعونها ويعبدونها ويشركون بها، فلا تقضي لهم بشيء؛ إذ هي أعجز من القضاء، وأعجز من أن تحكم، وأعجز من أن تصنع لنفسها شيئاً، فكيف بغيرها.
فهؤلاء الذين يتعلقون بالأوثان، أو بالشركاء من دون الله لا يتعلقون إلا بالسراب، ولا يرتبطون إلا بمن لا يضرهم ولا ينفعهم، وهو أعجز من أن ينفع نفسه أو يضرها فضلاً عن أن يخدم غيره ضراً أو نفعاً، إن هي إلا أباطيل وأضاليل وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان.
قوله تعالى: ((وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ)) أي: من عبدهم المشركون ممن هم دون الله من الأوثان والأصنام لا يقضون بشيء، لا حقاً ولا ظلماً، لا باطلاً ولا صواباً، فهم عجزة، فهم مخلوقون أذلة لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فكيف يملكونه لسواهم.
قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) أي: إن الله سميع لمن قال خيراً أو شراً، بصير بمن فعل خيراً أو شراً، لا تخفى عليه جل جلاله خافية، فهو البصير والعليم، وهو جل جلاله مهما حاول مشرك أو عاص أو مذنب أن يخفي شيئاً مما في ضميره ونفسه عن الله لن يكون ذلك أبداً، فالله لا تخفى عليه خافية لا في الأرض ولا في السماء، فهو السميع لأقوالنا، والبصير بأفعالنا، فمن فعل خيراً وجده، ومن قال خيراً وجده، ومن قال سوءاً وجده، ومن فعل سوءاً كذلك.
قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].(285/3)
تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم)
قال الله تعالى: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [غافر:21].
يقول الله لهؤلاء وهم أهل بداوى وحقارة، وهم أضعف سلطاناً وجنداً وعلماً، وهم أقل الأمم إذ ذاك من حيث الحول والحكم، ومن حيث الملك والسلطان، هؤلاء الذين تعاظموا على ربهم، وتكبروا على قول: لا إله إلا الله، فعلام اعتمدوا؟ وأين قوتهم؟ أين سلطانهم؟ أين من ينجيهم من عذاب الله؟ قال تعالى: ((أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)) وهذا استفهام تقريري توبيخي تقريعي، يقول الله لهؤلاء: ألم ينتقلوا في الأرض ويضربوا في أركانها: في مشارقها ومغاربها، وينظروا إلى الذين كانوا قبلهم من الشعوب والأمم؟ كيف كان مآلهم عندما كفروا بالله وأشركوا به غيره؟ ولقد كانوا أشد قوة وملكاً وجنداً، وأغنى مالاً، وأوسع جاهاً ورقعة، وكانوا كذلك أكثر آثاراً في الأرض، وتركوا من الآثار وأنواع الحضارات والبنايات والمدائن والقرى والزراعة وما إلى ذلك الشيء العظيم، هؤلاء على كونهم كانوا أشد قوة وأكثر آثاراً في الأرض -جمع أثر، وهو ما تركوه من آثارهم، ومن علامة حضارتهم، ومن شدة قوتهم وسلطانهم- كيف كان مآلهم وقد كفروا بالله؟ لقد أخذهم الله إليه أخذ عزيز مقتدر، ولم يجدوا واقياً من الله، ولا مدافعاً عنهم، فالله الخالق للقوي والضعيف، وهو القادر على الكل جل جلاله، ولن يجد المخالف ولا المشرك من يدفع عنه ويقيه من عذاب الله، هيهات هيهات! فيقول الله للمشركين الذين عاصروا نبي الله عليه الصلاة والسلام وأبوا الإيمان والإسلام والإيقان: كيف تكفرون وأنتم تتجولون في الأرض وترون آثار من سبقوكم؟ حيث إنهم على قوتهم في الأرض عندما كفروا بربهم وبأنبيائهم أخذهم الله إليه أخذ عزيز مقتدر، وهذا الذي يقوله الله جل جلاله قد تكرر في غير ما آية، وفي غير ما مناسبة، وقاله الله منذ ألف وأربعمائة عام، وأنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وسمعه من عاصروه من المهاجرين والأنصار والبشر مؤمنهم وكافرهم.
ولا يزال هذا واقعاً لنا ونخاطب به نحن، فنحن نرى آثار الأولين في أهرامات مصر، وفي موميات مصر، وفي قصور بابل في العراق، وفي الآثار والحفريات التي نراها هنا في بلدنا، ونراها في أرض الشام، ونراها في أرض المغرب، ونراها في مختلف قارات الأرض، فهذه الأهرامات الصخرة الواحدة فيها تكاد تسع ركناً من هذه الأركان، فقطعت وجرت ثم رفعت واحدة على أخرى بشكل ذكر وأنثى، من الذي اقتطعها من جبال سيناء؟ كيف قطعت؟ بأي آلة؟ ومن الذي نجرها على هذا الشكل؟ ثم كيف جرت؟ ومن حملها؟ وكيف وصلوا بها من سيناء إلى أرض القاهرة؟ وكيف حملت بعد ذلك ووضعت صخرة على صخرة إلى الآن؟ لا يتذكر الناس في ذلك رغم قولهم إنهم وصلوا للحضارة، ووصلوا في الاختراعات والاكتشافات -في زعمهم- ما لم يصل إليه أحد من الشعوب السابقة، وهذا كذب وهراء، وهذا ادعاء لا دليل عليه، وقد مضى على الأهرامات آلاف من السنين وهي هي كأنها نبتت شجرة في مكانها، ما هي الآلة التي قطعتها من الجبال؟ ما هي الآلة التي صنعتها على الشكل الذي يريدون؟ هل حملها الإنسان وهو أعجز من ذلك وأضعف؟ أم الدواب وهي أعجز من ذلك وأضعف؟ إذاً: فهناك آلات كانت تتجاوز الآلات المعروفة اليوم، وقل كذلك على الموميات.
وهذه الجثث لفراعنتهم وقد مضى عليها الآلاف من السنين، ومنها فرعون موسى الذي سنتكلم عنه كذلك، لا تزال جثته قد حفظها الله لمن جاء خلفه؛ ليكون عبرة للمعتبرين، وذكرى للمتذكرين، هذا الذي ادعى الألوهية يوماً نجد جثته لا تزال كما هي وكأنها حجر متصل أو جلد متصل، رغم العواصف والأمطار ورغم الطقوس فهي لا تزال هي هي! فلم تتفتت ولم تنحل ولم تنقص، فما هي المواد التي أدخلوها فيها لإبقائها زمناً؟ أكثر ما يصنعون اليوم لا يبقى مائة سنة أو مائتين، ويبقونه في قوالب من زجاج، وصناديق من بلور، ولكن لا تكاد هذه الصناديق تنكسر لسبب ما إلا وتهوي تلك الجثة وكأنها رماد، وكأنها لم تكن يوماً.
وقصور بابل لا تزال آثارها في العراق في بغداد إلى اليوم، وقد حاول هارون الرشيد يوماً وقد اقترح على وزرائه من البرامكة أن يبنوا له قصراً في مكانها، وأن يهدموا تلك الأطلال فقالوا له: يا أمير المؤمنين! لو مضت سنوات على أن نهدم ونزيل هذا البناء لعجزنا، فسخر منهم وأمرهم، فأخذوا يهدمون، فمضت سنة وسنتان وثلاث ولم يزل منه إلا ما يزيد على ذراع أو ذراعين، وكأن ذلك قطعة من فولاذ واحد، فلما رأى ذلك وتأكد تركه وبنى في جهات، فما هي المواد التي دخلت على هذا التراب وعلى هذه الرمال حتى أصبحت قطعة واحدة كأنها الفولاذ الحديدي؟! وحتى الفولاذ والحديد فمياه البحار ورياح البحار تؤثر فيه حتى يتفكك، وهذا لم يتفكك، فنمر على آثار في البحر الميت في أرض الأردن، ونمر على آثار في تبوك، وفي ثمود، والقبائل والأمم الماضية نرى آثارها بما لم يستطع أحد أن يعمل مثل ذلك في يومنا، ونرى قصوراً منحوتة في المغرب في الجبال وفي كهوف الأرض على غاية ما يكون من الزهاء ومن حسن الهندسة مما لا يصنع اليوم مثله، ما هي هذه الحضارة التي صنعت ذلك؟ وكيف كان أولئك؟ والقرآن مليء بهذه المعاني يقول للإنسان: لا تغتر بنفسك وتظن أنه لم يمض نظير في التاريخ السحيق، بل قد مضى الكثير والكثير من الأمم القوية ذات الحضارة ممن كانوا أقوى أبداناً وسلطاناً، وأكثر جنداً، مع ما كانوا يعيشونه من القرون المائة والمائتين والخمسمائة سنة والألف سنة، وقد حدثنا الله جل جلاله أن نوحاً لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فكم كان سنه يوم أخذ يدعوهم إلى الله؟ والتوراة والإنجيل مليئة كذلك بأنبياء بني إسرائيل، وأنهم عاشوا مئات من السنين الثلاثمائة والأربعمائة، يقول الله لأولئك وقد ذهبوا إليه ليحكم بينهم بما شاء، ويقال هذا لنا ونحن نسمع وننصت ونتدارس قول الله وكلام الله، وسيعرفه من يأتي بعدنا وإلى يوم القيامة، وكل يوم نجد في كتاب الله جديداً، ونجد معنى من المعاني لم يكن يخطر ببالنا ولا في بال من سبقنا.
يقول تعالى لهؤلاء المشركين الذين كفروا بالله؛ كفروا به واحداً، وكفروا به قادراً، وكفروا به خالقاً، وكفروا بأنبيائه المرسلة إليهم، يقول لهم: علام اعتمدتم في طغيانكم وكبريائكم؟ قوله تعالى: ((أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)) أي: أو لم يتنقلوا ويضربوا في الأرض متنقلين وسائحين وطالبي علم وتجارة؟ قوله تعالى: ((أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا)) أي: نظر العين والبصيرة.
قوله تعالى: ((فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: كيف كان المآل والنهاية للأمم التي سبقتهم؟ لقد كفرت كفرهم، وأشركت شركهم، وكيف أنهم دمروا! وكيف أنهم أصبحوا في الأمس الدابر! يزيد الله فيقول: ((كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ)) أي: كانت تلك الأمم أشد من الأمم المعاصرة على شركهم وكفرهم، فتركوا من الآثار والقصور والأبنية والمدائن والمخترعات، وكل ما نصنعه اليوم من أهم شيء في الوجود كان من مخترعاتهم؛ فالكتابة مثلاً من اخترعها لكل لغات الأرض: هل هو نحن أم آباؤنا وأجدادنا؟ وكان هذا في العصور السحيقة، فهم الذين اخترعوا هذه الأحرف؛ لتبقى من بعد علامة على فهم المعاني التي مضت عليها قرون من كتاب الله، وكلام أنبيائه، وحكم حكمائه، وعلم العلماء.
واختراع الحرف شيء يعتبر من أعظم ما وجد في الأرض من حضارة، وكيف استطعنا أن نكتب كتاب الله، وحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمن اخترع الحرف؟ والورق الذي نكتب عليه كذلك وجد قديماً، وكتب به قديماً، فمن الذي اخترعه؟ ومن الذي اكتشفه؟ وهكذا قل: هذه الثياب التي نلبسها: من حرير وقطن وصوف من الذي اخترع آلاتها ومصانعها إلى أن لبسناها ثياباً جميلة تناسب جسد كل إنسان من ثياب خشنة إلى ثياب حريرية، إلى ثياب قطنية؟! كل هذا كان قبلنا في الوجود نحن وآباؤنا، ومن قبل آلاف السنين قد كان هذا موجوداً، وهؤلاء الذين اخترعوا هذه الحضارات: من مدائن وقرى ومن حروف كتابة وأوراق ولباس قد سبقنا في ذلك المتحضرين، فنعيش بين الناس لا كما تعيش البهائم، وإن كان لا يزال الكثير فينا مع هذا يعيش كالبهيمة: لا قراءة ولا دراسة، ولا إيمان ولا صلاح ولا ستر، ولا شيء يعود على نفسه وعلى المسلمين بخير في الأرض.
قال تعالى: ((أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ)).
هؤلاء الذين كانوا أعظم من مشركي الجزيرة وفارس والروم، كانوا أكثر منهم سلطاناً وقوة وحضارة، ومع ذلك حين كفروا بالله، وأشركوا في دين الله أخذهم الله إليه أخذ عزيز مقتدر، ودمرهم، وأهلكهم، وأبادهم، وكأنهم لم يكونوا يوماً، وكأنهم لم يشربوا ماء ولم يأكلوا طعاماً، ولم يكن ذلك يكلف الله تعالى إلا قول: (كن)، فكيف بهؤلاء الضعاف الذين هم أقل سلطاناً، وأقل حضارة، وأضعف جنداً، وأضعف جوارح؛ كيف خطر ببالهم أن يتألهوا ويتعاظموا على الله، ويتيهوا على ضعفهم؟ هؤلاء إذاً لم يفقدوا العقل فقط، ولكنهم فقدوا مع العقول دينهم.
قال تعالى: ((وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ)) أي: أخذهم الله بذنوبهم ولم يجدوا من يقيهم عذابه، ولا من يقيهم دمار ولا هلاك، ولا من يحفظهم ويدافع عنهم ويصونهم ويحميهم هيهات هيهات! فإنه يجير ولا يجار عليه، ويقدر ولا يقدر عليه، ويفعل ما يشاء وهو القادر على كل شيء جل جلاله وعز مقامه وعلا شأنه جل جلاله.(285/4)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا)
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [غافر:22].
((ذَلِكَ)) أي: أخذهم وعذابهم ودمارهم وهلاكهم؛ لأنهم أرسل الله إليهم رسلاً كما أرسل نبينا إلى الخلق كلهم، وجاءهم رسلهم بالبينات وبعلامات واضحات، وبأدلة كاشفات، وبالمعجزات الملزمات على قدرة الله ووحدانيته، وعلى صدق كتبه ورسله، ومع ذلك كفروا بكل ذلك، وجحدوا الإيمان بكل ذلك: ((فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ)) أي: أهلكهم ودمرهم من أجل هذا.
قوله تعالى: ((إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) أي: القوي الذي لا أقوى منه، والقادر على كل شيء.
قوله تعالى: ((شَدِيدُ الْعِقَابِ)) أي: مؤلم وموجع عقابه، فمن عاقبه لن يستريح يوماً، ويكون قد خسر دينه ودنياه، وخسر نفسه وأهله وولده، إما أن يكونوا في الجنة وقد خسرهم، وإما أن يكونوا في النار، فلا يفيد أحد أحداً، ولن يجد حميماً ولا شفيعاً يطاع يشفع له عند ربه، هيهات هيهات بعد الكفر وبعد الشرك أن تكون هناك رحمة أو توبة!(285/5)
تفسير سورة غافر [23 - 28]
لقد أرسل الله تعالى نبيه موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه ليدعوهم إلى الله تعالى، فإذا بفرعون يتوعده بقتله، وأنه ما جاء إلا ليفسد الناس ويضلهم عن سواء السبيل، فما كان من موسى عليه السلام إلا أن استعاذ بالله تعالى والتجأ إليه من شر فرعون وقومه، فكفاه الله تعالى شرهم، ونصره عليهم.(286/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [غافر:23].
نعود مرة أخرى إلى قصة موسى وقد مضت غير مرة في سور سابقات، والحكمة من تكرار قصة موسى وبني إسرائيل -وإن كانت عند كل مرة تكرر بمعنى جديد، وبمغزى جديد، وبعبرة جديدة، وبحكمة جديدة- ليرسخ ذلك في الأذهان، وكما أقول باستمرار: الشيء إذا تكرر تقرر، والشيء عندما يكرر يصبح قراراً ثابتاً ممكناً، ولأن أقرب الأنبياء إلينا هم أنبياء بني إسرائيل ومنهم موسى، وهو من أولي العزم من الرسل، ومنهم خاتمهم عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالله عندما يقص علينا قصص بني إسرائيل يهوداً ونصارى ذلك لنتعظ بما جرى لهم، حتى لا نعمل عملهم، ولا نفعل فعلهم، ولا نرتكب جرائمهم، فإن نحن فعلنا فعلهم عاقبنا الله بما عاقبهم به، وهذا سر تسلط اليهود أحقر الأمم والشعوب وأذلها وألعنها وأبغضها على مسلمي هذا العصر؛ لأنهم تركوا الله فتركهم، ونسوا الله فنسيهم، وعوضوا الإمامة المحمدية بالإمامة اليهودية، وتركوا محمداً وصحبه إلى ماركس اليهودي الشيوعي الملحد وإلى أصحابه، فتركوا الإسلام، وتركوا مذاهب الخلفاء الراشدين وطرائقهم السديدة إلى المذاهب اليهودية: من شيوعية، واشتراكية، ووجودية، وماسونية، وقاديانية، وبهائية وما إلى ذلك، كل هذه الأسماء القذرة الوسخة التي لا تحمل إلا قذارة وضلالاً أصبح العرب والمسلمون يتبارون ويتسابقون من يكون يهودياً أكثر من الآخر؟! ومن يكون شيوعياً؟! ومن يكون ماسونياً؟! ومن يكون وجودياً؟! وهل هذه المذاهب جميعها إلا مذاهب يهودية، وهكذا إلى أن خضعوا وتهيئوا لخلافة اليهود عملاً، والركون في ذلهم والاستسلام لهم، ورفع راياتهم في بلاد المسلمين، والاهتمام بهم، وفرض التحيات لهم، واستقبالهم استقبال المسلمين الصالحين، وهل هناك غضب وذل أكثر من هذا؟ ومن يصنع ذلك يجد من قومه وعشيرته من يصفق له ويسانده ويقويه، وقديماً قال ربنا عن فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54].
وهكذا دواليك عندما يلعن الله متهوداً ذليلاً حقيراً لم يهود حتى يجد من عشيرته وأتباعه من يسانده ويقويه، هذا الذي حذرنا الله منه في كتابه، فعندما يذكر قصة موسى وما جرى بينه وبين فرعون وهامان وقارون من محنة ومن عذاب لنبتعد عن ذلك، فعندما لم نفعل يعاملنا الله معاملة اليهود ذلاً وهواناً، وقد سلط الله اليهود على هؤلاء الذين تركوا دين الله، وأخذوا يحاربون الإسلام ويتبعونه لليهودية، ويحاربون القرآن ويتبعونه بالتوراة والإنجيل المحرفة، ويحاربون العلماء ويقتلونهم وينذرونهم بالوبال الشديد، ويأتون إلى علماء اليهود من حاخامات وأحبار فيجلونهم ويجعلونهم شركاء من دون الله، فما زادهم الله بذلك إلا ذلاً وهواناً في الدنيا، ولعذاب الله أشد وأنكى، هذا الذي يحذرنا الله منه منذ أنزل الله كتابه الكريم على خاتم رسله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(286/2)
تفسير قوله تعالى: (إلى فرعون وهامان وقارون)
قال تعالى: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:24].
أرسل الله تعالى موسى إلى هؤلاء القادة من فراعنة وأقباط مصر في جاهلية مصر، أرسله بالآيات البينات وبالدلائل الواضحات، بالمقبول من المعقول ومما لا يدفعه عقل سليم، وبالمعجزات التي كانت من القمل والضفادع والدم والطوفان، فما زادهم ذلك إلا إصراراً على الكفر وتكذيباً لنبييهم موسى وهارون.
قوله تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ)) السلطان: الحجة والدليل القاطع مع الحجة الواضحة البينة التي لا ينكرها إلا أعمى والبصيرة قبل أن يكون أعمى البصر، لمن أرسله؟ إلى فرعون الذي قال يوماً: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وإلى هامان وزيره الذي كان له حظ في ذلك، وآمن به رباً وخالقاً رازقاً، وإلى قارون الذي كان أغنى إنسان في حياته وعصره؛ حيث كانت مفاتيح خزائن أمواله تنوء بها العصبة أولو القوة، أي: أن الجماعة القوية كانت تعجز عن حملها مجتمعة في وقت واحد، أرسل لهم موسى وإذا به عندما جاءهم ببيناته ومعجزاته يكذبونه، وأول معجزة له ما قيل لفرعون: إن رجلاً من بني إسرائيل سيكون سبب القضاء على ملكك ودولتك وقوتك، فأمر بقتل جميع الولدان التي تولد من الإسرائيليات، ثم بعد ذلك وقعت الشكوى من قومه بأن قتلك لهؤلاء فساد للعبيد والإماء والخدم، ولكن اقتلهم سنة وأبقهم سنة، ففعل ذلك، فولد موسى في السنة التي يقتل فيها الأولاد، فأوحى إلى الله أمه أن تضعه في صندوق وأن تنبذه في البحر، وإذا به يسري إلى شواطئ قصر فرعون، فتلتقطه الجواري، فتذهب به إلى امرأة فرعون، فتتخذه ولداً، وكانت عقيماً لا تلد، ولم يكن لفرعون ولد لا منها ولا من غيرها، فسرت به المرأة، وعندما جاء فرعون أرته إياه، فرجته بأن يبقيه على حياته وهي لا تعلم أنه إسرائيلي، وهكذا نشأ في داره وفي حصنه، ويأكل من طعامه، وهو من سيدمره ويقضي عليه، ويكون القضاء المبرم الأبدي إلى حد الغرق هو وقومه ودولته وألوهيته الزائفة على يديه، وهل هناك معجزة أكثر من هذه! مع حرصه على أن يستأصل شباب بني إسرائيل جميعهم.
قوله: ((إِلَى فِرْعَوْنَ)) أي: أرسل الله موسى ((إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا)) أي: جمعيهم، أما فرعون فكان ملك الأقباط، وهامان منهم، وأما قارون فكان يهودياً.
قوله: ((إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا)) أي: كلهم قالوا ذلك، وقال ذلك معهم أقوامهم.
قوله: ((فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ)) أي: المعجزات التي أتى بها موسى قالوا: هي سحر وشعوذة، وقصة السحر وإتيان السحرة مضت، وعلمت بدقائقها ودلائلها، وبظواهرها وبواطنها، وقالوا: كذاب كذب في دعوى الرسالة والنبوءة.(286/3)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه)
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25].
بعد أن عجزوا عن البرهان والدليل، وعن مقارعة الحجة بالحجة، ومحاجة ما جاءهم به موسى من البينات من عند الله، لم يعتمدوا إلا على سلطانهم وقوتهم وأسلحتهم، فاتفق فرعون وهامان وقارون وعشائرهم التي ضحكوا عليها وسخروا بها، وقالوا: اقتلوا أولاد وأبناء وذكور كل من يؤمن بموسى، وهذا القتل الثاني، فالقتل الأول كان عندما قيل لفرعون: ولد من بني إسرائيل سيكون سبب القضاء عليك ودمارك وقتلك، فأخذ يقتل كل من ولد في تلك السنوات إلى نشأ موسى في داره فأوقف القتل، وبكي الفراعنة الأقباط وقالوا: إلى متى تقتلون هؤلاء؛ فهم عبيدنا وإماؤنا وخدمنا؟ فعندما أرسل موسى وهو في دار فرعون وقتل القبطي الذي قتله وفر بنفسه وخرج إلى أرض مدين، عاد فقال فرعون وهامان وقارون: عاقبوا هؤلاء الذين قبلوا بموسى نبياً وآمنوا برسالته ونبوءته، فاقتلوا ذكورهم وأطفالهم منذ الولادة.
قوله: ((وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ)) أي: اتركوا البنات أحياء لا تقتلوهن، ولكن اقتلوا الطفل، ولم ذلك؟ أولاً: لتقليل وتضعيف النسل اليهودي، وتركوا البنات ليكن خدماً لهم وجواري لهم، وموضع شهواتهم ونزواتهم.
والمرأة امرأة على كل حال، فما هي قادرة على شيء، فذهب ليقلل نسلهم ويضعفه إلى قتل الذكور من الأطفال.
قوله تعالى: ((اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ)) قال الله جل جلاله عن رأيهم وعملهم وما نظموه واطرحوا: ((وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ))، فأراد بذلك الأقباط أن يضعفوا النسل اليهودي؛ ليكون ذليلاً بالنسبة لهم إذاك، فلا يقاومونهم ولا يقدرون على دولتهم وألوهيتهم المزيفة الباطلة، ولكن هذه الحيل وهذا الكيد؛ كيد هؤلاء الذين ظنوا بأنهم عندما يقتلون عشرة أو ألفاً أو ألفين سيقضون على نسل موسى وهارون، فيبقى فرعون متألهاً يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، و {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، ومن عجائب صنع الله الذي أنذرنا به منذ (1400) عام، حيث أنزل الإنذار لنبينا، وأوحى به إلينا بواسطة نبينا، فاليوم نعيش في مصر التي كانت مستعبدة لليهود، حيث كانت تقتل شبابهم، وتضعف نسلهم لكي لا يكون لهم شأن، فاليوم اليهود يذهبون نفس المذهب في تقليل نسل المسلمين في أرض مصر، فقد جاءوا بيهود خبراء من أرض فلسطين -التي تسمى بإسرائيل- ليضعفوا النسل المسلم في أرض مصر، وهم الآن في طريق ذلك.
ولقد كان هؤلاء يوماً ما هم عبيد مصر، وإذا بالوضع ينقلب فتصبح أهل مصر عبيداً وخدماً لليهود عن رضا منهم وطواعية، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!(286/4)
تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى)
قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
على عادة الحاكم الظالم عندما يعجز عن الدليل والبرهان يرجع إلى سلطته وقوته، فيحاول أن ينتقم من الضعاف، ولكنهم وإن كانوا ضعافاً في الأبدان والمال إلا أنهم أقوياء وأعزاء بالله، ويأبى الله إلا أن يعز من اعتز به، وأن يذل من انتصر بغيره، فمن اعتز بالله عز، ومن انتصر بغيره ذل.
قال فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26] معناه: أنه قد كان آمن بعضهم وكتم إيمانه، وهذا ما سيقوله الله لنا، فعندما أراد فرعون أن يقتل موسى وهو يعتبره ولده، حيث نشأ في بيته وقد عقه وقام في وجهه، فقال رجل مؤمن: يا فرعون! أتقتل هذا وهو يدعي النبوة؟! قد يدعو عليك وعلى دولتك وسلطانك، فلا يبعد أن يستجيب الله له، فقال لهم فرعون: (ذروني) أي: دعوني واتركوني ولا تخالفوني {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26] أي: من عسى أن يدعوه؟ ومن هو هذا الرب؟ ألست أنا ربكم الأعلى؟ قال ذلك هذا الضال المضل الأخرق المجنون! واستدل بقوله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] وهي جزء من ألف جزء من آلاف الأرض التي يحكمها الله، وهذه الأرض حكمها فرعون لحكمة أرادها الله، فأراد أن يستعلى بها إلى مقام الألوهية.
وأحد خلفاء بني العباس وهو يتلو كتاب الله وصل إلى هذه الآية فقال: أنا أملك الدنيا، فأرى السحاب في السماء فأقول لها: أمطري حيث شئت فإن خراجك سيأتيني، ومع ذلك أبيت الليل أبكي وأمرغ وجهي في التراب، وأقول: رب اغفر لي ذنبي، رب لا تأخذ علي، سامحني واغفر ذنبي، ولا تأخذني بذنوبي، وما يخطر على بالي يوماً أن أتعالى على الله في شيء، وما مصر إلا جزء من بلدي، والله لأولينها أفقر العباد، فولى عليها كافوراً الإخشيدي، فكان حكم كافور في غاية ما يكون من العدل والنظام والأمن والإنصاف بما لم يحكمه فرعون ولا من جاء على طريقة فرعون من بعد.
{ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر:26] أصبح فرعون يعد ويهدد؛ لأنه خاف على دينه، وهو كونه إلهاً وكون البشر عبيداً له، {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر:26] أي: أن ينهي الوثنية والصنمية ويحول الشرك إلى التوحيد، والإيمان بالله.
{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] وما أشبه اليوم بالأمس! اعتبر فرعون الفساد هو دين الله، واتباع الأنبياء، والإيمان بكتب الله، وهكذا اليوم أصبحنا نسمع فيمن أصبحوا عبيداً لليهود يجتمعون على حرب الإسلام والمسلمين، ويقولون: لا دين في الدولة، والقرآن يبقى في المسجد، ومن حاول أن يتكلم عن دولة إسلامية أو جمهورية إسلامية أو أن يتكلم عن الدين في الجامعات أو في المؤسسات فيجعله عبرة، وقد كان من قبله أعظم منه سلطاناً وشأناً، ثم أصبح عبرة للمعتبر، وأضحوكة للناس يتسلون به في السمر، فكيف بهذا الحقير الذي دأبه الليل والنهار حرب المسلمين ولعنهم؛ والإشادة باليهود، فقد انعكست الآية، فقد كان اليهود عبيداً لمصر، فيحاول هذا المجرم أن يجعل مصر عبيدة لليهود، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] خافوا من النبيين الكريمين الجليلين موسى وهارون أن يظهرا الفساد في أرضهم، والفساد في نظره هو: الإسلام والإيمان وعبادة الله الواحد.
والإيمان في نظره: هو الشرك والوثنية، والفسق، وسفك الدماء، والظلم والبغي، وأكل أموال الناس بالباطل، وهكذا اليوم أصبح الإسلام يحارب بهذا الاسم: أنه فساد وإرهاب، وأما الشيوعية فعلى زعمهم وكذبهم أنهم يحاربونها وهم لا يحاربون إلا الإسلام، وتسمع بين الزمن والزمن أن بعض مسلمين يعلقون في المشانق، ويضربون بالرصاص، ويخلدون في السجون، والكل يسمع ماذا حصل للجماعات وفئات من المسلمين؟ فذهب فرعون الأول وجاء فرعون الحقير الثاني، فجعل الناس في عذاب وهلاك وهوان، ولكن يأبى الله إلا أن ينصر دينه ولو كره الكافرون ولو كره المشركون، وكم قد ضمت هذه الأرض من كفرة ومن أدعياء ومن فراعنة ومن هامانات وقارونات! وماذا كانت النتائج؟! دمروا جميعاً ولم يبقوا إلا خبراً من الأخبار، وهم بين يدي الله في لعنة دائمة وعذاب دائم، وأصبحوا لعنة اللعانين وسخرية الساخرين.(286/5)
تفسير قوله تعالى: (وقال موسى إني عذت بربي وربكم)
قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27].
عندما بغى فرعون الحقير الذليل المتألي على الله لم يزد موسى على أن قال هذه الكلمة: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} [غافر:27] أي: يتعوذ ويتحصن بالله، فجعل الله معاذاً وموئلاً ومرجعاً؛ ليصونه ويحفظه وقد فعل، {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} [غافر:27] أي: أجعل الله معاذي وموئلي ومرجعي وحصني.
{وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} [غافر:27] يقول لأولئك الوثنيين: على أي حال آمنتم أو كفرتم فإنني أتعوذ بربي من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب، من فرعون المتأله على الله، ومن هامان المتكبر المتعالي على الله، ومن قارون الذي اغتر بماله، وقال: إنما أوتيته على علم، فأولئك غرقوا، وأما قارون فقد ساخت به الأرض وخسفت به، والله أعلم إلى أي مدى من القرون والسنين سيبقى كذلك، فقد ذهب بأمواله وعياله وجاهه وسلطانه وهو في أعز ما يكون من زينة، وهو خارج على القوم يمشي على الأرض وكأنه سيطير بغير جناحين، وإذا به تلك الساعة -وقد نسي الله فنسيه وأذله- يأمر الله الأرض أن تخسف به، وقد فعلت.
وكان يقول نبينا عليه الصلاة والسلام عندما يتعوذ من الأعداء: (اللهم إني أجعلك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم)، وكما كان يقول: (اللهم اجعلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً) وهكذا أنبياء الله مرجعهم واحد، وإلههم واحد، ودعوتهم واحدة، فكانوا إذا اشتد بهم الكرب عادوا إلى الله متعوذين به، متحصنين بقدرته، متعوذين بجلاله، والله ينصرهم، وتكون العاقبة لهم.
وما يقص الله علينا هذا إلا لنأخذ منه العبر والدروس، فإذا فعلنا فعل أولئك الفراعنة كان عقاب الله لنا عقابه لهم، وإذا فعلنا فعل أنبياء الله المؤمنين الموحدين كان كرم الله لنا كرمه للمؤمنين الموحدين إن كنا منهم.
قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27] أي: لا يؤمن بالبعث والنشور، وهو إنذار له أنه سيخرج مرة ثانية من قبره، ويعرض على الله للقضاء وسيحاسب حساباً شديداً، وتجره الزبانية على وجهه وتلقي به في قعر جنهم وهو يدعو: يا ويلاه يا ثبوراه.(286/6)
تفسير قوله تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون)
قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28].
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28] كان في قوم فرعون رجل مؤمن، وكان كاتماً لإيمانه خوفاً من فرعون وبطشه وعذابه، وكان هذا الرجل الكاتم لإيمانه ابن عم فرعون، وقيل: ابن أخي فرعون، وقيل: هو من بني إسرائيل، وهذا يعارض القرآن مع صراحته في القول، حيث يقول الله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [غافر:28]، فهو قد آمن بموسى وبرسالته، وآمن بالتوراة المنزلة عليه، ولكنه خاف من فرعون وبطشه، فبقي يكتم إيمانه ويسره ولا يعلنه، فلما رأى بأن نبي الله سيقتل وأخذوا يتآمرون عليه: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26]، فقد خاف فرعون من تكذيبه لدينه، ومن إسلام أهل الأرض، فكاد للقضاء عليه وعلى دولته، فجعل موسى يتعوذ بالله ويتحصن من شر هذا المتكبر على الله، المتعالي على خلق الله وإذا بهذا الكافر يعلن الإسلام ويعلن إيمانه وليكون ما يكون، وهو يرى أن نبيه سيقتل، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28] يا هؤلاء! أليس لكم عقول تفكرون بها؟ كيف تقتلون هذا الرجل؟ ما هي جريمته؟ أجريمته أن قال: ربي الله الخالق الرازق؟! وقال: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28] أي: جاءكم بالأدلة الواضحة، وبالعلامات البينة وبالبراهين الفاضحة، فكيف تكذبون بلا دليل ولا برهان لا من عقل ولا من نقل؟! قوله: {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ} [غافر:28] يعني: موسى {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28] لأنه قال: ربي الله {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:28] حال كونه جاءكم بالبينات، ودلل عليه وأكد عليه بأدلة واضحة من المعجزات التي جاءت على يده: من الدم والقمل والضفادع والطوفان، ومع ذلك كيف تحاولون قتله؟ ثم عاد فقال: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28] أي: إن كان كاذباً ولم تصدقوه ولم تؤمنوا به، فكذبه يضره ويذله، وسوف يعرض على ربه هو، وكذبه لا يضركم، ولم يحمل سيفاً في وجوهكم، ولم يأخذ أموالكم ولا عبيدكم.
وأما إن كان صادقاً: {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28] أي: إن كان صادقاً في رسالته ونبوته ودعواه ففي هذه الحالة سيصيبكم بعض ما أنذركم وهددكم به، وقد هددهم بالدمار والهلاك والخسران في الدنيا، وبالعذاب الدائم يوم القيامة، فقال لهم: لو يصيبكم بعض ما أنذركم وهددكم به لانتهيتم، ولما بقيتم يوماً في الأرض، وبذلك يفعلون فعل المجانين ومن لا يعقل.
سأل عروة بن الزبير عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: يا صاحب رسول الله! ما أشد شيء نال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قريش؟ قال عبد الله بن عمرو: جاء يوماً رسول الله للكعبة وقومه ينظرون إليه فسألوه وقالوا: يا محمد! أنت الذي تسفه آلهتنا، وتريد منا أن نجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ قال: نعم، فيقوم إليه اللعين -من قتله الله بسيف الإسلام ذليلاً حقيراً- عقبة بن أبي معيط ويقبض على منكبه، وجاء إلى ثوبه وضمه وأخذ يخنقه حتى كاد يموت خنقاً صلى الله عليه وسلم، وإذا بـ أبي بكر رضي الله عنه يأتي صائحاً باكياً ويدفع عن رسول الله عقبة ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28]، وكان يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: هذا أشد ما أوذي به رسول الله عليه الصلاة والسلام من مشركي قومه.
وهكذا استشهد أبو بكر بهذه الآية؛ بما قال مؤمن آل فرعون عندما حاول أعداء الله قتل موسى، وأخذ فرعون يقول لهم: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر:26].
يقول الفقهاء: هل إذا كتم المؤمن إيمانه يفيده ذلك؟ هل يكون مؤمناً إذا هو لم ينطق بالشهادتين؟ الإسلام جاء بالوقاية قبل أن يأتي بالعلاج والطب، فهذا الذي يكتم إيمانه لا يتصور إلا إذا عاش بين قوم كافرين أو قوم مرتدين، وهم أيضاً كافرون.
لم يبقى بين الكفار؟! النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أنا بريء من كل مسلم أقام مع المشركين، لا تتراءى نارهما) فحرم على المسلم أن يجاور كافراً ويسكن في أرضه، وحرم بأن يرى هذا نار هذا، وهذا نار هذا، فهو إن فعل ذلك فإنه يكون غير معدود من المسلمين إلا إن كان أسيراً في معركة أو حرب، فإذا منعوه من عبادة ربه فالإيمان عمل بالقلب، وإذا كان في سجن أو في خدمة فليصل على الطريقة التي يستطيعها.
مؤمن آل فرعون هذا لم يعلن إيمانه بموسى إلى الآن وما انكشف إيمانه إلا الآن، ولو لم يكن قريباً قرابة ماسة من فرعون(286/7)
تفسير سورة غافر [28 - 34]
في هذه الآيات المباركات يذكر الله ما قام به مؤمن آل فرعون من نصح ومن كلمة حق في وجه فرعون وأتباعه عندما أراد قتل موسى وأخاه هارون ومن معهما من المؤمنين، فنصحهم وحذرهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من الهلال والدمار.(287/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون)
قال ربنا جل جلاله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28].
عندما قال فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26] كان هناك مؤمن من قومه من القبط يكتم إيمانه ولم يكن فرعون يدري به، فأخذته الغيرة على دينه وإخلاصه لنبيه موسى أن يخرج إيمانه الذي كان يكتمه، أو يقول كلمة الحق عند سلطان جائر، فإذا به يجيب فرعون، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر:28]، قال بعض المفسرين: إن هذا الرجل لم يكن قبطياً وإنما كان يهودياً، ومن الغريب أن يقولوا ذلك، فإن الله يقول: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [غافر:28]، وهم يقولون: من آل موسى وإسرائيل، ويقول هذا الرجل في غير ما آية: يا قوم، أي: يدعو فرعون والقبط ويناديهم بيا قوم، فهو لا يخاطب بذلك بني إسرائيل، إنما يخاطب القبط وآل فرعون.
فهذا المؤمن نادى بدعوة الحق والدفاع عن نبي الله موسى، فقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28] أي: أليس لكم عقول تميزون بها بين الحق والباطل، أتقتلون رجلاً جريمته أن ينادي ويدعو ويعتقد أن الله ربه، ومع ذلك قد جاءكم بالبينات والدلائل القاطعة على صدق نبوته ورسالته، فكيف تكذبونه ثم تحاولون قتله؟! {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28] يقول لهم مناصرة لموسى: إن كان كاذباً فعليه كذبه، فهو الذي يسأل من أجله ويعاقب عليه، فما بالكم أنتم كيف تقتلون رجلاً قال: إني رسول الله إليكم، وقد جاءكم بالأدلة والبراهين على صدق قوله؟ قال: {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28]، فهو إن يك صادقاً فقد أوعدكم وتهددكم وأنذركم بالفناء، وأنذركم بالهوان والذل في الدنيا والخزي يوم القيامة، وهو قد أوعدكم إن يك صادقاً يكن ذلك حقاً، فإن كنتم تفكرون تفكير العاقل فدعوا الرجل ودعوته ولا تمسوه بسوء، وآمنوا إن شئتم أو اكفروا، أما أن تمسوه بسوء وتؤذوه فلن يكون ذلك أدباً، وليس ذلك من لغة العقول والإيمان، دعوا الرجل وما نسب إلى نفسه.
قال تعالى: {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ} [غافر:28] أي: تصابون وتبتلون وتعذبون، قال: {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28] أي: بعضه ولا تتحملونه، فكيف إذا أصابكم كل ما وعدكم به من عذاب في الدنيا، ومن خزي وخلود في النار يوم القيامة؟! قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28] إن كان الرجل كاذباً فالله لا يهديه ولا ينصره، وإن كنتم أنتم الكذبة المسرفون على أنفسكم؛ كذبتم بالحق عندما جاءكم، وكذبتم على الله بما ليس فيه، ثم أنتم هؤلاء تصدون عن سبيل الله، وعن دعوة نبي الله عندما جاءكم بالهدى والنور، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، فهذا المؤمن الذي كان يكتم إيمانه أعلن كلمة الحق، وأعلن الجهاد ضد هذا المتأله الكذاب المسرف على نفسه، الذي أضل قومه وما هدى، قال هذا وليكن ما يكون، ولكن الله سيحفظه ويصونه.
قوله: {مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28] المسرف: من تجاوز الحد بالاعتداء والباطل، والكذاب: صيغة مبالغة على وزن فعال.(287/2)
تفسير قوله تعالى: (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين)
ثم عاد فقال: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29].
يقول هذا المؤمن: يا قوم! دعوا عنكم موسى وقتله، يا فرعون! كفاك ما أنت فيه من تأله وظلم واعتداء وكفر بالله، فأنتم اليوم لكم الظهور والنصر، ولكم الملك خالدين في أرض مصر {فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] إن جاءكم بأس الله وعقوبته كما تهددكم موسى فمن ينصركم من الله؟ ومن ينقذكم من بلائه ولعنته؟ فكروا في أنفسكم واتركوا موسى لا تؤذوه.
هذه كانت دعوة الأنبياء من قبل أنهم يدعون قومهم للإيمان، فإذا لم يؤمنوا طلبوهم أن يكونوا على الحياد ويعتزلوهم، وأن يدعوهم ودعوتهم فلا يمنعوهم من الدعوة إلى الله، ولا يقفوا حائلاً بينهم وبين الناس كي يعلموهم التوحيد، ويدعوهم إلى الله، وهكذا نبينا عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] نادى كفار مكة نادى قومه قريشاً فقال لهم: أنا لا أسألكم عن دعوتي مالاً ولا جاهاً ولا سلطاناً، ولكن الذي ينبغي أن تعملوه أن تدعوني؛ صلة لما بيني وبينكم من الأرحام والقرابة، فلا تقفوا دوني ودون الدعوة.
وفي معاهدة الحديبية كان من موادها: أن يترك على دعوته يدعو من شاء إلى عبادة الله وإلى توحيده، ولا تتعرض له قريش بمعارضة ولا صد، ويدعهم النبي عليه الصلاة والسلام ما لم يؤذوا مسلماً أو يتعرضوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم وفى بالعهد وهم لم يوفوا بالعهد، فقد غدروا وقتلوا حليفاً من أحلافهم، وكان ذلك سبباً لفتح مكة.
قال هذا المؤمن: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29]، وإذا بفرعون يجيبه، ولو كان هذا الداعي الكاتم للإسلام إسرائيلياً أو يهودياً لما رد عليه فرعون في مجلس حكمه ومناظرته ومشاورته ووقال الذي قال، ولبادر إلى البطش به، ولكنه أنصت إليه، وأعاره أذنه وأخذ يحاوره في الكلام، وكلام هذا المؤمن أكثر حجة، وأدل برهاناً، وأطول نفساً في القول.
قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] أجاب فرعون هذا المؤمن فقال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر:29] أي: لا أقول لكم إلا ما أرى وأنصح به نفسي: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، ففرعون عدّ فساده صلاحاً، وكفره إيماناً، وهكذا الدعاة إلى الباطل دائماً يدعون إلى عملهم وإلى قولهم، فيسمونه تارة حقاً، وتارة تقدمية، وتارة تجددية، وهم في ذلك كفرعون، بل هم عيون لفرعون الكافر بالله المدعي ما ليس له.
يقول فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر:29] أي: ما أنصحكم إلا بالرأي الذي رأيت وفكرت فيه وتدبرت، {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، أي: ما أدلكم إلا على الهداية والطريق السوي والمذهب الحق والدين الصواب، هكذا قال فرعون وهو يكذب على نفسه، {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79]، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] فلم يأتهم بدليل يقبله عقل سليم، لم يأتهم إلا بالباطل والضلال والإفك الذي لا يقبله أحد.(287/3)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذي آمن يا قوم)
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر:30 - 31].
ثم عاد هذا المؤمن يتصدى لفرعون ويرد قوله يكذب فهمه ويتحداه مواجهة، فلم يحسب له حساباً ولم يخف من بطشه ولا من ظلمه، وقد تقدم مجاهداً بالكلمة الحقة وليكن ما كان، وهو يرى أن فرعون يريد قتل موسى، ويريد قتل أخيه هارون ظلماً وعدواناً وعلواً في الأرض، ولكن هيهات هيهات: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:51].
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:30] نادى فرعون وقومه من الأقباط المشركين: يا قوم! لصلتي وإشفاقي ولقرابتي لكم أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب، أخاف أن يجري عليكم كما جرى على الأحزاب السابقة التي كفرت بأنبيائها وتآمروا عليهم، قال: {مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:30] أي: يوماً كيومهم ينتقم الله فيه منكم، ويقضي عليكم، ويزلزل الأرض تحت أقدامكم، ثم يبين الله معنى يوم الأحزاب، قال: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر:31] أي: هذا اليوم الذي أخاف عليكم فيه وأخشاه هو كما حصل لأحزاب الكفر وأممهم وشعوبهم، {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} [غافر:31] عندما كفروا بالله وأبوا الإيمان به، فعاقبهم الله وأطاف عليهم المياه فأغرقهم ولم ينج منهم إلا من آمن، {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، {وَعَادٍ} [غافر:31]، عندما جاء نبيهم هود يدعوهم إلى الله، ويأمرهم بالتوحيد، فكفروا وأشركوا وتعدوا حدود الله وأسرفوا في الظلم والباطل، واعتدوا على نبيهم، فدعا عليهم فزلزلت الأرض من تحت أرجلهم، وأصابهم البلاء من حيث لا يشعرون، فأصبحوا كالحجارة لا تتحرك، وكأنهم لم يعيشوا يوماً، فدمرهم الله وقضى عليهم، على قوتهم وسلطانهم وبأسهم وطول أعمارهم وقوة أقدامهم.
وكذلك ثمود قوم صالح عندما جاءهم بالناقة، فقد قال للصخرة: كوني بأمر الله وبإذنه وإرادته ناقة كما طلبوا، فكانت ناقة عشراء حامل، ورأوا البينات بأعينهم فكذبوا بها وكفروا بها وقتلوا الناقة، فأصابتهم صيحة زلزلتهم فطارت قلوبهم من صدورهم، {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر:31] وقرون وشعوب وأمم جاءت من بعدهم: كقوم لوط وقوم نمرود وقوم إبراهيم وقوم فرعون، والكلام معه.
فالله تعالى نصر رسله ونصر المؤمنين، ودمر أولئك الكافرين الكاذبين، فهذا المؤمن يقول لفرعون ولمن حضر مجلسه: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر:30 - 31]، وما أصاب هؤلاء من تدمير وخراب وزلزال وفيضان وعقوبة إلهية لم يكن ذلك ظلماً من الله، فالله لا يظلم أحداً ولا يريد الظلم، ولقد حرم الظلم على نفسه كما حرمه على عباده، يا قوم! إني لكم ناصح مبين، دعوا عنكم موسى وليؤمن به من شاء، وليكفر به من شاء، وأما أن تعترضوا سبيله وتقتلوه فذاك البلاء الذي يمكن أن يصيبكم جميعاً كما أصاب من كان قبلكم.(287/4)
تفسير قوله تعالى: (ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد)
ثم عاد فقال: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:32 - 33].
أنذرهم وخوفهم عذاب الدنيا وخزي عذابها، وأوعدهم بضرب الأمثال فيمن قبلهم من الأحزاب والأقوام الكافرة: قوم نوح وعاد وثمود ولوط، ثم الآن يخوفهم عذاب الآخرة، {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر:32].
وما يوم التناد؟ يوم التناد: من المناداة والتنادي، وهو يوم ينادي الناس بعضهم بعضاً، فينادي أصحاب الأعراف أقواماً يعرفونهم بسيماهم، ويستعطفونهم ويرجونهم أن يخففوا عنهم يوماً من العذاب، وينادي أهل الجنة أهل النار: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، قالوا: نعم، لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، وقال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]، وتنادي الملائكة عند الحساب والميزان: ألا لقد سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وتقول الملائكة لمن كان ميزانه إلى الكفر والسيئات أقرب: ألا قد شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، وعندما يدعو أهل النار الملائكة بأن يدعوا ربهم ليخفف عنهم يوماً من العذاب، فتقول الملائكة: {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50] فيدعو هذا هذا، وينادي هذا هذا، وقد قرئ في السبع {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر:32] بالتشديد على الدال، و (التنادّ) يوم أن يند بعضهم من بعض، أي: يفرون ويهربون من عذاب الله، وهذا المعنى سيفهم من الآية بعد.
وقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن:33]، وعلى أرجائها وأقطارها الملائكة، فعندما يرى أحدهم العذاب يحاول أن يفر، وإلى أين يفر؟! فالملائكة محيطة بهم، وهل ينفذون ويخرجون من أقطار السموات والأرض؟! هيهات هيهات لا مفر من الله إلا إليه، ولا منجى منه إلا إليه.
وهكذا معنى يوم التناد: يوم المناداة ينادي بعضهم بعضاً، أو يوم التنادِّ: يوم الفرار، ويبين ذلك الآية التالية: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر:33] أي: يوم تعرضون فارين هاربين، وذلك عندما يرون عذاب الله قد أحاط بهم، وعندما يرون زبانية النار وقد أحاطت بهم كالسوار بالمعصم، والملك على أرجائها، فيحاول أن يفر من يفر فيرفعونه ويجرونه إلى النار.
قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر:33] أي: لا يعصمكم أحد من الله ولا يجيركم، فكل فرد يقول: نفسي نفسي، وذلك إن استطاع أن ينقذها ويبعدها عن عذاب الله، وهيهات هيهات فلا تكون الشفاعة إلا لمن أذن له ورضي له قولاً، ومن قال صواباً.
ولذلك فهؤلاء مهما فروا وتنادوا واستغاثوا فلن تكون استغاثتهم إلا وبالاً عليهم، وهذا المؤمن الصادق المجاهد بالقول الحق عند هذا الدعي الكذاب على الله قد قدم نفسه للموت على يد هذا الجبار، وأعلن ما كان كاتماً له وهو يدعو فرعون وهامان وقارون وقادة الكفر ومن معهم، فهو أخذ يدعوهم إلى الطاعة ويحذرهم غضب الله ومقته، ويخوفهم إذا زادوا في الكفر فقتلوا نبي الله موسى، قال تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر:32 - 33] أي: ليس لكم عاصم ولا حافظ ولا كالئ ولا منجي من الله، ومن جاء كافراً فلا ينتظر الشفاعة؛ لأنه في النار خالداً فيها أبد الآبدين، ومن النداء والدعاء: ألا لقد مات الموت، فيقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ويقال لأهل النار: خلود فلا موت.
قال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:33] أي: من أضله الله وفات الوقت للهداية وارتضى الكفر قلباً ولم يكن في قلبه ما ينجيه من عذاب الله، فإنه لا يستطيع مخلوق ملكاً كان أو جناً أو إنساً أن يهديه بعد ضلاله، ومن يضله الله فقد يأتي يوم القيامة وهو مشرك بالله، ولا يغفر الله لمن أتاه مشركاً على حال من الأحوال، فلا شفاعة ولا إنقاذ ولا هداية يوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.(287/5)
تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات)
قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34].
يقول ربنا جل جلاله لهؤلاء: كان آباؤكم وأجدادكم قد تركوا اتباع الأنبياء وكذبوهم، وأنتم الآن تكذبون موسى وقد سبق أن كذبتم قبله يوسف، فيوسف عندما جاء إلى مصر رقيقاً تبناه عزيز مصر، فكان ما كان إلى أن أرسله الله إلى الأقباط الذين يعيش بينهم، فدعاهم إلى الله فآمن معه كثير منهم بالله، ولم يؤمنوا إيماناً بدينه أو بما أتاهم به من معجزات، ولكن كان ملكاً ذا جاه، وكان أميناً على خزائن مصر، وكان عزيز مصر قد رأى رؤيا فأغمته وأهمته، ففسرها وهو لا يزال في السجن، فجاءهم بالبينات من ربه وهداهم الله إليه، فكان إيمانهم به إيمان الشاك المرتاب كما يقول ربنا: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:34]، وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، النبي ابن النبي ابن النبي ابن النبي، وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: من الكريم؟ فأخذوا يجولون ويقولون: فلان وفلان وفلان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا، إلى أن قال: (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم).
فهو نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي.
يقول الله لهؤلاء القبط: قد سبق أن كذبتم الأنبياء قبلكم، فقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} [غافر:34] أي: جاءكم يوسف بالدلائل الواضحات والمعجزات المعززات لنبوءته المؤكدات لرسالته، قال تعالى: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} [غافر:34] أي: آمنتم به مع الشك، حتى ولو آمنتم به فلم يكن إلا إيمان الفقير بالغني وإيمان الضعيف بالقوي، آمنتم به وأنتم لا تزالون في شك لم يكن إيماناً يقيناً، بل كان إيماناً مذبذباً مضطرباً، ومعنى هذا: أن يوسف كان نبياً رسولاً، وأكثر أنبياء بني إسرائيل كانوا أنبياء فقط ولم يكونوا رسلاً، والرسل منهم قليل.
فإن قيل: من النبي ومن الرسول؟ ف
الجواب
أن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، وإنما أنزل عليه ليؤمن به هو ولم يكلف ببلاغ، كما كان الجد الأعلى لبني إسرائيل وهو من يسمى بإسرائيل، فإبراهيم رسول الله وخليل الله، وله ولدان: إسماعيل نبي رسول، وإسحاق كان نبياً ولم يكن رسولاً، ومن هنا كانت أفضلية إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ويوسف حسب هذه الآية قد أرسل إلى الأقباط فكان نبياً ورسولاً، وذاك قليل عند أنبياء بني إسرائيل.
فقوله: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} [غافر:34] أي: لا تزالون بين المصدق والمكذب وبين الموقن والشاك.
قوله: {حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34] أي: حتى إذا مات قلتم: لن يبعث الله من بعد يوسف صديقاً رسولاً، وكنتم تتمنون الباطل، وقد جاء من بعد يوسف إليكم رسول صادق أمين من أولي العزم من الرسل.
قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34].
أي: يا من أرسل إليهم محمد! كذلك من آمن إيمان الشاك أو صد عن الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يفعل بكل مرتاب شاك كما فعل بهؤلاء الذين أرسل إليهم موسى وهارون من أهل القبط.(287/6)
تفسير سورة غافر [35 - 39]
ذكر الله في هذه الآيات محاورة ومجادلة مؤمن آل فرعون لفرعون وملئه، فقد جادلهم بالحجة الظاهرة الواضحة البينة، وأقامها عليهم، ودلهم على الخير، وهداهم الصراط المستقيم، وأما هم فكانوا يجادلون بالهوى والضلال، فلم يؤمنوا لهذا الرجل المؤمن الصالح، فكان عاقبتهم أنهم في النار يعرضون عليها غدواً وعشياً، ويوم القيامة لهم أشد العذاب.(288/1)
تفسير قوله تعالى: (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم)
قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35].
هذه الآية بدل من الآية السابقة: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34]، ومن أضله الله فلا هادي له، وكانت الضلالة نتيجة فساد قلوبهم، ونتيجة ما يظهرون في القلوب من كفر وشرك بالله، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34]، قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} [غافر:35]، وكثير ما هم، ففي عصرنا يجادلونك في كتاب الله، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الإسلام وأحكامه، فهو يجادل جدال ومذاكرة من لم يعلم شيئاً، فلم يتل من كتاب الله شيئاً، ولم يدرس من حديث نبيه صلى الله عليه وسلم حديثاً، بل يقبلون ويرفضون ويواصلون بالباطل والكذب والبهتان.
فقوله: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} [غافر:35] من الجدل، والجدل في الدين لا يليق وهو محرم، أما المحاورة والمذاكرة والمدارسة فهي مطلوبة دوماً إلى أن تقوم الساعة، فإن كانت المحاورة والمذاكرة ليست إلا جدالاً ونزاعاً وقولاً بالباطل لا دليل ولا برهان فذاك عمل المسرفين الكافرين الجاهلين الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويقولون الباطل ويكذبون على الله ورسله.
قال تعالى: {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} [غافر:35] أي: بغير دليل ولا برهان ولا حجة أتتهم عن دراسة أو تعلم في كتاب منزل نطق بها رسول، أو نطق بها حكيم، أو نطق بها عالم، بل هم يقولون ما لا يعلمون كذباً على الله، وصداً عن الصراط المستقيم، وتلك صفة الكافرين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
قال تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:35] أي: كبر الجدال والكلام في هذا الحديث، وذاك نقص كبير وبغض كبير وتحقير كبير عند الله وعند المؤمنين الصادقين، إذ يمقت الله الذي يجادل في الحق بغير برهان ولا دليل، ويمقت المؤمنون من يجادل في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا حق ولا دليل ولا برهان، فالله يمقت ذلك ويبغضه، والمقت: أشد أنواع التحقير والبغضاء، فقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:35] أي: كبر جدال هؤلاء في آيات الله بغير دليل ولا برهان.
وهنا يروي ابن مسعود ويقول: ما حسنه المسلمون فهو عند الله حسن، وما قبحه المسلمون فهو عند الله قبيح.
ويعني: الإجماع، فإذا أجمع المؤمنون على فساد شيء فهو فاسد، وإذا أجمعوا على صلاح شيء فهو صالح، وهنا يذكر الله المؤمنين معه فقال: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ} [غافر:35]، فإذا أجمع المسلمون على صواب فهو صواب، وإذا أجمعوا على باطل فهو باطل.
ولذلك فإن الأدلة التي يعتمدها المسلمون هي: كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم الإجماع، ثم القياس، هذه هي الدلائل الرئيسة الأربعة التي لا يسع مسلماً تركها.
فإذا قال العالم وأفتى بفتوى فينبغي أن يكون له على ذلك دليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن الدليل آية ولا حديثاً فإجماع المسلمين، فعلى سبيل المثال: أجمع الصحابة والتابعون ومن جاء بعدهم على أن صلاة الصبح ركعتان، وصلاة الظهر أربع ركعات، والعصر أربع ركعات، والمغرب ثلاث ركعات، والعشاء أربع ركعات، فهذا إجماع مؤكد موثوق به، فإذا جاءكم أبله أو جاهل فقال: صلاة الظهر اثنتا عشرة ركعة، وصلاة العصر ثمان ركعات فأعرض عنه، وبعض من يدعون العلم والتأليف يقولون: صلاة الظهر اثنتا عشرة ركعة: ثمان نوافل قبل وبعد، وأربع هي الفريضة، وهذا كلام جاهل، فالنوافل إنما تصلى عند صلاة الظهر وليست من الظهر، كما نقول: ركعتا الصبح، ونافلة العصر ونافلة المغرب والشفع والوتر، ولا نضم النوافل إلى الفرائض، وهناك نوافل نهارية ونوافل ليلية، ونوافل قبل الفرائض ونوافل بعد الفرائض، وما سوى هذا لا يقال بحال.
قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] أي: هذا الكافر المعاند المجادل بالباطل، هذا المقر بالشرك ومخالفة الله ومخالفة أنبيائه: قد طبع الله على قلبه فلا يعي ولا يفهم ولا يدرك، فقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، وقال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70]، وهذا عائد على الإنسان، فإن أضمر الخير وجد الخير، وإن أضمر الشر فسد قلبه وطبع عليه، ولن يهتدي بعد ذلك أبداً، إذاً: كما أضل الله هؤلاء وطبع على قلوبهم فكل من يفعل كفعلهم ويكفر ككفرهم ويضل كضلالهم يطبع الله على قلبه.
(كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر جبار) قرئ (على قلب) مضاف إلى (متكبر)، وقرئ (على كل قلبٍ متكبرٍ) نعت لقلب، والمعنى واحد، فالله طبع على القلوب التي تكبرت عن الإيمان وتكبرت عن رسول الله وعن قبول الحق، وطبع الله على قلب كل جبار، والجبار: هو الذي يجاهر بالكفر والظلم وأخذ الحقوق وسفك الدماء، ولا يخاف الخالق ولا المخلوق، ومن تجبر على الله قصمه الله، وقد طبع على قلبه من قبل.
فالله يضرب بهؤلاء الأمثال، ويقص علينا قصة فرعون ومن معه عندما أخذ يهدد بقتل موسى، فقام هذا الكاتم للإيمان فأخذ يحذره ويحذر أتباعه ويتوعدهم بعذاب الله في الآخرة وبخزيه في الدنيا، ويقول الله مؤكداً لإيمان هذا المؤمن: كذلك من فعل فعل فرعون ممن جاء بعده فإنه يعامل معاملته ويعاقب عقوبته، وهكذا كان، فقد عوقب كفار الجزيرة وكفار الروم وكفار الفرس بالقتل والأسر والتشريد وأخذ الأموال والبلاد والعباد وبالقضاء عليهم وذهاب عزهم ومجدهم {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]، نتيجة كفرهم وكذبهم على الله، فكان كما قال الله قد عوقبوا عقوبة الأولين.(288/2)
تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب)
قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر:36 - 37].
فرعون أرعن أحمق، فقد استدل على ألوهيته بأن له هذا الجزء من الأرض واسمه مصر، وله مياه ليست أنهاراً عذبة جارية، وإنما هي مياه راكدة ينتظرون فيضانها لتسقي زرعهم وأرضهم، ومع ذلك تأله على الله وادعى الألوهية؛ لأن له هذا الجزء البسيط من الأرض وقال دليلاً لألوهيته: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] أي: أملك أرضاً وخلقاً وأرزاقاً ودواباً، والأنهار تجري من تحتي، وهنا يقول لـ هامان وزيره {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر:36] أي: ابن لي بناء شامخاً مرتفعاً ظاهراً مشهوراً، والصرح من الصراحة، وهي التشهير والوضوح، قال: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ} [غافر:36 - 37] أي: ابن يل صرحاً لأصعد وأعلو أبواب السماء فأنظر إلى هذا الإله الذي يعبده موسى، والذي يقول موسى: إنه أرسله.
وهكذا الكفرة الضالون يقولون كلاماً يدعو للسخرية والضحك عليهم، فهل لـ هامان قدرة في أن يبني له صرحاً مسافة خمسمائة سنة ليصل إلى السماء الأولى ولا تأتيه زعازع ولا عواصف فتضعف ذلك الصرح؟! ثم إذا وصل إلى السماء فهل يظن أنه سيجد السماء مفتحة له ويدخلها: أين رب موسى؟ أين إله موسى؟ ثم لا يجد فيبحث ويصعد الثانية والثالثة والرابعة؟ فهل هناك حمق وجنون ورعونة وضياع عقل أكثر من مثل هذا الكلام لإنسان ملك وادعى الألوهية، وأخذ يحاور ويجابه النبيين الكريمين الصديقين موسى وهارون، وهو يظن أنه يقول قولاً يقبل ويجادل فيه! ولذلك الله سلط الله عليه قريباً له قيل: هو ابن أخيه، وقيل: ابن عمه، فأخذ يسخر منه ومن قوله، وأخذ يتوعده بدين الله الحق، وأنه ليس إلا ذبابة أو حشرة من حشرات الأرض، أما أن يستدل على صدق موسى وكذبه فيصعد إلى السماء ليجده فهذا دليل على رعونته وحماقته! فقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر:36] أي: ابن لي قصراً أو بناء عالياً، {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36] أي: الطرق، {أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ} [غافر:37] قرئ: (فأطلعَ) وقرئ: (فأطلعُ)، أي: ابن لي صرحاً لكي أصعد عليه وأشرفه منه على إله موسى في السماوات.
أراد بطغيانه أن يطلع إلى الله من نوافذ السماء من شرفاتها، يقول: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:37] أي: مع هذا لم يتيقن، فقد شككه موسى وقريبه في ألوهية نفسه، فهو أخذ يقول: أصحيح، أن موسى نبي؟ وأن إلهاً في السماء أرسله؟ فقال: دعني أبني قصراً لأطلع إلى إله موسى، وقال: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ} [غافر:37] ولم يقل: وإني لأتحقق وإني لأوقن، فقد بلغ منه هذا المؤمن القريب أن يشككه في ألوهية نفسه، وهو الذي كان يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وكان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] وكان يقول: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26] خوفاً من أن ينشر في الأرض الفساد، وخوفاً من أن يبدل دينهم، فهو يحرص على كل ذلك وهو موقن بكفره وموقن بزيف ألوهيته الباطلة، وأكثر من ذلك أقوامه السخفاء الذين قال الله عنهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54]، قبلوا ذلك وآمنوا به ودانوا وصرحوا بأنه إلههم وخالقهم.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} [غافر:37] أي: عمله السيئ زين له فرآه زيناً وصلاحاً وعقيدة ورشاداً وصواباً {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر:37] أي: دُفع عن سبيل الحق والطريق المستقيم والإيمان بالله ورسله، {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر:37] فنفسه الخبيثة وعقيدته الفاسدة وعقله الضائع هو الذي صده عن الحق، والإيمان الحق فصد وأبعد وزاد ضلالاً وكفراناً، وقرئ: (وصَدّ عن السبيل) بفتح الصاد، أي: هو الذي صد غيره.
قال تعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37] أي: دعوى فرعون الألوهية، ودعواه أنه سيقتل موسى، ودعواه أنه الخالق الرازق: في تباب وخسارة وضياع وباطل؛ إذ لا أصل ولا وجود لها، إن هي إلا أوهام وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان.(288/3)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد)
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:38].
لزمه هذا المؤمن القريب وأخذ يتحداه ويتتبع عثراته وجنونه وفساد عقله، ويقول إيماناً ويبطل قوله أمام الحاضرين وهم يسمعون، سواءً قبل ذلك فرعون أو لم يقبل، وإن شاء أن يقتله فرعون فليقتله، فقد آن الأوان ليعلن كلمة الحق، ومن هنا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله).
ففرعون أراد أن يستدل ويبرهن في مجلس عام جامع على صدق ألوهيته وصواب رأيه، فسلط الله عليه قريباً ظنه أنه معه وأنه متعلق به، وإذا به يظهر أنه يحتقره ويكفر به، وأنه مؤمن بموسى وهارون، وأنه عبد صالح كان أحق منه بالملك وبالحكم وبهداية الناس.
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:38] أي: أنا الذي سأهديكم سبيل الرشاد لا فرعون الكاذب المتأله على الله عندما قال لكم: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، فهذا يقول: اتبعون يا قومي، وآمنوا بما آمنت به، وكذبوا فرعون وقولوا عنه: ضال مضل، وآمنوا بموسى وقولوا عنه: عبد الله ورسوله، وآمنوا بالله الواحد الذي تنزه عن كل نقص واتصف بكل كمال ولا يشبه أحداً من خلقه، لا كما زعم هذا الضال الأرعن أنه سيجد رب موسى في السماوات، وليس بينه وبين ذلك إلا أن يبني له هامان صرحاً يصعد عليه فيبحث عنه فيجده! فقوله: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ} [غافر:38] أي: كونوا أتباع كلامي وانتصحوا بنصيحتي وبهدايتي، قوله: {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَاد} [غافر:38] أي: أهدكم طريق الحق والصواب لا الطريق الذي يزعمه هذا الأفاك المشرك المرتاب المتأله على الله، ولا طريق أتباعه كـ هامان وقارون.
ثم قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] أي: يا قوم هذه الحياة لو كان يملكها فرعون فما هي إلا متاع ومتعة في زمن قصير، وتنتهي المتعة وتنتهي الحياة معها وكأنها لم تكن، فهذه الحياة الدنيا الدنية الفائتة هي كلها بمصرها ومشارقها ومغاربها ومؤمنيها وكفارها ومن يدعي الملك والجبروت والطغيان ليست إلا ساعة متعة: إما لذة مع زوجة، أو أكل فاكهة، وبعد ذلك انتهت وكأنها لم تكن، فلا تهتموا بها ولا تلتفتوا إليها، كيف وفرعون إنما ادعى المتعة بقطعة من الأرض ليست إلا جزءاً من آلاف الأجزاء من الأرض ومع ذلك فهو ضال فاجر جبار كافر بالله متأله على الله وعلى رسله، فقد استباح الدماء والأعراض والحقوق، وما يزيده ذلك إلا طغياناً وكفراً.
قال تعالى: {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] أي: الحياة الثانية والأخيرة هي الدار التي يقر الإنسان فيها قراراً أبدياً سواء قر في الجنة أو قر في النار، فالآخرة دار القرار والخلود والأبد، فمن سعد فيها سعد سعادة لم يشق بعدها أبداً، ومن شقي فيها شقي شقاء لا يسعد بعده أبداً، فلذلك اليوم اعملوا، ولا يغرنكم فرعون وكفره وطغيانه وتألهه.(288/4)
تفسير سورة غافر [40 - 46]
في هذه الآيات يذكر الله تعالى موعظة ونصيحة مؤمن آل فرعونه لفرعون وقومه، فقد وعظهم موعظة بليغة جليلة أخلص لهم فيها بالنصح، وبذل وسعه وقدرته فيها، فبين فيها عظمة ما يدعوهم إليه في الدنيا والآخرة وآثاره الجميلة، وحذرهم من مغبة ما هم فيه، ومن آثاره المشئومة السيئة عليهم في الدنيا والآخرة، ومع ذلك لم يستجيبوا له وعصوه، فكانت العاقبة أن فرعون وقومه يعرضون على النار غدواً وعشياً، ويوم تقوم الساعة فمآلهم إلى النار خالدين فيها وبئس المصير.(289/1)
تفسير قوله تعالى: (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها)
قال الله جل جلاله: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40].
يخبرنا ربنا جل جلاله بأن من رحمته ومن كرمه أن المرتكب للسوء أو للذنب تكتب عليه سيئة واحدة، وسيجازى عليها، وأن من عمل صالحاً من الإيمان بالله، والتزام الأركان الخمسة: من صلاة وصيام وزكاة وحج، ذكراً كان أو أنثى، وكان مؤمناً، فهؤلاء يدخلون الجنة ويكون، رزقهم فيها بغير حساب، ويجازون على الحسنة عشراً، إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
وهذه الآية الكريمة هل هي من قول الله تعالى عقب قول مؤمن آل فرعون؟ أم هي من قول مؤمن آل فرعون قاله لفرعون ومن معه في مجلسهم؟ ذكْرها في المحاورة يدل على أنها من قول هذا المؤمن، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً} [غافر:38 - 40]، فيقول بعدها: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41] فكون هذه الآية بين سياق هذه الآيات التي هي حكاية عن قول مؤمن آل فرعون يدل على أنها من قول مؤمن آل فرعون.
وهذا المؤمن لا شك أنه تخرج على يد نبيين كريمين هما موسى وهارون عليهما السلام، فكان يعلم عن الله وعن رسله وعن الآخرة وعن الدين ما يعلمه العارفون بالله المؤمنون به.
وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [غافر:40] أي: من ارتكب سيئة فجزاؤه -إن لم يتب ويستغفر ربه- أن يعاقب في سيئته بعقوبة على قدر ذنبه.
أما من عمل صالحاً فكما قال الله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [غافر:40] أي: من عمل صالحاً حال كونه مؤمناً ذكراً كان أو أنثى، {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [غافر:40] أي: يجازون بالإيمان، وبالرحمة والرضا، ويكون رزقهم فيها بغير عدد ولا إحصاء، يكون جزافاً بلا حساب ولا متابعة، ذلك من فضل الله وكرمه على العباد.
وكون العمل الصالح لا يقبل إلا ممن كان مؤمناً، هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، فالكافر لا ينفع مع كفره عمل صالح، فلا صدقته ولا شفقته ولا نفقته تقبل؛ لأنه لا يعمل ذلك لله، ومن لم يعمل الصالحات زلفى إلى الله وامتثالاً لأمره فإنه يكون متلاعباً، وقد فعل ذلك رياءً أو سمعة أو للشيطان أو من فطرته وطبيعته.
والمؤمن لا يجزى على إحسانه إلا إذا كان قد فعله لله لا لغيره سبحانه؛ ولذلك قيده الله بقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [غافر:40] فالواو واو الحال، أي: عمل ذلك حال كونه مؤمناً، سواء أكان ذكراً أم أنثى، فإن كان مؤمناً فإن الله يدخله الجنة، ويجازيه من أرزاقه ونعيمه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويعطيه بغير حساب ولا مطالبة ولا محاسبة.
وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة، وقد مضى في هذا المعنى آيات كريمات في سور شريفات.(289/2)
تفسير قوله تعالى: (ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة)
ثم قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41].
لا يزال مؤمن فرعون يحاور فرعون وهامان وقارون وقومهم، ويزيف كفرهم وشركهم، ويعلمهم بالدين الحق، يعلمهم بالإله الواحد، وينصحهم ويعلن إسلامه ويدعوهم إليه، وهو لا يخاف في ذلك أحداً إلا الله، فقد أعلن كلمة الحق وجهر بها عندما رأى فرعون يحاول قتل النبي الكريم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41] يقول العربي -وهي لغة عربية فصحى- ما لي أراك حزينا، أي: ما بالك وما الذي أصابك؟ أو أخبرني بحالك؟ فقوله: {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} [غافر:41] أي: ما لكم؟ وما الذي أصابكم وأضاع فهمكم؟ فأنا أدعوكم إلى النجاة من النار والعذاب، وأنتم تدعونني إلى النار، أنا أدعوكم إلى التوحيد والإيمان، وأنتم تدعونني إلى النار، أي: إلى أسبابها من شرك وكفر، وخروج عن دين الله وكتبه ورسله.(289/3)
تفسير قوله تعالى: (تدعونني لأكفر بالله وأشرك به)
ثم قال تعالى: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر:42].
فسر هذا المؤمن النار التي دعاه إليها قومه فقال: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ} [غافر:42] أي: تدعونني يا فرعون ويا هامان ويا قارون ويا هؤلاء المشركون من القبط، أتدعونني إلى الكفر بالله، والجحود برسوله، وتكذيب الكتاب المنزل عليه؟ وأنا أدعوكم إلى الله الواحد، وأنتم تدعونني إلى آلهة مزيفة لا حقيقة لها ولا واقع، وتدعونني لأن يعبد فرعون، وتعبد الأوثان والأصنام، وهذا ما حرمه الله! وقد ذكروا عن فرعون أنه كان دينه في الأول أن يعبد البقر، فكان يعبد البقرة الشابة ويدعو لعبادتها كما يفعل المشركون البراهمة، أي: مشركوا الهند في عبادتهم البقرة، ولكنه يعبدها ما دامت صغيرة حتى إذا كبرت ذبحها، ثم عبد أخرى أصغر منها، ثم بدا له أن يصنع أصناماً فيعبدها، ثم بدا له أن يدعو لعبادة نفسه وتأليهها.
ومن رأى آثار الشرك والوثنية في أرض مصر وفي متاحفها، وما احتفظوا به ودعوا إليه، وجمعوا من خلفه مالاً، فإنه يؤكد هذا، فهناك صور من البقر التي كانت تعبد، وهناك أوثان من الأصنام التي تعبد، وهناك صور الفراعنة وهي تعبد.
والحاصل: أن كل ذلك سواء، أي: كله شرك وكفر بالله، وجحود بوحدانيته.
فمؤمن آل فرعون يقول لقومه: أتدعونني للشرك وللجهالة بما لا يعلمه الناس والموحدون! وتدعونني للشرك والباطل، وما لم ينزل الله به من سلطان ولا علم لا من عقل أو نقل من كتاب أو رسالة، وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار.
وشتان بين مؤمن وكافر، وبين داعية لله وداعية للشيطان، فأنا أدعوكم إلى النجاة وإلى العزيز الذي من اعتز به عز، ومن اعتز بغيره ذل، أدعوكم إلى العزيز على عزته، والغفار الذي يغفر ذنوب من تاب إليه، ويغفر ذنوب من استغفره، والإسلام يجب ما قبله، ومؤمن آل فرعون يدعو قومه بهذا.
وقد حاولوا قتل نبي الله موسى عند أن جاءهم بالبينات من ربه، يقول لهم: يا قوم! كل ما تدعون إليه باطل ما أنزل الله به من سلطان، فدعوني أهدكم وأوصلكم إلى طريق السلامة والرشاد والصواب، فأدعوكم إلى النجاة من عذاب الله والنار، وإلى عبادة الواحد العزيز الذي لا ينال الغفار الذي يغفر ذنوب عباده.(289/4)
تفسير قوله تعالى: (لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة)
ثم قال تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:43].
(لا جرم) أي: حقاً، والمعنى: حقاً أن ما تدعونني إليه لا تقبل له دعوة، ولا يستجاب لقوله، ولا هو يستطيع ذلك؛ لأنه جماد وصنم، ولا يستطيع دعاء، وإن استطاع ولم يكن جماداً كأن يكون من نوع المعبودات الملائكية أو الجنية أو البشرية، فلا يجاب له لا في دنيا ولا في آخرة.
والمعنى: أن ما تدعون إليه كافة من عبادة فرعون -أي: من عبادة نفسه- أو من عبادة الأصنام والبقر أو أي شيء دون الله، دعوته تلك لم يستجب لها لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنها كلام باطل، وهراء وشرك ما أنزل الله بها من سلطان.
وفسر ابن عباس رضي الله عنهما: (لا جرم) فسرها بمعنى: الحق، وبمعنى: يقيناً أقول لكم، والمؤدى والمعنى والتفسير واحد، أي: أحدثكم بما لا يكون كذباً، وإنما أحدثكم بالحق المبين، وبقول الصدق، وقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ} [غافر:43] أي: لا إجابة له لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا ينفع أحداً في دنياه ولا في أخراه.
وقوله تعالى: {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} [غافر:43] أي: يا هؤلاء فكروا هل خلد لكم أب أو أم؟ وهل خلد لكم ملك؟ وهذا الذي تدعونه إلهاً هل سيخلد؟ وهل يموت الإله؟ إن الإله لا تليق به إلا الحياة الدائمة الأبدية، فلا تأخذه سنة ولا نوم، وهو الحي الدائم جل جلاله وعز مقامه، وإنما تدعون إليه من عبادة الأوثان والأصنام هو باطل لا حقيقة له، ولا جواب عليه لا في دنيا ولا في آخرة.
وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:43] يخبر هنا مؤمن آل فرعون، بعد أن كتم إيمانه دهراً، وبعد أن رأى أنه لابد من الجهر أمام فرعون وقبيله، أعلن إسلامه ودعوته، وهو غير خائف من فرعون وبطشه وظلمه وإذايته، فقدم حياته رخيصة في سبيل الله، ولكن الذي قدم له حياته ودعا إليه، سيحميه من فرعون وبطشه، كما يحمي الدعاة إلى الله، وأن المسرفين على أنفسهم بالذنوب، واتبعوا الشهوات والنزوات، فادعوا ما لله العلي العظيم الكبير لأنفسهم، فهؤلاء أصحاب النار، هي جزاء كل من تجرأ على مقام ربه، فادعى له الصاحبة والولد، أو يقول: إن الله لا يقدر وحده إنما اتخذ أعواناًَ وشركاء، تعالى الله عن كل ما يقول المبطلون والمشركون علواً كبيراً.(289/5)
تفسير قوله تعالى: (فستذكرون ما أقول لكم)
ثم قال تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
قال مؤمن آل فرعون ما قال لفرعون وقومه، وجاهدهم بلسانه، وأعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، فبعد أن قال ما قال وأطال في الكلام قال لهم: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر:44] أي: ستذكرون يوم القيامة وأنتم في جهنم أو في النار والعذاب، أو وأنتم في الجنة إن تبتم ستذكرون قولي، فمن انتفع به فسيتذكر قولي ويفرح باتباعه؛ فقد ساقه إلى الرحمة والرضا، وإن أصر على الكفر فسيذكر قولي ويزداد حسرة وندماً على إعراضه عنه، ويقول: إن قبطياً من أقباط فرعون وأقاربه قد نهانا ووعظنا ودلنا، ولكن هيهات أن ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت في دار الدنيا، أو كسبت في إيمانها خيراً، فالإيمان لا ينفع صاحبه إلا إذا كان قبل الغرغرة، وأما إذا آمن والروح في الحلقوم فلا ينفعه دين ولا توبة ولا استغفار، ومن باب أولى يوم القيامة، فلو حاول التوبة والتوحيد هيهات أن ينفعه شيء من ذلك؛ لأن الآخرة ليست دار عمل، وإنما هي دار رحمة أو عذاب، والرحمة لمن آمن بالله في الحياة الدنيا، والعذاب لمن كفر بالله في الدنيا، فما هي إلا نتيجة عمل الدنيا، إن خيراً فالجنة، وإن شراً فالنار.
وقوله تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر:44] أي: يوم القيامة عند بعثتكم وعرضكم على الله، ((فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ))، وقوله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر:44] أي: قد توكلت عليه واستسلمت له غير خائف من عذابكم وقتلكم واضطهادكم، وحياتي أفوضها لله فإن شاء القتل فهي الشهادة، وإن شاء النجاة فهي حكمة الله ورحمته في الدنيا والآخرة.
وقد قال أرباب الرقائق والآداب: هناك التفويض، وهناك التوكيل، والتفويض أوسع من التوكيل، وما التوكيل إلا شعبة منه، والتوكيل يكون بعد الأسباب، وأما التفويض فيكون قبل الأسباب.
ومعنى التفويض: الاستسلام ظاهراً وباطناً لله الخالق جل جلاله، والاعتماد عليه بأن يصنع ما شاء، ولكن حرم ربك الظلم على نفسه وعلى عباده، فمن فوض أمره إلى الله وهو مؤمن فله من الله الرضا والجنة.
وهكذا فعل مؤمن آل فرعون، وما ذكر الله قصته للمسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا لتكون موعظة للمؤمنين، وذكرى للكافرين، وعبرة وموضع أسوة لكل مؤمن وجد بين كفار ظلمة.
وهكذا مؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه، فعندما أعلنه دعا أقواماً إليه؛ فآمن من آمن وضل من ضل، ولكن الله مع ذلك حفظ له ذلك وسجله في كتبه، وسيجازيه عليه خيراً، بدليل ما قص الله علينا من قصته، وما أكرمه الله به من تفويضه أمره إليه، كما قال الله عنه: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44] أي: الله بصير بعباده، وأما أنا فلست إلا معلماً داعياً ومبلغاً عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله هو البصير بعباده الناظر إليهم، فيعذب من يشاء ويغفر لمن شاء، يعذب الكافر ويغفر للمؤمن، وهذا إلى الجنة وذاك إلى النار جزاء أعمالهم.
فهكذا يقول مؤمن آل فرعون، وانتهى حواره، وجعل نهاية قوله هذا هو قوله: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].(289/6)
تفسير قوله تعالى: (فوقاه الله سيئات ما مكروا)
ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:45].
كأن الله تعالى يقول: هذا الرجل الداعية إلى الله، الذي قال كلمة حق عند سلطان جائر كافر ظالم، قد وقاه الله وحفظه من المكر الذي أرادوا به، فقد أرادوا عذابه وقتله وحرقه، وأرادوا أن يجعلوه عبرة لكل من أراد الإيمان والإسلام واتباع موسى وهارون.
ولكن الله قد قال: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:45] (سيئات) جمع سيئة، و (مكروا) أي: تحايلوا على البطش به، ولقد كانت سيئات لا سيئة واحدة، فقد فكروا في قتله، وفي حرقه، وفي تقطيع أوصاله، وفي أنواع من البلاء والعذاب إلى القضاء عليه، كما سبق أن فعل فرعون مع السحرة الذين آمنوا بموسى، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبهم على جذوع النخل، ولكنهم بقوا مصرين على الإيمان، وقالوا له كما حكى الله عنهم: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] أي: ليست الدنيا دائمة لك، وليست إلا متاع، والسعيد من صبر على لأوائها وبلائها، والشقي من لم يصبر على لأوائها ولا بلائها؛ فكفر بالله وأشرك به ما لا علم له به.
وقوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:45] أي: أحاط بآل فرعون، وآله من أسرته وأتباعه ونصرائه: المؤمنون به والعابدون له، فكلهم آله وأتباعه وأنصاره، وهؤلاء هم الذين كانوا ضد هذا المؤمن، وكانوا حرباًً عليه، والذين استجابوا لفرعون ولرغبته في قتل موسى عليه السلام؛ لدعوته إلى أن يعبد الله وحده، فكأن الله قال: الحفرة التي حفرها فرعون لهذا المؤمن وقع فيها فرعون.
فمعنى: {حَاقَ} [غافر:45] أي: نزل وأحاط بهم إحاطة السوار بالمعصم، فأصبحوا محاطين به من كل جانب، سواء أكان بالعذاب الذي في الدنيا، والذي ذكره الله في كتابه، أم بعذابه في الآخرة، وهو الخلود في النار.(289/7)
تفسير قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً)
ثم قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].
بعد أن قال الله: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:45] ورد
السؤال
ما هو سوء العذاب؟ فبينه الله تعالى بقوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46] أي: وهم في مقابرهم يعرضون على النار صباحاً وعشياً، وهذه الآية تشير إلى عذاب القبر، والإيمان به عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة.
وعذاب القبر حق، ففي صحيحي البخاري ومسلم والكتب الستة ومسند أحمد وغيرها مرفوعاً: (عذاب القبر حق، استعيذوا بالله من عذاب القبر) وورد ذلك عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما، وعن جماعة من الصحابة، وعذاب القبر حق وردت به الأحاديث المتواترة، وقبل ذلك الآيات الواضحة.
وقوله تعالى: {غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46] أي: صباحاً ومساءً، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] معناه: أنهم يعرضون في دار الدنيا على العذاب، فيعرضون عليه في قبورهم.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (إن الميت عندما يموت إما أن يكون من أهل الجنة وإما أن يكون من أهل النار، فيرى مقعده وهو على ذلك إلى يوم القيامة) وذلك عذابه، فيعذب الكافر وهو في القبر فيعرض عليه مقعده من النار، وعندما يعرض عليها يشوي وجهه وجلده، ويعذب نفسياً وروحياً.
وهو يوم القيامة عند عرضه على الله يقول الله لملائكته: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] أي: أدخلوهم في النار وإلى أشد عذاب النار، ومعنى ذلك: أن النار دركات، فالمنافقون في الدرك الأسفل منها، والبعض يكون أخف حالاً من الآخر، وقد ورد أن من أحسن من الكفار في الدنيا فإنه يخفف عنه العذاب.
وقد جاء في صحيح البخاري: أن أبا لهب -وهو عم النبي عليه الصلاة والسلام، وكان من ألد أعداء الإسلام- لما قام النبي عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الله بالأسواق والقرى والمدائن أو المدن كان يلحقه ويقول للناس: لا تصدقوه إنه كذاب وأنا أعلم به، فينصرفون عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهلك -أي: أبو لهب - إلى النار، وأنزلت فيه آيات بقيت فيه لعنة وفي زوجته إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
ومع ذلك ورد في صحيح البخاري: أن العباس أخاه -عم النبي صلى الله عليه وسلم- رآه في المنام فقال له: يا أبا لهب ما حالك؟ كيف أنت بعدنا؟ قال: ما لقيت إلا شراً، إلا ما كان من يوم الإثنين فإني أسقى في هذه النقرة -يعني: نقرة إبهامية- لعتقي ثويبة، وذلك عندما بشرته بولادة محمد ابن أخيه عبد الله.
فـ أبو لهب يخبر أخاه وهو في دار الآخرة حيث لا كذب ولا مين ولا نفاق، أنه كل يوم إثنين يسقى في هذه النقرة؛ لأنه أعتق ثويبة، وهي جارية جاءت إليه وقالت: يا سيدي! إن أخاك عبد الله ولد له ولد فسماه محمداً، فقال: اذهبي فأنت حرة.
فحفظ الله له ذلك، فكان العذاب وهو في النار يخفف عنه يوم الإثنين، في ذلك الوقت التي جاءته ثويبة تبشره بولادة محمد صلى الله عليه وسلم وأعتقها فيه، رغم كونه كفر به، وحض الناس على الكفر به.
وورد عن غيره من أقارب النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فلاناً كان ينافح عنك وكان وكان، أنافعه ذلك يوم القيامة؟ قال: (نعم، لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار، وهو الآن في ضحضاح من النار، له نعلان من النار يغلي منهما دماغه).
وعلى ذلك فالعذاب لآل فرعون لكونه لم يكفر فقط، بل زاد على الكفر أن ادعى شيئاً عظيماً فقال: أنا ربكم الأعلى، وكان بذلك أخرق أرعن أحمق، وبذلك استحق هذا العذاب.
والنار بدل من سوء، في الآية الأولى.
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] أي: يقول تعالى لملائكة النار ولزبانيتها: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] أي: أدخلوهم إلى أشد عذاب يوجد في جهنم؛ جزاء شركهم وظلمهم وطغيانهم، وكفرهم بنبييه إليهم، وإعطاءهم مهلة طويلة لعلهم يتوبون ويسلمون، فلم يتوبوا.(289/8)
تفسير سورة غافر [47 - 55]
في هذه الآيات يتحاج الكفار في النار، فيطلب الضعفاء من سادتهم أن يغنوا عنهم نصيباً من العذاب، ولكن هيهات هيهات، فقد رد عليهم السادة بأنهم جميعاً فيها ماكثون.
ثم ينادون خزنة جهنم أن يدعوا لهم ربهم بالتخفيف يوماً من العذاب، فكان الجواب أنهم قد جاءهم رسل الله وأنبياؤه فلم يستجيبوا لهم، فلن يقبل دعاؤهم ولا استغاثتهم.(290/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ يتحاجون في النار)
قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر:47].
يخبرنا الله عن تحاور أهل النار وتجادلهم، وتحدث أهل النار الضعاف الأتباع عن حسرتهم لتقليد الكبراء والسادة أئمة الكفر، وكأن المعنى: ذكرهم يا محمد وأخبرهم وعظهم أنه سيأتي وقت -مهما طال الزمن فإن الصبح لناظره قريب- يتحاجون في النار، أي: هؤلاء الكفار يتحاجون، فيحاول أن يحتج بعضهم على بعض، وأن يجادل ويحاور بعضهم بعضاً، كما قال الله: {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر:47].
أي: يقول الأتباع: كنا تبعاً لكم أيها الكبراء، وكلمة (تبع) تدل على المفرد والمثنى والجمع، وإذا أردت الإفراد قلت: تابع، وجمع التابع أتباع، تقول: فلان تبعني، وتقول: فلان تبع لقول فلان أو لفلان، فإذا أردت الإفراد فقل: فلان تابع لفلان، وإذا أردت ذكر الجماعة دون أن يقع لك قلت: أتباع.
وقوله تعالى: {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [غافر:47] أي: ضعاف الرأي والقدرة والمال والجاه والإدراك والفهم، فيقولون للذين استكبروا وتكبروا وتعاظموا من قادة الكفر وسادة الفجور، الذين دعاهم الأنبياء وأتباعهم فأبوا إلا عدم الإيمان بالله، فيقول لهم الضعفاء حينئذٍ: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} [غافر:47] أي: كنا أتباعاً لكم في دار الدنيا، فاتبعناكم على الشرك، وقبلنا قولكم في الضلال.
{فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر:47] أي: هل أنتم تغنون أو تتحملون عنا جزءاً من العذاب مقابل أنكم أئمة لنا في الكفر والعصيان؟ وهل تقومون عنا بنصيب من العذاب تخففون به عنا وأنتم أصحاب هذه الدعوة وكبرائها وقادتها؟(290/2)
تفسير قوله تعالى: (قال الذين استكبروا إنا كل فيها)
ثم قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:48].
أي: قال هؤلاء المستكبرون القادة من الكافرين: إنا كل فيها، فكيف نغني عنكم؟ الكبار والصغار في النار، الأئمة فيها والأتباع، وأيضاً قد حكم الله يوم عرضنا عليه بأن الكل في جهنم وبئس المصير، أيرد حكم الله راد؟ أيحاول أحد أن يغير حكمه؟ هيهات هيهات لا سبيل إلى ذلك، ولكنهم مع ذلك لم يصبروا، واشتد عذابهم وزاد بلاءهم، فما عاد يطلب كبير من صغير ولا صغير من كبير، فأخذوا جميعهم -الكبار والصغار- يغيرون الطلب والدعوة.(290/3)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين في النار لخزنة جهنم)
فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49].
فالكبراء والصغراء ذهبوا للملائكة خزنة جهنم وطلبوا منهم بأن يدعوا ربهم بتخفيف العذاب عنهم، وخزنة جهنم هم الذين يشرفون على عذاب هؤلاء كي لا يفروا منها.
وقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] أي: قالوا لهؤلاء الخزنة: ادعوا الله بلسانكم أن يخفف عنا يوماً، أي: أن يعطيهم يوماً من الأيام يكون العذاب فيه خفيفاً، فلم يطمعوا في زوالة؛ لأنهم مشركون وماتوا عليه، فالذي طلبوه هو أن يخفف الله عنهم عذاب يوم من الأيام، لكن اليوم في الآخرة عظيم بالنسبة لأيام الدنيا، اليوم في الآخرة كألف سنة مما يعد من أيام الدنيا، فهم طلبوا تخفيف عذاب يوم من أيام النار.(290/4)
تفسير قوله تعالى: (قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات)
وإذا بهؤلاء الخزنة يجيبونهم كما قال الله عنهم: {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50].
أي: سألهم هؤلاء الخزنة من الملائكة من خزان النار وبوابيها: أنتم يا من تطلبون منا أن ندعو ربكم ليخفف عنكم، هل أُرسلتْ لكم رسل بالبينات وبالآيات الواضحات عندما كنتم في الدنيا؟ هل أتتكم بالأحكام عن الله وبالتوحيد ونبذ الشرك والوثنية؟ وقوله: {أَوَ لَمْ تَكُ} [غافر:50] (تك) من الأفعال الخمسة، وجزمت بـ (لم) فحذفت النون، ويصح أن تقول: أولم تكن في غير القرآن.
وقوله تعالى: {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:50] قوله: (رسلكم) جمع رسول، وقد أرسلهم الله إلى أمم مختلفة، فمنهم من صدق بهم ومنهم من كذب.
فأكدوا أن الرسل قد جاءت بالبينات الواضحات، وبما يدل على صدقهم، ولكنهم مع ذلك غلبتهم شياطينهم ونزواتهم؛ فكفروا به، فأقروا قائلين: بلى، قالوا: فادعوا إن كان الأمر كذلك، أي: ادعوا أنتم أما نحن فلا نفعل؛ لأن الكافر لا مغفرة ولا رحمة له، وفي الآخرة لا ينتهي عذابه.
وحتى إذا دعوا فالأمر كما قال الله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14] أي: وما دعاء الكافرين إلا في ذهاب وخسارة، فلا ينفع ولن تكون له نتيجة، وأنهم سوف يكونون مع دعائهم خاسرين، ولو دعوا هذا الدعاء وهم في دار الدنيا فقال أحدهم: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، وآمنوا بالله ووحدوه، وكفروا بالشرك وأهله، لكان ذلك نافعهم ومفيدهم، ولكن هيهات بعد أن أنكروا البعث والنشور والدار الآخرة وأصبحوا فيها، هيهات هيهات فالوقت سيف إن لم تقطعه قطعك.(290/5)
تفسير قوله تعالى: (إننا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)
ثم قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
يخبرنا ربنا جل جلاله بأنه ينصر رسله والمؤمنين من أتباعهم في الدار الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، أي: يوم يقوم الملائكة يشهدون على كل حي بالخير والشر، فهم يشهدون على الرسل بالتبليغ، ويشهدون على الكفار بالتكذيب، فقوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] أي: يوم القيامة يوم يقف الملائكة صفاً يشهدون على الرسل بأنهم بلغوا رسالات ربهم، ويشهدون على المؤمنين أنهم آمنوا برسالات ربهم، وعلى الكافرين أنهم كذبوا برسالات ربهم.
وقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:51] يعد الله جل جلاله الرسل بأنه ناصرهم في الدنيا وفي الآخرة، فكيف هذا النصر في الدنيا؟ قد علمنا أن بعض الأنبياء قتلهم اليهود، فقتلوا زكريا، وقتلوا يحيى، وقتلوا غيرهما، كما ذكر الله، فحاولوا قتل عيسى، وأخرج إبراهيم من أرضه، وأخرج محمد صلى الله عليه وسلم من أرضه، وهناك شعوب مسلمة، وعلماء صالحون، ودعاة إلى الله قد قتلوا، أو شردوا أو سجنوا أو عذبوا، فكيف هذا النصر؟ الجواب عن ذلك: أن النصر إما أن يكون نصراً في الحياة ونصراً بمحق الأعداء، وإما أن يكون بالانتقام من هؤلاء الأعداء، فيكونون من قتلوا من الأنبياء والمؤمنين قد حازوا الشهادة، وذهبوا إلى أرفع الدرجات، وكذلك من عذب فلهم درجات عاليه على قدر بلائهم، ولكن هؤلاء الذين فعلوا ذلك ينتقم الله منهم بعد ذلك أشد الانتقام، فقد يكون ذلك في حياة الأنبياء والمؤمنين، وقد يكون بعدهم.
فاليهود مثلاً قتلوا أنبياء الله، وكانت النتيجة عقب قتل هؤلاء مكر الله بهم، فشتتهم وشردهم وقطعهم، وسلط عليهم بختنصر فهدم هيكلهم، وقتل منهم مئات الآلاف، واستعبد منهم كذلك مئات الآلاف، وتركهم في الأرض قطعاً مبعثرة، كما قال سبحانه: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} [الأعراف:168]، ثم سجل الله عليهم عذاباً مقته وغضبه إلى يوم القيامة، فقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167]، ولا يغرنك ما ترى اليوم؛ فهو تسليط للكافرين على منافقين، وتسليط للمجرمين على عصاة مخالفين، ولم يحدث هذا في العصور الماضية، ولكن عندما خرج المسلمون عن دين الله ورسوله وكتابه، وجعلوه وراءهم ظهرياً، وأخذوا يدعون إلى مذاهب يهودية تسمى تارة ماسونية، وتارة شيوعية، وتارة اشتراكية، وتارة وجودية، وتارة بهائية، وتارة قاديانية إلى أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فعاقبهم الله وسلط عليهم هؤلاء، فكانت عقوبة لأقوام هم إلى الكفر أقرب منهم للإيمان، بدليل ما حدث بعد ذلك، أي: أسلموا لمللهم، وخضعوا لهم، وتحالفوا وإياهم للفتك بالمسلمين الصالحين، وشتيمة المؤمنين والتواطؤ عليهم، وما تزيدهم الأيام إلا عتواً وفساداً في الأرض، ولكن هيهات، فلينتظروا عذابهم وسخط الله عليهم.
وهذا إبراهيم عندما أخرجه النمرود من أرض العراق هاجر إلى أرض الشام، ولكن النتيجة أن كشف الله كيد النمرود وقومه، وعذبهم وأهلكهم وشرد بهم، وهؤلاء كفار مكة كفار الجزيرة كيف كان حالهم مع نبينا عليه الصلاة والسلام؟ فقد أخرجوه من أرضه، وهموا بقتله، والنتيجة نصره الله نصراً عزيزاً مؤزراً، فعاد إلى مكة فاتحاً منصوراً، وكان الطرد وكان الإبعاد لهم، وقبل ذلك شردوا وقتلوا، وبعد دخوله مكة فاتحاً كانت النتيجة أنهم طردوا طرداً أبدياً، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28].
وأما اليوم بعد ذلك بألف وأربعمائة عام فلا يحرم المسافر الكافر أن يدخل مكة والمدينة! وقد قال الله عنه: {نَجَسٌ} [التوبة:28] والنَجَس: عين النجاسة، لم يقل: نَجِس، من المتنجس الذي يطهر بالماء، وإنما النَجَس، فهو كالماء العكرة التي تطهر بالماء، فهم عكرة عين النجاسة، مطرودين إلى يوم القيامة، إلى أن يشاء ربي.
وأيضاً: بعد ذلك المؤمنون ابتلوا، فقد أوذي آل البيت في الصدر الأول من الإسلام، وقتل مسلمون وصحابة أخيار، فقتل عمر، وقتل عثمان، وقتل علي، فماذا كانت النتائج بعد ذلك؟ سلط الله على هؤلاء ولو أنهم صحابة تابعون لكن كما قال الله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] فأصابهم من البلاء من العذاب نصرة لأولئك الخلفاء الراشدين الصالحين، عمر وعثمان وعلي.
وقل مثل ذلك عن الحسين رضي الله عنه، الذي قتل من أجل الظالمين الفاجرين أعداء الله وأعداء رسوله وآل البيت، وسلط الله عليهم من سلط، فأباح أرضهم، واستباح دماءهم، واقتلعهم من جذورهم من الأرض إلى حيث لعنة الله وغضبه، وفي العصر الأخير قتل المسلمون والعلماء والدعاة إلى الله، فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة أن سلط الله اليهود على الجميع، فأما عذاب الله في الآخرة فهو أشد وأنكى، وهكذا قول الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فنصرهم الله بأن قهروا وغلبوا، ووضعوا أقدامهم حيث كانت أقدام أولئك الأعداء الكافرين الجاحدين، وأكرمهم الله بالشهادة، ثم ينتقم من أولئك بعد ذلك، فيقتل منهم الآلاف، بل مئات الآلاف، حيث يضيعون ويشردون وينتهون ويدمرون، ولعذاب الله بعد ذلك في الآخرة أشد وأنكى.
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] أي: ويوم القيامة عندما تقف الملائكة بالشهادة على الأنبياء بأنهم قد بلغوا ما أمرهم الله بتبليغه، وعلى المؤمنين أنهم آمنوا برسالات أنبيائهم، وعلى الكافرين بأنهم كذبوا أنبياءهم وأشركوا بربهم.(290/6)
تفسير قوله تعالى: (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم)
قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52].
الظالمون هنا هم المشركون والكافرون، فيكون النصر في الدنيا، ويكون في اليوم الذي لا ينفع المشركين معذرتهم، أي: عندما يقومون للاعتذار: فيقولون نحن كنا ضعافاً، وكبراؤنا هم الذين أمرونا، ونحن لا نفكر جيداً، فيقولون هراءً لا يقبله الله منهم.
وقوله تعالى: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر:52] أي: يلعنهم الله، ويطردهم من رحمته ومن جنته.
وقوله تعالى: {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] أي: ولهم الدار السيئة، وهي جهنم وبئس المصير، سيكونون عندما يطردون من الرحمة ليس لهم إلا العذاب والنار، {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52].
هؤلاء الذين قاتلوا الأنبياء وكذبوهم، وقاتلوا المؤمنين، وهجموا على دورهم، فاستباحوا أعراضهم وأموالهم، وتحالفوا مع اليهود من القردة والخنازير وعبدة الطاغوت على المؤمنين والصالحين، فكان ما ذكره الله هو عاقبتهم، ونهايتهم.
وأما الرسل والمؤمنون فهم منصورون، ويكون نصرهم إما بإبقائهم وهزيمة أعدائهم، وإما بأن يموت من مات فينال الشهادة والكرامة، فيذهب إلى ربه مسرعاً بشهادته، ويبقى ختم أولئك: المحنة واللعنة والغضب، وهذا التاريخ بيننا، فالتاريخ الحديث والقديم يؤكد كل هذا، ودعنا مع تاريخنا الإسلامي وما حصل في بدايته وفي وسطه وفي عصرنا، فجميع من كفروا بالله وقاتلوا رسالات رسل الله، وقاتلوا المؤمنين الصالحين، قاتلوهم في اليمن، وفي العراق، وفي مختلف بلاد المسلمين، كانت النهاية للمجرمين اللعنة والخزي والدمار في الدنيا، ولعذاب الله في الآخرة أشد وأنكى.
وسنسمع يوم القيامة ونحن في الجنة بفضل الله وكرمه، أنهم مع فرعون وهامان ينادون يا ويلنا وبلاءنا ومصيبتنا، ويأتي الأتباع الذين ساندوهم وبايعوهم وأيدوهم ومشوا خلفهم وتعصبوا لهم -ونحن نرى هذا حيث ذهبنا- يتخاصمون مع كبرائهم تخاصم الجياد في الماء، يقول المستضعفون للكبراء كما حكاه الله عنهم: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر:47]، فيرد عليهم الكبراء بأن الله قد حكم بين العباد، فيدعون الملائكة، فلا يجدون عندهم إلا الخزي واللعن، ويتساءل الملائكة: {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:50]؟ فلا يستطيعون إلا الإجابة بقولهم: {قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50]، وما قاله الله حق وواقع لا محالة، ومن تشكك في كلامه فليس بمسلم.(290/7)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الهدى)
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} [غافر:53].
يذكر ربنا جل جلاله بأنه آتى موسى الذي كان يريد قتله، وهذا الذي قام مؤمن آل فرعون ينافح ويدافع عنه في كثير من المواقف، بشجاعة وقوة بالله، وأراد الظالم المتأله الكذاب فرعون أن يقتله لكن كما قال الله: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:45] وكان العكس {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:45].
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} [غافر:53] أي: هدى الله موسى إذ جعله نبياً ورسولاً، وأنزل عليه كتابه التوراة ليهدى به، ويهدي غيره من القبط وبني إسرائيل.
وقوله: {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} [غافر:53] أي: وأورثنا قومه من سلالته من بني إسرائيل أورثهم الكتاب الذي هو التوراة، أورثهم إياه ليعملوا بما فيه، وليتقبلوا التوحيد الذي جاء به، ويحترموا أنبياء الله ورسله، وليكونوا على غاية ما يكونون من الأدب مع الله وشعائر دينه.(290/8)
تفسير قوله تعالى: (هدى وذكرى لأولي الألباب)
ثم قال الله تعالى: {هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ} [غافر:54].
أي: جعل الله الكتاب إرثاً لهم، فورثوه ليكون هدى لهم يهديهم من الظلام إلى النور.
وقوله تعالى: {وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ} [غافر:54] أي: تذكيراً لهم بالله وبأحكامه، وبعذابه ورحمته، وهو كله لذوي الألباب، أي: لذوي العقول المؤمنة السليمة.
وماذا كان من بني إسرائيل بعد أن أورثهم الله الكتاب؟ كان منهم أن قتلوا الأنبياء بعد موسى، فقتلوا زكريا ويحيى وشعياً، وسفكوا الدماء، وحرفوا كتاب الله وبدلوه، وشتموا الأنبياء وقذفوهم بالكبائر، وبإتيان المحارم، وتجرءوا على مقام الله فقالوا عنه تزييفاً ما يقوله اليهودي عن ربه ونبيه، فكان الجزاء أن سلط الله عليهم الأمم في الأرض كلها، فشتتوهم وشردوهم وقتلوهم وعذبوهم، واستباحوا أولادهم ونساءهم، واستباحوا كل ما لا يستباح للمؤمن المعصوم الدم.
وإذا رأيتم ما حدث اليوم فهو من باب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83]، وما ظالم إلا وسلط عليه أظلم، ثم يقذف بالكل إلى النار، ومع ذلك فليس هناك مستقبل لهم، إنما هو زمن قصير، وسحابة صيف سرعان ما تنقشع، وعلامة الله معنا في القضاء عليهم وإنهائهم: أن يدخلوا المسجد الأقصى بعد أن دخلوه أيام سليمان عندما كانوا مؤمنين بأنبيائهم، وهم قد دخلوا، فانتظروا بعد ذلك تدميراً وبواراً، وإن رأيتم من استعان بهم فهو على دينهم، فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه، وتهود يهوديتهم، وعندما سيأتي البلاء سيعم الكل، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، فهذا حكم الله الذي حكم به عباده.
فمن جعل ولاءه لصليبي أو لنصراني فهو مثله، ومن جعل ولاءه ليهودي فهو مثله، فكيف بمن جعل ولاءه صباحه ومساءه نهاره وليله بين يهود ونصارى، وأبعد المسلمين والقرآن والدعاة إلى الله، ولكن وهيهات هيهات {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51] أولاً ثم {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
فبنو إسرائيل أورثهم الله التوراة التي أنزلها على موسى، ومن غريب أمرهم أنه في الوقت الذي أنقذهم الله بموسى، وأغرق فرعون وقومه، وخرجوا من الغرق والماء بمعجزة، فقد شق البحر فصار كل شق كالجبل العظيم، وتجاوزوه بعد أن ذهب موسى لميعاد ربه، فجاء ووجدهم قد كفروا وارتدوا وعبدوا العجل، وقالوا لبعضهم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88] أي: هذا إله موسى الذي ذهب لميعاد ربه، فتركه هنا وذهب لإله غيره، فعاقبهم الله، وهكذا دواليك كانوا مع أنبيائهم، فما بالك بمن بعدهم، فشتتوا وشردوا وكأن لم يكونوا.
وإذا حدث ما ترونه اليوم فذلك لأن المسلمين فعلوا فعلهم وعصوا عصيانهم، وخالفوا مخالفتهم، وكما قال من قال: ردة ولا أبا بكر لها، فيعيش الناس اليوم في رحلة جديدة كرحلة من يرتد يوم أن توفي المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولكن في الصدر الأول وجدوا أبا بكر فردعهم وأجبرهم على العودة بين قتيل وأسير وجريح، واليوم ما وجدوا أبا بكر الثاني، ولكنه آت لا محالة، ذاك وعد الله في كتابه، وذاك وعد رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.(290/9)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق)
ثم قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55].
عاد الله إلى خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم، والسورة مكية، وقد نزلت عليه والمؤمنون مضطهدون في مكة ومعذبون: بين قتيل، وبين مضطهد لا أمان على حياته وإيمانه ورزقه، والله قد ابتلى الأنبياء وأتباعهم قبل نبينا بأقوامهم، وما كانت النتيجة؟ أن نصر الله أولياءه، وعاقب وسحق أعداءه.
وقوله تعالى: (فاصبر) يدعو الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الصبر، فصبر ما شاء الله له أن يصبر، ثم هاجر إلى المدينة، ثم أذن له بالقتال والانتصار، وهذه كانت قبل الإذن بذلك؛ ولذلك تعتبر منسوخة، فقد نسخت بالقتال، أي: بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39].(290/10)
تفسير سورة غافر [55 - 56]
لقد أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بالصبر في غير ما موضع، فإن الصبر مفتاح الفرج، وهو نور للصدور وضياء في القلوب، ثم تأتي العاقبة الحميدة، والنهاية السعيدة.
وقد صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الصبر الطويل، فكان في قلة يشتم ويسب، ويضرب أصحابه وينكل بهم ويمر بهم وهم كذلك فلا يزيدهم على الأمر بالصبر، ثم بعد ذلك عندما هاجروا إلى المدينة أمروا برد العدوان وبالقتال والجهاد.(291/1)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق)
قال ربنا جل جلاله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55].
قوله: (فاصبر) توجيه من الله جل جلاله لنبينا عليه الصلاة والسلام وقد عصاه وتمرد عليه الكثيرون ممن دعاهم إلى الله، وكذبه من كذبه، وقيل عنه ما قيل، سواء في جزيرة العرب أو في خارجها، فيأمر الله جل جلاله نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر عليهم، فإن العاقبة له، وإن النصر لرسل الله، وأعداؤهم سوف يعاقبون على مخالفتهم أشد عقاب، إلا من اهتدى وآمن وأسلم واستسلم.
والصبر قد دعا الله في غير ما آية من الآيات رسله والمؤمنين إليه، وخص ذلك في سورة فقال سبحانه: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:2 - 3].
وانتظار الفرج بالصبر عبادة، وكان مما أمر به عليه الصلاة والسلام أن يصبر على قومه، فصبر عليهم في مكة المكرمة اثنا عشر عاماً، وقد كذبوا وحاربوا وقاتلوا وألبوا وتآمروا عليه، ولكن النهاية كانت بنصره وبفوزه، وبسحق أعدائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومع ذلك قالوا: إن آية الصبر وما ورد في الصبر كل ذلك كان قبل الأمر بالجهاد، فقبل الأمر بالجهاد أمر الله نبيه وأتباعه بالصبر، ثم نزلت أول آية في القتال وهي قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، فكان القتال الذي أذن الله به لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بعدما كانوا مظلومين، ويراد إخراجهم من أرضهم، وإرجاعهم عن دينهم، والاعتداء عليهم، وكان كثيراً ما يأتي أصحابه ويطلبون منه القتال، فيقول: لم نؤمر بذلك، وكان يمر على أصحابه وهم يقاتلون ويعذبون، ويمر على الأسرة كلها أحياناً وهي كذلك، كما مر على عمار وعلى أبيه ياسر وعلى أمه سمية فيقول لهم: (صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة).
ولم يكن يملك غير ذلك، وكان صبوراً متأنياً منتظراً صلى الله عليه وسلم إلى أن نصره الله النصر العزيز المؤزر، وأذن له في القتال والكفاح والحرب عندما انتقل مهاجراً إلى الله إلى المدينة المنورة، فهاجمه أعداؤه فقاومهم وحاربهم فكانت العاقبة له، فخاطبه الله بقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [غافر:55] أي: ما وعدك به ربك من النصر ومن الفوز، ومن سحق الأعداء، ومن ظهور دينك وانتشاره في مشارق الأرض ومغاربها، كل ذلك حق فلا تستعجل، وانتظر واصبر فالعاقبة لك.
كما قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، أي: وفي الآخرة.
وكان وعد الله حقاً، والله لا يخلف الميعاد، فهكذا كان، أي: صبر صلى الله عليه وسلم دهراً، ثم بعد ذلك حقق الله وعده، فنصره وأخرج عدوه، وملك جزيرة العرب، وعاد لمكة التي أخرجه أهلها ظلماً وعدواناً مرفوع الراية منصوراً مظفراً حكم في أعدائه، ومع ذلك غلبت رحمته نقمته وعداءه عليه الصلاة والسلام، واجتمع إليه كفار قريش بعد أن نصره الله وفتح مكة، وقال لهم: (ماذا ترون يا معاشر قريش! أني فاعل بكم؟) وإذا بهم أخذوا يتمسحون، وحاولوا أن ينسوه ما صنعوه معه: من إخراجه من أرضه، وتعذيب أصحابه، وشتمهم له من قولهم عنه: ساحر ونحوه.
ومع ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام تفضل عليهم وقال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، فأطلقهم من عقوبته ونقمته، فهدى الله من هدى فآمن وأسلم، وشرد من شرد وفر من فر، فعل هذا فيهم جميعاً إلا أربعة عشر منهم قال فيهم: (اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة)، وكان منهم ثمانية رجال وست نسوة.
وهؤلاء تجاوزوا حدهم في الكفر، وفي الصد عن بيت الله وعن دينه.
وقد كان وعد الله لنبيه كما أخبر، فملك جزيرة العرب، وأصبحت كلها مسلمة، وأخذ في قتال الروم في غزوة تبوك على حدود أرض الشام، وهي إذ ذاك أرض رومية، فلم يكن قتال ولم يحضروا له.
وقبل ذلك أرسل سرية بثلاثة من قواده، أولهم جعفر بن أبي طالب، ثم زيد بن حارثة، ثم عبد الله بن رواحة، فاستشهد الثلاثة قائداً بعد قائد وأميراً بعد أمير، إلى أن ولي خالد.
ولم يكن في تبوك قتال إلا بما لا يكاد يذكر، وأوصى بالقتال ما بعد ذلك، وعين أسامة بن زيد أميراً، وهو ابن القائد الثاني الشهيد في غزوة مؤتة، فجهزه للخروج وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما حان الحين وآن الأوان لإنقاذ الجيش قد ذهب إلى الرفيق الأعلى.
فأرسل أبو بكر أسامة بن زيد لقتال الروم في مؤتة، ولكنهم كذلك لم يأتوا، وظنوا أن الإسلام قد انتهى بموت النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن هيهات فالأمر كما قال أبو بكر: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وهو قد جاء لعبادة الله لا لعبادة نفسه، قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144].
وبعد الموت النبوي وذهاب النبي للرفيق الأعلى، قام أصحابه وخلفاؤه أبو بكر أولاً ثم عمر بنشر الإسلام في أرض الروم وفارس، وإلى أرض البربر، وما كادت تتم خمسون سنة على ظهور الإسلام والنبي عليه الصلاة والسلام حتى أصبح الإسلام شرقاً في الصين والهند والسند، وغرباً إل عمق أرض فرنسا وما بينهما.
فكان ما وعد الله حقاً، كما قال ربنا جل جلاله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [غافر:55]، أي: اصبر صبر من هو متيقن بأن الله ناصره ومذل عدوه، وكان الأمر كما قال ربنا جل جلاله.
وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55] يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: استغفر يا محمد! لذنبك، واطلب المغفرة والتوبة من ربك.
وقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55]، وأكثر التسبيح والشكر لله على ما وعدك من نصر، وما سيحقق لك من نصر، على ما أكرمك به الرسالة ومن نبوءة جعلها عامة حين لم إلى الأبيض والأسود والأحمر، بين المشرق والمغرب، والعرب والعجم، إلى يوم القيامة، فلا نبي ولا رسول بعدك، فأنت نبي من عاصرك ونبي من يأتي بعدك إلى يوم القيامة.(291/2)
الذنب الذي أمر الرسول بالاستغفار منه
وفي قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55]، ما هو ذنب رسول الله الذي سيستغفر منه صلى الله عليه وعلى آله، ونحن نرى ونسمع أن الله يقول له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فيثني عليه وعلى خُلقه، ويشيد وينوه به، فكيف يكون من كان كذلك مذنباً؟ ونحن نرى أن الله جل جلاله يقول له بالنسبة للخلق كلهم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
وكأنه يقول: محمد صلى الله عليه وسلم أسوتكم وقدوتكم وإمامكم، فتخلقوا بأخلاقه، ودينوا بدينه، واتبعوا سيرته، واسلكوا أعماله، فذلك يوصلكم إلى رضا ربكم ودخول الجنان، ونرى ربنا ونسمعه يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، فهو قد أمرنا جل جلاله بالائتساء برسولنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نمتثل أمره وننتهي عن نهيه، وكيف يكون كذلك من له ذنوب؟ ونرى الله تعالى يقول لنا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة لله، في كل أعماله وسلوكه وأقواله.
ونرى الله جل جلاله يقول عند نزاعنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، فالله جعل كتابه ونبيه في حياته أو سنته بعد مماته هي المخلص من النزاع، والمخرج من الشقاق، فأمر بالعودة إليه والنتيجة: إن تنازعتم فمن كان منكم معه دليل من قوله تعالى أو من قول نبيه صلى الله عليه وسلم فذلك الفيصل الذي يفصل بين الحق والباطل، والذي لا نزاع فيه قط بعد ذلك، ولن يكون النزاع إلا عندما لا تكون هناك أدلة ولا براهين تؤكد قول القائل.
ونحن نرى الله تعالى عندما أكرم نبيه بالنصر المؤزر، ووعده به بعد معاهدة الحديبية يقول له: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2]، فما هو الذنب المتقدم؟ وما هو الذنب المتأخر؟ هذه الأشياء لا يكاد يتقنها ويتكلم عنها إلا من يسمون بأهل الآداب والرقائق والمعرفة بالله.(291/3)
أقسام الذنوب
فالذنب ذنبان: ذنب مخالفة وعصيان، وهذا لم يكن من رسول الله قط.
وهناك الذنب الذي هو خلاف الأولى، وهو من باب ما يقول أصحاب الرقائق والآداب: حسنات الأبرار سيئات المقربين، أي: أن من كان ذا قرب من الله جل جلاله فنجد الشيء الذي يعتبر خلاف الأولى في حقه هو حسنة في نفس الأمر للأبرار، والأبرار أعلى درجة من الأتقياء، ونجد المقربين من الله وهم رسله وأنبياؤه وملائكته قد يكون ما هو مباحاً وحسنة ومنزلة في حق هؤلاء يكون في حق أولئك كالأنبياء يكون خلاف الأولى، أي: غيره أحسن منه، ولنبحث فيما يقوله ربنا في كتابه، وفيه بيان لكل هذا، فنجد الله جل جلاله عاتب نبيه وعبده في كثير من السور والقضايا في كتابه.(291/4)
معاتبة الله لنبيه في عفوه عن أسرى بدر
فعاتبه عقب غزوة بدر عندما أخذ الجزية من الأسرى وأطلق سراحهم، فقال له: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67]، وكأنه قال له: ما كان ينبغي لك يا بني يا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن تأخذ الجزية من الأسرى وأنت تعجز أن تهزم عدوك، فلم تسحقه ولم تقض على قادته، ولم تقض على المخططين له، ويوشك إن فعلت ذلك أن تكون العاقبة عليك لا لك؛ لأن الذي حدث في هذه المعركة أن النبي عليه الصلاة والسلام أسر اثنين وسبعين قائداً من قواد قريش، وكان فيهم قادتهم المقاتلون، وضباطهم المسيرون المخططون للحرب والقتال.
ويوشك بعد أن أطلق سراح هؤلاء واكتفى بما أخذه من الجزية، مع أنه لم يأخذها إلا بعد استشارة أصحابه كما أمره الله تعالى، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، فهو قد امتثل أمر الله وشاور أصحابه، وكان رأي أصحابه مختلفاً فقال عمر بعد ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم والذين معه: (ما ترون أصنع بهؤلاء الأسرى؟)، فقال عمر: اقتلهم يا رسول الله! ولا تنس ما صنعوا معك، ومع أصحابك، أي: أخرجوك من بلدك وتآمروا على قتلك وسجنك، بل سجنوك سنوات في الشعب حتى لجأت لأكل أوراق الشجر، وقتلوا أصحابك، وصدوا الناس عنك، وقالوا: إنك ساحر ومجنون، ويريد النساء، ويريد الملك والسلطان، ويريد الدنيا والجاه، وهو نبي الله المعصوم صلى الله عليه وعلى آله.
وقال له عبد الله بن رواحة: يا رسول الله! اجمع الحطب من هذا الوادي وأوقده، ثم خذهم بجسومهم وارمهم في هذه النار، فقال له العباس وهو يسمع: قطع الله رحمك.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا استشار أصحابه يكون مع أبي بكر؛ لعقله الواسع، ولحسن رأيه وتأنيه، ولمكانه من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وذلك ما أهله لأن ينتخبه المسلمون خليفة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وكان الخير كل الخير بعد رسول الله للمسلمين على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولو عينوا مكانه حتى عمر لذهب الإسلام.
فالحاصل: أن الصديق قال: يا رسول الله! هؤلاء قومك ولعلهم يتوبون، ولعل الله أن يخرج من أصلابهم مؤمنين مسلمين يوحدون ربهم، فخذ منهم الجزية ودعهم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم الخيمة ثم عاد صباحاً وقال: الرأي رأي أبي بكر، فأخذ برأيه، وكان الأمر مبني على الشورى كما أمره ربه أن يفعل، ولكن الله كان يرى غير ذلك، وهذا غيب ولا يعلم الغيب إلا الله ومن يعلمه ذلك.
والله لم يعلم نبيه بهذا قبل، ولكنه أعطاه به درساً له ولمن يأتي بعده في معاركه الآتية، ولذلك قال الله له كلام كثيراً ثم قال: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]، وما العذاب وما الكتاب السابق؟ الكتاب السابق هو ما يقوله الله في هذه الآية: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [غافر:55]، فوعده الله بنشر دينه، وتحكمه في البحار وفي الجبال وفي القارات وفي أقاصي الأرض، وكان كتاب الله السابق أن ينصر عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم النصر العزيز المؤزر الساحق لأعدائه، وكأن الله يقول: لولا أنه سبق أن وعد نبيه بالوعد الحق لكان فيما أخذتم عذاب عظيماً.
وما العذاب؟ كان يمكن هؤلاء الذين تركهم وأطلق سراحهم أن يقولوا كما تقول اليوم لغة الحرب والقتال: هي معركة خسرناها وليست الحرب، فيعودون لمكة ويجددون الحرب والقتال، وينظرون في ماذا أخطأوا في المعركة، فيتداركون ذلك ثم يأتون، والناس على غاية من الحقد، ومن العداوة والشراسة، فينتقمون لرجالهم ولمن قتل منهم.
ولذلك كانت هذه موعظة من الله وإرشاد منه لما في المستقبل، أما هذه فقد عفا الله عنها، وكأنه قال للمسلمين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخلت معركة بعد اليوم فإياك أن تقتصر على أخذ الأسرى، وتطلق أعداء الله الذين يمكن أن يعيدوها حرباً جذعة مشتعلة النار أكثر مما كانت عليه في المعركة الأولى.
ولذلك فلغة الحروب دائماً تقول: لتهزم عدوك اصرفه عن وطنه وعن دينه، إذا أنت دخلت حرباً فابتدئ بقتل الأئمة والعلماء والأبطال والقادة؛ ليبقوا كقطيع من الأغنام الذين لا يهمك أمرهم، فلابد من القضاء على الرءوس الذين يمكن أن يعودوا برأيهم إلى معركة أشد، فإياك أن تتركهم.
هذا الذي عاتب الله فيه نبيه هل كان أمراً من الله له خالفه فيه النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يكن هذا؟ أي: لم يقل له الله: يا محمد! إذا دخلت حرباً وأسرت عدواً فإياك أن تطلق صراحه، وأن تأخذ منه جزية، بل عليك بقتله والقضاء على جيشه، هذا لم يكن، وبما أنه لم يكن فقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم باجتهاد ما يعلم أنه الأصلح والأنفع للمسلمين.
ولم يستبد النبي صلى الله عليه وسلم برأي لنبوته وجلالته، بل جمع أصحابه واستشارهم؛ تنفيذاً لقول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159].
فالحاصل: أن هذا ذنب من الذنوب، ولكنه لا يعتبر ذنباً في صحابي ولا لولي ولا لعالم؛ لأن أصل الذنب المخالفة والعصيان، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخالف أمراً أمر به من ربه، فحاشاه ومعاذ الله، ولم يعص ربه في أمر أمره به حاشاه.
ولكنه فعل فعلاً كان الأولى ألا يكون، وكان ذلك اجتهاداً منه وهو لا يعلم مراد الله فيه، وأعلمه ربه بعد ذلك به معاتباً؛ ليكون ذلك درساً لأمته ولأصحابه.(291/5)
معاتبة الله لنبيه على عبوسه في وجه الأعمى
ومن الأمثلة على فعل النبي خلاف الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم بينما هو في مكة المقدسة، وهو يدعو إلى الله تحت الكثير من الشدة والاضطهاد والعداء من أهلها، رأى مرة في عقبة بن أبي معيط تقرباً للإسلام وبشاشة في شكله، فدعاه لبيته فاستجاب، وجاء صناديد كفار قريش، فأخذ يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام على عادته صلى الله عليه وسلم، لا يترك فرصة يجتمع فيها مع كفرة صناديد من أئمة الكفر وأعداء الإسلام إلا وأخذ يدعوهم إلى الله، فهنا أخذ يدعوهم إلى الله على عادته، وإذا بصاحبه المسلم عبد الله بن أم مكتوم الضرير الأعمى يدخل في تلك الساعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمجلس حافل بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته صناديد قريش إلى الله.
فيصافحه عبد الله بن أم مكتوم ويسأله أسئلة سطحية لا تتعلق بعقيدة ولا بأصول الإسلام، وإنما تتعلق بنحو صلاة أو صيام أو زكاة، وأخذ يقول له: يا رسول الله! يا رسول الله! فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه ولم يجبه.
وكان فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتهاده أن هذا قد أسلم، وليس هذا وقت سؤال، فهو يكون معه صبحاً ومساء وفي أي وقت شاء، وأما هؤلاء فلا يراهم إلا بعد جمع وعناء، وكأنه يقول: ليس الآن يا ابن أم مكتوم! الوقت المناسب لأن تسأل هذه الأسئلة، وتقطعني عن الحديث مع هؤلاء، فأعرض عنه وعبس في وجهه، فعاتب الله نبيه وقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1]، ومعنى: عبس، أي: أعرض، {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:2 - 4].
وكان مراد الله شيء آخر، ولكن النبي في عمله صلى الله عليه وسلم ما كان يريد إلا مصلحة الإسلام، وذلك بدخول صناديد قريش فيه، ولو أسلموا لأسلم بإسلامهم أهل مكة جميعها، ولن يبقى كافر فيها، فهو لم يرد إلا الخير وعبادة ربه والدعوة إليه، ولكن الله كان يرى غير ذلك، فكان يرى أن هؤلاء إن أسلموا فلأنفسهم، وإن كفروا فإلى جهنم وبئس المصير، فالله غني عنهم وعن إسلامهم، فإن أسلموا فقد اهتدوا لأنفسهم، وإن ضلوا فما الله بحاجة إليهم، ولكنه أراد سبحانه أن هذا المسكين الضرير الفقير عندما جاءك كان ينبغي أن ترفع شأنه، وتعلم أولئك بمقامه؛ لأن أولئك مشركون وهو مؤمن، فتلتفت إليه بكليتك، ولا تعبس في وجهه، فعاتبه الله على ذلك، ولكن هل الله أمر نبيه من قبل وقال له: في أي وقت جاءك ابن أم مكتوم فاترك عملك وتوجه إليه؟ لم يكن هذا، ولا لأحد من الناس.
إذاً: فهذا هو ما يقال له في عرف أهل المعرفة والآداب والرقائق: خلاف الأولى.
وحاصل الأمرين: أنه في الثاني كان الأولى عند الله جل وعلا أن يعتنى نبيه في مثل ذلك الموقف بـ ابن أم مكتوم، وأما أولئك فسبق في علم الله -ولا يعلم هذا إلا الله- أن أكثرهم سيموت كافراً، ومنهم عقبة بن أبي معيط فقد خرج مقاتلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، وأسره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك قتله من بين الأسرى هو والنضر الذي هجاه وهجا الإسلام، وأخذ يقول له: عذراً يا محمد! -لا يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم- لم خصصتني بالقتل دون هؤلاء؟ والنبي صلى الله عليه وسلم قتله لمواقفه، وكانت على غاية الحقد على الله ورسوله والإسلام، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لمن نترك الصبية؟ قال: للنار.
ولذلك كان منه ولد كبر وزعم الإسلام في أيام عثمان، وولي أميراً، وإذا به في يوم وهو يصلي إماماً في الركعة الثانية التفت قبل السلام وقال للمؤتمين: أأزيدكم؟ أأزيدكم على ركعتين؟ أي: إلى ثلاث وأربع، وإذا به يتبين أنه كان سكران طافحاً، فهذا الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه وعن أمثاله لما أجاب عن والدهم: للنار.
إذاً: فهكذا كانت نهاية هؤلاء الصناديد، لكن هذا أمر الله، ولا يعترض جل جلاله، ولكنه لم يأمر نبينا صلى الله عليه وسلم من قبل بأنه إذا جاءك ابن أم مكتوم افعل كذا! أو كذا! فهذه لا تعتبر مخالفة ولا عصيان، بل هو ذنب مما يقال فيه: خلاف الأولى، أو من لغة: حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولو فعل هذا رجل عادي لم يعاتب، وفي الحديث: (إنما الأعمال بالنيات).(291/6)
مقتضى الأمر بطاعة الرسول
الحاصل: أن هذا الذنب المتقدم وأمثاله مما ذكر مثالاً من كتاب الله هو الذي قال الله عنه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55]، وأكثر هذا من خلاف الأولى؛ لأن النبي أعلى مقاماً وشأناً، فالإنسان العالم للبشرية كلها، من عاصره ومن سيأتي بعده، ومن هنا كان حكم الله عاماً عند أن قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
وكان حكم الله بعد أن أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وأن المسلمين سيفترقون على ثلاث وسبعين فرقة، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة، قالوا له: يا رسول الله! ومن هذه الواحدة؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)، وهو تأكيد لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، وتأكيد لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، ولقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب عنه كل ما يسمع في صحيفة سماها الصادقة، فتأخر يوماً من أجل رجل من قريش قال له: أتكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء وهو بشر يتكلم بالرضا والغضب؟ فلما انتبه له نبي الله صلى الله عليه وسلم يوماً ولم يكتب قال له: ما بالك لم تكتب؟ قال: قال لي فلان من قريش كذا وكذا، فقال: (اكتب والله! لا يخرج من هذا إلا حق في الغضب والرضا)، فصلى الله عليه وسلم.
وبإجماع كل مسلم مؤمن منذ عصر الخلفاء الراشدين وعصر النبوءة إلى عصرنا وإلى قيام الساعة بأن السنة النبوية: هي القول أو الفعل أو الإقرار النبوي، ويعتبر شرعاً يجب طاعته والعمل بمقتضاه، وكل عمل فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر شرعاً، وكذا كل شيء وقع في محضر الرسول عليه الصلاة والسلام فأقره يعتبر أيضاً شرعاً وديناً.
ومن هنا كان النبي عليه الصلاة والسلام مشرعاً لدين الله نائماً ومستيقظاً، مسافراً وحاضراً، غاضباً وراضياً، مسالماً ومقاتلاً، وفي كل أحواله؛ لأنه لا يقول ولا ينطق إلا بالحق، ومن هنا نعلم أن قول الله له: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113] أنه كان عظيماً بحق، فأعانه وحفظه وعصمه من كل الذنوب والآثام كبائرها وصغائرها، حتى في الجاهلية وقبل النبوءة.
وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام يوماً: هل حضرت في شيء مما كان يفعله قومك؟ يريدون من سجود لصنم، ونحوه، أو حضر محفلاً من محافل أوثانهم، قال: لا، إلا ما كان من مرتين -وهو دون العشرين- بلغت أن حفلة زواج عند آل فلان! فذهبت لأحضرها، ويكون فيها لفساد العصر رقص وغناء، وذكر الوثنية والصنمية، قال: لا أدري إلا أني قد دخلت ولم يبتدئوا بشيء بعد، فلم أفق إلا وحرارة الشمس على ظهري، أي: أنامه الله، فلم ير شيئاً ولم يحضر شيئاً، وصانه الله وحفظه.
وكرر هذا مرة ثانية فجرى عليه ما جرى، أي: ما كاد يدخل إلا وغلبه النوم، فلم يشعر إلا وحر الشمس على ظهره، ولما أفاق لم يلق أحداً، أي: تفرقوا وتشتتوا وذهب كل لحال سبيله، وما سوى ذلك لم يحضره، وهذا الذي حضره صانه الله منه.
ولقد قالوا كما في الحديث الذي في الصحيحين: إن النبي عليه الصلاة والسلام (نزل عليه الوحي في غار حراء)، وهو في الأبطح كما كان يسمى في عصر النبوءة: الأبطح والبطحاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام نزل عليه جبريل وهو في غار حراء يتعبد ويتحنث الليالي ذوات العدد، وكانت عبادته صلى الله عليه وسلم الفكر، أي: كان يفكر ليلاً ونهاراً في الأيام التي اختلى فيها في الغار في خلق السماء والأرض، وفي خلق نفسه، والليل والنهار والصيف والشتاء، ونحوها، وهذه الأصنام لا تدرك ولا تعقل ولا تضر ولا تنفع، إذاً فمن؟ الله هو الذي ألهمه أن يفكر، حتى إذا جاءت النبوءة والرسالة يكون في استعداد عقلي ونفسي، وهذا التفكير نفسه يعتبر عبادة وإلى عصرنا، ولذلك ورد أن تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين عاماً، فعلى الإنسان أن يتفكر، فمثلاً: منذ سنة كذا وكذا! لم أكن في الأرض فمن أوجدني؟ ومن خلقني ورعاني؟ ومن جعلني في رحم أمي؟ ومن كلف والدي بأن يعطفا علي ويشرفا على تربيتي؟ ومن أعطاني هذا العقل الذي أفكر به؟ ومن أعطاني هذه الروح التي بها أتحرك وأتصرف؟ وكثيرون كانوا قبلي كذلك ثم ماتوا وذهبوا فما الموت؟ ولماذا جئنا؟ وإلى أين سنذهب؟ وما الحياة؟ فالإنسان الذي لا يفكر في هذا هو حيوان أقرب منه للإنسان، ونحن نرى في كل لحظة أناساً تذهب وأناساً تجيء، وتسمع في كل حين أن فلاناً ولد له ولد، ولد لك حفيد أو حفيدة، وفلاناً مات رحمه الله، فيتفكر لم جاء هذا وذهب ذاك؟ ويجد مظهر ذلك في قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فما هذه العبادة؟ وكيف هي؟ فتأتي إلى القرآن المنزل على النبي عليه الصلاة والسلام فيقول لك: العبادة أن تنهض بالعقيدة لله؛ لأنه الواحد لا شريك له، وهو الخالق الرزاق المحيي المميت القادر على كل شيء.
ثم بعد ذلك ثمتثل أمر الله وأمر رسوله، فأمر أن يصلي الخمس الصلوات في اليوم والليلة، وأن يصوم شهراً من كل سنة وهو رمضان، ويزكي عن ماله إذا بلغ النصاب ومضى عليه الحول، ويحج مرة في العمر، فيأتي إلى هذه الديار المقدسة فيطوف بالكعبة الشريفة، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقف يوماً في عرفات، ويقيم ليالي في منى، ومن لم يفعل ذلك فيكون قد أخل بالإسلام وأضاع أركانه، بل ويوشك أن يفقده، فمن لم يفكر في هذا ويعمل به ويسعى فيه يكون إسلامه غير كامل، وقد يصل إلى الكفر والردة نعوذ بالله من الخذلان، ومن السلب بعد العطاء.(291/7)
أمر الله نبيه بشكره صباح مساء
قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55]، العشي: هو المساء، والإبكار: الصباح الباكر، والمعنى: اشكر الله بقولك: سبحان الله، لا إله إلا الله، الله أكبر، وهناك صلاة الإبكار وهي صلاة الصبح، وصلاة العشي وهي صلاة العصر، كما قال الحسن البصري، وقال ابن عباس رضي الله عنه: دخلت في هذه الصلوات الخمس كلها.
فصلوات العشي ابتداء من الظهر إلى العصر إلى المغرب إلى العشاء، وتبقى صلاة الإبكار وهي الصبح، ولماذا صلاة الظهر في المساء؟ لأن صلاة الظهر تكون عندما تميل وتزول عن كبد السماء كما هو المعلوم؛ لأن الشمس عندما تصل إلى وسط السماء في هذه الحالة لا يبقى للشخص أو للشجرة أو للعود ظل عندما تنصبه؛ لأن الشمس قد وقفت، ثم تميل إلى العشي وذلك الميلان معناه: أن الشمس قد انحازت وقد زالت عن كبد السماء، ودخلت في وقت المساء ووقت العشي.
ومن هناك يستمر العشي إلى غروب الشمس، ويبقى إلى دخول جزء من الليل، ويشتمل ما بعد المغرب إلى العشاء، ونقول: ائتني غداً مبكراً، فيكون معناه: وقت صلاة الصبح.
يقول ابن عباس: الصلوات الخمس قد نص الله عليها في كتابه إشارة وتلميحاً وتصريحاً، والأمر هنا كذلك.
وقال سبحانه في مكان آخر: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فكأن الصلوات هي الستار لهذه الصلاة الوسطى، واختلفوا فيها، وهي صلاة العصر كما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها في صحيح مسلم.
وهكذا اشتمل القرآن على الصلوات في أوقاتها الخمسة، وعلى الحج والصيام، والزكاة، والشهادتين في الدرجة الأولى.
وقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [غافر:55] أي: احمد ربك واشكره، وصل صلاة الشكر، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم الليل متهجداً حتى تفطرت قدماه وتشققت من كثرة القيام والسجود والركوع، فقالت أم المؤمنين عائشة مشفقة عليه من طول القيام: (أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟)، فالله أمر بالشكر عموم المؤمنين، فكيف بسيد المؤمنين صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك قالوا: في هذه الفقرة من الآية الكريمة الأمر بصلاة الشكر.
وكأن الله يقول لنبيه: اصبر فالصبر ضياء، ووعد الله لك بالنصر وبهزيمة عدوك وسحقه حق.
وكأن معنى الآية: لقد غفر ذنبك فاستغفر لذنبك، وقد فعل واستغفر، فقد كان يقول عليه الصلاة والسلام: (إنني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة)، وفي رواية: (مائة مرة)، ومع ذلك إذا كان هذا حال المعصوم عليه الصلاة والسلام فكيف بالمذنبين الخطائين أمثالنا؟ فهو أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أمر لنا من باب أولى، أي: إن كان معصوماً يحتاج إلى الاستغفار فكيف يكون حال الخطائين أمثالنا؟! وإذا كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يستغفر ربه سبعين أو مائة مرة في اليوم فكم يجب أن نستغفر نحن ليغفر الله لنا؟! وكل ذلك قبله الله من نبيه، وغفر له ونصره وشجعه فقال له: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55] أي: اسجد وصل صلاة الشكر، وما هي صلاة الشكر في الإسلام؟ هي الصلوات الخمس وما يتبعها من سنن قبلية وبعدية، وكذلك الصلوات الأخرى كالعيدين، وصلاة الجنازة.(291/8)
نسبة الفضل كله لله
وهناك سجود الشكر وسجود التلاوة، وأين صلاة الشكر؟ قالوا: -وهذا مختلف فيه، ونعتبره صحيحاً في كلا الخلافين- لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً عزيزاً مظفراً، وهو على غاية ما يكون من الأدب مع ربه مطأطئاً رأسه، تكاد لحيته الشريفة تمس غضروف الناقة، أدباً مع الله وخضوعاً لجلاله، لا كهيئة الملوك والأباطرة والفاتحين، فعندما يدخلون مدينة فاتحين منتصرين على عدوهم يركب أحدهم فرساً أو جواداً يتراقص به، وقد يعلم الفرس الرقص، فيدخل به الفرس وهو يرقص، ثم يخطبون مهددين وموعدين ومنتقمين.
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على ناقة مطأطئاً رأسه، جاء وهي تقفز به، ليس فيها رقص ولا تيه ولا تعاظم، دخل عليه الصلاة والسلام وهو ينشد نشيد الشكر والوحدانية لله سبحانه، متجرداً عن كل عمل له، بل نسب الفضل لله، فقال عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي نصر عبده، وأعز جنده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده).
جاء هذا النصر بعد لغب وبعد ثمان عشرة سنة من تحملات النبي عليه الصلاة والسلام لعداوة أعدائه ومكائدهم، وإيذاء أعدائه، وهيأ لهم وأعد وحاربهم حروباً بعد أن هاجموه في المدينة المنورة.
ثم عندما دخل مكة فاتحاً لم ينسب لنفسه شيئاً، بل الكل جعله لله، وجعل نفسه في يد الله يصرفها كيف شاء، وذلك من باب قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، ومن باب قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يمد يده للبيعة، وكان هو الذي يرمي، ولكن بما أن الأمر من الله، وهو تنفيذ لإرادته سبحانه، نسب الأمر كله إلى ربه سبحانه.
فالحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم أدباً مع ربه دخل مكة ولم ينسب لنفسه شيئاً: لا قتالاً ولا جهاداً ولا نصراً ولا عملاً، ونسي كل ما جرى عليه من قطيعة، وهجوم وحرب، وإخراج من بلده، وإجاعة وشتيمة، ورجع يحمد الله على أن كانت النهاية النصر والعزة والظفر، وهكذا عليه الصلاة والسلام لم ينسب لنفسه شيئاً، ومن هنا قال الحكيم العارف بالله: إذا أراد أن يظهر فضله عليك خلق ونسب إليك.
فنحن نصلي ونصوم ونحمد الله على ذلك، ونرجوه الثبات حتى لقائه، ومع ذلك ألهمنا ووفقنا وهدانا لذلك، ثم سيجازينا عليه كرماً وفضلاً منه.
وهكذا كانت حال رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما دخل مكة فاتحاً، وبعد الفتح خطب خطبة وهو مستند على ظهر الكعبة، فجاءه أبو شاه وهو عربي فقال: يا رسول الله! مر لي بأن تكتب لي خطبة الفتح هذه، فأمر بكتابتها له، ودخل بيت أم هانئ وصلى ثمان ركعات، فذهب الذين رأوا الصلاة أو بلغتهم عن أم هانئ وقالوا: هي صلاة الضحى، وهناك من قال: هي صلاة الشكر، حيث نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنجز وعده، ونصر جنده، وهزم عدوه، وحيث حقق جميع ما وعد به نبيه عليه الصلاة والسلام.
ومن قال: هي صلاة الضحى حجته أنها كانت في وقت الضحى، أي: بعد الإبكار وقبل الزوال والظهر، وهي صلاة الشكر لأنها كانت عقب الفتح.
وعلى ذلك فصلاة الضحى عندما تصلى يوماً في هذا الوقت فهي صلاة في وقت الضحى، وهي شكر لله الذي أكرمه بالنصر والفتح، وهزيمة عدوه.
ولذلك أخذوا من هذه صلاة الشكر، وقد سنها النبي عليه الصلاة والسلام بفعله وعمله عندما صلى في بيت أم هانئ ثمان ركعات.
وكانت صلاة الشكر في هذه الفترة متمثلة بقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [غافر:55] أي: احمد ربك واشكره على ما أعطاك وأكرمك به، وأنجز وعده وحقق مراده فيما كنت ترجوه وترغب إليه، كما سبق أن بشره الله تعالى وهو مسافر مهاجر إلى ربه بالمدينة، وقد وصل للجحفة -وهي رابغ كما نقول لها اليوم- فأنزل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85].
فكان وعداً من الله له بأنه قد أعاده إلى معاد، فلما خرج من مكة عاد إليها فاتحاً ولها مالكاً، مكسراً أصنامها مذلاً كفارها.(291/9)
نجاسة المشركين
ثم بعد ذلك أمره الله بطرد جميع المشركين والكفار، وألا يعودوا يوماً إلى دخول المدينة؛ لأنهم أنجاس، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]، وإن من الناس اليوم من لا يؤمن بهذا، مع أنه لا يباح لكافر أو لمشرك أو لنصراني أو يهودي ونحوهم أن يدخل مكة والمدينة؛ لأنه نجس، فلو دخل متحايلاً أو زاعماً أنه مسلم ثم هلك ودفن فيجب على من علم بدفنه أن يخرج جثته وجيفته ويبعدها خارج الحرم؛ لأنها نجسة، فهو في الحياة نجس فكيف بعد موته فقد ازداد نجاسة على نجاسة.
ولذلك طهر الله تعالى هذه الديار التي شرفها على جميع قارات الأرض، وهي ممر الأنبياء ومقامهم، ومكان البيت المحرم ومكان الكعبة المشرفة، وهي التي لا تنقطع العبادة فيها ليلاً ولا نهاراً، وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام من عنده مفاتيح الكعبة فقال: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً يطوف بهذا البيت من ليل أو نهار) وأمرهم ألا يغلقوا أبوابها، وهكذا الأمر، فجميع بيوت الله تغلق أبوابها؛ لأن الصلوات لها أوقات معروفة وما بين الصلوات وخاصة في الليل لا حاجة لفتح أبوابها.
وأما بيت الله الحرام فالطواف لا وقت له، والعمرة كذلك لا وقت لها، وعلى ذلك فجميع الأوقات الصباح والمساء بعد صلاة الصبح وبعد العصر، وفي جميع الأوقات والأزمان يعبد الله في الحرم: بالإحرام، وبالطواف، وبالسعي، وبالصلاة، وبالذكر، وبالتلاوة، بل وبمجرد الجلوس في بيت الله الحرام والنظر إليه دون قول ولا ذكر ولا تلاوة.
ولذلك ملكه الله هذه الديار المقدسة، وطرد عنها عدوه، وأمره بالشكر بقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55]، قوله: (في العشي) أي: بالعشي، وحروف الجر ينوب بعضها عن بعض، والعشي هو المساء، والإبكار: الصباح، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بورك لأمتي في بكورها)، وجعلت البركة في البكور.(291/10)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله)
ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56].
يوجد قوم من وقت نزول الآية الكريمة وإلى عصرنا كفرة بالله منافقون، ويحاولون أن يخاصموك ويجادلوك بالكلام على آيات الله، وبالكلام على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالكلام في الحلال والحرام، وأحدهم أجهل من الحمار، وأبعد من أن يميز بين اليد والقلم، وهؤلاء عندما يأتون فإنهم يحرفون كلام الله، وكثيراً ما يصنعون ذلك في كتب التفاسير في عصرنا، فأخذوا يقولون كلمة من الدجل والشعوذة: والتفسير العلمي لكتاب الله في هذا العصر! فهذا شيوعي زعم أنه تاب وعاد إلى الإسلام، وكتب ما يسمى بهذا الاسم، وصار يسمع صوته في الإذاعة وفي التلفزة، وقد يكتب في الجرائد، وقد يكتب كتباً، وهو دجال كذاب فاحذروه وانتبهوا له، في رسائله وفيما يقوله من شتم للنبي عليه الصلاة والسلام، وكفر بالله، وتحريف لكتابه، وتفسير لآياته بخرافته، وكثيرون كذلك، وأكثر ما كتب في هذا العصر في التفسير على هذه الطريقة.
فهؤلاء يريدون أن يجادلوا ويخاصموا ويزعموا إبداؤهم الحجج والبراهين في تحريف كلام الله وتأويله على غير وجهة، وهؤلاء يقول الله عنهم: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56] (إن) بمعنى: ما النافية، أي: ما هو إلا كبر في صدورهم، أي: في قلوبهم الكبرياء والكفران، فلا يطيعون ربهم أو نبيهم أو خلفاء نبيهم من العلماء والدعاة إلى الله، فيذهبون ويقولون: لماذا نطيعهم فكلنا نفهم؟ ولماذا لا تفهمون إلا أنتم؟ فنقول لهم: نعم نفهم نحن وأنتم، ولكننا درسنا، فأنتم ينبغي أن تدرسوا ما الله جعله واضحاً وبيناً، فأنت يا أيها الذي لا تميز بين سطر في جريدة وسطر في كتاب الله أتريد أن تفسر كلام الله؟! فيقول لك: ولماذا لا أفعل؟ وهكذا هؤلاء لعنهم الله تعالى وأضاع عقولهم ومسخهم، وأتوا من القول بكلام ما أنزل الله به من سلطان.
وأحد كبرائهم في هذا العصر -وهو رئيس دولة، وهو كافر بالله؛ لإنكاره السنة- قال: لا أؤمن إلا بما في القرآن! فرجع إلى القرآن فقال: القرآن ليست فيه الصلوات خمس، ولا صيام ثلاثين يوماً، وليس فيه تفاصيل الزكاة، والقرآن أكثر ما أنزل فيه المجاز، ومعاني الكثير من الكلمات إنما هي مجازات وإشارات لأشياء أخرى.
وهذا هو فعل كل الفرق الضالة المضلة التي أخبرنا عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق، فقال عنها: (كلها في النار)، فهي تزعم الإسلام وهي أكذب خلق الله على الإطلاق، وأقبح من اليهود والنصارى، فالنصراني لا يقدر أن يأتي إليك ويقول: تعال أعلمك كتاب دينك وسنة نبيك، فأنت تعلم أنه لا دخل ليهودي ولا لنصراني في الإسلام، وأما هذا فيزعم أنه مسلم، ويأتي ويحرف.
يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} [غافر:56] فيجادلون ويخاصمون وينازعون ويحاولون الحجاج كذباً وزوراً، {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} [غافر:56] أي: بغير دليل وبرهان، وبغير حجة من قرآن أو حديث أو إجماع أو لغة، إن كلامهم إلا الهراء والعواء كعواء الكلاب والذئاب.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} [غافر:56] أي: في كتابه وفي قدرته، وفي معجزات أنبيائه، وفي دينه بغير دليل ولا برهان، وكأن الله يقول: ما هؤلاء يريدون حقيقة إلا كبرياء في صدورهم وقلوبهم.(291/11)
الكبر في قلوب الأعداء
وقوله تعالى: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56] أي: إن في صدورهم إلا تكبر على الحق، واستعلاء على الإسلام وعلى رسوله وكتابه.
فكأن الله يقول: هؤلاء الذي يضمرون في قلوبهم وصدورهم الكبر ما هم ببالغيه، أي: لم يصلوا إليه يوماً قط.
ومن هم هؤلاء؟ الآية تدل على العموم، وأن كل كافر من كل جنس يفعل هذا ويصنعه، وصدق الله العظيم، فهم يظنون أن الإسلام يجب أن ينقلب وينتهي، وهم طالما زعموا ذلك وسعوا إليه منذ الوفاة النبوية وإلى يومنا هذا.(291/12)
نصر الله لأوليائه وحفظه لدينه
عندما توفي النبي عليه الصلاة والسلام زعموا أنهم قضوا على الإسلام، وعندما ارتد من ارتد، وادعى النبوءة من ادعى، وحرف في الأركان من حرف، فرحوا للكبر الذي في نفوسهم، وإذا بالله الكريم يسلط عليهم خليفة نبيه، الخليفة الأول: أبا بكر رضوان الله عليه، ففي خلال سنتين لم يبق من هؤلاء نفس يتحرك، وصاروا بين قتيل وشريد وطريد خارج جزيرة العرب، وعاد الإسلام لقوته ولسلطانه، وعاد لانتشاره في بقاع الأرض.
ثم جاء عمر فأخذ ينشره أيضاً في البقاع والأصقاع، ثم جاء بعد ذلك قتال في عصر بني أمية وعصر بني العباس وعصر بني عثمان، فكان الصليبيون والتتار، وكان أخذ الكثير من بلاد الإسلام كغرب الأندلس، وما وراء البحار من أرض في الصين، ومن أراض في روسيا وما إلى ذلك، وكل مرة يظنون أن الإسلام انتهى، وإذا بهم هم الذين ينتهون، فقد كانوا في هذه الأرض التي دنست ونجست باليهود وحلفائهم وأنصارهم أعني: بيت المقدس، فأقاموا نحو مائة عام، وبعد ذلك جاء أمير صغير ما هو بعربي ولا قرشي، وإنما هو كردي، فنصره الله النصر العزيز المؤزر، فطرد كل هؤلاء إلى البحار وإلى بلدانهم، وعاد للأقصى مقامه، وعادت فيه الصلاة والإسلام، وذهبوا -أي: اليهود وأذنابهم- في أمس الغابرين، والتاريخ يعيد نفسه.
وجاء التتار فمزقوا وخربوا وقتلوا الملايين، فأين هم؟ من بقي أسلم، ومن ذهب فإلى جهنم، ومن مات من المسلمين فقد مات بأجله، وإن صحت شهادته فهو شهيد، وإن لم تصح فهو على ما هو عليه.
وهكذا بعد ذلك عاد الإسلام أقوى مما كان في العصر الثامن وبداية السابع ووسطه، فقد جاء محمد الفاتح وفتح الله على يده القسطنطينية التي طالما طمع الصحابة في فتحها عندما قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (ستفتحون مدينة نصفها على البر ونصفها على البحر، يقال لها: القسطنطينية، فنعم الأمير أميرها، ونعم الجيش جيشها)، فكانوا يطمعون أن يفعلوا ذلك، فابتدأ ذلك بقيادة أبي أيوب الأنصاري مضيف رسول الله عليه الصلاة والسلام فاستشهد عند الباب، وبقي هناك، وبعد قرون اشتغل المسلمون في حروب مع بعضهم، إلى أن جاء بنو عثمان فجاء منهم محمد الفاتح، ففتح القسطنطينية وجعلها دار إسلام.
ولذلك فاسمها: إسلام بول لا إسطنبول، وإنما تحرف الاسم، وبول: معناها (مدينة)، فسماها مدينة الإسلام، وهي إلى اليوم ولله الحمد مشاعة فيها المساجد، دائمة الصلاة والعبادة، وقد جاء من حاول أن يفسد أهلها ويعيدهم للكفر والردة، فما أعاد إلا نفسه ومن أغواه الله وأضله، وعادت البلاد إلى دين الله وعبادته، والأمر يزداد حسناً والإسلام انتشاراً، والناس عودة لدين الله أكثر مما مضى، ويوشك الأمر أن يتم بالتحالف وبالتآخي مع الدول والشعوب الإسلامية عرباً وعجماً، ليتم هذا مع فاتح القرن في نصرة الإسلام، وسحق اليهود والنصارى وحلفائهم المستسلمين لهم من المنافقين المرتدين، أعداء الله والإسلام.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]، قالوا: إن الآية نزلت من أجل اليهود، أي: هم السبب في نزولها، والقاعدة الأصولية تقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فنزلت من أجل هؤلاء إن صح، فهؤلاء اليهود قد تكبروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطمعوا فيما لا مطمع فيه، طمعوا أن يغلبوه ويخرجوه من المدينة، فألبوا عليه العرب حال كفرهم، فجاءت غطفان، وجاء بنو تميم، وجاءت قريش من أرض الحجاز، وجاء آخرون من أرض نجد ومن بقية الجزيرة العربية، فكانت غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق، وهم يظنون أنهم سيغلبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقضون على إسلامه، وأن النبي الآخر الذي يكون في آخر الزمان سيكون يهودياً؛ لأنهم لم يؤمنوا بعيسى المسيح، وهم ينتظرون الآن الدجال ويقولون عنه: هو المسيح المنتظر، وهذا من فساد عقائدهم، وغضب الله عليهم، ولعنته الشاملة لهم منذ كانوا وإلى يوم القيامة.
فعندما بدلوا وغيروا وأذنبوا وحاربوا الأنبياء وقتلوهم وقاتلوهم قال الله عنهم: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ} [غافر:56]، والمراد بالصدر: القلب، أي: إن في قلوبهم وضمائرهم {إِلَّا كِبْرٌ} [غافر:56]، أي: تكبر وتعاظم، بأنهم سينتصرون على الإسلام، ويقضون على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.(291/13)
تفسير سورة غافر [56 - 59]
لقد ذم الله تعالى الذين يجادلون في الله تعالى بغير علم؛ ليدحضوا الحق، ويحقوا الباطل، فكثير من هؤلاء في نفوسهم كبر عن الخضوع للحق والانقياد له، ولن ينالوا ما في نفوسهم ولو فعلوا ما فعلوا، ولا يستوي من كان بصيراً بدينه وبحقائق الحياة ومن هو أعمى يتخبط في دياجير الظلمة والشك والاضطراب.(292/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله)
قال الله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56].
يوبخ ربنا جل جلاله ويذم من يجادل في كتاب الله، وفي معجزات الأنبياء، وفي قدرة الله وانفراده بالوحدانية، يجادل بالباطل ليبطل الحق ويحق الباطل بغير علم ولا فهم ولا إدراك ولا سلطان ولا دليل ولا برهان، وإنما يفتحون أفواههم زعماً منهم أنهم يفهمون الكلام والدليل والبرهان، وما هم إلا يهلكون فيما لا يعرفون، فكأن الله يقول: هؤلاء عندما يفعلون ذلك يقصدون شيئاً آخر: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56] أي: ما في صدورهم إلا كبر واستعلاء وتعاظم على الحق، وقيل: إن هذه الآية نزلت لأجل اليهود الذين كانوا يمنون أنفسهم بالغلبة على الإسلام وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم، متمنين أن يكون آخر الأنبياء هو من بني إسرائيل، وكان ذلك منهم مجرد توهم وظن.
فعندما جاء نبي الله من غير بني إسرائيل تعاظموا وتكبروا واستعلوا على الحق، وهم في ذلك يجادلون بالباطل، وكذلك كانوا منذ هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، فقد أخذوا يتواردون عليه صباحاً ومساء يحاولون جداله وحواره بالباطل الذي لا دليل عليه.
وقد قررنا أن هذه السورة مكية إلا بضع آيات، فإن صح هذا السبب في النزول فتكون هذه الآية نزلت في المدينة المنورة؛ لأجل هؤلاء، على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فهذه الآية كانت بسبب اليهود، ولكنها بعد ذلك عمت كل متكبر عن الحق، مستعل عليه، متمن للقضاء على الحق وظهور الباطل ونصرته، فالآية تعمه وتشمله، ويدخل في ويلاتها وعذابها.
والمعنى: أن كل من يجادل في شيء ويخاصم في الحق بلا علم ولا فهم ولا إدراك يكون متعالياً على الحق، ويكون غير مقبول القول والكلام، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]، فالخبر عن الأولين واللاحقين، فما عملهم ذلك إلا لكبر في صدورهم، والصدر: موضع القلب، فكأن المعنى: ما ذلك إلا بسبب ما في قلوبهم وضمائرهم من تعال على الحق.
ولكن هذه الأماني التي في أنفسهم وفي قلوبهم ما هم ببالغيها أبداً، وهكذا كان، فما كاد النبي صلى الله عليه وسلم يرتفع إلى الرفيق الأعلى حتى كان اليهود مطرودين مقتولين مشردين، وحتى أوصى بالبقية الباقية منهم خلفاءه من بعده، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو على فراش الموت: (ألا فأخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب).
وقوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [غافر:56] أي: فاستعذ بالله من هؤلاء، ومن مثل أعمالهم وأشكالهم وأضرابهم، هؤلاء الذين يحاولون القتال والجدال، وأن يظهروا الباطل ليدحضوا به الحق، ويحقوا الباطل كذباً وزوراً وجهلاً ووثنية، فاستعذ بالله منهم ومن عقائدهم، ومن أمثالهم.
وقوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56] أي: هو الذي يسمعكم ويسمع تحاوركم، ويسمع المحق منكم من المبطل، وهو البصير جل جلاله، والناظر للصادق منكم والكاذب، وفي هذا تهديد ووعيد لكل من يحاول أن يبتعد عن الحق بالكلام الباطل، والدليل المزيف، والقول بلا دليل ولا برهان.(292/2)
تفسير قوله تعالى: (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس)
ثم قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57].
يقول ربنا للمنكرين للبعث: أنتم تعلمون وتشهدون وتعترفون وترون بالأعين وتسمعون بالأصوات أن السموات والأرض خالقها الله وبانيها، فهل هذا الذي قدر على خلق السموات والأرض عجز عن أن يخلق إنساناً ويكونه مرة ثانية وقد أوجده من قبل من العدم؟! كما قال تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79].
فالذي خلق السموات والأرض أكبر جرماً وأكثر امتداداً، يعجز عن خلق هذا الإنسان الضعيف الخلقة مرة أخرى؟ وهذا كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33].
أي: ألم ير هؤلاء المشركون المنكرون للبعث وللحياة بعد الموت، وللذهاب للآخرة، كيف خلق السموات والأرض في ستة أيام، ولم يجد صعوبة ولم يعي بخلقها، خلافاً للنصارى والوثنيين المشركين عبدت الصليب؛ لأنه خلقها في ستة أيام ثم تعب فاستراح، وصعد على العرش حاشا الله! ومعاذ الله! وسبحان الله! بل لم يعيى في خلقهم سبحانه وهو القائل: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، فلم يتعب عليها ولا يسلكه ذلك، وإنما {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:47].
فخلق السموات والأرض على كبرهما وعظمة أجرامهما، ولم يكلفه ذلك أكبر من أن تمسكا.
وقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، أي: أعظم في صدورهم، وإلا فالكل على الله هين، فهو يخلق القليل والكثير، هو الذي خلق السموات وخلق الذبابة والناموسة، والبشر والخلق كلهم يعجزون أن يخلقوا ذبابة على حقارتها وضآلتها.
وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57] أي: ولكن أكثر الناس لا يعلمون توحيداً ولا حقيقة ولا قدرة ولا إيماناً، وهذا كقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وكقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14].
ولم ينجو من عذاب الله، ولم يكرم بالتوحيد وبالإيمان إلا قليل من السابقين والآخرين، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57].(292/3)
تفسير قوله تعالى: (وما يستوي الأعمى والبصير)
ثم قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58].
يضرب الله الأمثال للجن والإنس ليفهموا المعاني ويعوها، فهل يستوي أعمى وبصير؟ هيهات هيهات أن يستوي بصير ينظر ويرى النور والضياء والخلق والناس مع الأعمى الذي لا يرى قريباً ولا بعيداً، ثم ضرب الله مثلاً آخر: وهو هل يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات مع الذين كفروا وفعلوا المنكرات؟ هيهات أن يستويان، فذاك مؤمن موحد من أهل الرضا والإيمان، والآخر من أهل الغضب والسخط الإلهي من الخالدين في جهنم والنيران.
وقوله: {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58] أي: تتذكرون قليلاً، أو لا تتذكرون وتعلمون وتعون وتدركون إلا قليلاً، أي: قليلاً من الناس المتذكرون، وقليلاً في أنفسكم الذكرى، حتى المؤمن تجده يغفل ويسهو أكثر أوقاته وأزمانه، فإذا هو تذكر ففي القليل من الزمن.
فتجد الناس القليل منهم من يتذكر ويقول: من خلق هذا العالم؟ من الذي خلق الحياة والممات؟ من الذي دبر الكون؟ التفكير في هذا عبادة، ومن فكر كذلك فلا يكاد يصل إلا إلى الحقيقة، وهذه الحقيقة هي أن الله الخالق الرزاق المحيي المميت جل جلاله وعز مقامه.(292/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الساعة لآتية لا ريب فيها)
قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [غافر:59].
يشيب هؤلاء المجرمون من بعد ما تعاظموا، ثم يكون أحدهم جيفة وجثة هامدة، ثم يعود تراباً كما كان، ثم تتجمع بعد ذلك خلايا بدنه وعظامه وعصبه ولحمه فيستوي إنساناً سوياً كما كان في دار الدنيا، وشك المجرمون في هذا، وشكهم جاء من نقص عقولهم وضعفها، ومن جهلهم وعدم علمهم، فعندما قالوا ما حكاه الله عنهم: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] رد عليهم بقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79].
وكل ذي بصيرة قبل أن يكون ذا بصر يعلم أننا موجودون ولم نكن قبل، لنقل: لم نكن قبل خمسين أو سبعين أو مائة سنة، فأين كنا؟ وأين من كان على الأرض؟ وأين أولئك الآلاف بل الملايين الذين كانوا يدخلون البيت الحرام صباحاً ومساء، وفي مواسم الحج؟ جاءوا وذهبوا، وجئنا نحن ولم نتأمل من الذي أتى بنا؟ ومن الذي خلقنا ومم خلقنا؟ إن قلت: خلقنا من تراب فهو خالق التراب، وإن قلت: من نطفة فهو خالق النطفة.
فالله خلقنا ولمن نكن نعد شيئاً في الوجود، ثم بعد ذلك أماتنا، وهو الذي يحيينا بعد موتنا وهو أقدر على عودتنا للحياة وأهون عليه، فالذي أوجدنا من عدم وهو الله سيعيدنا بعد أن كنا إلى ما كنا عليه.
فيحيينا ربنا على الحالة التي نموت عليها، ثم من دخل الجنة فإنه يدخلها ابن ثلاثة وثلاثين عاماً، على طول أبيهم آدم، وعلى جمال يوسف، فتلك أطوار ومراتب في الخلق، فالله وحده هو القادر عليها لا يقدر عليها أحد سواه.
وقوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} [غافر:59] هذه اللام للتأكيد، يؤتى بها بعد دخول (إن) على الاسم ليؤكد بها ثبوت الخبر بالنسبة للاسم، فـ (إن) التي تطلب الاسم لتنصبه والخبر لترفعه فيها معنى التأكيد، واللام إذا دخلت على الخبر يكون تأكيداً بعد تأكيد، فالساعة ستأتي يوماً ولا بد منها، وإن الصبح لناظره قريب، ففي الآية تأكيد بعد تأكيد، ويقين بعد يقين، فهي آتية لا شك فيها ولا ريب.
ولذلك من العقائد الأساسية في جميع الأديان: الإيمان بالبعث وبالحياة الثانية، وهو جزء من أصول الإيمان، فمن أنكره يعتبر كافراً لا تبقى له صلاة ولا إيمان، ومن هنا كان حديث جبريل عندما دخل على النبي عليه الصلاة والسلام في صورة إنسان جميل الشكل عطر الحالة، شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، وأخذ يسأل ما الإيمان؟ فكان الجواب النبوي: (أن تؤمن بالله، وبالقدر خيره وشره، وأن تؤمن باليوم الآخر) أي: بالحياة بعد الموت.
والقرآن مبني كله على هذه العقائد، وما الأحكام إلا أشياء جاءت بعد، وهانحن نرى أن جميع السور المكية تخلو من الأحكام، وإنما هي في قصص الأنبياء، وفي الكلام عن التوحيد، وفي حال الأمم الكافرة المشركة المكذبة، وما آل إليها أمرها، وفيها كذلك إظهار بديع خلق الله وقدرته، كخلقه للسماوات والأرض وما فيهن وما بينهن: من خلق الإنسان ذي الجرم الصغير، الذي حوى العالم الكبير ببصيرته، وبإدراكه للأمر والنهي، فخلقه الله وسواه وصوره فأحسن تصويره، فسبحان من هو على كل شيء قدير.
وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [غافر:59] أي: لا يؤمنون بالساعة ولا بيوم القيامة.
والنصارى يزعمون أنهم على دين، وقد كان ذلك قبل ظهور نبينا عليه الصلاة والسلام، وبعد ظهوره كانت خيانتهم، فأيديهم حرفت وبدلت وعبثت بالإنجيل، وانتقل الانتساب للنصرانية إلى انتساب للوثنية والشرك، ويذكرون أن عيسى رباً، وأن مريم كذلك، وصاحبة أيضاً، أو أنهم جميعاً أبناء الله، تعالى الله وتنزه سبحانه عن كل ذلك.
ثم جاء الإسلام ونسخ النصرانية لو كانت صحيحة، فكيف وقد غيرت وبدلت ونسخت؟! فهؤلاء كانوا يعتقدون من التغيير الذي غيروه أن الحياة الثانية تكون في الأرواح فقط، وأن ما ذكر في الكتب السماوية من نعيم وعذاب إنما هو أشياء روحية ونفسية لا تتعلق بالذوات, وذاك كفر وشرك، ومن اعتقد ذلك ودعا إليه من المسلمين فليس له من الإسلام إلا الاسم، والفرق الداعية لذلك من الفرق التي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها كلها في النار، والتي في الجنة ليست إلا التي عاشت واعتقدت واهتدت بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما سوى ذلك فكلهم كفرة كذبة على الله، مؤولون ومتلاعبون بكتاب ربهم وسنة نبيهم.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [غافر:59] أي: أكثر الناس على الشرك والكفر.
هذا نوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعوهم إلى لا إله إلا الله، فأنكروها عليه، ولم يكلفهم بأكثر من ذلك، ومع ذلك أخبره الله تعالى بعد هذه القرون الطويلة أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وما آمن معه إلا قليل، المقل من المفسرين قال: اثنا عشر، والمكثر قال: سبعون شخصاً، فهذه المجموعات أنقذها الله من آلاف الخلق الذين عاقبهم الله بالطوفان وأغرقهم، فلم يبق صغيرهم ولا كبيرهم، ولم يترك إنسهم ولا جنهم، ولا إنسانهم ولا حيوانهم، إلا ما ركب السفينة أو أمر نوح بإركابه.(292/5)
تفسير سورة غافر [60 - 65]
لقد حثنا الله تعالى على دعائه ووعدنا بالاستجابة، ثم توعد الذين يستكبرون عن دعائه وعبادته بدخول النار وبئس المصير، ثم عدّد الله تعالى نعمه على عباده، فهو الذي جعل الليل سكناً، وجعل النهار مبصراً، فالليل لباس والنهار معاش، وهو أيضاً الذي جعل الأرض لنا قراراً، وصورنا فأحسن صورنا، ورزقنا من الطيبات، فإذا كان الأمر كذلك فهو المستحق للعبادة وحده سبحانه.(293/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)
قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
يقول الله لعبده ونبيه: قل يا محمد للجن والإنس ومن أرسلت إليه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، (ادعوني) أي: اعبدوني بندائي في الدعاء يا الله، واطلبوني في كل ما تريدون.
والله جل جلاله انفرد بأنه الذي يحب أن يدعى ويطلب منه، فحتى ملح طعامك إذا لم تجده فادع الله، وحتى شسع نعلك إذا انقطع فادع الله، والناس عادة يملون من كثرة السؤال، لكن الله جل جلاله يحب العبد السائل الداعي، يحبه عندما يدعو ويضرع قائلاً: يا رب! لا باب إلا بابك، ولا رب لي إلا أنت، ولا معطي ولا مانع إلا أنت، ولا هادي إلا أنت، فإذا طردتني فأي باب أطرق؟ ومن أدعو وأطلب؟ وكما في الحديث القدسي: (عليكم الدعاء وعلي الإجابة)، أوجب الله ذلك على نفسه بعد أن أوجب الدعاء علينا، وفي حديث نبوي آخر: (الدعاء هو العبادة)، وهو في صحيح ابن حبان، وصحيح الحاكم، وفي السنن الأربع لـ أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وهو في الكثير من أمهات السنة المطهرة.
وكذلك في الحديث الآخر الذي في الصحاح والسنن: (من لم يدع الله يغضب عليه)، فالدعاء هو جزء من أجزاء العبادة، وشعبة من شعبها؛ لأن معنى قول الداعي: أعطني يا الله، أي: أنك أكدت واعتقدت على أنه لا قادر على العطاء والمنع إلا هو.
فمجرد هذا الاعتقاد في نفسك عبادة، فإذا أنت نصبت به وأعلنته تكون عالماً بخالقك وبعقيدتك، ولذلك أيضاً في الصحيح وفي السنن: (من لم يسأل الله يغضب عليه)، ولا يدخل هذا المدخل -أي: نزل سؤال الله- إلا مخذول، يدعوك الله للدعاء ليستجيب لك دعاءك، ومع ذلك تتأخر عنه وهو القادر على كل شيء.
ومما يدل على أن الدعاء عبادة قوله تعالى هنا: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60]، أي: عن دعائي وسؤالي ورجائي.
لذلك قال الله في أول الآية: ((ادْعُونِي)) وفي آخرها: ((عبادتي)) وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] أي: يتعاظمون عن ربهم، عن عبادته، وعن اتباع أنبيائه، فهؤلاء يشركون بالله؛ لأنهم لا يعبدون الله، وقد جعلوا له شركاء عبدوهم معه، أوثاناً وأصناماً وأوهاماً ما أنزل الله بها من سلطان، المتكبرون المتعاظمون عن دعوات الرسل، جزاؤهم ما قال الله في آخر الآية: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، أي: أذلاء صاغرين، فسيدخلون جهنم بشركهم وكفرهم وبعدهم عن الله، ولتعاظمهم عن أمر الله وطاعة رسله.
إذاً: فمن تكبروا عن دعاء ربهم يهددهم الله ويتوعدهم وينذرهم بأنهم سيدخلون جهنم أذلاء صاغرين، أحبوا أم كرهوا.
ولذلك الدعاء له مقام كبير في الإسلام، فالدعاء نفسه عبادة من عبادات الله، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كانت له أذكار ودعوات صباحية ومسائية ونهارية، وعند النوم وعند الصحو، وعند الخروج من الدار وعند الدخول إليها، وعند السفر وفي الحضر، ودخول المساجد والخروج منها، وفي جميع الأحوال، وقد اعتنى بذلك العلماء من سلفنا الصالح، فكتبوا من الأوراد والأذكار التي التزمها النبي عليه الصلاة والسلام، والتي علمها أتباعه المؤمنين، أوسع وأكثر هذه المراجع الأذكار للنووي، وقد شرح في عدة مجلدات، وأقربها للمعنى أذكار ابن القيم، وأذكار الشوكاني، وأذكار السيوطي، وهذه الكتب على اتصالها بالموضوع تتحدث عن صحتها وعن ضعفها، وعن أسباب ورودها في الكثير من الأحيان.
فينبغي للمؤمن أن يلتزم بذلك؛ ليكون في حصن حصين؛ لأن الذكر والدعاء من الله يتحصن به الإنسان من شر ذوي الشر من الجن والإنس.(293/2)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه)
ثم قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:61].
فالله جل جلاله هو الذي أكرم خلقه وعباده بأن جعل لهم الليل للهدوء والراحة والاستقرار من تعب النهار، من خدمة الزوجة والولد والمجتمع، والعمل بما يكرم به وجهه عن الحاجة إلى الناس، فلا يكاد يأتي المساء إلا وقد وجد جهداً وتعباً وإعياء، فجعل الله الليل كله للخلق كلهم سكناً للراحة، فقال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [غافر:61] أي: لنسكن فيه ونستريح، ولتسكن أعضاؤنا وتستريح نفوسنا، وليهدأ عقلنا من كثرة التفكير والدوران، ومعلوم أن الإحساس الذي تحس به النفس فيه مشقة وتعب، وأما عند النوم فلا تحس بشيء.
فينام الإنسان وهو كليل متعب مجهد، فإذا نام من غير تعب ومن غير رؤى مزعجة ومن غير فكر ومن غير سهر وضياع وقت فإنه يصبح الصباح وهو على غاية ما يكون من راحة بدنية واستقرار نفسي، وإن شغله مرض أو أو شاغل أياً كان فإنه يصبح ذلك اليوم مريضاً أو كالمريض.
فالحاصل: أن الله جعل الليل للسكون والراحة، ومن هنا كره صلى الله عليه وسلم العمل والسهر بعد العشاء، وكره النوم قبله.
وللنوم مبكراً فوائد منها: أن يصحو الإنسان قبل الأذان بساعة أو أكثر، فيتهجد لله ركعات، وتعد من أخلص الركعات، وأنواع العبادات للإنسان في ذلك الوقت أخبرنا عنها نبينا عليه الصلاة والسلام، فعند أن ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فإنه يقول: (هل من داعي فاستجيب له؟ هل من شاكٍ فاستجيب له؟ هل من جائع فأشبعه؟ هل من عار فأكسوه؟ هل من مظلوم فأنصره؟)، إلى آخر ما ورد، والحديث صحيح متواتر، ولـ ابن تيمية فيه كتاب مفيد في مخارجه ومعانيه، ومفيد في تقصي ما ورد فيه من ألفاظ ومعاني.
وقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [غافر:61] أي: مضيئاً، وأضاء النهار لنرى أعمالنا وأشغالنا ونتفرغ لها، فلا نوم في النهار ولا صحو في الليل، إلا ما كان من القيلولة التي لا تتجاوز دقائق امتثالاً لحديث: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل).
والله هو الذي جعل النهار مبصراً مضيئاً منيراً للعمل، وجعل الليل للراحة، وجعله مظلماً ليستريح الإنسان وينام، وعم بذلك الخلق.
وأما النهار فجعله الله مضيئاً منيراً لعمل الناس، ولخدمة العيال والقيام عليهم، وهو في حد ذاته عبادة، حتى لا تحوجهم الحاجة إلى السؤال، وطلب ما في أيدي الناس من أوساخ، ومما لا يليق بأن يكون ذلك لإنسان قادر على العمل ولم يعمل، وفي قصة سعد بن أبي وقاص لما مرض في مكة وظن أنه سيموت ولم تكن له إلا بنت واحدة، فأراد أن يخرج عن أكثر ماله، فمنعه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (إن كان ولا بد فالثلث والثلث كثير)، ومع ذلك أخبره بأنه لن يموت من هذا المرض، ولم يمت، بل عاش إلى أن أصبح له أولاد وبنات.
فعندما قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تترك أولادك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس)، كان يتصور هذه الكلمة وهو لا أولاد له إلا بنتاً واحدة لعلها ستتزوج وينفق عليها زوجها، ولكن هذه كانت بشرى له من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لن يموت في هذا المرض، ولن يموت حتى يكون له أولاد، فيترك لهم إرثاً خلفاً يستغنون به عما في أيدي الناس.(293/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الله لذو فضل على الناس)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:61].
أي: إن الله جل جلاله ذو فضل على الناس بأن خلقهم ورزقهم وأراحهم، ونظم أوقاتهم: الليل للراحة والنهار للعمل، وهداهم واصطفاهم، وذاك من فضل الله.
وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:61].
أي: هم مع غير العالمين، ومع المشركين المرتدين، مع المنحرفين الضالين، ولكن الخير دائماً قليل كالملح في الطعام، وإنما وظيفة الرسل وخلفائهم من العلماء أن يبلغوا دين الله كتاباً وسنة، وما عدا ذلك فلا يكلفون به، ولكن على الحاكم أن يجبرهم على الحق بحد السيف، وذلك بإقامة الحدود، وبنشر الأمان والعدل، ومن حدثته نفسه بالإخلال الأمني وبالفساد في الأرض فإنه يفعل به ما أمر الله به ورسوله، فمن قتل وقطع وصلب، فجلد فنفيهم من الأرض، كل على حسب جريمته وذنبه ومصيبته.(293/4)
تفسير قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم خالق كل شيء)
ثم قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [غافر:62].
قوله: (ذلكم) الإشارة بـ (ذا)، و (كم) إذا أضيف لاسم الإشارة يكون المضاف إليه حسب المخاطبين، ففي المفرد يكون مفرداً، وفي الأنثى أنثى، وإن مثنى فمثنى، وإن كان لجماعة الذكور فمذكراً، أو للإناث فمؤنثاً.
فهنا يقول الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ} [غافر:62] أي يقول الله لخلقه وعباده ذكور وإناث: ذلكم الذي قدر البعثة وقدر الحياة الثانية، وخلق الجنة والنار، وعرض الخلق عليه يوم القيامة إما إلى جنة وإما إلى نار، وذاك الذي جعل الليل سكناً والنهار معاشاً: هو الله الذي خلق الإنسان من عدم، ثم أماته ثم أحياه بعد ذلك.
ثم مضى الله في الآية من هذه السورة الشريفة المكرمة، وكل فاعل ذلك هو الله الذي لا إله إلا هو، فلا ثاني له ولا شريك لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وقوله تعالى: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام:95] أي: أنى تصرفون عن الحق وهو بين واضح، تراه عينك وتدركه بصيرتك وتسمعه أذنك؟ ومع ذلك ذكركم الله ونبهكم، وأرسل لكم رسلاً مبشرين ومنذرين؛ ليعينكم على عبادته وطاعته، ومع كل هذا فكيف تركتم ذلك وأشركتم بالله؟ وكيف تركتم الاستدلال بدليل العقل والوعي والفهم؟ وأنى صرفتم عن التوحيد للشرك، وعن الحق للباطل؟(293/5)
تفسير قوله تعالى: (كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون)
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [غافر:63].
أي: كذلك يؤفك من الأمم السابقة الكفار الذين تمردوا على أنبيائهم، وكذلك حصل لهم أن صرفوا عن الحق، وكفروا بآيات الله وبقدرته، وبكتبه وبمعجزات أنبيائهم، وكذلك صرفوا عن الحق إجمالاً وأوقفوا عنه.
كما عمت الآية الحاضرين، أي: التي نزلت الآية بسببهم من عرب الجزيرة ونحوهم، وكذلك عمت كل من خرج من الناس عرباً وعجماً عن الحق، وكفر بآيات الله، وبكتبه ورسله، وبالعقل والدليل والبرهان، الذين صرفوا عن الحق وابتعدوا عنه، وأغرقوا في الضلالة والشرك والوثنية.(293/6)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الأرض قراراً)
ثم قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64].
عاد الله جل جلاله فأظهر لنا وبين لنا ولفت أنظارنا ونبه عقولنا إلى أشياء صنعها رحمة بنا ومن أجلنا، فقد نكون غفلنا عنها أو لم نفكر فيها؛ لنعود إلى ربنا، ليعود الكافر للإيمان، والغافل من المؤمنين لتزول غفلته، ويعود ليقينه وقوة إيمانه.
وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا} [غافر:64] أي: الله جل جلاله هو الذي خلق لنا الأرض وجعلها قراراً، أي: في قرار وموضع اطمئنان وإقامة، ولو جعلها جبالاً لا يصعد إليها، أو بحاراً كلها، أو أرضاً صحراء لا نبت فيها ولا رعي، ولا ما يعود بالحياة على الإنسان والدابة، فكيف نعيش؟! وإنما خلق الله بعض ذلك، ومع ذلك فقد خلق الله من يعيشون في ذلك على غاية ما يكونون من الضنك والآلام والأوجاع، ولسنوات مضت فقد كانت هذه البلاد المقدسة صحاري أو قريباً منها، وكان البدوي أو الأعرابي الساكن في الصحراء يبحث عن التمرة والتمرتين الأيام فلا يجدها، ويبحث عن شربة ماء ليملئ فيها قلته ويبلل فيها حلقه فلا يجدها، فيضطر للبحث عن ذلك الأيام ذوات العدد، وقد يكون راجلاً أو على جمل، وقد يكون على دابة ضعيفة، ثم قد يجد وقد لا يجد، فيهلك عطشاً وجوعاً.
والكثيرون ممن يسكنون جبالاً هي عشرات الآلاف ارتفاعاً إلى السماء كجبال الهملايا مثلاً، وهي مشهورة، أو جبال أطلس في المغرب، أو كشيء من جبال الدنيا العالية علواً كبيراً جداً، فإنهم لا يستطيعون المقام فيها بسهولة، ولا يكادون يستطيعون النفَس أو أخذ هواء يريح عصبهم وحياتهم، فهؤلاء يعيشون في غاية من الضنك، بحثاً عن شربة ماء، وعن لقمة من الطعام، ولكن هذا نوع من هذه الأرض وليس القاعدة، وإنما القاعدة: أن الله جعل الأرض قراراً يستطيع الإنسان فيها القيام والقعود، ويستطيع فيها التمدد والبناء، أي: بناء المدن والقرى والمتاجر، وشق الشوارع الرابطة بين المدن، فمن فعل وخلق ذلك؟ هو الله جل جلاله.
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [غافر:64] فجعل السماء قبة تستر ما في الأرض مما فوقنا من خلقه سبحانه، ولو بقينا بدونها فكم نائم تحت الثلج؟ وكم نائم تحت الصواعق وتحت الزعازع والرياح الهوجاء؟ فكيف يكون نومه؟ وكيف ستكون راحته؟ ولكن الله تعالى جعل لنا هذه السماء كمظلة القبة على من تحتها، ويستريح من تحتها من الهوام والحشرات ونحوها من الخلق في الأرض.
وما معنى السماء؟ الناس كلهم تحت السماء، ولكن هذه السماء قد يزول عنها هذا المعنى، فتأتيك بعض الأيام لظروف ما تكون فيها الزعازع والعواصف التي تمنع الطائرات أن تهبط أو أن تطير لمدة ساعات، ولو بقي ذلك باستمرار فلا طائرة تطير، ولا مسافر يسافر، وحتى السيارات تغلبها هذه العواصف، فقد تطير بها وقد تصدمها مع بعضها، وقد تضربها في جبل أو نحوه، ولكن الله جل جلاله تكرم علينا وتمنن لنذكره ولنعبده، ولنشكره على آلائه، فقال لنا سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [غافر:64] أي: جعل هذا البناء سقفاً محفوظاً كما سماه النبي عليه الصلاة والسلام، وكما ورد أولاً في القرآن الكريم، وهو كالقبة خلقه الله على هذه الطريقة حفاظاً علينا ما دمنا أحياء.(293/7)
إحسان الله تصوير الإنسان
وقوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر:64].
فهذه الصور الجميلة للإنسان هي أجمل من صور كل المخلوقات، ولو خلقنا الله على أشكال القردة فماذا كنا نستطيع أن نعمل؟ ولم يستشر ربنا سبحانه في خلقنا أحداً، ولكن خلقنا فأحسن خلقتنا، فضلاً منه وكرماً، وكل الدواب تأكل بفيها وأما نحن فخلق لنا يداً نغسلها وننظفها ثم نأكل الطعام، ونرفع بها اللقمة التي نستطيع مضغها، ثم نستطيع بها أن ننظف أجسامنا، ونغتسل ونزيل الوساخة والعرق بها.
وأما الدواب فبماذا تتطهر؟ إنها بألسنتها تسمح أدبارها وأقدامها، وتلد القطة أو الكلب أو غيرهما من الحيوانات وتنظف وليدها من دمه ووساخته بلسانها.
وأما نحن فالله خلقنا وجمل صورنا، وركبنا في أحسن تركيب، وجعلنا على أحسن حال دون جميع خلقه، فمن يشبهنا؟ ونحن عندما نشبه المحبوب نقول: غزال، والغزال حيوان له قرون، وله أربع أرجل يمشي عليها، ولكن الأصل العكس، أي: أن نمدح الغزال بأنه على خلق المرأة، ومن الناس من إذا أراد أن يمدح إنساناً أو امرأة يقول: قمر، وما القمر بجوار الإنسان؟ ونحن إن وصفنا الإنسان بأنه فيه جمال التراب أو الجبال لكان هذا ذماً؛ لأنه قلد المتأخرون المتقدمين في المدح والذم، فقالوا: غزال، مدحاً للمرأة، وتمدحوا أيضاً فقالوا: فلانة كبقر الوحش، وما معنى هذا الكلام؟ معناه: أن البقر لها أعين كبيرة، وهذه البقرة قليلة في الجزيرة، وتوجد في بعض دول الخليج، فتشبه المرأة بها لأجل سعة العيون، فشبهوا المرأة التي خلقها الله في أحسن تقويم وصورة بالبقر، وهل هناك مذمة أو شتيمة أكثر من أن نقول لإنسان: أنت كالبقرة، أو كالحيوان، ولكن هكذا طلبوا أن يقولوا، وأجمل شيء أن يقال ما قاله ربنا: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر:64]، فأحْسن صورنا في أيدينا وفي عيوننا وفي أفواهنا، وأحسن صورنا بالجمال الذي هو أجمل من كل جميل في الأرض.
وقد يقال عن بعض الناس: هذا أبيض، أو أسمر، أو أكثر شعراً، لكن جميعنا خلقنا الله وصورنا فأحسن صورنا، ولو خلق الله جل جلاله لنا عيوناً في جباهنا، وخلقنا بيد واحدة -وهو قادر على كل شيء- فكيف الحال حينئذٍ؟ وطالما هددنا الله وأنذرنا في القرآن في آيات كثيرة بأنه قادر على أن يخلق خيراً منا وينهينا، فمن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].
وهذا المعنى بنى عليه أنه قادر على أن يخلقنا خلقاً آخر على غير الخلق التي نحن عليها، ولذلك كان الأولون يمسخون، فيصبح إنساناً ثم يصير خنزيراً أو قرداً أو كلباً، ولكن الله كرم نبينا وأمته، فقد ألغى المسخ، فلا يمسخ الإنسان من صورة آدمية إلى صورة حيوانية، ولكن مسخ العقول قد أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام بأن من الخلق من صورته صورة بني آدم ولسانه من ألسنتهم، وعقله كعقول القردة والخنازير، وهذا نراه كثيراً، فيبيت معك رجل ذا طول وعرض وجمال وهيئة، إذا أخذ في الكلام ترى أن القرد أشرف منه، من عقله من رأيه، كما نرى الآن في كثير من الخطب التي تلقي التعلق باليهود، والتذلل لهم، وشتم للموحدين المؤمنين، وسب لعباد الله الصالحين، فماذا ترى في هذا؟ القرد أشرف منه وكذا الخنزير، وهذا كثير في الأرض.(293/8)
نعمة الرزق الطيب للعباد
وقوله تعالى: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [غافر:64].
نرى الكثير من الدواب تعيش على النجاسات والجيف، وعلى ما لا يستطيع الإنسان أن يأكله أو يمسه، فقد يموت جوعاً ولا يمسه، ولكن نحن خلق الله لنا الطيبات، خلق لنا أنواع الطيور والدواب والمواشي: من الماعز والغنم والبقر والجمال، ومن غيرها من ذوات الأربع.
وأباح لنا من الطيور جميعها إلا تلك المفترسة، وخلق لنا الفواكه والحبوب والخضروات، وهي طيبة طاهرة، وعلمنا كيف ننضجها ونطبخها، وندخل عليها بهارات زيادة في لذتها وطيبها، وخلق لنا هذا الحب، وألهمنا إلى طيبه، وإلى طحنه وغربلته، وإلى خبزه إن كان خبزاً أو حلوى، ونحو ذلك.
فهذه الطيبات التي يتبارى المخلوقون الأحياء عليها من الذي طيبها؟ ومن الذي خلقها؟ كان الحجاج بن يوسف لا يأكل طعاماً وحده على ظلمه وجوره، بل خرج للبادية يوماً لعمل من أعماله ووجد نفسه وحده، والحرس يحرسونه من بعيد، ولما جاء وقت الغداء أراد أن يأكلوا معه، فاعتاد ألا يأكل وحده، فأطلق عسكره وجنده فجاءوا ببدوي جلس على المائدة، وأمره بغسل يده، وقال له: من أنا؟ قال: ومن أنت؟ خلق من هذا الخلق، قال: كل، ثم قال له: هل هذا الطعام طيب؟ قال: طيبته العافية، والعافية ليست منك ولا من عملك ولكنها من الله.
قال: ما رأيك بأميركم الحجاج؟ قال: ظالم غشوم، قال: ما رأيك في عبد الملك بن مروان -وكان هو الخليفة- قال: أظلم منه وأغشم منه، أراح الله البلاد والعباد منهما، قال: أتدري من أنا؟ قال: لا قال: أنا الحجاج، قال الأعرابي: أتدري من أنا؟ قال: لا، قال: أنا إنسان مصاب بالجنون مرة في اليوم، وهذا أوان الجنون، فضحك الحجاج وأكرمه وأهاداه وترك سبيله.
فالطعام طيب، ولكن الحقيقة أن الذي طيبه هي العافية، فعندما نكون في عافية فيوضع لنا طعام غير طيب ولا لذيذ فإننا نأكله في لذة وطيب، ولا حاجة أن يوضع لنا من الأطعمة ما نشتهيها عادة، وهي من ألذ ما تكون، وعند المرضى تقول: ما هذا الطعام؟ من الذي أنضجه؟ ما الذي صنعتم فيه؟ لا شيء فيه، ولكن صحة الآكل كانت متعبة، فلم يستطيع إنزاله، ولذلك المريض لا يجد شهوة، وإذا وجدها فمعناه أنه عوفي.
{وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [غافر:64] هي طيبات في نفسها، وطيبها جل جلاله بالعافية، ومن الذي أكرمنا بها مدة حياتنا؟ ثم من الذي أكرمنا بالطعام الطيب الذي هو ليس نجس ولا جيفة ولا مما تستكرهه النفوس؟ هو الله جل جلاله، ولذا قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [غافر:64].
أي: الذي صنع كل هذا، فجعل الأرض مستقراً ومقاماً، وجعل السماء قبة محفوظة وبناء، وصورنا فأحسن صورنا، ورزقنا من الطيبات مع العافية على أكلها، فاعل ذلك كله هو الخالق المدبر الرازق جل جلاله.
وقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64].
أي: تنزه وتعاظم وتقدس جل جلاله، فالذي صنع ذلك ليس ربكم فقط، ولكنه رب العالمين: عوالم السموات والأرض والملائكة والجن والأنس، عوالم من غاب ومن حضر، وهو رب الكل وخالقه، لا كما يزعم اليهود -عليهم لعائن الله- عندما يتكلمون عن ربهم فإنهم يقولون: رب بني إسرائيل، رب إسرائيل، وكأن ربهم إسرائيلي من الإسرائيليين وليس هو الرب المعبود رب السموات والأرض!! وأما الرب الذي يؤمن به المؤمنون فهو ربنا ورب حبيبنا وعدونا، ورب العوالم كلها منذ كانت، فهو خالقها ومدبرها جل جلاله، فتبارك الله وتنزه وتعاظم وتقدس رب العالمين، وليس ربنا فقط، وإنما كانت النسبة إلينا تشريف منه لنا سبحانه، فقال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [غافر:64] أي: المطعم الرازق لكم، الذي هداكم للإيمان ولاتباع محمد خاتم الأنبياء عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.(293/9)
تفسير قوله تعالى: (هو الحي لا إله إلا هو)
ثم قال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:65].
أي: هو الحي لا حي مع حياته، فهو الحي الدائم الحياة، وهو واجب الوجود جل جلاله، وأما حياتنا فحياة مستعارة طارئة لم تكن يوماً وكانت، وهي في حال كونها لا يزول عنها المدد الإلهي، ثم تعود إلى الفناء كما كانت، فحياتنا من إحياء الله وخلقه، وهو الحي المطلق، ولذلك الحي إذا دخلت عليها الألف واللام فتعني: الحي الدائم، أي: الحي القدير الأزلي بلا بداية، الدائم الباقي بلا نهاية، الحي أبداً وسرمداً، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، أما أصنام وشركاء أولئك فإن كانوا ملائكة فإلى الموت، وإن كانوا جناً أو بشراً فكذلك، وإن كانوا أوثاناً وأحجاراً فلا تضر ولا تنفع.(293/10)
تفسير سورة غافر [65 - 68]
لقد أمرنا الله تعالى بأن نعبده وحده لا شريك له، فهو الخالق الرازق المحيي المميت، وما بنا من نعمة فمن الله تعالى، فهو سبحانه وحده المستحق للعبادة والإخلاص فيها، وقد توعد الله تعالى المشركين والكفار الذين يعبدون غيره، أو يعبدونه ويعبدون غيره؛ بالسعير وبئس المصير.(294/1)
تفسير قوله تعالى: (هو الحي لا إله إلا هو)
قال الله جل جلاله: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:65].
يصف الله جل جلاله مقامه وذاته وعلاه بأنه الحي الدائم الذي لا يموت، والباقي الذي لا أول ولا آخر له، والظاهر والباطن، وهو على كل شيء قدير، وغيره ميت فانٍ، ولم يكن إلا بقدرة الله وبخلق الله، ثم كان فمات بأمر الله وبقدرته.
والله يقول للذين ينكرون البعث من الملحدين المشركين الكافرين بالله: هل من أحد من أصنامكم وأوثانكم حي دائم؟ فالله: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:65] أي: لا رب ولا معبود ولا خالق غيره.
{فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:65]، أي: فاعبدوه وقد أخلصتم له الدين دون شريك وصنم، ودون أن تعبدوا معه غيره، وإلا ففاعل ذلك وثني مشرك كافر.
وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:65] معنى ذلك: أن الله جل جلاله يعلمنا بأنه الواحد الأحد الحي الذي لا أول له ولا آخر، وإذا عبدتموه فاعبدوه وحده بإخلاص وصدق، بلا رياء ولا سمعة، وإن فعلتم ذلك -ويجب أن تفعلوه- فاحمدوا الله على أن وفقكم وهداكم لعبادته، وللإخلاص له.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: إذا قلت: لا إله إلا الله فقل بعدها: الحمد لله رب العالمين، ثم تلا هذه الآية: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:65] أي: وحدوا ربكم، واعبدوه مخلصين، واحمدوه على أن وفقكم للإيمان وللعبادة الخالصة له.
وكان عبد الله بن الزبير بن العوام إذا أنهى صلاته يختمها بقوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لله المجد، ولله الثناء، ولله العظمة، {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:65]، وكان عليه الصلاة والسلام يقول ذلك دبر الصلوات الخمس.(294/2)
تفسير قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله)
قال ربنا: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:66].
لقد دعا كفار قريش محمداً عليه الصلاة والسلام للبقاء على دينهم، ولعبادة أصنامهم، ولاتباع ما كانوا يعبدون من دون الله، فقال الله له: قل يا محمد {إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} [غافر:66] أي: قل لهم: إن الله قد نهاني ومنعني أن أعبد الذي تعبدون من دون الله من وثن وصنم؛ لما جاءتني الدلائل الواضحات والبراهين البينات التي تظهر وتبين لكل ذي عقل سليم لم تفسده الوثنية، ولم يفسده الشرك بالله، فهؤلاء الذين يشركون من دون الله ليس لهم دليل على هذه العبادة الباطلة.
فلا أعبد ما لا يعقل ولا يعي ولا يسمع، ولا يضر ولا ينفع، وإنما أعبد ربي وخالقي ورازقي والمحيي والمميت؛ ولأن ذلك قد جاء بدلائل بينات وببراهين واضحات لا ينكرها ذو عقل وبصيرة، فكيف أعبد ما لا يجوز عبادته، وما لا يضر ولا ينفع؟ {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:66] أي: أمرت أن أستسلم لرب العالمين، والمراد بالعالمين: عوالم الخلق: العوالم الماضية والحاضرة واللاحقة، ومنها: عوالم الملائكة والجن والإنس أجمعين، فالله خالق كل شيء، ومحييه ومميته، فكيف يعبد ما لا يحيي ولا يميت ولا يخلق؟ فهذا من باطل دينكم وباطل ما ورثتموه عن آبائكم بلا دليل ولا برهان.(294/3)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر:67].
يذكر ربنا جل جلاله الأطوار التي يمر بها الإنسان، فالذي طورها وجعلها مراحل لهذا الإنسان الضعيف هو الله الذي خلقكم من تراب، وكان أصل خلق أبينا آدم من تراب، ثم نفخ فيه من روحه، ثم أمر ملائكته ليسجدوا له، فكان هذا الأب الأعلى الذي نحن جميعاً أبيضنا وأسودنا وأحمرنا، عربنا وعجمنا، ذكرنا وأنثانا، كلنا من ذريته ومن سلالته، وعلى ذلك فنحن خلقنا أصلاً من تراب، وكيف يتعالى الإنسان ويتعاظم على الله ولا يعبده وأصله التراب؟ أبالتراب يتيه ويتكبر؟! فلا يفعل ذلك إلا فاسد العقل، ضائع الدين.
ثم خلق من آدم زوجته حواء من ضلعه الأيسر، كما قال ربنا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]، ثم بعد ذلك جعل الخلق كلهم من ذكر وأثنى، فجاءت الذرية، فـ قابيل وهابيل ومن معهما من ذريته ذكوراً وإناثاً، جاءوا من نطفة آدم في رحم حواء، وهكذا تسلسل الأمر وإلى يوم القيامة، ولن يحدث في ذلك خرق للعادة إلا في خلق عيسى، فقد خلق من مريم ولم يكن من نطفة كبقية البشر، ولكن الله أمر جبريل عليه السلام فنفخ في مريم فكان حملاً وجنيناً، ثم غلاماً بعد ذلك.
قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، فكان آدم من تراب بلا أب ولا أم، وكان عيسى من امرأة بلا أب، وكنا بعد ذلك من أب وأم.
فالطور الأول: خلقنا من تراب.
والطور الثاني: خلقنا من نطفة تكونت في صلب الأب، ثم بعد ذلك دخلت في رحم الأم، ثم تكون منها طفلاً صغيراً ضعيفاً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً.
والنطفة: القطرة من الماء، ويعنى بها ماء الرجل، أي: منيه.
وبعد أربعين يوماً والنطفة في رحم الأنثى تخلقت وأصبحت علقة، أي: قطعة لحم صغيرة تشبه العلقة، ثم بعد ذلك صارت طفلاً، والطفل جنس ويعنى به الأطفال جميعاً.
فالإنسان يخرج من رحم أمه وهو طفل ضعيف لا يكاد يعي ولا يعقل، ثم انتقل من الطفولة إلى اليفوعة، ثم إلى الشبوبية {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [غافر:67].
وبلوغ الأشد هو في أصح أقوال: أن يبلغ الإنسان أربعين سنة، ويكون قد استكمل جسماً وعقلاً وفكراً.
ومن هنا فالنبوءات لا تنزل على الأنبياء والرسل إلا بعد أن يبلغهم الأشد، وهو سن الأربعين، ويكون الشباب في هذا السن قد عقل، وتكون القوة الجسدية قد وصلت منتهاها، {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر:67] ثم بعد ذلك نصل إلى آخر المطاف وهو كبر السن، ولكنها تختلف باختلاف الأصحاب، فقد تجد رجلاً ابن ستين وهو لا يزال في حيوية الشباب ونشاطهم، وقد تجده ابن أربعين وهو في ضعف الشيوخ وفي هدوء حواسه وأعماله، فهو لا يكاد يقوم بعمل إلا ويعجز.
وهناك أرذل العمر، وهي الشيخوخة المزمنة، الشيخوخة التي تصل لمنتهاها، وقد تضعف معها الحواس، من سمع ومن بصر وذاكرة.
ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام تعوذ بالله من أرذل العمر، وقد سماه الله أرذل العمر، فالإنسان عندما يبلغ هذه السن الفانية، وهذه الشيخوخة العالية يكاد يعجز عن خدمة نفسه، وهنا يصبح بلاءً على نفسه وعلى أهله، ومهما خدموه ومهما بروه فإنهم يملون ويكلون، وقد يتمنون موته: إما شفقة عليه، وإما راحة لأنفسهم ولأبدانهم، وقد يبلغ المائة ويتجاوزها.
وقد اجتمعنا بكثيرين في مشرق الأرض من تجاوز 100 بـ 10 و 20 سنة وهم لا يزالون على ذاكرتهم، وعلى حفظ حواسهم، وعلى خدمتهم لأنفسهم، بل ويهتمون بشئون الناس، والشئون العامة.
وقد التقيت قبل بضع سنوات بشيخ مغربي يسكن أعالي الجبال في جنوب المغرب، وقد تجاوز عمره 125عاماً، فأخذ يسألني عن السعودية، وعن ملكها وسياستها، وعن فلسطين، واليهود، وعن مصر، وعن البلاد، وكأنه لا يزال شاباً، مما يدل على أنه يتتبع الأحداث مطالعة وسماعاً مع ضعف بصره، ويسأل عن الأشخاص كذلك، وهذا يسعد الله به من شاء من عباده.
ولذلك فالأنبياء وآخرهم نبينا عليه الصلاة والسلام لم يوصلهم الله تعالى إلى هذا السن من العمر؛ حتى لا ينتقص من قوتهم وذاكرتهم، وحتى لا ينظر إليهم نظرة الشباب إلى رجل عجوز إذا تكلم كلاماً لا يوافقه، فيقول: فلان خراط، كما يقول الناس اليوم.
وقوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} [غافر:67] أي: منكم من لا يصل إلى آخر هذه الأطوار، فقد يموت طفلاً، أو تسقط أمه به، وقد يموت يافعاً، وقد يموت شاباً، وقد يموت كهلاً.
وقوله: {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} [غافر:67] الأجل المسمى هو الموت، فنهاية حياة الإنسان الموت، فنحن جئنا من العدم، وخلقنا من التراب وتطورنا من التراب إلى نطفة ثم علقة ثم طفل ثم شاب ثم كهل وشيخ ثم الموت، فنحن جئنا من الفناء وسنذهب إلى الفناء، ولكن الموت الثاني تعقبه حياة بعد ذلك، وهو يوم البعث الذي لا موت فيه بعد ذلك.
وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر:67] أي: لعلكم تكون لكم عقول تفهمون بها هذه المعاني، وتدركونها، وتفكرون فيها: كيف انقلب التراب إلى تمثال سوي جميل الصورة، ذكي العقل، مدبر الأمور، يبني البنايات، ويحكم الشعوب، ويصنع ويصنع؟! وكيف انتقل من تراب، إلى نطفة، إلى شيخوخة، إلى موت؟ ومن الذي صنع ذلك؟ هل الأوثان والأصنام والملائكة والجن والإنس؟ هيهات هيهات.
فالكل خلق من خلقه والكل يعجز عن أقل شيء من هذا، ولو اجتمع الإنس والجن والملائكة معهم على أن يخلقوا ذبابة كما تحدى الله الخلق لما استطاعوا؛ لأنهم أعجز من ذلك.
ومن الذي طورنا من حال إلى حال، ومن طور إلى طور؟ ستكون النتيجة للعاقل المفكر، لمن يريد الله هدايته وسيقول بجميع الحواس، وبجميع خلايا بدنه: الله، وهذا هو المقصود.
فالله جل جلاله قد أتانا بالأدلة البينة القاطعة والواضحة العقلية قبل النقلية، على وجود الله القادر، وعلى أن الوجود لا يحتاج إلى دليل.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد ولكن الدليل على كونه: هل له شريك أو لا شريك له؟ وهل هو وحده صنع كل هذا الذي نراه من سماوات عالية، ومن أرضين واسعة ومن أنواع الخلق؟ أما الوجود فلا ينكره إلا من فقد عقله، وهذا لا يوجد، ما وجد هذا البلاء إلا في عصرنا هذا خلال المائة سنة؛ لأن عباد الأوثان عندما يسألون: من خلق السموات والأرض؟ فإنهم يقولون: الله، ومن خلق الإنسان؟ فيقولون: الله، حتى إذا وصلت في النهاية: من خلقك؟ تقول الله، إذاً: لماذا تجعل له شريكاً، فسيجيبك بالتقليد الفردي بإتباع الآباء والأجداد مما لا دليل عليه ولا برهان: بأنه لا يستطيع أن يخلق كل هذا، فلا بد له إذاً من شريك، وهذا تفسير من لا عقل له، وكما يقول النصارى الذين يعبدون الصليب: إن الله هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم صعد العرش واستراح من تعبه وشقائه، فهم كفار، فالإيمان الصادق والمعقول لم يخالط بشاشة قلوبهم، ومن هنا أيضاً نعلم أن هذه الأطوار هي كما نقول في الأمثال: دوام الحال من المحال، فقد كنا تراباً فحولنا الله إلى إنساناً سوياً ابتداءً من النطفة، ثم صرنا علقة ثم صرنا طفلاً، ثم صرنا شاباً، ثم صرنا شيخاً، وأخيراً كان الموت.
فإذاً: أي حال من الأحوال المعنوية أو المادية فإن دوامها من المحال، فلا فقر يدوم ولا غنى يدوم، ولا قوة تدوم ولا ضعف يدوم، ولا ملك يدوم ولا صعلوك يدوم، ولا امرأة تبقى إلى الأبد ولا رجل، ولذلك نحن دائماً في أطوار، وكل يوم هو في شأن، وشأن الله خلقه وقدرته ونحن مظاهرها، فهو خلقنا جميعاً، وقد كنا يوماً من الأيام أجنة في بطون أمهاتنا، ثم صرنا أطفالاً ثم صرنا شباباً، وصرنا وصرنا، ولينتظر كل واحد منا الموت، وليعمل لذلك: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
وقد كنت في المدينة المنورة فوجدت طلابي فيها فقابلوني بدهشة، وبتحيات تجاوزوا الحد فيها، حتى إن أحدهم سجد لله شكراً بعد أن صافحني، ثم قال: بلغنا أنك مت، قلت له: إن لم أمت فسأموت، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، وقد قيل للشافعي يوماً: إن فلاناً يدعو عليك بالموت ويتمنى لك الموت، فقال لهم الشافعي: تمنى أناس أن أموت وإن أمت فتلك طريق لست فيها بأوحد وهؤلاء الذين تمنوا الموت للإمام الشافعي ماتوا ولعلهم سبقوه.
ومن أطرف ما رأيت أن شاباً يظهر عليه العلم ويدعي فهم العقل قال لي: رأيتك في المنام أنك مت، وقد كتبت لك قصيدة أرثيك فيها، وهذا بناءً على أني مت في منامه، والناس عجائب وغرائب.
وعلى كل حال فقد قال ربنا لنبيه وحبيبه وعبده محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]؛ لأن أعداء النبي تمنوا له الموت، ومن الذي يخلد مهما عاش من أطوار؟ وفي الحديث الصحيح أن موسى جاءه يوماً ملك الموت ليقبض روحه، وجاءه في صورة إنسان، فلم يعرفه موسى، وأراد ملك الموت أن يطرحه في الأرض ليميته، فموسى كان عنيفاً وقوياً فلطمه حتى فقأ عينه، فذهب يشتكيه لربه، قال: يا رب! بعثتني إلى رجل لا يريد الموت، هاهو ذا فقأ عيني، فرد الله له عينه فعادت كما كانت، ثم جاء إلى موسى يقول له: قال لك ربك! ضع يدك على جلد ثور فلك بكل شعرة تحصيها كفك سنة، قال: وماذا بعد ذلك؟ قال: الموت، قال: إن كان كذلك فمن الآن، فقبض روحه.
ونبي الله إدريس رأى مرة ملك الموت وعرفه، فخاف من أن يقبض روحه، وكان يعرف ملكاً آخر، فطلب منه أن يأخذه إلى السماء ال(294/4)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي يحيي ويميت)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر:68] إن الله جل جلاله بيده الحياة والموت، وليس ذلك بيد الأصنام والأوثان والشركاء الذين يعبدون من دون الله، فإبراهيم عندما حاور النمرود وجادله ودعاه لتوحيد الله وعبادته، قال له: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] فالمجنون فهم أن الحياة والموت بأن يحضر رجلين فيقتل أحدهما ويبقى الآخر، فتصور أنه أمات الأول وأحيا الآخر، فأدرك إبراهيم فهم النمرود لذلك فغير السؤال فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258].
فالظلمة يستطيعون أن يقتلوا بعض الناس ظلماً وعدواناً، وأن يعفوا عن بعض من يريدون قتلهم فلا يقتلونهم، ولكن هذا ليس هو تفسير الإحياء والإماتة.
يحكى في التاريخ الأندلسي عن المنصور بن أبي عامر الفاتحي أنه تمرد عليه أحد رعاياه وأقام عليه ثورة، فأتت به جنوده، ورماه في السجن، وأصدر أمراً بقتله، فأخذ الورقة وكتب فيها: اقتلوه وائتوني برأسه، وسلم ذلك لكاتبه، ورأى الكاتب ذلك فقال له: إنما كتبت: أطلقوا صراحه، فأخذ الورقة ومزقها فأعاد الكتابة مرتين وثلاثاً وأربعاً، وفي كل مرة يريد أن يكتب: اقتلوه وائتوني برأسه، وإذا به يكتب: أطلقوا صراحه، فلما تكرر منه ذلك، وتأكد منه ولم يكن يشك في الكاتب، رمى الورقة وقال: الله لم يردني أن أقتله، فالله هو المحيي والمميت، أطلقوا سراحه.
وحدثت أحداث أخرى، فيذكر أن إنساناً سقط من شاهق عالٍ فلم يمت ولم يجر عليه شيء، فالله هو المحيي والمميت وليس البشر.
وعلقت مشانق لكثير من الرجال، فلما أنزلوا الجثث وإذا بجثة أو جثتين لم تمت، وحسب القانون عندهم إذا صدر الأمر على شخص بالموت شنقاً ثم شنق فلم يمت اعتبروه معدوماً ولا يقتلونه مرة ثانية، فيغير اسمه وحاله؛ لأن فلاناً حسب الأمر قد شنق، فتحدث الغرائب والعجائب في هذا الباب.
{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [غافر:68] فالله المحيي والمميت، فليست الحياة والممات بيد خلق من خلق الله، بل ذلك كله لله، وهو من صنْع الله، ومن خصائص فعل الله، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر:68] أي: إذا سبق في قضاء الله وفي إرادته شيء فلا يحتاج فيه إلى لغوب ولا إلى تعب، وإنما يقول له: كن فيكون، فالله عنده خلق الألف كخلق الواحد فكل ذلك عليه هين، ولا يصعب عليه، ولا يكل منه ولا يمل، فهو القادر على كل شيء، فخلق السموات والأرض في ستة أيام، وهو الذي أراد ذلك، وكان في إمكانه أن يخلق كل ذلك في لحظات وفي ثواني، ولكن الله أراد ذلك.
فالموت تارة يأتي فجأة للإنسان، ويأتي الجسم القوي الذي يمتلك القنطار والقنطارين، وقد يعيش الضعيف الهزيل سنوات على هذه الحالة ولا يموت، ويموت الكثيرون بعد مرض يطول أو يقصر، وتكون النهاية الموت، ولو شاء الله موته لقضى عليه فجأة كما قضى على غيره، ولكن الله لا يسأل عما يفعل، {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر:68].(294/5)
تفسير سورة غافر [69 - 77]
يذكر الله تعالى حال المشركين الذين يجادلون في آيات الله بغير بصيرة ولا برهان، فكيف يصرفون عن فهم الحق وإدراكه وقد أوتوا من السمع والأبصار والأفئدة والفهوم؟!(295/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون)
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} [غافر:69].
أي: ألم تر يا محمد! ويا أيها التالي والسامع والقارئ لكتاب الله، والمتمعن في قدرة الله وخلق الله، إلى الكثيرين ممن يجادلون في آيات الله، ويحاولون بطلان الحق في خلق الله وفي كتابه وأنبيائه بباطلهم وهرائهم وهذيانهم، {أَنَّى يُصْرَفُونَ} [غافر:69] أي: كيف يصرفون عن الحق والإيمان والهدى؟ كيف يحصل ذلك مع ما خلق الله لهم من عقول وأبدان سليمة ومع ذلك تضيع عقولهم، وأديانهم وتفكيرهم، فيتصرفون تصرفات الحمقى والمجانين ممن لا عقل لهم ولا تفكير ولا ذكرى ولا إرادة؟! وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} [غافر:69] هنا استفهام من الله للنبي عليه الصلاة والسلام ولكل سامع وقارئ، وهو استفهام توبيخي وتقريعي لهؤلاء، ولفت نظر للنبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين.
أي: ألم تر إلى هؤلاء كيف يجادلون بالباطل ليدحضوا الحق ويحقوا الباطل؟ وهذا كان فعل اليهود والنصارى ولا يزال، وفعل كل منافق كافر بالله، فيأتيك فيجادلك عن الدنيا أنها بفطرتها توالدت كالإنسان يلد إنساناً وكالدودة تلد دودة، فنقول له: فمن خلق الأول؟ ألم يكن آدم المخلوق الأول واحداً؟ قالوا: المخلوق الأول هو قرد، ولذلك هم قردة، وفكروا بعقول القردة وبمعارف القردة، فنقول لهم: وهذا القرد من خلقه وأوجده؟ ويقولون: كانت الحياة خلية واحدة ثم تكاثرت، وهو ما يسمونه بمبدأ النشوء والترقي، فهذا وحي من الشيطان، وكلام باطل من الهذيان، لا يقبل به عقل سليم، ولا يكاد يقف على رجليه ولا حتى حبواً عند المنطق والعقل والحوار في معرفة الحقائق والأباطيل.
فقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} [غافر:69] أي: كيف يصرفون عن الحق؟! وقد عرفهم الله في آية أخرى أنهم {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [غافر:70]، فقد كذبوا بالقرآن، وإذا أطلق الكتاب فهو القرآن الكريم، وإذا قيل الكتاب في علوم العربية من نحو وبلاغة ولغة ومعانٍ وبديع فهو كتاب سيبويه إمام النحو.
قال تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} [غافر:70] أي: كذبوا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكذبوا ما أرسل الله به رسله وأنبياءه، كذبوهم في الوحي وفي الرسالة والنبوءة، وكذبوهم في دين الإسلام، وكذبوا محمداً نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، فهم يجادلون بالباطل، ويحاولون أن يكذبوا كتاب ربهم، وما كذبوا إلا أشخاصهم وكيانهم وعقولهم، وهذه صفة لكل كافر بكتاب الله، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذين يقولون عن المسلمين: إنهم رجعيون، هم الرجعيون الذين رجعوا إلى كفر الكافرين قبلهم، وإلى يهودية اليهود ونصرانية النصارى وإلى الجاهلية الأولى، فأنكروا الحقائق، وحاولوا أن يجعلوا للأباطيل قولاً ودليلاً، ولكن هيهات هيهات! فالذين يكذبون بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون، فالله يتهددهم وينذرهم، ويتوعدهم بشديد العذاب، وبالخلود في النار وبئس المصير.
وقوله: (فسوف يعلمون) تقول: سآتيك، وتقول: سوف آتيك، فالسين لتسويف القريب، ولتسويف البعيد تقول: سوف، فهو بعيد بالنسبة للناس، أليس الصبح بقريب؟ بلى هو قريب.
فالله يقول لهؤلاء: إنكم ستموتون يوماً، ومن الذي يكون منكم حياً إلى الأبد، وستعلمون قبل الموت وأنتم في قبوركم، عندما تخرج أرواحكم وتصل إلى حلقومكم، ستعرفون إذ ذاك جزاؤكم.(295/2)
تفسير قوله تعالى: (إذ الأغلال في أعناقهم)
قال تعالى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:71 - 72].
الأغلال جمع غل، وهي الأكبال تكون في أعناق الكافرين يوم القيامة، وتربطهم الملائكة بالسلاسل يداً ورجلاً فيسحبون على وجوههم في الحميم، والحميم قبل جهنم، وهو: الماء الحار الذي وصل منتهاه، والماء الحار في جنهم شراب سكان جهنم، والحميم في الموقف يكون في ذلك اليوم كألف سنة مما تعدون، فيصل العرق إلى الأعناق وقد يغمر الوجوه والأبدان، فيشتد عطشهم، وإذا بهم يسحبون بالسلاسل وبالأغلال إلى الحميم.
هذا الماء الذي سيشربونه قد بلغ من الغليان ومن الحرارة منتهاها، فلا يكادون يشربونه حتى يشوي وجوههم ويلقي أمعاءهم في الأرض، فلا يبقي لحماً ولا جلداً إلا العظم، كما قال الله عنهم: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] أي: جزاءً وفاقاً على شركهم بالله، وكفرهم برسالات الله، وعدم إيمانهم بالكتب المنزلة على أنبياء الله.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر:70 - 71] والأعناق جمع عنق، والسلاسل في أبدانهم على أيديهم وأرجلهم وألسنتهم، فيجرون جراً إلى الماء الحار الذي بلغ في الغليان منتهاه، وما من أحد يشرب منه إلا ويلقي بأمعائه في الأرض، فيعيدها زيادة في عذابه وفي النار يسجرون، أي: يحرقون، فيكونون وقود النار وحطب جهنم، فتوقد بأجسامهم وبلحومهم، فيلقى فوج على فوج، والأبدان تعود مرة ثانية بعد أن كانت قد احترقت فيزداد نارها وجحيمها، وهكذا دواليك إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين.(295/3)
تفسير قوله تعالى: (ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله)
قال تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} [غافر:73 - 74].
تقول لهم الملائكة: كل هذا الذي جرى عليكم من الأغلال والسلاسل والسحب إلى الحميم في جهنم وأصبحتم وقوداً لها، هو بسبب شرككم في دنياكم، فأين شركاؤكم لينقذوكم وليشفعوا لكم وليحموكم من عذاب الله، فلماذا لم يأتوا إليكم فيحامون عنكم هذا العذاب؟ فهذه الآلهة التي عبدوها من دون الله سواء كانت أخشاباً، أو أحجاراً، أو حدائق، أو بشراً أو ملكاً أو جناً، فهي أمام الله على غاية ما يكون من الهلع والرعب، ويطلبون من الله المغفرة والسلامة والإنقاذ من عذاب الله.
وقوله: {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} [غافر:74] أي: ضاعوا علينا ولم يفيدونا، بل زادوا فقالوا: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر:74] فسره البعض: بأنهم نفوا عبادة المشركين، وليس الأمر كذلك في هذه الآية.
فقوله: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا} [غافر:73 - 74]، {ضَلُّوا عَنَّا} [غافر:74] أي: ابتعدوا، ففقدناهم، لأننا لم نرهم، بل زادوا فقالوا: لم نكن ندعو من قبل شيئاً يذكر، بل كانت عبادتنا في دار الدنيا عبادة لا معنى لها، فهي عبادة باطلة لمن لا يضر ولا ينفع حتى نفسه، ولذلك عشنا بلا عبادة وبلا إله ندين له يضرنا وينفعنا.
أي: أنهم اعترفوا بذنوبهم وبأخطائهم وبجرائمهم، ولكن هيهات هيهات الآن! وقد كانوا قبل من المجرمين، {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر:74].
يذكر الله هؤلاء دائماً مثلاً لأمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ممن كفروا كفر الأولين، ونافقوا نفاق الأولين، على أنهم إن بقوا كذلك فلم يتوبوا ولم يئوبوا فسيعذبون عذابهم، وينكلون نكالهم، ويكونون في جهنم كما كان الأولون، ولذلك يقول: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر:74] أي: كل من كفر بعد هؤلاء سواء ممن دعاهم محمد رسول الله إلى الإيمان فكفروا به وبما أنزل عليه، ولم يكن في قلوبهم خير من إيمان ولا كتاب ولا رسول ولا ألوهية، فهؤلاء قد ضلوا ضلال الأولين نتيجة فساد قلوبهم.(295/4)
الأسئلة(295/5)
اللام الواقعة في خبر إن
السؤال
ماذا تسمى اللام الواقعة في خبر إن كما في قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} [غافر:59]؟
الجواب
هذه اللام هي لام التوكيد، وكان مكانها أن تتصل بالاسم (اسم إن)، فتقول: إن للساعة آتية لا ريب فيها، وإن للتوكيد واللام للتوكيد ولا يجتمعان معاً في كلمة واحدة، وذلك استقراءً في لغة العرب التي نزل بها القرآن، ولم يجز ذلك أئمة اللغة كـ سيبويه والكسائي وغيرهما، فهذه اللام لام التوكيد وليست لام القسم، فلام القسم تكون في المبتدأ لا في الخبر، وفي هذه الآية اللام متصلة في الخبر، والتوكيد معناه أن الله يؤكد تأكيداً قاطعاً بلفظة الساعة (إن)، وفي الإعراب نقول: إن: حرف نصب وتأكيد، ساعة: اسمها منصوب بإن، لآتية: اللام للتوكيد، وآتية خبر إن مرفوع بها.
وهذه اللام لا يصح دخولها على الساعة، فلا تقل: إن للساعة؛ لأن (إن) للتوكيد و (اللام) للتوكيد، فكان التوكيد للاسم بدخول (إن)، وللخبر بدخول اللام، فصار الاسم مؤكداً، والخبر مؤكداً، فاجتمع مؤكدان فزاد ذلك الأمر تأكيداً وتأكيداً، {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} [غافر:59].(295/6)
بيان هل الإنسان مسير أم مخير
السؤال
هل نحن مسيرون أو مخيرون؟
الجواب
الله جل جلاله أمر بالإحسان وبالطاعة ولم يأمر بالسوء وبالمعصية، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، والله نهانا أن نقول عن شيء: إننا فاعلوه غداً، قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، وهذا زيادة في التوكيد وزيادة في الفهم والبيان.
فعندما أقول لك: غداً سأفعل وأفعل، من الذي ضمن لي الحياة إلى الغد؟ فأنا عندما أقول: غداً سأفعل كذا ولم أستثن بالمشيئة أكون كاذباً؛ لأنني أتصرف فيما لا أملك، فإذا قلت لك: غداً سأفعل كذا إن شاء الله فالأمر معلق بمشيئة الله، وقد يحقق الله هذا الوعد وقد لا يحققه، فهو راجع إلى مشيئته، ومع كل ذلك فنحن مخيرون لا مسيرون، بمعنى: لنا إرادة خلقها الله لنا، وعقل نفكر به خلقه الله لنا، فيمكن أن نفعل الخير أو أن نفعل الشر.
وأما ماذا قدر الله في سابق الأجل؟ فهذا سر من أسرار القدر لا يعمله إلا الله.
وقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذا عندما أمرنا أن نؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى، فقال عليه الصلاة والسلام: (جفت الأقلام ورفعت الصحف بما كان ويكون إلى قيام الساعة، فسأله الصحابة الحاضرون، قالوا: إذا كان الأمر كذلك فلم العمل؟) أي: أن السعيد وهو في بطن أمه سيدخل الجنة عمل أو لم يعمل، والشقي وهو في بطن أمه سيدخل النار عمل أو لم يعمل، فأخطئوا الفهم، فأعادهم رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى الصواب فقال لهم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، فالذي قدر الله له أنه من أهل الجنة لن يترك الصلاة إذا صلى الناس، وإذا حجوا ترك الحج، وإذا صاموا أفطر، بل إن الله يلهمه ويوفقه أن يلازم صلواته، وأن يحج بيت الله الحرام، وأن يزكي ماله، وأن يصوم شهر رمضان، وأن يفعل الخير ما استطاع إلى ذلك، وأن يبتعد عن الشر وعن المعاصي، وهذا في الأزل.
أما في دار الدنيا فلا يستطيع أحد أن يقطع أنه من أهل الجنة أو النار، لكننا نعمل ونرجو الله، وندعوه، فما هو كائن في علم الله سيقع ولا أحد يعلمه، فعلينا أن نكثر من العبادة ومن الإخلاص ومن الطاعة، ونكثر من الدعاء كما أمرنا الله ورسوله به، قال تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82].
فمن خلق للجنة يسره الله لعمل أهل الجنة، ومن خلق للنار يسره الله لعمل أهل النار، وفي ما عدا ذلك نشعر أننا مسلمون ونؤمن عن طواعية، ولو فكر أحدنا ألا يصلي أو لا يصوم شهر رمضان، فمن سيمنعه، فنحن نشعر بهذه القدرة وبهذه الإرادة، ولو شاء بعضنا أن يقتل بعضاً من يمنعه، فإذا: نحن نشعر بالقدرة على عمل الخير وبالقدرة على عمل الشر، فبعضنا يعمل الخير رجاء ثواب الله، وبعضنا يترك الشر إما خوف الله أو خوف الموت أو خوف العذاب، وعلى كل اعتبار فله إرادة استطاع أن يفكر بها أنه لو شتم الناس أو سكر أو ارتكب المعاصي أنه سيؤخذ في السجن وقد تقطع يده إن كان سارقاً، وقد يقتل إن كان قاتلاً، فهذا الخوف منعه من الفعل، ولا يكون الخوف إلا من الله.
وهذه المعاني التي هي: خوف أو رجاء أو طمع هي أيضاً من القدرة والإرادة التي خلقها الله فينا، فإذاً: نحن مخيرون، أما ماذا في الأجل؟ هل كتبنا الله في بطون أمهاتنا سعداء أم أشقياء؟ فهذا لا نعرفه ونقول: الله أعلم، ولكن نرجوا أن يكون خيراً، ومع ذلك نحتاج إلى المحافظة على صلواتنا، وعلى صيامنا، وعلى أركان ديننا رجاء ذلك، من شب على شيء شاب عليه، فمن شب على الإسلام، وعلى المحافظة على الصلوات، وعلى القيام بأركان الإسلام أتم الله له نعمة الإسلام والتمسك بها.
أما أننا مسيرون وتكون النتيجة فيما يريده المنافقون والفسقة: أنه لا إرادة لنا ولا اختيار في الحسنات والسيئات فلم الجنة والنار؟ وإنما الأعمال بالنيات، فإذا كان العمل بلا نية صالحة لا يعتبر، وإذا كانت النية صالحة بلا عمل لا تكفي ولا تعتبر.
فإذاً: نحن مخيرون لا مسيرون، وكوننا مسيرين في الأجل هذا لا ارتباط له بإرادتنا، ولا باختيارنا، فهو عمل من أعمال الله، وسر من أسرار القدر، والقدر لا يبحث فيه أحد، ولو حاول الإنسان أن يبحث عنه فإنه سيخرج بلا نتيجة، وقد يخرج ضالاً مضلاً، والأنبياء قد خاطبونا ودعونا لدين الله، وأرشدونا لعبادة الله، والقرآن الكريم على هذا الأساس أنزل.(295/7)
تفسير قوله تعالى: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون)
قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:75].
أي: ذلك العذاب، وتلك السلاسل والأغلال، وذلك السحب إلى جهنم، وذلك الشراب من الحميم، {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [غافر:75].
فتجد الكافر في أغلب الأحيان إن كان صحيح البدن، مكفياً في عيشه، يضحك وكأن شيئاً لم يكن، وكأنه ليس أمامه نار ولا عذاب ولا قيامة ولا محاسبة، فهو فرحان بكفره، وبشركه، وبأنه لم يكلف نفسه كما يعذب المسلم نفسه بالصلاة والصيام وهذا حلال وهذا حرام، فهم يضحكون علينا، ويستبعدون العذاب، ولسان حالهم: وما يهلكنا إلا الدهر، كما قال الكفرة الذين سبقوهم، فهم رجعيون رجعوا لأولئك السابقين، ففرحوا بالكفر ومرحوا به وسرحوا، وأخذهم البطر والأشر والتكبر والتعالي بأنهم كافرون، وظنوا أنما أتوا به هو خير لهم، وظنوا أنهم يحسنون صنعاً.
فهم قردة لا يملكون عقلاً ولا سمعاً ولا بصراً، فهم غارقون في الضلالة، والفساد، وكأنهم يضحكون على أنفسهم وعلى مستقبلهم وهم لا يشعرون.
أما الفرح بالله، والفرح بالحق، والفرح بدين الإسلام، والفرح بكوننا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فذلك فرح بحق، وذاك مما يزيد المؤمن إيماناً، والعابد إخلاصاً، والمطيع طاعة، وإنما عاب الله عن هؤلاء؛ لأنهم يفرحون في دنياهم بالباطل، وبالكفر، وبالشرك، وبالظلم، وبالاعتداء على الخلق.
وقوله: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:75] المرح: البطر والأشر، وهو الوصول بالفرح إلى درجة خفة العقل بالرقص والحركات؛ لأنهم وجدوا أنفسهم فيما يظنون أنهم غير مكلفين، فينامون متى شاءوا، ويعملون متى شاءوا، فلا صلاة عليهم ولا تثريب عليهم، ولا يقولون: خرجنا لهذا العالم لطاعة الله وأنبيائه، أو عمل شيء، بل ظنوا أنهم خرجوا لهذه الدنيا عبثاً، وهيهات هيهات! أن يخلق الله شيئاً عبثاً، كل شيء خلقه بحكمة وبإرادة، وما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، فإذا ابتعدوا عن هذه الغاية من خلقهم، وهي عبادتهم لله ضلوا وأضلوا، واستوجبوا لعنة الله وعذابه وخلودهم في النار يوم القيامة.(295/8)
تفسير قوله تعالى: (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين)
قال تعالى: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر:76].
أي: هؤلاء الذين كانوا في دار الدنيا في مرح وفرح بكفرهم ونفاقهم وظلمهم، بأكلهم أموال الناس بالباطل، وبإزهاقهم الأرواح ظلماً وعلواًَ في الأرض وفساداً، فإنهم سيحاسبون حساباً عسيراً، فتقول لهم الملائكة بأمر الله: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [غافر:76].
وأبواب جهنم سبعة، ولكل باب خلق من الخلق، وسيدخلون منها جميعها، وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} [غافر:76] أي: خلوداً أبدياً لا موت فيه ولا راحة ولا خروج، وقوله: {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر:76] أي: بئس مثواهم ومقامهم، فما أشقه وأكثره عذاباً ومحنة.
فهؤلاء الذين في دنياهم قد فرحوا بكفرهم، ومرحوا بباطلهم، وتكبروا عن الدعاة إلى الله، وعن كتاب الله، وعن رسل الله، وعن المؤمنين الذين يدعونهم إلى الله، وعن علمائهم الذين دعوهم إلى طاعة الله وعبادته، وإفراده بالعبادة والإخلاص، فهؤلاء متكبرون، وكما ورد في صحيح مسلم وبقية السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المتكبرين يبعثون يوم القيامة كالذر في صورة بني آدم، ثم يؤمر بهم إلى النار) فهم في أعين الناس كأنهم الذر، والذر هي أولاد النمل، أو هو النمل الصغير الذي لا يكاد يرى بالعين المجردة، وهذا تحقير لهم وإذلال وهوان.
فبئس مثواهم، ومقامهم، وعذابهم، والمنزل الذي ينزلونه، والمأوى الذي يأوون إليه.(295/9)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق)
قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77].
يؤكد الله على نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: (فاصبر) أي: اصبر على أذاهم، وشتائمهم وأقوالهم، فالنصر لك، ((فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) فما وعدك به من نصر، وفوز، وعذاب لهم، ومهانة لهم، كل ذلك حق لا محالة، والأمر بالصبر كان للنبي صلى الله عليه وسلم قبل الأمر بالقتال، ولا ننسى أن السورة التي ندرسها ونشرح آياتها ونفسرها هي سورة مكية، والقتال لم يشرع في مكة، فلم يكن إلا الصبر، فكان يصبر في نفسه عليه الصلاة والسلام، ويأمر أصحابه بالصبر، وهم يشتمون ويعذبون بل ويقتلون، وكان يمر على الأسرة كاملة أباًَ وأماً وولداً وهم يعذبون إلى أن تقتل الأم، فلا يزيد عن قوله: (صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة)، إلى أن أمر بالهجرة إلى المدينة المنورة، وإذ ذاك شرع القتال، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، وقد قاتلوا فسحقوا أعداءهم سحقاً، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77]، يقول الله له: يا محمد! اصبر، وما وعدناك به كائن لا محالة.(295/10)
تفسير سورة غافر [77 - 81]
لقد نصر الله تعالى رسوله والمؤمنين على مخالفيهم من الكفار والمشركين، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض تلك الانتصارات في حياته، وبعضها حصلت بعد مماته كالقضاء على فارس والروم والبربر، ثم أخذ الله تعالى يعدد نعمه على عباده في هذه الأنعام العجماء التي سخرها لهم، فمنها ركوبهم ومنها يأكلون.(296/1)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق)
قال ربنا جل جلاله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77].
الله جل جلاله فيما سبق من الآيات أخبر عن تمرد الكفار والمرتدين وعبدة الأوثان والأصنام، وتكذيبهم للحياة ثانية، وتكذيبهم لنبيهم، فأنذرهم وتوعدهم، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ} [غافر:77] أي: اصبر على تكذيب هؤلاء ولأوائهم، فالعاقبة لك كما كانت للأنبياء قبلك، ونهاية الأمر نصرك وذلهم وهزيمتهم وهوانهم، قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [غافر:77].
وما وعدك الله به من نصر مؤزر ونشر لدينه وهزيمة لعدوه وقضاء عليهم في حياتك وبعد مماتك كل ذلك حق سيتحقق، فما وعدك الله به هو وعد حق وصدق، كما وعد إخوانك وآباءك من الأنبياء والمرسلين الذين جاءوا بعدك، وهي تسلية وتعزية للنبي عليه الصلاة والسلام وقد لقي منهم الشغب، وكان ذلك في مكة قبل فرض الجهاد، والسورة مكية، والجهاد لم يشرع إلا بالمدينة المنورة، فكلمات الصبر ودعوة النبي عليه الصلاة والسلام للعفو نجدها في الآي المكية، ولا نجدها في الآي المدنية؛ لأن الله أذن لرسوله وخاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل أعداء الله وأعداء رسوله وكتابه، فلا حاجة للصبر بعد ذلك، وإن كان الصبر في حد ذاته يؤمر به كل مؤمن قبل وبعد، في الحياة النبوية وبعدها، وأمر به الناس كافة، فلابد من الصبر لبلوغ الدرجات العلى، ولابد من الصبر على اللأواء وبلاء الدنيا وكراهية الأعداء وبغضائهم، ومن صبر نال وظفر.
قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77].
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم إن هذا الذي وعدناك إما أن تراه في حياتك، وتعيش إلى أن يصبح تحت يدك، وترى النصر وتسمعه، ويعزك الله على عدوك وأنت لا تزال حياً، فإما أن يحدث بعض ذلك في حياتك، والبعض الآخر يكون بعد وفاتك، كما قال تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} [غافر:77] و (إن) شرط، و (ما) ويقولون عنها: زائدة، وهي ليست زائدة حتى في غير القرآن، ولا يليق أن يقال عن القرآن: بأن فيه شيئاً زائداً، وإنما هي لمعنى التأكيد، فيؤكد الله جل جلاله مع الشرط بأنه سيرى نبينا عليه الصلاة والسلام بعض ما يعده، فيقول: إما أن نرينك بعض ما نعدك أو نتوفينك فإلينا يرجعون، أي: إن نصرناك عليهم وأنت لا تزال حياً، أو نصرنا أتباعك عليهم وأنت قد مت فمرجعهم إلينا، فنحن الذين سنؤدبهم وننتقم منهم في حياتك وبعد مماتك كذلك.(296/2)
نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم يتحقق في حياته وبعد مماته
وأكد الكلام بنون التوكيد الثقيلة، أي: إن نرينك بعض الذي نعدك من النصر عليهم، والنشر لدينك في بقاع الأرض، وهزيمة عدوك، فسنريك بعض ذلك وأنت لا تزال حياً، (وإما نتوفينك) أي: وإن نحن توفيناك وأمتناك فإلينا مرجعهم وعودتهم، وسيرون ذلك لا محالة ولا مفر لهم، فسيعاقبون وسيهزمون إما على يدك وأنت لا تزال حياً، وإما بعد مماتك على يدي خلفائك، وقد كان الأمر كذلك، قال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] ففي حياة النبي عليه الصلاة والسلام نصره الله نصراً عزيزاً مؤزراً، وحقق له وعده في نصره على أعدائه خاصة قومه قريشاً، الذين أخرجوه من بلده، وألبوا عليه الأعداء، وتعاونوا مع يهود المدينة ونصارى نجران ومشركي نجد وبقية القبائل الكافرة من جزيرة العرب، وهاجموه وأخرجوه من بلده، ثم هاجموه في المدينة بعد أن خرج مهاجراً، ووقعت هناك معارك طاحنة في غزوة أحد وخيبر وغزوات اليهود والخندق والأحزاب وبدر، وقد تألبوا عليه مع كفار الجزيرة كلها، وكانت النهاية نصر نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد عاد إلى مكة مظفراً منتصراً حاكماً في أعدائه، وعرضوا عليه عرض الأسرى والمستعبدين، فقال لهم: (ماذا ترون يا معاشر قريش! أني فاعل بكم؟)، ثم أطلق سراحهم وعفا عنهم بعد القدرة عليهم، وعاقب يهود المدينة بأن طرد من طرد وقتل من قتل وصادر من صادر، وأوصى -خلفاءه من بعده- بإخراج الجميع من جزيرة العرب، أي: من العالم الإسلامي.
وما مات النبي عليه الصلاة والسلام حتى دانت له جزيرة العرب كلها، وأصبحوا على دينه ومن أتباعه وجنده، ومن الدعاة إلى دينه، وأصبحوا جميعاً يعتقدون رسالته التي كانوا ينكرونها زمناً، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام خرج الإسلام عن جزيرة العرب في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكانت البداية في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وانتشرت انتشاراً شاملاً عاماً في مشارق الأرض ومغاربها أيام الفاروق عمر رضي الله عنه، فدخل في أرض المسلمين الشام والعراق وفارس ومصر والمغرب، وما بقي بعد ذلك إلا القليل، ثم دخل ذلك القليل فأصبحت رقعة العالم الإسلامي من أرض الصين شرقاً إلى أرض فرنسا قرب العاصمة باريس بنحو مائة ميل فقط غرباً وما بينهما جنوباً وشمالاً.
فالله وعد نبيه صلى الله عليه وسلم وحقق وعده، قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} [غافر:77] أي: إما أن ترى ذلك رؤيا العين، وإما سيكون ذلك بعد موتك، وإلينا مرجعهم.
وقد فعل الله كل ذلك، فقد وقع بعض ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ورآه وقرت عينه وعين المؤمنين به، ووقع أكثره بعده، ففرحت روحه وهو في الرفيق الأعلى، وسرت بنشر التوحيد والإسلام، حيث قام الذين آمنوا على يده من قريش نفسها وبقية قبائل العرب فتعاونوا واتفقوا على نشر دين الله حتى عم الأرض كلها، وأصبح الإسلام وحده هو الظاهر والغالب والمعمول به إلى قرون وقرون بعد ذلك.(296/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} [غافر:78].
يقول تعالى لنبيه معلماً ومسلياً ليعلم أتباعه والمؤمنين: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ} [غافر:78] فلم تكن في هذا فريداً، ولا شاذاً وفذاً، فقد سبقك أنبياء كثيرون، ولست أنت إلا آخرهم والخاتم لهم، فقد جاء قبلك أنبياء كثيرونَ أرسلناهم لأممهم ولشعوبهم مبشرين ومنذرين، مبشرين أولياءه بالجنة والرضا، ومنذرين أعداءه بالغضب والسحق ودخول النيران.
قال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] أي: ليس الرسل الذين أرسلناهم هم من سميناهم لك فقط، بل هناك الكثير ممن لم نذكر لك أسماءهم، ولم نقص عليك قصصهم، لا في أشخاصهم ولا في شعوبهم ولا في أممهم، وإنما قصصنا عليك سير القليل منهم، الذين اتخذناهم عبرة لك وللمؤمنين معك؛ ليكونوا درساً وعبرة وأسوة، وليكون المؤمن أسوة للمؤمن، والكافر نذيراً وعبرة لمن بقي على الكفر، ولم يذكر الله في كتابه إلا أسماء خمسة وعشرين من الأنبياء فقط، أولهم: أبونا آدم، وآخرهم نبينا محمد عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى التسليم، والذين أرسلوا أكثر من ذلك بكثير، فقد قال لنا ربنا: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، فليس هناك أمة من أمم الخلق والبشر إلا وأرسل الله لها نبياً، ولم يذكر منهم إلا خمسة وعشرين فقط ممن اتخذ من سيرهم وسير أممهم وشعوبهم عظات وعبراً ودروساً لنبيه وخاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من أتباعه.
وهم: آدم وشيت وإدريس ونوح وإبراهيم وولداه إسماعيل وإسحاق وسلالة إسحاق إلى خاتمهم عيسى، وسلالة إسماعيل وهو نبينا عليه الصلاة والسلام.(296/4)
عدد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام
وأما بقية الأنبياء: فقد وردت أحاديث في حصرهم وأعدادهم، فعن أبي ذر الغفاري وأنس بن مالك وأبي أمامة وأبي سعيد الخدري وآخرين، ورويت في التفاسير وفي السنن وفي المسانيد وفي المعاجم، والكثير منها لم يصح، وأصحها حديث أبي ذر، وقد ورد عن كعب: إن الأنبياء السابقين ألفا ألف نبي، أي: مليونان من الأنبياء.
وورد عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم ثمانية آلاف، وعن أبي سعيد: أنهم ألف ألف، أي: مليون من الأنبياء.
وورد عن أنس بن مالك أنهم ألف.
وأصح هذه الأحاديث هو ما أخرجه ابن حبان في صحيحه والآجري وعبد بن حميد في مسنده وآخرين عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي، قال: كم منهم رسل؟ قال: هم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً، جماً غفيراً، كثيراً طيباً).
وهذا الحديث صححه ابن حبان، وذكره في صحيحه، وصححه غيره كـ الآجري وعبد بن حميد والبزار في مسنده.
وهذا الحديث هو أصح ما ورد في أعدادهم، وقد اعتبره ابن الجوزي موضوعاً، وصححه غيره وأكده، وهو أصح الموجود، وكونهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً مع قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] يؤكد العدد والزيادة.
والأمم كثيرة من مضى منهم ومن بقي، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء على الإطلاق، فقد كان نبياً لجميع الأمم التي عاصرته والتي ستأتي، وهو خاتم رسل الله في مشارق الأرض ومغاربها، وقد أرسل للعرب والعجم، فلا نبي ولا رسول بعده إلى قيام الساعة.(296/5)
عموم رسالة الإسلام
لقد كان الأنبياء قبله صلى الله عليه وسلم يرسلون إلى أقوامهم خاصة، ومن هنا يقال: أنبياء بني إسرائيل، فهم أنبياء مخصوصون ببني إسرائيل وهو إسحاق، والنبي: هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول هو كل نبي أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، وكان عدد الكل: مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً، ولكن ديانتهم لم يؤمروا بها إلا في أنفسهم، ولم يؤمر منهم بإعلامها وتبليغها للناس إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً، وهؤلاء هم الذين أرسلوا بالرسالات، وكلهم كانوا رسلاً قوميين، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خصصت بخمس) والخصائص النبوية تتجاوز المائتين، وقد جمعها السيوطي في كتابه (الخصائص الكبرى)، وطبع أكثر من مرة في مجلدين، قال صلى الله عليه وسلم: (خصصت بخمس)، ومن الخمس: (كان الأنبياء قبلي يبعثون ويرسلون إلى أقوامهم خاصة وأرسلت إلى الناس عامة).
فليس هناك دين عالمي إلا دين الإسلام؛ دين محمد عليه الصلاة والسلام، فمن يزعم بأن اليهودية أو النصرانية دين العالمين فقد جهل، وقال الباطل وغير الحق، فهذا عيسى يقول في الإنجيل: (أرسلت إلى بني إسرائيل خاصة)، والقرآن المهيمن على الإنجيل يؤكد هذا المعنى فيقول: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف:6]، فهو لم يرسل إلا إليهم، وهو خاتم أنبيائهم، ولذلك فالنصرانية واليهودية لم تكونا يوماً ديناً إلا لبني إسرائيل، وعيسى من بني إسرائيل، ولم يرسل إلا إلى بني إسرائيل، ومن آمن باليهودية وبالنصرانية حتى في عصرها ولم يكن يهودياً فهو قد آمن بدين لم يطلب منه، وآمن برسالة لم يكلف بها، ولذلك من آمن اليوم من غير اليهود بإحدى الديانتين فقد آمن -لو كان الدين لا يزال صحيحاً- بدين لم يكلف به، فكيف والدين قد غير وبدل وانتقل من دين توحيد إلى دين عبادة أوثان!! فاليهود عبدوا العجل، وعبدوا العزير، وعبد النصارى مريم وعيسى والصليب، وقالوا جميعاً: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فجعلوا لله ولداً، وجعلوا جميع الخلق أولاداً، وذاك منتهى الشرك والوثنية والكفر بالله، على أن ذلك قد نسخ، وما برز محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الديار المقدسة إلا وقد نسخت جميع تلك الأديان، عندما أعلن للناس ما أمره ربه به، قال تعالى: {قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] فلم تبقَ رسالة ولم يبقَ رسول ونبي تجب طاعته والإيمان به والعمل برسالته إلا محمداً صلى الله عليه وسلم ورسالة الإسلام، ومن هنا قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فالدين الحق المقبول الذي أمر به البشر هو الإسلام لا سواه، ومن هنا يقول سيد البشر صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).
وعيسى سينزل في آخر الزمان على دين محمد دين الإسلام عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]، أي: قصصنا عليك قصص بعضهم وسيرة بعضهم، (ومنهم من لم نقصص عليك) فأكثرهم لم يقصوا ولم تذكر أسماؤهم وسيرهم ولا سير أتباعهم وأممهم وشعوبهم.(296/6)
المعجزات لا تكون إلا بإذن الله
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرعد:38].
أي: ما ينبغي ولن يكون أن يأتي رسول وهو رسول حقاً بمعجزة أو بآية أو بدليل أو برهان إلا بإذن الله، فهو رسول الله، والرسول لا يفعل ولا يليق به أن يفعل إلا ما أمره به مرسله جل جلاله وعز مقامه.
ومعنى هذا: أن كل ما صح عن الأنبياء من الآيات البينات، والمعجزات الواضحات، والكتب التي أتوا بها هي جميعاً كانت بأمر الله وبإذنه، ثم بدل وحرف وغير ذلك أتباع أولئك الأنبياء، فلم يبقَ من كتبهم ولا من معجزاتهم شيء صحيح البتة إلا ما ذكر في كتابنا القرآن الكريم المهيمن على الكتب السابقة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} [غافر:78].
فإذا جاء أمر الله بقيام الساعة والقيامة والبعث والنشور بعد الموت قضى الله بالحق بين أمم هؤلاء الأنبياء والرسل، وهو الحق جل جلاله، ولا يصدر عنه إلا الحق، فإما إلى جنة وإما إلى نار.
قال تعالى: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ} [غافر:78] أي: يوم القيامة والعرض على الله ويوم البعث والنشور والحساب يخسر هناك المبطلون، الذين أبطلوا دينهم في الحياة الدنيا وجاءوا بالباطل، وكذبوا الحق وافتروا عليه عندما جاءهم، وأتوا بالباطل وما لم ينزل الله، فهؤلاء هم المبطلون الذين أتوا بالباطل وابتعدوا عن الحق وكذبوا به، والذين سيخسرون إذ ذاك يوم القضاء وإعلان الحق والفصل بين الخلائق، فسيكسب ويفوز الكل إلا الذين أتوا بباطل، والباطل الشرك بالله والكفر به وعصيانه، وهم يعتقدون أن الله جل جلاله وعلا مقامه له ثان وثالث من ولد وبنت وصاحبة وصاحب، تعالى الله وجل عن كل ذلك، فهو الأول والآخر، وهو الفرد الصمد الواحد الأحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله.(296/7)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الأنعام)
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر:79].
أي: يا هؤلاء الذين تنكرون القدرة وأنتم ترونها بأعينكم وتسمعونها بأذانكم وتحسونها بأجسامكم: وفي كل شيء له آية يدل على أنه الواحد فكما أن الله أرسل المرسلين والأنبياء فهو {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر:79]، والأنعام: جمع نعم، وهو جمع الجمع، والنعم جمع لا مفرد له من لفظه، وهي الإبل والغنم والبقر، فيذكر الله عن هذه الأشياء الثلاثة: أنه جعلها لنا للأكل والركوب، فالإبل للأكل وللركوب، والغنم والبقر للأكل.
وقد رأينا في الهند من يعبدون البقرة، ويعذبون الثور، فيركبون عليه ويحملونه الأثقال التي لا تحملها الجمال، وفي الحديث الصحيح: (أن بقرة شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صاحبها يشغلها فيما لم تخلق له) فيركبها ويحملها الأثقال وهي لم تخلق لذلك.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ} [غافر:79] جعلها: خلقها وصيرها لذلك.
{وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر:79] أي: لتأكلوا من بعضها، والأنعام كلها تؤكل إبلاً وبقراً وغنماً، وأما الركوب فالذي نركبه منها هي: الإبل فقط، النوق والجمال، {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} [غافر:79] و (من) بعضية، أي من بعضها، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر:79] أي: وأكلكم منها، فنأكل من جميعها: من الإبل والبقر والغنم، وكل ذلك حلال جائز في هذه الآية.
قالوا: وفي الآية الأخرى ما يدل على تحريم أكل الخيل والبغال والحمير، إذ قال الله هنا: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر:79]، وقال عن الدواب: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] ولم يقل: لتركبوها ولتأكلوا منها، فهي لا تصلح إلا لذلك، فلا تؤكل خيل ولا حمير ولا بغال على ما للفقهاء من نزاع في بعض ذلك.(296/8)
تفسير قوله تعالى: (ولكم فيها منافع)
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر:80].
أي: ولكم مع ذلك منافع في الأنعام، ومن هذه المنافع: أشعارها وأوبارها وصوفها وحليبها وجبنها وما يخرج من بطونها، ومع هذا الركوب والأكل، فكلها منافع، ولذلك الكثيرُ الكثير ممن في الأرض يعيش من الأنعام ويتاجر بها، فأوبارها تصلح للباس وللأثاث، وللخيام ولكل ما يصنع من الصوف ومن الشعر ومن الوبر، وبعضها أثمن وأغلى من بعض كأوداج الإبل مثلاً فهي أقرب نعومة إلى الحرير منها إلى الصوف والشعر.
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} [غافر:80] أي: ولتصلوا بها إلى البلاد التي تريدون لحاجة في صدوركم، من التجارة والسياحة والمعاملة والقتال والحرب على الإبل وما إليها.
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [غافر:80]، ومن المنافع: لتبلغوا بالإبل مثلاً حاجة في الصدور من تجارة وتنمية وقتال وجهاد وسياحة، وإلى ما يشغل بال الإنسان ما دام حياً.
قال تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر:80] تحملون على الإبل بأنفسكم وبأثقالكم في رحلاتكم في البر، كما تحملون بحراً على الفلك، والفلك جمع سفينة على غير لفظها، فالله جل جلاله هو الذي جعل لنا طرقاً ومفاوز ودروباً في البراري وفي البحار وفي الوهاد وفي الجبال، وحملنا في البر على الإبل والدواب، وفي البحر على السفن.(296/9)
تفسير قوله تعالى: (ويريكم آياته)
قال تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} [غافر:81].
أي: يريكم آياته في الآية التي مضت في قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8].
وقد قال حبر القرآن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس: ما عطف الله قوله: (ويخلق ما لا تعلمون) على أنواع المركوبات إلا وهو من جنسها.
فقال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل:8] وهي زينة كذلك، أي: جمال في الدور وعلى أبواب الدور، وقال: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] من أنواع المراكب، ونحن قد أدركنا هذا من السيارات والبواخر والقطارات والطائرات والصواريخ، وصدق فهم ابن عباس الذي دعا له رسول الله عليه الصلاة والسلام بالعلم والفهم، فقد فهم من قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] أنها معطوفة على أنواع المراكب من الدواب إبلاً وخيلاً وبغالاً وحميراً فتكون من أشكالها.
وهنا يقول تعالى ما يشبه ذلك، فيقول: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [غافر:81] أي: يرينا في مستقبل الأيام عند نزول الآية من آياته ومن بديع قدرته وإرادته ما لا يستطيعه ويقدر عليه أحد، فأخبر بالشيء الذي سيكون وألهم به خلقه وبشره قبل ذلك بألف وأربعمائة عام.
قال تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [غافر:81] أي: يريكم أنواع المراكب زيادة على الخيل وعلى ما ذكر في الآية السابقة من الدواب، كالسيارات والقطارات والطائرات والصواريخ والبوارج والبواخر والغواصات في البر والبحر والجو، وذاك من قدرة الله وبديع صنعه، ومعجزات القرآن التي أخبر بها الله جل جلاله وبلغها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم قبل أن تكون بألف وأربعمائة عام أو ما يقرب من ذلك.
وقد جاء حديث يشرح هذا ويبينه ويزيده بياناً وتفسيراً ومعرفة، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن عيسى عندما ينزل من السماء سيحج بيت الله الحرام على غير القلص) والقلص: جمع قلوص، وهي: الراحلة والناقة والجمل التي تركب في السفر، فعيسى سوف يحج على غير القلص، أي: يحج على الطائرات، وما كان الناس يعرفون قبلُ أدواتٍ للركوب إلا الإبل، ولذلك كانوا يقولون: هي سفن الصحراء، والمفسرون فسروا قوله تعالى: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4] وإذا النوق الحوامل عطلت فمعناه قامت القيامة، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، فنحن نعيش الآن وقد عطلت الإبل في أرضها في الصحراء في جزيرة العرب، ولا نعرف الركوب عليها قط، فقد أصبحت كالمتاحف أو في المتاحف، وهكذا العناق في صحاري المغرب وصحاري الدنيا، فلم تعد الإبل أداة للسفر ولا للعمل ولا للرحلة، حتى الأكل قليل من يأكلها، ولكن يستفاد من أوبارها وأشعارها، فهي قد عطلت، وهذا علامة من علامات الساعة، وليست الساعة نفسها، فقد بدلت بأنواع أخرى من الأدوات المصنوعة من الحديد براً وبحراً وجواً، وهذا ما لم يكن يخطر ببال إنسان مضى وقضى.
ومثل هذه الآية والأحاديث كان أسلافنا يعجزون عن تفسيرها وشرحها؛ لأن الحكم عن الشيء فرع عن تصوره، ومن كان يخطر بباله أن يوماً من الأيام سيطير الناس على الحديد؟! وأن هذا الحديد سيحلق في الأجواء ويقطع ما بين المشرق والمغرب في بضع ساعات بعد أن كان يقطعها من قبل في سنة أو أكثر أو أقل! وهذا أيضاً يدل عليه ويؤكده بالمعنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لن تقوم الساعة حتى تصبح السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كساعة، والساعة كاحتراق السعفة)، فأخذوا يفسرون هذا الحديث أن البركة تفيض، وأن الوقت لن يسعَ العمل وغير ذلك، ولكن المعنى واللفظ كما قاله النبي عليه الصلاة والسلام، فما كان آباؤنا الأقربون يحجون من المغرب إلى المشرق ومن أقصى ديار الغرب إلى أقصى ديار الشرق -وقد كان الواحد منهم يحتاج إلى سنة ذهاباً وإياباً- إلا ويكتبون وصيتهم قبل أن يغادروا دورهم وبلدتهم إن ماتوا فكذا وكذا، ونحن اليوم نفطر ونتغدى بالرباط ثم نسافر بالطائرة فلا تمضي أربع ساعات إلا وقد وصلنا، والطيران نفسه يزداد قوة وسرعة يوماً بعد يوم، فمن قبل كان الحمار والفرس والجواد، وأما الآن فالطيران نفسه، وأين الطيران الأول بمحركاته الصغيرة الذي كان أشبه بالجرادة مع طيران اليوم؟! فاليوم نركب الطائرة وكأننا دخلنا إلى مدينة من المدن، ففيها المئات من الأشخاص، وفيها الأفلام والسينما، وفيها المأكل والمشرب، وفيها مكان الوضوء ومكان الاستراحة، وهي تمشي به كما تمشي بنا الأرض.
وإذا لم تكن هناك رياح فلا يكاد يشعر بها الإنسان حتى يهبط في الأرض مرة ثانية، وهل كان يخطر هذا في عقول آبائنا الأولين؟ لم يكن يخطر هذا ببال، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بكل ذلك تفصيلاً وإجمالاً.
قال تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} [غافر:81] أي: يا هؤلاء الذين أنكروا معجزات الله وقدرته وإرادته القادرة على كل شيء: أي آيات الله القديمة أو التي عاصرتموها أو كانت قبلكم أو جاءت بعدكم تستطيعون نكرانها؟ لا يفعل ذلك إلا أحمق أو أرعن قبل أن يكون كافراً جاهلاً، وهل نعيش إلا في المعجزات؟! وكل واحد يفكر في نفسه أولاً، كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، فيفكر من أنا؟ ولم جئت إلى هذا العالم؟ وما الذي يراد مني؟ ومن الذي أعطاني قوة البصر والسمع وهذه الحركة التي أتحرك بها؟ وما الروح؟ قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، ومهما ادعى المدعون وكذب الأفاكون وأنهم علموا من العلوم والمعارف ما سبقوا به الأولين، فسلهم اليوم عن الروح، فسيرجعون رءوسهم ويرجعون بالجهل وبعدم الفهم، وهكذا في جميع العلوم الدنيوية والأخروية لا يعلمون منها إلا كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] أي: قالوا عن جهل بالله وبقدرته وبإرادته وبرسله وبكتبه، والذي يجهلها أيوصف بعلم أو بمعرفة؟! فهم كالأنعام كما قال تعالى: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].(296/10)
تفسير سورة غافر [82 - 85]
لقد دعا الله تعالى المشركين وغيرهم إلى التفكر في الأرض وفي المخلوقات، والنظر في عاقبة الأمم السابقة، والاتعاظ بما جرى لهم، فقد كان المشركون يمرون على ديار بعض الأمم المعذبة فلم يتعظوا ولم يعتبروا، وذلك يدل على غفلة عقولهم، وقسوة قلوبهم، وغلبة الهوى عليهم.(297/1)
تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [غافر:82].
هؤلاء الذين ينكرون قدرة الله وإرادته ووحدانيته من قبل ومن بعد وفي عصرنا سلهم: (أفلم يسيروا في الأرض) ألم يتنقلوا بين القارات والمدائن والقرى فيرون آثار الماضين وقدرتهم في الحضارة، وفي البناء، وفي المال، وفي قوة الأجسام؟ كل ذلك نرى أثره في الأرض، وطالما شاهدنا صخوراً ضخمة فنتساءل: كيف قطعت؟ وكيف نقلت من أماكنها وهي بعيدة في أرض ما؟ وكيف وضعت حجراً على حجر؟ وكيف بقيت وعاشت على القرون؟ وتلك الموميات بأي شيء حفظت حتى بقيت كل هذه القرون؟ وأحد هذه الموميات هو فرعون موسى الذي أبقاه الله لمن بعده آية، فقد ادعى الألوهية، وقالوا: لن يموت الإله، فأبقاه الله بجسده؛ لكي يكون لمن خلفه آية، وبقيت موميات الفراعنة المتألهين عظة وعبرة لكل طاغ متجبر متكبر على الله ممن هلك وممن لم يهلك وهو على سيرة فرعون كذلك.
وهذه الحفريات والآثار يجدون فيها ما بين كل مرة وأخرى جثثاً وهياكل عظمية في الطول والعرض، كما وصف الله قوة أجسام عاد وأمم سابقة، أفلا نأخذ العظة والعبرة والدروس من آثارهم التي نراها في حفريات الأرض ونحن نقطع المشارق والمغارب، ونتنقل بين القارات؟ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا} [غافر:82] نظر العين والبصيرة، {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [غافر:82] أي: كيف كانت عاقبتهم؟ فقد كانت دماراً وهلاكاً ووبالاً.
{كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} [غافر:82] أي: كانوا أكثر عدداً، وأكثر شعوباً، وإذا عددنا اليوم: فالهند نجدهم سبعمائة أو ثمانمائة مليون، فهم كانوا ملياراً، فلم تفدهم تلك الكثرة، ولم تمنعهم من عقاب الله وانتقامه ومن صواعق الله من السماء وزلازله من الأرض.
فالذين كانوا من قبلهم كانوا أشد قوة في سلطانهم وفي سلاحهم وفي حضارتهم، وفي قصورهم وفي آثارهم، وقد قالوا: إن أمريكا اكتشفت منذ خمسمائة عام، وقد اكتشفها العرب الأندلسيون، وقد وجدوا فيها آثاراً للعرب بحروف العرب وكلام العرب، ووجدوا آثاراً لحضارة العرب، وهم كانوا يظنون أن أمريكا كانت قارة مجهولة قبل، ولم يكونوا يعرفون تاريخ البشرية منذ عشرة آلاف عام إلا عن طرق الكتب السماوية، والإنجيل قد بدل وغير وكذلك الزبور والتوراة، ولم يبقَ إلا كتاب الله الذي تعهد الله بحفظه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومع ذلك فالآثار التي تكتشف والحفريات التي تعرف وترى تؤكد كل ما قاله القرآن حرفاً حرفا وآية آية، وسورةً سورة.
وقبل سنتين أو ثلاث كتب فرنسي نصراني كتاباً قارن فيه بين الكتب السماوية: القرآن والتوراة والإنجيل، وقال: كل ما نص عليه القرآن من علوم فلكية وجغرافية وتاريخية وبشرية وإنسانية أكده العلم الواقع، فلم يوجد فيه شيء مخالف للحقائق، وأما تلك الكتب فقد خالفت الحقائق وأتت بالأوهام وبالأكاذيب وبالخرافات، ولقد أتى ذلك ممن زادوا فيها وحرفوها وبدلوها وإلا فهي أيضاً كتب سماوية، ولكن بدلت وغيرت، فقد الله استحفظ عليها رهبانهم وعلماءهم فعجزوا عن ذلك وضلوا وأضلوا.
فهذا الذي قاله الله تعالى ولفت أنظارنا إلى أن نراه بأعيننا، ونبحث في مختلف بقاع الأرض وقاراتها؛ لنزداد إيماناً برؤيته وبقراءته وسماعه، هو حق لا شك فيه ولا مرية، وقد قال عن النصارى عندما جعلوا الله ثلاثة: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:30] أي: في كذبهم أن الله ثالث ثلاثة، والنصارى لم يخترعوا ذلك، فهم كفروا وأصبحوا وثنيين تقليداً، فهم قلدوا من سبقهم، فقال الله: {يُضَاهِئُونَ} [التوبة:30] أي: يشبهون من سبقهم.
وقد كنت مرة في متحف من متاحف النصارى في لبنان فقال لي ذاك المشرف على تلك الآثار والمتاحف: أرأيت هذا الصليب، قلت: رأيت، فقال: مضى عليه آلاف السنين، قلت: كيف؟ أليست النصرانية لم يمضِ عليها أكثر من ألف وتسعمائة سنة وعشرات السنين، قال: لا، قد كان الصليب قبل ذلك بآلاف السنين، قلت: صدق الله: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:30]، فهم في كفرهم مقلدون، وفي وثنيتهم ببغاويون، فدهش من هذا الكلام وكأنه ما سمعه قط، فقال: أصحيح هذا في القرآن؟! قلت: نعم، أنا أقصه عليك وأتلو عليك ما قاله الله في كتابه، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ} [غافر:82] أكثر قوة وآثاراً وحضارة وبناء وعمارة ودراسة وكتاباً، ومع ذلك كانت النتيجة {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [غافر:82]، فلم يفلتوا مع ذلك من عقاب الله، فدمروا وأهلكوا، وجاءتهم صواعق من السماء، وزلازل من الأرض وصيحات أسكتتهم في ساعتها، كما قص الله علينا عن قوم نوح وعاد وثمود ولوط، الذين عاقبهم الله بما عاقبهم، فأرسل عليهم الصواعق من السماء ورجفت الأرض بمدائنهم، وأزيلت من مكان البحر الميت ورفعت إلى أن صار يسمع نباح كلابها ونهيق حميرها ملائكة السماء، ثم قلبها الملائكة بأمر الله رأساً على عقب، فذهبوا كأمس الدابر وكأن لم يكونوا، ثم جاء الملاحدة من روسيا وحفروا حفريات هناك وقالوا: القنبلة الذرية كانت معروفة قديماً، نعم الله خالق الذرة والقنبلة وخالق من صنعها، وهم ينكرون هذا فرأوا آثارهم ونسبوها لمن سبقهم، والأرض الميتة هناك تسمى الآن بالبحر الميت، فهو لا ينبت فيه شجر ولا يعيش فيه سمك، وماؤه لو شرب لا يروي، ولا يطبخ به الطعام، وهذا الماء كان أثراً من آثار قوم لوط عندما عاقبهم الله بفعلتهم الشنعاء التي فعلوها ولم يسبقهم إليها أحد من الخلق قبلهم.
قال تعالى: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [غافر:82] فحضارتهم وقوتهم وشدتهم وكثرتهم لم تغنِ عنهم من عقاب الله شيئاً.
وهكذا يا قريش ويا عرب ويا عجم ويا روم ويا فرس، ويا من كلفوا وأمروا بدين الإسلام وبطاعة نبيه عليه الصلاة والسلام! إن كفرتم وكذبتم وأشركتم فستكون عاقبتكم لعاقبة أولئك، وأين أنتم من أولئك قوة وبطشاً وحضارة!(297/2)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم)
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [غافر:83].
وتجد المفسرين يتكلمون على القرآن وكأن الله ما أنزله إلا على قرن أو على العرب، وتجدهم يقولون: كانت قريش وكان العرب، بل رأيت مجنوناً يجلس في باب الحرم ويقول: كان العرب فيهم وفيهم ونحن لم يكن فينا شيء، والكفرة اليوم فيهم كل ما كان في كفار الأمس، فمثلاً: الموءودة لا تزال إلى اليوم، ويومياً نقرأ في الصحف والمجلات أن هناك في أمريكاً وأوروبا والهند واليابان من يقتلون أطفالهم بعد ولادتهم، وذلك بعشرات الآلاف من الملايين كل سنة، والعرب لم يعد يفعل أحد منهم هذا، فنسبة هذا للعرب أو للعجم فقط جهل.
والقرآن كان الكثير من آياته سبب ورودها فلان وفلان، ولكن ذلك السبب لم يكن هو المقصود فقط، بل كان سبباً ومثالاً ونموذجاً لكل كافر موجود الآن، ومن سيكون بعد، ومن سيأتي إلى يوم القيامة، ومثل هذه الآية: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] أي: جاءت رسل الله عباد الله بالبينات الواضحات والأدلة القاطعة على صدق نبوتهم ورسالتهم وحق ما جاءوا به، ففرحوا بعلمهم، وقالوا: نحن العلماء الذين نعرف ولا يعرف المسلمون، وماذا يعرف الذي يعتمد على كتاب سماوي وكتاب ديني؟! فهذه الأشياء دينية لا نتكلم عنها، فهم فرحوا بما عندهم من العلم، وماذا عندهم من العلم؟ تتكلم مع إنسان فيقول لك: أنا فيلسوف، وأنا أستاذ في الجامعة، وماذا يعرف؟ يعرف حشرة، أو طائرة طارت في الجو، أو أن هناك ما يسمى بالهيدروجين والأكسجين، ويورد من هذه الأسماء، ولم يعلم ذلك إلا عندما رأى الطائرة بالجو ولم يعلمها من قبل، وأخذ ذلك من فعل الله وصفاته، وهو ما قاله الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] أي: يعلمون ظواهر أشياء ولا يعلمون شيئاً عن بواطنها.
ولنتفكر في هذا الجو وما فيه مما يسمونه الأثير أو الهيدروجين أو الأكسجين: من خلق ذلك فيه؟ ومن الذي جعله كذلك لتطير الطائرة؟ وهم يقولون: إن الأرض محاطة بغلاف من تجاوزه يبقى لا وزن له، ويستطيع أن يطير في الجو، وفي العالم الآن ما يسمى بالأقمار الصناعية، يستخبرون بها، ويجعلون فيها الكثير من الأشياء المدنية والعسكرية، وإذا وصلت إلى هذا المكان ودفعت فيه فإنها تبقى عائمة كعوم الأرض والسماء في الجو، فمن حملها غير الله؟ وهم لا يفكرون في هذا الحال، وإنما يفكرون في تلك الأشياء التي خلقها الخالق، فيفكرون في الأسباب ولا يفكرون في المسبب جل جلاله وعز مقامه.
قال تعالى: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] أي قالوا: نحن الذين نعلم وندرك وأما أنتم فماذا تعلمون؟ وقد سمعنا من يدعي أنه أعلم من فلان، وأنه من أبناء العلماء، ويقول: ماذا في الفقه والشريعة: كيف أتوضأ وأستنجي وأستجمر؟! وهذا كلام لا يقوله إلا مرتد كافر.
والقرآن هو كلام الله، وفيه علوم الإسلام، يقول تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، ففيه علم السماء، وعلم الأرض، وعلم جميع العلوم، وعلم الأولين والآخرين، والعلم الذي جهلوه ولا يعلمونه كعلم الخلق والأمر والآخرة، وعلم ما كان وما يكون وما سيكون.
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] فقالوا ويقولون: ألا ينبغي أن نغير التفاسير بما يناسب العصر، ويقصدون بالعصر الكفر، وهل اليهودية والنصرانية هي العصر أم نحن؟ والعصر لا يتغير، وإنما نحن الذين نتغير، فالسماء هي السماء منذ كان آدم، والأرض هي الأرض، والشمس هي الشمس، والقمر هو القمر، ولكن الإنسان هو الذي يتغير، أنحن عبيد لهذا الإنسان فإذا كفر كفرنا، وإذا تهود تهودنا؟! فما فائدة الرسل إذاً إذا كنا سنتبع كل كافر في عصرنا ونكون إمعة، فإن أصابوا أصبنا، وإن أخطأوا أخطأنا؟ وهذا لا يفعله إنسان له مسكة من العقل والفهم والإدراك.
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [غافر:83] أي: نزل بهم وأحاط بهم ما كانوا به يستهزئون، وهزؤهم تكذيبهم بالرسل وبعلوم الإسلام والحق والمعارف، فحاق بهم وأحاط، وأذلهم ودمرهم، وكان سبب هلاكهم وضلال عقولهم وقلوبهم وظلمهم.(297/3)
تفسير قوله تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده)
قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر:84].
لما جاء البأس والبلاء والغرغرة بالموت والعذاب ورأوا واقعاً مشهوداً ما كان غيباً أرادوا الإيمان، وقالوا: أمنا بالله وحده، وكفروا بالشركاء؛ كفروا بالثاني والثالث وما كانوا يعبدونه في دار الدنيا، وكفروا بما كانوا يشركون به، فكفروا بعيسى وبـ مريم وبالعزير وبالأصنام، ولكن هيهات هيهات، فالآن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل حال حياتها، أو كسبت في إيمانها خيراً، والإيمان عند الغرغرة قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (لا ينفع نفساً لم تكن آمنت قبل أن تغرغر).
فإذا وصلت الروح إلى الحلقوم وأخذ يغرغر ويحشرج بالروح، فهيهات هيهات؛ لأنه في ذلك الوقت يكون قد رأى الملك، ورأى الجنة والنار، وما كان إيماناً بالغيب أصبح يراه شهوداً، وهو أمر أن يؤمن بما أنزله الله في كتابه وفي سنة رسوله، فإن كذب ذلك كان كافراً مشركاً.
قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:84] أي: عذابنا ونقمتنا وموتنا وقد وصلت الروح إلى الغرغرة والحلقوم، {قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر:84].(297/4)
تفسير قوله تعالى: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا)
قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85].
يقول تعالى جل جلاله: {لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:85] أي: لما رأوا البأس والعقاب والدمار لم يكن ينفعهم إيمانهم ولا يقبل منهم، فلا توبة ولا إيمان ولا عمل صالح، ولهذا ليس هناك بعد الموت عمل ولا تكليف ولا طاعة، فالطاعة يجب أن تكون قبل الموت، وكذلك الإيمان والعمل الصالح، وأما بعد وقوع العذاب ووصول الروح إلى الغرغرة فلا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل.
قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر:85] وسنته: عادته {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].
وعادة الله في خلقه أنه لم يكن يقبل من الأمم السابقة أن تؤمن بعد الموت، ولا أن تؤمن وقد وصلت الروح إلى الحلقوم، ولم يفعل ذلك، والله قص علينا قصة فرعون فقال: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، فقال الله له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:91 - 92]، فلم يقبل الله إيمانه ولا إسلامه، وقال له: هل آمنت الآن وقد أصبح الإيمان شهوداً عياناً، وقد كنت من قبل مفسداً طاغياً متألهاً جباراً؟ وهكذا سنة الله في الأمم السابقة قبل فرعون وبعده، وإلى اليوم وإلى قيام الساعة، فلابد من الإيمان والإنسان حي، ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يحضنا ويحثنا بأن نتدارك حياتنا قبل موتنا، وشبابنا قبل شيخوختنا، وقوتنا قبل ضعفنا، وفراغنا قبل شغلنا، وأما إذا فات الوقت فهيهات، وكما يقول أصحاب الرقائق والآداب والحقائق: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
قال تعالى: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85] (هنالك) أي: يوم القيامة والعرض على الله، وهو يوم {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:158]، ويوم يحاول الكفار أن يؤمنوا ويسلموا وأن يكفروا بشركهم، وبما كانوا يفعلونه في دار الدنيا، وهيهاتَ هيهات أن يقبل ذلك، وهنالك يوم العرض على الله ويوم القيامة ويوم الساعة يخسر الكافرون الذين كفروا بالله رباً واحداً، وكفروا بنبيه عبداً ورسولاً وخاتماً للأنبياء، وكفروا بكتب الله، فلم تنفعهم الدنيا وما عليها ليفتدوا بها، وماذا يصنع الناس بالذهب وبالفضة يوم القيامة؟ فمن هو في الجنة فهو في غنى عنهما، ومن هو في النار لو أخذه لذاب واحترق به، ولأصبح عذاباً من عذابهم، وبهذا نكون -ولله الحمد- قد ختمنا سورة غافر، سورة المؤمن، وهي أول سورة في الحواميم.(297/5)
تفسير سورة فصلت [1 - 6]
القرآن الكريم كتاب الله المحكم، فصلت آياته ووضحت عباراته باللغة العربية، ولكن الجاحدين يعرضون عن الإذعان له وكأنهم لا يسمعون، بل يجاهرون بأن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقر، فالله يتكفل بجزائهم وعقوبتهم.(298/1)
سبب نزول سورة فصلت
قال ربنا جل جلاله: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:1 - 4].
هذه السورة سورة مكية، نزلت في مكة المكرمة، وهي مشتملة على 54 آية.
وأول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم -ولعل ذلك كان سبب نزولها- أنه اجتمع كفار قريش في ناديهم حول الكعبة المشرفة فقال قائل منهم -قيل هو أبو جهل -: لقد التبس علينا أمر محمد، فهذا الذي أتى به ودعا إليه ما هو؟ هل هو سحر أم كهانة أم شعر؟ وكان عتبة بن ربيعة أعلمهم بالشعر وبالكهانة وبالسحر وكان سيداً من ساداتهم وكبيراً من كبرائهم، فقالوا له: يا أبا الوليد اجتمع بمحمد واسمع خبره وكلمه لعله يكف عما هو قائم به نحونا.
وكان ذلك منهم عندما أسلم حمزة وعمر معاً وأخذ أتباع النبي عليه الصلاة والسلام يكثرون يوماً بعد يوم.
فجاء إليه عتبة وقال: يا محمد! يا أبا القاسم! لم تر العرب رجلاً مثلك شتت قومه وعاب آباءه، وشتم دينهم وذكر أبناءهم وآباءهم بسوء، فما هذا الذي أتيت به؟ هل أنت خير أم أبوك عبد الله أم جدك عبد المطلب أم جدك هاشم أم جدك قصي؟ والنبي عليه الصلاة والسلام ساكت لا يجيبه.
فأخذ يزيد ويقول له: إن كان هذا الذي بك مرض جمعنا لك من أموالنا، حتى نأتيك بأطباء يعالجون مرضك، وإن كنت تريد الملك ملكناك علينا ورفعنا راياتك على رءوسنا، وإن كانت بك الباءة زوجناك عشراً من عقائل قريش، وإن كان بك المال جمعنا لك من المال حتى تكون أغنى رجل في قريش أنت وعقبك! فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أفرغت يا أبا الوليد؟! قال: نعم.
قال: فاسمع مني، قال: كلي لك سمع! فقرأ عليه النبي عليه الصلاة والسلام: بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:1 - 4]، إلى أن تلا إلى قوله تعالى {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13])، وإذا بـ عتبة عندما وصل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى هذه الآية يضع يده على فمه ويقول: نشدتك الله والرحم التي بينك وبيننا، فأتم السورة إلى أن وصل إلى السجدة فسجد وعتبة يرى ذلك في ذهول، ثم تركه وذهب إلى قريش فقالوا قبل أن يصل: والله لقد عاد إليكم عتبة بغير الوجه الذي ذهب به إلى محمد! فجاء فقالوا له: ما وراءك؟ فقال لهم: اجعلوها علي ودعوا محمداً وما يدعو إليه واعتزلوه واتركوه للعرب، فإنهم إن غلبوه كفيتموه وإن انتصر عليهم فملكه ملككم وعزّه عزّكم وشرفه شرفكم، فوالله لقد قلت الشعر وسمعته فما قوله بالشعر، ورأيت الكهانة واستعملتها فما قوله بالكهانة ولا هو بالكاهن، ورأيت السحر واستعملته وما هو بالساحر ولا قوله بالسحر.
فصاح فيه أبو جهل وقال له: يا أبا الوليد! لقد صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه، فغضب عتبة وقال: والله لا كلمت محمداً بعد اليوم، وإنكم لتعلمون أني أكثركم مالاً وأرفعكم نسباً.
فكانت هذه السورة وهي إحدى الحواميم التي قال عنها ابن مسعود وابن عباس: الحواميم لباب القرآن، وقالوا عنها: هي عرائس القرآن.
وكان شعار النبي صلى الله عليه وسلم وكلمة السر في بعض غزواته: حم لا ينصرون.(298/2)
الكلام على الحروف المقطعة وبيان خلود معجزة القرآن
قال تعالى: {حم}.
هذه الحروف المقطّعة في تفسيرها، هل هي كلمات ورموز لمعان؟ وهل هي أسماء للسور التي يبتدأ بها؟ حكي في ذلك الكثير من الأقوال، وقد تكلمنا على ذلك في بداية سورة البقرة وقلنا: إن معناها: أن هذه الحروف المقطّعة هي أجزاء من حروف الهجاء العربية التي ينشأ منها كلام العرب، فبها نطق القرآن وبها تكلم الله، فيا أيها السامعون من العرب ومتقني لغة العرب! القرآن نزل معجزاً في اللفظ وفي المعنى، فإن استطعتم أن تأتوا بمثله فأتوا، ولن تستطيعوا ولو كان بعضكم لبعض ظهيراً، ولو تواطأ الجن والإنس على ذلك لعجزوا ولما استطاعوا.
وتفسير ذلك كأن يقول مثلاً الطبيب الكيميائي: الإنسان عبارة عن عناصر ماء وفحم وكربون وملح وسكر وما إلى ذلك من العناصر الأخرى، ويقول لك: هذه المواد أمامك فاصنع منها إنساناً كما صنعه الله جل جلاله، فإن الله تعالى يقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [غافر:67]، إلى بقية الأطوار، وها هو التراب أمامكم فخذوا منه وزن رجل واصنعوا منه إنساناً، أو اصنعوا من النطفة إنساناً! أيستطيع أحد ذلك؟ ذلك هو الإعجاز، وذلك هو كلام الله المعجز في لفظه ومعناه.
وقد يأتي إنسان إلى بناء عظيم الطول والعرض، شاهق في عنان السماء، فيعجبه شكله وهندسته ومكانته ويبني مثله، أما أن يأتي بكتاب في البلاغة والفصاحة والإعجاز كالقرآن فما كان ذلك ولن يكون يوماً من الأيام.
وقد حاول المتنبئون الكذبة منذ مسيلمة الكذاب الدجّال إلى المعري -فيما ذكروه- أن يُعارضوا القرآن ويأتوا بمثله، فأتوا باللفظ المضحك الذي يضحك الثكلى وتنسى موت ولدها وحزنها وبأسها وما ابتليت به.
وكتاب الله هو المعجزة الدائمة المسترسلة المستمرة التي آمن بها من سبقنا في عصر الصحابة والنبوة، ونحن جئنا بعدهم بأربعة عشر قرناً والأمر كما قاله كتاب الله، لم يستطع أحد خلال هذه القرون المتطاولة أن يأتي بمثله أو بسورة منه، فقد بقي معجزاً في لفظه ومعناه، وتلك معجزة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم الدائمة كما أخبر عنها الله، وجميع المعجزات الماضية أدت مهمتها وقامت بوظائفها فآمن بها من آمن وانتهت بموت من أتى بها.
وأما القرآن فهو المعجزة الدائمة المستمرة الذي يرى كل جيل معجزته، سواء جاء في عصر القرآن أو من بعده إلى يوم القيامة، فهذا الكتاب العظيم هو كلام الله وخاتم كتبه بما فيه من إعجاز لفظي ومعنوي.(298/3)
تفسير قوله تعالى: (تنزيل من الرحمن الرحيم)
{تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2].
أي: هذا الكتاب المنطوق به المكون من مثل حروفكم هو تنزيل من الرحمن الرحيم، أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، نزل به الروح الأمين على قلبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو تنزيل من الرحمن الرحيم، أي: من الله الكريم، وليس هو قول محمد صلى الله عليه وسلم ولا قول أحد من الخلق، فهو صلى الله عليه وسلم لبث فيهم عمراً من دهره ومن حياته، وكان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب، فمن أين له هذه العلوم والمعارف التي تجاوز بها علوم الأولين والآخرين؟ وكما قال العارف: كفاك بالعلم في الأميّ معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم فقد عاش أربعين سنة بين قومه وكلهم أميون، وكلهم لا يحسبون ولا يكتبون وهو منهم، ثم جاءه جبريل روح الله في غار حراء وقال له: اقرأ، فقال: (ما أنا بقارئ؟)، فأخذه وضمه إليه أولاً وثانياً وثالثاً وهو يقول: (ما أنا بقارئ؟)، أي: أنا أمي، فقال: اقرأ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] ومن يومئذ ألهم الله تعالى نبيه وخاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم، وأوحى إليه من العلوم والمعارف ما لم يسبقه فيها أحد منذ آدم أبي البشر إلى عصره، وما أعلم منه إلا الله جل جلاله، فلقد أحاط بعلوم الأولين والآخرين.
وقد خطب صلى الله عليه وسلم يوماً في مسجده النبوي في المدينة المنورة خطبة ابتدأها عقب صلاة الصبح ولم ينهها إلا عند صلاة المغرب، فلما أذّن الظهر نزل فصلى ثم صعد المنبر، ولما أذّن العصر نزل فصلى ثم صعد المنبر، وبقي إلى أذان المغرب، وقد ذكر في هذه الخطبة التي استمرت أكثر من عشر ساعات ما كان وما يكون من بدء الخلق من يوم خلق السماوات والأرض، وتكلّم على خلق الدنيا وخلق بني آدم والخلائق وما كان من الأنبياء وأممهم إلى حياته، وتكلم على ما بعده إلى يوم القيامة والحشر والنشر، وتكلم على الجنة ومن يدخلها وعلى النار ومن يدخلها.
وقد قال الرواة الذين حضروا هذه الخطبة وهم العشرات من الصحابة منهم عمر وعلي وحذيفة بن اليمان وأبو هريرة وغيرهم: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما كان وما يكون إلى قيام الساعة، ما من قائد فتنة ومعه رجل أو رجلان إلا وحدثنا باسمه واسم أبيه ونسبه والوقت الذي سيظهر فيه، ما من طائر يطير في السماء إلا وذكر لنا منه علماً، ولكن أعلمنا أحفظنا).
وقال حذيفة: إني أنسى الشيء زمناً ثم أراه كما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، فأتذكّر قوله وكلامه، فأذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد حدّثنا عن ذلك يوماً.
قوله: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2]، أي: هذا القرآن تنزيل من الله الرحمن الرحيم، وليس كما زعم الكفرة الفجرة غير البررة بأن هذا القرآن من صنع بشر، وقد تمالأ عليه أقوام آخرون، بل هو وحي الله وكلامه أرسل به جبريل روح الله إلى قلب خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(298/4)
تفسير قوله تعالى: (كتاب فصلت آياته)(298/5)
معنى قوله تعالى: (فصلت آياته)
قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:3] وهذه كلمة من مبتدأ وخبر، ومعناها: أنه كامل، فهو كتاب بيّنت آياته ووضّحت، وقد تكلم هذا الكتاب بتفاصيل الحلال والحرام والعقائد والآداب، وتكلم عن الأنبياء وعن شعوبهم وعمن آمن من هذه الشعوب ومن كفر، وكيف خلق الله السماوات والأرض، وكيف خلق الملك والجن والإنس، فقد احتوى هذا الكتاب على كل شيء، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] ففيه خبر من قبلكم ونبأ من بعدكم وما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، وما حكم به مؤمن إلا وأعزّه الله وشرّفه.
قوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:3] أي: فصّلت وبيّنت ووضّحت وتكلمت بتفاصيل الأحكام وما ينفع البشر في دنياهم وما ينفعهم في أخراهم وما ينفعهم فيما بينهم وبين أسرهم ومجتمعهم وحكّامهم وأعدائهم وإخوانهم.
ففيه كل ما يفيد البشر والجن، وفيه ما لو تمسكوا به لسعدوا به سعادة الدنيا والآخرة، وفيه كل شيء تقر به عين المؤمن وتذل به نفس الكافر، كما قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3].
أي: ومع هذا أنزله الله تعالى قرآناً عربياً، أي: أنه نزل بلغة العرب وبقواعدهم نحواً ولغة ومعاني وبديعاً، ولذلك يُفهم القرآن كما تُفهم لغة العرب الفصحى بقواعدها من مرفوع ومنصوب ومجرور، وبقواعدها من الاستعارة والصراحة والمجاز والكلام البيّن بلا مجاز، ومن هنا فسّره علماؤنا تبعاً لتفسير الصحابة له.
والعرب كانوا يتكلمون بعربيتهم الفصحى سليقة وفطرة، ولم يكونوا يحتاجون لـ سيبويه الفارسي ولا للأصمعي ولا للكسائي؛ لأن القرآن نزل بلغتهم جملاً ومفرداً، فكانوا يفهمونه مباشرة، ولكنهم مع ذلك كانوا بشراً، وكان لكل قوم لهجتهم، ولذلك كان هناك من يفهم القرآن فهماً بيّنا واضحاً ومن يفهمه فهماً خاطئاً، ومن هنا نزل القرآن الكريم بلغة قريش، ونزل على أفضلهم أكرمهم وأنبلهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، سيد العرب لغة وفصاحة ونسباً وحسباً، وقد كلفه الله بفهمه وشرحه وبيانه، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].
وقد تنازع العلماء والصحابة في بيان وتفسير النبي عليه الصلاة والسلام لبعض الآيات؛ لأنه وإن نزل بلغة قريش فقد كان يكثر أن يتكلم النبي عليه الصلاة والسلام فيسأله سائل من العرب من أهل قريش: ما معنى هذه الكلمة يا رسول الله؟! كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يُكذّب الصادق ويُصدّق الكاذب، ويؤتمن الخائن ويخوّن الأمين، وينطق فيكم الرويبضة، فقال قائل: ما الرويبضة يا رسول الله؟! قال: المرء التافه يشتغل بأمر العامة).
وهذا كزعماء عصرنا ورؤساء أحزابهم ونواب برلماناتهم المتكلمين في شئون العامة من الجهلة أشباه الأميين الذين قد يعرفون اللغة الفرنسية والإنجليزية ولا يعلمون عن الشريعة وعن دين الله وعن لغة كتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم قليلاً ولا كثيراً، فهم كالأعجام في ذلك أو أكثر.(298/6)
أهمية لغة القرآن
قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] فقد نزل هذا الكتاب على قوم يعلمون لغة العرب ويفهمونها ويعلمون دقائقها وظواهرها كما يعلمون بواطنها، ولذلك لا يعذرون في الكفر بها، وكانوا هم الذين نشروا لغتهم بعد ذلك بعد الوفاة النبوية وعند زحف عرب الجزيرة بقيادة قريش بعد أن هداها الله للإسلام في عهد الخلفاء الراشدين وخاصة أبا بكر وعمر.
فخرجوا بالإسلام عن حدود الجزيرة وضموا إليه أقاليم وشعوباً كأرض الشام والعراق وفارس ومصر والمغرب، ونشروا دينهم الذي هو دين الله بلغة الإسلام ولغة العرب، وما كاد ينتهي الجيل الأول حتى جاء الجيل الثاني وكان يتكلم العربية كأهلها، بل إن بعضهم كان أعلم بها من أهلها، ولم تتبلبل ألسنتهم وتختلط بلهجات فارسية أو حبشية أو رومانية، فقد تعلموها منذ الصغر فنطقوا بها بلهجاتها كما كان ينطق بها عبد المطلب وكما كان ينطق بها الأصحاب في الحياة النبوية.
وعندما ننظر إلى علوم الإسلام على اختلاف فنونها وأنواعها نجد أن أئمتها غير عرب، فمثلاً نجد إمام النحو العربي هو رجل فارسي، ولا يزال اسماً فارسياً، وهو سيبويه، والذي قاد المحدثين إلى جمع الصحيح وكان كتابه أعظم كتاب بعد كتاب الله هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه الجعفي البخاري، فهو جعفي ولاءً وبخاري حسباً ونسباً، وقل مثل ذلك على أكثر أئمة علوم وفنون الإسلام لغة وبياناً وقرآناً وحديثاً وجميع علوم الإسلام.
والعلم بالتعلم، وقد تعلم أبناؤنا ومعاصرونا لغة الأوروبيين والأمريكيين على اختلاف لهجاتهم وما تجاوزوا به الحد، وكان ذلك على حساب لغتهم العربية لغة الإسلام، ويا ليتهم عندما تعلموا ذلك تعلموا العربية بقواعدها وفنونها؛ حتى يستطيعوا فهم كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد تجد بعضهم أساتذة كباراً في جامعات كبرى وأساتذة لدراسات عليا إذا نطق أحدهم بلغة العرب خطيباً أو متكلماً أو كاتباً تجده يلحن ويحرف الكلام عن مواضعه، وهذا الذي يكون كذلك إذا فهم آية أو حديثاً فإن فهمه لهما يكون محرفاً، ومن هنا تضاءل العلم ورجع إلى الوراء.(298/7)
بدعة ترجمة القرآن
قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [فصلت:3] هذا المعنى ذكر في غير ما سورة وآية؛ ليؤكد به عربية القرآن، ومعنى ذلك: أن من يحاول ترجمته أو نقل معانيه أو ألفاظه فمهما صنع فلن يصل إلى الحقيقة البتة.
ويوجد اليوم بين الناس من يزعمون أنهم ينشرون الإسلام ويترجمون كتاب الله إلى مختلف لغات الأرض، وتلك بدعة في هذا العصر ومصيبة لم تكن في عصر الصحابة رضي الله عنهم، ولم تكن في عصر التابعين، بل ولم تكن من قبل مائة سنة؛ لأن لغة القرآن يجب تعلمها كتعلم القرآن فرضاً لازماً على كل مسلم، وطلب العلم فريضة على كل مسلم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والقرآن عربي ونبي الإسلام عربي والسنة عربية، ولا يتم فهم القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتعلم لغة العرب وإلا ضل الناس وأضلوا كما حدث في عصرنا.
ونحن نعلم أشخاصاً أئمة في الدعوة إلى الإسلام ولا يعرفون العربية فأخطؤا وزلوا بما يعتبر خروجاً عن الإسلام؛ نتيجة جهلهم بلغة الإسلام وبلغة القرآن، وبلغة النبي عليه الصلاة والسلام التي هي لغة السنة المحمدية ولغة الحديث الشريف، في حين أن عمر رضي الله عنه عندما خرج فاتحاً بجحافل المسلمين وقبله أبو بكر رضي الله عنه ومن جاء بعدهما ممن وصل إلى الصين وإلى عمق أوروبا وما بينهما، كانوا يعلمون العربية مع لا إله إلا الله؛ لأنه بدون تعلمها لا يُعرف كتاب ولا سنة ولا إسلام.
ولم يكن هناك مترجمون ولم يكلفوا أحداً بالترجمة لا من أنفسهم ولا من الشعوب المفتوحة، وإنما كانوا يعلمون اللغة العربية للأجيال الصغيرة، وكانت تكفيهم سنتان أو ثلاث سنين ليتعلموها، كما هو حاصل اليوم عندما نرسل أطفالنا إلى المدارس الابتدائية أو الثانوية، فإنه لا يكاد يمر على ذلك سنتان أو ثلاث سنوات إلا ويتحدثون الإنجليزية والفرنسية أحياناً أكثر من أهلها فهماً وبلاغة وكلاماً، ويكون على حساب لغتهم العربية، فقد أصبحوا يجهلونها، وإذا علموا منها شيئاً علموا سطحها مما لا يكادون يفهمون به حكماً من أحكام الله في كتابه أو حكماً من أحكامه في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وعلى ذلك فالترجمة لا تجوز بحال إلا عند البيان.(298/8)
نشر اللغة العربية مع الإسلام
وكما يجب نشر الإسلام يجب نشر لغته، ولقد كان الأمر كذلك منذ القرن الأول إلى بعد القرن الثاني الهجري بقرنين أو ثلاثة قرون إلى مدة مائتي سنة، حتى جاءت وثنية الوطنية والقومية فتعصب لذلك؛ نتيجة نفاق المنافقين وكفر الكافرين وصد الصادين عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وابن تيمية في كتابه (الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) والذي ينبغي أن يسمى: الدولة العربية الإسلامية قال: لقد كان المسلمون في عصرهم الثاني في جميع شعوبهم عرباً وعجماً وفرساً وروماً وأحباشاً وهنوداً وعلوجاً يتكلمون العربية كأهلها.
وفي عصره جاء الرحالة المغربي ابن بطوطة من أرض طنجة من المغرب ورحل لمدة ثلاثين عاماً في ديار المسلمين في المشارق والمغارب والشمال والجنوب، ولم يكن يعرف إلا اللغة العربية، فكان يتكلم بها مسافراً ومهاجراً ورحالة، وتقلد في أكثر هذه الأقطار مناصب عالية كحاكم وقاض، وما كان يتكلم إلا بلغته العربية فيفهمون عنه ويفهم عنهم، وتزوج زوجات في كل مصر دخله زوجتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وكن يمتنعن من السفر معه فيطلقهن ويترك لهن أولاده، فلم يعودوا يتصلون به.
فهو كان عملياً يتكلم اللغة العربية وكانت كل شعوب الإسلام تتكلم بها.
فـ ابن تيمية ذكر هذا علماً، وابن بطوطة المغربي ذكر هذا جلوساً ووقوفاً بنفسه على ذلك، وما تغير هذا إلا منذ قرنين بعد فساد الأزمان وانتشار الجهل وتولي الكافرين مصالح المسلمين وشئونهم، فاخترعوا لهم التعصّب للوطن وللأقوام، وهي عقائد وثنية جاهلية.
والمسلم جميع ديار الإسلام وطنه، وجميع المسلمين إخوانه؛ ولذلك الكفرة من بعض الحكام إذا أرادوا امتحان موظف سألوه: هل المواطن اليهودي أو النصراني أقرب إليك أو المسلم الهندي أو الأندونيسي؟ فإن قال: المسلم أخي حيث كان أسقطوه ولم يعدوه وطنياً أو قومياً، مع أن كتاب الله وعقيدة المسلمين على خلاف ذلك، والله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
فالمؤمن أخي حيث كان في أرض الله، في أمريكا أو في أوروبا أو في الهند أو في الصين، فجميع من قال: لا إله إلا الله فهو أخي، وليس أخي من أشرك بالله ولم يؤمن بالإسلام ديناً ولو كان من أقرب الأقربين إليّ، فذاك أخي؛ لأن الله آخى بيني وبينه، وذاك عدوي أو تحت ذمتي وليس أخاً لي بحال من الأحوال.(298/9)
معنى قوله تعالى: (لقوم يعلمون)
إذاً: فقوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3].
أي: لقوم يدركون ويفهمون لغة العرب، ولا حجة بعد ذلك لهم، فمن لا يعرفها يتعلمها ويدرسها، وإن كان كبيراً ترجم له (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وما يتعلق بالصلوات.
ومن هنا لابد أن يعلم الكل أن الصلاة التي هي في الدرجة الثانية بعد كلمة الشهادتين لا يجوز أن يُقرأ فيها بلغة العجم قط، بل لابد أن تقرأ الفاتحة بالعربية والسورة بالعربية، فمن لم يفعل ذلك عد متلاعباً ولم يصل أبداً.
وكذلك أذكار الحج من التلبية، وغيرها كلها كذلك يجب أن تكون بلغة العرب.
والتلاوة إذا كُتبت بالحروف اللاتينية أو تُرجمت ثم قرئت لا تُعتبر تلاوة ولا أجر عليها ولا ثواب، بل القارئ بذلك يعود بالوزر وبالخزي؛ لأنه حرّف كلام الله العربي ونقله إلى لغة ليست عربية لم ينزل الله الوحي بها.(298/10)
تفسير قوله تعالى: (بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون)
{بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4].
قوله تعالى: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فصلت:4]، أي: حال هذا القرآن ونزوله أنه نزل بشيراً لأوليائه المؤمنين، يبشرهم بالجنة وبالطاعة وبالرضا، ونذيراً للكافرين وللمشركين ينذرهم بعذاب الله وبالنار وبخزي الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4]، أي: أعرض أكثر الناس وابتعدوا وأعطوا ظهورهم لدعوة الله وللا إله إلا الله، ولدعوة الرسل ولدعوة خاتمهم صلى الله عليه وآله وسلم، فأعرضوا عن ذلك، {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4].
أي: لا يريدون سماعاً، فقد أصموا آذانهم وابتعدوا عن الفهم وعن الوعي، فهم كالصم الذين لا يسمعون، وإن سمعوا فهم لا يفقهون ولا يفهمون ولا يعون.(298/11)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه)
قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5].
أي: أنهم لا يسمعون ولا يريدون السماع، ومع ذلك فإنهم وبكل تحد وشرك وكفر يقولون: قلوبنا في أكنة، أي: إن القلوب التي تفهم وتعي وتحفظ وتسمع في أكنة: جمع كنان، أي: في أغطية مغلفة فهي لا تسمع، قد غطاها الران، ولذلك يقولون لأنبيائهم وخلفاء أنبيائهم من العلماء والدعاة إلى الله: لا تسمعونا فنحن قلوبنا مغلّفة لا تسمع ولا تحفظ ولا تعي.
فالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يدعونهم إلى لا إله إلا الله وإلى الإسلام وإلى التزام الحلال وترك الحرام، وإلى الآداب وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وإلى مؤاخاة كل مسلم ومعاداة غير المسلم؛ وهم يقولون لهم: دعوتكم إلى التوحيد والحلال والحرام والرقائق والآداب لا تسمعها قلوبنا ولا تفهمها، فهي مغلّفة ومغطّاة، فلا تتعبوا أنفسكم.
((وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ)).
أي: يقولون إن في آذانهم صمماً، والأصم لا يسمع، وآذاننا: جمع أذن، وقر أي: ثقل وصمم، فهم لا تسمع آذانهم ولا تعي قلوبهم.
{وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5]، أي: بيننا وبينك يا محمد! حجاب من الكفر ومن الفسق، فقد حجبوا أنفسهم خلف الكفر فكفروا بالله وبكتابه وبرسالة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فحجبوا أنفسهم بالشرك وبالجحود وبالضلال وبارتكاب المعاصي والمخالفات على كل أشكالها وأنواعها.
{فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5].
أي: اعمل على دينك وعلى توحيدك واصنع ما تشاء في نفسك.
((إِنَّنَا عَامِلُونَ))، أي: أنهم عاملون بكفرهم وبشركهم، وعلى حسب صممهم والأغلفة التي على قلوبهم والحجب التي حجبوا بها قلوبهم وعقولهم من الشرك والكفر عن سماع كلمة الحق والتوحيد.
وهذا وإن كان وصفاً للكفار المعاصرين فهو وصف لكل كافر قبلهم وبعدهم، وفي عصرنا شاهدنا هذا وعلمناه وعاشرنا أصحابه، فإنك إذا أسمعتهم كلمة الله وشعروا بأن الحاضرين على وشك أن يسمعوا ويفهموا ويتقيدوا به صاحوا: لا نريد أن نسمع، ونحن لا نعقل، وآذاننا لا تقبل هذا، هذا تخريف ورجعية! فالكفر واحد، ولذلك فالكافر يرجع لكفر آبائه وأجداده في الجاهلية.
والمسلم هو الذي يجدد الإسلام في كل حين ويبينه كما بيّنه السلف الصالح من غير تحريف ولا زيادة ولا تأويل.
((فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ))، أي: فليعمل النبي والمؤمنون على دينهم وبمقتضاه فإنهم سيعملون حسب ظنهم وكفرهم وشركهم، وحسب ما هم فيه من غضب ولعنة.(298/12)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6].
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ومع ذلك لست إلا عبداً من عبيد الله وبشراً كبقية البشر، آكل كما تأكلون، وأمشي في الأسواق كما تمشون، وأمرض كما تمرضون، وأجوع كما تجوعون، وأسرّ كما تسرّون، وأتألم كما تألمون، ولكنني أزيد عليكم بأن الله أوحى إلي وجعلني رسوله ونبيه إليكم.
وقد كانوا يتصورون أن النبي لا يكون إلا ملكاً، ولا يمكن التفاهم بين الملك والبشر، ولو حضر الملك على خلقته الأصلية لفجعوا وفروا، ولربما أصابهم الصرع والصمم فعلاً، وربما ذهلوا عن أنفسهم وغابوا عن عقولهم، ولو نزل بشراً -كما كانت الملائكة في بعض الأحيان تنزل على نبي الله عليه الصلاة والسلام- لقالوا له: أنت بشر ولست ملكاً، ولا يؤمنون، وهم ليس لهم خيار في ذلك وإنما ضلت عقولهم وأخذوا يهرفون بما لا يعرفون.
فقوله تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ))، أي: قل يا محمد! شكلي شكلكم ونوعي نوعكم، ولي أب وأم وزوجة وأولاد كما أن لكم ذلك.(298/13)
تفسير سورة فصلت [9 - 14]
خلق الله السماوات والأرض وما بينهما بقدرته، وقدر فيهما الأقوات والأرزاق والأعمار وما يصلحان به؛ كل ذلك في أيام معدودات، وهو الذي إذا أراد الشيء قال له (كن) فيكون، فحقه أن يعبد وحده لا شريك له، ولا نعرض كما أعرض قبلنا عاد وثمود فأخذتهم الصاعقة.(299/1)
تفسير قوله تعالى: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها)
قال ربنا جل جلاله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:9 - 10].
الله جل جلاله خلق السماوات والأرض في ستة أيام؛ فقد خلق الأرض يوم الأحد، وشق الجبال والبحار يوم الإثنين، وجعل فيها أقواتها وأرزاقها وما تحتاجه إليه يوم الثلاثاء، وخلق فيها دوابها وطيورها وأنعامها في يوم الأربعاء، وخلق السماوات يوم الخميس، وأوحى يوم الجمعة في كل سماء أمرها من الملائكة ومن البحار ومن الأقمار ومن الشموس ومن خلق الله الذي في كل سماء مما لا يعلمه إلا هو جل جلاله وعزّ مقامه، وذاك معنى قوله في غير آية من الآيات: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، وقوله: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف:33].
وقد جاء اليهود إلى النبي عليه الصلاة والسلام سائلين: متى خلقت السماوات والأرض؟ ومن خلق أولاً هل السماء أم الأرض؟ فقال لهم ما قاله ربنا ثم سكت.
فقالوا له: أتمم يا أبا القاسم! خلقها في ستة أيام ثم استراح، فغضب صلى الله عليه وسلم منهم، فأنزل الله قوله: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف:33] وقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، أي: لم يحصل له إعياء ولا تعب، وكل ذلك لم يكلف أكثر من أن يقول: كن فيكون، فلم يكن في ذلك لغوب ولا تعب ولا إعياء ولا مشقة.
وفي صحيح مسلم وسنن النسائي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه ابتدأ الخلق يوم السبت، فخلق التربة)، ولكن هذا الحديث من أحاديث مسلم المطعون فيها؛ إذ الأحاديث كلها مجمعة على أن بدأ الخلق كان يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة، وقد قال البخاري: روي هذا الحديث عن أبي هريرة عن كعب الأحبار، فعده البخاري من الإسرائيليات.
واليوم من هذه الأيام كما قال الإمام مجاهد: هو ألف سنة، وهو من أيام الآخرة التي يقول الله فيها: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].
فقال مجاهد: خلق الله السماوات والأرض في ستة آلاف عام، وبيان ذلك مفصلاً في قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9]: فالله خلق الأرض في يومين، فقد خلقها يومي الأحد والإثنين، خلق فيهما الأرض والجبال والبحار والمياه، ثم قال بعد ذلك مفصلاً: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10]، أي: خلق الأرض في يومين، ثم خلق في اليومين الآخرين -الثلاثاء والأربعاء- الجبال على الأرض وجعلها لا تميد، فعندما خُلقت خُلقت بلا جبال، فأخذت تميد وتتأرجح، فأمر جبريل أن يُقيمها حتى لا تميل، فذهب جبريل لذلك، فقال: يا رب! لقد أعجزتني عن أن أقيم أودها، فخلق عليها فوقها الجبال فأرستها وثبتتها من الميلان ومن الميدان، فلم تتحرك بعد ذلك.
قال تعالى: ((وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا))، أي: جبالاً راسيات تُرسيها وتثبتها.
قوله: ((وَبَارَكَ فِيهَا))، أي: بارك فيها بالمياه وبالأرزاق وبالنباتات وبالفواكه وبالطير وبما عليها مما خلقه للإنسان، فقد خلق شيئاً في قطر وآخر في قطر آخر؛ ليذهب الناس بعضهم إلى بعض ويتجّر بعضهم من بعض ويضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ويأتون بما ليس عندهم؛ وهكذا يتبادل الخلق المنافع.
قال تعالى: ((وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ)) فقد كان خلق الأرض والجبال والأقوات وكل ما ينفع الإنسان على هذه الأرض في أربعة أيام، فهذه مع قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12] ستة أيام كما قال ربنا جل جلاله.
وإذا علمنا بأن اليوم في الآخرة كألف سنة مما تعدون كان خلق ذلك من أعداد الأرض وأيامها ستة آلاف عام، وهذا يزيل إشكال الكافر والمتشكك والذي لا يؤمن إلا بالمحسوسات وخاصة ممن يسمون أنفسهم علماء الأرض والجيولوجيا وطبقات الأرض، فهم يقولون: إننا عند حفر الأرض والبحث في أغمارها وأعماقها وجدنا أن هذه الأرض تكونت طبقاتها في آلاف السنين.
نقول: وهكذا قال الله، فهي قد خُلقت في ستة أيام من أيام الآخرة، أي: في ستة آلاف عام من أعوام الأرض وأعدادها وقد اتفق الناس على ذلك، كما خلق الله السنة اثني عشر شهراً، وخلق الشهر تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين، وخلق اليوم أربعة وعشرين ساعة، فهذه الأعداد في الأرض في مجملها وفي عمومها، وإن كان في بعض الأرض شذوذ كالأرض المتجمدة في أراضي الصين وتايلاند، ففيها ستة أشهر ليل متصل وستة أشهر نهار متصل، وفيها دول متحضّرة لها جيوش وإدارات يعيشون بالتوقيت، فهم يوقتون العمل ثمان ساعات والنوم ثمان ساعات الأكل والشراب وما إليهما ثمان ساعات، فهي أربع وعشرون ساعة في اليوم، حسب ما يوجد في مجموع الأرض.
ثم قال تعالى: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10]، أي: خلق الأرض في أربعة أيام سواء أي: أيام تامة بلياليها ونهارها.
للسائلين أي: هذا جواب من يسأل إن سأل، وإن لم يسأل فقد أُجيب، والكثيرون قد سألوا قبل وبعد، ولا يزالون يتساءلون كيف خلق كوكبنا الذي نقيم عليه؟ وكيف خُلقت السماء التي تظلنا؟ وكيف خُلق ما على الأرض وما في باطنها؟ وكيف خُلقت السماوات وما بينها؟ ومتى خُلق ذلك؟ وما الحكمة في خلق ذلك؟ ومن خلق ذلك؟ والمؤمن الذي وفّقه الله للهداية والمعرفة في كل ذلك يقول: الله الخالق المدبّر، ومنه الأمر والتدبير جل جلاله، وله الأمر والخلق جل جلاله، ثم بعد ذلك استوى إلى السماء.(299/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان)
قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، أي: عمد إليها وقصد لخلقها بعد أن كانت دخاناً ومياهاً وسحباً من بخار البحار ومن أبخرة مياه الأرض، كما نرى السحب الآن، نرى منها الداكنة البيضاء ومنها السوداء ومنها ما بين الأبيض والأسود، فقد كانت من سُحب الأرض ومياهها التي تفور وتتجمع وتصعد إلى الأعالي، فكانت السماء كأنها العهن المنفوش وكأنها دخان في بياض مكبوب في جبال فوقها جبال.
وهذا المنظر نراه من الأرض ونحس به أكثر ونحن في أعلى أجواء الفضاء بالطائرات الضخمة الكبيرة، ويستمر هذا أحياناً ساعات متواصلة، فقد نقطع الست الساعات والسبع وليس فوقنا إلا هذا النوع في السماء، وندخل فيها وهي عن أيماننا وشمائلنا وكأننا نعيش ونطير ونحلق في الدخان، وليست إلا السحب الداكنة المكثفة والماء وبخاره المتصاعد من البحار ومن الأنهار وخاصة عند القيظ وشدة الحر وفي الصحاري.
قال تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا))، أي: للسماء، ((وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)) أمر الله السماء فقال لها: أظهري أقمارك وشموسك ونجومكِ وكواكبكِ، وأظهري خلقكِ في كل سماء من بحار ومما خلق الله مما لا يعلمه إلا الله.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم) ومعنى ذلك: أن السماء بكل بقاعها وزواياها وأركانها فيها ملك ساجد أو قائم يعبد الله، فلم يبق بعد ذلك مكان لخلق آخرين، وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وما ينطق عن الهوى، ولكنه قال هذا عن السماء الدنيا التي فوقنا، وهذه فوقها كذلك سماء ثانية وثالثة ورابعة إلى السابعة، وما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام، ولا ندري هل هي من أعوام الأرض أو من أعوام الآخرة، والسماء لا يُصعد إليها ولا يوصل لها.
وفي الأحاديث المتواترة المستفيضة في ليلة إسراء النبي عليه الصلاة والسلام أنه لما عرج إلى السماوات على البراق ومعه جبريل وقف جبريل في باب السماء يطرق باب السماء كما يطرق أحدنا باب دار صديقه وأخيه، فقيل: من؟ -أي: أجابه الحرس من ملائكة السماء- قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُذن له؟ قال: نعم.
ففتحت له الأبواب ودخل.
فإذاً: السماء ليست فضاء وفراغاً كما يزعم الملاحدة والجهلة والمرتدون، وما نراه فوقنا من الفضاء هو الذي يقول الله عنه: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [فصلت:12] والسقف هو: ما فوق المصابيح، والمصابيح هي هذه النجوم المنيرة المضيئة.
فالسماء هي السقف، وهذه المصابيح هي النجوم، وليست النجوم هي السماء، كما أنه ليست المصابيح هي السقف، وما بين النجم والسماء مئات السنين، ولا ندري هل هي من سنوات الآخرة أو الدنيا، ويكفي أن تكون من أعداد الأرض؛ فإن الخمسمائة السنة ليست بالشيء القليل، فإذا قال زيد أو عمر: وصلنا إلى القمر أو الفلك الفلاني فليس معنى ذلك أنهم وصلوا إلى السماء، هيهات هيهات! فما هذه الكواكب التي نرى إلا ككوكب الأرض، وهي جزء منها، والوصول إليها -إن صح التعبير- ليس إلا كالوصول إلى قارة من القارات.
ومما يدل على أن ما قاله هؤلاء حقيقة: أنهم أنزلوا معهم أحجاراً وتراباً وحللوه، فوجدوا أن عناصر تراب الأرض وصخورها ورمالها وجبالها هي نفس العناصر التي تكون منها القمر.
وهذا من معجزات القرآن التي شاهدناها وعاصرناها وعشنا في واقعها، فقد قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، أي: ألم ير هؤلاء الكفار؟ ولم يقل: المؤمنين؛ لأن المؤمنين يعلمون ذلك؛ تصديقاً لربهم ولكتابه ولحديث نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والذي ينكر الحقائق ويتنكر لها ويجحدها هم الكافرون بالله وبكتبه وبرسله.
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنبياء:30]، أي: ما بينهما من هذه الكواكب والمصابيح، {كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء:30] أي: كانت متصلة قطعة واحدة {فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، ففتق الله تلك الكواكب التي نراها عن الأرض، وهي جزء منها ومن عناصرها ومن طبائعها ففتتت وبعثرت كما نرى، وقد كان هذا في بداية الخلق.
فالله الخالق القادر وحده على كل ما يشاء، كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت:11] والسماء هنا هي العلو والفضاء؛ لأنه لم يكن هناك إلا ماء؛ نتيجة بخار مياه الأرض، فقال للأرض وللسماء: ائتيا طوعاً أو كرهاً، فأمرهما بالإتيان فاستجابتا لما أراد الله منهما وقالتا: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] فأخرجت الأرض بحارها وأنهارها وجبالها وبركاتها وكنوزها وأرزاقها وما يحتاج إليه الإنسان الذي سيُخلق بعد، وهو هذا الإنسان الذي خلقه الله بيده وأخبر بخلقه ملائكته، ثم نفخ فيه من روحه، فكان أبانا الأول آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فوجد الأرض قد خلقت له بما عليها وبما في باطنها؛ ليشكر الله جل جلاله في صباحه ومساه.
وقد سئل الحسن البصري وقيل له: إن الله قال: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت:11]، فإن لم يأتيا طوعاً فماذا يفعل بهن ربنا؟ قال: يسلط عليهن صاعقة تحرقهن أو وحشاً يفترسهن، قيل: أو يكون ذلك؟ قال: ولم لا يكون وقد خلق السماوات والأرض؟ فإذا عصتا عوقبتا كما يعاقب كل عاص، ولكنهما استجابتا، وهذه الاستجابة كانت إما بالقول ثم بالفعل، وإما بالقول فقط، وقوله: (ائتيا طوعاً) إما أن يكون بقول الله أو يكون بوحيه، فهو إذا أراد أمراً لا يحتاج أن يقول أكثر من: كن فيكون، وتكون كن إرادية، أي: كن التي يريد الله بها خلق شيء أو موته والقضاء عليه.
فهما قد استجابتا لكل ما أمرهما الله به، وهما خلق من خلق الله وعبيد من عبيده، وهما تحت تدبيره وأمره، والذي أنطق هذا الإنسان أنطق ذاك الجماد، كما ينطق الجلود واللحوم وما لا ينطق يوم القيامة، والذي جعل النطق في اللسان قادر على أن يجعله في اليد والرجل، ونحن نرى اليوم من المستنبطات ومن المخترعات ما يزيد المؤمن إيماناً وهدى لو سبق في علم الله تعالى هدايته.(299/3)
تفسير قوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين)
قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:12].
قضى جل جلاله، أي: أمر وأتم وأكمل وأوحى وجعل، فكان قضاء الله وأمره أن جعل السماوات سبعاً كما جعل الأرضين سبعاً، قال تعالى: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] وهذا ينكره من لا يؤمن بالقرآن، ولا يؤمن إلا بما يقوله اليهود والنصارى ومن ارتد عن دينه وكذب بالرسالات وبما أتت به كتب الله.
وإذا قلنا: إن الأرض وما فيها وما عليها خُلقت في أربعة أيام والسماوات السبع خُلقت في يومين أصبحت ستة أيام خلق الله فيها السماوات والأرض.
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [فصلت:12] أي: أتمهن وسواهن وأكملهن.
{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت:12] أي: أمر وأوحى إليها، والمقصود هنا: إرادته.
وأمر السماء: ملائكتها وحرسها وبحورها وثلوجها ومياهها والخلق الذي فيها والذي لا يعلمه إلا الله.
وفي كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي فيه كل شيء كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] ما يؤكد هذه المعاني، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29]، أي: ومن دلائل قدرة الله {خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} [الشورى:29]، أي: في السماوات وفي الأرض وفي الأفلاك العلوية التي سماها مصابيح، فقد خلق فيها ما يدب عليها، والذي يدب عليها ليس الملائكة، فالملك خلقه الله ذا أجنحة مثنى وثلاث ورباع، والذي يدب على الأرض هو من يمشي على رجلين أو على أربع أو يمشي زحفاً، وهو الذي تمس بشرته الأرض، والذي يطير في الآفاق وفي الفضاء والأجواء لا يقال له: يدب، وإنما يقال له: يطير، والملائكة ذوو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، فبعضهم ذو جناحين، وبعضهم ذو ثلاثة، وبعضهم ذو أربعة، وهكذا.
وقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام جبريل على صورته التي خلقه الله عليها مرتين قد غطى الأفق بأجنحته وبذاته، فعندما ظهر في الفضاء لم يبق ظاهراً غيره، فقد غطى الكواكب والسماء والأرض، أي: صورة مفزعة مُرعبة، فهؤلاء الذين يطلبون أن تكون الملائكة رسلاً إليهم لو جاءهم الملك بهذه الحالة لرعبوا وفزعوا وما استطاعوا نظراً ولا سمعاً ولا استفادة منه.
فقوله تعالى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت:12]، أي: حاجتها من الحرس ومن الملائكة، ومن جند الله ومما فيها من بحار ومن خلق لا يعلمه إلا الله؛ قال تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} [فصلت:12] وهي السماء الأولى الدانية الأقرب إلينا، وهي سماؤنا هذه، زينها وجمّلها بمصابيح.
ومعنى ذلك: أن ما نراه من هذه النجوم والكواكب النيرات ليست هي السماء، ولكنها هذه المصابيح المنيرة المشرقة المضيئة، التي زيّن الله بها السماء الدنيا القريبة من الأرض والقريبة من الخلق والبشر.
والمصابيح: جمع مصباح، وهي الزجاجة.
{وَحِفْظًا} [فصلت:12]، أي: زيّنها بذلك حال كونها منيرة، وحال كونها حفظاً يحفظ بها السماء من تجسس الشياطين عندما يركب بعضهم على بعض؛ ليسترقوا السمع من الملائكة، وينزلوا إلى الدجّالين والكهنة والسحرة، وقد يصدقون في كلمة ويزيدون عليها تسعاً وتسعين كذبة، والكلمة التي يقولها لا يعلم صدقها من كذبها، ولكنه يتلقفها تلقفاً، ولا يكاد يركب بعضهم على بعض إلا ويأتيه شهاب فيحرقه ويحرق ما يحمله، وقد يفلت منهم واحد أو اثنان فيأتي إلى الكهنة والسحرة ويوحي إليه بكلمة لا يعلم صدقها من كذبها، ومن صدّق كاهناً وهو مسلم لا يقبل الله له صلاة مدة أربعين يوماً.
فقوله تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} [فصلت:12]، أي: زيّنها بمصابيح وجعلها حفظاً تحفظ أسرار الملائكة ووحي الله لهم، فهم جند الله الذين لا يعصون الله ويفعلون ما يؤمرون، وسينزل هذا للنبات، وهذا للأرواح، وهذا للأرحام، وهذا للدواب، وهذا للمياه، وكل واحد وفئة منهم لها عملها ووظيفتها، ولا يحصي عددهم ونوعهم إلا الله جل جلاله، فهم أشكال وألوان ورتب ومنازل، وأعظمهم الكروبيون الثمانية الذين يحملون عرش ربك، والملائكة الآخرون يطوفون بالعرش كما نطوف نحن بالكعبة المشرفة.
وقد خلق سبحانه السماء في يومين وخلق الأرض في أربعة أيام، وخلق النجوم والكواكب مصابيح، وهي في الوقت نفسه؛ حرساً وحصناً من الشياطين المتجسسين على الملائكة؛ علّهم يسمعون كلمة، فيكون ذلك سبب رميهم بالشهب التي نراها بين حين وآخر، فيحترقون وكأنهم لم يكونوا.
قوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:12]، أي: ذلك خلقه مقدراً بعصر وبوقت وبخلق لا يزيد ولا ينقص، أي: يحصل وقت كذا وسينتهي وقت كذا، و {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26].
و {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ} [القصص:88].
فتهلك السماوات والأرض ويفنى الملائكة والجن والإنس، ويبقى الله ملك الملوك، فيقول: أين ملوك الأرض؟ أنا الملك، أنا الجبار، أين الملوك؟ فلا يجيبه أحد، فيقول جل جلاله: أنا ملك الملوك، وأنا الجبار، جل جلاله وعزّ مقامه.
ثم بعد ذلك تعود الحياة يوم البعث والنشور إلى الملائكة جند الله الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وإلى الجن والإنس في الآخرة؛ للحساب وللعرض على الله؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].(299/4)
تفسير قوله تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم)
قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13].
قص الله علينا وهدانا وعلّمنا وعرّفنا كيف كان هذا الكون، وكيف خُلق هذا العالم فضلاً منه وكرماً، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قل لأولئك المعرضين عن الإيمان بالله وبكتبه وبرسله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا} [فصلت:13].
أي: أعرضوا عن طاعتي وعن طاعة الكتاب المنزل عليك وأدبروا عن الإيمان بالله ورسل الله.
{فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13].
أي: قل لهم: أنذرتكم وتهددتكم وتوعدتكم وخوفتكم صاعقة ومصيبة وبلاء سينزل بكم ويدمركم ويهلككم ويزلزل الأرض تحت أقدامكم كالصواعق والبلاء والمصائب التي نزلت على عاد وثمود عندما كفروا ربهم وكذّبوا نبيهم وأعرضوا عن كتبهم وعن رسالاتهم.
وعندما جاء عتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطمع بأن يسكته عن تزييف آلهتهم وعيب آبائهم ودعوتهم إلى الله وإلى طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أن أنهى كلامه وهو يقول له: أأنت خير أم أبوك عبد الله؟ أنت خير أم جدك عبد المطلب؟ وما فعل عبد الله أو عبد المطلب حتى يكونا خيراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهما لم يكونا نبيين ولا يفعل هذا إلا نبي، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [فصلت:6] أي: لا أزيد عليكم إلا بالوحي وبالرسالة ولو لم يوح الله إلي بشيء لما سمعتم مني كلمة، ولقد عشت فيكم عمراً ودهراً وزمناً فما الذي سمعتموه مني؟ فلما انتهى كلام عتبة قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: (أفرغت يا أبا الوليد! قال: نعم، قال: اسمع، قال: كلي سمع، فابتدأ وقال: بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:1 - 3] إلى أن وصل إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]) وإذا بـ عتبة يضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: يا أبا القاسم! حسبك نحن رحمك وأقرباؤك، وقطع الحديث وذهب.
وعندما اجتمعت عليه قريش قالوا: ما الذي أجابك به محمد؟ وقد لاحظوا من ملامحه وتقاطيعه أنه تغيّر عن الحالة التي ذهب إليه فيها، فقال لهم: اسمعوا مني وأطيعوه، فلقد هددكم وأنذركم، وأنتم تعلمون أن محمداً إذا قال صدق ولم يكذب في حياته قط، فهو إذا أنذركم بالصاعقة نزلت بكم لا محالة، فتضاحكوا عليه، وقالوا له: سحرك محمد بلسانه وأعجبك طعامه.
فإذا به من جهالته ووثنيته يقسم أن لا يجتمع بمحمد مرة ثانية بدلاً عن أن يتحداهم ويقول لهم: سأفعل ما فعل عمر وحمزة، بل ازداد كفراً وعناداً وأقسم لهم بما يريدون بأن لا يعود إلى الاجتماع بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن بلاغة القرآن وفصاحته وإعجاز نظمه وترتيبه أنه لفت الأنظار -كالديباجة- لما فعلت عاد وثمود، فلفت الأنظار ونبه الآذان، وكأن الناس تتساءل ما بال عاد وثمود؟ وما جريمتهم وصنعهم؟(299/5)
تفسير قوله تعالى: (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم)
قال تعالى: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت:14].
أي: أجابوا رسلهم وقالوا: فإنا بما أرسلتم به كافرون.
فهنا يقص الله علينا خبر عاد وثمود، فقال عنهم: إنهم نزلت بهم الصواعق والبلاء المدمّر والمهلك؛ لأنهم لما جاءتهم الرسل -هود صالح- بقولهم: لا إله إلا الله، وجاءوهم من بين أيديهم وقد سمعوا خبرهم من قبل، فقد كان قبل هود وصالح نوح وشيث وإدريس وآدم عليهم السلام، ثم جاء من بعدهم رسل آخرون، فكان جوابهم عندما دعوهم إلى الله الواحد الأحد أن قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5].
ثم عادوا فقالوا: لستم رسلاً، وأنتم تكذبون، {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:14]، أي: لو شاء ربنا الرسالة وشاء هدايتنا لأنزل إلينا ملائكة لا بشراً مثلنا! أفتريدون أن نخضع لكم ونطيعكم ونجعلكم أئمة وقادة، هيهات هيهات! لن يكون ذلك، ولو كان هذا حقيقة لما أرسلكم وأنتم بشر مثلنا، بل لأنزل علينا ملائكة من السماء.
ثم عادوا فتحدوا وقالوا: {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت:14].
فكفروا قولاً وعملاً برسالة هود وبرسالة صالح عليهما السلام، وبقوا على وثنيتهم وعلى طغيانهم وعلى جرائمهم.(299/6)
تفسير سورة فصلت [15 - 20]
لقد أرسل الله الرسل لإقامة الحجة وبيان المحجة للناس، ولكن الناس كانوا يقابلونهم بالاستهزاء والتحدي والتهم الباطلة، وذلك كقوم صالح وقوم هود الذين اعتمدوا على قوتهم واستكبروا على رسلهم فأخذتهم الصواعق والصيحات، وهكذا جزاء من لا يؤمن برسل الله بعد أن يرى الآيات والمعجزات.(300/1)
تفسير قوله تعالى: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق)
قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15].
يقول الله عن عاد إنها قالت عندما جاءتهم رسلهم يدعونهم إلى عبادة الله وحده وإلى الكفر بالأوثان وبالشركاء: لن يكون رسول إلا إذا كان ملكاً.
وعندما جاءهم الوعيد والإنذار من رسلهم تحدوا وقالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15].
واستكبروا في الأرض بغير الحق وتعاظموا وتعالوا، وجعلوا أنفسهم كبراء وسادة وعظماء، فتكبروا على الخلق وعلى الرسل وعلى عبادة ربهم.
ثم زادوا فقالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]، فطغوا بأجسامهم، وكانوا في أجسامهم يسمون بالعمالقة، وكان طول أحدهم مائة ذراع وأقلهم كان طوله ستين ذراعاً وما يناسب ذلك من العرض، وكان الواحد منهم يتناول ما لا يتناوله الجماعات أولو العدد من بعدهم.
فاستكبروا بأجسامهم وقوتهم وقالوا: مهما ينزل من بلاء ومن صواعق فنحن قادرون على القضاء عليها وقوتنا تدمرها وتقضي عليها.
فقال الله لنبيهم أن يقول لهم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15]، أي: أولم يروا رؤية القلب ويتدبروا ببصائرهم وبعقولهم ويفكروا ويتبصروا، أن الذي خلقهم على هذه القوة وعلى هذا الطول وعلى هذه الأجسام هو الله الذي هو أشد منهم قوة، وهم لم يحسبوا حساباً لقوة الله وقدرته وبطشه خاصة، وهو الذي أرسل رسله بشراً يدعونهم إلى الطاعة وإلى التوحيد وإلى ترك الأصنام وإلى ترك الأوثان أي: ألم يعلموا ويدركوا ويفهموا، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يفلتون من عقاب الله وعذابه.
{وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15] فلم يزدادوا بذلك إلا عتواً وفساداً واستكباراً في الأرض.(300/2)
تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات)
قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].
قال تعالى: إنهم بعد أن أنذرناهم وتوعدناهم وأمهلناهم وأرسلنا لهم رسلاً من بين أيديهم ومن خلفهم يدعونهم إلى عبادة الله وحده وترك الأصنام، أخذوا يتعاظمون بأجسامهم وبقوتهم ويقولون: نحن أقوياء وبدناء ونحن ونحن، فقال لهم الله: هل أنتم أشد قوة من خالقكم الذي قواكم وجعل لكم هذه الجسوم؟ فكانوا مع هذا جاحدين كافرين بآيات الله وقدرته وما أرسل به رسله، والله يمهل ولا يهمل، ثم حلت عليهم كلمة الله وعذابه قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت:16].
وقد كانت سبعة أيام حسوماً، ابتدأت في الأربعاء وانتهت في الأربعاء، وكانت في آخر شهر شوال وكان ابتداؤها قبل ذلك، فقد كانت تأتيهم الرياح والعواصف وليس معها مطر، وإذا أراد الله بقوم خيراً أمطرهم وأغاثهم وأقل رياحهم، وإذا أراد بهم بلاء أكثر رياحهم وعواصفهم وأقل غيثهم وأمطارهم، فجاءتهم الريح العقيم، وهي الريح التي ليست فيها أمطار ولا غيث فيها ولا كسب منها، فهي عقيم لا تلد ولا توجد ماء ولا تنتج غيثاً، فانتشرت الحرائق والجدب والموت والجوع إلى الأيام النحسات المشئومات السبع التي كانت حاسمة بالقضاء عليهم.
ثم جاءتهم رياح عاصفة، كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} [فصلت:16]، أي: ذات صوت كالرعد وذات برد شديد.
وهو من الصر وهو: البرد الشديد، ومن الصرصر وهو: الصوت المرعب المزعج الذي تكاد طبلة الأذن أن تنفجر منه، وكل هذا قد حصل فسلط الله عليهم خلال أسبوع وثمانية أيام ريحاً عقيماً ذات برد وحر شديدين وصوت كالرعد زلزلتهم من تحت أرجلهم ومن فوق رءوسهم حتى أصبحوا صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، كما وصفهم ربنا في آية أخرى.
ولم تمض هذه الأيام الثمانية إلا وقد أصبحوا كجذوع الأشجار عندما يأتيها الجدب والقحط والنار، أي: لم يبق فيها ورق ولا فاكهة ولا ثمر، وإنما هي جذوع وغصون محترقة لا تنفع في فاكهة ولا في حطب، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} [الحاقة:7]، أي: كعجز النخل الخاوي الذي ليس فيه جمار ولا فائدة يستفاد منها.
وقوله تعالى: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت:16] جمع نحس، أي: أيام ذات بلاء مشئوم ومصائب وذل وهوان، فلم تفدهم هذه الأجسام الطويلة والقوة التي تاهوا بها واستكبروا فيها بغير حق في الأرض.
وقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت:16]، قرئ: نحِسات، ونحْسات.
قوله: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت:16].
أي: ليصيبهم ويعذبهم بالعذاب الذي أخزاهم، وذلك شأن المتعاظم المتكبر على الله الذي يرى لنفسه ميزة وشأناً، فإنه عندما يذل ويتصاغر ويحتقر ويضيع جاهه وسلطانه ودعواه في القوم، يشعر بالهون وبالذل وبالخزي، وهم قد أخزاهم الله وأذلهم أمام البشر والأمم من جيرانهم من سكان الأرض، وأمام المؤمنين -على قلتهم- الذين آمنوا بهود وانتفعوا بنبوته ورسالته وهدايته.
وقوله تعالى: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16]، أي: هذا خزي وعذاب الدنيا، أما خزي وعذاب الآخرة فهو أشد خزياً ونكالاً وعذاباً.
وخطاب الله هذا هو خطاب لكل إنسان سمع هذه الدعوة الإلهية من رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، سواء كانت في عصره أو بعده إلى عصرنا وإلى من بعدنا إلى يوم القيامة، فكل من لم يؤمن بالله وبرسالة القرآن وبرسالة نبيه عليه الصلاة والسلام، بل يُعرض إعراض عاد وثمود؛ فله من الخزي ومن الذل ومن الهوان ما قصه الله علينا في هذه الآيات وغيرها.
وهو ما ذكر ذلك إلا للعظة وللعبرة وللتأديب وللتربية؛ ومن الخزي الذي أصابنا -نحن المسلمين- في عصرنا عندما تركنا كتاب الله ورسالة نبينا عليه الصلاة والسلام وجرينا خلف اليهود والنصارى والمنافقين نعترف بعلومهم وبحضارتهم وتركنا الإسلام والقرآن والقيادة المحمدية؛ أن سلّط الله علينا أذل خلقه وأحقرهم وألعنهم، وهم اليهود إخوة القردة والخنازير وعبدة الطاغوت، ولن يرفع الله عنا هذا الخزي إلا بعد أن نعود إليه تائبين ضارعين مستغفرين، وهذا مما وعظنا به ولم نتعظ.
وقد سبقنا إلى هذا أجيال من قبلنا، فهم الذين مهدوا لهذا وما بعده، ونحن لسنا إلا اتباعاً لحاقاً بهم، وفي العادة أن اللاحق يزيد على من سبقه، هكذا يقع التباري بالكفر بالله وبرسل الله، فيقع عليهم عذاب الله المخزي كما وقع للأولين عندما خالفوه وعصوه كخلافنا ومعصيتنا؛ قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16]، أي: أشد خزياً وعذاباً، ولن ينصرهم أحد كما لم ينصروا في دار الدنيا، فإذا كانوا في دار الدنيا لم ينصروا ولم يجدوا من ينصرهم ولا يفزع لهم ولا يهتم بهم، فكيف في الآخرة؟ فإنهم في الآخرة سيشتد عذابهم وخزيهم، ولن يجدوا لهم نصيراً كما لم يجدوه في دار الدنيا.(300/3)
تفسير قوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى)
قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت:17].
قصة عاد وثمود هنا هما شرح وبيان لمجمل الآية -الديباجة- التي ذُكرت في أول قصص هؤلاء، عندما قال ربنا: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] وقد قص الله علينا قصة عاد في الآية السابقة.
وأما ثمود فيقول عنها: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، أي: هديناهم ودعوناهم للهداية وأرسلنا لهم نبيهم صالحاً عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله صباحاً ومساء، وأنذرهم وتوعدهم أنهم إذا بقوا على شركهم سيصيبهم مثل ما أصاب قوم عاد قبلهم.
وقد طلبوا منه معجزة عجيبة غريبة ومع ذلك استجاب الله لهم، فما زادهم ذلك إلا كفراً وخزياً وإصراراً على الشرك، فقد جاءوا إلى صخرة وقالوا: لن نؤمن بك يا صالح! ما لم تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة طولها كذا وعرضها كذا وكذا وهي عشار أي: حامل في شهرها العاشر، وإذا أنت لم تفعل لا نصدّقك.
فقال: يا قوم! إذا جاءت المعجزة والآية وكفرتم بها حل عليكم عذاب الله سريعاً، قالوا: لن نؤمن إلا بذاك، فقال: أرجئوني أياماً، فدعا الله فاستجاب له، وبعد أن قال لهم: إنهم إذا جاءتهم هذه الآية كما طلبوها وأعرضوا عن الإيمان وأصروا على الكفر فسيكون ذلك سبب القضاء عليهم جاءت الناقة فلم يؤمنوا كذلك.
وقد كان هود عليه السلام في جزيرة العرب، وكذلك كان صالح عليه السلام في جزيرة العرب في الحجر بين الحجاز والشام الأردن، ولما كانت المياه شحيحة والأرض حارة وصحراوية وكانت الناقة تحتاج إلى الماء الكثير ولم يكن لهم إلا عين ماء يشربون منها رتب صالح لهم يوماً لشرب الناقة ويوماً لشربهم؛ لأنها تشرب ما يشربون جميعهم، فأخذوا يعطشونها ويجيعونها، وولدت بعد شهر من خلقها.
ثم إذا بتسعة رهط مفسدين يذهبون ويقتلون فصيلها فأخذت تصيح وتجأر بصوت يزلزل الأرض، فقلتوها بعد يوم أو يومين، فجمع صالح القوم وقال لهم: انتظروا بلاء ودماراً وخراباً بعد ثلاثة أيام، وهكذا كان، ففي اليوم الأول اسودت وجوههم، وفي اليوم الثاني أخذت أجسامهم وعروقهم تضعف ولا يكادون يستطيعون حركة، وفي اليوم الثالث أرسل الله عليهم زلزلة وصيحة، حيث صاح بهم جبريل ومن معه من الملائكة صيحة أخرجت قلوبهم من صدورهم وعيونهم من مآقيها وأمخاخهم من رءوسهم، وصرعوا فأصبحوا جاثمين كأن لم يغنوا فيها.
وهكذا عاقب الله ثمود بالصيحة والزلزلة بما أهلكهم وقضى عليهم.
قوله تعالى: ((وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ))، أي: أرسلنا لهم هادياً نبياً يدعوهم إلى الهداية وإلى الإيمان والإسلام.
((فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى))، أي: ففضّلوا الضلال وعمى القلوب والظلام على النور، وأحبوا العمى والكفر والجهالة والظلمات والضلالة على النور وعلى الهدى.
قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} [فصلت:17]، أي: ما كادوا يفعلون ذلك ويقتلون الناقة ويتجرءون على نبيهم ويزدادون كفراً بربهم، حتى أخذهم عزيز مقتدر، فأتتهم صاعقة ومصيبة أرسل بها جبريل، فزلزلت أرضهم وأصمت آذانهم وأخرجت عيونهم وقلوبهم وفجّرت أمخاخهم، فانتهوا وكأنهم لم يغنوا بالأمس، فأصبحوا كأعجاز نخل خاوية، وكأنهم لم يكونوا ولم يوجدوا يوماً.
والنبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح عندما ذهب إلى غزوة تبوك وجد قوماً دخلوا إلى أرض صالح وفيها آثارهم وآبارهم وما هم فيه من بلاء، ووجدهم قد أخذوا من هذا الماء فطبخوا به وخبزوا، فأمرهم صلى الله عليه وسلم بإلقاء تلك الأطعمة التي طبخوها من مياه بئر قوم صالح وبإلقاء ذلك العجين لرواحلهم ولنوقهم وقال لهم: (إذا مررتم بأرض عذاب فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)، أي: كي لا يقع بهم ما وقع بمن سبقهم ولا يبتلوا ببلائهم وبمصيبتهم.
وقد ضرب الله هذا مثلاً لكفار هذا العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم إن أعرضوا عن ربهم وعن طاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم فإن الله سيدمرهم وينزل عليهم الصواعق والبلاء والمصائب، وقد فعل ولا يزال يفعل، وما تسليط النصارى ثم اليهود ثم المنافقين على الشعوب الإسلامية إلا عذاب وعقوبة لتركنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك الإسلام الذي بذل سلفنا الصالح في سبيل قيامه وإعزازه ونشره أرواحهم رخيصة في سبيل الله، فجئنا نحن فاستهزأنا بكل ذلك ونبذناه وأصبح كتاب الله وراءنا ظهرياً.
{فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت:17]، أي: أخذتهم الصاعقة والمصيبة والبلاء المدمر.
وعذاب الهون: عذاب الهوان، وهو العذاب المؤلم للأجساد المهين للأرواح المذل للأنفس؛ بسبب ما كانوا يكسبون ويرتكبون من كفر بالله وشرك به وتكذيب لرسله وإعراض عن كتابه.(300/4)
تفسير قوله تعالى: (ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون)
قال تعالى: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:18].
أي: فعل الله هذا بكفار ثمود، وكان أكثرهم كفاراً، ونجّى من بينهم صالحاً نبيهم ومن آمن معه من قومه، وما آمن معه إلا قلة، وهكذا الأمم السابقة لم يؤمن منهم إلا ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين.
قال تعالى: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:18]، أي: الذين آمنوا قولاً وآمنوا جناناً، وكانوا يتقون في العمل، أي: ويجعلون بينهم وبين الذنوب والمعاصي ومخالفة الله ورسله وأنبيائه وقاية.(300/5)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون)
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت:19].
جعل الله كل كافر به وبرسله عدو له، وهذا الأرعن الأحمق الذي فقد عقله قبل أن يفقد دينه وأراد إزالة الحواجز بيننا وبين هؤلاء الذين لعنهم الله من إخوان القردة والخنازير لم يدر أن هؤلاء ليسوا أعداءنا نحن فقط، بل هم أعداء الله أولاً، وهم الذين لعنهم الله إلى أبد الآباد، كما قال تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:61].
وقد لُعنوا على لسان الأنبياء السابقين واللاحقين، وقد أذلّهم الله ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم عليهما السلام، ولعنهم أيضاً على لسان محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال تعالى فيهم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167].
فهم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداءنا، فهم الذين تكبروا على الله وتجبروا عليه وقتلوا أنبياءه، واستباحوا الدم الحرام وأتوا المنكر وقذفوا أنبياءهم المعصومين عن المحارم، وقتلوا العلماء وشرّدوا الصالحين، فدمّرهم الله وقطّعهم في الأرض أمماً.
والذي نراه اليوم ليس هو إلا من باب {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83]، ثم يجمع الله الشياطين والكفار واليهود ومن سُلطوا عليهم في جهنم، جزاء خذلانهم وكفرهم بالله، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت:19]، أي: يُحشر يوم القيامة أعداء الله من الكفار يهوداً ونصارى ومنافقين.
قوله: ((إلى النَّار فَهُمْ يُوزَعُونَ))، أي: يُساقون إلى النار ويجرون إليها، فيجمع أولهم مع آخرهم ويساقون إليها سوق الدواب، ويسحبون على وجوههم وجباههم؛ جزاء كفرهم بالله وشركهم به.
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} [فصلت:19]، وقرئت: (ويوم نحشر أعداءَ الله إلى النار فهم يوزعون) أي: فهم يُسحبون على وجوههم ويساقون إليها سوق الدواب على وجوههم ورءوسهم.(300/6)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم)
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:20].
أي: حتى إذا جاءوا النار ووصلوا إليها وهم يُسبحون على وجوههم.
و (ما) في القرآن صلة، وهي في اللغة زائدة، ولكنها زائدة أو صلة من حيث الأعراب والنحو، أي: ليس لها مكان ولا أثر في رفع أو نصب أو جر، ولكنها في المعنى للتأكيد، ولها المعنى الكامل في تأكيد المعنى الداخلة عليه.
فقوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا))، أي: حتى إذا تأكد مجيئهم ووصل أعداء الله إلى النار، ((شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))، أي: إذا وصلوا إلى النار فسينكرون ويقولون: نحن ما أذنبنا وما عصينا وقد عشنا موحدين.(300/7)
تفسير سورة فصلت [19 - 25]
يجمع الله أعداءه يوم القيامة فيسألهم عن كفرهم وفواحشهم فينكرون، فتشهد عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون، فيقولون لهن: بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنا نجادل، ثم يقذفون في النار.(301/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار)
قال الله جل جلاله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:19 - 20].
يقول ربنا جل جلاله: هؤلاء المرتدون المشركون الكافرون بالله وبكتبه وبرسله وبيوم القيامة سيحشرون إلى النار ويُجمعون فيها ويكتلون ويجرون ويسحبون.
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ} [فصلت:19]، وأعداء الله هم الكافرون واليهود والنصارى وأتباعهم والمستخدمون لهم والمنافقون الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.
قال تعالى: ((حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا))، أي: هؤلاء الكفار عندما يحشرون إلى النار ويجيئون إليها ويقدمون عليها سيشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون، فإنهم عندما يحشرون ويصبحون مع النار وجهاً لوجه يرون المسلمين يقولون: نحن موحدون مؤمنون، فيؤمر بهم ويدخلون الجنة، فيقولون هم: ما دام هؤلاء قد قالوا ذلك ولم يكذَّبوا فنحن إذا قلنا ذلك فسنصدق ولا نكذّب.
فيقولون: إنهم مؤمنون ويكذّبون الملائكة والكتب التي جاءت بها الكتبة الكرام من ملك اليمين وملك الشمال، وفي هذه الحالة عندما يفعلون ذلك يطبق الله تعالى أفواههم وتكبر ألسنتهم وتملأ حلوقهم وتكبر الحلوق فلا يستطيعون نطقاً ولا كلاماً، وعند ذلك تشهد عليهم أرجلهم وجلودهم بذنوبهم ومعاصيهم وما كانوا يعملون في الدنيا من كفر بالله وشرك به وأفعال سيئة وجرائم بيّنة.(301/2)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا)
قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21].
أي: بعد ذلك ينطق الله ألسنتهم فيلتفتون إلى الجلود والأيدي والأرجل فيقولون لجلودهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا} [فصلت:21]، أي: قالت الجلود: {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21]، أي: يقولون لهذا الكافر: الله هو الذي أنطقنا وأكسبنا قوة النطق.
(وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فكما أنطقكم أنطقنا، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21]، أي: رجوعنا ورجوعكم وخلقنا وخلقكم وقوة نطقنا وقوة نطقكم كانت من الله، فكما أعطاكم القوة للكلام باللسان وخلقكم أول مرة فقد خلقنا وأعطانا قوة الكلام والحديث والشهادة.
وهذه الآية كقوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، أي: يختم الله على أفواه هؤلاء الكافرين، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون.
وفي صحيح مسلم والسنن الأربع أن النبي عليه الصلاة والسلام تبسّم فقال لأصحابه: (لا تسألوني لم تبسّمت؟ فقالوا له: يا رسول الله! لم تبسمت؟ قال: عجبت لمجادلة العبد ربه، يؤتى بالمشرك يوم القيامة فيقول لربه: يا رب! ألم تعدني بأن لا تظلمني؟ قال: نعم، ألم يكفك أن أكون عليك شهيداً والملائكة الكاتبون؟ قال: يا رب! لا أجيز علي شهادة إلا من نفسي، فيسكت الله فاه ويخرس لسانه، ثم يقول لجوارحه: انطقي، فتقول اليد: صنع بي يوم كذا كذا وكذا -أي: ضرب بي وقتل، وتناول ما لا يحل له، وتشهد الرجل بأنه ذهب إلى مكان كذا وصنع كذا، ويشهد الفرج بزناه وفساده، وتشهد اليد بالسرقة، ويشهد الجلد بالسكر وبالعربدة وبالعصيان والمخالفة، ثم ينطق الله لسانه فيقول لجوارحه: سحقاً لكن فعنكن كنت أجادل، فيقلن له: {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21]).
فلا مفر من الشهادة بالحق، وأما النطق فليس في قدرتنا، ولكن الله الذي أنطق ألسنتكم وشفاهكم رزقنا القوة على النطق فشهدنا، هذا قاله ربنا وأكده نبينا صلى الله عليه وسلم شرحاً وبياناً وتفسيراً لأولئك الذين يشركون بالله ويظنون أنهم يوماً سيكذبون على ربهم ويخفون جرائمهم، وهيهات هيهات، فإنهم يشهد عليهم كُتّاب الله المكرمون من ملائكة الشمال واليمين، بل وتشهد عليهم جلودهم وأيديهم وأرجلهم وفروجهم وأفخاذهم وكل عضو من أعضائهم بما كانوا يعملون ويكسبون.(301/3)
تفسير قوله تعالى: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم)
قال تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:22].
أي: تقول لهم هذه الجلود والأيدي والأرجل بعدما ينطق اللسان ويسألهن: لم شهدتم علينا؟ فيقلن لهم: وهل كنتم تستترون من فعل الفاحشة وإعلان الكفر؟ فلسنا وحدنا الذين رأينا ذلك وشاهدناه، بل كنتم تعلنون ذلك في المجالس والمحافل وتشهرونه مع الناس، بل كنتم من الكفر والإصرار عليه وعلى الباطل بحيث لا تخافون الخالق ولا تستحيون من المخلوق وتجهرون بفعل الفواحش والسيئات وارتكاب الشرك وما يتعلق به.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في السنن قال: كنت أطوف بالبيت -وكان هذا قبل فتح مكة- وإذا بي أسمع ثلاثة يتحدثون عن الله وعن القيامة، وقد عظمت بطونهم وكثرت شحومهم وصغر عقلهم وقل دينهم، فقالوا كلاماً لم أسمع منه إلا كلمات، وأحدهم كان ثقفياً واثنان قرشيان، فقال أحدهم: هل الله يسمع قولنا الآن وكلامنا وما نصنع؟ فقال الثاني: إن رفعنا أصواتنا وجهرنا بها سمعها وإن أخفيناها لا يسمعها! فقال الثالث: إن سمع ما جهرنا به سمع ما أخفيناه.
فنزل قوله تعالى {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:22].
فهم كانوا يظنون، والظن قد يكون بمعنى اليقين، فقد كانوا يتيقنون وربما شكوا وارتابوا بأن الله يعلم شيئاً ويخفى عليه شيء! ذلك نتيجة كفرهم وشركهم وبعدهم عن الله.(301/4)
تفسير قوله تعالى: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم)
قال تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23].
يجيب الله أولئك الذين يظنون أن الله يعلم شيئاً ولا يعلم آخر، أو أنه يعلم ما يعلنون ولا يعلم ما يخفون، فقال لهم: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت:23]، أي: أهلككم ودمّركم وساقكم إلى النار.
{فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23]، أي: من الذين خسروا دنياهم وآخرتهم وجهلوا دينهم فأشركوا بربهم.
وربنا جل جلاله يعلم ما كان وما يكون، وما أعلنا وما أسررنا وما أخفينا في الضمائر ولم ننطق به، فكيف لو قلناه؟ وهذا كما تقول جوارح الكافر له عندما يجادلها: إنكم لم تكونوا تختبئون وتستترون عن جرائمكم وشرككم وكفركم، فكيف تستغربون شهادتنا والكل يعلم أن كل هذا كنتم تفعلونه وتعلنونه وتجهرون به ولا تخشون الله ولا تخافون خلقه؟ {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت:23]، أي: وذلك هو الظن الخاطئ الذي خطر ببالكم واعتقدتم يقيناً أن الله يعلم شيئاً ويخفى عليه شيء، وذلك هو ظن الكفرة، فهذا هو الذي أهلككم وجعلكم كفاراً مشركين، فأصبحتم بهذا الظن الخاطئ وبهذا الكفر المعلن من الخاسرين، فخسرتم الدين والدنيا وخسرتم الدنيا والآخرة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن عبدي بي ما شاء).
وقال الحسن البصري: من ظن بالله خيراً عمل صالحاً، ومن ظن بالله سوءاً عمل سوءاً، فالظن يكون مع العمل سواء كان خيراً أو كان شراً، فمن ظن خيراً عمل بمقتضاه وهو ظن المؤمنين، ومن ظن سوءاً عمل بمقتضاه وهو ظن الكافرين فالذين يظنون أنهم سيخفون أعمالهم عن الله ولن يعلمها ويقولون: قد غررنا الملائكة أو يظنون أكثر من ذلك، وهو أن يدخلوا الجنة فنقول لهم: هيهات هيهات! وما ذاك إلا من سخافة عقولهم وضياع دينهم، والله خير الماكرين، كما قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] فالله هو الذي خلقهم ويعلم سرهم ونجواهم.(301/5)
تفسير قوله تعالى: (فإن يصبروا فالنار مثوى لهم)
قال تعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24].
يقول تعالى لهؤلاء الذين شهدت عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم وأفخاذهم وفروجهم: يا هؤلاء الذين أخذتم في النزاع والشقاق مع بعض أعضائكم! لا تتعبوا أنفسكم، فالنار مثواكم أبداً، فهي منزلكم ومقامكم، فاصبروا أو لا تصبروا؛ {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [فصلت:24].
من الثواء والمقام، أي: دار مقامكم ومنزلتكم سواء صبرتم أو لم تصبروا، {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [فصلت:24]، أي: مقام ودار خالدة لهم.
{وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24] يستعتبوا السين والتاء للطلب، أي: يكتبوا العتب ويعتذروا عن أعمالهم؛ ليرضوا ربهم، وهيهات هيهات، فلا مجال للعذر.
وهذا كما قال أصحابهم السابقون للملائكة وهم يسحبونهم إلى النار سحباً ويجرونهم إليها على وجوههم: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49]، فتجيبهم الملائكة: {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50].
وهنا كذلك يأخذون في الاستعتاب إلى ملائكة النار ويقولون: إنما أضلنا فلان وجهلنا وقلنا: نعزم على التوبة وسبقنا الموت، فهل تقبلون عذرنا؟ وهل تعيدوننا إلى دار الدنيا كما كنا؟ فيطلبون من الملائكة أن يتضرعوا إلى ربهم ويسألونه لهم، فتقول الملائكة لهم: هل هذا جديد عليكم أو تعلمونه من قبل؟ أولم تأتكم رسلكم بالبينات؟ فيقولون: بلى، ويعترفون.
ومع ذلك تمردوا وضلوا وأضلوا وأصروا على الكفر إلى أن وجدوا أنفسهم في واقع ما كانوا ينكرونه، ويشركون بالله فيه، فيحاولون إذ ذاك أن يطالبوا بالعودة إلى الدنيا، وهيهات هيهات، {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24].
أي: وإن يعتذروا ويطلقوا العتبى فما هم من المعتبين المعذورين، ولا يقبل لهم عذر ولا عتاب ولا رجاء، ولا تقبل منهم دعوة، فهم في النار خالدين أبداً، والدنيا قد انتهت وفنيت ولم يبق لها وجود بعد أن أدت مهمتها، فلا وجود الآن إلا للدار الآخرة، فإما في جنة دائمة خالدة أو في نار دائمة خالدة، فلا منجى للكافرين منها، ومقام المؤمنين في الجنة خالدين أبداً ما دامت السماوات والأرض عطاء غير مجذوذ، وذلك فضل الله وعطاؤه للمؤمنين.(301/6)
تفسير قوله تعالى: (وقيضنا لهم قرناء)
قال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:25].
يذكر الله تعالى أنه هيأ وأعد لهؤلاء الكافرين قرناء سوء وباطل قارنوهم وصاحبوهم وعاشروهم.
((فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم)) فزينوا لهم ما بين أيديهم من شئون الدنيا وجعلوها زينة بين أعينهم، وجعلوها مآلهم وعزّهم ومكان نجاتهم.
وزينوا لهم ما خلفهم وما سيأتي بعد موتهم، فزينوا لهم الكفر والضلال والبعد عن الإيمان وأنه لا جنة ولا نار، وما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكهم إلا الدهر، وزعموا ذلك وأعلنوه وكانوا الأئمة والقادة فيه، مثل ملاحدة العصر الذين يصفون أنفسهم بالتقدمية والتجددية وما هم إلا إخوان الشياطين، فقد عادوا للكفر والإلحاد والشرك السابق، ونبشوا على الأولين التراب وبعثوهم من قبورهم ومن جثثهم البالية النتنة، واستمسكوا بدينهم وبأخلاقهم وبأديانهم، ورضوا بالذل والهوان وعقوبة الدنيا والآخرة.
ومن هنا كان من سعادة الإنسان أن يكون قرينه صالحاً، ومن شقاوته أن يقارن فاسداً، وقديماً قال الحكيم العربي: قل لي من تصاحب أقل لك من أنت.
فإن هو صاحب شريرين وكفاراً ومنافقين كان منهم، ومن أحب قوماً ذُكر معهم، وإن صاحب صالحين ومؤمنين وأتقياء كان منهم، وحب الصالحين يدعك أن تكون معهم، وحب الكافرين يدعك أن تكون معهم.
وقد ورد في الآثار وفي الحكم العربية شعراً ونثراً الحث على مقارنة الأفاضل وأهل التقوى والعلم والصلاح ممن يدلك على الله حاله، ويهديك إليه مقاله، وتكون أقواله لك هداية ودلالة على الخير، وحاله لك أسوة طيبة وقدوة صالحة؛ حتى تقارن أمثاله.
ولكن هؤلاء رأوا الصالح والطالح فمالوا إلى الطالح؛ لأنهم وجدوا مشابهة بين أنفسهم وأنفس أولئك، وقديماً قالت الأمثال العربية: إن الطيور على أمثالها تقع.
فالصالح إذا جالس كافراً أو منافقاً تجد نفسه في غاية ما تكون من الضيق، والكافر بالعكس إذا جالس صالحاً تضيق نفسه وتكاد تخرج من جوانحه، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف).
والله عند نثره لذرية آدم من ظهره في الأزل قال لهم: ألست بربكم؟ فأجاب الكل مطيعين وكارهين: بلى أنت ربنا، فمن قالها مطيعاً غير مكره كان من أصحاب الجنة، ومن المؤمنين عندما يخرج جسده وذاته إلى الدنيا، ومن قالها مكرهاً كان من أهل الكفر والفساد، وعندما يخرج جسده إلى الدنيا سيكون مع الكافرين.
والأرواح الصالحة يحن بعضها إلى بعض في دار الدنيا، والأرواح الخبيثة يحن بعضها إلى بعض في دار الدنيا أيضاً، ومن هنا إذا أردت أن تبحث عن منزلة إنسان وما مقامه إذا استشارك إنسان في مصاهرته أو معاملته أو في أي صلة من صلات الدنيا فعوضاً عن أن تأتي وتسأله: أأنت صالح أو فاسد؟ -وهذا لا يسأله إنسان؛ لأنه لا يقول: أنا فاسد- اسأله: من أصدقاؤك؟ ومن أصهارك؟ ومن الذي تجلس إليه؟ وممن تستفيد؟ وماذا تقرأ من الكتب إن كان قارئاً؟ وما الذي درست؟ فإذا قال لك: إنه درس على اليهودي الفلاني أو النصراني الفلاني، وأنه يحب ماركس ولينين وهذه الأسماء القذرة الوسخة، ويعجبه ما يسميه بالتقدمية من أنواع الفسق والدعارة والضلال فستجده يجري خلف اليهود ويشيد بهم ويعتز بهم ويذكر شأنهم ويعليهم حتى على مقام الصالحين من المؤمنين والمسلمين.
وإذا اجتمعت بآخر وقلت له: من جلّاسك؟ ومن قرناؤك؟ ومن تخالط وتعاشر؟ فإذا قال لك: أحضر درس التفسير والحديث، وألازم الصلوات في المساجد، وإذا خرجت من بلدي أُلازم تلاوة الكتاب الذي كنت أتلوه في بيتي وفي مقامي، ويُعجبني في التاريخ ذاك العالم والصائم والعارف بالله، فإنك تعلم أنه من أهل الخير.
والمربي سواء كان أباً أو معلماً أو وصياً على أيتام أو محجور عليهم إن كان رجلاً صالحاً يبعد هؤلاء عن معاشرة أهل الفساد، ويراقب أولاده وتلاميذه ويدعوهم إلى الله، وينصحهم: لا تعاشروا فلاناً ولا تجالسوا فلاناً، واذهبوا إلى فلان، واقبلوا الحكمة من فلان، والزموا عمل كذا واقرءوا الكتاب الفلاني، ولا تنظروا إلى الجرائد والمجلات إلا لجريدة أو المجلة الفلانية التي فيها صالحون، فيميلهم إلى الصالحين، وهكذا يحثهم على قرناء الخير ويبعدهم عن قرناء الشر؛ لأن هؤلاء القرناء هم الذين سيقودونه إلى الخير أو الشر.
ومن هنا لما كان العرب في الجاهلية قرناء لـ أبي جهل وأبي لهب وعتبة وعتيبة ابنا ربيعة وأمثالهم كان إمامهم الشيطان ومآلهم إلى النيران.
وعندما برز سيد البشر وخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام فمن انضم إليه وكان من جلّاسه ومن أصحابه الذين أخذوا عنه الحكمة والإسلام ودانوا بدينه وتخلقوا بأخلاقه وتبعوا طريقته كان من حزب الرحمن، وأصبح أولئك الأولون حزب الشيطان.
وعندما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام فرق الكفر من اليهود والنصارى وأدعياء الإسلام قال عن فرقة واحدة: هي من أهل الجنة، فقيل: (يا رسول الله! وما هي؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).
ومن هنا قال ربنا جل جلاله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
وقال ربنا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
وقال ربنا جل جلاله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وما سوى ذلك هراء في هراء وسخط في سخط وباطل في باطل، وسواء ورثته عن أبيك أو حميمك أو أستاذك أو قرينك فكل هؤلاء الذين يدعون إلى الشيطان وإلى الباطل فابتعد عنهم إن أردت لنفسك خيراً وجنة ونجاحاً بعد موتك، وأما من يريد الشر والبلاء فسيتبع الشيطان وحزبه.
قال تعالى: ((وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ)) وقرناء: جمع قرين، يقال في الجمع: قرناء وأقران، قرينك هو الذي يقرن وجوده وشبحه وروحه وعمله وسلوكه معك، فيفعل فعلك وتفعل فعله، فيكون قريناً لك في العقيدة والأخلاق والسلوك والمعاملة؛ فإن كان القرين رجلاً صالحاً فأنت من أهل الصلاح، وإن كان رجلاً سيئاً فأنت من رجال السوء.
ومن هنا كان الحب في الله والبغض في الله من الإيمان، وقال عليه الصلاة والسلام: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظله وذكر من السبعة: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليها وتفرقا عليه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الجنة درجات ما بين كل درجة ودرجة ما بين كل سماء وسماء، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وأعلى درجات الجنة الفردوس الأعلى، وهو مساكن الأنبياء والمرسلين) وكان في المجلس رجل من الصحابة مسكيناً لا يكاد يُعرف ولا يُهتم به، فغاب عن المجلس أياماً ثم حضر، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم وقد رأى عليه آثار الحزن والبؤس عن سبب غيابه، فبكى وقال: يا رسول الله! سمعتك تقول: (إن أعلى منازل الجنة الفردوس، وهي منازل الأنبياء والمرسلين ولو دخلت الجنة فكيف لي أن أكون في الفردوس؟ وجنة أدخلها ولا أراك فيها ولا أجلس إليك فيها لا حاجة لي بها.
فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت).
وقال صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) فقال الصحابة إذ ذاك: بقينا سنوات وزمناً طويلاً ما سمعنا كلمة طربت لها نفوسنا وأرواحنا وكانت علينا بمثابة دخول الجنة كهذه المقولة الكريمة من النبي عليه الصلاة والسلام.
فقصير العمل يرفعه حبّه إلى منازل الصالحين بحيث يكون معهم، ومن هنا فإن النبي عليه الصلاة والسلام علّمنا في الدعوات النبوية أن نقول: (اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك).
والحب في الله درجة عالية في الإسلام، وقد كتب إمامان بل ثلاثة عن الحب، وهم: ابن القيم كتب (روضة المحبين) وكتب قبله ابن حزم (طوق الحمامة) وكتب قبلهما أبو بكر بن أبي داود كتاب (الزهرة)، تحدثوا فيها عن الحب البشري والحب الإلهي، وانتقلوا من الحب البشري إلى الحب الإلهي، فكان الحب الإلهي هو الحب الدائم الذي يدخل الجنان ويغسل الأدران عن الأجساد، وهو الذي إذا أشربته أعضاء الإنسان وجوارحه وحواسه كان للمحبوب سميعاً مطيعاً، فإذا أحببنا الله فلابد أن نكون سميعين مطيعين لأوامره، مجتنبين تاركين لنواهيه، وإذا أحببنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلابد أن نكون سميعين مطيعين لأوامره ومجتنبين تاركين لنواهيه.
وقد قال اليهود والنصارى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فزعموا أنفسهم أحباء لله، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18].
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحبيب لا يعذّب حبيبه) فلو كانوا أحباء الله لما عذّبهم، وهم معذّبون خالدون في العذاب؛ لأن الله قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وهؤلاء الكفرة اليهود يعبدون العزير ويعبدون العجل ويعبدون مريم وعيسى ويعبدون ويعبدون، ومن كان مشركاً لا أمل له ولا رجاء يوماً من الأيام بالعفو أو بالمغفرة أو بالرحمة، فهم أهل النار خالدون فيها أبد الآباد ودهر الداهرين.
قال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25] فأخذوا يضلونهم ويحكمون لهم كفرهم القائم الذي بين أيديهم والذي عايشهم وعاصرهم من فساد دنياهم ومن اتباع الشهوات والنزوات وفعل المنكرات والبعد عن الله وعن أ(301/7)
تفسير سورة فصلت [26 - 30]
الكفار لا يكتفون بالإعراض عن القرآن وتعاليمه، بل يصدون عنه غيرهم، وإذا سمعوا الذكر أخذوا في اللغو واللهو حتى يشوشوا عليه، ولذلك يكون جزاؤهم يوم القيامة النار، وحينئذ ترى الأتباع يريدون الانتقام من المتبوعين.(302/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن)
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26].
هذه علامة الكافر دائماً، وهي الإعراض عن القرآن وسماعه وعن هدايته وعما جاء في القرآن.
وعندما تولى الكفار تطوير برامج وأنظمة التعليم في العالم الإسلامي من المرحلة الابتدائية حتى الجامعية والتخصصات أبعدوا الإسلام عن الحياة العامة، وأول ما حاربوا القرآن ودين الإسلام، فأبعدوا تعليمه من الجامعات التي يعتبرون خريجيها هم رجال المستقبل وقادة الأمم والشعوب، وأبعدوا من تعلمها عن الحياة العامة وعن قيادة الأمم والشعوب وسموهم رجال الدين وشبهوهم بالرهبان وبالحاخامات، مع أن الإسلام لم يجئ بالدين فقط، وإنما جاء بالدين والدنيا.
فالإسلام عقيدة ونظام ودولة؛ ومن أنكر جزءاً من هذه الثلاثة دخل في عموم قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85].
فالإسلام عقيدة جاء بلا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالإيمان باليوم الآخر وبالقرآن كتاباً من الله وبالسنة المطهّرة الشريفة إلى بقية العقائد، ومن لم يؤمن بجميع هذه العقائد أو تشكك في بعضها فليس بمؤمن.
والإسلام نظام، فقد جاء بنظام اقتصادي، فحرم الربا والرشا والغدر وأكل أموال الناس بالباطل، وقدر الفروض في التركات من الثمن والربع والثلث والنصف، فمن غيّر شيئاً من هذا فقد غيّر نظام الإسلام.
والإسلام نظم الأسرة، فقد فرض البر والطاعة والإكرام للأبوين، وحسن صلة الأرحام للإخوة والأخوات وعموم الأقربين.
والإسلام نظام جعل المسلم أخاك حيث ما كان في أرض الله سواء كان أبيض أو أسود، أو فقيراً أو غنياً، أو رجلاً أو امرأة، وأخوك له من الحقوق ما لأخيك في الرحم، ومن سواه إذا لم يكن مسلماً فليس أخاً لك ولو كان أخاك لأبيك وأمك.
وابن نوح لما لم يؤمن بدينه أغرقه الله فيمن أغرق من الكافرين، وعندما قال نوح كما حكى تعالى عنه: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45] قال الله له: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]، أو ((عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ))، كما في بعض القراءات.
فالإسلام هو الحاجب الفاصل، فمن كان مسلماً فهو أخي في الدنيا والآخرة ولو كان أبعد الأبعدين نسباً، وأنا أحس بهذا وأشعر به، وما تركت قارة ولا جزءاً في الأرض إلا ووجدت ذلك، وكنت وأنا في أقصى آسيا وفي أقصى أفريقيا وفي أقصى الدنيا عندما أجتمع بمسلم أو مسلمين لا أشعر بغربة أبداً، وإذا اجتمعت بكافر أو منافق أو شيوعي أو ماسوني في بلدي ووطني فأشعر أنني غريب.
فالمسلم هو أخوك، ومن سواه فليس أخاً لك، فإن كان كافراً وكان بيننا وبينه عقد فهو ذمي، وإذا لم يكن بيننا وبينه عقد فهو حربي، فلك قتله وأخذ ماله، ولك طرده وإبعاده، ولا حق له في المقام بين المسلمين في الأرض، ولا يجوز لمسلم أن يساكنهم.
يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى نارهما) فيجب أن يكون من البعد بينك وبين جوار هذا الكافر ما بين النور والنور، والنور يرى من بُعد، فإذا رأى نورك ورأيت نوره فأنتما متساكنان وجاران قريبان.
قال تعالى: ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ)) وقد كان الكافر إذا رأى ولده أو قريبه أو زوجته يسمع النبي عليه الصلاة والسلام أو أحد أصحابه وهو يتلو القرآن قال له: لا تسمع، وضع يديك في أذنيك، فإن لم يتم لهم ذلك قالوا: ((وَالْغَوْا فِيهِ))، أي: خذوا في اللغو وفي الضوضاء وفي الصياح، فكانوا يصفقون ويصيحون ويقولون من القول ما يشغلون به السامعين عن سماع كتاب الله وسماع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه صفة كل كافر قديماً وحديثاً.
وأنا أذكر أني عندما كنت طالباً بمصر وأنا شاب دون العشرين كان هناك مقرئ مشهور اسمه الشيخ رفعت، لا يزال صوته يسمع في الأشرطة، وكان له صوت مؤثر، وكان عندما يقرأ سوراً أو آيات فيها ذكر مريم أو عيسى تجد شباب ونساء الأقباط النصارى يسمعون ذلك بتأثر، ويكون لقراءته مفعول في نفوسهم، فيسلمون، فلما علم الآباء والكنيسة والرهبان بذلك أخذوا يمنعونهم من سماع صوته وتلاوته للقرآن الكريم.
وهذا يقع عندما تجلس في مجلس فيه غير مؤمن أو فيه مؤمن في الظاهر وفي الاسم فعندما يقرأ أحد من الناس يضج ويحتج ويصيح، وقد يقوم ويشغل المجلس بغناء باطل وفاسد؛ لكي لا يسمع كلام الله؛ لأن لكلام الله مفعولاً وأثراً في النفس، ويجلب الراحة إليها فتؤمن بالله وتدين بدينه.
وقوله تعالى: ((وَالْغَوْا فِيهِ)) من اللغو، وهو قول الباطل، والاشتغال بالتصفيق وبالكلام الفارغ الذي لا معنى له.
وأما أدب المسلم فهو غير ذلك، فقد علمنا الله أن نكون حال قراءة القرآن كما قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204].
وتجد قوماً من بعض الأقطار الإسلامية عندما يتلو القارئ يتصايحون وكأنه مغنٍ يغني وليس قرآناً، وهو نوع من أنواع اللغو والباطل والتصفيق والإفساد الذي يفعله المشركون عندما يسمعون القرآن، وذاك من وحي الشيطان وإفساده لهم، فعوضاً عن أن يمتثلوا أمر الله فينصتوا للقرآن ويتفكروا في معانيه لا يفكرون إلا في طربه وفي قافيته الغنائية، وأن هذا نغم رومي وهذا عجم وهذا وهذا، وتجدهم يتصايحون عند الأنغام، وقد تكون تلك الآيات في العذاب وفي النار وفي البلاء وفي المصائب التي سيصاب بها الناس يوم العرض على الله يوم القيامة، وتجد هذه المعاني لا يفكرون فيها ولا تخطر لهم على بال وهم يصيحون، وهذه صفة المنافقين والكذبة على الله، وهي صفات أشبهوا بها إمامهم الشيطان، وقد حرم الله ذلك وأمرنا عند سماع القرآن أن ننصت ونخشع ونتروى ونتمعن فيه، والناس تختلف في المدارك والوعي والفهم.
والكفار دائماً لا منطق لهم ولا دليل، وعندما يذهب الدين يذهب معه العقل، فهم يظنون لسخافة عقولهم أنهم إذا لم يسمعوا القرآن غلبوا محمداً وتغلبوا على القرآن وعلى الإسلام! وهيهات هيهات! فهم إنما تغلبوا على أنفسهم وأبعدوها عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان والإسلام فكانوا عبدة للشيطان وأتباعاً له وعلى دينه، فكانوا هم المغلوبين والمقهورين والأذلاء، ولذلك تجدهم عند تلاوة القرآن يتصايح المتصايحون منهم ويهدر الهادرون ويشتغل المبطلون، وهذه صفة من صفات الكافرين بالله، فيجب على من في المجلس أن يُسكته، فإن لم يسكت فليطرده من المجلس؛ لأنه رسول الشيطان إلى المؤمنين الحاضرين.(302/2)
تفسير قوله تعالى: (فلنذيقن الذين كفروا عذاباً شديداً)
قال تعالى: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:27].
بعد أن عرض الله أعمالهم وأبان فسادها وتلفها وخسارتها لكي يعلم المؤمنون والصالح من الطالح فيهتدون بالصالح ويبتعدون عن الطالح أخبر ربنا وأشعر بعذابه وعقابه للكافرين، فقال: ((فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا)).
أي: هؤلاء الكافرون الذين يقولون لا تسمعوا لهذا القرآن وأمروا باللغو فيه وأخذوا في التصفيق والتغني والضوضاء والصياح عند تلاوته سيعذبهم الله عذاباً شديداً، والعذاب الشديد هو الذي لا راحة معه ليلاً أو نهاراً، وهو الذي لا راحة فيه لعضو من أعضاء المعذب ولا لخلية من خلايا بدنه، فهو يعذب بكل أعضائه تفصيلاً وجملة، فإذا نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها؛ ليذوقوا العذاب وليزدادوا فيه عذاباً وشدة.
قال تعالى: ((وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)).
أي: وليكافئهم ويعاقبهم ويجازيهم بأسوأ أعمالهم وأقبحها، وبأقبح ما كانوا يكسبون، ولا أقبح من الكفر، وليس بعد الكفر ذنب، فسيعذبون بالكفر ويهانون ويخلدون في النار بسببه، وينالهم من أنواع العذاب ما يبقوا معه خالدين فيه دهر الداهرين وأبد الآبدين.(302/3)
تفسير قوله تعالى: (ذلك جزاء أعداء الله النار)
قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:28].
يقول الله عن هؤلاء: ((ذَلِكَ))، أي: هذا العذاب الشديد ((ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ))، وأعداء الله هم الكافرون بكل فرقهم وأجناسهم وألوانهم وأديانهم، فهؤلاء أعداء الله جزاؤهم وعقوبتهم النار ومحنتهم بالنار.
((لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ))، أي: لهم في النار دار المتبوأ، أي: يتخذونها داراً ومقاماً ومثوى ومنزلاً خالدين فيها أبداً.
ثم ذكر تعالى أن هذا سيكون جزاء وعقوبة ومكافئة لهم ((بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ))، أي: بسبب جحودهم وكفرهم بآيات الله وبكتابه وبالإسلام وبمحمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وسنته.
فالله وصف هؤلاء بأنهم كافرون وبأنهم أعداء الله، وأن جزاءهم سيكون بأسوأ أعمالهم، وهو الشرك، خالدين في النار أبداً، فهي دارهم ومثواهم ومنزلتهم؛ بسبب كفرهم وجحودهم بالله وبكتابه وبنبيه صلى الله عليه وسلم، وذاك جزاء كل من يصنع مثل ذلك، وما قص الله علينا قصص السابقين إلا ليكونوا لنا عبرة وعظة؛ لكي لا نعمل أعمالهم ولا نتبع سيرهم وسبيلهم، ومن يفعل يجز جزاءهم بالعقاب وبالعذاب وبالخلود في النار.(302/4)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا)
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29].
أي: سيقولون هذا يوم القيامة وهم في النار خالدين مخلدين فيها، وهيهات أن ينفعهم ذلك، فهم وهم في النار في عذاب الله يصيحون ويريدون أن يقولوا شيئاً نفع أو لم ينفع، فينادون ربهم إذ ذاك ويعترفون به ويقولون: ((رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا)) أي: أطلعنا وعرفنا بوجوههم وبأشكالهم حتى نراهم رؤية العين.
((مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ)) فهؤلاء الذين أطاعوهم في دار الدنيا واتبعوا وساوسهم وسبلهم واهتدوا بهديهم ودانوا بدينهم وكفروا كفرهم يقولون لله وهم في النار: ((أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا))، أي: أبعدنا عن الهدى وعن الإسلام وعن الإيمان بالله وكتابه وعن الإيمان بمحمد ورسالته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجعلانا من الضالين التائهين، و ((أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا))، أي: نجعلهما في أسفل السافلين في الدرك الأسفل من النار؛ لنكون نحن أعلاهم.
وهذا كما قال الكافرون الذين سبقوهم: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، فقال الملائكة المكلفون عن أمر الله: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:38]، أي: سيعذب الكل التابع والمتبوع، والإمام والمؤتم، والموظف والقائد من الجن والإنس معاً.
((نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا))، أي: ينزلوهما في أسفل سافلين في الدرك الأسفل، ويدوسون عليهم بالأقدام انتقاماً وعداوة وحقداً، وهيهات أن ينفعهم ذلك.
((لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ))، أي: ليكون جنس الإنس وجنس الجن أسفل سافلين في العذاب، ويكونون معذبين أشد من غيرهم؛ لأنهم الأئمة والقادة وكما أن الجنة درجات فكذلك جهنم دركات، فمنهم من هو في الدرك الأسفل من النار، ومنهم من هو فوقها ومنهم من علا فوق سطح النار فلا تمس النار إلا قدمه، وهذا المساس بالقدم يغلي منه دماغه، نسأل الله اللطف والسلامة والبعد عن النيران والغضب في الدنيا والآخرة.(302/5)
بشرى أهل الاستقامة
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] جعلنا الله من أهل هذه الآية.
يقول تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا))، أي: شهدوا لله بالربوبية وبالوحدانية وبالألوهية، وبأنه الواحد الذي لا ثاني له لا في ذات ولا في صفة ولا في فعل، ثم بعد الإيمان بالله قلباً وجناناً نطقت جوارحهم بالعمل، ثم استقاموا، والاستقامة تكون بالجوارح وباللسان وبالعين وبالأذن وبالفم وبالشم وباليد وبالرجل وبالجسم كله، فلا يرى ولا يسمع ولا يمس ما يحرم عليه، ولا ينطق بلسانه إلا بخير لا بما يحرم عليه، ولا يشم رائحة إلا حلالاً، ولا يؤذي بيده ويصنع بها ما يحرم عليه، ولا يذهب إلى الأماكن التي تحرم عليه.
ولقد عرف رسول الله عليه الصلاة والسلام الاستقامة واشتهر تعريفها عن الخلفاء الراشدين وعن الصحابة الكرام وعن التابعين لهم بإحسان، فقد قرأ النبي عليه الصلاة والسلام هذه الآية: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)) ثم قال: (قالوا: لا إله إلا الله ثم استقاموا عليها إلى الموت)، ومعنى ذلك: أن النبي فسّر الاستقامة بالثبوت والدوام والاستمرار على الإسلام.
وأخبر بأنه سيؤمن أقوام ثم سيكفرون بربهم، وقد وقع هذا عند موت النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كفر أكثر أهل جزيرة العرب وارتدوا، فهؤلاء لم يستقيموا، ولو أنهم في أيامهم الأولى قاتل منهم من قاتل وجاهد من جاهد وتصدق من تصدق وحج من حج.
وقد قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] والمشرك يحبط عمله كله ويفسخ عقد زواجه، ويبطل حجه وصلواته وتلغى جميع أعماله الصالحة ولا يبقى أمامه إلا الكفر.
وعرّف أبو بكر الاستقامة فقال: الاستقامة: أن تقول لا إله إلا الله وأن تلتزم بآدابها.
أي: أن تعمل بمقتضاها.
وعرّفها عمر فقال: الاستقامة: أن تأمر بالمعروف وتفعله وأن تنهى عن المنكر وتنتهي عنه، وأن لا تتلاعب ولا تنزو نزو الثعالب.
أي: أن لا تزيد ولا تنقص في دينك بأن تُصبح مسلماً وتُمسي كافراً، مثل: أن تصلي وتجالس النساء التي حرّم الله عليك، أو تصلي وتعامل البنوك الربوية، أو تحج وتخرج النساء عرايا.
فلا تتلاعب تلاعب الثعالب، فإن الثعلب تجده أمامك، فإذا به خلفك وإذا به عن يمينك وعن شمالك، ودين كهذا دين ناقص.
وعرفها عثمان فقال: الاستقامة الطاعة.
وعرّفها علي فقال: الاستقامة هي عمل الفرائض والإتيان بها.(302/6)
تفسير سورة فصلت [30 - 32]
أهل الاستقامة الذين استقاموا على منهاج ربهم ففعلوا من الأوامر الشرعية ما قدروا عليه، وتركوا جميع ما نهى الله عنه، تتنزل عليهم الملائكة عند الموت فتبشرهم بالجنة وما سيتبعها من النعيم الذي هو فضل الله على عباده المؤمنين.(303/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)(303/2)
معنى قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله)
قال الله ربنا جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
بعد أن عرض ربنا جل جلاله أقاويل الكافرين وجحود الجاحدين ذكر من هم أعلى من ذلك مقاماً، وهم من قد رضي الله عنهم والمؤمنون، فذكر هناك أهل النار وهنا أهل الجنة ووصفهم ونعتهم وعرّف بهم ودعا لمثل أعمالهم؛ ليكون من أراد الجنة ورضا الله على علم بالطرق الموصلة إلى ذلك، فقال ربنا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30].
فقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ)) أي: إن الخلق والقوم والجن والإنس ((الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ))، أي: اعترفوا بالله رباً وإلهاً وخالقاً وواحداً وقادراً على كل شيء، ثم بعد أن آمن لسانهم عملت جوارحهم فاستقاموا على الطريقة المثلى اللائقة بالموحدين والجديرة بمن يقول: ربنا الله، لا كأولئك الذين أشركوا بالله وعملوا على معصيته ومخالفته ومخالفة كتبه ورسله الذي أرسلهم.
والاستقامة هي العمل بالأركان وبالجوارح والقيام بالوظائف الإسلامية من صلاة وصيام وزكاة وحج، وهي التخلق بالأخلاق الكريمة والابتعاد عن الأعمال الذميمة، وهي فعل الخيرات وترك المنكرات وملازمة ذلك في الحياة إلى لقاء الله، فمن كان كذلك تتنزل عليه ملائكة الرحمن مبشرة له وبالفضائل وحسن العاقبة، كما قال تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا} [فصلت:30].
أي: تنزل عليهم بأن لا يخافوا العاقبة ولا النار ولا الغضب، فهم على طريق مستقيم، ولا يحزنوا على ما يتركون في الدنيا الفانية من ولد وديون وتبعات، فالله جل جلاله يبعث إليهم ملائكته؛ لكي لا يخافوا وليطمئنوهم بأن لا يخافوا العاقبة، فهم آمنون بوعد الله وآمنون من عذابه، وأن لا يحزنوا، أي: فلتقر أعينهم بما وعدهم الله به وبما بشّرهم من القيام بأولادهم وإغنائهم والقيام على خدمتهم وإلهامهم عمل الصالحات.
ثم قال تعالى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، أي: أبشروا بكل خير وبالجنة التي وعدكم الله بها في الدار الدنيا في كتبه وعلى لسان رسله، فلهم الجنة منزل ومثوى ومقام خالدين فيها أبداً، لكم فيها ما تشتهي أنفسكم من أطايب ولذات وكرامات وكل ما لا يخطر في البال وفي النفس.
وقوله: {وَلَكُمْ فِيْهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:31] أي: ما تدعونه وتطلبونه يكون حاضراً لديكم.
{نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32]، أي: فهذه ضيافة من الله ونزل من فضله، وهو تكريم من كرامته ومن رحمته بعباده المؤمنين.
قوله تعالى: ((نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ)) فهو غفور قد غفر لكم ذنوبكم، رحيم بكم، فقد أكرمكم بالجنة وبالرحمة وبالرضا.(303/3)
تعريف الاستقامة
وفي صحيح مسلم وسنن النسائي عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: (قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحد بعدك قال: قل: ربي الله ثم استقم، وتلا هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] ثم قال: آمنوا بالله ثم لزموا ذلك وثبتوا عليه وماتوا عليه، وقال: قال ذلك قوم ثم كفروا).
وصدق ما قاله عليه الصلاة والسلام، فعند الوفاة النبوية ارتد الكثير من المسلمين، وعادوا إلى الكفر والجحود، وظهر بينهم متنبئون كذبة رجال ونساء، فهم من الذين قالوا يوماً: ربي الله ولكنهم لم يستقيموا ويستقروا على ذلك إلى الموت، فكان عملهم ذلك هباءاً منثوراً لا أجر عليه ولا ثواب؛ لأن الخاتمة كانت سيئة وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام بأنه لا تتم الاستقامة إلا بأن يقول المؤمن: ربي الله ويبقى على ذلك إلى لقاء الله.
وقال أبو بكر رضي الله عنه: الاستقامة أن لا تشرك بالله أبداً.
وقال عمر رضي الله عنه: الاستقامة أن تأمر بالمعروف وتفعله، وأن تنهى عن المنكر وتتركه، وأن لا تروغ روغان الثعلب.
أي: أن لا تتلاعب بدينك، فيوماً يماني ويوماً تميمي، بل ابق مؤمناً مسلماً قائماً بالطاعات مدة حياتك بلا تلاعب إلى لقاء ربك.
وقال عثمان رضي الله عنه: الاستقامة أن تؤمن بالله في سرك وعلنك وتبقى كذلك.
وقال علي رضي الله عنه: الاستقامة القيام بالفرائض، فمن قام بما فرض الله عليه من أقوال وأفعال فهو على خير، ويدخل في عموم هذه الآية الكريمة.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الاستقامة أن تقول لا إله إلا الله بحقها.
وقد ركبنا يوماً في باخرة فيها جماعة من المريدين ومن العبّاد والزهّاد، فكانوا يذكرون الله صباحاً ومساء ويؤذنون ويقيمون ويصلون جماعة، وظلوا على الباخرة البحرية أياماً يسافرون من خفر إلى خفر، وكان ظاهر قبطان الباخرة أنه ليس بمسلم، بل كان وثنياً أو نصرانياً، ثم في وقت اجتماعهم استأذن أن يجلس معهم فأذنوا له، فسأل شيخهم وكبيرهم الذي يظهر أنه مقدّمهم في الكلام والوعظ والإرشاد عن الاستقامة وقال له: ما الاستقامة عندكم معاشر المسلمين؟ فقال له: استقام فعل ماض، ويستقيم فعل مضارع، واستقم فعل أمر، والاستقامة مصدر، والسين والتاء للطلب، وأصل الكلمة أقام يقيم، أي: استقر.
فمد يده إلى جيبه وأخرج ذهباً وقال له: هذا ثمن تعريفك للفظ الاستقامة، ولو علمت معناها وعرّفتها وقُمت بها لزدناك.
ثم تبين أن ذلك الرجل كان مؤمناً يكتم إيمانه ويعلم الاستقامة، وقد أراد منه العمل لا القول، وأرد أن يعلم هل هذا القول معه عمل أو لا؟ فامتحنه بالسؤال عن معنى الاستقامة لا عن لفظها، وهو أخذ يجيبه باللفظ نحواً ولغة وترك معناها الذي فسرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون.(303/4)
الأقوال في وقت تنزل الملائكة على المؤمنين
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30].
قال علماؤنا ومفسرونا: تأتيهم الملائكة عند الاحتضار وقت خروجهم من الدنيا إلى الآخرة؛ لتبشرهم وهم لا يزالون قدماً في الدنيا وقدماً في الآخرة؛ لأنهم يخافون على الأولاد كما يخافون على مستقبلهم بعد الموت، فيأتوهم مبشرين من الله بعدم الخوف من الآخرة من عذاب ولعنة وغضب، وعدم الحزن على ما يخلفونه من أولاد وذرية محتاجين للمال، فهم يخافون أن يمدوا أيديهم للناس، فيطمئنونهم عليهم وعلى أموالهم وعملهم.
وقال قوم: يكون ذلك في القبر عندما يأتيه الملكان يسألانه ويستفسرانه من قبل الله جل وعز، من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فبعد جوابه وكونه من الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا يطمئنونه ويبشرونه من الله بالجنان وبعدم الخوف يوم القيامة عند العرض على الله، وأن لا يحزن على أولاده.
وقال قوم: يكون ذلك من الملائكة عند القيام من القبر، وعند البعث والنشور والناس تقبل على الله وهم على غاية الهلع والفزع أهم من أهل اليمين أهم من أهل اليسار؟ وهل سيرضى الله عنهم أو يغضب؟ فيأتونهم أحوج ما يكونوا لهذه البشريات، فيبشرونهم بعدم الخوف من غضب الله وبعدم الحزن من الحساب والعرض على الله، وأنهم من أهل الجنة، وهم سكانها وأهلوها.
وقال الله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] وأطلق ذلك ليعم، فهم تتنزل عليهم الملائكة عند الاحتضار وعند النزول إلى القبر وعند البعث والنشور والقيام من القبر، وتلك المواقف الثلاثة يحتاج المؤمن فيها إلى اطمئنان وبشريات وعدم تخويف وحزن بالبشرى، فتتنزل عليهم الملائكة لذلك.
وعلى هذا الاعتبار فكل ما قاله المفسرون من التنزل عند الاحتضار وعند الموت أو في القبر أو عند القيام كله صحيح.
فالملائكة تتنزل على هؤلاء المؤمنين في هذه المراحل والمنازل الثلاثة، فيكون الاطمئنان في الآخرة وفي الدنيا على الأولاد والأسباط والذراري من الأولاد.(303/5)
الملائكة التي تتنزل على المؤمنين
وأما الملائكة فهم الملائكة الرفقاء الأقران الذين يكونون على اليمين وعلى الشمال، فهم المكلفون بهذا العبد المؤمن الذين علموا حياته وصلاحه وقيامه بالفرائض، وعلموا أنه ممن يدخل ضمن هذه الآية، وأنه ممن دعا إلى الله، وممن آمن بالله رباً، وكان من المستقيمين في حياته وطاعته في دينه وإسلامه.
قال تعالى: ((تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا))، أي: بأن لا تخافوا، فهي تتنزل عليهم بهذا القول وحذفت الباء للدلالة عليها، وذلك من تمام فصاحة القرآن وبلاغته وإعجازه.
وقوله تعالى: ((أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا)) أي: لا تخافوا ما بين أيديكم من العذاب يوم القيامة، فأنتم آمنون بأمان الله، ولا تحزنوا على من تتركونهم من ذرية خلفكم، فإن كانوا فقراء فسيغنيهم الله من فضله، وإن كانوا أغنياء يشرفون على مالهم فلن يبذروه ويضيعوه ويصرفوه فيما لا يحل من حرام ومن مخالفات.(303/6)
معنى قوله تعالى: (أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون)
قوله: ((وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)).
أي: أبشروا يا هؤلاء الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا على الطريقة المثلى دواماً واستمراراً إلى لقاء الله وقاموا بالفرائض، فكل تلك المعاني التي ذكرها الخلفاء الراشدون وغيرهم من التابعين والصحابة هي جميعها بيان وتفسير لكلام رسول الله عليه الصلاة والسلام في الاستقامة، فهي: أن تقول: لا إله إلا الله وتطيع ربك، وأن تقول: ربي الله وتستمر على ذلك إلى لقاء الله ولا تنقطع عن هذا ولا ترتد كما ارتد مرتدون وكفر كافرون وسلب مسلوبون.
ثم قال تعالى: ((وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ))، أي: أبشروا يا هؤلاء! بالجنة التي وعدكم الله بها في كتابه وعلى لسانه رسله، وأبشروا بأنها منزلكم ومقامكم ومثواكم أبد الآبدين ودهر الداهرين.(303/7)
تفسير قوله تعالى: (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا)
قال تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:31]، أي: كما كنا أولياءكم وأنصاركم وأصدقائكم وأحبابكم في دار الدنيا حيث كُلِّفنا بكتابة أعمالكم في ليلكم ونهاركم، وفي حضركم وسفركم وإلى لقاء ربكم، فلن نترككم كذلك يوم القيامة، بل نبقى معكم إلى أن تتجاوزوا الصراط والحساب والعرض على الله وتدخلوا الجنة وأنتم مطمئنون آمنون فرحون بما آتاكم الله من فضله ومن خيره ومغفرته ورضوانه فتقول لهم الملائكة: ((نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا)) زيادة في البشريات.
قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}.
أي: في الجنة كرماً من الله وعطاء غير مجذوذ، بل أبداً سرمداً إلى ما لا نهاية له ((وَلَكُمْ فِيهَا)) أي: لكم في الجنة ما تشتهيه أنفسكم ويخطر ببالكم وتحن إليه أنفسكم من كرامة الله ومن اللذات والطيبات، ومن كل ما يخطر لكم ببال مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وتطلبونه وتدعونه يحضر لكم، فما طلبتم ورغبتم فيه وجدتموه.
وتجدون الغلمان الذين كأنهم اللؤلؤ المكنون ينتظرون أوامركم ونواهيكم، وستجدون الحور العين والقصور الشاهقات والمياه التي تتخلل بين أيديكم ومنازلكم، وما تشتهونه من طير ومن لحم ومن فاكهة، ومن ماء غير أسن ومن خمر لذة للشاربين، {لا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات:47]، أي: ليس فيها ما يضيع العقل ويغيبه ويؤذي الجسد ويمرضه، فليس فيها أذى ولا مرض.
والغول كلمة عربية، ويقصد بها السكر والعربدة التي توجد في خمر الدنيا.
قوله: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32].
أي: حال كون ذلك نزلاً، أي: ضيافة ومنزلاً وعطاء وكرامة من الغفور الذي غفر ذنوبكم، والرحيم الذي رحمكم وأكرمكم بالجنة وبالرضا وبالرحمة، وهذه المنازل الطيبات والجنات الدافقات والبشريات من أنه لا حزن ولا خوف عليكم لا في آخرتكم ولا فيما خلفتموه من أولاد كلها بشريات أمر الله ملائكته قرناء ذلك المسلم أن يبشره بها، وكل ذلك كرامة وضيافة ومنزلة من الغفور الرحيم الكريم الحنان المنان التواب.(303/8)
تفسير سورة فصلت [33 - 36]
يرشد الله عباده المؤمنين إلى أحاسن الأعمال والأقوال، فبين أن الدعوة إلى الله وعمل الصالحات أحسن ما يكون عليه المسلم، ومن ذلك القول الحسن والفعل الحسن، ومقابلة السيئة بالحسنة، فذلك من الخلق الحسن، وما يلقاها إلا الذين صبروا ومن كان ذا حظ عظيم.(304/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن أحسن قولاً)
قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
يقول ربنا: إن رتبة الاستقامة رتبة عالية لا يصلها كافر ولا منافق ولا عاص، وهناك رتبة أعلى من ذلك وهي قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
فالأول -وهو مبشّر بالفضائل والخيرات والكرامات- نفعه مقصور على نفسه، فهو قال: لا إله إلا الله لنفسه واستقام في نفسه، وأما هذا وهو الذي قال الله عنه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] أي: لا أحد أحسن منه، بل هو أحسن الخلائق وأكرمها وأرفعها، وهو أرفع منزلة ومقاماً ورتبة؛ لأنه فعل الخير في نفسه وأمر به الغير، وآمن بالله في نفسه ودعا الناس إلى لله، فقال: ربي الله أولاً، واستقام ثانياً، ودعا إلى الله ثالثاً، فدعا الخلق أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأن يطيعوا ربهم ورسولهم صلى الله عليه وسلم ويكونوا من المؤمنين ويتبرءوا من الكافرين؛ دعاهم إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة وترك الأخلاق السافلة.
قال تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا)) فهو قد دعا الخلق إلى المعروف وفعله، ونهى عن المنكر وانتهى عنه، لا كذاك الله قال الله عنه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:44]، وإنما عمل صالحاً ودعا الخلق إلى الله بلسانه وإلى تفسير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى أن يكونوا على حاله قبل مقاله، بأن يكونوا مصلين كما هو مصل، وصائمين كما هو صائم، وأن يزكّوا أموالهم كما يزكيها، وإلى حج بيت الله الحرام كما يحج، وأن يتركوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن كما تركها.
((وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ))، أي: وصف نفسه باسم الإسلام الذي سمانا الله به، وأعداؤنا يقولون عنا: المحمديون.
ونعم فنحن محمديون أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ونفخر بذلك، ولكن اسمنا المسلمون، بهذا سمانا الله، ولا نسمي أنفسنا المحمديين، وإن وصفنا بذلك قلنا: نعم، وهذا شرف لنا، ولكننا مع ذلك المؤمنون، والإسلام ديننا، عليه نحيا وعليه نموت بفضل الله وكرمه.
وأما (محمديون) فلم يكن هذا الوصف لا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا العصور الفاضلة ولا ما مضى، ولكن أعداء الإسلام والمسلمين أرادوا أن يجعلوها زعامة بشرية فينسبونا إلى شخص لا إلى دين، ونحن مع ذلك لا نتبرأ من هذه النسبة، بل نتشرف بها، ونزيد فنقول: نحن مسلمون وندين بالإسلام الذي أنزله الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمرنا به.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]،
الجواب
لا أحد، فهو استفهام تقريري، أي: هو قرار وأمر من الله بأن أحسن الرتب وأعلى منازل المؤمنين الذين آمنوا بربهم واستقاموا على طاعته، ثم بعد ذلك دعوا الناس إلى الله وعملوا الصالحات التي أمروا بها واجتنبوا المنكرات التي نهوا عنها، وأعلنوا غير وجلين ولا خائفين ولا مترددين في أوساط الكفرة أعداء الإسلام والمسلمين بأنهم مسلمون وشرفهم الإسلام وهو أكرم ما أكرمهم الله به.
وقد سئل الحسن البصري عن تفسير هذه الآية: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] فقال: ذاك حبيب الله وصفوته وخيرته، وهو رسوله الذي دعا إليه وآمن به وعمل الصالحات التي أمر بها عباد الله وترك المنكرات التي نهى عنها خلق الله، فذاك الذي أُمرنا بأن يكون قدوتنا وأسوتنا، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
فجعل الحسن أشرف من تمسك بهذه الآية وقام بها وعمل بآدابها وبحقائقها هو صاحب الشريعة المنزل عليه هذا الكتاب الكريم المكلف ببيانه، وهو خاتم الأنبياء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ويأتي بعده من تأسى به واقتدى به وفعل ذلك، ومن هنا كان العلماء ورثة الأنبياء كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأن وظيفتهم وعملهم وما كلّفوا به مدة حياتهم إلى لقاء الله أن يدعوا إلى الله ويبينوا كتابه ويشرحوا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بقولهم وبفعلهم وبسلوكهم وبحالهم قبل مقالهم.
وقد أثنى الله على المسلمين بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فالإسلام دين اجتماعي بالطبع، فلم يكتف الله من المؤمن أن يؤمن وينزوي ويغلق عليه داره إلا إذا خاف الفتنة وعجز عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعلة ولسبب ما، فعند ذاك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (خير رجل عند الفتن من اتبع بغنمه شعف الجبال) أي: يشرب من لبنها ويعيش من صوفها ويكف عن الناس شره ويستريحون منه، فتلك العزلة لا تكون إلا عند فساد الوقت والأمر، واختلاط الكفر بالإيمان، وعند دعوة كل ضال مضل لبدعته وكفره وفساده وضلاله.
والمؤمن والعالم والوارث المحمدي على كل اعتبار وفي كل زمن من الأعصار يفعل الخير معلناً له ويترك الشر معلناً له، ويدعو عباد الله إلى عبادة الله، ويبين لهم كتاب الله وما جاء فيه من أوامر ونواهٍ وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما جاء فيها من أوامر ونواه؛ قال تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا))، أي: قولاً وفعلاً وعبادة وأحكاماً ونشراً للمعروف وتركاً للمنكر، وأعلن معتزاً ومترفعاً بأنني من المسلمين ومن أتباع سيد الخلق وخاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
وكما قال عليه الصلاة والسلام: (أكرم ما أُكرم به الرجل أن يكون مسلماً).
وقال: (كفى بالإسلام نعمة، كفى بالإسلام فضلاً وكرامة)، فهو يأمرنا أن نقول: الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، فلا نعمة أعظم وأكمل وأشرف منها.
وهي نعمة نقّى الله بها عقولنا وطهُر بها صدورنا من عبادة الأوثان والأحجار والكفرة والفسقة والمنافقين والمضلين ومن اتباعهم، فنقّى عقولنا وملأها بتوحيده وبذكره وبعبادته، وجعلنا أتباع خاتم الأنبياء وسيد الخليقة منذ خلق الله آدم وإلى آخر إنسان في الوجود، ويشرف العبد بشرف من يواليه ويتبعه، ونحن شرفنا أننا عبيد الله وشرفنا الثاني أننا من أتباع النبي الحبيب الكريم خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأكّد هذا المعنى عليه الصلاة والسلام كما في الأحاديث المتواترة المستفيضة بقوله: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
وأمرنا عليه الصلاة والسلام أن ننكر المنكر ونأمر بالمعروف باليد؛ حتى نأطر الناس على الحق أطراً، أي: نجبرهم عليه جبراً.
والجبر يكون باللسان أولاً، فإن امتنعوا فالبيد، فإن امتنعوا فبالسيف والعقوبة الرادعة.
والتغيير العام باليد هو للمسئولين وللدولة ولمن لهم زعامة ورئاسة وكلمة في الأمر المعروف والنهي عن المنكر فهؤلاء يغيرون ذلك باليد، وكذلك الأب في بيته والمعلم في مدرسته والمدرس في حلقته، وما عدا ذلك إن استطاع أن ينكر المنكر ويأمر بالمعروف باليد فليفعل، فإن لم يستطع فلا أقل من اللسان ويقول: ما على الرسول إلا البلاغ، فإن لم يستطع فبالقلب، كأن يخاف إذا تكلم أن يسجن أو يضرب، متهمين له بالتدخل في السياسة.
واليوم يعتبرون الإسلام والدعوة إليه سياسة؛ لأنهم محاربون للإسلام وللقرآن ولمحمد عليه الصلاة والسلام، فإذا قال: أيها الناس! أطيعوا الله ربكم ومحمداً نبيكم والقرآن كتاب ربكم؛ قالوا له: أنت تحارب الدولة في قوانينها الجائرة اليهودية وفي أحكامها الداعرة الفاسقة، ثم يقولون له: أنت رجل مشوه تتلاعب بمقدرات الدولة وسياساتها، ومن هنا أخذوا يقولون: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، فاخترعوا ديناً وأصبح حالهم بيد الشيطان، قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
وعلى أساس ذلك أرادوا أن يبنوا في مكان واحد كنيسة نصرانية ومعبداً يهودياً ومسجداً مسلماً؛ ليخلطوا شعبان برمضان والأرز بالقمح والشعير، ويقولون: اليهودية والنصرانية والإسلام كلها شيء واحد، فمن آمن بواحد كان كمن آمن بالثلاثة، أي: فالمسلم كمن عبد الله الخالق وعبد المخلوق من العزير والعجل ومن مريم وعيسى ومن الأوثان والأخشاب والأصنام! وهكذا إذا سلب الله تعالى إنساناً دينه فإنه يتبع ذلك بطريقة آلية ويصبح إلى الحيوان أقرب منه للإنسان.
فقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، أي: لا أحد أحسن من هذا ولا أكرم منه، فهذه أعلى الرتب للمؤمن الفاضل الداعية الذي يريد عبادة ربه في نفسه، وأن يدعو إليه أولاده وطلّابه والناس أجمعين حيث اجتمع بهم في مشرق أو مغرب، في سهل أو جبل، في حضر أو سفر.(304/2)
تفسير قوله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة)
قال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35].
يقول ربنا وهو يوازن ويقارن بين الخير والشر، وبين الرحمن والشيطان، وبين الكفران والإيمان: ((وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ)).
أي: لا يكونان سواء في رتبة واحدة ومنزلة واحدة، فالحسنة في معناها الأعم هي الإسلام، والسيئة في معناها الأعم الكفر بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وبالقرآن كتاباً.
قال تعالى: ((وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) وكان هذا في مكة، والآية مكية، وأما في المدينة فلم يدفعوا بالحسنة ولا بالمعروف، فإنهم لما حوربوا ظلماً وعدواناً في عقيدتهم وفي أوطانهم وفي أخلاقهم دفعوا ذلك بالسيف والقوة، وكل قوة بحسب عصرها، وكما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].
ولما كان السيف والرمح والمنجنيق والجواد هي القوة استعملها السلف الصالح؛ لأنها هي قوة الزمان، وأما إذا أصبحت القوة هي الصاروخ والطائرة والدبابة وأنواع التدمير والتخريب إلى القنبلة الذرية وغيرها فسيأمرنا الله أن نفعل ذلك، وأن نتقوى بذلك ونتسلح به، ويدخل ذلك في عموم قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، وهذه الأشياء لا تريد أكثر من دراسة سنوات من الشباب وما يشترى به ذلك ويُصنع به، ومع هذا ما لا يزال المسلمون مقصّرين فيه، ويذهبون متسولين إلى دول شرقية وغربية؛ لعلها تتكرم عليهم وتجود لهم بشيء من الأسلحة، ولا تكاد تجود إلا بما أتى عليه الزمان وأصبح لا يصلح لشيء ولا يتم إلا بهم؛ ليبقوا المسيطرين، وتبقى أسرارنا وسلاحنا وجيوشنا وقوتنا بأيديهم، وهذا البلاء هو الذي فتت وحدتنا وأضاع قوتنا وشتت دولتنا وغلّب علينا اليهود إخوان القردة والخنازير وعبدة الطاغوت.
((وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) ويبقى معناها كذلك: ادفع بالتي هي أحسن من معنى آخر، ويصلح هذا ادفع بالتي هي أحسن أي: من سابك فلا تسبه، ومن هجرك من المؤمنين فلا تهجره، ومن قاطعك فلا تقاطعه، ومن جهل عليك فلا تجهل عليه، كما قال تعالى في سورة أخرى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
هذا المعنى الثاني للآية، وهو الذي قاله جمهور المفسرين للآية: ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))، أي: ادفع بالخصلة التي هي أحسن من عملهم ومن خصلتهم وأكرم من فعالهم ومن إيذائهم وظلمهم.
قوله: ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ))، أي: إذا دافعت قريباً أو صديقاً، والكلام هنا بين المسلمين لا بين المؤمن والكافر، بل الكافر لا بد من حربه وردعه، ولا بد من قتاله وإذلاله؛ لأن في قتاله نصراً للإسلام وفي إذلاله عزاً للإسلام، ومن خالف ذلك وخرج عنه كان كمن اشترى الذل والهوان ورضيه لنفسه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (المؤمن لا يذل نفسه).
ويقول الله جل جلاله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
ويقول: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
فنحن الذين نزعم الإيمان والإسلام الأعلون، فلا يليق باثني عشر ألفاً من المسلمين أن يقبلوا الدنية، فكيف إذا كنا اثني عشر مليوناً؟ وكيف إذا كنا ملياراً من الخلق -ألف مليون من البشر- في شمال الدنيا وجنوبها وفي مشارقها ومغاربها؟ ولكن حقت علينا كلمة العذاب عندما تركنا كتاب الله وراءنا ظهرياً وتركنا قائدنا صلى الله عليه وسلم وعصيناه وخالفناه، فأصبحنا كما قال عنا في حياته: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله! أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يُنزع الرُعب من قلوب عدوكم ويلقى الوهن في قلوبكم؛ لحبكم الدنيا وكراهيتكم للموت).
وقديماً قال أبو بكر رضي الله عنه في أول معركة إسلامية بين الكفر والإيمان بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أرسل خالد بن الوليد قائداً عاماً لقتال المرتدين ومانعي الزكاة: يا خالد! اطلب الموت توهب لك الحياة، ولو طلبت الحياة لأعطيت الموت، والأنفاس والأرزاق معدودة محصية لا تزيد ولا تنقص، فلا الحرص يزيدها طولاً ولا الأمل والطمع ينقصها، فالأعمار قد جفت بها الأقلام ورُفعت بها الصحف، وكان ما كان في اللوح المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يبدل القول فيه لدى ربنا سبحانه وتعالى.
إذاً: فقوله تعالى: ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ)) هذا مع الإخوة المسلمين، ادفع بالكلمة الأحسن وبالكلمة الطيبة، ((فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ)).
وسواء كان من أقاربك أو من إخوانك المسلمين، فإذا شتمك فاصبر له، وإذا قاطعك فلا تقطعه، وخاصة إذا كان هذا القريب والحميم زوجة أو زوجاً أو أخاً أو أختاً أو عماً أو عمة أو ذا صلة بك مثل صلة الدم والقرابة، فعامل سوءهم بإحسانك، وقطيعتهم بإكرامك وشدتهم بلينك وتحملهم.
قال تعالى: ((فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ))، أي: فإذا من كان عدواً لك حريصاً على إيذائك والقضاء عليك وإذلالك ينقلب ولياً حميماً وصديقاً قريباً ذا صداقة وأخوة حارتين ويعود حريصاً على قربك وعلى الإحسان لك ويندم على ما صدر منه وبدر.
قال ابن عباس: وهذه الآية كقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
وفي الآية التي عقب هذه الآية يأمرنا الله أن نلتزم مع المسلمين والسماحة والمغفرة والتغاضي عن الذنوب وعن الإساءة؛ سواء كانت بالقول أو بالفعل أو بأخذ المال وعلى أي طريقة كانت، كما قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف:199]، أي: ما تعارف عليه الناس من أخلاق وصلاة ومعاملة، {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] والجاهلون هم الذين جهلوا مقامك وجهلوا الأخلاق الفاضلة والسنة النبوية، وجهلوا ما يجب عليهم أن يفعلوه مع إخوانهم المسلمين، فأعرض عنهم، فإذا أنت صنعت ذلك إذا بالعدو يصبح أخاً حميماً كريماً وصديقاً محباً.(304/3)
تفسير قوله تعالى: (وما يلقاها إلا الذين صبروا)
قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
يقول تعالى: وما يلقى هذه الرتبة وهذه الخصلة {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
أي: وما يلقاها إلا الصابر والكاظم والمؤمن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والواصل للأرحام.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، أي: ولا يتحملها ويلقاها ويحصل على هذه الخصلة العظيمة من الصبر على الأخ المسلم في إيذائه وظلمه وقلة أدبه وجهالته إلا ذو حظ ومكانة وسعد في رضا الله ورحمته.
والحظ العظيم الذي يذكر في كتاب الله هو الجنة والمغفرة الإلهية والدرجة العالية في الجنان، ولا يفرّط في هذا ويبتعد عنه إلا من لا يحب التخلق بفعل الصالحين والمؤمنين كما أمر الله.
وفي مسند أحمد أنه جاء رجل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله! إن لي أقارب أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، أأفعل فعلهم وأعمل عملهم؟ قال: إذاً: تُتركون كلكم، وإن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل) أي: تضعفه في أفواههم، فهذا القريب الذي يسيء إليك وتحسن إليه، ويقطعك وتصله، وتحب له الخير ويتمنى لك الشر لا تفعل فعله ولا تعمل عمله.
والمل: الرماد الحار، أي: كأنك بذلك تضعه في أفواههم فيؤذيهم، أي: إن إحسانك يغلب سيئتهم، وصلتك تغلب قطيعتهم، وبفعلك يهينون أنفسهم ويحتقرونها ويرونك الأكبر والأعظم والأرشد والأقرب إلى الله وإلى التخلق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وفي معنى هذا يقول الله {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
وقوله: ((فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)) الولي: الأخ، والحميم: القريب والصديق.
((وَمَا يُلَقَّاهَا))، يعني: وما يلقى هذه الرتبة الشريفة ويحصل عليها.
((إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا))، أي: المتحلون بالصبر وبالتحمل وبما يتحلى به أولو العزم من الرجال المؤمنين الصادقي الإيمان.
((وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ))، أي: ولا يلقاها ويتلقاها ويظفر بها -إي: بهذه الرتبة الكريمة- إلا صاحب حظ عظيم.
والحظ العظيم: الجنة والرتبة العالية ورحمة الله ورضاه ودخول الجنان، وهو شيء لا يتحمله ولا يطيقه إلا مؤمن صادق الإيمان قوي الإرادة يغلّب رضا الرحمن على إرضاء الشيطان، ويغلّب الأخلاق الفاضلة على الأخلاق السافلة.(304/4)
تفسير قوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ)
قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36].
إما: شرطية، و (ما) في غير القرآن زائدة، وفي القرآن صلة أتت للتأكيد.
وقوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ) أي: إذا وسوس لك الشيطان ودفعك وتغلب عليك بوساوسه وبنزواته وبشهواته إلى أن تقاتل أخاك وتحارب قريبك وتنقلب على ابن عمك وتعادي المسلمين، فاستعذ بالله.
وأفظع من هذا أن تحاربهم وتشهر السلاح في وجوههم، قال عليه الصلاة والسلام: (سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر)، فسباب المسلم وشتيمته فسق، وقتاله كفر، وجحود للإسلام، والله ما أوجب القتال إلا ضد الكافرين بالله أو ضد البغاة من المؤمنين المبتدعة، الذين يظلمون الناس ويأكلون أموالهم بالباطل ويشهرون السلاح في وجوههم، فهؤلاء يقاتلون قصاصاً وجزاء للسيئة بمثلها، وأما القتال أولاً فلا يكون إلا لكافر أو من فعل ما يستحق عليه القتل كالزاني المحصن وكالمرتد عن الإسلام وقاتل النفس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) وما عدا ذلك فقتال المؤمن كفر.
قال تعالى: ((وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)) فالله جل جلاله أعطانا دواء لنزغ الإنسان ودواء لنزغ الشيطان، فأما دواء نزغ الإنسان -الذي تراه ويراك- عند ظلمه واعتدائه أن تحسن إليه بالكلمة الطيبة وبالعطاء وبصلته وبالغض عن مساوئه، وأما الشيطان الذي لا تراه فلا يفيد معه هذا؛ لأنه طُبع على الشر، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168].
فقوله تعالى: ((وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ)) أي: وإما أن يوسوس لك الشيطان ويدفعك في طريق الشر عن طريق وساوسه ونزواته وشهواته، ((نَزْغٌ)) أي: إيذاء ووسوسة ودفع إلى الشر، ((فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ))، أي: قل: أعوذ بك يا رب! وأجعلك معاذي وموئلي وحصني الذي أتحصن به من هذا الشيطان الرجيم.
وتلاوة القرآن وذكر الله من أعظم ما يتحصن به في ذلك، ومن أعظم التحصن في ذلك تلاوة آية الكرسي والمعوذتين وسورة الكهف، وتلاوة القرآن في البيت تطرد الشيطان ووساوسه عن الرجل والمرأة والأولاد، والبيت الذي لا يذكر الله فيه وليس فيه صلاة ولا تلاوة ولا عبادة فهو بيت الشيطان نفسه، ولا خير في هذا البيت ولا في الصلة به ولا شراكته ولا مصاهرته ولا القرب منه، وفي مثله يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الحب في الله والبغض في الله من الإيمان).
فإذا وسوس لك الشيطان فلا تخضع له ولا تصبر على لأوائه وعلى شره وعلى إيذائه وعلى ظلمه، بل إن شعرت به يوسوس في صدرك ويحيط بك فاستعذ بالله وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم شخصين يتلاحيان -يتشاتمان- وقد غضب أحدهما غضباً إلى أن انتفخت أوداجه وتوسعت عيناه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إني لأعلم كلمة لو قالها زال ما به، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وكان الرجل لا يزال في غضبه فقال عند رسول الله: أبي جنون؟ أي: حتى أقول ذلك! والغضب جنون.
والكثير من الناس لا صبر لهم، فتجدهم تثور أنفسهم لأقل كلمة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان الطبيب المداوي للنفوس والأجسام، فقد كان يأتيه الآتي فيقول: يا رسول الله! أوصني، فكان يجيب كل واحد بما يناسب مرضه البدني أو النفسي، وقد جاءه رجل فقال: (أوصني يا رسول الله! قال: لا تغضب.
فأعادها ثلاثاً فقال: لا تغضب).
وكانت علة هذا الرجل وسبب تدميره أنه لم يقبل هذه النصيحة وهذه الوصية، وهي ترك الغضب.
وهذا كثيراً ما يحدث، فقد يأتيك رجل ينتف شعره وينادي بالويل والثبور ويقول: إنه غضب وقد طلّق زوجته ثلاثاً، ويسأل: أيردها ويعيدها؟ ويقول: إنه أقسم عليها أن لا تخرج إلى بيت أمها وأبيها، ويكون في هذا خراب بيته وتشتيت أولاده وضياع تجارته، ثم يأتيك وكأنك أنت الذي تنزل الشريعة وأحكامها فيقول: أنقذني وخذ بيدي، لقد كنت في غضب شديد فقلت وقلت، ولا جواب إلا أن تتحمل نتيجة غضبك وعقوبته، وإلا فلم تغضب؟ والغضب شيطان، وهو يفسد الإنسان عن أعماله في دينه ودنياه، وقد يكفر.
وكثيراً ما تصدر من الإنسان الغضبان كلمات تعتبر ردة، مثل: أن يقول والله لو نزل الله من السماء، أو: لو جاءني محمد صلى الله عليه وسلم لما فعلت، فيحمله الغضب على الردة والكفر وما لا يليق بالإنسان، ولو ضبط نفسه في غضبه ووجد مربياً يربيه ويرشده ويوجهه لما وصل إلى هذا البلاء.
وأنا أذكر عندما كنت في سن الشباب أنه كان هناك تجار من العامة الذين ليسوا من أهل العلم بالشريعة يلزمون العلماء ويسألونهم عن الحلال والحرام ويستفتونهم عن مشاكلهم في بيتهم مع زوجاتهم وأولادهم وفي زراعتهم وتجارتهم، واليوم استغنى كل هؤلاء فلا حاجة لهم في حلال ولا حرام ولا شريعة ولا دين.
ولو دخلت بيته وسألته عندما تحيض امرأتك ماذا تصنع؟ وإذا سهوت في الصلاة ماذا تصنع؟ وعندما تقع لك مشكلة فيها رباً أو رشوة ماذا تصنع؟ فسيجيبك جواب الحيوان: لا أعلم! بل وتجده لا يهتم بشيء إلا كيف يجمع المال من الحلال والحرام، فلا يهمه أن يعيش كافراً أو مؤمناً ولا يفكّر في هذا، ومن هنا كان فساد المجتمع وفساد الناس وتسلط الشياطين والنساء على الرجال العقلاء وعلى أهل الفضل وأهل الخير والصلاح.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن النساء: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)، فالرجل العاقل ذو اللب تلعب به المرأة وتضحك عليه حتى يخضع لها في كل ما تشتهي مما يجوز وما لا يجوز.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36].
أي: السميع لأقوالكم العليم بحالكم، فهو يسمع قول الصادق ويعلم بواطنه وما ينطق به فيسمعه ويحاسبه عليه على ما يضمره من خير أو شر، فإن كان إيماناً أحسن له، وإن كان كفراً أو نفاقاً جازاه بمقتضاه، ولا تخفى عليه خافية جل جلاله وعلا مقامه.(304/5)
تفسير سورة فصلت [37 - 40]
من آيات الله الدالة على قدرته الموجبة لتوحيده والإخلاص له الليل والنهار والشمس والقمر وما يحصل للناس فيهما من منافع؛ لكن بعض الناس ضلوا فصاروا يعبدون الشمس والقمر وغيرهما من المخلوقات، وهؤلاء هم الملحدون الذين لا يعتبرون بآيات الله، وهم لا يخفون على الله وسيلقون جزاءهم.(305/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته الليل والنهار)(305/2)
معنى قوله تعالى: (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر)
قال الله جل جلاله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37].
السجدة هنا في هذه الآية الكريمة مجمع عليها من جميع الأئمة، واختلفوا في محل السجود هل هو عند قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37]، أو في الآية التالية في قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]؟ فعند الإمام مالك وهو قول الإمام علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وجماعة من الصحابة، وهو مذهب الحسن البصري وابن سيرين: أن السجدة تكون عند تمام قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37]؛ قالوا: لأن الأمر عندها، {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [فصلت:37].
وقال ابن عباس وهو مذهب الإمام أبي حنيفة والشافعي وعبد الله بن وهب من أئمة المالكية وجماعة من الصحابة والتابعين والأئمة: أن السجدة نهاية آية: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38].
قالوا: لأنه عند لا يسأمون يتم المعنى والكلام.
قوله: (ومن آياته) أي: ومن دلائل قدرته ووحدانيته ((اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ))، أي: خلق الليل لنسكن فيه والنهار لنعمل فيه، ((وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ))، أي: الشمس بضيائها وبشعاعها والقمر بنوره وبضيائه، والشمس والقمر والليل والنهار لمعرفة الأعداد والأزمان والجُمع والشهور والأعوام للعبادة ولقيام شهر رمضان حج بيت الله الحرام والتوقيت معاملات الناس في أزمانهم، وإحداد المرأة على زوجها والكفّارات وصيام شهرين متتابعين.
فهذه الأزمان والأسماء التي سماها الله تعالى من أعظم خلقه وأجمله، ولو جعل الليل سرمداً أو النهار سرمداً لما استطاع الخلق العمل، ولما استطاع العامل الراحة والترتيب في الأعمال، ولو خلق الشمس دائماً لاحتاج الناس إلى القمر، ولو خلق القمر دائماً لاحتاج الناس إلى الشمس، وكل ذلك خلقه الله جل جلاله.
ولفت الأنظار إلى حكمته وفوائده وإلى ما يجني الخلق من ذلك؛ لنزداد له عبادة وإيماناً ويقيناً بالأدلة القاطعة على أنه الواحد المنفرد بالعبادة، وأنه القادر على كل شيء، فقال تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ))، أي: ومن دلائل قدرته ووحدانيته خلقه الليل والنهار والشمس والقمر.(305/3)
معنى قوله تعالى: (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر)
قال الله تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37].
أي: يا هؤلاء! الذين فقدوا عقولهم وأديانهم كيف تسجدون وتعبدون خلقاً مثلكم؟ وكيف تعبدون ما لا يضر ولا ينفع؟ أليس الأولى أن تعبدوا خالق الشمس والقمر، وخالق كل ما كبر في صدوركم وأعينكم.
وقد وجد في القديم من يعبد الشمس، ولا يزال هناك إلى اليوم من يعبدها كذلك، فدولة اليابان التي عدد سكانها ما يزيد على مائة وعشرين مليوناً تعبد الشمس، وقد رأيناهم في سفنهم وبواخرهم يتحرون الشمس عند طلوعها وعند غروبها ونتفرج على ضياع عقولهم، وقد ركبنا معهم في أيام الطلب فكانوا يأتون عند طلوع الشمس ويتحركون حركات من ركوع ويتمتمون ويهمهمون ويتكلمون بكلام لا يُفهم، ويعودون لمثل ذلك عند غروبها، فازددنا حمداً لله وشكراً له على أن وفقنا لعبادته، فهو خالق الشمس والقمر.
وقد قص الله علينا في كتابه في قصة الهدهد لما تفقده سليمان عليه السلام ثم حضر فقال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24].
فقد كانت عبادة الشمس في جزيرة العرب في أرض اليمن، ولكن الله طهّر جزيرة العرب منذ أرسل لها سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فتركوا عبادة الأوثان وعبادة الخلق إلى عبادة الله الواحد، ثم نشروا دين الله خارج الجزيرة، فاهتدى من قضى الله في أزله هدايته وبقي في الضلال من لم يوفقه الله للهدى والإيمان.
قال تعالى: ((لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ))، أي: فلتكن عبادتكم وسجودكم لله خالق الشمس والقمر.
((إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ))، أي: إن كنتم تريدون عبادته وكنتم مؤمنين به، أما إن كانوا وثنيين مشركين فليسجدوا لما شاءوا، فالعذاب خلفهم والحساب يتبعهم.(305/4)
تفسير قوله تعالى: (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار)
قال تعالى: {فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38].
يقول الله جل جلاله: فإن تعاظموا واستكبروا على نبيهم في أمرهم بعبادة الله وبالسجود له {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38].
والذين عند ربك هم الملائكة الكرام الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهذه كقوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89].
أي: إن يكفر بعض البشر وبعض الجن فالذين عند ربك من ملائكته المكرمين لا يستكبرون عن العبادة، فإنهم يدعون الله ويعبدونه في الليل والنهار، ويديمون عبادته ليلاً ونهاراً حال كونهم لا يسأمون، أي: لا يملون ولا يكلّون.
وقالوا: العبادة للملك كالنفس للبشر، أي: كما أن البشر لا يعيشون بلا أنفاس وإذا انقطعت الأنفاس ماتوا فكذلك الملك نفسه ذكر الله، فهم في عبادة الله ما بين ساجد وقائم وعابد وذاكر، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام عنهم: (أطت السماء وحق لها أن تئط)، أي: صوتت السماء لما عليها من ثقل خلق الله وعباده من الملائكة كما يصوت السقف عندما يكثر الجالسون والقائمون فوقه (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد) فهم يعبدون الله في قيامهم وسجودهم وذكرهم وفي كل أحوالهم.
وهذا بيان لقوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]، أي: إن كفر هؤلاء فلن يكفر عباد الله من الملائكة ومن الأتقياء ومن الصلحاء ومن الموحدين لله من أتباع الأنبياء السابقين ومن أتباع خاتمهم عليه صلوات الله وسلامه.(305/5)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة)
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39].
أي: وكذلك من آيات الله ودلائل قدرته وعلامات وحدانيته لمن ألقى السمع وهو شهيد وتدبّر كلام الله وفكّر في خلق الله ووعى عن الله هي كل ما تراه العين وتسمعه الأذن، ومن أعظمها الليل إذا أقبل بظلامه والنهار إذا أقبل بضيائه، كما قال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الحج:61]، والشمس عند شروقها وغروبها، والقمر عند بزوغه منذ يكون هلالاً إلى أن يصبح قمراً إلى أن يختتم، فكل ذلك من قدرة الله ودلائل وحدانيته.
ومن آيات قدرته ودلائل وحدانيته أنك ترى الأرض خاشعة: أي: هامدة ميتة، غبراء جدباء قاحلة لا نفس عليها ولا ماء، وليس فيها ما يفيد حياً.
ومع ذلك فهذه الأرض الميتة الجدباء الخاشعة الهامدة إذا بالله الكريم يغيثها بالأمطار وينزل عليها الماء، فإذا بها بعد يوم أو يومين تهتز وتتحرك بما يدل على أن الحياة دخلت في باطنها وحركتها، كما قال تعالى: ((فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ))، أي: أخذت تتحرك وربت، أي: أخذت تربو وتعلو؛ نتيجة تلك النباتات التي سُقيت ونبتت وخرجت على ظاهر سطح الأرض بعد أن ربت وعلت، ومنه الربوة أي: الأرض العالية.
((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى)).
وهذا المثل ضربه الله لنا ليعرفنا ويعلمنا ويطلعنا كيف يحيي الموتى، فإن الناس يتساءلون ويعجبون منه، ومنهم من يستدل بالدلائل العقلية كما ذكرها القرآن وكما آمنت بها العقول السليمة، ومنهم من بقي على جهله وعلى ضلاله، يرى ما لا يفهم ويسمع ما لا يعقل، وكأنه ميت بين الأموات، فهو أصم وأعمى لا يستفيد بسمع ولا ببصر ولا بقلب ولا يهتدي بفهم هذه الآيات الواضحات البينات.
فالله يقول لنا: يا هؤلاء الذين تريدون معرفة كيف الله يحيي الموتى! ويا هؤلاء الذين تنكرون الحياة بعد الموت وتنكرون البعث والنشور! انظروا لما يشبه ذلك، ومروا على الأرض وقت الشتاء والجدب والقحط فسترونها جدباء لا تنبت، ليس فيها زهرة ولا نبتة ولا خضرة ولا ماء، ثم إذا بالله الكريم يمطرها ويغيثها بالماء فإذا بها بعد يوم أو يومين أو أكثر قد أخذت تهتز وتتحرك؛ نتيجة الحياة التي دبّت فيها من الماء الذي جعل الله كل شيء منه حياً، ثم أخذت تربو وتعلو، نتيجة تلك الأغصان والنباتات والخضروات لما تحركت ونبتت وخرجت على سطح الأرض فرفعت معها التراب وشقّته وخرجت.
((إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا))، أي: الذي أحيا هذه الأرض الخاشعة الميتة الجدباء أليس بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى.
وهذه النطفة التي تنزل من الذكر تراها نطفة ميتة لا حراك فيها، وإذا بها تأخذ طريقها إلى الأرحام، ثم بعد أشهر تجد البطن يتحرك، وبعد هذه الحركة تجده قد خرج مولوداً حياً ذا عينين وشفتين، طفلاً صغيراً من الخلق ومن البشر.
فمن الذي أحيا هذه النطفة الميتة والأرض الميتة الجدباء حتى إذا دخلها الماء ونزل عليها المطر أخذت تهتز وتتحرك وتربو وتصعد؟ ((إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا)) وهو الله جل جلاله ((لَمُحْييِ الْمَوْتَى)) إذ كيف يقدر على إحياء الأرض مع كبرها وسعتها وامتدادها في القارات ويعجز عن إحياء الناس؟! والله يرشدنا ونحن لا نزال أحياء؛ لنؤمن بعقولنا وبوعينا وبفهومنا على أن الله واحد، وأنه القادر على كل شيء والخالق لكل شيء، لا شريك معه في ذات ولا في صفة ولا في فعل.
((إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) فهو قادر على إحياء الأرض فأحياها، وقادر على إحياء الإنسان بعد موته، وقادر على حياة كل ما كان ميتاً، فهو الذي أحياه أولاً وقد كان ميتاً، وهو الذي سيحييه ثانياً، كما قال تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79]، أي: أيكون قادراً على الإحياء من العدم وعلى الإيجاد من لا شيء ولا وجود ثم يعجز عن الإعادة؟! حاشا الله ومعاذ الله، فهو القادر على كل شيء، وهو المحيي المميت، ثم هو المميت المحيي جل جلاله وعز مقامه.(305/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يلحدون في آياتنا)(305/7)
معنى قوله تعالى: (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40].
هنا يتوعد الله ويتهدد وينذر الملاحدة والمشركين ويخوفهم عذابه ونقمته، فقال ربنا: ((إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا)).
والإلحاد: الخروج عن الجادة وعن الطريق المستقيم والكفر بالله وتحريف الكلم عن مواضعه؛ كل هذا يدخل تحت هذه اللفظة من هذه الكريمة: ((إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا)).
أي: يكفرون بآيات الله وعلامات قدرته وأدلة وحدانيته ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويفسرون النهار بالليل والليل بالنهار بما لا يقره عقل ولا قرآن ولا سنة، شأن اليهود عندما حرفوا كتاب ربهم وتلاعبوا بآيات توراتهم، وهذا موجود في أدلة كل الفرق الضالة، فكل الفرق المبتدعة تستدل بقال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتستشهد على ذلك بكلام العرب، ويقولون: قال الشاعر وقال الخطيب وقال المتكلم، وفي كل ذلك تحريف للكلام عن مواضعه وتغيير لنصوص الكتاب.
فحولوا الصلاة إلى الدعاء، وأنكروا الصلوات الخمس، وحرّفوا الحج، وقالوا: إنه القصد إلى الشيء، وتركوا الحج إلى بيت الله الحرام، وأولوا الزكاة بأنها: التنمية والزيادة، وأنكروا العطاء والصدقات، وأولوا الصيام بالإمساك عن القول وعن الجواب وعن الاستفسار، وفتحوا بطونهم لكل مأكول ومشروب شرهاً وإفساداً لكتاب الله، وأتوا بفهوم عوراء وآراء باطلة لا يقبلها طفل ولا من له أدنى مسكة من عقل.
فهؤلاء بكل أشكالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويكفرون بآيات الله وأدلة وحدانيته وقدرته، وحادوا عن الطريق السوي الذي قال عنه نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يضل عنها إلا هالك)، وذهبوا إلى بنيات الطرق وإلى التلاعب بالنصوص، وظنوا أنهم يحسنون صنعاً، وهيهات هيهات! ومن هنا يجب على المسلم سواء كان معلماً أو أباً أو مدرساً أو حاكماً أن يتحرى الكتب التي لا تغيير فيها ولا تبديل ولا تحريف، وينتقي المعلمين والعلماء الذين سلكوا الجادة ولم يتبعوا السبل وبنيات الطرق، وإلا فالطفل كالعجينة وكالقضيب من السكر يتلاعب به من بيده كيف شاء، فإن شاء جعل العجينة خبزاً وإن شاء جعلها حلوى، وإن شاء مربعة، وإن شاء مستطيلة، وهكذا قل عن قضيب السكر، فإنك تشكله في يدك بالشكل الذي تريده.
وقد تنبه أعداء الله وأعداء المسلمين والإسلام إلى هذا فأفسدوا برامج التعليم في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية وأبعدوا أبناء المسلمين عن تعلم كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ومعرفة دينهم، ونشروا الإلحاد والفسوق، وجهّلوا الناس بدينهم وبكتاب ربهم وبسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
والتعليم هو أداة الصلاح والفساد، فإن تولاه مفسد ضل وأضل، وإن تولاه مصلح صلح وأصلح.
والتعليم الموجود اليوم في العالم الإسلامي فيه الفساد والضلال، فقد أفسدوا جميع برامج التعليم دون استثناء، حتى أن الكثير ممن يزعمون الإسلام والغيرة عليه وفهم القرآن والسنة حرفوا الآيات بما أحلوا فيها من الربا ومن الرشوة، وأبطلوا الأعمال والأركان، وقالوا بعقولهم وبكفرهم وبإلحادهم ما لم ينزل الله به من سلطان.
وقد أنذر الله جميع هؤلاء فقال: ((إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا))، أي: نحن نعلمهم ونعلم أسماءهم ونرى أعمالهم، وسنحاسبهم على ذلك الحساب العسير والطويل، ويعذّبون عليه العذاب الشديد الأليم.
وقوله تعالى: ((لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا)) تهديد، أي: إنا قد علمناهم وعلمنا أعمالهم فإذا لم يتوبوا ويتداركوا حياتهم وشبابهم وفراغهم وصحتهم، فلينتظروا، فيوشك عن قريب أن يأتيهم ملك الموت فلا تفيدهم طاعة ولا توبة ولا ندم عما فات.(305/8)
معنى قوله تعالى: (أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمناً يوم القيامة)
((أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
يقول الله لهؤلاء الملحدين المحرفين المتلاعبين بالنصوص كتاباً وسنة: أيهم خير: من يُلقى في النار لإلحاده وكفره، أم من يأتي يوم القيامة آمناً لا عذاب ولا حساب عليه، فهذا في الجنة وهذا في النار، فهل يستويان مثلاً؟ وهل الكافر كالمؤمن؟ وهل المقيم في الجنة وفي وجوههم نظرة النعيم له فيها ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه، كالذي في النار يعذب فيها أبداً سرمداً، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]؟ والله قال هذا ليلفت أنظارهم وليزيد وعيده لهم وتخويفه لهم بعد أن قال لهم: ((إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ))، أي: أهذا الملحد المحرف للكلام عن مواضعه العاصي الكافر بالله عندما يلقى على وجهه في النار ويسحب إليها سحباً؛ أهو خير وأكرم وأفضل وأصح أم ذاك الذي يأتي آمناً يوم القيامة؟ فالمؤمن يأتي يوم القيامة آمناً من غضب الله ومن دخول النار، ويكون آمناً لدخوله الجنان ولرحمة الله له ورضاه عنه.
ثم قال تعالى: ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)) بعد أن أعلمهم الله وبين لهم طريق الصلاح وطريق الضلال وخيّرهم هل الجنة خير أم النار، قال لهم: ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ))، أي: اتبعوا عقولكم وكفركم، وهذا وعيد أكيد وتهديد مخيف مزعج.
((إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)).
أي: إن الله جل جلاله بصير بعمل العاملين، إن عملوا خيراً جازاهم عنه خيراً، وإن عملوا شراً جازاهم عنه شراً، وهو البصير بكل شيء من أعمال العاملين، فمن عمل خيراً أبصره ومن عمل شراً أبصره، فللعامل بالخير الجنان والرضا، وللعامل بالشر النار والغضب.(305/9)
تفسير سورة فصلت [41 - 46]
القرآن الكريم وحي من الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لهداية الناس، وهو كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، نزله الله بلسان عربي ولم يجعله بلسان أعجمي حتى لا يزيد إعراض العرب عنه، ولكنهم أبوا إلا الكفر والجحود، فسيعلمون يوم القيامة جزاء ما كفروا به ويلقونه عذاباً خالداً.(306/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا بالذكر)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41 - 42].
((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ)) أي: إن الذين جحدوا بالذكر وبالقرآن الذي يذكر الناس بطاعة الله وبما جاء به من أدلة واضحة وبراهين كاشفة، وكفروا بالكتاب وبالقرآن وبكتب السماء، وبما أنزل على أنبيائهم وبما نطقوا به من بشارة الصالحين المتقين، وإنذار الضالين المضلين؛ سيجازون نتيجة كفرهم وجحودهم باللعنة والدخول في النار، كما قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ)) أي: سيجزون، وحذفت للعلم بها كما يقول ابن مالك: وحذف ما يعلم جائز كما تقول زيد بعد من عندكما وهذا يحدث كثيراً في آيات الله، ومن فصاحتها وبلاغتها يفهمها من له وعي وفهم بالعربية وبلغتها وبنحوها وبقواعدها.
((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ))، أي: الذكر، وهو القرآن الكريم، {لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}، أي: كتاب عزيز على الله وعلى عباده المؤمنين، فهو في موضع العزة والكرامة والمحبة والعمل به، فهو عزيز مكرم معظّم معمول به؛ لأنه كلام الله ووحيه، وقد جاء للبشر وللجن بشيراً ونذيراً، فقد نطق بالحكمة وبتحليل الحلال وبتحريم الحرام وبالعقائد وبالأخلاق وبما كان وبما سيكون إلى قيام الساعة.
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
((لا يأتيه)): لا يصل إليه ولا يطمع فيه سواء ((من بين يديه)) أي: حال نزوله وقراءته وجمعه وتلاوته في المحاريب صلاة وتهجداً وتلاوة وعبادة على أي شكل من الأشكال.
((ولا من خلفه)) أي: ولا من بعد نزوله وذيوعه انتشاره وبيان وتفسير الصحابة والعلماء له.
وقوله: ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ)) أي: لن يجرؤ أحد، ولو شاء لما استطاع أن يزيد فيه آية أو ينقص منه آية أو يغيّر منه حركة أو يزيد فيه حركة أو يحذف منه سورة أو يأتي بسورة.
والباطل هو: ما سوى الحق، فلا يأتيه الكذب من ناحية الحقائق التي قالها الله عن الخلق وعن وجود السماء وعن خلق الأرض وأن ذلك في ستة أيام، ومن رفع السماء وجعلها سقفاً محفوظاً، ومن مهّد الأرض وجعل الجبال والوهاد والبحار والعيون والآبار عليها، ومن خلق ما فيها من الشجر والخضرة والطير والحيوان مما ينفع الإنسان ويزداد به شكراً وحمداً لله، فهذا الذي ذكره الله في كتابه كله حقائق، ولم يجرؤ أحد يوماً أن يقول: هذا ضد العلم ومخالف له، أو أن التوراة والإنجيل والزبور أتوا بخلافه، أو أن العلماء اكتشفوا خلاف ذلك.
وأحد النصارى من الفرنسيين كتب منذ سنة كتاباً بالفرنسية وترجم إلى العربية وشاع وذاع بين الناطقين بلغة العرب وسمى كتابه: (القرآن مقارناً بالتوراة والإنجيل)، وخرج فيه بنتيجة -وهو لا يزال على نصرانيته- أن كل ما ذكر القرآن من حقائق الخلق من خلق السماء والأرض والإنسان وطبيعة الوجود من ليل ونهار وصيف وشتاء وكل ما قص من أخبار الماضين وأخبار اللاحقين، وقد مضى على نزوله 1400 عام كل ذلك لا يزال العلم يؤكده ويقطع به ويصححه.
وبعد أن كانت القضايا نظريات وخواطر أصبحت تجارب وحقائق أقرها العلم ولم ينفها أحد.
وقال: إن القرآن قد أتى بكل حق، بخلاف ما في التوراة والإنجيل من أباطيل وأضاليل لم يقرها علم ولا دليل التي تؤكد أن الإنجيل والتوراة قد حرفا، وهذا لا شك فيه ولا ريب، وقد قاله الله في القرآن المهيمن عليهما، وأكده الواقع، فالتواراة والإنجيل كانا كتابي توحيد وعبادة لله، ثم أصبحا كتابي وثنية وشرك بالله، فالتوراة تدعو لعبادة العزير وعبادة العجل والإنجيل يدعو لعبادة مريم وعيسى، وكلا الكتابان يقولان ما قاله الله عنهما: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18].
فلم يقتصروا على أن عيسى وحده ابن الله، بل جعلوا أنفسهم جميعاً أبناء الله.
وهم عند الذكر والدعاء يقولون: يا أبانا! الذي في السماء، وهكذا انتقلت التوراة والإنجيل من الحقائق إلى الأباطيل من الوحدانية إلى الشرك.
وقذفا الأنبياء بأنواع الفواحش والمنكرات حتى في المحارم التي يتورع عنهن الفاسق والداعر ومن لا دين له، فقد اتهموا أنبياءهم بإتيان البنات والأخوات وقتل الأزواج واغتصاب بناتهم ونسائهم.
وقالوا عن سليمان: إنه كفر، وقالوا عن الله ما لا يقوله إلا مجنون ذاهب العقل قبل أن يكون ذاهب الدين.
فهؤلاء حرّفوا وهؤلاء بدّلوا، وأما كتاب الله فهو المعجزة السرمدية الأبدية ما دامت السماوات والأرض، واعتبرها كذلك النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن جميع معجزاته قد أدت مهمتها عند نزولها وعملها ولم يبق إلا معجزة القرآن التي رآها المعاصرون لنبي الله عليه الصلاة والسلام ومن جاء بعدهم من القرن الأول وإلى عصرنا، فهو معجزة لنا أكثر مما كان معجزة للأولين.
يقول تعالى هنا: ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)) ونحن نقول: إن هذا صحيح ومؤكد وقد أصبح مقطوعاً به بعد نزوله بألف وأربعمائة عام، وآمن به الصحابة تصديقاً لكتاب الله ولرسوله عليه الصلاة والسلام.
ونحن نقول ما قاله الصحابة ونزيد: بأننا عشنا في واقع رأيناه فيه وأدركناه وقطعنا به بعد نزوله بألف وأربعمائة عام، فلم يأته باطل ولا تكذيب ولا ما يخالفه لا فيما تقدم ولا فيما تأخر عنه، ولم يغيّر ولم يبدّل، ولم يأته باطل بتغيير أو تحريف أو قلب أو تغيير، فإن وجد في التفاسير قول للمبتدعة أو للضالين المضلين فتلك جرائمهم وسوءاتهم والقرآن منها بريء، والعلماء الصالح منهم والطالح عندما يقولون قولاً أو يؤلفون كتاباً يختمونه بهذه الفقرة: إن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني.
وقوله: ((تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)) أي: الله هو الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم وأمره ببيانه وبإشاعته، وبالأمر والنهي به وبيان حلاله وحرامه، وبيان أحكامه وآدابه وعقائده وما فيه من أخبار الأنبياء السابقين وأممهم، واللاحقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى البعث والنشور وإلى أن يدخل الجنة من يدخلها ويدخل النار من يدخلها.
فهذه الآية الكريمة هي من تمام إعجاز القرآن بما جاء فيها من أخبار وبأن الله تعهد بحفظ كتابه من الباطل في معانيه وألفاظه وحركاته.
وقد وجدنا الأمر كذلك؛ فأعداء الإسلام والقرآن على كثرتهم ما ادعى أحد منهم قط بأن القرآن فيه زيادة أو نقصان أو أن هناك مصاحف فيها سورة زائدة أو مصاحف فيها سورة ناقصة، وكل ما يذكر من ذلك هو كلام الحمقى والمجانين والكفرة الضائقين، على أنه على ذلك لا وجود لذلك لا في قديم زمان ولا في متأخرة، فهم يقولون قولاً بمعنى أنهم يتمنونه ويسعون إليه.
وهذا كما يقول ضال من الضلال من فراعنة العصر الدجاجلة الذين أخبر النبي عنهم صلى الله عليه وسلم بأنه: (بين يدي الساعة ثلاثون دجالاً)، إن اليهود غيروا القرآن وطبعوا نسخاً منه ووزعوها في القارات.
وهو كذب لا يوجد البتة، وإنما أراد أن يقول للناس: زعمتم بأن كتابكم محفوظ وأن الله قد حفظه، وهؤلاء اليهود قد بدلوه وغيروه وشاع وذاع؟ وقد حضرت كما حضر غيري في مؤتمرات بالعشرات في قارات الأرض وخاصة في إفريقيا التي زعم هذا الدجال: أن اليهود طبعوا هذا المصحف ووزعوه فيها، فسألت: هل رأيتم هذا؟ قالوا: سمعنا ولم نر.
وهو إنما قال هذا تشكيكاً للمؤمنين في دينهم، ولا يوجد شيء من ذلك.
{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41 - 42].
أي: حكيم في أقواله وفي أفعاله وفي قدرته.
والحكمة هي: وضع الشيء في محله بلا زيادة ولا نقصان، والقرآن كذلك؛ لأن المتكلم به هو الحكيم جل جلاله.
وهو الحميد المحمود ذاتاً وصفات وأفعالاً، وهو الذي يحمده الحامدون، وقد بدأ الخلق بالحمد لله، وأنهاه بالحمد لله، وأمرنا أن نبتدئ صباحنا ومساءنا وجميع صلواتنا بالحمد لله رب العالمين، وأن نقول: الحمد لله عند طعامنا وشرابنا وأعمالنا وأذكارنا، وعقب الصلوات والفرائض كلها.
وقوله: ((وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ)) أي: عزيز على الله، وعزيز على المؤمنين من عباد الله.
وهو كريم في قوله ومعناه، وقد عز عن أن ينال أو يؤتى بمثله أو يتلاعب به، وهيهات هيهات! ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما استطاعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.(306/2)
تفسير قوله تعالى: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك)
قال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت:43].
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ))، والآية تحتمل معنيين، وكلاهما قائم واقع وبأي معنى فسرنا فهو صحيح.
المعنى الأول: ((مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ))، أي: ما يقال لك من قومك من اتهام وشتائم وهجران وتكذيب قد قيل كل ذلك للأنبياء قبلك، فقد كذبهم أقوامهم وأنكروهم واتهموهم بالسحر وبالازدراء، وقالوا فيهم ما قالوا وعلى ذلك تكون الآية للتعزية والتسلية للنبي عليه الصلاة والسلام بأنه ما كان بدعاً من الرسل، فما جرى عليه من تكذيب الكاذبين وافتراء المفترين وضلال الضالين قد وقع لمن قبله من عيسى إلى نوح إلى آدم عليه السلام، فاصبر كما صبروا وتيقن كما تيقنوا، فالنهاية والنصر لك، والهزيمة لهمن كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، وكذلك كان للأنبياء قبل، وكان أيضاً لخاتمهم نبينا عليه الصلاة والسلام، فقد كان النصر له والهزيمة لأعدائه.
والمعنى الثاني: ((مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ))، أي: أن ما أتيت الناس به أن اتركوا الأصنام والأوثان واعبدوا الله الواحد وآمنوا بوحدانيته وبقدرته وبأنه القادر على كل شيء قد استنكروه، وقالوا وهم يتعجبون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5].
ولم يأت محمد وحده بهذا عليه الصلاة والسلام، ولكن جميع الأنبياء قبله جاءوا بالتوحيد وبنبذ عبادة الأصنام والشركاء، وبالإيمان بالله الواحد وحده، وبأن هناك حياة بعد الموت في دار الخلود في يوم البعث والنشور إما في الجنة وإما في النار، فلم تأت إلى قومك وإلى الناس الذين أرسلت إليهم يا محمد! بشيء وبدع جديد، أي: إن التوحيد الذي جئت به قد جاءت به جميع الأنبياء قبلك، فالأصنام والأوثان والشركاء التي دست عليهم بنعالك جعلتهم تحت أقدامك؛ لم يكن هذا عملك فقط، بل هو عمل جميع الأنبياء قبلك، وما أنت إلا واحد منهم.
ثم قال تعالى: ((إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ)).
أي: إن ربك جل جلاله لصاحب مغفرة لمن استغفره وتاب إليه وآمن به، فهو يغفر ذنوبه ويكفر سيئاته، والإسلام يجب ما قبله، وهو ذو عقاب أليم لمن بقي على الكفر وأصر على عبادة الأوثان والشركاء، وجعل لله شريكاً ما أنزل الله به من سلطان.
وهذا المعنى ثابت في كثير من الآيات، بل به نزلت الأنبياء كلهم، وكلهم جاءوا بالإيمان بالله الواحد وبعبادته وحده وإفراده بالطاعة وبالعبودية.(306/3)
تفسير قوله تعالى: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً)
قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44].
يقول الله لهؤلاء: أنزل عليكم القرآن بلغتكم التي تتكلمونها بسليقتكم دون حاجة إلى تعلم ولا إلى شيخ ولا إلى دراسة، ومع ذلك كفرتم وعارضتم.
وقال هذا لكفار مكة منذ اليوم الأول، فقال الله لهم منكراً ومهدداً ومقرعاً: ((وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا))، أي: لو أنزل الله القرآن بغير لغة العرب ((لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ))، أي: هلا فصلت آياته وبينت ووضحت.
والوضوح والبيان بالنسبة لهم أن يكون بلغتهم وببيانهم وباللغة التي يفهمون ويدركون، وإلا لكانوا قالوا: ((أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ))، أي: ألغة عجمية ويخاطب بها العرب؟ ألغة أعجميه ونبي عربي؟ هذا تناقض، ولكن هذا لم يصنعه الله ولم يفعله فلم ينزل القرآن إلا عربياً على نبي عربي، وما أوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم إلا لينذر به أولاً قومه، كما قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، أي: ليكونوا هم بعد ذلك رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة.
وقد حدث هذا، فما مات صلى الله عليه وسلم وذهب إلى الرفيق الأعلى إلا وجزيرة العرب كلها مؤمنة، وكان الذي خرج بالإسلام خارج حدودها أصحابه من الخلفاء الراشدين، ابتداء بـ أبي بكر ثم عمر، وقد نشروه وبينوه بين تلك الأمم بلغته العربية، فتعلموها وحصلوا عليها، وأصبح الكثير منهم أعلم بالعربية من أهلها، وما إمام النحو إلا فارسي، وعنه أخذ العرب نحوهم، وما إمام التفسير إلا فارسي، وهو محمد بن جرير الطبري، وما إمام الحديث إلا فارسي، وهو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه البخاري واسم (بردزبه) اسم مجوسي فارسي، فكان الإمام البخاري إمام الحديث الذي علم الناس والعرب بلغتهم سنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، وهكذا ما مضى جيل أو جيلان بعد ذهاب النبي إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم حتى انتشر الإسلام بلغته التي هي لغة كتاب الله ولغة نبي الله صلى الله عليه وسلم ولغة الفاتحين من أصحابه الخلفاء الراشدين.
فكانت العربية لغة جميع المسلمين، وبقي الأمر كذلك ثمانية قرون كما يقول ابن تيمية وابن بطوطة.
قالها ابن تيمية علماً، وقالها ابن بطوطة مشاهدة، وهذا مشرقي وهذا مغربي، وكلاهما كان في القرن الثامن.
يقول ابن تيمية (في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) عن العصر الذي عاش فيه: كانت جميع الأمم والشعوب الإسلامية تتكلم بلغة القرآن.
وابن بطوطة في نفس العصر قام بجولة وبرحلات استغرقت ثلاثين عاماً ولم يترك إقليماً ولا مدينة ولا قرية إلا وهاجر إليها وأقام فيها وتزوج من نسائها وعمل في وظائفها قاضياً وحاكماً وعاملاً، ووزع أولاده في جميع هذه الأقطار، فقد كان يتزوج الأربع ثم يريد أخذهن معه فيمنعونه من ذلك فيطلقهن، ثم يذهب إلى إقليم آخر ويتزوج أربع أخر.
وذلك في رحلته المشهورة باسم: رحلة ابن بطوطة، وقد طبعت عشرات المرات وترجمت إلى جميع لغات الأرض الحية.
إذاً: فقوله تعالى: ((وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ))، أي: لولا بينت، وهلا أبنتموها ووضحتموها، ثم يقولون: ((أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ))؟ أي: أتكون اللغة أعجمية والمخاطبون بها عرباً؟ أيكون النبي عربياً والكتاب المنزل عليه بلغة العجم؟ وهذا لم يحدث، ولكن لو حدث لقالوا ذلك، والله لم يفعله لكي تبقى الحجة البالغة لله.
ثم قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: ((قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)) فالقرآن هدى لمن اتبعه وآمن به، وهو طريق الهداية والإيمان والخروج من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، وهو شفاء؛ فهو هداية للعقول وشفاء لما في الصدور من شكوك وريب، بل وكذلك شفاء للأجسام.
وتلك من خصائص كتاب الله، وإذا شفيت الصدور واطمأنت العقول سلمت الأعضاء وقويت وصحت.
قال تعالى: ((وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)).
أي: والذين لا يؤمنون بكتاب الله قولاً منه وكلاماً له ((فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ))، أي: في آذانهم ثقل ورصاص لا يسمعون ولا يعلمون، أي: هم كمن كان في أذنه شيء ثقيل يحول بينه وبين سماع الحكمة والإيمان.
((وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى))، أي: إن كفرهم وإصرارهم على الكفر ما زادهم إلا ضلالاً وعماية، فهم في عمى منذ أن يصبحوا إلى أن يمسوا، وهم كما وصفهم الله: لهم أعين لا يبصرون بها، ولهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، فعلى الآذان وقر وثقل، وعلى الأعين حجاب من الكفر والجحود، فهم لا يرون ولا يسمعون.
وهؤلاء الذين لم يؤمنوا به والذين في آذانهم وقر قالوا: هو قول محمد اكتتبه مع بعض أصحابه.
فكفروا بكتاب ربهم وأعرضوا عنه، فحرموا فهمه ووعيه وما فيه من نور.
قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ)) أي: هؤلاء الذين هم على هذه الحالة، ((يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ))، أي: كالشخص البعيد عنك بمسافات طويلة إذا ناديته لا يسمعك؛ لأن المسافة بينك وبينه بعيدة، والآذان عادة لا تستطيع أن تعي ما يقال لها من بعد، أي: هي بعيدة عن الحق وعن سماعه.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع يوماً رجلاً ينادي آخر ويصيح فالتفت فلم ير المنادى أمامه، فقال: من تنادي؟ قال: أنادي فلاناً في البحر.
وأين البحر من المدينة المنورة؟! فقال له عمر رضي الله عنه: صدق ربنا: ((أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ))، أي: نداؤك وسماعك تافه، وأنت في وسواس لا معنى له.(306/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب)
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [فصلت:45].
هنا يعزي ربنا نبينا صلى الله عليه وسلم ويسليه، فيقول له: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ))، أي: كما آتيناك القرآن واختلفوا فيه بين مصدق ومكذب، وبين مؤمن وكافر، فكذلك قوم موسى عليه السلام اختلفوا في الإيمان به، فكفر به أقوام وآمن به آخرون، فتلك طريقة الأنبياء في تصديق أقوامهم لهم وتكذيبهم لهم، فيؤمن بهم البعض ويكفر بهم البعض، وحساب الله بعد ذلك يشمل الكل، ثم إما إلى جنة وإما إلى نار.
قال تعالى: ((وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ))، أي: ولولا أنه سبق في علم الله أنه يؤخر العذاب والعقاب إلى يوم القيامة والعرض عليه لحاسبهم في الدنيا قبل الآخرة، ولحاسب قوم موسى وقوم محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً؛ ولكن سبق في علم الله أن الحساب الكامل الأكيد سيكون يوم البعث والنشور، وقد أخر عقوبتهم والفصل بينهم إلى قيام الساعة ومع كفرهم فإن كفرهم كفر تقليد غير مبني على وعي منهم.
قال تعالى: ((وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ))، أي: إنهم في شك هل هذا كلام الله أو ليس كذلك؟ وهل هذا نبي صادق أم كاذب؟ ولم يقرروا شيئاً فهم كفروا ثم شكوا في كفرهم، وآمنوا ثم شكوا في إيمانهم، فعاشوا في ريب وشك وتيه ودوران وضلال لم يهتدوا به إلى الطريق الحق إلى الطريق المستقيم.(306/5)
تفسير قوله تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها)
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
يقول تعالى لهؤلاء: الله غني عن إيمانكم لا ينفعه إيمانكم ولا يضره كفركم، فإن آمنتم وأحسنتم فلأنفسكم، وبإيمانكم تدخلون الجنة وترحمون وتخرجون من غضب الله ومن لعنته إلى عداد من يرحمهم ويرضى عنهم ويجازيهم بالجنان.
((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ))، فالصالحات أجرها ونتيجتها ومآلها لنفسه، أي: فنفسه خدم ولها عمل.
((وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا))، أي: ومن كفر بالله وخالف كتابه وعصى رسوله فعلى نفسه ولها أساء، وقد حمل نفسه ما لا تحتمل من عذاب الله وغضبه وأوقعها في النيران.
قال تعالى: ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) فالله جل جلاله حرم الظلم على نفسه، ثم حرمه على عباده، فلم يعذب محسناً، وقد يغفر للمسيء إذا مات على لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقوله: ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) هذه الصيغة صيغة مبالغة، وليس معناها نفي المبالغة، بل نفي الظلم، ولا يظلم ربك أحداً، وقد تكون صيغة المبالغة بمعنى النفي المطلق.(306/6)
تفسير سورة فصلت [46 - 51]
بين الله الحق للناس ليبتليهم فينظر من يعمل صالحاً فيجزيه الجنة ومن يعمل سوءاً فله النار، وذلك عند قيام الساعة التي لا يعلمها إلا هو سبحانه.
ومن طبع الكافر أنه إذا أصابه الخير بطر وظن أنه مستحق له وأن الله يحبه، وإذا أصابه الشر قنط من رحمة الله.(307/1)
تفسير قوله تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه)
قال ربنا جل جلاله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
بعد أن توعد الله الكافرين وبشر المتقين قال عن هؤلاء وعن هؤلاء: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ))، وهم المؤمنون الأتقياء الذين استجابوا لربهم وأطاعوا نبيهم صلى الله عليه وسلم، فهم إنما يعملون الصالحات لأنفسهم، وهم الذين ينتفعون بذلك ويكرمون من أجل ذلك، فنفسهم خدموا ولأنفسهم قدموا.
والعكس بالعكس، ((وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا))، أي: ومن أساء الطاعة والعقيدة وكفر بالله وأشرك به وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبه؛ فعلى نفسها جنت براقش! وكما في الحديث القدسي: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم لما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.
يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه).
وفي الحديث القدسي الآخر: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
فالله جل جلاله لا يظلم أحداً، ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلِعَبِيد)) وظلام صيغة مبالغة، ونفيها نفي للكل لا للمبالغة فقط، بدليل قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
فنفى الظلم مطلقاً، وهو عموم يخص صيغ المبالغة وغير المبالغة، فالمعنى شامل لنفي الظلم في كل أشكاله، وعلى ذلك فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها.
والله عندما يدعونا لعبادته ولطاعته ويحذرنا عقوبته فذلك منه جل جلاله رحمة وإكرام، حتى إذا جاء الإنسان يوم القيامة ووجد الخير حمد الله وشكره على أن وفقه لذلك حال حياته، فإن وجد غير ذلك فتبقى الحجة البالغة لله، والمذنب والمشرك هو الذي تمرد وعصى ودمر نفسه وأوبقها بالمخالفات وبالشرك بالله.(307/2)
تفسير قوله تعالى: (إليه يرد علم الساعة)(307/3)
استئثار الله بعلم الساعة
قال تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} [فصلت:47].
هذه الآية أول آيات الجزء الخامس والعشرين، وقد بقي لنا من كتاب الله وبيانه وتفسيره ستة أجزاء شاكرين الله حامدين له، وكما وفقنا إلى تفسير هذا فنرجوه جل جلاله أن يعيننا على الآتي فضلاً منه وكرماً.
قال تعالى: ((إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ)) تقديم العامل على المعمول يفيد الحصر، وعلم الساعة خاص بالله، ووقت كونها من العلم الذي استأثر الله به، فلم يخبر به ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً.
فإليه يرد علم الساعة لا لأحد سواه من خلقه، وهذا قد كرره الله في مواضعه المناسبة من السور والآيات، ولا يعلم وقتها وساعتها إلا ربنا جل جلاله.
وقد جاء جبريل في صورة إنسان جميل الوجه عطر الثياب شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ودخل المسجد النبوي في المدينة المنورة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حلقة مع أصحابه، فأخذ يسأله: ما الإسلام؟ ونبي الله صلى الله عليه وسلم يجيب، ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ إلى أن سأله عن الساعة فأجابه صلى الله عليه وسلم: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل).
أي: كما أنك أنت تجهلها وتسألني عنها فكذلك أنا لا أعلمها، ولا أعلم وقتها ولا زمنها.
فعاد جبريل وأخذ يسأل عن علاماتها وعن أشراطها وعن الوقت الذي يمكن أن تأتي فيه هذه الأشراط.
وأما الأشراط فلها أشراط صغيرة وأشراط كبيرة، وأول أشراطها ظهور نبي الله صلى الله عليه وسلم، فإنه علامة من علامات القيامة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (بعثت والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى)، أي: ليس بينه وبين القيامة إلا كما بين السبابة والوسطى، ولكن كم مضى منها؟ فلما كنا جاهلين بقدر ما مضى، فنحن بالآتي أجهل.
وقد أتت العلامات التي سأل عنها جبريل رسول الله عليه الصلاة والسلام وغيرها: مثل انتشار الفواحش، والعقوق، والتنكر للأمهات وطاعة الزوجات، واتباع اليهود والنصارى، ونفور الناس من الإسلام وطاعة ربهم، وتسلط الكفار على المسلمين نتيجة بعد المسلمين عن دينهم.
ولا تزال العلامات الكبرى وهي عشر لم يأت منها شيء، وهذه العلامات منها: الدابة، والريح الحمراء، وخروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، وآخرهن خروج الدجال، ثم لا يبقى في الأرض من يقول: ربي الله، ولا تقوم الساعة إلا على لكع ابن لكع، ولا تقوم على إنسان يقول: ربي الله.
وهذه العلامات العلامات الكبرى لم يأت منها حتى واحدة، مما يدل أنه لا يزال بين الناس وبين قيام الساعة الآماد الطويلة، وأما تحديدها فالله أعلم بذلك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا أنه إذا بدأت أشراطها تسلسلت وانفرطت وتتابعت كما تتابع حبات العقد إذا انفرط.
قال تعالى: ((إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ)) فإذا سألك سائل: متى الساعة؟ قل: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} [طه:52]، وقل: قد سئل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد البشر والأنبياء لما سأله سيد الملائكة جبريل عليه السلام فقال له عليه الصلاة والسلام: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، أي: إني أستوي معك في عدم معرفتها.
ومع ذلك فإن أشراطها وعلاماتها تعطي الإنسان صفة وعلامة على قربها، وإن كان ذلك غير محدد، وقد ورد أنها تقوم في يوم الجمعة، ولكن الجمعة في الشهر أربعة أيام، وفي السنة ثمانية وأربعون جمعة.
وقوله: ((إِلَيْهِ)) أي: إلى الله.
((إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ)).(307/4)
علم الله بما يخرج من الثمرات وما في بطون الحوامل
يقول ربنا: ((وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا))، وقرئ: (ثمرة)، وهي قراءة الجمهور.
والثمرات: جمع ثمرة، وهي كل ثمرة تثمر ويستفيد منها الإنسان وغير الإنسان من بقية الحيوانات.
((مِنْ أَكْمَامِهَا)) جمع كمة، وهي: الثمرة قبل أن تخرج من بذرتها ومن مكانها من الشجرة، فهذه الأكمام الله يعلم بها قبل خروجها، ويعلم متى ستخرج، وهل ستنضج أم لا، وهل ينتفع بها إنسان أو طائر، وهل ستكون حلوة أو مرة، وهل ستنفع أو تضر، كل ذلك يعلمه الله جل جلاله.
فقوله: ((وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا)) أي: من براعيمها، وعندما تخرج من ذلك البرعم الذي يكون منطوياً عليها، وهو وعاء تلك الثمرة، وعندما تزهر وتسقط أوراق تلك الزهرة فتنظم عليها، وقبل أن تتفتح عليها وتخرج يعلم الله ذلك، وبإذنه وبعلمه يكون كل ذلك.
وقوله: ((وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ))، أي: خروج تلك الثمرات من أكمامها ومن براعمها وحمل الأنثى سواء كانت أنثى إنسان أو جان أو حيوان أو أية أنثى من إناث الكون الله يعلم حملها، وبإذنه يكون ذلك، ثم إذا وضعت، يعلم ربنا ذلك، وبعلمه وبإذنه يكون ذلك.
قال تعالى: ((وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي)) أي: هؤلاء المشركون الذين لا يعرفون عن الله إلا ما يعرفه الوثني والذين جعلوا له ولداً وبنتاً وصاحبة وأشركوا معه غيره من الجمادات والملائكة والجن والإنس فهؤلاء يعلمهم ربهم، وهو وحده المنفرد بالعلم وبالخلق، وبإذنه وبعلمه يكون كل شيء.
ثم يختم هذه الحجج والبراهين العقلية القاطعة بقوله: إنهم يوم القيامة سيعرضون على الكتاب ويعرضون على الله، ثم يقول لهم ربنا يوم ذاك: ((وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي))، أي: يوم يعلن ربنا يوم القيامة لأولئك المشركين الذين أشركوا بالله غيره: أين هؤلاء الشركاء؟ وما صنعوا في الخلق وفي الموت وفي الحياة؟ وكيف هم اليوم مع الآخرة؟ وإذا بالمشركين إذ ذاك عندما يبعثون ويحيون مرة ثانية ويعيشون ما أنكروه من البعث والنشور يجيبون: ((قَالُوا آذَنَّاكَ))، أي: أعلمناك وأسمعناك.
((مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ))، أي: لن يشهد أحدنا بأن لله شريكاً، أي: رجعنا عن اعتقاد ذلك وكفرنا بذلك، يقول ذلك كل من أشرك به نبياً أو جناً أو بشراً أو ملكاً، فهناك من يقول عن الملائكة: إنهم بنات الله، وهناك من أشرك مع الله جناً، ومن أشرك مع الله بشراً كـ مريم وعيسى والعزير وغير أولئك.
فيجيب هؤلاء الملائكة والجن والإنس: ((آذَنَّاكَ))، أي: أسمعناك وأعلمناك، ونخبرك ربنا! وأنت الأعلم أنك لا شريك لك، فأنت الواحد المنفرد بالخلق، لا ثاني لك في ذات ولا صفات ولا في أفعال.
ولكن لا ينفع هذا المشركين إذ ذاك، كما قال تعالى: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158] فهذا لا ينفع والروح في الغرغرة، فكيف وقد ماتوا وانتهوا ومضت قرون بعد قرون حتى جاء البعث ورأى الناس ما آمنوا به غيباً في الحياة الدنيا واقعاً وشهوداً وحضروا إليه بالأشباح والأرواح في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون؟(307/5)
تفسير قوله تعالى: (وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل)
قال تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت:48].
وضل عنهم: ابتعد عنهم وبعد وتاه وضاع ما كانوا يدعون من قبل؛ إما لأنها أخشاب وجمادات انتهت وبليت، وإما لأنهم ملائكة وبشر وجن تركوهم ولم يهتموا بهم في دار الدنيا ولم يعترفوا لهم بذلك، وسيسأل الله عيسى عليه السلام: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116].
فيتبرأ عيسى عليه السلام منهم، وهذا زيادة في تفحيش من زعموا أن عيسى رباً وإلهاً، وهذا في دار الدنيا قبل الآخرة عندما ينزل من السماء الدنيا، ونزوله من العلامات الكبرى لقيام الساعة وقربها، كما أخبر نبينا عليه الصلاة والسلام، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويهدم الكنائس والبيع، ولا يترك إلا دين محمد صلى الله عليه وسلم دين الإسلام، وذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شريعة منه، بدليل أنه سيتبرأ منهم حال وجوده بينهم، وسيهدم الكنائس؛ لأنه لا يعترف بها، ولأنها قائمة على الأصنام والأوثان وعلى أن الله ثالث ثلاثة، ويقتل الخنزير؛ لأنه شعارهم يأكلونه دون غيرهم، وسيجبرهم على الإسلام بحد السيف، إما الإسلام وإما الموت، وإذ ذاك سيعم الإسلام الأرض ولن يبقى إلا مؤمن موحد، ولن يبقى من المعابد إلا المساجد بيوت الله التي يرفع فيها اسمه ويذكر الله فيها كثيراً، لا تلك المعابد التي تدعو إلى الشركاء وإلى الأوثان والأصنام.
قال تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت:48].
(ظنوا) بمعنى: تيقنوا ولا حاجة لهذا، فإن (ظنوا) معناها: غلب ظنهم بأنهم سيعودون إلى الدار الدنيا، وسيتمنون على الله أن يعيدهم إلى الدنيا، فإذا عجزوا ولم تكن لهم هذه الأمنية صاحوا: ليتنا كنا تراباً، ولكن هيهات، لن يعودوا تراباً ولا إلى الدنيا؛ لأن الدنيا قد انتهت وفنيت ولا وجود لها، لأنها عند قيام القيامة تصبح كالعهن المنفوش، وتدكدك الجبال والسماوات، وتهلك الأرض وكل من عليها.
و ((مَحِيصٍ)): فرار.
قال تعالى: ((وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)) أي: يظنون أنه لا مفر لهم من النار ولا مهرب لهم من عذاب الله، وأنه لابد منه، ويظنون ذلك واقعاً بهم، ويتمنون أنهم تستجاب دعوتهم وتحقق رغبتهم في العودة إلى الدنيا؛ ليعودوا للعبادة، ولو ردوا لعادوا لما نهوا، ولما انتهوا عما هم فيه، كما أخبر الله عنهم.(307/6)
تفسير قوله تعالى: (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير)
قال تعالى: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:49].
الكلام هنا على الإنسان الكافر، ((لا يَسْأَمُ)) أي: لا يمل من طلب الخير، وهي الدنيا والحظوظ والمال والنساء والأولاد ودوام العافية والصحة، هذا لا يمل منه ولا يسأم من طلبه والضراعة فيه.
((وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ))، أي: وإن أصيب بمرض من موت أولاد أو هلاك مال أو ذل وهوان، أو أي شيء يصيبه من الشر ((فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ))، أي: ييأس من روح الله ورحمته، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، فلا يضرع إلى الله ضراعة الموحد المؤمن؛ ليرفع عنه ما ابتلاه به، وإنما هو كما قال الله: ((فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ)) يقنط من الدعاء ومن الرجاء؛ لأنه بنى كيانه ووجوده على الشرك والكفر وتعلق بالشركاء، وهيهات، فهم ما نفعوا أنفسهم حتى ينفعوه، وإنما هو يتعلق بالأوهام والأباطيل التي لا تنفع، وإنما هي أوهام متوهمة لا حقيقة لها في الواقع.
ويئوس وقنوط على صيغة فعول، وهي من صيغ المبالغة، أي: كثير اليأس والقنوط والملل والتبرم في حياته، ويتمنى لو كان هذا الشر قضى على حياته وعلى وجوده؛ لعله يستريح من ذلك الذل والمرض والضياع، ولكن هيهات هيهات، فالكافر ما لم يؤمن ويتوب فستبقى حاله في الدنيا في ضلال وفي بوار، وفي الآخرة في عذاب مقيم دائم.(307/7)
تفسير قوله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء)
قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت:50].
يقول الله عن هذا الإنسان الكافر: ((وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ))، أي: ولئن أعطيناه تكرمنا عليه واستدرجناه أو أطمعناه لعله يتوب ويشكر النعمة.
((وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي))، أي: يتكبر ويتعاظم على الله، ويقول: هذا حق من حقوقي، وأنا صنعت ذلك بالمعالجة وبالأدوية، وبالحرص على جمع المال وبفهم التجارة والزراعة، وبما زاولت وصنعت وفعلت، فهو حق من حقوقي لا دخل لله فيه! وهل هناك شرك أخبث وأقبح من مثل هذا؟! وهذا الذي مسه الخير كان يدعو له ويحرص عليه، وإذا مسه الشر فيئوس قنوط، فإذا أذاقه الله وأطعمه وملكه ومنحه رحمة منه من بعد ضراء مسته، ورفع عنه ضرره ومرضه وفقره، وأعاد إليه رحمته من الأولاد والصحة وجميع النعم التي كان يدعو لها ويحرص عليها يشتد في ذلك ((وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي))، أي: حق من حقوقي وخاص بي، حزته بذكاء وبراعة وسبق.
وعاد في الشرك وأصر عليه وقال: ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً))، أي: لا ساعة ولا قيامة ولا حاجة إلى اتباع ذلك، ولا إلى إتعاب البدن في صلاة وفي حج وفي أعمال، وما هذه إلا أقاويل وكلمات أتى بها الأنبياء؛ ليستولوا على عقول الناس ويحكموهم ويسودوهم كما تزعم الشيوعية اليوم.
وكافر اليوم هو كافر الأمس ما تغير في شيء، فقد جمعهم الشرك بالله والكفر بالأنبياء وإنكار الكتب والرسالات، فإذا مرض تجده في غاية ما يكون من الهلع والانزعاج والقلق، وقد يدعو ربه إذ ذاك نتيجة الضعف حتى إذا صح وعالج نفسه واستجلب أطباء ماهرين وعاد له ماله وربما أكثر منه تجده يزداد طغياناً وكفراً ويقول: هذا نتيجة فن وذكاء وعقل.
قوله: ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً))، فهو في شك منها لم يتيقن بها ولا بوجودها.
فهو يقول: ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ))، أي: وما أظن القيامة ولا الساعة قائمة.
ثم يعود فيقول: ((وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى))، أي: وإذا كانت قيامة وساعة وأرجعت إلى ربي بعد الموت وعاد جسدي وذاتي إلي ((إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى))، أي: فكما أحبني في دار الدنيا وأصح بدني وأكثر أموالي وأولادي وأعطاني من الجاه فسيحبني في الآخرة، وسيكون لي عنده الحسنى من الحسنات والمنازل العاليات.
فهو يطمع أن يكون في ذلك مع الدعاة إلى الله من الأنبياء وأتباعهم وخلفائهم.
يقول ربنا جل جلاله: ((فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا)).
وهذا تهديد ووعيد أكيد وابتلاء، فهو يقول لهؤلاء الذين يعيشون في الأوهام وفي الأباطيل وفي الأكاذيب التي لا وجود لها في نفس الواقع: يوم القيامة سننبئهم وسنخبرهم، واللام لام القسم.
((فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا))، أي: سيعرض ذلك عليهم مما كتبه الملكان الحافظان من سيئات ومن شرك ومن كفر بالله، ثم قال تعالى: ((وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ)) أي: وليطعمنهم ويعطيهم ويعافيهم من العذاب الغليظ، وليس من العذاب كله، وجزء من هذا العذاب يهلك قارات ويهلك عالماً، فكيف بجسد من عظم ولحم وعصب؟ والموت قد ماته، ولو بقي موت لمات في اليوم مرات، ولكن لا موت، وإنما يحترق بدنه وتذوب أعضاؤه، ثم يعيده الله كما كان؛ زيادة في عذابه وفي محنته، فهو في الاحتضار والعذاب الغليظ، الذي هو شديد أليم، يؤلم من دخله ومن ذاقه ومن ابتلي به.
والغلظ: الكثافة والشدة وما تمجه النفوس ولا تتحمله ولا تطيقه، وفي اللهجات الدارجة الشامية يقولون: فلان غليظ، أي: مؤذٍ بالنظر فيه وبصحبته، وهكذا النار، هي غليظة بآلامها وبهوانها وبحراسها من الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من إهانة له وسحب على وجهه وتعذيب له أبداً سرمداً، دهر الداهرين، حيث لا موت لا في الجنة ولا في الجحيم.(307/8)
تفسير قوله تعالى: (وإذا أنعمنا على الإنسان)
قال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت:51].
أي: إذا أنعم عليه ورزقه النعم وأكرمه بها في ذاته وفي جاهه وفي عياله وفي أولاده (أعرض ونأى بجانبه)، أي: أعرض عن طاعة الله وعن الاعتراف بوحدانيته، ونأى من النأي، أي: ابتعد عن الحق عن التوحيد وعن تصديق الأنبياء وكتب الله، وما زادته النعمة إلا بطراً وكفراً.
ومن هنا جاء الحديث النبوي: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأفسدهم).
فهؤلاء عندما كثر مالهم وجاههم وصحت أبدانهم، فعوضاً من أن يشكروا الله ويأتوا بالصالحات جزاء إنعام الله عليهم، وازدادوا كفراً وبعداً عن الحق ونأياً عن التوحيد وإعراضاً عن الإسلام فتبين بهذا أن مال هذا كان استدرجاً وامتحاناً من الله وفتنة وابتلاء له من حيث لم يعلم.
وقد كان جزاء النعمة أن يشكر الله عليها، وقد قال ربنا: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، فمن أنعم عليه فشكره على نعمته زاده الله منها.
وشكر النعمة كل بحسبها، فلا يكفي نعمة الأموال شكرها باللسان، بل يكون شكرها بإعطاء النفقات الواجبة عليه وإعطاء الزكاة والسائل والمحروم من الفقراء والمساكين، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا)، أي: إلا من وزع المال في كل الجهات يميناً وشمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ومن الجهات الست، وما عدا ذلك فماله وبال عليه، وخاصة إذا لم يعط منه الواجبات والفرائض ولم يقم بمن عليه نفقته.
وليست النفقة واجبة عليه بالنسبة للمرأة والأولاد فقط، بل هي واجبة عليه لمن هو محتاج من أهله، مثل: أمه وأبيه وأخته وأخيه إن كانوا محتاجين، وهكذا دواليك، والأنثى قبل الذكر، ومن هنا يقول عليه الصلاة والسلام: (أمك ثم أمك ثم أمك، ثم أباك، ثم أدناك وأدناك).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أختك ثم أخاك)، وهكذا؛ لأن النساء أحوج إلى العطف والنفقة من الذكر، بل لا نفقة على النساء البتة، بل نفقة النساء على الرجال، فما دمن في بيوت آبائهن فالنفقة على الآباء، فإذا انتقلن إلى بيوت الأزواج فالنفقة على الأزواج، فإن ذهب الزوج ووجد الولد فالنفقة على الأولاد، وإن كان الأب لا يزال موجوداً فتعود النفقة واجبة على الأب، وهكذا تنتقل حسب الأقرب فالأقرب.
ثم قال تعالى: ((وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ))، أي: إذا مسه شر من مرض أو فقر أو ذل أو هوان -والشر كثير، أعاذنا الله وإياكم منه- فهو ذو دعاء عريض، فيقول عند ذاك: يا رب! يا رب! وعند ذاك يحاول أن يحسن إحسان المضطر، حتى إذا شافاه وعافاه عاد لكفره، وأعرض ونأى بجانبه، وقال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50] وهذا شأن المشرك والكافر ومن لم يخالط الإسلام بشاشة قلبه.
ومن هنا كانت الرسالة المحمدية شفاء وهداية للناس، وكان القرآن هداية للضالين ونوراً وشفاء لما في الصدور من شكوك وريب وهوان، وشفاء للأجسام بعدما شفيت من الأوهام ومن الوساوس ومن الشك والريب.(307/9)
تفسير سورة فصلت [52 - 54]
القرآن العظيم كتاب الله الذي أودع فيه من العلوم ما لا ينتهي، والإنسان إنما يدرك منه بحسب فهمه وما يحتمله عقله، وقد أخبر الله فيه من أخبار السابقين وعلوم الكون وأخبار اللاحقين ما جاء يصدقه الواقع ويوافقه الكشف العلمي الحديث.(308/1)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله)
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت:52].
أي: قل لهم يا محمد! من بعد المناظرة وقيام الحجة، ((أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ))، أي: إن كان هذا القرآن كلام الله حق وكان الإسلام ديناً أتى به الله وأوحى به إلى نبيه وعبده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكيف سيكون حالكم؟ ((مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ))، أي: من أضل من المشاقة ومن المخالف ومن شق عصا الطاعة والتوحيد والإيمان والاستسلام لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكتابه؟ فإذا وجد أن القرآن حق وهو حق، ووجد أن القرآن كلام الله الحق وهو كذلك؛ فكيف سيكون حاله؟ فهل هناك أضل ممن قد شق الطريق وعصا الطاعة والتوحيد فهو في شقاق بعيد، وقد أبعد في الكفر وأغرق فيه، وزاد كفراً على كفر، وأصبح كفره مضاعفاً مركباً؛ لأنه لم يبن على مجرد قول، بل بني على ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج فيها يده لم يكد يراها.
وهناك الجهل البسيط والجهل المركب.
فالجهل البسيط: أن يكون جاهلاً ويعلم نفسه جاهلاً، فإذا علم تعلم.
وهناك المشرك شركاً بسيطاً وشركاً معقداً مركباً.
فالشرك البسيط: هو أن يكون عن جهل، فإذا علمته وأفهمته وذكرت له شيئاً عن الله وعن كتابه وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أعطاك سمعه وعينه، وأما ذاك إذا ذكرت له ذلك ازداد شركاً وكفراً وإلحاداً وأصر عليه وأتى بشبهات شياطين الجن والإنس وقال: لا آخرة ولا رسالات.
فهذا كفره مركب.
ومن كان كفره كفراً مركباً لا يكاد يرجى منه خير، ولا ترجى هدايته يوماً كبعض مشركي مكة مثلاً.
وكان عمر والرعيل الأول كذلك، ولكن كان شركهم مبنياً على دين قومهم ولم يأت بعد رسول يعلمهم ولا كتاب يفهمون عنه، فعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرضوا ما شاء الله أن يعرضوا، ثم أعطوه آذانهم، فإذا بهم يكتشفون أن هذا الكلام لا يقوله مفتر ولا كذاب ولا ساحر، وإنما هو كلام عن المصحف ومن نور المصحف، فإذا بهم يبادرون بالإسلام، فيصبحون بعد الإيمان سادة الأرض وسادة الأقوام كما كانوا سادتهم في الجاهلية.
وأما كفر أبي لهب وأبي جهل فكان كفراً مركباً، وكانا يعتقدان أن محمداً كذا وكذا، وأن الدين الحق هو ما أتى به آباؤهم وأجدادهم، وقاوموا النبي عليه الصلاة والسلام ودعوا إلى هجرانه وإلى مقاطعته وإلى قتله وإلى سجنه، وحاولوا أن يؤلبوا عليه جزيرة العرب بما فيها من يهود ونصارى فعادوا بالخذلان وبالخسران وماتوا على الكفر، ولم يهتد أحد منهم؛ لأن شركهم كان مركباً ومعقداً.
إذاً: فقول ربنا جل جلاله: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ))، أي: قل يا محمد! لهؤلاء: أن يجعلوها مناظرة واحتمالاً، فإن اكتشفوا بعد فوات الأوان يوم القيامة والبعث الذي أنكروه، ووجدوا أنك رسول الله حقاً، وأن القرآن كلام الله الحق؛ فكيف سيكون حالهم؟ فلا يوجد أضل ولا أكثر ضلالاً وغواية وظلماً ومصيبة على نفسه قبل أن يكون على غيره ممن هو في شقاق بعيد، أي: ممن كان في شقاق وفي نزاع وقد شق عصا الموحدين والمؤمنين، وأبعد في الكفر بعد أن أصبح بعيداً عن أن يكون مؤمناً يوماً!(308/2)
تفسير قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق)(308/3)
المعنى الإجمالي للآية
قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53].
هذه الآية من الآيات العظيمة، فالله تعالى يقول للمؤمنين المعاصرين لنبينا صلى الله عليه وسلم وقت النزول القرآني: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] السين للتسويف القريب، وكل آت قريب.
يقول تعالى للمشركين وللمؤمنين ليزداد المؤمن إيماناً، وعسى أن يهتدي الكافر بما يرى من العلامات والآيات الواضحات على صدق الإسلام والقرآن ومحمد عليه الصلاة والسلام: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ)).
أي: سنريهم من الآيات البينات ومن الحجج القاطعات ومن الأدلة العقلية التي لا ينكرها إلا من فقد عقله قبل أن يفقد دينه، وسنريهم ذلك رأي العين، وإحساس البشرة وسماع الأذن وعيشة الواقع، والآفاق جمع أفق، وهي النواحي والأقاليم والقارات ونواحي الكون، ويشمل ذلك السماء والأرض والجبال والوهاد وكل ما سيتجدد مما لم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة؛ بدليل قوله تعالى: ((سَنُرِيهِمْ))، وما أراهم إياه وقت نزول القرآن فقد تم ووقع ورأوه فآمن به من آمن؛ بناء على شهودهم له ووقوعه بين أيديهم، فآمنوا من أجله وذلك هو المعجزة النبوية القرآنية لهؤلاء؛ لكي يؤمنوا ويسلموا ويتأكدوا بأن الإسلام حق، وفي هذه الآية يتكلم الله عن الحاضرين ومن سيأتي في المستقبل، فقال: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ))، أي: في عموم الكون من السماوات والأرض.
((وَفِي أَنْفُسِهِمْ))، أي: كذلك سيريهم هذه المعجزات في أنفسهم مما لم يكن في العصر النبوي، بدليل بداية الآية (سنريهم).
وقال: (نريهم) ولم يقل: نريكم؛ لأن هذا كان بعد أولئك الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام من الجيل الأول.
قال تعالى: ((حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ))، أي: حتى يتبين لأولئك الذين سيعاصرون هذه الآيات البينات والمعجزات الواضحات في الآفاق وفي السماوات والأرض وفي أنفسهم أنه الحق.
و (حتى) غائية، أي: ستكثر تلك العلامات والآيات؛ حتى يتبين لهم ويظهر بالدليل العقلي القاطع لمن كان له عقل أو ألقى السمع وهو شهيد، ((أَنَّهُ الْحَقُّ)).
والضمير إما أن يعود للقرآن -أي: أن القرآن حق- أو للنبي عليه الصلاة والسلام -أي: حتى يتبين له أنه جاء بالحق وبالرسالة الحق وبأنه نطق بالحق- أو للإسلام -أي: أن الإسلام حق وجاء بالحق ومن عند الحق.
قال تعالى: ((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))، استفهام استنكاري، أي: أولم يكف هؤلاء وقد رأوا قدرة الله وآيات وحدانيته وقدرته أن يكون الله شهيداً على أحقية القرآن والرسالة المحمدية والإسلام؟ وكفى بذلك شاهداً وحقاً، ولكن الله جعل للكافرين ما يزيدهم إيقاناً وإيماناً.(308/4)
ذكر بعض ما تحقق مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الغيب
وهذه الآيات هي: كل ما في عصرنا مما لم يكن في عصر النبي عليه الصلاة والسلام، وأول ذلك ما أخبر به نبي الله وكتاب الله مما سيأتي بعد عصر النبوة في عصر الخلفاء الراشدين من قتل عمر وعثمان وعلي والحسين وفتن الصحابة رضي الله عنهم، وقيام الفتن الضاربة أطنابها بين المسلمين.
وكل ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من نشر الإسلام وبلوغه المشارق والمغارب وركوب البحار وخوضها في المشرق والمغرب، وانتشار الإسلام واتباع الناس له ولنبيه محمد عليه الصلاة والسلام، كل ذلك قد أخبر عنه عليه الصلاة والسلام ووقع كما أخبر به.
بل وأخبر عما يحصل في السماء من طيران ومن صواريخ ومن تقارب الزمان وتقارب المشارق والمغارب، مما أشار إليه القرآن إشارات وفهمها ذوو الألباب، ولو قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الناس يوماً سيركبون الحديد وسيسير هذا الحديد ويطير بقليل من الماء لقالوا: جن محمد وأتى بالهذيان الذي لا يعقل، وهم قالوا عنه: مجنون وهو لم يقل هذا.
وهذا ما أشار إليه الكتاب الكريم في قوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، فقد قال حبر القرآن ابن عباس: (ما) عطف، فكان من جنس المركوبات كما ذكر، وكان الأمر كذلك.
ولم ندرك هذا إلا نحن في عصرنا، فرأينا الحديد يطير في الأجواء بمياه أخذت من الأرض كمياه الآبار والعيون ونحوها، وهو لم يزد على كونه ماء، فمرة نسميه بترولاً ومرة نفطاً، وهو على كل اعتبار ماء لم نصنعه ولم نسع إليه، ولكنه ماء في أعماق الأرض على بعد عدة كيلومترات وأميال، وهذا الماء هو عصب الحياة اليوم، ولو أوقفت جزيرة العرب ودول العرب البترولية هذا الماء لشلت قوة أعدائها ووجودهم، ولو أوقفته البتة واستدامت على ذلك لما مشت سيارة ولا طارت طائرة ولا مخر البحر باخرة، ولما قاتلت دبابة ولا نزلت جنود ولا حضروا لقتال ولا شيء، وصحيح أن عندهم بترولاً ولكنه قليل لو صرفوه وشغلوه لما زاد على شهرين أو ثلاثة، ثم يصبحون مقطوعي الصلة حتى بين مدنهم الداخلية.(308/5)
بعض المعجزات الدالة على قدرة الله
ومن المعجزات أن هذا الإنسان بهذا العقل الصغير أصبح بهذا الفكر الكبير، فانظر كيف فكر هذا الإنسان الذي هو خلق من خلق الله، فصنع السيارة والصاروخ ووصل إلى القمر وسيصل إلى كواكب أخرى! وهذا سنتحدث عنه بالتفصيل بعون الله ومشيئته في سورة الشورى وهي الآتية بعد هذه، والتي يقول الله فيها: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29]، فهذه الآية فيها من الغرائب والعجائب والمعجزات ما لو كانت وحدها لكفت أن يؤمن المشرك، وأن يعود للإسلام المرتد.
فهذا العقل الصغير الذي لا يزيد على كتلة لحم، ولو زال لمات الإنسان هو موضع التفكير والذهن والعمل مع القلب وهذه الاكتشافات تزيد المؤمن إيماناً والكافر كفراً وجحوداً، فقد قالت الشيوعية والماسونية واليهودية وفرق الكفر التي أخذت تنتشر في الأرض بواسطة الجامعة والكتاب والأقلام وأساتذة السوء والشر وأصبحت تأله الإنسان؛ قالت: الإنسان هو الإله والرب! نقول: وكيف يموت الرب؟! فهذا الإنسان الذي سموه رباً يمرض كما يمرض الناس ويهرف كما يهرف الناس، ويصاب بالجنون كما يصاب الغير! ومن الآيات العظيمة أيضاً: أدوات التدمير والخراب على كل أشكالها، فهذه القنبلة الذرية التي لا تتجاوز بيضة الحمام ضربت بها مدينتان في أرض اليابان فدمرت المدينتين، فأصبح عاليها سافلها، ومات بكل قنبلة ما يزيد عن مائتي ألف إنسان، وهذه القنبلة الآن طوروها وزادوا فيها من أنواع التدمير ما لو رميت على نيويورك وفيها اثنا عشر مليوناً لدمرتها وأصبح عاليها سافلها.
وأخطر من ذلك ما يسمى بالقنبلة الهيدروجينية وأنواع السلاح التي تسمم الجو، فلا تكاد تصيب إنساناً إلا ويجن ويصرع وكأنه لم يكن حياً يوماً ما.
وأيضاً هذه المخترعات الطبية التي تقتل بالنفس وبالسمع وبالنظر وتخدر الأعضاء وكأن الإنسان شرب خمراً أو أكل حشيشاً، حتى أن الجيش على كثرته تجده قد ارتمى بعضه على بعض، فلا يرد يداً ولا يقاوم ولا يعارض.
وما من دمار اخترع إلا واخترع مقابله؛ ليعارضه ويقاومه، وهكذا الأمر سيزداد إلى ما قاله ربنا: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، أي: فأصبحت كأنها لم تكن بالأمس، وكأنها لم توجد، وهذه ظنون وأوهام.
وقال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ} [الذاريات:21]، أي: في الإنسان وفي خلقه، فمثلاً: إذا فقد الإنسان عقله فإنه لا يستطيع أن يشتريه، ولا يستطيع أن يرده الطبيب، هيهات هيهات.(308/6)
عجز الإنسان وحقيقة الاكتشاف
والله تحدى البشر كلهم فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، أي: ذبابة لم يخلقوها.
ثم كل هذا الذي نراه ونرى عجائبه وغرائبه يقولون: ليس خلقاً ولكنه تركيب! وليس اختراعاً ولكنه اكتشاف! والاكتشاف يعني: أن هناك نافذة عليها ستار، فإذا أزيل الستار رأيت ما وراء النافذة، فلو جاء إنسان وأخذ الرداء وكشفه وعرف أن خلفه كذا وكذا من بساتين أو بحار أو ناس فهو لم يزد على كشف الستار، وهكذا هي أسرار الكون والطبيعة، فهي كما خلقها الله، جاءوا فاكتشفوها، وعلموا أن في أجوائها ما يسمى أثيراً وما يسمى هيدروجين، وأن الطائرة تستطيع أن تحلق إذا كانت بقوة دافعة قدرها كذا كذا، ووزنها كذا كذا.
وبدءوا هذا بخاطرة، بل بشيء جاء بالصدفة، فقد كان أحدهم جالساً ولعله كان حشاشاً، ثم جعل ماء على إبريق صغير ليشرب كأس قهوة أو شاي، وإذا بالماء قد اشتد غليانه، ثم هذا الغليان دفع الغطاء فصوت الغطاء عندما زال، فرآه محمولاً على البخار، وأخذ يفكر ما الذي حمل هذا الغطاء؟ لم لا يسقط؟ إلى أن عرف أن ذلك بسبب البخار؛ إذاً: البخار فيه قوة، فجرب ماء أكثر فصعد أكثر، فجرب ماء أكثر فصعد أكثر، فكان ما يسمى بعصر البخار، وهو عصر البواخر والمعامل والآلات التي تذهب وتتحرك بالبخار.
ثم اكتشف البترول وكان معروفاً، ولكنهم لم يكونوا يعرفون له معنى، وبعضهم كان يشغله في الإضاءة كما نشغل الزيت والشمع في الإضاءة، وأما معرفتهم أن فيه قوة دافعة ودافقة، فهذا حدث أيضاً بالصدفة، ثم تزايد وتزايد والله هو الذي خلق ذلك وصنعه، وهو الذي وفقنا لاكتشافه وصنعناه بالعقل وبالتدبير وبالفكر الذي خلقه الله.(308/7)
ديننا دين القراءة والعلم
والإنسان إذا فقد عقله لم يتعلم ولم يكن شيء، والله هو الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وأول آية نزلت في كتاب الله وعلى خاتم رسل الله نبينا عليه الصلاة والسلام: اقرأ، فكانت القراءة أول آية نزلت على نبينا صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل من رب العزة جل جلاله، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:1 - 4].
فذكرت القراءة والقلم في أول آية.
فهذا القلم الضعيف الهزيل الذي يكتب علوم الأولين والآخرين، وهذه القراءة التي اكتشفت فيها الحروف ومعاني الحروف منذ آماد، هو الاختراع الذي لم يأت بعده مثله قط، وهذا الحرف الذي لا يزيد على شرطة مستطيلة أو مربعة أو مسلسلة أو مثلثة أو مستديرة، وكل دائرة من هذه الدوائر تدل على معنى من المعاني سجل به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلوم الأوائل والأواخر وما كان وما يكون.
والذي أتى بهذا كان أمياً، والأمي إذا رآك على كتاب قال: هذا مسكين، يؤذي بصره ويضيع وقته، ولا يرى في ذلك إلا ألاعيب أرجل الدجاج وأيدي الأطفال.
والأمر ليس كذلك، فهو الأمر الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ليأمر به أمته، قال تعالى: ((اقْرَأْ)).
فالإسلام ابتدأ أول ما ابتدأ بالعلم وبالقراءة وبالقلم، وقد أعلى الله شأن العلم في كتابه، وجعل العلماء في الدرجة الثانية بعد الأنبياء، وأشاد في كتابه بهم وأشاد بهم النبي عليه الصلاة والسلام، وما جعل ورثته وخلفاءه إلا العلماء.
وقال ربنا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقد قرئ: (إنما يخشى اللهُ من عباده العلماء)، وذلك لما يحملون في صدورهم من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والحكمة التي تنفع الناس مدة وجودهم على هذا الكوكب الأرضي.
قال تعالى: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ))، وقد أرانا وأطلعنا وسيطلع الذين يأتون بعدنا على أكثر مما أرانا.
والآفاق جمع أفق، وهي نواحي العالم، وهي السماء والأرض.
((حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)) أي: حتى يظهر ويتأكد ويعلم ذلك بالدليل والبرهان من يستطيع ذلك، فمن هداه الله ووفقه سيفهم ذلك، ومن غطى الران على قلبه فلا يزيده ذلك إلا جهلاً وظلاماً، كأولئك الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام رأوا أنواره المتلألئة وصدقه الذي ينبئ عنه وجهه قبل أن يتكلم، ورأوا معجزاته، وقد مضى على وجوده في الأرض أربعون عاماً وليس له علم ولا قراءة ولا معرفة، وقد كان على خلق كريم، فلم يعرف بكذبة ولا بغدرة ولا بسجدة لغير الله، إلى أن أمره الله بعبادته، ومع ذلك فإنك تجد البعض مثل أبي لهب وأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وكل من لم يسلم لم يدخل حب النبي بين جنبيه.
ومن هنا قال أحد الناس للمقداد بن عمرو بن الأسود رضي الله عنه: ليتنا أدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيناه ونصرناه، فقال له: لا تقل ذلك، فقد تدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تؤمن به، وقد أكرمك الله الآن، فآمنت به وبكتابه وصدقت برسالته، فأنت أفضل وأكرم من الكثيرين ممن رأوه ولم يؤمنوا به، ولم يصدقوه.
وهذا كلام حق.
وقوله تعالى: ((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ)) أي: أولم يكف ربك؟ فهو فاعل جر بالحرف، ولكن معنى الفاعلية لم يزل، والمعنى: أولم يكفك أيها السامع! أن يكون ربك شاهداً على صدق القرآن وصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق الحق وضياع الباطل وأوهامه، وأنها من وحي الشياطين، وأنها تضر أصحابها ولا تنفعهم.(308/8)
تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم)
قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54].
ألا: حرف تنبيه، أي: ألا يا هؤلاء! أعيروني أسماعكم وأبصاركم، أي: انتبهوا، وهذا كما يقول الضابط للجندي: انتبه، ومعناه: أعطني أذنك وسمعك ولا تفكر في شيء إلا فيما سأملي عليك، وفي لغة العرب من حروفها وأدواتها ما يدل على هذا المعنى، فلو قال الضابط للجندي الذي يفهم اللغة العربية: ألا فاستمع، كانت (ألا) قائمة مقام انتبه.
فقوله تعالى: ((أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ)) أي: ألا إن هؤلاء المشركين الكافرين الذين لم يؤمنوا بالله في مرية وشك وتردد وارتياب من لقاء ربهم، أي: من يوم البعث والعودة إلى الحياة والعرض على الله، والشك في يوم القيامة كفر.
ثم ذكر ربنا عن نفسه: بأنه بكل شيء محيط، أي: أحاط علمه بكل شيء إحاطة الحائط، وتعالى الله عن المثل والشبيه، وكلمة (أحاط) من الحائط، وسمي حائطاً؛ لأنه يحيط بذلك البناء أو بتلك الساحة.
قوله: ((أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)) هو أيضاً تنبيه، أي: انتبهوا يا هؤلاء! فإن علم الله وبصره وسمعه وإرادته محيطة بكل شيء، وهو الخالق لكل شيء، وهو المحيي المميت والرازق لكل شيء والعالم بكل شيء، وهو الذي لا تخفى عليه خافية في السماء أو في الأرض، أفظن هؤلاء أنهم سيفلتون من عقاب الله وعذابه؟ هيهات هيهات أن يفلتوا، وما بينهم وبين العقاب إلا أن يموتوا، ثم تعذب أرواحهم في القبر، ثم أجسادهم بعد ذلك في النار، عذاباً خالداً ينسيهم عذاب القبر وعذاب الدنيا.
وهذه السورة سميت بالسجدة لما فيها من السجود.
وسميت كذلك بفصلت أخذاً من كلمة (فصلت) التي ذكرت في أولها، أي: بينت آياتها وعلمت، وبين حلالها وحرامها.(308/9)
تفسير سورة الزخرف [1 - 3]
إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام التي نسخت كل رسالة قبلها، وأنزل عليه القرآن خاتم كتبه وأشرفها وجعله قرآناً عربياً وخاطب به العرب ابتداء لأنهم أهل اللغة العربية؛ ولأنهم سيحملون هذا الدين إلى أقطار الأرض.(309/1)
تفسير قوله تعالى: (حم * والكتاب المبين)
سور الزخرف اشتملت على تسع وثمانين آية، وهي إحدى الحواميم التي هي بساتين القرآن وعرائس القرآن وزهرات القرآن، لما فيها من الكلام على الآخرة، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر الصالحات، وتنفير الناس من الطغاة، والاهتمام بالإسلام ونبي الإسلام والسلف الصالح.
قال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:1 - 2].
فسر بعض العلماء الحروف المقطعة بأنها رموز لأسماء السور بعدها، وفسرها أقوام بأنها أسماء لله ابتدأت بالحرف الأول من حروف الاسم، وفسرها آخرون بأنها أعداد لأحداث مقبلة من خير وشر.
وذكر الزمخشري في الكشاف: أن هذه الحروف التي ذكرها الله في أول بعض السور تعقب دائماً بذكر القرآن الكريم، كـ {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ} [البقرة:1 - 2].
{حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:1 - 2] وكوننا نجد سورة لم تكن كذلك فهي تبع لما قبلها، وهذا يدل على أن هذا القرآن معجز، وأنزل على أفصح الناس وأبلغهم.
وكان العرب فصحاء وبلغاء في خطابتهم وفي شعرهم وفي تحاورهم، فعندما ينزل هذا الكتاب عليهم ويتحداهم الله أن يجتمعوا مع الجن فيأتوا بمثله فهذا يدل على إعجازه.
وقد قيل هذا منذ ألف وأربعمائة عام، ولا يزال هذا التحدي قائماً، ولم يستطع أحد أن يأتي بقريب أو بشبيه لأي سورة أو آية منه.
ذكروا عن المعري في كتابه (لزوم ما لا يلزم)، وفي كتابه (طريق الغفران)، وذكروا عن مسيلمة الكذاب أنهما حاولا معارضة القرآن.
أما المعري فأتى بكلام عربي، ومع ذلك يوجد بينه وبين القرآن ما بين الخالق والمخلوق.
وأتى مسيلمة الكذاب بمخاريق وبحماقات وبكلام يضحك لا معنى له، ولا دلالة له، ولا يزال الناس يتضاحكون منه ومن قوله ومن قرآنه.
ومن ذلك: أنه جاءه مرة عمرو بن العاص إلى اليمامة وهي في نجد، وكان عمرو لا يزال على دينه الوثني، فقال: يا مسيلمة! ماذا أنزل عليك اليوم؟ قال: أنزل علي: أن لي نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم لا يعدلون.
فالتفت إليه عمرو وقال: والله يا مسيلمة! إنك لتعلم أني أعلم أنك كذاب.
فهو على وثنيته وعلى عداوته إذ ذاك للإسلام ونبي الإسلام لم يقبل قوله وسخر منه وجابهه به.
والقرآن الكريم كلام عربي، فهو مركب من حروف الهجاء: ألف لام ميم، ألف لام راء، كاف هاء ياء عين صاد، طاء هاء، ياء سين، حاء ميم.
هذه الحروف الهجائية منها تكون القرآن، ومنها ترتب القرآن فاصنعوا إن شئتم مثل ذلك.
وهذا كأن يقول قائل: الإنسان مكون من التراب كما قص علينا ربنا، وهذا التراب فيه حديد ومنجنيز وكربون وسكر وملح وماء، فيقال لآخر: ائت بهذه المجموعة، فأت بقليل من تراب وقليل من ماء وقليل من حديد فاصنع إنساناً إن استطعت.
لا يمكن ذلك، كذلك يقال: هذه الحروف الهجائية التسعة والعشرون حرفاً اصنعوا منها كلاماً يضاهي هذا القرآن، وهيهات هيهات! فالقرآن نزل بلغة العرب وبحروف هجائهم وبقواعدهم في النحو والبلاغة، ومع هذا فالعرب عجزوا عن أن يأتوا بمثل سورة منه، وأصبحوا حيارى زمناً من الأزمان، فيقول قائلهم: هذا شعر، فيجتمع الشعراء ويقولون: درسنا الشعر بكل بحوره بوسيطه وبمتقاربه وبكامله فليس هو بالشعر.
فيقول آخرون: هو سحر.
فيقول السحرة: عرفنا السحر، أشكاله وألوانه فما هو بالسحر.
ويقول آخرون: هو كهانة -أي: عمل الكهان ليأخذوا به الأموال- فيقول الكهنة: علمنا الكهانة وأشكالها فما هو بكهانة.
فيقولون: لم يبق إلا أن محمداً مجنون، وهذا كلام مجنون، وحاشاه من ذلك! وبذلك سقط اعتبارهم، فالمجنون لا يقول مثل هذه الفصاحة والبلاغة، بل وأكثر من ذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام أعطي جوامع الكلم، وهو سيد العرب فصاحة وبلاغة.
فإذا قال كلاماً ونسبه لله فهو القرآن، وإذا نسبه لنفسه نجد أن ما بين بلاغة القرآن وبلاغة النبي عليه الصلاة والسلام كما بين كلام الخالق والمخلوق على الرغم من أنه أبلغ الناس، فأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وخطبه لا تشبه سور القرآن بالفصاحة والبلاغة والإعجاز والتعبد بها.
فالقرآن كلام الله المعجز، وكلام غيره غير معجز بما فيه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على رغم بلاغته وفصاحته وشدة بيانه.
وقوله تعالى: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:2] يقسم الله جل جلاله بالكتاب المبين الواضح، البين في معناه وفي قصصه وفي عقائده وفي آدابه، والله جل جلاله يقسم بما شاء كيف شاء، وما أقسم به يدل على شرف ذلك المقسم عليه.
أما الإنسان فلا يقسم إلا بالله، فقد قال نبي الله عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).(309/2)
تفسير قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)
قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3] يقسم ربنا جل جلاله بأن القرآن أنزله عربياً، وتكلم به عربياً، وخاطب به العرب البلغاء الفصحاء الذين سيكونون بعد ذلك رسل رسول الله إلى العالم.
وهكذا كان الأمر، فقد خاطب الله نبيه وقال له: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فآمن من آمن، واهتدى من اهتدى، وضل من ضل.
ومات عليه الصلاة والسلام وقد استكملت الجزيرة العربية إيمانها وإسلامها، حتى قامت مشاكل وفتن واضطرابات، فتصدى لها أبو بكر تصدي الأسود فأذلهم وقضى عليهم، فقتل الأنبياء الكذبة، وقتل المؤمنين بهم، وأخضعهم للإسلام، وقتل مانعي الزكاة فأدوا الزكاة رغم أنوفهم.
ثم جمع القوم وأخذ بهم إلى الحدود لحرب الروم، ولم تكن مدة خلافته أكثر من سنتين وثلاثة أشهر.
فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وزحف بدولة الإسلام إلى أرض الشام وأرض العراق وفارس ومصر وأرض المغرب.
فكانوا رسل رسول الله إلى الناس، فقد تفهموا القرآن بلغتهم، وعقلوه بفهومهم، وآمنوا به بقلوبهم، وهكذا كان.
والقرآن لا يترجم، ومستحيل ترجمته، ونأخذ مثالاً على ذلك: لو أن أساتذة كبار الجامعات ترجموا قطعة شعرية أو نثرية لينقلوها من لغة إلى لغة، فستكون تلك الترجمة لا يشبه بعضها بعضاً؛ لأن الترجمة هي تفسير للمعاني تعود للفهم وللإدراك.
والترجمة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ترجمة ألفاظ القرآن وهذا لا يجوز.
القسم الثاني: ترجمة معاني ألفاظ القرآن وهذا يجوز، ولذا نجد ونرى اليوم قد ترجم كتاب الله إلى جميع لغات الأرض؛ لغات أهلها مسلمون، ولغات أهلها كافرون، كاللغة الفرنسية والتركية وغيرهما، مع وجود اختلاف في اللغات من ترجمة إلى أخرى، فالترجمة هي عبارة عن شرح وبيان وتفسير.
فالتفاسير في اللغة العربية مع كثرتها لا يكاد أن يتفق تفسير مع تفسير في كل العصور، فهذا يفهم شيئاً بناءً على فهمه أن الآية منسوخة، أو مطلقة، أو مخصصة، أو مقيدة.
ويأتي الآخر فيقول: ليست الآية بمنسوخة إلخ.
فكم اختلف المفسرون في معنى لواقح في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22].(309/3)
تفسير سورة الزخرف [2 - 4]
إن الله عز وجل حين أنزل القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم جعله مهيمناً على كل كتاب قبله ومصدقاً لما في الكتب السابقة من حق، وقد سبقت كتابة هذا القرآن في اللوح المحفوظ عند الله عز وجل قبل إنزاله إلى الأرض بواسطة جبريل وقبل أن يكتب في الصحف والرقاع.(310/1)
بعض ما يستفاد من بداية سورة الزخرف(310/2)
الله تعالى يقسم بالكتاب المبين
وقوله تعالى: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:2].
الواو واو القسم، فيقسم ربنا جل جلاله بكتابه الكريم، القرآن العظيم، الذي يزيد في معناه، الظاهر في أحكامه، الواضح في العطاء، الجميل في قصصه، الظاهر في أحكامه وآياته وأخلاقه.
هذا الكتاب الكريم أقسم الله به، فالله يقسم بما شاء كما شاء، ولكنه إذا أقسم بشيء فهو يدل على عظمته ومكانته.
أما المقسم به فقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فليحف بالله أو ليصمت)، فاليمين لا تجوز ولا تنعقد إلا بالله أو باسم من أسمائه.(310/3)
حكم اليمين الزور
فمن أقسم بالله على شيء، وهو يعلم كذب نفسه ستكون يمينه يمين زور، ويمين الزور لا كفارة فيها، ولكن فيها العقاب الشديد الكبير في الدنيا قبل الآخرة، واليمين كذباً وزوراً يدع البيوت خراباً، ويهلك الحرث والنسل والأرزاق، ويقتل من في البيت بعضهم بعضاً رجالاً ونساء، لأن شأن الله عظيم، فالذي يقسم بعظمة الله وبجلاله وهو عالم كذبه فقد أقدم على باطل وبلاء، ويكون جزاؤه في الدنيا قبل الآخرة، واليمين الزور تجعل الدور بلاقع، أي: خراباً.(310/4)
فضل اللغة العربية
فقوله: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:1 - 2]، أي: قسماً بكتاب الله، {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3] هذا هو المقسم عليه، يقسم ربنا جل جلاله بكتابه البين الواضح المشرق النير المدرك، المجهول من أهل الجهل وأهل العلم وممن سعى في ذلك، بأنه جعل القرآن عربياً وأنزله عربياً، وتكلم به عربياً، فأنزله على سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم وأوحاه إليه بالعربية التي هي لغة أهل السماء.
وقال علماؤنا: العربية لغة أهل الجنة، والقرآن نزل بأشرف لغة من لغات الأرض، وتكلم بها أشرف نبي على أشرف الأقوام صلى الله على نبينا وعلى آله.
وأول ما نزل القرآن على العرب، ثم تداوله الخلق من العرب والعجم، فالله أمر أول ما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بأن يدعو قومه، فقال: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، ثم بعد ذلك أمره ربه فقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، فهو رسول الله المرسل بالقرآن وبآخر دين في آخر الزمان، أرسله لكل البشر عربهم وعجمهم، أبيضهم وأحمرهم وأسودهم، وأنزله بلغة العرب، فكان العرب أول من حوسب بهذا الكتاب الكريم، وبهذه الرسالة الشريفة الكريمة فهي لغتهم الرسمية التي عليها نشئوا، وفي ظلالها تربوا، فكانوا يفهمون كتاب الله كما يفهم أحدنا لغته الدارجة الشعبية بحكم تربيته ونشأته.
فكانت لغة القرآن الكريم ليست بالشيء الصعب عليهم، ولا بالشيء العسير، وهكذا فقد بقي عليه الصلاة والسلام بينهم ثلاثاً وعشرين سنة يعلمهم كتاب ربهم، ويبين لهم فصاحته وتفسيره وبيانه وحكمته وأحكامه في سنته المطهرة إلى أن التحق بالرفيق الأعلى عليه الصلاة والسلام، ثم زحف المجاهدون والدعاة إلى الله في مشارق الأرض ومغاربها مذكرين بهذا الكتاب الكريم، وبهذه الرسالة البينة الواضحة، فآمن بها من في المشرق والمغرب، وعلموا أول ما علموا لغة كتاب الله ولغة رسول الله التي بها نزل القرآن وفسر، حتى صارت اللغة العربية لغة الأمم والشعوب الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وصار العجم بعد ذلك علماء في التفسير والحديث وعلماء في لغة العرب، فكان إمام التفسير هو محمد بن جرير الطبري، وهو أعجمي طبري، وكان إمام المحدثين هو الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه البخاري، وكان أعجمياً فارسياً، وكان عالم اللغة والنحو الإمام سيبويه أعجمياً، وهكذا تتابع القوم.
فعلم النبي عليه الصلاة والسلام قومه وعشيرته، ثم زحفوا بكتاب الله وبدين الله إلى مشارق الأرض ومغاربها، بدءاً من خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة آخر الخلفاء الراشدين إلى من جاء بعدهم من بني أمية وبني العباس وبني عثمان، فنشروا الإسلام بلغة العرب، ونشروا القرآن كذلك، فكان رسول الله إلى العرب، ثم العجم والناس كافة، وكان العرب رسل رسول الله إلى العرب والعجم.(310/5)
الجهل بالعربية جهل بالقرآن والسنة
ثم فسد الناس وضعفوا في دين الله، واتخذوا من الوثنية والقومية أوثاناً وأصناماً، فتعصبوا للغاتهم وأوطانهم وعشائرهم، فأضاعوا لغة العرب؛ لغة كتاب الله، ولغة دين الله، فأصبح كتاب الله مترجماً إلى لغات إسلامية، وإلى لغات فارس والهند، ثم بعد ذلك إلى لغات جميع سكان الأرض.
تلك البدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ونرى اليوم الدعاة فرطوا فيها وتتابعوا فيها وهم يظنون أنهم يدعون إلى خير، وتلك بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وما دعا رسول الله العرب والعجم إلا بلغة العرب لغته ولغة القرآن الكريم، ثم تتابع بعد ذلك خلفاؤه الراشدون، فما نصروا الإسلام في كتابه وسنته إلا بلغة العرب، فكانت الدعوة إلى اللغة العربية، وما لغة العرب إلا القرآن والسنة؛ لأن من لم يعلم لغة العرب لا يعلم القرآن ولا يعلم السنة النبوية، إلا إذا نشأ بين أهلها وفي بيئتها وتعلمها طفلاً وتحدث بها صغيراً، أما إذا تعلمها على كبر فيكون تعلماً ناقصاً وقاصراً، فقد رأينا الكثيرين ممن نصبوا أنفسهم دعاة إلى الإسلام، ما تعلموا لغة العرب إلا عن كبر، فأتوا بالمصائب في تفسير كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى خرج به بعضهم عن الإسلام، والبعض الآخر قال: إن النبي لا يطاع إلا إذا كان معه آية قرآنية، وفيما عدا ذلك ليست طاعته بواجبة، فهذا قول كافر، فمن قاله بعد تحريره وتبيينه وأصر عليه يعتبر كافراً.
وقال دعاة مشهورون العجائب والغرائب؛ لأنهم جهال باللغة العربية.
وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ} [الزخرف:3] أي: جعلنا القرآن عربياً، وأنزلناه عربياً وأوحينا به إلى محمد صلى الله عليه وسلم بلغة العرب.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3] أي: لعلكم تعقلون وحيه ولغته وفهمه، وقد كان ذلك كما فسره الله وأراده، فكان العجم من السباقين إلى فهم كتاب الله، والمئات من التفاسير وضعها عجم بلغة عربية فصحى وتفاسير فصيحة، فقد فهموا لغة الإسلام وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفهم الصحيح المفيد.(310/6)
تفسير قوله تعالى: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم)
قال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4]، أي: القرآن الكريم قبل أن ينزله الله على نبيه كان مكتوباً في اللوح المحفوظ.
وأم الكتاب أصل الكتاب، وأصل الكتابة اللوح المحفوظ، فقد أمر الله ملائكته أن يكتبوا فيه ما كان وما يكون إلى قيام الساعة، وإلى ما بعدها، إلى أن يدخل الجنة من يدخلها، ويدخل النار من يدخلها، وكتب فيه كتاب الله كما نزل به جبريل الروح الأمين عليه السلام على قلب نبينا صلوات الله وسلامه وزكواته عليه وعلى آله وأصحابه.
بمعنى: أن الله كتبه في اللوح المحفوظ قبل خلق الخلق بألفي عام، والقرآن الكريم الذي نتلوه من السطور ونحفظه في الصدور، الموجود في المصاحف ونتعبد به الله مصلين ومتهجدين وتالين ودارسين ومتفهمين، وعالمين ومتعلمين، وهو ما نطق به صلى الله عليه وسلم، وما أوحى إليه به جبريل، وما كتب في اللوح المحفوظ، لم تغير فيه كلمة ولا حرف ولا آية ولا سورة لا بزيادة ولا نقصان، بل ولا بحركة من الحركات، سواء كانت ضمة أو فتحة أو كسرة أو سكوناً، أو كانت مدة بألف أو واو أو ياء.
فالله قد حفظه قبل إنزاله على نبينا، ثم حفظه بعد ذلك متعهداً فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فالقرآن محفوظ بحفظ الله جل جلاله وعز مقامه، ومهما كثر أعداء الإسلام والقرآن فإنهم عاجزون عن تغييره أو تبديله، وأعظم شيء بعد القرآن علم التجويد، وهو العلم الذي انفرد به القرآن الكريم، وقد عرفت نصرانياً في أرض الشام كان له شأن في الكفر، ووصل إلى رئاسة الوزارة، كان يتعلم القرآن على مجود، فقال له أحد المسلمين: أنت لا تؤمن به على أنه كلام لله ولا أنه وحي من الله، فلم التجويد؟ قال: لأن لغة العرب محفوظة بوجود القرآن بيننا بأن علمنا حركاتها وسكناتها ومدودها وقلقلة حروفها وظاءها وذالها وطاءها وزايها، فبقيت الحروف بحركات مقدرة بلا زيادة ولا نقصان، وهذا لا يعرف في لغة من لغات الأرض، فاللغة اللاتينية التي هي أصل لغات الأوربيين تفرع منها بقية اللغات حتى أصبحت كل لغة وكأنها لغة بذاتها وليست فرعاً للغة اللاتينية لتغير حروفها وحركاتها بطول الزمن وتحريف الصحف لها.
واللغة العربية الفصحى مع تغير الزمن، تفرع منها اللهجات العربية فأصبحت كل لهجة من هذه اللهجات لغة قائمة بنفسها، وقد حاول اليهود والنصارى أن يجعلوا للهجات الشعبية العامية نحواً ولغة ومؤلفات وكتباً ليتعلموها ويعلموها، ويبتعدوا عن لغة القرآن وهدي القرآن فعجزوا وما استطاعوا؛ لأن الله تعهد بحفظ القرآن، ومن حفظه للقرآن حفظ الناس له، ومن حفظ الناس له أن يحفظوا اللغة العربية فيتكلمون بها، كما يتكلم الناس لغتهم الدارجة وكما يفعل ذلك كل من تكلم وتمرن على الخطابة والكلام والكتابة والدراسة والتدريس بلغة القرآن، قال الشاعر: والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم فمن عود لسانه اللغة الفصحى أصبح بها عربياً أصيلاً، ومن عود لسانه لغة اللحن واللهجة المنحرفة ضاع عليه فهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم باللغة الفصحى.
وأم الكتاب هو عند الله كتابان: كتاب من قبل الله لا يراه أحد؛ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وكتاب من قبل الملائكة، يتلقون منه الأوامر والنواهي، لينفذوها سماء وأرضاً في الحياة وفي الممات وفي الآخرة، فما كان قبل خلق الناس يصفه الله حيث يقول: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، فهو الذي وصفه: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:29]، فما كان عند الله من كتاب الله ومن سنة رسول الله لا يغيران، فمثلاً: أوحي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء على أن يصلي هو وقومه خمسين صلاة في اليوم والليلة، وقد نطق بهذا اللوح المحفوظ الذي يزيد وينقص، وبعد متابعة واجتماع وتردد بين محمد صلى الله عليه وعلى آله وبين ربه وموسى عليه السلام، أصبحت خمساً، فقال الله: (هي خمس في العمل وخمسون في الأجر لا يبدل القول لدي) فمحيت الخمسون التي كانت في اللوح الذي هو من جهة الملائكة، وبقيت الخمس المحدثة في الكتاب الذي من قبله، الذي لا يقبل التغيير ولا التبديل.
وقوله: ((وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)) أي: عالي الرتبة والمقام، فهو جليل الأصل، وجليل الكلم، وجليل الحكم وجليل المنزل عليه، وحكيم يضع الأمور في منازلها ومواضعها، جاء بالحكمة وبالحكم، وجاء بالعزة وبالرفعة، وجاء بالصلاح للخلق في الدنيا والآخرة.
فالقرآن الكريم هو عند الله في أم الكتاب، وهو لدى ملائكته وجنده الذين لا يحصي عددهم إلا الله، وهو عنده عليُّ الشأن رفيع المقام، حكيم في أحكامه، حكيم في آدابه، حكيم في قصصه ونوازله، وما كان كذلك يجب أن يعتبره المسلم كذلك، فيجب أن يكون عندنا عظيم الشأن رفيع المقام معززاً مكرماً.
وقد قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77 - 79]، ولأجل هذه الآيات حرم الفقهاء مس المصحف لغير متوضئ، ولو أن المطهرين هم الملائكة، ولكن الملائكة مطهرون لأنهم لا يرفثون ولا يتبولون ولا يتغوطون، فهم في طهارة دائمة، أي: فكذلك أنتم أيها البشر لا يليق بكم أن تمسوا كتاب الله وأنتم على غير طهارة.
وقد رخص بعض فقهائنا وعلمائنا للمعلمين وللمتعلمين مس القرآن على غير وضوء لما في ذلك من المشقة؛ لأن الله ما جعل في الدين من حرج، ورخصوا بأن يمسك من المصحف بعضه لا المصحف كله، فليس من الضروري أن يتعلم التلميذ كتاب الله ضمن مصحف، بل يكون لديه جزء واحد أو حزب واحد، وهنا يرخص له أن يمسكه من غير وضوء، أما المصحف فلا حاجة إليه، فهو يحفظ في اليوم ربعاً أو ثمناً ولا يحفظ القرآن إلا بعد سنوات، ومثل ذلك المعلم، فليس من الضروري أن يمسك المصحف كله، بل يكفي أن يمسك جزءاً أو ربعاً أو نحو ذلك.(310/7)
تفسير سورة الزخرف [44 - 45]
لما ختم الله رسالاته إلى البشر جعل خاتمها دين الإسلام، وبعث بها أفضل خلقه وأحبهم إليه صلى الله عليه وسلم، وشرف بهذه الرسالة العرب وبخاصة قريشاً التي أعزها الله بهذا الدين وجعل آخر كتبه بلسان قريش تكرمة منه تعالى، ومن ثم فإنه تعالى سيسألهم يوم القيامة عن هذا الشرف الذي حازوه وعن هذا الدين الذي أمروا بحفظه وتبليغه.(311/1)
تفسير قوله تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون)
قال الله جل جلاله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44].
يقول ربنا جل جلاله بأن القرآن الكريم تذكير لك يا محمد وشرف لك ولقومك قريش وسائر العرب.
{وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44] وسوف تسأل أنت وهم يوم القيامة عن هذا الشرف العظيم، فالقرآن نزل بلغتك ولغة قومك، وهذه الرسالة كانت فيكم معاشر العرب، ماذا صنعتم بها؟ هذا الشرف هل قمتم بواجبه؟ والرسالة هل قمتم بالدعوة إليها وبها؟ فليس الكبير مسئوليته مسئولية صغيرة، هل قاموا بها كما أمرهم الله جل جلاله؟ ولذلك فإن نبي الله عليه الصلاة والسلام قال في حجة الوداع وهو يخطب: (لعلي لا أراكم بعد عامي هذا، فهل بلغت؟ فيقولون له: نعم قد بلّغت وأديت الأمانة وأحسنت البلاغ، فيشير بأصبعه السبابة إلى السماء ثم إلى القوم ويقول: اللهم اشهد).
ومعنى ذلك أنه يسألهم في دار الدنيا ليشهدوا له يوم القيامة أنه بلّغ ما أُرسل به، وأدى ما شُرّف به من هذه الرسالة، قال تعالى: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113].
والقرآن شرف لقومه؛ لأن اللغة التي نزل بها القرآن هي اللغة العربية، والنبي عليه الصلاة والسلام شرف لقومه؛ لأنه من سلالة عبد المطلب وهو من بني هاشم، وبنو هاشم من قريش، وقريش من العرب جميعاً فهو شرف لهم وعز لهم، والله يقول مذكراً لهم بهذا: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] فالقرآن والإسلام والرسول شرف للعرب وذكر للأولين وللآخرين، قال عليه الصلاة والسلام: (لقد كنت نبياً وآدم بين الماء والطين، إنني دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورؤيا أمي، لقد رأت عندما كانت حاملاً بأنه أشرق منها نور أضاءت له قصور الشام وقصور بصرى).
فكان عليه الصلاة والسلام مذكوراً مشرّفاً قبل أن يخرج لهذا الوجود، بل قبل أن تنفخ الروح في أبيه الأول آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقد أحسنت قريش أخذ هذا الأمر -بعد أن ضل من ضل، وعوقب من عوقب ولكن الأمر بقي في قريش بعد ذلك- وكان منهم المهاجرون والرعيل الأول الذي قام على عواتقهم هذا الإسلام العظيم، ففي مدة اثني عشر عاماً في مكة تحملوا العذاب والاضطهاد والإبعاد، وتحملوا أخذ الأموال وإفساد الأزواج وأخذ الغلمان والعبيد، ثم هجروا أوطانهم وذهبوا إلى أرض ما عاشوا وما عاملوا فيها أهلها، واتخذوها موطناً ومسكناً، وكانوا بعد ذلك حملة الرسالة المحمدية لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكان الخلفاء الراشدون منهم، فـ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن كلهم من قريش، فقد علموا لهذا الشرف شرفه وعرفوا له مجده وذكره فازدادوا عبادة لله وطاعة لرسول الله وعملاً بنشر هذا الإسلام.(311/2)
الانتصارات التي حققها النبي وخلفاؤه الراشدون
مات النبي عليه الصلاة والسلام وانتقل إلى الرفيق الأعلى وقد أسلمت جزيرة العرب ولم يخرج الإسلام بعد عن الجزيرة، فخطط النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك للروم، ثم في غزوة مؤتة التي أرسل لها أربعاً من القواد: زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة فاستشهد الجميع وولي القيادة خالد بن الوليد سيف الله وذكر ذلك نبي الله للأقوام وقال: (استلم الراية زيد فاستشهد وجعفر فاستشهد وعبد الله فاستشهد وأمّر نفسه خالد ولم أؤمره وهو سيف الله المسلول).
وأوصى لـ أسامة بن زيد بقيادة الجيش الذي سيحارب الروم وينشر الإسلام في بلادهم، وتوفي النبي عليه الصلاة والسلام وهو يوصي: (ألا فأنفذوا جيش أسامة ألا فأنفذوا جيش أسامة، وأخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، لا دينان في جزيرة العرب).
انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى فقام الخلفاء الراشدون بواجبهم تجاه الدين، ففي خلافة عمر نشر الإسلام للعوالم فما كاد يستشهد حتى نشر الإسلام في أرض الشام وأرض العراق وأرض فارس وأرض مصر وأرض البربر؛ فهم الذين كانوا رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم لنشر هذا الإسلام بعده.
فخلف من بعد ذلك خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وأنذروا من الله وقال لهم: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] فعاقبهم الله فتقاتلوا فيما بينهم وكان بأسهم بينهم شديداً، وسقط بسلاح بعضهم البعض مئات الآلاف، والذين لو بقوا لنشروا الإسلام في الكون ولما بقي في الأرض إلا مسلم يشهد بشهادة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
هؤلاء الذين خلفوا الأقوام الأول والقرون الثلاثة الفاضلة عهد الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من القرون التي قال عنها عليه الصلاة والسلام: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، قام الصحابة ثم التابعون ثم تابعوهم بنشر هذا الأمر فما كادت تمضي خمسون عاماً من القرن الأول حتى عم الإسلام الكون من الصين شرقاً إلى جبال برينيه في عمق أوروبا أرض فرنسا وما بينهما.
ولكن جاء بعد من تلاعب في الحكم الذي كان لكل مسلم الحق في أن يكون له الرأي والمشورة، وإذا بهم حولوها كسروية قيصرية كما تنبأ بذلك عليه الصلاة والسلام عندما قال: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يصبح الملك عضوضاً كسروية قيصرية)، وعندما تمرد من تمرد من البغاة الذين قال عنهم نبي الله في الحديث المتواتر: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار).
فهؤلاء القوم الذين شرّفهم الله بجعل الرسالة فيهم، وبجعل لغة القرآن ولغة الإسلام لغتهم، بعد ذلك انكبوا وتحالفوا مع كل عدو للإسلام من اليهود القردة والخنازير ومن الصليبيين عبدة مريم وعيسى، وأصبحوا يحاربون دينهم وكتابهم وشرفهم وعزّهم، وأصبحوا عبيداً لليهود وللنصارى ضاربين بالشرف الذي شرفهم الله به عرض الحائط.
قال ابن تيمية: العرب في أنفسهم سادة الناس، وتمت السيادة بعد ذلك في الجاهلية والإسلام حيث جعل الله الرسالة فيهم والقرآن بلغتهم، ولغة الإسلام بلغتهم.
وقال عنهم: كان العرب أرضاً خصبة تفتقد الزرع والزارع فكان الزرع الإسلام وكان الزارع محمداً عليه الصلاة والسلام، وإذا بها تؤتي من الخيرات والنور والشرف والهداية ما عم الكون، فكانوا أئمة الناس ومعلميهم، وكانوا هداة الناس، وكانوا الفاتحين القلوب للهداية والنور الذي جاء به سيد الخلق وخاتم الأنبياء عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وقوله تعالى: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44] أي: وسوف تسألون عن هذا الشرف في أخراكم، ما الذي صنعتم به؟ هل نشرتم دين الله؟ هل قمتم بما عليكم؟ هل نشرتم لغتكم التي جعلها الله لغة كتابه ولغة نبيه ولغة دينه؟ هل كنتم الأئمة والهداة جيلاً بعد جيل وعصراً بعد عصر إلى أن يصبح هذا الإسلام في كل العصور هداية الأقوام إلى يوم القيامة؟ وسيكون الناس يوم القيامة مسئولين عن أنفسهم، والعرب مسئولون مرتين: مرة في أنفسهم، ومرة عن هذا الشرف الذي شرّفهم الله به من كون لغة القرآن كانت لغتهم، والنبوة كانت فيهم، هل قاموا بما يجب عليهم فيها؟ والكفر قبيح من كل إنسان وهو أقبح عندما يكون فيمن ينتسب إلى العرب، أيليق بقوم محمد الذين شرّفهم الله بجعل القرآن بلغتهم ولكون النبي منهم أن يقاتلوا المسلمين ويحاربوا دينهم ويكونوا مع اليهود والنصارى على أنفسهم وعلى نبيهم وعلى كتابهم؟ قال قتادة في هذه الآية: (وإنه لشرف لك ولقومك) دخل في قوم النبي عليه الصلاة والسلام كل من قال: لا إله إلا الله، فقد شرفه الله بالإسلام، وشرّفه بهداية محمد عليه الصلاة والسلام، وأصبح في نفسه مطالباً بعد ذلك بنشر هذا الدين على حسب علمه وعقله وما قدّره الله عليه، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض وواجب على كل مسلم، وأكد هذا الفرض وزاد الآية بياناً نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو لا يخاطب قومه فقط ولكن يخاطب كل المسلمين فقال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، أي: لا إيمان لمن لم ينكر الباطل بقلبه، وناقص الإيمان من يقدر على إنكار الباطل بيده فلم يفعل، وناقص الإيمان من قدر على إنكار الباطل بلسانه فلم يفعل، ولا إيمان لمن لم ينكر الباطل بقلبه؛ ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (وذلك أضعف الإيمان).
والإسلام شرف لكل مؤمن، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة) وأعظم نعمة كرم الله بها الإنسان أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن يكون من أتباع هذا النبي الكريم إمام الأنبياء وخاتمهم، وصفوة الخلق ملكاً وجناً وإنساً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونحمد الله ونشكره بكل خلايا جسومنا أن جعلنا من أمته ومن أتباعه، وأدامنا الله على ذلك إلى لقائه يوم القيامة على الحوض وفي الجنان.(311/3)
تفسير قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون)
قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45].
دعا النبي عليه الصلاة والسلام كفرة العرب وكفرة العجم إلى توحيد الله وعبادته، فقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، فهل أنزل بذلك كتاب قبلهم؟ وهل قال بذلك نبي قبلهم؟ فاسأل الأنبياء إن شئت: هل أرسل الله نبياً من الأنبياء بأن يُعبد غير الله، وبأن تكون هناك آلهة دون الله؟ لم يكن هذا قط، فقد أرسل الله الأنبياء كلهم بدعوة واحدة: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] أمروا بعبادة الله الواحد، وأمروا الخلق جميعهم بعبادة الله الواحد.
فالوثنيات والشرك وعبادة الأصنام لم يأت بها كتاب ولا نبي وإنما هي من المخترعات والأكاذيب والأضاليل التي جاء بها الكفرة الفجرة من الأمم السابقة والأمم اللاحقة.
والله جل جلاله عندما قال: اسأل الرسل، أين سيسألهم؟ فكلهم قد ماتوا قبله إلا عيسى قد رفع إلى السماء، وليس عيسى هو كل الرسل وكل الأنبياء، ومن أجل هذا توقف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهما في معنى هذه الآية: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} [الزخرف:45] لأن معناها: أنه يسأل أهل الكتاب من أتباع الأنبياء، هؤلاء الذين ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهم كفرة وثنيون، فاليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا مريم وعيسى، وقالوا عن عيسى: ثالث ثلاثة، وقالوا عن أنفسهم جميعاً: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ} [المائدة:18] فكيف يسأل من لم يكونوا يوماً موحدين؟ إن كان المقصود آباءهم فقد انتهوا، وإن كان المقصود من عاصر أنبياءهم فقد انتهوا، فكيف يسأل من عاصروه، والله قد حكى عنهم: أنهم عبدوا عيسى وعبدوا عزيراً وعبدوا مريم وقالوا ما قاله الوثنيون قبلهم {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:30]؟ وكيف يسأل النبي عليه الصلاة والسلام أقواماً كفرة فجرة جاء لتعليمهم وإخراجهم من باطلهم؟ تبقى الآية كما هي: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف:45] أي: اسأل رسلنا: هل جاءهم الوحي أو أنزلت عليهم كتب أن يجعلوا دون الرحمن آلهة يعبدون؟ فلقد سألهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، فعندما أُسري به عليه الصلاة والسلام في ليلة الإسراء إلى بيت المقدس (المسجد الأقصى) -أعاده الله للمسلمين وطرد عنه القردة والخنازير- اجتمع عليه الأنبياء والرسل وأمره جبريل بأن يتقدمهم إماماً، ثم بلغه قول الله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف:45]، هل جعل من دون الرحمن آلهة تعبد؟ وفي رواية وهي الأصح والأشهر وهي رواية جمهور المفسرين والمحققين: أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال له جبريل: سل، قال: لا أسأل أحداً، أنا مطمئن بقول ربي، عالم بما قال، ولا أسأل عنه أحداً، فما أرسل ربي نبياً إلا وأمره بعبادة الله الواحد، فبذلك آمنت وبذلك اطمأن قلبي دون حاجة إلى سؤال أحد.
وقيل: إنه سألهم، ولم يصحح هذا المحققون من المفسرين.
قال صليبي في مجلس عام فيه علماء ومسئولون: أليس في كتابكم أن تسألوا أهل الذكر؟ فنحن أهل الذكر، أليس في كتابكم أن تسألوا من أرسل إليهم من قبل؟ إذاً: أنتم مأمورون في شريعتكم بأن ترجعوا إلينا وتسألونا عما أنزل علينا.
ولم يوجد في المؤتمر إلا منافقي العلماء، ومنافقي الحكام؛ لأنه لم يرد عليه قوله؛ وهكذا أصبحت الأرض مباحة لليهود يفعلون ما شاءوا، والنصارى يفعلون ما شاءوا، أما المسلمون فإذا تكلموا أو نطقوا كُذّبوا وسجنوا وقيل لهم: لا تتدخلون في السياسة، ولا سياسة في الدين، ولا سياسة في الإسلام؛ وهكذا انقلبت المفاهيم رأساً على عقب، وأصبحوا يمشون على رءوسهم بدلاً من أن يمشوا على أرجلهم، قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] هل أمرنا أحداً من الخلق أو رسولاً من الرسل أن يعبد غير الرحمن؟
الجواب
لا.
وقد قال عليه الصلاة والسلام بياناً للعشرات من الآيات والسور أن الله أرسل رسله، وأمرهم أن يعبدوا الله ويجتنبوا الطاغوت، وقال نبي الله عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات أبونا واحد وأمهاتنا شتى)، أي: رسالتنا واحدة وكتابنا واحد ولكن دعوتنا مختلفة، والشرائع مختلفة، ولذلك فإن الله تعالى جعل العقيدة والدعوة للعبادة هي دعوة واحدة لجميع الرسل منذ آدم إلى خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما الشرائع فمختلفة، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] والشرعة هي: القوانين والأحكام التي تتغير بتغير الزمان والمكان والأقوام والمصالح، ومن هنا كانت شريعة الإسلام خاتمة الشرائع لا رسالة بعدها، وجاءت بالاجتهاد فيما لا نص فيه، وبالاجتهاد في النصوص المحتملة خصوصاً وعموماً ومطلقاً ومقيداً.
ومن هنا كان المجتهدون في عصر رسول الله عليه الصلاة والسلام من الصحابة قد اجتهدوا في حياته، وقالوا أقوالاً اختلفوا فيها وكان المحكم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد موته صلى الله عليه وسلم اختلفوا تبعاً لاجتهاداتهم وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر).
وقد اجتهد رجلان من الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنهما كانا في صحراء فلم يجدا الماء فتيمما فصليا بذلك التيمم ثم وجدوا الماء فأحدهما لم يعد الصلاة والآخر توضأ وأعاد الصلاة، فالنبي عليه الصلاة والسلام جعل أجرين لمن توضأ وأعاد الصلاة، وأخبر الآخر بأنه أصاب السنة.(311/4)
تفسير سورة الزخرف [46 - 54]
أخبرنا الله عز وجل في كتابه الكريم عن رسالة موسى عليه السلام وحاله مع فرعون وقومه، وبين ما جاءهم به من الآيات البينات والأدلة الواضحات، فما زادهم ذلك إلا إعراضاً ونفوراً، وكفراً بالله وغروراً، فأخذهم الله بعد إطلاق، وعاقبهم بعد إمهال، فأغرقهم جميعاً ونجى فرعون بجسده ليكون آية وعبرة.(312/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزخرف:46].
الله كثيراً ما ينظّر ويضرب الأمثال والأشكال في الرسالة المحمدية وفي الرسالات السابقة؛ كالرسالة العيسوية والرسالة الموسوية، فعندما جاء الإسلام وجماهير من الناس يدّعون أنهم أنصار عيسى، وآخرون يدّعون أنهم أنصار موسى، ولكنهم جميعاً قد بدّلوا وغيّروا وزيفوا وحرّفوا في كتبهم التوراة والإنجيل، أما المسلمون فما حاولوا التحريف والتبديل في القرآن، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
لكن قد يكون التحريف في التفسير وفي الشرح وفي الفتوى وفي الاجتهاد عن نية سيئة أو عن جهل بالنصوص، ولا يحق للجاهل أن يفتي في دين الله ولا أن يتلاعب بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فكان اليهود الذين أذلهم الله وغضب عليهم، والنصارى الذين جهلوا دينهم وضلوا عن سواء السبيل، فاليهود هم الذين حاولوا قتل عيسى، وكانوا يقولون عنه الإفك في حياته وبعد أن رفعه الله إلى السماء وحاشاه من ذلك، وأخذوا بعد ذلك يضللون أتباعه ويقولون عنه أنه إله وهو ثالث ثلاثة تعالى الله عن كل ما يقولون علواً كبيراً.
فكان القرآن يضرب المثل ليفهم المسلمين أنهم إذا فعلوا فعل اليهود يلعنهم الله كما لعن اليهود.
وهذا فعل في عصرنا عندما بدّلوا وغيّروا وحرّفوا وتركوا كتاب الله وراءهم ظهيراً، وأخذوا يتبعون اليهودية بشيوعيتها وماسونيتها ويتبعون الملل الكافرة الملحدة، فعندما أخذوا يجرون وراءها سلّط الله عليهم النصارى أولاً ثم اليهود بعد ذلك، ثم الجميع عقوبة من الله، وقد أنذرهم قبل ذلك نبيهم والكتاب المنزل على نبيهم فما رعوه حق رعايته وما اتعظوا وما عادوا وما تابوا، ولن يرفع الله مقته وغضبه على المسلمين حتى يعودوا إلى ربهم وإلى كتابه فيحكّمونه فيما بينهم، وإلى نبيه فيلتزمون طاعته والعمل بشريعته وإلا فالأمر لا يزداد إلا شدة، والله جل جلاله ذكر ذلك في العشرات من السور والمئات من الآيات، وما من ذنب إلا بمعصية، ولذلك الله يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] فهذه المصائب نتيجة كسب اليد من الكفر بالله والجري وراء اليهود والنصارى والمنافقين من سكان البلاد.
فقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [الزخرف:46] أي: بما يصدّق رسالته من الآيات الواضحات والمعجزات الكاشفات {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [الزخرف:46] أي: إلى فرعون وقومه من أشرافهم وكبارهم وصغارهم، فجاء إليه موسى فقال: {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزخرف:46] أي: جئتك يا فرعون! ويا قومه، وأيها المستعبدين له من الأسباط رسولاً من رب العالمين، لأدعوكم إلى عبادة الله الواحد وأن تتركوا فرعون وتألهه ودجله وأكاذيبه وأباطيله.(312/2)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون)
يقول ربنا: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف:47] لما جاء موسى بالآيات البينات آية بعد آية، إذا بالكفرة المتقدمين يفعلون ما يفعله الكفرة المتأخرون، يضحكون من دينهم ويضحكون من المعجزات التي أتى بها موسى فقالوا: هذا سحر، وهذه شعوذة، وهذا كذب، وقالوا: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} [طه:57 - 58] فأتوا بالسحرة، فغلبهم موسى بمعجزته فآمن السحرة، {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70] ثم تتابعت الآيات والمعجزات من نبي الله موسى وهارون إلى فرعون وملئه وما زاده ذلك إلا طغياناً وتجبراً وهو يدّعي الألوهية، يتأله والله يكذّبه، فعندما جاءهم بالآيات المتتابعات من الضفادع ومن الدم ومن النقص في الأثمار وفي الأنفس وفي الخيرات، ومما أصابهم من الآيات التسع، كانوا يتضاحكون حتى إذا ابتلوا وأرادوا الطعام سبقتهم الضفادع وإذا أرادوا الشراب سبقهم الدم وسبقهم القمل، وغير ذلك من المعجزات التي وردت، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:47 - 48] يقول ربنا جل جلاله: أتيناهم بالآيات المتتاليات المتتابعات، وما من آية أتت إلا والتي بعدها أكبر منها، (أكبر من أختها) أي: من قرينتها وسابقتها.
أتاهم موسى بمعجزات وقال لهم: أسلموا وآمنوا بالله، فجميع خلق الله سيموت، وإلهكم واحد فوحدوه، ثم يهددهم بالعذاب إن هم رفضوا توحيد الله، فابتلاهم بالنقص في الأنفس، فأخذوا يموتون الآلاف بعد الآلاف ويأتون إليه مستجيرين مستغيثين وهم يجأرون إليه، {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} [الزخرف:49] ويدعو الله أن يرفعه فيرفعه الله، فيعودون لنفس الأيمان ولنفس العهود فيسلط الله عليهم النقص في الثمرات، فتنتشر المجاعة في أرض مصر، وأخذ الناس يموتون جوعاً وعادوا إليه يجأرون، ودعا الله أن يرفع عنهم ذلك، ثم سلط عليهم الضفادع فكانوا إذا أكلوا سبقت الضفادع اللقمة قبل أن يلتقطها أحدهم، ويحاولون أن يبتعدوا عنها وإذا بهم يمضغونها ويبلعونها وهم على غاية من الضيق والضجر، ثم ارتفع هذا البلاء، وسلط عليهم القمّل وإذا به في شعورهم وفي ثيابهم وطعامهم وشرابهم وعادوا وجأروا وصاحوا ووعدوه بالإيمان فرفعه الله عنهم، ثم سلط عليهم الدم فكانوا إذا أكلوا أكلوا دماً وإذا شربوا شربوا دماً وإذا مشوا في الأرض مشوا على الدماء، وهكذا حتى كان الانتقام وكان قاصمة الظهر حيث أغرقهم الله جميعاً، فجعلهم الله سلفاً وعبرة للآخرين، وقضى على حياة فرعون ولم يقض على جسده {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92]، فأنجاه الله بالبدن ولم ينجه بالروح، ومن ذهب إلى مصر فسيجد في متاحفها تلك الجثث، وفرعون واحد منهم يقيناً بإخبار الله تعالى، وهم يقولون عن المجموعة أنها فراعنة فأخذوا يعتزون بها، وعادوا لرفع شأنها والتمسك بها.
{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:48] أي: وأخذهم الله وعاقبهم بعذابه وانتقامه بمختلف الآيات البينات والمعجزات الواضحات التي أتى بها نبي الله موسى وهارون، فما زادهم ذلك إلا عناداً وجحوداً ولم يرجعوا للإيمان والتوحيد وطاعة موسى وهارون، ثم أخذوا بعد ذلك يجأرون ويضرعون فقالوا: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} [الزخرف:49] قال قوم: كلمة الساحر كانت عندهم بمثابة العالم والكبير والعظيم، فكأنهم قالوا له: يا أيها العالم والخبير! ارفع عنا هذا البلاء بما أعطاك الله من النبوة والرسالة التي أكرمت بهما، والمحبوبية التي زعمتها، فادع الله لنا أن يرفع عنا هذا البلاء وهذا الغضب {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} [الزخرف:49] أي: نعدك بأننا سنهتدي، و (مهتدون): اسم فاعل بمعنى الحال والمستقبل، أي: سنهتدي وسنؤمن لك وبرسالتك وسندين بدينك ونترك فرعون وتألهه وربوبيته.(312/3)
تفسير قوله تعالى: (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون)
قال تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الزخرف:50] استجاب الله لموسى دعاءه فكشف عنهم العذاب، ولكنهم مع ذلك نكثوا العهد وغدروا فلم يهتدوا ولم يؤمنوا ولم يسلموا، وهكذا دواليك عند كل بينة وعند كل معجزة وعند كل آية وكل نقمة، والله نوع المعجزات على يد موسى، فيأتون جائرين طائعين باكين واعدين بأنهم سيعودون من الكفر والشرك إلى الإيمان والهداية، فما يكاد الله يرفع ذلك عنهم حتى يعودوا إلى الكفر والعصيان والجحود والطغيان.
قال تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ} [الزخرف:50 - 51]، ازداد فرعون تكالباً ونقمة وعناداً على موسى نبي الله؛ وذلك لأنه وصفه بأنه كافر وكاذب ومدع، فرأى فرعون أن هذا شيء عظيم لا يكاد يقبل فهو بجيوشه وبحكمه وبقصوره ويرى لنفسه مقاماً ودرجة ليس لموسى منها قليل ولا كثير.
وهكذا تزعم العقول عندما ينتزع منها نورها وفهمها وإدراكها فتفسر الأشياء بالمقلوب، حيث تفسر الكفر إيماناً والإيمان كفراً، والضلالة هداية والهداية ضلالة، والنور ظلاماً والظلام نوراً.
وإذا بـ فرعون ينادي قومه بعد كل ذلك وأخذ يحتج على ألوهيته بالكذب والدجل، وفي الاستدلال على الألوهية بسخافات لا يقبلها ولا يقولها إلا مجنون.(312/4)
تفسير قوله تعالى: (ونادى فرعون قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر)
قال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]، فإحدى دلائل فرعون أنه يحكم مصر، وما مصر بالنسبة للعالم إلا كواحد في المليون، فهنالك قارة آسيا مع سعتها وعرضها وبقية قارات الأرض، ولكن فرعون لسخافة عقله ولجنونه ولكفره ولعناده ظن أنه بحكمه لمصر سيصبح إلهاً يرفع ويضع ويقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، و {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38].
فنادى في قومه، أي: صاح وهو فاقد عقله ومنطقه بعد أن جاءه موسى بما جاء من البينات الواضحات والمعجزات الكاشفات، فنادى في قومه بعد أن جمعهم وخطب فيهم وادعى الألوهية كما يدعيها بعض حكام فارس.
وكان الرشيد رحمه الله يقرأ هذه الآية وإذا به يضحك ويعجب كيف أن فرعون يدعي الألوهية لكونه يحكم مصر وما مصر بالنسبة لدولة هارون إلا جزءاً من الآلاف، فقد كان رحمه الله يحكم المشرق والمغرب وجميع الأقاليم، فقال: والله لا يحكمها إلا غلامي المكلف بأموري، فذهب هذا الغلام الخصي ليحكم مصر فوجد ما وجد فيها، ثم قال: والله لن أحكم بلداً حكمها فرعون ورفض عبد هارون أن يحكم مصر التي حكمها من ادعى الألوهية، وجعلها دليلاً على ألوهيته.
ثم وليها كافور الأخشيدي مملوك أجعد الشعر أفطس الأنف لا يرى منه أبيض إلا أسنانه وبياض عينيه، فحكم مصر أحسن حكم عدلاً وعلماً وأمناً، وقضى على كل فتنة وفساد، حتى قال الناس: أين كافور من فرعون المتأله الكاذب على الله؟ الذي قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]، أي: ألا ترون أني حاكم مصر، وهذا النيل يجري من تحت قصوري وبساتيني وأتحكم فيه وأحوله يميناً إن شئت ويساراً إن شئت، وكل إنسان يفعل ذلك.
فـ فرعون لم يخلق الناس ولم يخلق مصر ولم يخلق ما يدعيه.
ثم زاد فتطاول على نبي الله موسى فقعد يقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، فنظرته نظرة الكافر المشرك إلى أحد أولي العزم من الرسل، ووصفه بالمهانة، ثم قال له من بعد: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف:53] فهذه الآية تبين أن فرعون مهين؛ لأن نبي الله موسى لا يلبس أساور النساء في يديه كما يلبسها فرعون، ولا يضع أصناف اللؤلؤ والمرجان في عنقه كما يضعها فرعون، وهل يعجز موسى ذلك؟ وماذا عسى أن يكون هذا الذهب واللؤلؤ؟ ولكن العقول الكافرة تكون قد تقذرت وتوسخت وصارت لا تقبل فهماً ولا نوراً، ولا ما يقبله ذوو العقول السليمة، ولذلك وصف الله هذه الطبقة بأنها كالأنعام بل هم أضل قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، فهم أضل من حميرهم ودوابهم وهوامهم.
وقوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} [الزخرف:52]، فصفة فرعون كما جاء في كتبهم أنه كان أشبه بضب طوله كعرضه، وكانت عيونه بارزة وأسنانه بارزة وأنفه أكبر من شفتيه، وشفتاه تكاد تكون أكبر من يديه، وهو يمشي كمدحلة الأرض، ينطق صياحاً، ويتحرك تحركات المجانين، وتصرفاته تصرفات مجانين، فكيف يصف نفسه بالجميل والشريف وبأنه خير من أنبياء الله؟! ولماذا قال عن موسى ذلك، وهو لم يأت بالأساور في يديه، ولا بعقود اللؤلؤ في عنقه، وكان ذلك عندهم علامة الشرف والقيادة والإمارة؟ وفسر بعض المفسرين قوله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} [الزخرف:52] بل أنا خير، ولا حاجة لذلك، ثم يتساءل ويقول: {أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] أي: أليس عندكم أبصار ترون بها الأنهار تجري من تحتي والوديان أمامي وأحكم على من أشاء بالقتل أو التعذيب ممن يتعرض لي؟ أليس هذا دليلاً على أنه إله ورب؟ هكذا خطر في بال هذا الأجدب الأبله الذي فقد عقله قبل أن يفقد دينه، ثم أراد أن يفعل موازنة ومقارنة بينه وبين نبي الله، فله في مصر حكم وسلطان وربوبية، وهو خير من موسى وأبهى منه وأجمل؛ لأن في يديه الأساور وفي عنقه إلى صدره عقود من الزبرجد والمرجان وتخيل نفسه أنه أنثى، فينتهي به الرياء والفخر إلى هذا الحد، فليست الأساور من شأن الأنبياء ولا من شأن الرجال.
وقوله: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، أي: لا يكاد يفصح؛ لأنه كان به لثغة، وكان فرعون سبب ذلك، فعندما ألقته أمه في النيل بأمر الله تعالى بعدما وضعته في الصندوق وإذا به يقع في يدي جواري زوجة فرعون فأخذته فإذا هو قمر عليه إشراق فتبنته، وقالت لـ فرعون: عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً، وبعد إلحاح تركه لها، وقال: لا حاجة لي بنفعه، ولو قال ما قالته زوجته لانتفع به، ولذلك لم ينتفع به ولا بوجوده في داره فتربى في بيت من سيكون سبب هلاكه والقضاء عليه، وفي يوم من الأيام دخل فرعون القصر، فأخذ موسى وعمره سنة فوضعه في حجره فإذا به يمسك بلحيته فيجره إليه حتى نتف منها شعرات، وإذا بـ فرعون يضج ويقول: هذا إسرائيلي وكاد يذبحه، فقالت له زوجته: يا فرعون كيف تقول هذا لصبي أرعن لا يفهم وإذا شئت أن تمتحنه فافعل، فائت بجمرة وتمرة فإن أخذ التمرة فهو عاقل، وإن أخذ الجمرة فهو طفل لا يدرك، فأخذ الجمرة فقذفها في فيه فحرقت لسانه فبقيت تلك اللثغة في لسانه، ولكنه دعا الله جل جلاله أن يرفعها عنه عندما كلفه بالرسالة فقال موسى لربه في طور سيناء: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:25 - 32] إلى آخر الآيات.
فاستجاب الله له وحل تلك العقدة وأعانه هارون بفصاحته وببيانه وبخطابته وبدعوته، فكل ما دعا الله به استجاب له فيه، قال له الله كما حكى لنا في القرآن الكريم: {أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89]، أي: أجيبت دعوة موسى وهارون.
ولكن مع هذا فإن موسى من بني إسرائيل واللغة القبطية دخيلة عليه، وقد يكون قد تعلمها تعلم الأجنبي للغة الأجنبية، فلم يكن يتقن النطق بها، إضافة إلى اللثغة التي بقيت في لسانه، فلا يكاد يجيد القول ولا يفصح الكلام لهذه اللثغة.
وقوله: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف:53] يقول: لماذا لم تكن أساور الذهب في يد الرجل الذي ادعى النبوءة؟ وكيف سيكون حال هذا النبي عندما يكون في صورة هندي عليه الذهب والفضة؟ أيقبل هذا؟ ولكن عقل فرعون تصور أن يكون نبيه أشبه بأنثى والذهب في اليد والعقود في العنق، وأسورة: جمع سوار.
وقوله: {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:53]، أي: لماذا لم تأت الملائكة تحرسه، وتحفظه، وتؤيده، وتصحبه؟ ومن أدراه أن الملائكة ليسوا معه؟ فهو أحقر من أن يراهم بدليل أنه عجز عن أن يصنع به شيئاً، فقد جاء موسى إلى فرعون وقومه وكلهم أعداء ألداء كفرة يؤمنون بـ فرعون إلهاً، وموسى وحده بينهم، وقد هاجم فرعون وكذبه ودعاه إلى عبادة الإله الحق، وأنه ليس إلهاً، فلم لم يقتله؟ ولم لم يقم في وجهه؟ وهو قد هدده وقال لهم: دعوني أقتل موسى وليدع ربه، فلم لم يفعل؟ فلو حاول ذلك لانطبقت عليه السماء والأرض ولأصبح كالأمس الدابر، ولكنه أعجز من ذلك.
وقد سبق أن جباراً من جبابرة قريش وهو أبو جهل أراد أن يضرب النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا بالله تعالى يريه فحلاً من فحول الجمال بجانب النبي عليه الصلاة والسلام فاتحاً فاه وكأنه فم بئر يريد أن يفترس أبا جهل وإذا به يفر ويتراجع.
فالله حفظه وصانه، والملائكة معه لا شك ولا ريب، ولذلك فإن فرعون لم يتجرأ عليه دون أن يرى الملائكة، وقوله: {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:53] أي: جاءوا أقراناً مماشين له بعضهم عن اليمين وبعضهم عن الشمال وبعضهم أمامه وبعضهم خلفه، فقد تصوره كملك من الملوك يحتاج إلى الجند يصاحبونه أماماً وخلفاً وعن اليمين وعن اليسار، فالنبوءة شيء آخر، وكل ما على الدنيا بالنسبة لمنصب النبوءة ومنصب الرسالة إنما هو كمنزلة العبد من السيد الكريم، ولذلك عندما قال أبو سفيان وقد كان قائد الكفر في حرب النبي عليه الصلاة والسلام، عندما قبض وهو خارج مكة والجيش النبوي داخل لمكة سلمه النبي عليه الصلاة والسلام للعباس وكان شريكه في الجاهلية وإذا العباس يقوم ويقف بجانبه، فرأى جيوش الله المظفرة وأخذ يسأل: من هؤلاء؟ من هؤلاء؟ فرأى الميمنة والميسرة والمقدمة والمؤخرة والقلب وفيه نبي الله عليه الصلاة والسلام وكل على غاية ما تطيب النفس له، فسأل العباس عن هؤلاء فأجابه، فقال أبو سفيان: لقد أصبح يا عباس! ملك ابن أخيك عظيماً، قال: صدقت إنها النبوءة، قال: أما هذه فوالله لا يزال في قلبي منها شيء.
وكلامه هذا نتيجة النزاع القبلي والذي كان قبل النبوءة، وأنه بعقله وبفهمه أصبح ملكاً، وهو أعظم من ذلك، وما الملوك بالنسبة إليه وللأنبياء أمثاله إلا تابعون له ول(312/5)
تفسير قوله تعالى: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين)
قال ربنا: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]، ادعاء الألوهية هو الهراء والكلام الساذج الذي لا ينطقه ذو عقل سليم؛ ألأنه يحكم مصر، وماذا عسى أن تكون مصر؟ فأنت لو حكمت الدنيا فإنك بعد ذلك ستموت ولا يموت الرب.
لكن قومه صدقوه واتبعوه وأطاعوه؛ لأنهم كانوا خفيفي العقول، فأيما حاكم جاءهم أسرعوا للطاعة ولقبول كلامه، فمن ادعى الألوهية أو النبوءة أو الزعامة أو الصلاح صدقوه، ومن أتى باليهود وحكموا معه صدقوه، ومن حارب المسلمين وسجنهم وشنقهم وهاجمهم صدقوه وكانوا معه، فتلك خصلة من الخصال التي خلقها الله وما أشبه اليوم بالأمس، فـ فرعون وجدهم ضعاف العقول خفيفي الأنفس قليلي الإدراك والفهم {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54]، قال تعالى عنهم مبيناً سبب ذلك: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54].(312/6)
تفسير سورة الزخرف [54 - 60]
إن الأمثال وسيلة للإقناع ولتقريب المعنى المراد، وقد ضرب الله في كتابه الكريم الكثير من الأمثال، ومما ضربه الله لمشركي العرب من الأمثال خلق عيسى عليه السلام واختلاف أتباعه عليه، فمنهم من عده الإله، ومنهم من عده ابن الله، ومنهم من عده ثالث ثلاثة، ورغم ضرب الله لهذا المثل إلا أن المشركين بسبب تعنتهم وصدودهم استمروا في جدالهم بلا دليل ظاهر ولا برهان قاطع.(313/1)
تفسير قوله تعالى: (فاستخف قومه فأطاعوه)
قال الله جل جلاله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54].
قال الله عن فرعون إنه كان ضالاً مضلاً، كافراً قذراً، ادعى الألوهية، ويدل هذا على فساد عقل وحرص على الكفر، وإصرار عليه، ولخفة عقول قومه وضياع نفوسهم آمنوا به وقبلوا كفره وتألهه فآمنوا به وهم يرونه إنساناً ولد من ذكر وأنثى، يجوع ويعطش، ويمرض ويصح، ويفرح ويحزن، وإنما لمجرد كونه ملك شبراً من الأرض تاه فيه وتجبر وظن وتوهم أنه بسببه سيستحق أن يكون رباً إلهاً.
قال الله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف:55] أي: فلما أغضبونا وأسخطونا وتجاوزوا حدهم في الكفر والتعلق بالباطل والاستشهاد بالهراء من القول {انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55]، أي: عاقبناهم وجازيناهم بما هم له أهل حيث ادعوا ما ليس لهم، {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف:55] حيث كفروا بالله وادعوا ما ليس لهم من ألوهية ومن عبودية الناس لهم ومن باطل لم يدعه أحد في الأرض.
وإذا بالله يغضب ويسخط عليهم ويغرقهم أجمعين، وذلك عندما خرج موسى وهارون وقومهما من أرض مصر، وإذا بـ فرعون يصله الخبر فيخرج هو وجنوده وقومه ويسرعون في اتباعهم وفي الجري خلفهم، وإذا بالله الكريم يفعل لموسى وهارون وقومهما معجزة بأن يفتح لهم في البحر طريقاً يبساً ويصبح الماء كالجبال عن اليمين وعن الشمال فينجو موسى وهارون وقومهما ممن آمنوا بهما من بني إسرائيل، فلما رأى ذلك فرعون وقومه اغتروا بذلك ولحقوا بموسى وهارون، فلما احتواهم البحر وأصبحوا داخله أمر الله البحر عن اليمين والشمال بأن يعود كما كانا وأصبح فرعون وقومه غرقى داخل الماء فماتوا غرقاً وخنقاً، وسلم الله فرعون بجسده وأبقاه عبرة لمن جاء بعده، وأبقاه ليتعظ به وليكون عبرة للمعتبر، وهو لا يزال إلى اليوم في متاحف مصر، وإن كان مجهول العين ضمن مجموعة من الفراعنة المتألهين الماضين.(313/2)
تفسير قوله تعالى: (وجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين)
قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} [الزخرف:56]، أي: فجعل الله ما فعله بـ فرعون وبقومه من نقمة وغرق -معاقباً لهم في دار الدنيا- سلفاً ومثلاً للآخرين ممن يمكن أن يأتي بعدهم وأن يكفر كفرهم ويعصي عصيانهم ويتمرد على نبيه، وفي ذلك إنذار لجزيرة العرب وللعجم ولكل من أرسل إليهم نبينا صلى الله عليه وسلم من مختلف أمم الأرض وشعوبها، وأنهم إذا خالفوا كما خالف قوم فرعون وفعلوا فعلهم وادعوا الألوهية الكاذبة لأصنام لهم وأوثان فسيقع عليهم ما وقع على أولئك.
والسلف: جمع سالف، أي: ماض وسابق، فالله جعلهم بعد قوم تقدموهم وسبقوهم في لعنة الله عليهم وعقوبته لهم بأن عاقبهم عقاب من يعصي نبيه ويخرج عن أمر ربه ويكفر بما أمر بالإيمان به ويؤمن بالكفر من كل كافر ومن كل وثني ومن كل مدع على الله ومفتر كاذب، فالله جعل فرعون وقومه سلفاً لقوم بعدهم وجعلهم سبقوا غيرهم ليعلم من يأتي بعدهم ويفعل فعلهم بأنه يعاقب عقابهم فيحذر ويخاف أن يحصل له ما حصل لمن سبقه من الكذبة الطغاة والفجرة الذين جعلهم الله سلفاً.
وذكر الله ذلك لقريش ثم لجميع العرب ثم لجميع شعوب الأرض بمختلف الملل واللغات فيما إذا خرجوا عن أمر نبينا عليه الصلاة والسلام وطاعة كتاب الله المنزل على نبينا ليعلموا أن لهم سلفاً ممن عوقب وانتقم منه كـ فرعون وقومه.(313/3)
تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون)
قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57]، أي: لما ضرب الله عيسى بن مريم مثلاً وذكره وجعله مثالاً للعبد الذي خلقه الله وجعله آية من الآيات لنبي إسرائيلي كآدم عليه السلام فقد خلق بلا أب ولا أم، خلقه من تراب ثم نفخ فيه من روحه فكان بشراً سوياً، وخلق عيسى لأم بلا أب، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، ضرب الله عيسى مثلاً لبني إسرائيل وللعرب ولمن أمر بأن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.
والله تعالى أرسل عيسى نبياً وإذا قومه يعبدونه ويؤلهونه، فيقول قوم منهم: هو الله، ويقول آخرون: هو ابن الله، ويقول آخرون: هو ثالث ثلاثة كذباً على الله وافتراء، فانتقم الله منهم وأذلهم وجعلهم أسلافاً وأمثالاً لمن يأتي بعدهم، وضرب الله عيسى بن مريم مثلاً لقوم نبينا وهم قريش ليتخذوا منه عبرة وعظة وإذا بهم يصدون ويستكبرون ويجادلون الحق بالباطل، وقد قال الله لقريش بل ولقومه خاصة: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، قال الله لهم: أنتم وما ألهتموه من أوثان وشياطين وحيوانات فأنتم وإياها وقود جهنم أنتم لها داخلون وفيها مقيمون دائمون.
وعندما قرأ النبي عليه الصلاة والسلام على قومه هذه الآية وهم جلوس فسكتوا وعجزوا عن الجواب وأفحموا، وقال كاذبهم الذي قتله النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر وهو عبد الله بن الزبعري: لو كنت حاضراً حديث محمد صلى الله عليه وسلم لقلت له: فنحن العرب نعبد الملائكة، والنصارى يعبدون عيسى، واليهود تعبد عزيراً، فكيف يكون هؤلاء في النار حصب جهنم هم فيها خالدون.
والرد على هذا الكافر فيما يلي: أن الله عز وجل قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبياء:98]، ولم يقل: ومن تعبدون، فإن من للعاقل وما لغير العاقل مما لا يعقل من حيوان أو جماد وما يشبه ذلك.
وأما عيسى والملائكة والعزير فلا تستعمل معهم ما وإنما تستعمل من، فما أجهله بمراده.
وقوله تعالى: {يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] قرئ (يصِدُّون) بكسر الصاد، أي: يضجون ويصرخون ويجادلون بلا دليل ولا برهان، وقرئ (يصُدُّون) أي: يبتعدون عن الحق وعن الآيات الكريمة ولا يريدون معرفة الحقائق بجدالهم الباطل.(313/4)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا أآلهتنا خير أم هو)
قال تعالى: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58].
يخبر الله عنهم أنهم يجادلون بالباطل ويحاولون أن يدحضوا به الحق وهيهات هيهات! وقالوا: أآلهتنا خير إن كانت في النار أم عيسى والعزير والملائكة؟ وهم يقصدون بذلك مناة والعزى وبقية الأصنام، يقول الله جل جلاله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] أي: شديدوا الخصام بالباطل يجادلون بالباطل بلا دليل عقلي ولا نقلي، قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44].
فكيف يوازن بين جماد وحيوان، وبين نبي من أنبياء الله أو ملك من الملائكة أو صديق من الصديقين وبين هؤلاء الأصنام؟ وأي طريق أو برهان يمكن أن يوازنوا فيه بين نبي أو عبد أو صديق أو رسول وبين وثن وجماد لا يعقل ولا ينطق؟ ولذلك يصفهم الله ويقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]، أي: إضافة إلى الجدال والخصام بالباطل والاستدلال بالهراء والتمسك بما لا يصح عقلاً ومنطقاً ونقلاً إنما أرادوا أن يقولوا ما يعتقدونه في أنفسهم من باطل وضلال، والأمر كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما ضل قوم بعد هدى إلا وأعطوا الجدل)، أي: ما انتقل قوم من الهداية والنور إلى الضلال والردة إلا وأعطوا الجدل، ولذلك تجد أصحاب المذاهب المبتدعة الضالة التي لا حظ لها في الإسلام من أكثر الناس جدالاً وخصاماً ولعباً بالأدلة والبراهين وتأويلها والخروج عن ظاهرها والكلام عن بواطنها بما لا يقره صاحب منطق ولغة ولا يوجد له نظير.
وكما قال عليه الصلاة والسلام: (اختلفت اليهود على واحد وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستختلف أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: ما هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي)، وهؤلاء هم الذين طبقوا ما قال الله وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدي النبوي وسلوك الأصحاب من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، فرضي الله دينه وعبادته ورضوا عن الله في جميع ما أكرمهم به وعاملهم به وقضى عليهم به.
وقوله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} [الزخرف:58]، أي: ما جعلوا ابن مريم مثلاً بالأصنام إلا جدلاً بغير منطق وعقل وغير حق وغير دليل وبرهان، لا من منطق عقول ولا من منطق نقول.
وقوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]، أي: بل هم قوم خصام وجدال وكلام بالباطل وبغير الحق، ولا يكون الحق إلا من عقل تشرق فيه أنوار الهداية، أما الكلام المقابل للمنطق والدليل فهو الهراء والجدال والخصام، وقد ورد النهي عن الجدال في الدين، أما المحاورة بالدليل والمناظرة بالبرهان والمذاكرة بما يثبت الحق ويدحض الباطل فذاك مطلوب، ويجب أن يكون ذلك في أهل العلم طلاباً وأساتذة ودعاة إلى الله، ويبقون كذلك حتى إذا انتقلت المحاورة والمناظرة من المنطق والحق والهداية إلى الخصام بلا دليل ولا برهان يجب على من يدير الحديث من أهل العلم أن يقطع الحديث؛ لأنه عندما ينتقل من الحوار بالحق إلى الجدال بالباطل فما هو إلا بعد عن الحق وإغراق في الباطل، وما ذكر عن فساد الجدال والخصام بالباطل هو بهذا المعنى.
وقوله: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا} [الزخرف:58] هذا استفهام، أي: تلك الأوثان والأصنام من مناة والعزى ومن بقية الأحجار التي لا حراك بها ولا تشعر بباطل ولا بحق إن هي إلا جمادات لا تضر نفسها ولا تنفعها، فكيف بأن تنفع غيرها أو تضره.(313/5)
تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل)
قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59].
إن: نافية، أي: ليس هو إلا عبداً لله أنعم الله عليه بالنبوءة وبالرسالة وبالحكمة وجعله عبرة لقومه ومثالاً يحتذى ويطاع ويمتثل أمره ويجتنب نهيه ويتبع في نبوءته ورسالته وحكمته من قومه بني إسرائيل، فليس هو بإله كما زعم النصارى، وليس هو بكاذب أو ابن لـ يوسف النجار كما زعم اليهود، فلعنة الله على اليهود والنصارى معاً.
والقول الحق أنه كآدم، فكما خلق الله آدم بلا أب ولا أم جعل الله عيسى آية في بني إسرائيل وعبرة للخلق بعده فجعله من أم بلا أب، وليس كما زعم اليهود أنه جاء سفاحاً، ومعاذ الله أن يكون النبي الكريم والعبد المنعم عليه كما يزعمون ويفترون.
فالنصارى أغرقوا بالدعوى الكاذبة أنه إله، واليهود أغرقوا في سب عيسى والتنقيص من منزلته ومقامه، فضل الأولون والآخرون، وقال المسلمون ما قاله ربهم: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ} [الزخرف:59]، أي: ليس هو إلا عبداً من عباد الله كآدم وبقية الأنبياء في كونهم عباد الله المكرمين يفعلون ما يؤمرون، وأنعم عليه بأن أعطاه من النعمة بأن جعله نبياً ورسولاً من أولي العزم من الرسل.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59]، والله جعله عبرة وجعله مثلاً لبني إسرائيل ليزدادوا شكراً وحمداً لله على ما أكرمهم به من خاتم أنبيائهم وهو عيسى عليه السلام، ولكن اليهود عليهم لعنات تترى قتلوا الأنبياء بل وحاولوا قتل عيسى، قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، ولكنهم أصروا على أنهم هم الذين قتلوه واتبعهم في هذا الباطل وصدقهم النصارى من بني إسرائيل -وإن كان كلهم يهود- كالذي اتبع عيسى ثم كفر به وقال عنه أنه إله، والذي كفر بعيسى وقال عنه أنه ابن يوسف النجار، وكل أولئك قد كذبوا النبي العبد المنعم عليه وقالوا قولاً وخصومة وجدالاً بلا دليل ولا برهان.(313/6)
تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون)
قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60]، سبق أن قال هؤلاء الكفار فيما مضى لنا من الآيات أنهم لا يؤمنون بمحمد نبياً ورسولاً وهو من البشر وخلق من المرأة والرجل، فلماذا لم يكن ملكاً رسولاً، أو كان معه ملك، أو جاء بجبال من ذهب، أو فجرت له جبال مكة عيوناً وأنهاراً أو جاء بقصور بما فيها من حور عين ومن فواكه وثمرات؟ فقالوا هراء من القول وزوراً من الكلام وما لا معنى له، وهل يتصف هذا القول وهذه الأماني السخيفة بالحق؟ وإنما جعل الله أنبياءه بشراً لحكمة أرادها، ولو كانوا ملائكة لكان ينبغي للناس أن يكونوا كذلك؛ لأن البشر لا يؤمنون إلا برسول يرونه ويمتثلون أمره، وإن أرادوا رؤيته على حقيقته فأنى لهم ذلك وقد غطى الأفق؟ أو تكيف على صورة إنسان مثلهم فهو كذلك، فكيف يكون حالهم إذا رأوه وقد تغير وتحول من الصورة الآدمية إلى الصورة الملائكية؟ ولكن من تمام الإكرام والإنعام على البشر أن جعل الله أنبياءهم منهم، يعلمون آباءهم وأنسابهم وأحسابهم ويفهمون عنهم ويعقلون قولهم، ويعلمون نشأتهم وتربيتهم فيطمئنون إلى سلوكهم كنبينا مثلاً عليه الصلاة والسلام، فقد عاش في قومه أربعين سنة لا يعرف فيهم إلا بالصادق الأمين، وكان موضع احترامهم وتقديرهم، ولم تصدر عنه كذبة على أحد من الناس، فكيف بعد أن بلغ الأربعين يكذب على الله ويقول ما ليس له بحق؟ هل هذا منطق عاقل أو منطق إنسان يسمع ويفهم ويعي ويدرك، يقول الله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60] أي: لو أردنا وسبقت مشيئتنا لجعلنا منكم ملائكة، أو لغيرنا الأنبياء والرسل الآدميين إلى ملائكة، وجعلناهم في الأرض يخلف بعضهم بعضاً، أي: يذهب ملك ويأتي ملك كما يذهب نبي ويأتي نبي، فمثلاً: مات موسى وهارون وجاء من بعدهما عيسى ثم رفعه الله إليه وجاء بعده محمد عليه الصلاة والسلام، فلو شاء الله أن يجعل ذلك من الملائكة لفعل، ولكنه لو فعل لتغيرت الأمم والشعوب وأصبح القوم كلهم ملائكة وليسوا كذلك.
فالملائكة هم جند الله المكرمون المعصومون من المعصية لا يحتاجون إلى نبي أو رسول، يحتاجون إلى كبير وإلى رئيس فلهم كبراؤهم ولهم رؤساؤهم يأمرونهم بما يفعلون عن أمر الله، فصفتهم أنهم {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فهم ملائكة في السماء وملائكة في الأرض وملائكة عن اليمين والشمال عزين، وملائكة للجنة وملائكة للنار، والله جعل ملائكة تنزل عند الفجر فتتولى أمر ما أمرها الله به ثم تعود وتعرج إليه، فهم يتواردون عليكم بالليل والنهار، فيجدون العبد المستقيم يتلو القرآن فيعودون إلى ربهم، ويأتي من بعدهم فيجدونه يتلو القرآن أيضاً، ولمثل ذلك قال ربنا: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، فيقولون: يا ربنا! وجدنا فلاناً عندما نزلنا وهو يقرأ القرآن وغادرناه وهو يقرأ القرآن وأنت به أعلم.
ولو جعل الله الأنبياء والمرسلين ملائكة لتغير وجه الأرض ولانتهت المعصية ولما كان هناك مذنب والأمر ليس كذلك، فقد جعل الله فيها برزخاً حين خلق أبانا آدم في الجنة، وبين أن الدنيا مزرعة الآخرة، فمن أحسن في الدنيا ربح الآخرة، ومن أساء في الدنيا خسر الدنيا والآخرة.(313/7)
تفسير سورة الزخرف [61 - 67]
إن من المسائل التي جادل فيها المتقدمون والمتأخرون من الكفار والمشركين مسألة نبوة عيسى وأمه ومسألة ألوهيتهما، فزعموا من ضمن مزاعمهم أن عيسى عليه السلام أمرهم بعبادته من دون الله، وكذبوا! فما أمرهم إلا بالتوحيد الخالص توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة ولكنهم قوم يكذبون.(314/1)
تفسير قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم)
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61]، {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] أي: أن عيسى هو علم للساعة، وقرئ: (وإنه لَعلَم للساعة)، أي: أمارة وعلامة، وعيسى رفعه الله إليه كما قال تعالى في آية أخرى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:157 - 158]، وسينزل في آخر الزمان إلى الأرض، وسيكون نزوله علماً وأمارة من علامات وأمارات الساعة، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159]، وليس أحد من أهل الكتاب يهوداً أو نصارى إلا ليؤمنن بعيسى عليه السلام، أولئك الذين زعموا أنهم قتلوه وصلبوه، وأولئك الذين صدقوا كذب اليهود وآمنوا به، فجعلوا الصليب شعاراً لهم وبدل لا إله إلا الله محمد رسول الله عند المسلمين.(314/2)
حكم بيع الصليب ولبسه
ومن أكثر ما يوجع القلب أننا نجد بعض الناس من المسلمين يعلقون الصليب على صدروهم ويبيعونه، وتجد شباباً وشابات ورجالاً وآباء يشترون ذلك لهم ويعلقونه على صدورهم، وبيع الصليب أو شراؤه لتعليقه على الصدر ردة وخروج عن الإسلام، ويجب البطش بهؤلاء والقضاء عليهم ويعتبرون من المرتدين؛ لأن معنى تعليق الصليب وشراءه لمن يجعله في عنقه أنه يؤمن بأن عيسى قد قتل وصلب، وجعل شعار صلبه في عنقه، وإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61]، أي: وإن عيسى لعلم للساعة ونزوله من السماء ومكثه في الأرض أمارة وعلامة على قرب قيام الساعة وهو من العلامات الكبرى، وذاك ما تواتر عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ورواه العشرات من الصحابة، ونص على تواتره جماهير المفسرين والمحدثين والعلماء عن أنه لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى بن مريم من السماء حكماً عدلاً يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويهدم البيع والكنائس، ويدعو للإسلام، ويقتل اليهود والنصارى إن لم يسلموا، وينشر الإسلام بين جميع الخلق، وينزل في أرض الشام، ويدخل القدس عند صلاة العصر وقد قدم القوم إماماً للصلاة.
ومعناه: أنه إذ ذاك ستكون القدس تحت أيدي المسلمين وتنتهي هذه السحابة الصيفية التي عما قليل ستزول، وهذا يرد بعنف وبأدلة قاطعة على من زعم أن أحد هؤلاء الحضور الأعور الدجال، وأنه لن تنتهي دولة إسرائيل إلا مع نزول عيسى، وهذا جهل وعدم فهم للنصوص، فإن عيسى سينزل وقت العصر إلى القدس فيجد القوم قد قدموا إمامهم للصلاة فيرون عيسى فيلهمون معرفته ويقدمونه إماماً فيمتنع ويقول: بل بعضكم لبعض تبع، ويصلي مؤتماً بإمام المسلمين، وما يصنعه وما يفعله من كسر الصليب وقتل الخنزير ومنع اليهودية والنصرانية ليس ذلك تشريعاً جديداً ولا ديناً جديداً، ولكنه سينزل تابعاً لنبينا عليه الصلاة والسلام مسلماً من المسلمين وهو على دينه وسيصلي صلاة المسلمين ويحج حج المسلمين، ولم يرد أنه يصلي إماماً؛ لأن الإمامة ليست له فقد انتهت إمامته بإمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسره للصليب وقتله للخنزير وهدمه للبيع والكنائس إنما هو بأمر رسول الله.
وقد اجتمع به ليلة الإسراء في السماء الدنيا وصلى به إماماً مع جميع الأنبياء في المسجد الأقصى في القدس ردها الله دار إسلام، وأخرج منها القردة والخنازير وعبد الطاغوت وأتباعهم من المتهودين والمرتدين من أعداء الله.
فنزول عيسى حق، وسينزل والدجال في الأرض وسيذوب الدجال كما يذوب الملح في الماء، وسينتهي موضوع الدجال، ويكون نزول عيسى العلامة الثالثة أو الرابعة من العلامات الكبرى التي منها المهدي المنتظر والدجال والدابة والدخان والريح الحمراء التي تأتي من عدن فتسوق الناس إلى أرض المحشر، وهي ضمن عشر علامات كبرى.
وفي زمن عيسى سيكون الناس في أرغد العيش من الرخاء وكثرة النعم والخيرات ومن وفرة الأموال حتى إن الزكاة لا يقبلها أحد، فيخرج الرجل بماله فلا يجد من يأخذه فيقال له: لست في حاجة إليها، ويكون الناس جميعاً أغنياء، ثم تتدهور بعد ذلك الحالة إلى أن يصل الأمر كما يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة وعلى الأرض من يقول: ربي الله)، أي: لا تقوم الساعة إلا على الكفار، فتقوم الساعة ولا يدرى متى وقوعها إلا بزلزلتها وقد صرع من كان يمشي، ومن كان يأكل تجمد يده على الطعام، وهكذا لا تأتيكم إلا بغتة، ولم يعلمنا الله ورسوله منها إلا بأماراتها الصغرى والكبرى، أما متى وقوعها فذاك علم استأثر به ربنا.
ولذلك لما سأل جبريل نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (متى الساعة؟ قال: ليس المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: ما أماراتها؟ فقال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة الرعاة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)، فهذه علامات صغيرة قد ظهرت جميعها.
وأول علامة صغرى هي مجيء نبينا صلى الله عليه وعلى آله فقد قال عليه الصلاة والسلام: (بعثت والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى).
وقوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ} [الزخرف:61]، يأمر الله جل جلاله نبيه أن يخبر بأن نزول عيسى علم للساعة وعلامة عليها وعلى قربها، {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف:61] أي: فلا تشكوا ولا ترتابوا في أن الساعة قائمة لا محالة، ولا يرتاب فيها مؤمن ولا ينكرها مسلم، ومن أنكرها أو ارتاب فيها فهو كافر.
وقوله: {وَاتَّبِعُونِ} [الزخرف:61] يأمر الله الخلق أن يتبعوا نبينا عليه الصلاة والسلام في أوامره واجتناب نواهيه، فدين الحق هو الصراط المستقيم، وهو الطريق الموصل للحق لا اعوجاج فيه، فمن سلكه من البداية يستطيع أن يصل به إلى النهاية، من غير بنيات الطرق، وهذا لمن هداه الله، وأرشده للحق بلا بدع وخرافات وأضاليل وأكاذيب، فإن الحق بين وواضح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)، وما جاء العلماء إلا ليبلغوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن كتابه علمها ومعرفتها والتحقق منها، أما ما سوى ذلك من الأمور الضرورية للمسلم يومه وليلته وفي بيته وخارجه فإنه يعلمها، وإن كانت الأمور أخذت تتغير، فقد توارثت أجيال الكفر جيلاً بعد جيل، فتجد الولد لا يصلي والأب لا يصلي، والجد لا يصلي، وتجد الجهل بالإسلام في البيت المسلم إلى ثلاثة أجيال أو أكثر، فينشأ الجيل فاسداً قبيحاً، إلا إذا رزقه الله مدرسة صالحة ومعلماً صالحاً يعلمه دينه ويرشده إلى الصراط المستقيم.(314/3)
تفسير قوله تعالى: (ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين)
قال تعالى: {وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الزخرف:62].
أي: يا أيها الناس! لا يصدنكم، وهذا نهي بـ (لا) الناهية، ومؤكد بالنون المثقلة، والمعنى: لا يصرفنكم الشيطان ولا يضلنكم ولا يبعدنكم عن الحق والطريق المستقيم فإنه لكم عدو مبين، فهو عدو للإنسان، وكان سبب خروجه من الجنة هو حسده للإنسان حيث خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته، ولحسده امتنع من السجود لآدم أبو الإنسانية، فخسئ ولعن، وبقي في الخزي إلى يوم البعث، وسيكون إمام أهل النار، والمقدم في النار فيأتي بعده أتباعه المؤمنون برسالته الكاذبة المزيفة.
فالشيطان لكم عدو ظاهر وواضح، حيث لا يأمركم إلا بالباطل، ولا ينهاكم إلا عن المعروف، ويدعو إلى الشرك والفساد بجميع أنواع التدابير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم)، ولذا علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نتعوذ بالله منه، وأن نقرأ المعوذتين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]، وأن نتلو القرآن، فالشيطان يفر من الأذان، ولا يتحمل سماع كلمة الحق: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا سمع ذلك أدبر وله ضراط من الفزع والرعب والهلع، إلا إذا استولى الشيطان على المسلم.
كان هنالك رجل كثير التلاوة للقرآن الكريم بالمسجد النبوي، وحافظاً للقرآن وقبل أن يموت بأشهر كان يشعر بأن الجبال على عواتقه، وكأن أحداً يمسك فمه فلا يستطيع أن يتلو القرآن أو يذكر الله، ولا يستطيع أن يصلي، فهذا قد استولى عليه الشيطان وتمكن منه.
وهذا دليل على أن نية هذا الرجل لم تكن صالحة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من شب على شيء شاب عليه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يرى للناس، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
فنسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ برضاه من غضبه، ونستعيذ بالله من السلب بعد العطاء.(314/4)
تفسير قوله تعالى: (ولما جاء عيسى بالبينات)
قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:63 - 64].
يضرب الله الأمثال للناس بعيسى عليه السلام وبأنبياء بني إسرائيل؛ وذلك لأنهم أقرب الأنبياء إلى نبينا في الزمن والتاريخ، ولأنهم يوجدون معنا في الأرض، وعندما جاء الإسلام كانت الأرض فيها يهود ونصارى ووثنيون، ولكن اليهود والنصارى قد بدلوا وغيروا، وانتقلت ديانتهم من التوحيد إلى الشرك، فاليهود يعبدون العزير والعجل، والنصارى يعبدون عيسى ومريم، واختلفوا في عيسى اختلافاً كبيراً، فمنهم من يقول أنه الإله، ومنهم من يقول أنه ليس ابن أمه، أو هو ابن أمه من زناً، وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [الزخرف:63]، أي: عندما جاء عيسى بني إسرائيل بالآيات والمعجزات الدالات على صدقه، فقد كان يحيي الموتى بإذن الله، وكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وإذا ببني إسرائيل قد غلوا وأفرطوا فيه فكفروا، والمسلمون يقولون: هو عبد الله ورسوله.
وقوله تعالى: {قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} [الزخرف:63] أي: أنه جاء بالنبوءة وبالرسالة المشتملة على الحكمة، والحكمة هي فعل الأمر واجتناب النهي.
والحكمة هي الصلاح، أي: أنه قد أتى بما يصلح الناس ويهديهم في دنياهم وأخراهم.
وقوله تعالى: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف:63] أي: ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وإنما الذي بين جميع ما اختلفوا فيه هو نبينا عليه الصلاة والسلام في كتاب ربنا المنزل القرآن الكريم، فهو الذي بين لليهود وللنصارى جميع ما اختلفوا فيه في الدنيا والآخرة.
وإنما كانت رسالة عيسى بالإيمان بالتوراة والعمل بما فيها، ونسخ القليل منها، ولبيان بعض ما تنازعوا فيه من الشئون الدينية، ولذلك كانت الرسالة الكاملة إلى الخلق كافة هي الرسالة المحمدية رسالة الإسلام ورسالة القرآن الكريم.
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الزخرف:63]، أي: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، وإياكم وأن تختلفوا على نبيكم وعلى كتاب ربكم فيلعنكم الله ويدخلكم النار.
فيأمرهم بأن يطيعوا نبيهم ليوصلهم إلى الحق والنور، ورضا الله ورحمته.(314/5)
تفسير قوله تعالى: (إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:64]، ما دعاهم إلى عبادته وعبادة أمه، وما دعوى بني إسرائيل في ذلك إلا كذب وبهتان، وقد كذب بنو إسرائيل بعضهم بعضاً، وهو يقول لهم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الزخرف:63]، فيأمرهم أن يطيعوه: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [الزخرف:64] أي: إن الله ربي، فلست رباً إنما أنا عبد له، وإنما أنا نبي ورسول له، فأنا وأنتم عبيد له، فالله هو ربي وخالقي ورازقي والمدبر لأمري، والمحيي والمميت لي ولكم.
وقوله تعالى: {فَاعْبُدُوهُ} [الزخرف:64] أي: أخلصوا العبادة له، ولا تشركوا معه أحداً، فما أمرهم نبيهم إلا بعبادة الله، وما دون ذلك فكذب وزور وباطل، إنما أمر بعضهم بعضاً بالكفر والوثنية، ولم يأمرهم نبيهم بشيء من ذلك.
وقص الله علينا أنه سيقول يوم القيامة لعيسى وأتباعه من النصارى الذين زعموا أنه إله: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، فالله جل جلاله في يوم القيامة سيفضح النصارى على رءوس الأشهاد، فيكذبهم نبيهم عيسى، وأنه ما دعاهم يوماً إلى عبادته، ولا إلى ألوهيته، ولا إلى عبادة أمه، ولا إلى ألوهيتها، ما دعاهم إلا إلى عبادة الله الواحد، وهو كما يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:63 - 64].
والصراط المستقيم هو الطريق السوي الذي لا عوج فيه ولا أمتاً، وهو عبادة الله الواحد، وهو أن الأنبياء جميعاً عبيد الله، وقد أرسلهم الله منذرين ومخبرين ومبلغين رسالات الله أن اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً.
ولم يأتِ نبي إلا وجاء بعبادة الله الواحد، ومن هذا قول نبينا عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء ديننا واحد)، كل الأديان دعت إلى عبادة الله، ولكن الشرائع والأحكام والقوانين مختلفة، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48].
وكل طريقة أو حكم أو قانون فقد خص الله به كل قوم وكل ديانة حسب ما يليق بعصرهم، وبزمانهم، وبمقدار فهمهم وإدراكهم وعقلهم، فالسابقون كانت عقولهم صغيرة وضعيفة، وخاطب الأمة المحمدية وقد كانت أعقل الأمم السابقة على الإطلاق؛ ولذلك فقد أزال الله عنهم ما كان فيمن كانوا قبلهم من السلاسل والأغلال والضيق.
وقد دعا عيسى بني إسرائيل، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] أي: يأتي مبشراً بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، وبزوال الأغلال وما كان عليهم من ثقل في الأوامر والنواهي، وهو تلك الرحمة التي قال الله عنها: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، والتي قال عن نفسه فيها نبي الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا رحمة مهداة).(314/6)
تفسير قوله تعالى: (فاختلف الأحزاب من بينهم)
قال تعالى: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف:65]، اختلف الأحزاب، أي: أن الرسالة العيسوية دعت النصارى إلى الله الواحد فاختلفوا فيما بينهم من بعد ذلك، فقال قوم عن عيسى: هو الله، وقال قوم: هو ابن الله، وقال قوم: هو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً.
وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [الزخرف:65]، والكفر والشرك أعظم الظلم، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف:65]، الويل: نهر من قيح في جهنم، فيا بلاءهم ويا مصيبتهم، ويا ويلهم، ويا ما أخلدهم في هذا النهر من القيح ومن صديد فروج المعذبات وحريق المعذبين في النار.
فعذابهم عذاب أليم شديد مؤلم، وسيعذبونه يوم القيامة نتيجة كفرهم وشركهم واختلافهم على نبيهم.(314/7)
تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون)
قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الزخرف:66]، أي: هل ينتظرون إلا أن يفاجئوا بقيام الساعة وبالعرض على الله بغتة، وإذ ذاك لا ينفعهم إيمان، قال تعالى: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].
وقوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الزخرف:66] أي: وهم لا يدركون؛ لأنهم كذبوا بقيام الساعة وكفروا بها، أما المؤمنون فقد آمنوا بما جاء من عند ربهم عن طريق أنبيائهم.(314/8)
تفسير قوله تعالى: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)
قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، الأخلاء: جمع خليل، والخلة الصداقة البالغة، والأخوة: جامعة في التوافق والتنازل.
يذكر الله أن الأخلاء يوم القيامة يوم تبغتهم الساعة فإن بعضهم يكون عدواً لبعض إلا المتقين.
يقول علي كرم الله وجهه: صديقان أخوان في الله، وصديقان أخوان في القرابة، أما الصديقان في الله فيموت أحدهما أولاً، فيقول: يا رب! إنه كان لي خليل في الدنيا دعاني إلى عبادتك وشوقني إلى لقائك وأمرني بطاعتك وبعبادتك، فيا رب! جازه عني خيراً وثبته على الإيمان والإسلام حتى ألتقي به تحت ظل عرشك.
فيجتمعان يوم القيامة؛ لأن الأخلاء الأتقياء تبقى خلتهم كذلك؛ لأن أخوتهم وخلتهم كانت في الله، والأخلاء والإخوان في الله يكونون يوم القيامة على منابر من نور، وعلى كراسي من نور، ويوم القيامة يسأل كل واحد منهما عن الآخر: كيف كان لك؟ فيقول: كان نعم الأخ في الله، ونعم الصديق في الله، كان يأمرني بالطاعة.(314/9)
تفسير سورة الزخرف [67 - 73]
إن الله عز وجل وعد من آمن به وبكتبه وصدق رسله صلوات الله وسلامه عليهم بجنات عدن يخلدون فيها أبداً، وجعل لهم فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومن تمام إنعامه عليهم أن يلحق بهم أزواجهم وذرياتهم المؤمنين ليتم سعدهم ويكتمل فرحهم.(315/1)
تابع تفسير قوله تعالى: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)
قال الله جل جلاله: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
الأخلاء: جمع خليل، وهم الأصدقاء والأحباب المتحابون في الدنيا، فإنهم في الآخرة بعضهم أعداء لبعض إلا المتقين.
فالأخلاء والأحباب الذين تكون محبتهم ومودتهم مقصورة على الدنيا، في يوم القيامة ينقلب بعضهم على بعض عدواً، فيشتم بعضهم بعضاً، ويهجر بعضهم بعضاً، ويسب بعضهم بعضاً بأقبح الصفات والنعوت.
لكن الإخلاء المتقون، والأحباب في الله، والإخوان في الله تبقى أخوتهم وخلتهم في الدنيا والآخرة، بل وتزداد في الآخرة؛ لأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (المتحابون في الله هم على منابر من نور يوم القيامة)، وفي الحديث الشريف: (سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر منهم- أخوان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه)، فاللذان تحابا في الله واتفقا عليه يكونان يوم القيامة في ظل العرش مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه والصالحين من أتباعهم.
يقول علي كرم الله وجهه: هنالك خليلان مؤمنان وخليلان كافران: أما الخليلان المؤمنان فيموت أحدهما فيقول: يا رب إن خليلي فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويخبرني بيوم لقائك، ويدعوني إلى الطاعة والحسنات، ويأمرني بالبعد عن الشر والمخالفات والسيئات فيا رب كما أكرمتني أكرمه، وكما أحسنت إليّ فأحسن إليه، فيأتي خليل هذا المؤمن، ويلتقي وإياه في الآخرة فيسأل: كيف خليلك؟ فيقول: كان نعم الصاحب لي، وكان نعم الخليل لي، كان يأمرني بطاعة الله ورسوله، ويخبرني بلقاء ربي، ويبعدني عن أهل الأدواء والأشرار، ويقول الثاني له مثل ذلك.
والخليلان الكافران يموت أحدهما فيقول: يا رب إن خليلي فلاناً كان يبعدني عنك، ويأمرني بالمنكر، وينهاني عن المعروف، ويأمرني بالباطل وبمصاحبة الأشرار، فخذه إليك وعامله كما عاملني، فيلتقيان يوم القيامة، فينعت أحدهما الآخر بأنه كان بئس الصاحب والخليل.
ففي يوم القيامة الأخلاء الكفرة أعداء بعضهم لبعض حينما كانت خلتهم للشيطان، فكم من غريب في يوم القيامة إلا المتقين الصالحين المؤمنين، فخلتهم وأخوتهم ستدوم بدوام الآخرة، ويكونون على منابر من نور كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم.(315/2)
تفسير قوله تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون)
يقول ربنا جل جلاله: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68]، في يوم القيامة يعرض العباد على الله فيصيبهم الفزع وهم لا يدرون أللجنة مآلهم أم إلى النار مصيرهم، فتنادي الملائكة بأمر الله: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68]، فتطاول أعناق المسلمين والكافرين والمنافقين فيقولون: نحن عباد ربنا فلا خوف علينا ولا حزن، ولكن عندما يقول الله جل جلاله: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69]، يفزع الكفار والمنافقون لرعبهم، فلا ينتفع بهذا النداء غير المؤمنين بآيات الله ورسله وكتبه، بما جاء عن الله من الآيات البينات، وما جاء من أدلة واضحات تقطع بصدق الرسل والأنبياء، وما جاء عن الله من أوامر ونواه.
وكان المسلمون مستسلمين لأمر الله، مطيعين له، حيث أمرهم بالخير فعلوه جهد طاقتهم، وحيث نهاهم عن المنكر تركوه بكل ما يستطيعون.
فالمؤمنون بالله ورسله وكتبه يؤمنهم الله من الفزع الأكبر، فلا هم ولا حزن ولا خوف بتطمين الله لهم حينما يحزن الناس ويفزعون ويخافون على أنفسهم أن يكونوا في العذاب خالدين.
والمراد بـ {الْيَوْمَ} [الزخرف:68] أي: يوم القيامة، يوم العرض على الله.
فعباد الرحمن المؤمنون به المحسنون لا يخافون الفزع الأكبر، ولا يخافون الحزن، ولا يخافون الآلام، فالله قد أمنهم، وأنزل هذا الكتاب الكريم المعجز على خاتم الأنبياء ليبشرهم بهذا التأمين من الدنيا إلى الآخرة.
وكل إنسان على نفسه بصيرة، فالإنسان أدرى بنفسه، أمؤمن حقاً؟ أمخلص في إيمانه حقاً؟ فيعبد الله مخلصاً دون رياء ولا تسميع، فإن كان كذلك ومات على هذا فيرجو كل خير وكل فوز وكل نصر، فيدخل تحت قوله تعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68 - 69].
و (الذين آمنوا) بدل عن (يا عبادِ) أي: يا عبادي الذين آمنوا بآياتنا، فهم الذين نودوا، وهم الذين شرفوا وكرموا بالنداء الإلهي، والتأمين الإلهي، فهم عباد الله المسلمون المؤمنون، الذين أمنهم الله في الدنيا مبشراً لهم على لسان آخر الأنبياء فيما أنزله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هؤلاء العباد المؤمنون بآيات ربهم المحسنون المسلمون الدائنون بدين الحق، المؤمنون برسول الله خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام ومن جاء قبله من الأنبياء والرسل؛ تفصيلاً بمن ذكر اسمه، وإجمالاً بمن لم يذكر.
فالله ينادي عباده المؤمنين، ناسباً إياهم إلى ذاته الشريفة ومقامه العظيم، بأن يطمئنوا ولا يحزنوا ولا يخافوا.
ويقال لهم نتيجة ذلك يوم القيامة: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70].
فالجنة لكم خلقت، ولكم أعدت، وأنتم فيها خالدون خلوداً لا موت فيه ولا حزن ولا ملل ولا سأم، ادخلوها أنتم وأزواجكم المؤمنات بالله مثل إيمانكم، المسلمات بالله مثل إسلامكم، فكما اجتمعتم في الدنيا على طاعة الله والإيمان بالله ورسوله، كذلك تجتمعون في الجنة غير مكلفين بشيء، إن هي إلا اللذائذ، ولكم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون أبداً سرمداً.
وفسروا الأزواج بالنظراء، أي: ادخلوا أنتم ونظراؤكم، والأصل في معنى الزوج النظير، ويقال للزوجة زوج، كما يقال للرجل زوج، أي: أنهما اشتركا في الأولاد والحياة، واشتركا في قيام البيت، واشتركا في القيام بشئون الدنيا والآخرة، فكما اشتركا في ذلك في الدنيا، فإنهما يشتركان كذلك في الآخرة في الجنان.
اللهم اجعلنا منهم، وأكرمنا بما أكرمتهم، وأحينا مسلمين، وأمتنا كذلك محسنين لنفوز بهذا النداء الكريم: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:68 - 70].
ومعنى: (تحبرون) أي: تنعمون، وتكرمون، وتفرحون، وهو مأخوذ من الحبور والسرور والبهجة، كما وصفهم الله بقوله: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] أي: ترى في وجوههم نضرتها وجمالها وبهاء النعمة، والرضا الإلهي والرحمة الإلهية.(315/3)
تفسير قوله تعالى: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب)
قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71].
يقول ربنا واصفاً لهؤلاء الأزواج الذكران منهم والإناث عندما ينادون فيها بأنهم لا يخافون ولا يحزنون، فيؤمرون من قبل الملائكة بأمر الله أن يدخلوا الجنان متنعمين مسرورين مكرمين.
وقوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} [الزخرف:71] أي: من قبل الولدان الذين هم خدمهم وحشمهم، كأنهم اللؤلؤ المكنون، ومن زوجات طاهرات.
وقوله تعالى: {بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:71] أي: موائد الطعام تكون من ذهب، والأكواب: جمع الكوب، وهو الكأس الذي لا أُذن له ولا خرطوم ولا مقبض، ويسمى عندنا الفنجان.
هذه الأكواب كذلك من ذهب، وهم يطاف عليهم بالمآكل والمشارب، ولابد للأكل من شراب، ولا يكون شراب بلا طعام.
هذه الجنة يصفها الله بقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:71]، في الجنة كل ما تشتهيه نفس الإنسان، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من أنواع لحوم الطيور، ولحوم الحيوانات التي تمشي على أربع، ولحوم الحيوانات العائمة، ومن أنواع الفواكه والمطاعم والمشارب والملابس مما تشتهيه نفس الإنسان وتلذ عينه برؤيتها والتمتع بها تمتعاً عينياً وتمتعاً نفسياً.
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن آخر إنسان يدخل الجنة ويخرج من النار رجل من الموحدين، يكون قد أذنب ما شاء الله له من كبائر، فيعذب في جهنم ثم يخرج منها، فكل من مات وهو يقول: لا إله إلا الله، ناطقاً بها لسانه، معتقداً بها جنانه، كان مآله الجنة، إما أن يغفر الله له ولا يدخل النار، والأمر أمر الله: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت:21]، يغفر لمن يشاء ويحاسب من يشاء، وإما أن يعذب ما شاء الله له تمحيصاً له وتأديباً، والنتيجة الجنة.
وعندما يشتد عليه العذاب النفسي بأن يبقى وحده في جهنم وهو من الموحدين ووجهه إلى النار، يقول: (يا رب، هذه النار قد لفحني حرها، وآذاني لهيبها، وطال بي مكثها، فيا رب وجه وجهي إلى الجنة عسى أن يؤثر علي نعيمها، فيقول له الرب: عاهدني ألا تسألني مرة أخرى، يقول: يا رب وذاتك العلية ومقامك العظيم لا أطلب شيئاً سوى ذلك، فيستجيب الله له، فيوجه وجهه إلى الجنان فيستريح بالنعيم، وإذا به لا يستطيع أن يصبر على ذلك فيدعو الله ويتضرع إليه، فيقول: يا رب! أنت المسئول والمطلوب لا غيرك، أطلب منك أن تخرجني من النار وتضعني على باب الجنة، فيقول الله له: ما أغدرك يا إنسان، ألم تعطني المواثيق والعهود أنك لا تسألني شيئاً؟ يقول: يا رب، كرمك أكبر مني وأكبر من مواثيقي، ويعطيه من العهود والمواثيق، فيخرجه الله من النار! ويوقفه على باب الجنة، ويستريح من عذاب الله ويجد الرائحة، فيرى الناس يتمتعون وهو بعيد عنهم، فيضرع إلى الله ويصرخ ويقول: يا رب، كرمك أوسع مني، وجودك أكبر مني، أدخلني الجنة ولا تجعلني أذل خلقك، ويقول الله ما قال له في المرة الأولى والثانية، ثم بعد ذلك يدخله الجنة ويقول له: تمنّ؟ فيقول: أريد وأريد كذا وكذا، فيذكره الله ويسدد أمانيه فيقول ما ذكره الله به، وإذا بالجواد الكريم الغفور الرحيم يقول له: لك ما تمنيت ومثله معه).
يروي الحديث أبو هريرة في مجلس من الأصحاب والأتباع، فيقول له أبو سعيد: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: (لك ما تمنيت وعشرة أمثاله)، فيؤكد أبو هريرة ويقول: هذا الذي سمعت، ويؤكد أبو سعيد ويقول: هذا الذي سمعت، فكلاهما صادق، وهما من الأصحاب الذين قال عنهم الله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119].
فآخر من يدخل الجنة وهو أكثر المؤمنين عذاباً لمقامه الطويل في النار له مثل نعيم الدنيا عشر مرات، وقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام ما له من أجور وما له من حور عين بقوله: (ما بين أملاكه وقصوره مسافة ألفي عام) أي: بالتنقل بين ذلك، فهذا أقل أهل الجنة متعة بما في الجنان من خيرات وأرزاق ومتاع، وللموحد علامة في جبينه، فقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أن النار لا تحرق جباههم)، تكريماً للجبهة التي تسجد لله موحدة ذاكرة عابدة، وعندما يؤمر حرس النار بأن يخرجوا الموحدين فإنهم يعرفونهم بهذه العلامة، وعندما يدخلون الجنة تنقلب عليهم هذه العلامة علامة بؤس وحزن وألم، ويقال عنهم (الجنهميون) الذين كانوا يوماً ما في جهنم، فيضرعون إلى الله ويبكون من هذه السمة التي أحزنتهم وآلمتهم ولا ألم ولا حزن في الجنة، فيكرمهم الله بإزالة تلك العلامة ويكونون كغيرهم، فلا يعرفون من دخل الأول ولا من دخل الآخر، فهذا آخر موحد يدخل الجنة له فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يطاف عليهم بسبعين ألف صحفة من ذهب، فيها من أنواع الطعام ومن أشكاله وألوانه ما لا تنقطع شهوته من أول مائدة إلى آخرها، ثم يقول وهو مبتهج لا يكاد يعرف ما يخرج منه، يقول: يا رب، هذا كثير وأريد أن أضيف جميع أهل الجنة على مائدتي، وهو لا يعلم إلا بعد زمن أن مائدته هي أقل موائد سكان أهل الجنة، وهم فوقه درجات).
ومن المعلوم في الشريعة: أنه كما أن النار دركات فالجنة كذلك درجات، وما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، ولا ندري هل من أعوام الدنيا أو من أعوام الآخرة؟ التي يكون اليوم فيها: {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].
وقد يتساءل بعض المسلمين ويقول: نحن إذا مكثنا يوماً أو يومين فإننا نشعر بالملل إن كنا بلا شغل، والجنة لا شغل فيها ولا عمل ولا عبادة ولا تكليف، فلماذا لا نمل؟
و
الجواب
لو فرضنا أن إنساناً أعطي حريته في التصرف في الأرض وأخذ يتنقل من قارة إلى قارة، ومن باخرة إلى طائرة إلى قطار إلى سيارة، إلى أخ إلى صديق إلى حميم إلى قريب، وهو في كل اجتماع وكل دورة وكل جلسة يكون فيها ما ليس في الأولى، فإنه لا يمل ولا يكل، فكيف بالآخرة؟ فأهل الجنة يتزاورون فينزل من في الدرجة العليا إلى من هو في الأسفل، وهكذا تجدهم من مكان إلى مكان، فالإنسان بزوجة واحدة إن كانت مطيعة تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، تجده يشعر معها بغاية البهجة، فكيف إذا كان عنده من الحور العين اثنتان وسبعون حورية، الواحدة منهن إذا أطلت على الدنيا عطرت الدنيا بريحها وبطيبها، فكيف بهن جميعاً؟ وهو يتنقل من واحدة لواحدة وهن مقصورات في الخيام، يقلن له: نحن الراضيات فلا نغضب، ونحن المقيمات فلا نخرج، ونحن الدائمات في طاعتك وفي خدمتك وفي البر بك، ثم إذا دخل يجدهن يتغزلن فيه: خرجت وأنت جميل! وعدت وأنت أجمل! وأكمل، وعدت كذا وكذا.
وفي الدنيا إخوان في الله وأقارب، فنرى آباءنا وأمهاتنا، فكيف إذا رأينا هناك الآباء، وآباء الآباء، والأجداد وأجداد الأجداد والأم وأم الأم، وبقية الأمهات؟ فسنتعرف هناك بفضل الله وكرمه على خلق كثيرين هم لنا أقارب قبل أن يكونوا أصدقاء وإخواناً، ونحن في الدنيا لم ندركهم ولم نعرفهم ولم نرَ إلا اسمهم، فكيف يمل ويسأم الإنسان؟ وأعظم نعمة في الجنة وألذها النظر إلى وجه الله تعالى: (عندما يتجلى الحق لهم، ويقول لهم: هل أزيدكم؟ فيقولون: يا رب قد أعطيتنا وأمتعتنا وأكرمتنا، فيكشف عن وجهه الكريم).
فتكون تلك اللذة لذة روحية تبتهج بها النفس أعواماً، وذاك حين يقول ربنا جل جلاله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وجوه تعرف فيها نضرة النعيم وراحة النعيم، وجمال النعيم، ونعمة النعيم، وهي في هذه الحالة إلى ربها ناظرة، أما غير المؤمنين فهم في الأصل محجوبون لا يرون الله تعالى.
وفئات من مذاهب المسلمين المبتدعة ينكرون رؤية الحق، وقال أهل السنة والجماعة: كفى هؤلاء حرماناً أن يمنعوا هذه الرؤية التي أنكروها، مع أنها في القرآن نصاً، وفي الأحاديث النبوية ثابتة تواتراً، ولا ينكرها إلا جاهل ومخذول، مبعد عن نعيمها، وعن روحيتها.
قال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71].
هذه الجنة التي كما وصفها الله: {فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:71]، وكما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
فالمسلمون فيها خالدون، قال الله تعالى: {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71]، وخاطب الله المسلمين بخطاب الحضور تكريماً لهم.(315/4)
تفسير قوله تعالى: (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون)
قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72].
يقول جل جلاله: تلك الجنة التي أصبحت من أملاكهم، وداراً من دارهم.
ونحن نقول: نرجو فضل الله وكرمه فتكون داراً من دارنا، فنحن نوحد الله، ونؤمن بخاتم الأنبياء وبالرسل قبله، فنرجو الله أن نكون من أهلها فضلاً وكرماً.
يقول تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ} [الزخرف:72] أي: التي وصفها بما وصفها به، أن فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين بما فيها من صحاف الذهب وأكواب الذهب والغلمان الذين كأنهم اللؤلؤ المكنون، وما فيها من الحور العين، ومن الزوجات المؤمنات الصالحات اللاتي كن في دار الدنيا كذلك.
وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]، أي: بسبب أعمالكم فضلاً من الله وكرماً، وبسبب توحيدكم وإيمانكم وإسلامكم، ولكن هذا السبب كان بفضل الله، وكان بكرم الله، وكما يقول الحكيم: إذا أراد أن يظهر فضله عليك خلق ونسب إليك.
فالله خلقك ووفقك للإيمان وللهداية، ووفقك للدوام على ذلك والرسوخ فيه، ثم وعدك على ما أعطاك وأنعم عليك لأنك عملت وعملت، فلك الجنة خالداً فيها، فأنت أحد وارثيها، وأحد ملاكها، وأحد قطانها والمقيمين فيها.
والمعروف في الإرث أنه يقال: يرث الولد أباه، ويرث العالم رسول الله في الدعوة إلى الله وفي العلوم والمعارف، وورثت الدولة أراضي غيرها، فالجنة ورثناها عن الكفار، قال عليه الصلاة والسلام: (لكل إنسان منزله من الجنة والنار).
أما المؤمن فيأخذ منزله من الجنة ويرث منزل الكافر من الجنة؛ لأن هذه المنزلة لا يدخلها الكافر، فالله قد حرم الجنة على الكافرين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] فمكانه في الجنة يرثه المؤمن فيزيده على مكانه، والكافر يأخذ مكانه الأصلي في النار ويرث مكان المسلم فيها كذلك.
فإذاً: الإرث يكون إرثاً لمن كان يمكن أن يؤمن ويسلم ولكنه كفر ومات على الكفر، فلا ترجى له مغفرة ويحرم عليه دخول الجنة.(315/5)
تفسير قوله تعالى: (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون)
قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف:73]، والطعام بلا فاكهة لا يكفي، فلابد من تمام الطعام أن يكون فيه من أنواع اللحوم والمشهيات والمقبلات والماء، والفواكه للتفكه بها ولهضم الطعام، وهكذا في الجنة، فقد ذكر الله الطعام والشراب: (جاء بدوي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله! إني أحب الإبل، فهل في الجنة إبل؟ فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: إن أنت دخلت الجنة فلك من الإبل ما تشتهيه وما تريده وما تتصوره بما تريد وبما تشاء، فسر البدوي بأن فيها إبلاً، وجاء رجل آخر وقال: يا رسول الله! إني أحب الخيل، فهل في الجنة خيل؟ قال: نعم، إن أنت دخلت الجنة فلك فيها من أنواع الخيل ما تريد وما تشاء).
ففي الجنة أنواع الفواكه جميعها؛ بما تعرف وبما لا تعرف، وبكل الأشكال والألوان والطعوم واللذائذ.
في دنيانا نجد فاكهة في بلاد العرب لا نجدها في غيرها، ونجد فاكهة في أرض أوروبا أو أرض أمريكا أو بلاد المسلمين البعيدة لم نرها في بلاد العرب ولم نرها في بلاد المسلمين القريبة، أشكال وألوان وكلها لذيذة وطيبة.
وهناك فاكهة رأيتها في جزيرة (هونك رهن) -من جزر الصين- رائحتها قبيحة يبتعد عنها الإنسان، ولكن إذا أزيلت قشرتها انقلبت رائحتها إلى رائحة طيبة، أما طعمها فهي من ألذ ما يكون من الفواكه، إضافة إلى ذلك فإن لها خصائص ومنافع، ومن منافعها أنها تزيد في الباءة عند الرجال وكل المتزوجين في الأغلب.(315/6)
تفسير سورة الزخرف [74 - 80]
إن الله عز وجل توعد المشركين به المكذبين لرسله الصادين عن دينه بالعذاب الشديد يوم القيامة، وهو عذاب دائم سرمدي لا يخفف عنهم ولا ينقطع، وعلاوة على ما ينالهم من هذا العذاب المقيم فهم أيضاً في عذاب نفسي بسبب انقطاع أملهم ويأسهم من أن ينقضي هذا العذاب ومن أن تنقضي حياتهم ليرتاحوا منه.(316/1)
تفسير قوله تعالى: (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون)
قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74].
الكافر الذي كفر بالله إلهاً واحداً، وبمحمد بن عبد الله نبياً ورسولاً وخاتماً للأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم، وكفر بالقرآن كلام الله وكتاب الله، وكفر بالأنبياء والمرسلين والكتب السماوية، كالتوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل الذي أنزل على عيسى، والزبور الذي أنزل على داود، ولكن الذين أنزل عليهم من أتباع هؤلاء الأنبياء عليهم السلام بدلوا وغيروا وحرفوا، ونقلوا هذه الكتب من التوحيد إلى الوثنية، فألهوا عزيراً وموسى وعيسى وأمه، وعبدوهم من دون الله، وقالوا أنهم أبناء الله، فكفر اليهود والنصارى كفراً مضاعفاً بل أشد.
ومن دخل النار لابد فيها من العذاب، وكما أن الجنة اشتملت على أنواع المشتهيات واللذائذ، فكذلك النار اشتملت على أنواع المكروهات من مطعوم ومشروب ومما شاءوا من خزي ونار وعذاب وبلاء.
فهذا جزاء الكافرين لكفرهم وجحودهم بالله الخالق الرازق {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74].
كما قال ربنا في آية أخرى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36] أي: لا يموتون فيستريحون، ولا يخفف عنهم من العذاب، فيعذبون وهم أحياء دوماً واستمراراً.(316/2)
تفسير قوله تعالى: (لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون)
وقال تعالى: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75] أي: آيسون أذلاء، والإبلاس: اليأس من رحمة الله، واليأس من خروج النار، واليأس من الرضا عنهم؛ لأنهم لم يتداركوا ذلك في أيامهم الدنيا، ولم يقولوا يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، ولأنهم لم يفعلوا ولم يقولوا ذلك عذبوا ومكر بهم.
ولا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف، وهم في العذاب آيسون من تخفيفه ومن زواله، وهذا في كل كافر مات على الكفر.(316/3)
تفسير قوله تعالى: (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين)
قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، وهذه الآية كقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، حاشا الله ومعاذ الله، وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
وقد أعطاهم الله عقولاً تميز وتعي وتفكر، ورزقهم العافية والشباب والقوة؛ ومع ذلك فإنهم أنكروا الرازق والمحيي والخالق، وبقوا على هذا الكفر مع ما أعطاهم الله من فرصة العمر، فأعطاهم سبعين سنة، أو مائة سنة، أو خمسين سنة، أو أربعين سنة، فكذبوا علماءهم ووراث أنبيائهم، ولم تفد فيهم موعظة نبيهم ولا أمر رسولهم، ولا علم صحابي أو تابعي فأبوا إلا الكفران والجحود مدة حياتهم إلى أن ماتوا على الكفر.
فهؤلاء قد أنذروا بذلك، وبلغتهم إياه أنبياؤهم وورثة أنبيائهم، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين، والشرك أعظم الظلم.
والله الكريم لا ينفعه إيمان أهل الأرض كلهم لو آمنوا، ولا يضره كفرهم جميعاً لو كفروا، قال تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) والعكس بالعكس: (ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
(وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين) ظلموا أنفسهم بالشرك والجحود والكفر، وهم الذين سببوا على أنفسهم هذا العذاب في النار، وينادون بعد أن اشتد عذابهم وزاد بؤسهم وهم يعلمون أنه لا فائدة، ولكن الألم أنطقهم، والعذاب دفعهم للقول، وهم يعلمون أنه لا يستجاب لهم، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].
ومالك كبير حرس النار، وهو ملك من ملائكة الله المقربين، وملائكة النار غير ملائكة الرحمة، فملائكة الرحمة يأتون لأهل الرحمة باللطف وباللين وبالدعوة الصالحة وبالكلمة الطيبة، ويشهدون للمؤمنين بالخير، أما ملائكة العذاب فهم غلاظ شداد كما قال ربنا: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] وكل فعلهم وعملهم بهذا التعذيب في النار هو بأمر الله ليس لهم في ذلك أمر ولا نهي.
وحرس النار كثيرون وكبيرهم مالك، وينادي الكفار ملائكة النار فلم يجيبوهم ولم يهتموا بهم ولم يلتفتوا إليهم، فأخذوا ينادون خازن النار، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] وهم آيسون من الرحمة ومن الخروج من النار فطلبوا الموت، ولو أنهم وجدوا الموت لانتحروا ولقتلوا أنفسهم، ولكنهم مع ذلك لا يموتون، فيزداد العذاب ولا موت، وعندما يدخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة يذبح الموت بين الجنة والنار فيقال لهما: (يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت).
وقد روى ابن عباس: أن هؤلاء يبقون ألف سنة وهم ينادون: يا مالك، يا مالك، ليقض علينا ربك، وبعد ألف عام يجيبهم مالك زيادة في تعذيبهم ويقول لهم: إنكم ماكثون، أي: أنتم مقيمون في النار أحياء ولا موت أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا تخفيف للعذاب.(316/4)
تفسير قوله تعالى: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون)
قال الله تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78] أي: جاءتهم ملائكة الله في الدنيا، وجاءتهم رسل ربهم في الدنيا، وأمروهم بالحق، والحق هو الله والإيمان والتوحيد والقرآن والطريق المستقيم ومحمد عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك بمعنى واحد.
جاء الرسل للناس بالحق، فدعوهم لعبادة الحق الله الواحد الأحد، ودعوهم للإيمان بالحق كتاب الله النور المشرق على الخلق، ولكنهم أعموا أبصارهم كما أعموا بصائرهم عن الانتفاع بهذا النور، وجاءهم النور محمد صلى الله عليه وسلم بنوره وبرسالته وبحكمته وهو حريص على إيمانهم، وكاد يهلك نفسه في سبيلهم بما قابلوه من أذى وجحود وكفران وعندما ملك رقابهم ونواصيهم عفا عنهم وقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
ولو آمنوا به وقبلوه كما قبله غيرهم من المؤمنين والمسلمين لما كانوا في النار، ولما نادوا هذا النداء الذي لا جواب عليه.
ففي الموت راحة، وأنى لهم الراحة وقد كفروا وأصروا على الكفر مدة حياتهم؟ والمجيء بالحق كان للجن والإنس، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ولكن الذي آمن بالحق قليل من الناس، قال تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14] ولذلك في الآية الكريمة {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ} [الزخرف:78] فكان الأكثر كافراً جاحداً ممتنعاً عن الحق وقبوله والإيمان به والاهتداء بهديه.
وقد كرهوه وازدروه وكفروا به، وفي النار يلقون جزاء كفرهم وجحودهم وكراهتهم للحق، ومن هنا نعلم أن حب الحق إيمان وكراهيته كفران وجحود؛ ولذلك فقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول في الدعاء: (اللهم ارزقني حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك) فحب الله ورسول الله وشريعة الإسلام وحب الصحابة والتابعين والسلف الصالح والمؤمنين من متعلقات الإيمان، ومن أحب قوماً حشر معهم؛ إن كانوا مؤمنين فهو معهم في الجنة، وإن كانوا كافرين فهو معهم في النار، وكل محب للمحب تابع ومقلد، ومن أحب الكافر فعل فعله، ومن أحب المؤمن فعل فعله.
والحكمة العربية تقول: قل لي من تصاحب أقل لك من أنت.
وإذا رئي الإنسان مع منافق أو فاسق أو فاجر فمعنى ذلك أنه مثله، وإذا رئي مع صالح أو مؤمن أو محب للخير فمعناه أنه مؤمن، وكثيراً ما نفعل هذا عندما يصعب علينا أن نعرف حقيقة إنسان لا نعرفه، فنسأله: ما رأيك في أبي بكر؟ ما رأيك في الأئمة الأربعة؟ ما رأيك في الحركات الجارية في الأرض: كالاشتراكية والشيوعية؟ فإن أجاب إجابة حسنة فهو أخ مسلم، وإن قال: الاشتراكية مذهب صالح، والشيوعية لا بد منها فيكون قد رسب في الامتحان وعاملناه معاملة غير اللائق، إن كان يريد المصاهرة أبعدناه فلا يصلح أن يصاهر مؤمناً، وإن أراد الشركة أشرنا بألا يشارك، وإذا أراد شيئاً نقول له: لا، إلا إذا استنصحنا -والدين النصيحة- فيجب علينا أن ننصحه، ونقول له: إن الذي تحبه ضرر عليك في الدنيا والآخرة.(316/5)
تفسير قوله تعالى: (أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون)
قال تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79] هي كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] ومعنى الآية الأولى: أم أبرموا مكراً أو حيلة، أو تواطئوا على حيلة بالابتعاد عن النار، أو في الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في التنكر للإسلام أو حرب الإسلام.
فهؤلاء الذين أمرت أن تدعوهم إلى الإسلام من أهل المشارق والمغارب، من عاصرك ومن سيأتي بعدك هل تواطئوا على شيء وأحكموه واتفقوا عليه ليريدوا بذلك الكيد للإسلام والهجوم على الإسلام والكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهجوم عليه، أو الكيد لكل ما هو من المقدسات في الإسلام؟ فهم أرادوا المكر فالله يمكر بهم، قال تعالى: ((وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)) فهم لم يشعروا بمكر الله لهم، وهم كمن يبحث عن حتفه بظلفه، وكمن حفر حفرة ليقع فيها، فكانوا هم سبب بلاء أنفسهم، وسبب لعنة أنفسهم، وهم يظنون أنهم بذلك سيتحايلون على الله، وهل مع الله حيلة جل جلاله وعز مقامه؟ وكثير من الناس يتحايلون في شرب الخمر وارتكاب الربا ونشر الفساد وأكل المال بالحيلة وبالحرام، ومنهم من يسأل في الحج عن الرخص فيقولون: هل من الضروري أن نأتي منى؟ وهل من الضروري أن نأتي محرمين؟ ألا يكفي أن نحرم من جدة؟ ولماذا لا يكفي أن نحرم من مكة؟ أليس يكفي الوقوف في عرفات؟ ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة)؟ وهكذا فإنهم يريدون أن يقلصوا الحج ركناً بعد ركن، وواجباً بعد واجب.
وقد سمعت هذا في مجلس من عسكري في منصب كبير يريد أن يتكلم كلام العلماء فيقول: يجب أن يكتفي المسلمون بالوقوف في عرفة وذلك أيسر، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة)؟ والمجلس مليء بأهل العلم الفاهمين المدركين، ولكن كما قال تعالى: {لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] ولو سكت من لا يعلم لقل الخلاف ولزالت الفتنة، ولكنه أكثر من يتكلم اليوم بالباطل وبالجهل وبما يتضاحك به عليه لجهله، ولجهله أنه يجهل، وهو ما يسمى بالجهل المركب.(316/6)
تفسير قوله تعالى: (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون)
قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]، أم يظن هؤلاء الجهلة الكفرة أننا لا نسمع سرهم ولا نجواهم؟ يقال: أن ساخرين من أهل مكة أخذا يطوفان بالكعبة ويقولان كلاماً كفرياً، فقال أحدهما للآخر: ترى أيسمع الله قولنا؟ فقال الآخر: إن نحن أضمرناه سراً لا يسمع، وإن رفعنا به صوتنا سمعنا، فقال الأول: إن كان يسمع السر فهو يسمع العلن، فإذاً لا مفر.
فالله قال لهما من باب المناظرة وقال للجهلة الذين لا يدركون: ((أَمْ يَحْسَبُونَ)) أي: أم يظنون، ((أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ)) عندما يسرون قولهم الكفري، {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] أي: ليس هو السماع فقط، بل هناك التسجيل والتدوين، فرسلنا الملائكة -ملائكة الله- من على اليمين وعلى الشمال عزين، فالذي على اليمين يكتب الخير والذي على الشمال يكتب الشر من القول والفعل والعمل، ولكن رحمة الله بعباده المؤمنين أن السيئة لا يكتبها إلا إذا فعلت، وإذا لم تفعل تكتب حسنة، والحسنة إذا نويت ولم تفعل كتبت حسنة، وإذا فعلت كتبت عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله، حسب مقام تلك الحسنة من نشرها، ومن عموم نفعها، ومن إخلاصها، ومن كبرها وعظمتها، وما إلى ذلك.
فالله يسمع السر والجهر، ولا يخفى على الله شيء مما تتحدث به الأنفس، فالملائكة الكتبة يكتبون ويسجلون الأقوال والأعمال، ويؤتى بذلك يوم القيامة، فالمؤمن كتابه بيمينه، والكافر كتابه بيساره، فيحاول الكافر أن ينكر، وإذا بجوارحه تشهد عليه، فيشهد عليه سمعه، وبصره، وجلده بما كان يعمل في دار الدنيا.
فالله الذي ينطق اللسان فيتكلم هو القادر على أن ينطق الأخرس والحيوان والطفل الصغير والجوارح وغيرها.
وفي عصرنا قد أنطق الله الجمادات بدون لسان كالراديو والتلفزيون وغيرهما، حتى إن الإنسان البدوي ليظن أن الراديو أو التلفزيون إنساناً بروحه وجسده، فالذي أنطق الخشبة والجمادات ونحن نراها هو الله، وصدق من كتب كتاباً وسماه: العلم يدعو للإيمان، فالذي كان ينكر المعجزات قديماً صار يراها في عصرنا، مع أنها لا يمكن أن تسمى معجزات؛ لأنه لا نبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، والذي يفعلها ليس مؤمناً ولا يؤمن بمعجزة ولا غيرها، ولكن المعجزات أشياء أنذر بها القرآن، وتحدث عنها رسول الله عليه الصلاة والسلام فكانت كما أخبر ربنا وكما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم.(316/7)
تفسير سورة الزخرف [81 - 89]
إن مشركي العرب لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم برسالة التوحيد وإفراد الله بالعبادة جادلوه وماروه في ذلك جدالاً طويلاً حتى أثبتوا لله الولد من الملائكة وغيرهم، فأمر الله نبيه أن يقول لهم متحدياً أن لو كان لله ولد فإنه سيكون أول من يعبده، ولكن هيهات أن يكون له ولد، فهو سبحانه خالق السماوات والأرض ومالك كل شيء سبحانه وتعالى، لا يحتاج إلى شريك ولا إلى صاحبة أو ولد.(317/1)
تفسير قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)
قال الله ربنا جل جلاله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] يقول الله جل جلاله لعبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الوثنيين الذين نسبوا لله ولداً، إن كان هذا حقيقة، فأنا مأمور بأن أكون لهذا الولد مع أبيه أول العابدين، ومعنى ذلك: أن هذا شرط، والشرط لا يلزم منه الوقوع، ولا يلزم منه الجواز، وهو من باب المناظرة، وتعجيز من يزعم ذلك ويدعيه.
والمعنى: ليس لله ولد، ولو كان له ولد لكان إلهاً، ولو كان إلهاً لجاءت الرسل والأنبياء بالأمر بعبادته، ولن يكون ذلك؛ لأنه لا وجود لغير الله الواحد، لا ولد له ولا صاحبة ولا شريك له، لا في ذات ولا في صفات ولا في أفعال، وهذا كقوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4]، أي: لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاختار من عبيده ولانتقى منهم ما يشاء، ولكن الله لم يشأ، ولن يكون ذلك، ولن يكون الولد إلها، ولن يكون المخلوق ربا، فالرب واحد لا يليق به ولد، ولا يليق به صاحبة، وإن هي إلا أكاذيب وأضاليل اخترعتها عقول المشركين والفجار وغير الموحدين من الناس.
فهي أكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا من باب الشرط، والشرط لا يلزم منه الوقوع، بل ولا يلزم منه الجواز، ولو أراد الله لاتخذ ولداً، ولو اتخذه لاختاره من خلقه، ولكن الله سبحانه هو الله الواحد القهار، لا يليق به شيء من صفات المخلوقين؛ ولذلك فإن الله نزه نفسه وسبحها وعظمها وعلمنا أن نقول ذلك فقال: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف:82] فالله سبحانه يعظم نفسه وينزهها، ويبرئها من المعائب والنقائص التي لا تليق به، فهو رب السماوات والأرض ورب العرش، فهو الواحد الأحد تعالى ربنا وتنزه وتعظم وتقدس عما يصفه به المشركون الوثنيون الكاذبون، بل الله واحد لا ثاني له، ولا شريك له، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.(317/2)
تفسير قوله تعالى: (سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون)
قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف:81 - 82] ربنا جل جلاله هو رب السماء والأرض، هو واحد في ذاته لا ولد معه ولا صاحبة ولا جن، تعالى الله عما كذب الكذابون من أن الملائكة بنات الله، ومن نسبة أنفسهم أنهم أولاد الله، ومن نسبة عزير وعيسى إلى الله، فكل ذلك افتراء واختراع اخترعته نفوسهم الكاذبة بغير مرجع إلى دليل من عقل أو نقل، والله نزه نفسه وعظمها، وعلمنا بأن نعظمه ونسبحه وننزهه عن كل ما لا يليق بجلاله وبمقامه.(317/3)
تفسير قوله تعالى: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون)
قال تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83].
فقوله: ((فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا)) أي: ذرهم يخوضوا في اللعب والكذب والباطل.
وقوله: ((وَيَلْعَبُوا)) أي: دعهم يلعبون بأنفسهم وبدينهم وبعقائدهم، فإن أمامهم يوماً هم ملاقوه لا محالة، هو اليوم الموعود هو اليوم الآخر هو يوم القيامة، يوم تحاسب كل نفس عما قدمت، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
وهذا تهديد ووعيد من الله جل جلاله لهؤلاء المصرين على الكفر والشرك والوثنية، الذين لم تفدهم كتب سماوية ولا رسل ولا سيد الرسل وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، بل ما زادتهم الكتب والرسالات إلا إصراراً على الباطل، وتصميماً على الشرك، وما داموا كذلك فذرهم ودعهم لخوضهم وللعبهم ولباطلهم.
وقوله: ((فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)) واليوم الذي وعدوه هو يوم البعث، وهو يوم القيامة حيث يحاسبون إما إلى جنة وإما إلى نار.(317/4)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم)
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84].
أي: هو الله إله في السماء معبود، وإله في الأرض معبود، لا ثاني له لا في أرض ولا في سماء، فهو الإله الخالق الرازق المعبود في السماء والأرض، ليس هناك من إله ولا رب سواه كما زعم المبطلون والمشركون، بل هو رب السماوات ورب الأرض وما بينهما من أفلاك ومن خلق مما لا يعده ولا يحصيه إلا الله من هذه المجرات التي نراها فوقنا وهي أكبر من الأرض بمرات، والقليل منها أصغر من الأرض، أو قريب منها كالقمر مثلاً، فهي بملايين لا يحصي عددها إلا الله، والذي تدل عليه النصوص أن في هذه الأفلاك والمجرات خلقاً من خلق الله لا يعلم شكلهم ونوعهم إلا الله، وكلهم أمروا بطاعة الله ووحدانيته؛ ولذلك فإن الله يقول عن ذاته العلية: هو إله من في السماء وإله من في الأرض، وهو الرب المعبود لما بين السماوات والأرض.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84] أي: الحكيم فيما يخلق، والذي يضع الأمور مواضعها بما يصلح العباد في دنياهم وأخراهم، فيما لا يدركون له كنهاً، فالبعض لا يصلحه إلا الفقر، والبعض لا يصلحه إلا الغنى، والبعض لا يصلحه إلا طول العمر، والبعض لا يصلحه إلا قصر العمر، وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأفسدهم، وإن لله عباداً لا يصلحهم إلا الغنى، ولو أفقرهم لأفسدهم).
وكما يقال: لو كشف لنا الغطاء لوجدنا أن ما صنعه الله بنا وصنعه بخلقه هو عين الحكمة وعين الصواب، فهو عليم بخلقه، والعليم بما يصلح هؤلاء الخلق في معاشهم وفي معادهم، وفي أرزاقهم، وفي بيئتهم، وفي مجتمعاتهم.(317/5)
تفسير قوله تعالى: (وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما)
قال تعالى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزخرف:85] تبارك: تقدس وتنزه وتعظم عن كل نقص وعيب لا يليق به جل جلاله، فالنقص والعيب لا يليقان إلا بالخلق من جن وإنس.
والله سبحانه وتعالى رب السماوات والأرض ومدبرهما وخالقهما وما فيهما، وخالق ما بين السماوات والأرض من الأفلاك والمجرات والخلق الذين لا يعلم حقيقتهم وأنواعهم إلا الله لا إله إلا هو.
وقوله: ((وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)) أي: علم تحديد وقت الآخرة باليوم والساعة والسنة، وقد انفرد ربنا بعلم ذلك واستأثر به ولم يعلم به لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، قال تعالى: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:187]، وعندما سأل جبريل عليه السلام سيد الأنبياء والرسل نبينا عليه الصلاة والسلام فقال: (متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟) أي: علمك كعلمي فيها، فكما أنك لا تعلم تحديداً لوقتها فكذلك أنا لا أعلم ذلك، ولذلك انتقل من السؤال عن الوقت وعن تحديد الساعة إلى السؤال عن الأمارات والعلامات (قال: فأخبرني عن أمارتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها) إلى آخر الحديث.
وقوله: ((وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)) أي: أن الله انفرد بعلمها وبوقتها وبزمانها، لا يجليها لوقتها إلا هو، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر.
وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزخرف:85] أي: أن كل الخلق؛ ملائكة وجناً وإنساً من آمن من الجن والإنس ومن أشرك، وقليل منهم آمن، قال تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14]، فالخلق إليه جميعاً مرجعهم، ولا بد من يوم القيامة، وسترجعون إلى الله على الحالة التي متم عليها، وستعرضون على الحساب وعلى القضاء فإما إلى جنة وإما إلى نار، فمن فاز بالتوحيد ومات عليه فهو من أهل الجنة، ولو دخل النار فإنه سيمحص زمناً وتكون النتيجة الدخول للجنة، وأما من مات على الشرك فقد حرم الله الجنة والمغفرة على الكافرين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48].
وسيرجع الخلق إلى الله جل جلاله حفاة عراة غرلاً، وكل إنسان يقول: نفسي نفسي، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] ولا يبقى أحد يستنجد بأحد لا بوالد ولا بوليد ولا بحمي ولا بصديق ولا بعدو، بل الأنبياء عندما تذهب إليهم الأمم والشعوب يستشفعون ويستغيثون بهم، فإنهم يقولون: نفسي نفسي، ولا يشفع للخلق إلا إمام الأنبياء نبينا صلى الله عليه وسلم فهو وحده الذي لا يقول: نفسي، بل يقول: (أنا لها أنا لها) فيسجد تحت العرش ويدعو ربه بمحامد يلهمها إذ ذاك، فيبقى زمناً وهو يضرع لربه ويشفع لربه إلى أن يقول له: (ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع) وأما بقية الأنبياء والرسل فالكل لا يهتم إلا بنفسه، فكيف بغيرهم؟!(317/6)
تفسير قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة)
قال تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] هؤلاء الذين يعبدون من دون الله من جماد أو حيوان أو ملك أو جن أو إنس لا شفاعة لهم، بل المشركون وما يعبدون حصب جهنم هم لها واردون، ولكن من شهد بالحق وهم يعلمون فإن لهم الشهادة، وهذه الفقرة من الآية تعم وتخص، فمما يعبد المشركون الصالحين، والملائكة، وعيسى، ومريم، وعزيراً، وهؤلاء يشهدون بالحق، ويشهدون بشهادة التوحيد لا إله إلا الله، وهم يعلمون ذلك على بصيرة، فشهادتهم شهادة حق، وشهادة علم، فهؤلاء أذن الله لهم بالشهادة ومن دونهم ليسوا كذلك.
وأخذ فقهاؤنا من هذه الآية أنه لا تقبل الشهادة إلا بعلم، فلا تقبل شهادة السماع، فلا بد أن يكون الإنسان قد شهد بالحق وهو يعلم ذلك الحق واطلع عليه وعاش في واقعه وعلم به، وليس كمن يقول: سمعت أو بلغني أو رويت، ولذلك الشهادة على ما تستباح به الأعراض والدماء والأموال لا تكون إلا من مزكيين، ولا تكون الشهادة شهادة بحق إلا مع علمهم بذلك الحق علماً شخصياً لا شهادة سماع.
قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87] هؤلاء الذين جعلوا مع الله شريكاً؛ ولداً، أو بنتاً، أو صاحبة، أو أبناءً، أو شركاء، سلهم: من خلقهم؟ فسيجيبونك: خلقنا الله، وقد فعل صلى الله عليه وسلم فسأل من عاصره عمن خلقهم، فقالوا: الله، قال الله عنهم: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87] فكيف مع علمهم بأن الله خالقهم ومولاهم ومدبرهم يصرفون ويدفعون عن الحق، فيعبدون مع الله غيره وهو لم يخلقهم ولم يدبر لهم ولم يرزقوهم ولم يكن له عليهم ولاية لا بخير ولا بشر.
فليس هذا شأن العقلاء، ومن هنا نرى أن الجاهلية العربية أشرف -على وثنيتها- وأكرم -على جهلها- من كفر المذاهب الهدامة الباطلة التي تنكر الخلق والخالق، والتدبير والمدبر، والرزق والرازق وتقول: إن هو إلا الدهر؛ لأن أصحاب هذه المذاهب يعيشون كما تعيش الحيوانات، لا يفكرون في آخرة، ولا يفكرون في أنفسهم، بل يزعمون أنهم يعيشون ويموتون وأنه لا يهلكهم إلا الدهر ولا شيء آخر، فأصحاب الجاهلية الأولى على شركهم يؤمنون بالله ولكنهم لم يحسنوا هذا الإيمان وخلطوا معه شركاً، أما هؤلاء فنزعت عقولهم بالمرة، وأنكروا ما هو حال وقائم بخلقهم وبفعلهم وبرزقهم: ففي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فالإنسان يعرف وجود الله جل جلاله في خلقه الليل والنهار، والفصول الأربعة، وموت الناس وإحيائهم، ورزقهم وغير ذلك، والإنسان يتساءل بفطرته: من خلقني وخلق الكون؟ ومن رزقني وأنشأني وأصحني وأمرضني وأحياني وأماتني؟ فيستشعر لأول وهلة وتقول حواسه وجوارحه أنه هو الله، بل حتى الحيوانات والجن، وكذلك الكافر بحواسه وإن أنكره جنانه ولسانه، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87] يقولون ذلك متأكدين، ويقسمون عليه بلام جواب القسم، ويؤكدونه بالنون المثقلة، بأن خالقنا هو الله.
وقوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87] يقول ربنا عنهم: إن كانوا كذلك، وقد علموا الحق وأعلنوه واعترفوا به، فكيف صرفوا عنه، وعبدوا مع الواحد اثنين، وعبدوا مع الخالق خلقاً؟ فهذا منتهى سخافات وضياع العقول.(317/7)
تفسير قوله تعالى: (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون)
قال تعالى: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88]، هذه الآية شكوى محمد صلى الله عليه وسلم، وكما قال في آية أخرى حكاها الله عنه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30] فقد شكاهم إلى الله بأنهم هجروا القرآن، وهجروا تلاوته، وهجروا العمل به، وهجروا تحكيمه، وإن كانوا قد هجروا القرآن أيام نزوله فما بالك بعصرنا؟ ففي العالم الإسلامي هجر لغة، وهجر إدارة، وهجر دين، وهجر حكم للحلال والحرام، فأصبح حفظ المصحف للبركة إلا من رحم ربك.
فقوله: ((وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ)) قال هذا نبينا صلى الله عليه وسلم، ورفع شكواه لربه بعد أن دعا قومه إلى قول لا إله إلا الله، وترك الأوثان والأصنام، فصبر على ذلك في مكة ثلاثة عشر عاماً وما زادهم ذلك إلا خسراناً مبيناً، فشتموه وقالوا عنه ما قالوا، ورموه بما لا يليق، وتآمروا على قتله أو إخراجه أو سجنه، ورموه بالحجارة، وبسلى جزور الإبل، ومع ذلك كان يدعوهم بلا ملل ولا كلل في الليل والنهار، وهم على هذه الحالة، وقد كان ذلك قبل أن يشرع الجهاد، ومضت سنين وما آمن به إلا أربعون من قومه، فشكا وتضرع إلى الله خالقه، وقال: {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88]، أي: إن هؤلاء الأقوام والعشائر لا يؤمنون، فقد أصروا على الكفر والشرك والعناد.(317/8)
تفسير قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون)
قال الله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89] وكان هذا قبل تشريع الجهاد.
هذه الآية فيها تهديد ووعيد وإنذار قاس شديد؛ لأنه جاء بعد قوله: (فاصفح عنهم) أي: فأعرض عنهم، ودعهم وسالمهم، ولا تفعل فعلهم، ولا تقل قولهم، ولا تقاربهم في سفههم، وأعرض عن الجاهلين، وانتظر فإن العاقبة لك كما كانت للأنبياء قبلك.
ولا تقابلهم لا شتماً بشتم، ولا هجواً بهجو، ولا هجوماً بهجوم، فقد كانوا يعذبون ضعاف القوم إلى حد القتل، حتى أخرجوا نبينا وأصحابه عن مكة كلها، فهاجروا إلى المدينة المنورة، وكانت يثرب، فغير الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الاسم، فطابت بطيب محمد صلى الله عليه وسلم، وتنورت بنوره، وتشرفت بمقامه فيها حياً وميتاً.
وقوله تعالى: ((فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)) أي: فقد علموا ذلك، فقد نزل قوله تعالى في الآية المدينة التي نزلت في المدينة وهي قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39 - 40] أي: شردوا من وطنهم وقوتلوا لأنهم قالوا كلمة الحق، وهي: لا إله إلا الله، فشرع القتال دفاعاً عن الأوطان ورفعاً للظلم، ودفاعاً عن العقيدة، وما شرع القتال يوم شرع إلا جواباً على الظلمة والجبابرة والعتاة من المواطنين وغير المواطنين.
والعهد المكي لم يكن فيه أمر بالقتال، ولم يكن إلا الأمر بالصبر، وكان يمر عليه الصلاة والسلام على الأسرة من أصحابه نساء ورجالاً وشباباً وهم يعذبون بالنار والضرب بالحديد حتى تسال الدماء، ولا يملك لهم شيئاً إذ ذاك فيقول: (صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة)، فاستشهدت أم عمار زوجة ياسر في سبيل الله فقد ضربها أبو جهل بحربة في قلبها، وهي تعلن كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وكان يصر عليها أن تشرك بالله وتكفر بمحمد وهي تأبى إلا عقيدة لا إله إلا الله وموالاة الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله.
فالله يأمر محمداً ألا يعاقبهم، بل يسالمهم ولا يقاربهم بالقول أو بالفعل، فإنهم سيرون عاقبة ظلمهم وشركهم، وقد كان الأمر كذلك، فما كاد يطأ بقدمه الشريفة عليه الصلاة والسلام المدينة إلا ووجد الإيمان قد سبقه إليها، وما من درب من دروبها ولا حي من أحيائها ولا سوق من أسواقها إلا وفيه رجل أو امرأة أو أسرة كاملة تقول: لا إله إلا الله، وعندما جاءها مهاجراً انتظروه اليوم بعد اليوم، حتى أقبل من بعيد، فرحبوا به مهللين، زاجلين، ناشدين الشعر وهم يقولون: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع حتى ضربت الدفوف على رأسه، فقد جاءت أمة سوداء وقالت: (يا رسول الله! لقد نذرت إن أوصلك الله إلينا سالماً أن أضرب الدف عند رأسك، قال لها: إن نذرت فافعلي وإلا فلا) وهكذا بعد أن أصبح للإسلام موطئ قدم، وأصبحت له عاصمة، ذل فيها الكفر وعز الإيمان، وتتابعت الحروب وحاول قومه محاربته في غزوة بدر وأحد، واليهود يحاربونه من الداخل والمشركون من الخارج.
فغزوة بدر كانت الفرقان وكانت الفاصلة وكانت العز، إلى أن جاء بعد ذلك فتح مكة الذي أذل الله فيه الكفر وأعز الإسلام، ومنذ ذلك اليوم والإسلام عزيز.
فالمسلمون إذا استمسكوا بدين الله وبكتاب الله وبقيادة محمد نبيهم عليه الصلاة والسلام يعزهم الله ويملكهم العالم، وعندما يتبعون كل ناعق من يهودي أو نصراني أو منافق، ينزل الله عليهم العذاب والمحنة، وقد كان هذا في عقود مختلفة، وعندما يعودون ويئوبون إلى الله بالتوبة يتوب الله عليهم وينصرهم كما نصر الصحابة ففتحوا العوالم.
ثم لما عاد المسلمون إلى معصية الله ورسوله سلط الله عليهم الصليبيين في حروبهم الصليبية، فاحتلوا فلسطين والمسجد الأقصى، ثم لما تابوا وأنابوا أعز الله الإسلام، ثم فتحت القسطنطينية فأصبحت تسمى إسلام بول -أي: دار الإسلام- وهي دار الإسلام إلى اليوم.
ثم عاد المسلمون للكفر وللمعصية فسلط الله عليهم التتار فاستباحوا الأعراض والدماء والأموال، فجعلوا من البلاد عاليها سافلها، ثم تابوا وأنابوا فعاد الله عليهم بتوبته وبمغفرته، ثم عادوا فقصروا فسلط الله عليهم الاستعمار الأوروبي، فما كاد يترك رقعة من أرض المسلمين إلا واحتلها، وفرض أوامره وكفره فهو الحاكم والمسير، ثم عادوا بعدما أكرمهم الله بالاستقلال وعودة الديار إلى الإسلام فحكمها مرتدوها وكفرتها، فسلط الله عليهم أذل وأحقر خلقه اليهود الذين لعنوا إلى يوم القيامة، ومهما صنعوا أو فعلوا أو حاولوا شيئاً إلا زاده الله عليهم ذلاً، فإذا عدنا إلى الله عودة صادقة فإن الله سيهلك اليهود، ويعود المسلمون لعزهم ونصرهم، والله فاعل لا محالة جل جلاله، وكما يقول ربنا: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167].
وهكذا نكون قد ختمنا سورة الزخرف.(317/9)
تفسير سورة الدخان [1 - 7]
القرآن العظيم كتاب الله الكريم أنزله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فكان رحمة من عند الله للعالمين، وكان نزوله في ليلة مباركة وشهر مبارك، وهي ليلة القدر في شهر رمضان.(318/1)
ذكر نسبة سورة الدخان وما روي في فضلها
سورة الدخان سورة مكية فيها تسع وخمسون آية، وهذه السورة ورد فيها حديثان ضعيفان رواهما الترمذي وطعن في سندهما؛ لضعف بعض رواتهما: الأول: عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ {حم} [الدخان:1] في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك).
والثاني: كذلك عند الترمذي: (من قرأ {حم} [الدخان:1] في ليلة الجمعة غفر له).
وتلاوة القرآن في جميع الليالي وفي جميع الأيام ليس فيها إلا الخير والأجر والفضل، وعلى كل حرف عشر حسنات، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (لا أقول (ألم) حرف، بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) أي: من يقرأ هذا الحرف المقطع يكون له ثلاثون حسنة.(318/2)
تفسير قوله تعالى: (حم)
قال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:1 - 3].
قوله تعالى: {حم} [الدخان:1] هو من الحروف المقطعة، وفيها أقاويل وآراء من الصحابة ثم التابعين، فبعضهم قال: هي من أسماء الله الحسنى.
والبعض قال: (حم) أي: حم القضاء ونزل أمر الله.
ومنهم من قال: هي رموز لمعان، ومنهم من قال: ذلك للدلالة على أن القرآن المعجز مكون من الحروف الأبجدية العربية، فالقرآن هو الكتاب المعجز الذي عجز البشر عن أن يأتوا بمثله وتحداهم الله فقال: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، وهذا التعجيز كان منذ (1400) عام، وهذا من معجزات القرآن، فلم يأت أحد بليغ ولا فصيح بما يشبه فصاحة القرآن وبلاغته من قريب أو بعيد وقد قال بعض الناس: ما وجه الإعجاز ما دامت حروف الهجاء العربية قد أخذ منها هذا القرآن وهو بلسان عربي مبين، فما يمنعني أن أقول مثله؟! قال هذا المعري الشاعر الشامي، فأتى بالغث من القول وما يضحك الثكلى.
وهناك مجنون أرعن ادعى النبوة وكتب للنبي صلى الله عليه وآله في حياته: من مسيلمة نبي الله إلى محمد نبي الله، فكتب له صلى الله عليه وسلم (من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب)، ومنذ ذاك صار واسمه مسيلمة الكذاب، فكان يأتي بالغث من القول ويقول: أوحي إلي به.
وجاءه مرة عمرو بن العاص وهو لا يزال على كفره من مكة، فقال: إيهٍ يا مسيلمة، ما الذي نزل عليك من الوحي؟ قال: نزل علي اليوم أن لي نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم لا يعدلون! فقال له عمرو وهو لا يزال على شركه: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب.
فلم يصدقه، فأسرع به ذلك إلى الإيمان برسول الله عندما سمع القرآن وفصاحته وبلاغته وإعجازه الذي حضر تلاوته فصحاء العرب وقد أوتوا الفصاحة دون خلق الله جميعهم، فلغتهم أبلغ اللغات وأفصح اللغات وأرفع اللغات وأجمل اللغات، فلما سمعوه قال الوليد بن المغيرة: ما نقول فيه؟ فقال بعضهم: نقول: شاعر، فقال: لقد علمت الشعر فما هو بالشعر، فقالوا: ما تقول فيه إذاً؟! قال: إن له لحلاوة، وإن عليه لطراوة، وإن أعلاه مثمر وأسفله مغدق.
فمن القرآن يقول: إن هذا هو الكلام الذي بلغ من الفصاحة ومن البلاغة ومن البيان ما لا يكاد يقف عنده عقل، وهذا الذي قيل لا يزال قائماً إلى الآن، فرسول الله عليه الصلاة والسلام أوتي جوامع الكلم، وهو سيد العرب فصاحة وبلاغة، ومع ذلك عندما نأتي إلى فصاحة رسول الله عليه الصلاة والسلام في حديثه وفي خطابته وفي محاوراته وفي مناظراته ونقيس قوله بقول الله، نجد الفرق كما بين السماء والأرض.
وقد رأينا في عصرنا من هو من أبلغ الخلق، ولا نظن أنه سبقه على مثل فصاحته منذ ألف سنة مثله، وأعني به مصطفى صادق الرافعي رحمه الله، فقد كان له من البلاغة والفصاحة في القول ما لا يكاد يستطيع أن يقول مثله الكثيرون ممن مضوا، وإلى عصرنا لم يأت مثله، ومع ذلك حين تقيس كلامه مع كلام الله تجد الفرق شاسعاً جداً.
وهناك علامة أخرى، وهي حين تأتي إلى خطبة فصيحة تقرؤها المرة الأولى، فتقول: ما أبلغها ما أفصحها، فإذا قرأتها ثانية نزل إعجابك قليلاً، فإذا كررتها مرات تملها وتطعن في فصاحتها وبلاغتها.
واقرأ القرآن صباحاً ومساء، في شبابك وفي كهولتك وفي شيخوختك، فإذا بك لا تمله حلاوة وبلاغة وفصاحة، فهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلق من كثرة الرد)، فلا يصبح كلاماً بالياً ممجوجاً لكثرة ما تقوله وتردده، بل عند كل ترديد تضيف معنى جديداً وتفهم مغزى آخر، فأنت في علوم ومعارف كلما تتلوه، ولكن بشرط أن تتلوه بوعي وبإدراك وبتدبر، لا أن تتلوه وأنت تحسب حسابك في بيتك وعملك وأوهامك في خيالك، ففي هذه الحالة قد تقرأ الجزء والجزأين وتنسى أين أنت، وإذا طرأ طارئ ووقفت عند الآية ثم أردت العودة إليها فإنك تنسى أين كنت.
يقول تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:1 - 2]، وكأنه يقول: القرآن مؤلف من هذه الحروف، فافعلوا إن شئتم مثله، فهي بأيديكم، وهيهات هيهات، قال بهذا المعنى الزمخشري، وأكده بعض المعاصرين وهو الشيخ الشنقيطي رحمه الله، أدركته منذ سنوات وأنا لا أزال في جامعة دمشق، وعندما وجدت الشنقيطي يؤكد هذا الرأي ويساند الزمخشري زدت ثقة بالفهم الذي فهمته.(318/3)
تفسير قوله تعالى: (والكتاب المبين)
يقول تعالى: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:2].
يقسم الله جل جلاله بالكتاب، أي: بالقرآن البين الواضح الذي لا اعوجاج فيه، ولا ركاكة فيه ولا غموض، وليس هو معقد المعاني، بل هو بين واضح لمن أفهمه الله لغة العرب ودرسها، وأما الجاهل فلا يمكن أن يؤمن به ولا بفهمه ولا بتلاوته، إنما العلم بالتعلم.
وقوله تعالى: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:2] قال علماؤنا: لا يجوز القسم إلا بالله أو بصفة من صفاته، فأنت تقول: والله، والرحمن، والعزيز، وكتاب الله، أي: كلام الله، وهي صفة من صفات الله جل وعلا، وليس ذلك يميناً بغير ما يتعلق بالله، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).
ولربنا أن يقسم بما يشاء وكيف شاء، وهذا في القرآن كثير، وما أقسم الله به يدل على رفعته وعلى مقامه عند الله.(318/4)
تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)
قال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:1 - 3].
قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) أي: أنزلنا الكتاب، فهذا الكتاب هو كلام الله، وهو قول الله، وهو الذي أنزله جل جلاله على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم بواسطة رسول الملائكة إلى البشر جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] يقسم الله بكتابه على أن القرآن الذي أنزله وأوحى به أنزله في ليلة مباركة.
والليلة المباركة قال عنها قوم: إنها ليلة النصف من شعبان، وانتصر لهذا القول تابعون، ووصفوا هذه الليلة بأنها فيها يفرق كل أمر حكيم من الأعمال ومن الأرزاق وكل ما يتعلق بالخلق، ورووا في ذلك أحاديث، منها أن ليلة النصف من شبعان تؤمر فيها الملائكة بكتابة الأعمار والأرزاق والأعمال للخلق مدة سنة.
ولكن تلك الأحاديث المروية يقول عنها ابن العربي المعافري الأندلسي - وهو إمام في الحديث وإمام في التفسير وإمام في الفقه - يقول: لم يصح في ليلة النصف من شبعان في صلاة ولا دعاء، ولم يرد شيءٌ في فضلها البتة، وكرر هذا أعلام جاءوا بعده، وأكد هذا ابن كثير، وقال: من قال ذلك فقد أبعد النجعة، أي: ابتعد عن الحق والصواب في هذا.
والأمر كذلك، فلم ينزل الله هذا الكتاب الكريم في ليلة النصف، ومن المعلوم أن من أصول التفسير أن تفسر الآية بالآية، فالله تعالى يقول: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] فالقرآن بنص الآية الكريمة أنزله الله في شهر رمضان، والنصف من شعبان لا صلة له برمضان.
وذكر الله ليلة القدر فقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، فكان نزول القرآن في رمضان وفي الليلة المباركة كما قال هنا، وهي ليلة القدر، أنزله الله جميعاً بأجزائه الثلاثين إلى سماء الدنيا، ثم أخذ جبريل ينزل به على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم منجماً، أي: مفرقاً حسب الوقائع وحسب النوازل وحسب المصالح لمدة ثلاث وعشرين سنة، فكانت أول آية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] وكان آخر آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
وأنزله الله كله قبل ذلك في شهر رمضان في العشر الأواخر في ليلة القدر، فذكر الشهر في آية، وزاد البيان بذكر نزول القرآن في ليلة القدر، وهي ليلة مباركة، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3]، وشهر رمضان كله مبارك، أعاده الله علينا بالخيرات والبركات والنصر المبين وذل اليهود وتحطيم النصارى والمنافقين، وأعاننا الله وإياكم على صيامه وقيامه وعبادته، وتقبل الله منا ومنكم ذلك، ورزقنا العون في كل ذلك.
فهو شهر مبارك وهي ليلة مباركة متضاعفة بركتها، وهي ليلة القدر التي قال الله عنها: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] فهي ببركتها ويمنها ونورها وعبادتها وإشراقها وما قاله عنها ربنا وما ذكره نبينا عليه الصلاة والسلام عنها مباركة كثيرة البركات.
قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:3]، أي: كنا في هذه الليلة قد أنذرنا الخلق وأوعدناهم وبلغناهم أنا أرسلنا إليهم رسولاً هو محمد العربي الهاشمي صلى الله عليه وسلم، جاء بشيراً للمؤمنين وجاء نذيراً للكافرين، يبشر هؤلاء بالجنة والرضوان وينذر أولئك باللعنة وجهنم.(318/5)
تفسير قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم)
قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:4 - 5].
هذه الليلة من خصائصها أنه يفرق فيها -أي: يوزع- كل أمر حكيم.
ففي هذه الليلة تكتب الأرزاق وتختم الأعمار وتختم الأعمال وتكلف الملائكة جند الله الذين {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فهذا للأرزاق، وهذا للموت، وهذا للمرض، وهذا للعمارة، وهذا للخراب، وهذا للصلاح، وهذا للفساد، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.
ولذلك كان قيام الليل في رمضان من أعظم العبادات، حيث يقوم الإنسان يتهجد ويدعو الله ساجداً وبعد كل ركعتين وعقب التهجد بأن الله تعالى يكرمنا بالعمل الصالح، ويكرمنا بالحلال الطيب، ويصلحنا وأولادنا، ويبعدنا عن الفتن الظاهرة والباطنة، وليخطر ببال هذا الداعي قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]، والأمر الحكيم أمر إلهي، وأمر الله كله حكيم، وهو الموضوع مواضعه.
قال تعالى: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان:5]، فالقرآن نزل بأمر من الله جل جلاله منه مباشرة.
{إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:5]، فأرسل الله تعالى عبده ونبيه وخاتم رسله بهذا القرآن الكريم بأمر من عنده، وجعله رسولاً نبياً، وجعله المبلغ عنه في جميع شعوب الأرض منذ عصره عليه السلام إلى آخر يوم من الدنيا، فكلهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن استجاب فهو من أمة الإجابة، ومن عصى فهو من أمة الدعوة، كالأولاد إن بروا فهم أولاد وإن عقوا فهم أولاد، وعقوقهم لا يخرجهم من البنوة ولا يطرحهم في الشوارع.
كما قص الله علينا قصة نوح عندما قال له تعالى عن ابنه: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] فلم ينف بنوته، ولم ينف نسبه، ولكنه قال عنه: عمل غير عمل الصالحين، وكان في نفسه غير صالح، فهو كله عمل غير صالح.
وقد ورد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام التشريع بأن من أتى زوجته يسمي الله على ذلك، فإن رزقه الله ولداً كان ولداً صالحاً، فإن لم يذكر الله شاركه الشيطان فيه، أي: كان من أعمال الشيطان، كما قال تعالى عن ولد نوح: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]، وفي قراءة: (إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ).
قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:3 - 4] أي: تفرق وتوزع الأعمار والأرزاق والأعمال {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:5] كان نزول هذا القرآن بأمر من الله لعبده ورسوله جبريل من الملائكة إلى عبده ورسوله من البشر نبينا عليه الصلاة والسلام.(318/6)
تفسير قوله تعالى: (رحمة من ربك إنه هو السميع العليم)
قال تعالى: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان:6].
أرسل الله بهذا الكتاب محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعباد، وهذا يؤيده قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] من الجن والإنس، حتى الكافر هو رحمة له، فلا يأخذه دون أن يترك له فرصة للعبادة، فلعله يوماً يتعظ ويقول: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، ولعله يخرج منه ولد صالح يقول: (لا إله إلا الله) فذلك من رحمة الله بالكافر، ومع كفره يرزقه الله ويصحه ويعطيه الولد ويرزقه الزوجة، كل ذلك من الرحمة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
وقال عليه الصلاة والسلام عن نفسه: (إنما أنا رحمة مهداة)، فلنشكر الله على هديته، ولندع الله تعالى أن نثبت على الإيمان بربنا والإيمان بنبينا صلى الله عليه وعلى آله.
قال تعالى: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان:6]، فكان نزول القرآن على قلب محمد عليه الصلاة والسلام رحمة من الله ورأفة بعباده وإكراماً لخلقه وإحساناً إليهم.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان:6] هذه صفة من صفات الله ونعوته الكريمة، وفي نفس الوقت هي إنذار وتهديد، أي: أن الله أنزل القرآن وأرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة، وهو السميع لإيمان المؤمن وكفر الكافر، وهو العليم بقوله، وهو العليم بعمله.
فيا سعد من قال كلمة التوحيد وآمن بها ومات عليها، ويا شقاء من أنكرها ومات على إنكارها، وهو تعالى العليم بحال عباده، وبمن آمن وأخلص في إيمانه، وبمن كفر وأصر على كفره!(318/7)
تفسير قوله تعالى: (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين)
قال تعالى: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان:7].
فهو رب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو رب السموات ورب الأرض، ورب ما بين السموات والأرض من أفلاك ومن مجرات ومن خلق، وهو أعلم بهم، فهو الرب الخالق الرب المدبر المحيي المميت الرازق، وهو رب جميع الخلق، ليس رب محمد فقط، ولا رب الأولين فقط، ولا رب الآخرين فقط ولكنه رب الأولين والآخرين ورب كل ما خلق.
قال تعالى: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الدخان:7] مما نرى ومما نعلم ومما نقرأ عنه ومما أخبرنا به القرآن وحدثنا عنه نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان:7] أي: يا هؤلاء الذين سمعوا هذا الكتاب وبلغهم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كنتم موقنين بهذا، وإن كنتم على يقين بالتوحيد، وعلى يقين بصدق هذا الكتاب وأنه منزل من الله، وعلى يقين بصدق المنزل إليه محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا رحمة لكم ورحمة بكم، وإن كنتم غير مؤمنين وغير موقنين فإن العذاب ينتظر كل من لم يكن كذلك، فهو قد أبى الرحمة ورفض الرحمة وابتعد عن الرحمة، فما أتعسه وما أشقاه، جاءه الخير فرفضه وداس عليه، فعليه لعنة الله جزاء عصيانه وتمرده.
ثم قال تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الدخان:8].
فهو ربنا ورب آبائنا ورب الخلق أجمعين، وهو إله في السماء وإله في الأرض، وهو الإله المعبود المستحق للعبادة من كل ما خلق من ملائكة وجن وإنس وحيوان، وهو رب آبائنا ورب أجدادنا ورب أولادنا {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الدخان:8] لا ثاني له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، هو المحيي المميت الذي أحيانا بعد عدم.(318/8)
تفسير سورة الدخان [8 - 16]
لما نزل القرآن على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كفر به كفار قريش وتحدوه وعاندوه، فأنذرهم الله أن يرتقبوا عذاب الله وعقوبته بالدخان والقحط الذي لا يقدرون على رده، وقد حدث ذلك لقريش حتى استجارت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الدخان قرب قيام الساعة عذاباً على الكافرين.(319/1)
تفسير قوله تعالى: (لا إله إلا هو يحيي ويميت)
قال الله جل جلاله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان:8 - 9].
قوله جل جلاله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الدخان:8] جاء جواباً لشركهم وكفرهم، فهم مع اعترافهم بأن الله خالقهم وبأن الله ربهم ورازقهم اتخذوا معه شريكاً من ولد وصنم ووثن مما لم ينزل به سلطان ولم يأت به دليل من عقل أو نقل فيقول الله تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الدخان:8] فلا إله في الكون معبود بحق إلا الله الواحد الذي لا ثاني له في صفاته ولا أسمائه ولا أفعاله، فهو الذي يحيي ويميت، وكل ما عداه أباطيل وأضاليل وأكاذيب، فالذين عبدوا من دونه لن ينفعوا أنفسهم أو يضروها، فضلاً عن أن ينفعوا غيرهم أو يضروه.
قال تعالى: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الدخان:8].
فهو الله الواحد الذي هو رب الأولين من الآباء والأجداد ورب الآخرين من الأحفاد والأسباط، وهو رب الكل وخالق الكل، لا ثاني معه، وكل من يدعي سوى ذلك فقد ادعى الشرك والباطل، ولن يأتي على ذلك بسلطان بين.
قال تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان:9].
أي: بل هؤلاء الذين يشركون مع الله غيره يلعبون بأنفسهم ويلعبون بحياتهم لعب الأطفال؛ حيث لم يأتوا بما يفيدهم أو يصلحهم أو يكون حقاً أو يتفق مع أدلة العقل وأدلة الكتاب، فما أقوالهم إلا أكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان.(319/2)
تفسير قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي الساعة بدخان مبين)(319/3)
تفسير الدخان بما نزل بكفار قريش
قال تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:10 - 12].
الارتقاب: الانتظار، أي: انتظر - يا رسولنا - يوم تأتي السماء بدخان يغشى الناس ويغمرهم ويغطيهم، فلا يكاد أحد يرى أحداً؛ لكثرة هذا الدخان وغشيانه الناس والخلق، فيملأ ما بين السماء والأرض، إذا أخرج الرجل يده لم يكد يراها، فيقول هؤلاء الناس: هذا عذاب مؤلم، وهذا هو العذاب المخزي، وهذا هو العذاب الذي لا يحتمل ولا يقاوم.
وقد ذهب ابن مسعود، - وروي عن ابن عباس - إلى أن هذا الدخان قد كان نزل بقريش عندما دعا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام بأن يصيبهم الله بسنين كسني يوسف، أي: يبتليهم بسنوات من الجوع والقحط، وسنوات من المرض والشقاء، فاستجاب الله دعاءه، فمرض هؤلاء وجاعوا وابتأسوا وعجزوا عن إصلاح أنفسهم، فأخذوا يستغيثون ويستجيرون، واشتد بهم البلاء والجوع حتى كانوا يرون الفضاء دخاناً نتيجة جوعهم ومرضهم وبؤسهم، حتى جاء كبيرهم أبو سفيان بن حرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! جئت بصلة الرحم، وهأنت ذا تدعو على قومك، فادع الله لهم أن يرفع عنهم ما هم فيه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه فزالت سنوات القحط والجوع والبؤس وعاد عليهم الخير العميم والأرزاق الدارة.
قال تعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12] فطلبوا من الله أن يكشف عنهم عذاب الدخان، وعذاب الجوع وعذاب القحط، فدعا لهم رسول الله بزوال ذلك وزعموا أنهم سيؤمنون فقالوا: {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12]، ولكنهم وعدوا بذلك ولم ينجزوه، ولم يصدقوا فيه، وقالوا: إنا عائدون، وكانت العودة إلى الكفر والشرك ولم تكن إلى الإيمان، وإنما كان الإيمان قولاً.
فهذا قول ابن مسعود في تفسير الآية.(319/4)
تفسير الدخان بكونه علامة للساعة
وتفسير علي وتفسير ابن عباس وتفسير حذيفة بن أسيد الغفاري وحذيفة بن اليمان كاتم أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ذلك، حيث قالوا: الدخان سيكون علامة من علامات الساعة؛ لقول الله: {يَغْشَى النَّاسَ} [الدخان:11] وليس قريشاً وحدها، فيسلطه الله على الخلق كلهم ويغشى الناس كلهم.
ولقوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ) ودخان قريش هذا إنما كان تخيلات نتيجة الجوع والقحط، وليس هو دخاناً في الواقع، كشأن من يجوع وشأن من يكاد يغمى عليه، فيظهر له أن الجو أصبح دخاناً، والأمر ليس كذلك، وإنما هي خيالات وأوهام صادرة من نفس ذلك الجائع والبائس والممتحن، وإلا فالسماء ليس فيها دخان.
أما أن الدخان سيكون في آخر الزمان علامة من علامات الساعة الكبرى؛ فذلك ما ثبتت به الأحاديث المتواترة المستفيضة عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقد روي (أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج من بيته فإذا به يرى قوماً يتذاكرون، فوقف عليهم فقال: فيم تتحاورون؟ فقالوا: في الساعة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: بينكم وبين الساعة عشر علامات: خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وخروج الدابة، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس تبيت معهم وتصبح معهم، ونزول الدخان من السماء يبقى أربعين يوماً وأربعين ليلة يغشى الناس يجدون له عذاباً أليماً، لا يشعر المؤمن منه إلا كما يشعر المزكوم بالزكام، والكافر والمنافق يأتيه هذا الدخان فيدخل خياشيمه وآذانه وفمه وعينيه ودبره وجميع منافذ بدنه فيلقى منه عذاباً أليماً).
وهذا الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يتفق مع ظاهر الآية: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ} [الدخان:10 - 11]، ليس قريشاً وحدها، ولكن يغشى الناس كلها في مشارق الأرض ومغاربها، ويكون عذاباً أليماً وعذاباً مهيناً، وأما الدخان الذي وصفه ابن مسعود فهو - في الحقيقة - ليس عذاباً؛ لأنه لا وجود له، وإنما هو متوهم، ولكن العذاب هو نتيجة جوعهم وبؤسهم ومرضهم، وليس نتيجة دخان ينزل من السماء.(319/5)
معنى قوله تعالى: (يغشى الناس هذا عذاب أليم)
قوله تعالى: {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:11].
أي: فيصيحون له ويتألمون ويقولون: هذا عذاب مؤلم موجع.
ثم يرفعون الأيدي ضارعين صارخين: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12]، فيضرعون إلى الله يرجون أن يرفع عنهم غضبه وعقابه ونقمته بأن يرفع هذا الدخان المؤلم الموجع.(319/6)
تفسير قوله تعالى: (أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين)
يقول ربنا تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} [الدخان:13].
كيف يتذكر هؤلاء؟! ومن أين ستأتيهم الفكرة والندم على ما فات منهم والعودة إلى الحق وإلى الإيمان الصحيح وقد جاءهم رسول الله والكتاب المنزل عليه، وكان رسولاً مبيناً صادق الرسالة صادق القول مصدقاً منذ تربى ونشأ في أهله، صادقاً في قوله: أنزل علي هذا الكتاب، نزل علي به الروح الأمين جبريل، فكيف يتذكرون وقد جاءهم هذا الرسول ومع ذلك لم يتفكروا، ولم يعودوا إلى لحق من أجله، بل كذبوه ولم يؤمنوا به ولم يؤمنوا بما جاء به.
قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:14].
أي: فمع بيان رسالته وصدق معجزاته وتصديق الكتاب المنزل عليه بأقواله وأعماله أعرضوا عنه وكفروا به، وأعرضوا عن الإيمان برسالته وبالكتاب المنزل عليه، وأبوا إلا الفسوق والشرك والعصيان، ثم تولوا، ولم يكتفوا بأن أعرضوا بعد مجيئه إليهم وبعد دعوته لهم وإظهاره لهم رسالته بما فيها من صدق وبما فيها من حق، بل زادوا فقالوا: {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:14].
قالوا: لم ينزل عليه وحي، وإنما علمه بشر ولقنه ذلك، وهو - مع ذلك - مجنون في دعواه النبوءة والرسالة وأنه انفرد بالوحي من الله دون هؤلاء الخلق، فازدادوا كفراً وازدادوا شركاً وازدادوا لعنة وازدادوا استحقاقاً للنقمة والعذاب المحيط الأليم.
فهؤلاء سيعاقبهم الله في الدنيا قبل الآخرة بنزع خيره ورحمته عنهم، وابتلائهم بهذه العلامات وهذا المعجزات وهذه الأمارات قبل قيام الساعة من الخسف وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى الذي سيقتل كل كافر، ولا يقبل يهوديةً ولا نصرانيةً ولا نفاقاً، وسيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويهدم البيع، ويخرب الكنائس، ويدعو إلى الله الواحد وإلى الإيمان بخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم.
ويبتليهم بالدابة تخرج من مكة المكرمة تجرح الناس وتضربهم في جباههم في وجناتهم، فيكتب على الوجوه: هذا كافر، هذا مؤمن، يقرأ ذلك من يقرأ ومن لا يقرأ، فهذه الدابة تكشف الباطن من ضمائر الناس وتظهر النفاق بكتابتها.
ثم تخرج من قعر عدن نار تسوق الناس سوقاً وهم يتسابقون في الإفلات من حريق هذه النار، وقلما يفلت منها كافر، وقلما يفلت منها منافق.
فهؤلاء الذين جاءهم النبي المبين البين الرسالة بالكتاب المنزل عليه البين في صدقه وفي أمانته وفي معجزاته، ومع ذلك أعرضوا عنه وتولوا عن رسالته وقالوا عنه ما قالوا من كفر وشرك وخروج عن الآداب البشرية كلها، هؤلاء إذا لم يؤمنوا فمصيرهم جهنم.
فما قالوه هو الكفر البين والعداء الواضح والإصرار على معاندة الله ومعاندة رسوله والعناد في وجه الحق.(319/7)
تفسير قوله تعالى: (إنا كاشفو العذاب قليلاً)
ثم قال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15].
هؤلاء دعوا الله من قبل فقالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12] أي: يسألونه أن يكشف عنهم عذاب الدخان الذي دخل في خياشيمهم وفي آذانهم وفي أعينهم، أي: اكشف عنا هذا، فنؤمن بك، ونؤمن برسالتك، ونؤمن بالكتاب الذي أنزلت على رسولك.
فاستجاب لهم، فقال لهم: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا} [الدخان:15] سنكشف عنكم هذا العذاب مدة قليلة؛ لنرى صدق قولكم من كذب ادعائكم.
والله هو بهم أعلم، ولكن لتكون الحجة البالغة لله عليهم، لذلك استجاب لدعائهم، وقد يستجيب الله لدعاء الكافر، ليكون ذلك زيادة في الحجية وزيادة في الانتقام والعذاب فيما إذا لم يف بالعهد وبالوعد.
فعندما طلبوا رفع العذاب أجاب الله ذلك فقال: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: سنكشف عنكم العذاب فترة من الزمن، ولكننا مع ذلك نعلم أنكم عائدون إلى الكفر، وراجعون إلى ما زعمتم أنكم تبتم منه، وعائدون إلى الكفر بالله والكفر برسوله والكفر بكتابه، ولكن بعد ذلك سيكون الانتقام الذي لا يبقي ولا يذر.(319/8)
تفسير قوله تعالى: (يوم نبطش البطشة الكبرى)
قال تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16].
يقول الله: سيكون العذاب وستكون النقمة يوم البطشة الكبرى، وما البطشة الكبرى إلا يوم القيامة في الآخرة بعد الحساب والعرض على الله، وهي دخول هؤلاء وأمثالهم إلى الجحيم معذبين خالدين فيها أبداً.
فقوله جل جلاله: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16] أي: إنا ننتقم منكم - لكذبكم وشرككم - يوم نبطش البطشة الكبرى، والبطشة الكبرى هي يوم القيامة، يوم العرض على الله، يوم الحساب العسير ودخول النيران.
وابن مسعود يرى أن البطشة الكبرى كانت يوم بدر، حيث بطش الله بهؤلاء الذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنين كسني يوسف، فعذبوا وأجيعوا وذلوا، ثم جاء بعد ذلك أبو سفيان يرجو رفع ذلك الغضب وذلك المقت عنهم، فرفعه الله فترة من الزمن، ولكنه قال: (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) فعادوا إلى الكفر، فبطش الله بهم يوم بدر بين قتيل وشريد وأسير ومصاب.
نقول: نعم كان يوم بدر بطشة، ولكنها ليست البطشة الكبرى، فالبطشة الكبرى في يوم القيامة، يوم يدخلون النار معذبين مهانين أذلاء أبد الآبدين، بعد تلك البطشات في الدنيا، من بطشة بدر إلى بطشة الأحزاب، إلى أخذ أموالهم وأسرهم عبيداً وإماء، إلى تشريدهم وطردهم، ثم بقوا على الكفر مصرين مقيمين.
وعندما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] اختبرهم الله آمراً بذلك رسوله حتى يُعلِم المؤمنين بأن الشرك نجس لا تطهره البحار كلها، فلا يدخل مكة مشرك.
وهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة عندما هاجر إليها فقال: (إن إبراهيم حرم مكة وأنا أحرم المدينة) فأصبحت مكة والمدينة الحرمين الشريفين اللذين لا يجوز فيهما كثير مما يجوز في غيرهما.
والحسنة في مكة بمائة ألف، والسيئة بمائة ألف، وفي المدينة الحسنة بألف والسيئة بألف، والغرم بالغنم، وهذا ما حمل الصحابيين الجليلين العالمين الكبيرين عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو على أن يسكنا الطائف، وكانا يترددان على مكة المكرمة، حيث رأيا أن السكنى بمكة صعبة على من يراعي الأدب فيها بلا ذنوب كبائر ولا صغائر، ومهما كانت الحسنات التي هي بمائة ألف فإن الذنوب التي لا يكاد يخلو منها إنسان قد تمحو الحسنات كلها، فرأيا من أجل ذلك أن يكونا في الطائف حتى إذا حصلت سيئة تكون بواحدة، وإذا جاء إلى مكة للصلاة وللتلاوة وللذكر وللمقام في بيت الله الحرام تكون الحسنة بمائة ألف، ويكون ذلك أربح لهم.
فإن قال هذا مثل هذين الصحابيين الجليلين الكبيرين فما عسانا أن نقول نحن وذنوبنا مستفيضة ومتكاثرة؟! غفر الله لنا ما علمنا وما لم نعلم، وجازانا بالحسنات بفضله وكرمه جل جلاله.
يقول تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16]، والنقمة العقاب والعذاب نتيجة المعصية والمخالفة والذنب، فكان ذلك انتقاماً وعقاباً وعذاباً لهؤلاء، لمخالفة أمر الله، وعصيان أوامر رسوله، والخروج عن كتاب الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.(319/9)
تفسير سورة الدخان [17 - 29]
يذكر الله تعالى في كتابه قصص بني إسرائيل، ومن ذلك قصة سيدنا موسى عليه السلام حين أرسل إلى فرعون وقومه، لكن فرعون ومن معه تكبروا عليه وسفهوه فدعا ربهم عليهم، فأمره الله أن يخرج بمن معه من بني إسرائيل، فخرج وراءهم فرعون وجنوده تاركين وراءهم ما أنعم الله عليهم من جنات وعيون، فحدثت العقوبة بإغراق المجرمين ونجاة موسى ومن معه.(320/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون)
قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان:17 - 18].
إن كفرة قريش عذبوا بالدخان في رأي ابن مسعود، وعذبوا بالتشريد وبالطرد وبالقتل وبالأسر، بعد أن عاهدوا على ألا يعودوا إلى الكفر إذا رفع عنهم العذاب، وقد رفع عنهم فترة بعد فترة وزمناً بعد زمن، ومع ذلك كانوا يعودون إلى الكفر، ولذلك ذكر الله أشباههم في الماضي.
والذي أشبههم في ذلك هو فرعون وقومه الذين أرسل الله إليهم النبيين الكريمين موسى وهارون، فأرسل عليهم الآيات من القمل والدم والضفادع والنقص في الأموال وفي الأنفس وفي الثمرات، وفي كل مرة كانوا يأتون إلى موسى ويقولون: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الزخرف:49].
يأتون إلى موسى وينادونه بالكلمة التي لا يليق أن تخاطب بها الأنبياء والرسل، ويطلبون منه الدعاء، ويعدونه إن رفع مقت الله عنهم وغضبه بأن يعودوا إلى الإيمان والتوحيد، فيرفع الله ذلك بدعوة موسى وهارون، ولكنهم لا يتوبون، فيعودون إلى الكفر والمعصية، ويعود الله عليهم بالعذاب.
ولذلك كان ذكر هذا بعد ذكر هؤلاء للتشابه في ذلك، وليكون هذا مثالاً وتبياناً للكفرة الذين يصرون على الكفر، حتى إذا خطر ببالهم ألا يوفوا بالعهد وألا يؤمنوا عوقبوا معاقبة فرعون وقومه وكفار قريش وجميع من فعل ذلك من العرب والعجم في الجزيرة وخارج الجزيرة.
فنحن نرى عندما نستعرض تاريخ العالم الإسلامي منذ أن ظهر الإسلام وبرز رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذه الديار المقدسة، أنه كان للمسلمين من العز ومن الخير ما علوا به، ثم بعد موت رسول الله عليه الصلاة والسلام أخذوا يغيرون ويبدلون، فقتلوا عمر، وقتلوا عثمان، وقتلوا علياً، ثم قتلوا الحسين ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال جسده رطباً حاراً في قبره، فلم يهابوه، بل ولم يهابوا خالقه جل جلاله، وإذا بالله يبتليهم فتقوم بينهم معارك مات فيها مئات الآلاف، ولو بقيت هذه الآلاف لفتحت العالم كله، ولما بقي على وجه الأرض نصراني ولا يهودي ولا منافق، ولكن الله يفعل الله ما يشاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23].
ثم تابوا فتاب الله عليهم، ومضت برهة فإذا بحروب تقوم نتيجة للخلافات من دولة أموية إلى دولة عباسية إلى تسلط المجوس الذين جاءوا في شكل المسلمين وهم منافقون، إلى الحروب الصليبية التي دامت أكثر من مائة عام في الأرض التي ابتلي فيها المسلمون، فدعوا الله فرفع مقته وغضبه عنهم، وعاد عليهم بالخير العميم وبالنصر المؤزر المبين.
وبعد ذلك عادوا لما نهوا عنه، فسلط عليهم التتر فمسحوا الأرض، واستباحوا دماء المسلمين، وخربوا المدن، ثم تابوا وأنابوا فقبل الله توبتهم وعادوا إلى العز والسلطان، فعادوا بعد ذلك إلى المعصية والخلاف، فسلط الله عليهم الاستعمار الأوربي، فشرد وأهلك ومزق.
فدعوا الله فرفع ذلك عنهم وتابوا وأنابوا، ثم عادوا لما نهوا عنه، فسلط الله عليهم أذل خلقه وألعن خلقه إخوة القردة والخنازير من اليهود عبدة الطاغوت والشيطان.
فالأمر لا يحتاج إلى قوة كثيرة، إن القوة لله جميعاً، وإنما يحتاج إلى العودة إلى الله، فبقليل من القوة ينصر الله المسلمين وينصر عباده الصالحين.
رفع الله ما بنا من مقت وغضب، وأعادنا إليه تائبين منيبين، وأذل أعداءنا وهزمهم وانتقم منهم.(320/2)
تفسير قوله تعالى: (أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين)
قال تعالى: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان:18].
فجاء فرعون وقومه رسول كريم على الله، كريم على الملائكة، كريم على إخوانه من الأنبياء، كريم على المؤمنين، وهذه الإشارات لموسى كليم الله عليه الصلاة والسلام.
فأرسل إليهم موسى يدعوهم إلى الله وإلى عبادته وإلى توحيده، وإلى الإيمان به وبأخيه هارون ليدلاهما على الله وعلى الطريق إلى الله، فقال موسى: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان:18] أي: سلموا لي وأعطوني ومكنوني من عباد الله بني إسرائيل الذين استعبدتم، فقتلتم الرجال واستحييتم النساء، واستعبدتموهم فيما لا يطاق، فما يفعله الواحد أو الواحدة لا تطيقه العصبة أولو القوة.
فجاء يدعوهم إلى (لا إله إلا الله) وإلى استخلاف قومه من بني إسرائيل وتحريرهم من الرق والعبودية والانتقال معه إلى خارج مصر، فجاء رسولاً لأداء وتكريم هؤلاء العباد المؤمنين من قبل.
قال تعالى: (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) جئتكم رسولاً من الله مبلغاً رسالته أميناً على هذه الرسالة، لا أغير فيها ولا أبدل، ولا يليق بي ذلك، والنبي معصوم عن الكبائر والصغائر، فهو كالملك يفعل ما يؤمر ولا يعصي الله فيما أمره، فالرسل معصومون عن الخطايا كبارها وصغارها.
فـ فرعون لطغيانه وظلمه وادعائه لألوهية كاذبة، جاءه موسى يدعوه إلى الله هو وقومه ويطلب منهم أن يمكنوه ويسلموه قومه بني إسرائيل الذين آمنوا بموسى ووحدوا الله، فقال لهم موسى: (إِنِّي لَكُمْ) أي: لكم يا فرعون ويا قوم فرعون، ويا بني إسرائيل من المستعبدين (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) رسول من الله جئت بالصدق والأمانة، فلم أبدل ولم أغير.(320/3)
تفسير قوله تعالى: (وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين)
قال تعالى: {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:19].
قوله: (ألا تعلوا على الله) أي: ألا تستكبروا، ولا تغتر يا فرعون، ولا تقل: أنا رب وإله، فتلك الكبرياء في غير محلها، فهي سخف وحمق وجنون، فأنت عبد خلقك الله عبداً مقهوراً وعبداً مشئوماً، ولدتك امرأة فأكلت وشربت كما يأكل ويشرب العبد، ومرضت وشفيت، وحزنت وضحكت، وكان بك ما يكون بالإنسان، ولا رب إلا الله جل جلاله.
قال تعالى: (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)، أي: لقد جئتكم ببرهان وبدليل بين واضح، فأتى بما أتى به من العلامات والبينات فأتى بالعصا التي يصرفها كيف شاء، يضرب بها الحجر فينفجر ماءً، ويرميها في الأرض فتصبح أفعى تأكل كل ما يحوم حولها، وكان يدخل يده فتخرج بيضاء من غير سوء، ثم يجعلها في جيبه فتعود كما كانت.
وسُلِّط عليهم بأمر الله الآيات البينات من الضفادع والقمَّل والدم والنقص في الأموال والثمرات والأنفس، والغرق بعد كل ذلك، فدلت الآيات البينات على صدقه ودلت على أمانته.
وعندما أراد فرعون اختباره جمع له السحرة من كل مكان، فحضروا فابتدءوا رمي عصيهم ورمي حبالهم، وإذا بموسى يرمي عصاه، فإذا بها (تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) فإذا بالسحرة الذين هم جاءوا لهزيمة موسى عليه السلام يدخلون في الإسلام، فالسحر إنما هو تخيلات: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66].
فلما رأى ذلك السحرة علموا أن هذا ليس سحراً؛ لأن الساحر إنما يخيل إليك أنها أصبحت أفعى، فلو وضعت يدك عليها فستحملها عصاً أو حبلاً كما كان، ولن تنقلب عن حقيقتها، فهم عندما رأوا عصا موسى تلقف ما يأفكون علموا أن هذا ليس سحراً، فآمنوا واستسلموا وسجدوا لله وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70]، وكان نصراً لموسى عليه السلام، وذلاً وهواناً للكفر ودعوى الربوبية الكاذبة.(320/4)
تفسير قوله تعالى: (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون)
قال تعالى: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} [الدخان:20].
لقد هددوه وأنذروه بالرجم، وكذبه فرعون، وحضه على ذلك قومه ومنافقوه، فتوعدوه بأنه سيرجم حتى الموت.
فقال لهم: دعوني أدعوكم وأبلغكم رسالة ربي، (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي) أي: تعوذت به، فجعلته معاذاً ومرجعاً وموئلاً من بطشكم ومن ظلمكم، فهو ربي وربكم، فـ فرعون ليس رباً حتى لنفسه، وإنما هو عبد ذليل كافر جاحد مربوب، ولكنه استخف عقولكم واستخف أنفسكم فتلاعب بكم، فآمنتم به وجركم إلى البلاء وإلى العذاب وإلى الغرق وإلى العذاب المهين.
فقوله تعالى: (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُون) أي: إنني جئتكم وأنا عائذ بالله مستغيث به لاجئ إليه، هو مرجعي ومآلي ومعاذي من أن ينالني منكم سوء، وعياذي بربي - الذي هو الله، والذي هو ربكم كذلك - أن ترجمون، ولن تستطيعوا ذلك، فلقد عذت بالله واستعذت بالله واستغثت بالله، وكان الأمر كذلك، حيث كانوا أحقر من أن ينالوه، فهو رسول مؤيد.(320/5)
تفسير قوله تعالى: (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون)
قال تعالى: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} [الدخان:21].
أي: أنا دعوتكم إلى الله، فإن لم تؤمنوا بالرسالة التي أتيت بها، وبكتاب التوراة المنزل علي، إن لم تؤمنوا لي فالأقل أن تعتزلوني، فاتركوني ورسالتي أدعو إلى الله، أما أن تحولوا بيني وبين رسالتي وتمنعوني عن أن أدعو إلى الله وأن أقوم بالرسالة التي أمرني بها الله؛ فهذا لا يجوز ولا يمكن، فسأثبت عليه حتى الموت.
وهذا أقل ما يطلب من الكافر والجاحد إذا قام الدعاة إلى الله والهداة إلى الله برسالتهم ودعوتهم، أما أن يحال بينهم وبين دعوتهم فذاك أبلغ ما يكون من الكفر والجحود والتعالي على الله، شأن كفرة هذا العصر من منافقي المسلمين وأشباههم، ومن الكفرة المختلفين، فهم لا يكتفون بالردة، بل يأبون إلا أن يمنعوا الدعاة والهداة وورثة النبي صلى الله عليه وسلم عن أن ينصروا دين الله وأن يفسروا كتابه، وأن ينصروا السنة، وأن يعلموا الناس الحلال والحرام، وأن يبينوا الكفر وما فيه من أنواع الشرك والضلال المبين، فلا يقبلون ذلك، قد أغلقوا أجهزتهم المكتوبة والمقروءة والمسموعة والمنظورة عن أن توظف لذلك.
فعدم اعتزال الدعاة إلى الله فيما يدعون فيه إلى الله أقبح أنواع الكفر، ولذلك فإن كفرة عصرنا الذين استأثروا بالكفر ومنعوا الدعاة إلى الله من نشر الإيمان ونشر الإسلام، ودعوة الناس إليه قد وصلوا إلى درجة تجاوزوا فيها قوم فرعون ومن سبقهم من الكفار في الأمم السابقة.(320/6)
تفسير قوله تعالى: (فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمين)
قال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} [الدخان:22].
عندما نفد صبره، وعندما أصروا على الكفر بعدما جاء به من البينات الواضحات، وبعدما دعا إلى الله بكل ما يقبله المنطق والعقل، وبعد أن ابتلوا بما ابتلوا فأتوا يطلبون منه أن يدعو الله ليرفع غضبه عنهم، قال: رب! إن هؤلاء قوم مجرمون، أي: هؤلاء الذين أرسلتني إليهم قوم مجرمون مشركون، يأبون إلا الجريمة، ويأبون إلا الشرك بالله، ويأبون إلا الإصرار على معارضة الأنبياء وتنقيصهم، وإذلال المؤمنين وتعذيبهم، فهؤلاء قوم مجرمون، فهو دعا الله فقال: يا رب! هؤلاء المجرمون عاقبهم لجريمتهم وعاملهم بما تقتضيه هذه الجريمة.(320/7)
تفسير قوله تعالى: (فأسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون)
فقال الله له: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان:23].
فتحت الهمزة لأن الفعل رباعي، يقال: سرى وأسرى، أي: سرى ليلاً، وذكر الليل تأكيد لمعنى السير في الليل في هذه الآية الكريمة.
قال تعالى: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا) قال الله لموسى: اخرج بعبادي المؤمنين من أرض مصر، وأسر بهم ليلاً سيراً حثيثاً سريعاً، واعلم أنكم متبعون، سيتبعكم فرعون وقوم فرعون يريدون عودتكم وإرجاعكم والبطش بكم وظلمكم وإيذاءكم، فاسروا سريان الشباب الأقوياء الذين يجرون وإن لم يجروا يهرولون، واعلموا أنكم متبعون، فسيتبعونكم وسيفتقدونكم حين ذلك، فيسرعون في اللحاق بكم.
وقوله تعالى: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي) أي: بني إسرائيل الذين آمنوا بموسى إذ ذاك.(320/8)
تفسير قوله تعالى: (واترك البحر رهواً إنهم جند مغرقون)
قال تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:24].
فقال الله له: (اترك البحر رهواً) أي: ساكناً على حاله، أي: لا تحركه.
ومعنى ذلك أنه أمر موسى بأن يشق البحر بعصاه، وسيفتح الله له طريق يبساً فيه، فكان الأمر كذلك، فخرج موسى ومعه ستمائة ألف إسرائيلي وزيادة، فلما شق لهم البحر بعصاه اتبعوه، وأصبح هذا الجانب حائطاً من الماء والآخر حائطاً من الماء، وهم بين هذا الحائط وهذا الحائط في قعر البحر.
فقال الله له: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا)، أي: لا تضربه بعصاك فيعود الماء إلى مكانه؛ لأنه لو وقع ذلك لما دخل فرعون وقومه البحر، ولا يستطيعون، والله يريد أن يعاقبهم في مسيرهم وفي تحركهم هذا.
فامتثل موسى أمر ربه، فترك البحر رهواً ساكناً جامداً لم يحركه، وخرج منه إلى الشاطئ الآخر، فجاء فرعون وقومه مسرعين مجدين على خيلهم ودوابهم وما معهم من آلة الخراب والدمار، فجاء ومعه جنده، فوجدوا البحر مفتوحاً ووجدوا الأرض يبساً، ووجدوا حائطاً من يمين وشمال، فظنوا أن هذا ما فتح لموسى إلا وسيفتح لهم كذلك، فدخلوا هذه الطريق إلى أن أصبحوا جميعاً فيه، وإذا بالله الجليل يأمر البحر أن يلتقي جانباه وحائطاه، فغرق فرعون وقومه أجمعون.
ففقدوا الأنفس، وفقدوا الملك، وفقدوا الإلهية الكاذبة، فتم عقاب الله عليهم وكان النصر للمتقين، ولجند الله من الأنبياء والمرسلين.(320/9)
تفسير قوله تعالى: (كم تركوا من جنات وعيون)
يقول الله جل جلاله: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:25 - 27].
يقول الله: هؤلاء عندما غرقوا وانتقم الله منهم لنبيه كم تركوا، و (كم) هنا للتكثير، أي: تركوا الكثير الكثير من الجنات والبساتين والخيرات ومن متنوع الأرزاق من الفاكهة والخضرة والماشية وغير ذلك.
قوله تعالى: (وَعُيُونٍ) أي: ومياه دافقة متدفقة متفجرة كانت على شواطئ النيل يميناً ويساراً بين يدي كل بيت وكل دار من دور هؤلاء، فقد كانوا يعيشون على جنة في الأرض لكثرة المياه وكثرة البساتين وكثرة الخضرة وكثرة الأرزاق الدارة.
قال تعالى: (وَزُرُوعٍ) أي: من أرض مزروعة بأنواع الحبوب وأنواع الفاكهة، وأنواع الثمار وأنواع الزهور والورود وما إلى ذلك، فكانت لهم مزارع وكانت لهم بساتين، وكانت لهم قصور.
قال تعالى: (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ)، أي: بيت يقيمون فيه، والمقام الكريم هو البيت الذي يكرم على صاحبه بسعة وبنعمة وبخدم وبحشم وبضيفان، وبسعة في المياه المحيطة به، وبالبساتين التي تزيده رونقاً وتزيده بهاء، ولكن كل هذا قد أزاله الله عنهم ونزعه منهم وسلبهم إياه فملكه غيرهم؛ لأن سنة الله هكذا في عباده، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، فالذي يشكر النعمة يزيدها الله ويوسعها الله ويباركها له، والذي يكفر بها ولم يشكر الله عليها يسلبها الله منه ويعيده للفقر والمرض والبؤس وللحاجة نتيجة الكفران، قال تعالى: (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) فعذاب الله هنا يكون بسلب نعمة العافية عن الأبدان، وأخذ الولدان، وذهاب الفاكهة والقصور والبساتين والمقامات الكريمة.
فقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:25 - 27] يقال: نِعمة ونَعمة، والنِعمة واحدة النعم، والنَعمة هي النِعمة كذلك، وقرئ بهما معاً، والنَعمة هنا تتجاوز النِعمة بالرفاهية والحضارة والأناقة مما يريد الناس في الدنيا من مفارش ومزارع ومساكن وزوجات وأولاد، فكل ذلك كانوا ممتعين به، والله تعالى أمهلهم ولم يهملهم، فاتخذوا من ذلك الإمهال طغياناً وشركاً، حتى ادعى هذا الحقير أنه هو الله الذي خلق لهم النيل والبساتين، وكذب على نفسه وعليهم وعلى الله.
فقوله تعالى: (وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) أي: متفكهين، كانوا على غاية ما يكون من الانبساط والسرور والبهجة والبعد عن البؤس وعن الحاجة وعن الفقر وعن الجدب، فأصبحت مجالسهم مجالس مزاح وآداب وقصص وتندر، فلم يكن بهم مرض ولا فقر ولا حاجة، فكانوا يمتعون مادة ويمتعون روحاً من حيث أجسامهم ومن حيث أرزاقهم، أما الله فهم عنه معرضون، بل عبدوا فرعون واتخذوه رباً من دون الله، وهو كاذب في دعواه.(320/10)
تفسير قوله تعالى: (كذلك وأورثناها قوماً آخرين)
قال تعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:28].
أي: كذلك نفعل بمن فعل فعلهم، والقصة ألقيت على المسلمين، فقصة فرعون ذكر فيها ربنا ما فعله بـ فرعون وقومه نتيجة كفرهم وجحودهم وخروجهم عن أمر الله، وكذلك يفعل بمن فعلوا فعلهم وكفروا كفرهم فيغرقهم ويعاقبهم ويعذبهم ويسلبهم النعم من القصور ومن المزارع ومن الخيرات ومن البيوت الكريمة ومن كل ما كانوا يعيشون فيه.
ف قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:28] أي: فسلبها الله منهم وأورثها لبني إسرائيل، فأصبحوا أهلها ومتملكيها، وما أشبه اليوم بالأمس مع فارق كبير، فهؤلاء كانوا ملحدين، وكانوا وثنيين، وكانوا يعبدون فرعون، وكانوا إماء، ولكن الله أرسل لهم نبياً لينقذهم من الذل والهوان وليدعو أولئك بتسليم ما عندهم من هؤلاء المؤمنين، فكفروا وأبوا.
ونحن اليوم في عصر الشعب فيه مسلم، واليهود أذل خلق الله، ونجد من المسلمين من يذلون أنفسهم لههم ويملكونهم بلادهم ويرفعون راياتهم، ويضربون على رءوسهم بالمدافع به، ويهتفون بأسمائهم، ويخضعون لهم ويذلون، والتاريخ يعيد نفسه، ولكن هنا عودة مؤلماً، فقد كان أولئك في وثنية، واليوم ليس الوضع كذلك، فالمسلمون على إيمانهم وعلى إسلام، فجاء فرعون الجديد، فأغراهم واستخف عقولهم، فأغروا بهؤلاء الكفرة من إخوان القردة والخنازير وعبدة الطاغوت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(320/11)
تفسير قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين)
قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29].
أي: فذهبوا غير مأسوف عليهم، فما بكت عليهم سماء وما بكت عليهم أرض، أي: لم يبك عليهم أهل السماء، فالسماء لا تبكي، فهذه الآية كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] أي: أهل القرية.
فلم يبك عليهم أهل السماء من ملائكة الله ولا أهل الأرض من أحباب الله من الجن ومن الإنس المؤمنين الصادقين، فلقوا جزاءهم ولقوا عقابهم، وذلك الشأن بهم، وهذا جزاء كل كافر بالله أله غير الله وعبد غير الله.
فالله تعالى بعد أن أرسل إليهم موسى وهارون، وبعد أن وضحت لهم الآيات البينات في تصديق موسى وهارون، فالله لم يمهلهم أكثر من ذلك، ولم يترك لهم زمناً ينتظرون فيه أكثر من ذلك؛ لأن حجة الله قد بانت، ونبيهم قد قال الحق بالدليل القاطع والبرهان الساطع، ومع كل ذلك أبوا إلا الخسران وأبوا إلا الجحود، وأبوا إلا العصيان لنبي الله جل جلاله وعز مقامه.
فقوله تعالى: ((فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ))، أي: فلم يأسف لهلاكهم ولغرقهم وللانتقام منهم أهل السماء ولا أهل الأرض.
ولكل إنسان بابان في السماء: باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، وينزل منه ما أمر به الملائكة في شأنه، فإذا مات الإنسان المؤمن فإن من في هذه الأبواب يبكون عليه ويتأسفون لموته ويدعون له، وإن كان غير مؤمن لم يبكوا عليه وقالوا: لقي جزاءه، كما قال نبي الله صلى الله عليه وعلى آله.(320/12)
تفسير سورة الدخان [30 - 37]
لما خرج فرعون وجنوده وراء سيدنا موسى ومن معه غرق فرعون بكفره، ونجى الله سيدنا موسى ومن معه من الغرق ومن فرعون، واختارهم على العالمين، وكان الأصل أن يعتبر بذلك الكفار الذين كفروا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأنكروا البعث وقالوا إن هي إلا موتتنا الأولى، ولكنهم أبوا إلا الكفران، فلذلك سيهلكهم الله ويجازيهم بالعذاب المهين.(321/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان:30 - 31].
يذكر الله جل جلاله أنه امتن على عباده المؤمنين بني إسرائيل بأنه نجاهم من عذاب مهين أليم موجع، يوم كانوا مستعبدين للفراعنة، ومستعبدين للأقباط، تقتل ذكورهم، وتستحيا نساؤهم، ويحملون ما لا يطاق حمله من الأثقال والمشقات والعذاب المهين.
يقول تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [الدخان:30] أي: أنقذناهم وأبعدناهم عن العذاب الأليم الكائن من فرعون.
قوله تعالى: (مِنْ فِرْعَوْنَ) بدل، فكان العذاب المهين هو فرعون، وكان العذاب المؤلم الموجع هو فرعون، وقد ورد في القرآن في قصص بني إسرائيل مع فرعون، وقصص موسى وهارون كذلك ما فيه جميع أنواع البلاء والعذاب والامتهان من فرعون وقومه لبني إسرائيل.
فيذكر الله هذا للمؤمنين، ليعلموا أنهم إن استمسكوا بإيمانهم وداوموا عليه ينجهم الله من كل محنة ومن كل عذاب، كما أنجى من كان قبلهم ممن عذب وأوذي.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان:31].
أي: كان مستعلياً في الفساد، وكان متكبراً متجبراً متعالياً بالطغيان، وبالظلم والفساد، والتألي على الله، ودعوى الإلهية، وإن هو إلا عبد مجرم آثم ظالم، فكل دعوى ادعاها كانت وبالاً عليه وعلى قومه.
وقوله تعالى: {مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان:31]، أي: من الذين أسرفوا على أنفسهم فساداً وظلماً وطغياناً وتجبراً، بحيث تجاوزوا الحد بالظلم والاعتداء والطغيان، فاستحق هو وقومه عذاب الله ونقمة الله، وقد فعل.(321/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين)
قال تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32].
يخبر ربنا جل جلاله بأنه اختار بني إسرائيل على علم، وذلك لمجموعة من الأوصاف فيهم، فبسبب من أرسل إليهم من الأنبياء والمرسلين، وما وجد فيهم من المؤمنين، وما وجد فيهم من العالمين، كان اختيارهم من بين الأمم السابقة الماضية، فكانوا خير أهل عصرهم.
وبعض الدساسين من الإسرائيليين في التفسير حاول أن يقول: إن الاختيار كان على الأمم السابقة والأمم اللاحقة، وذاك دس ممن تظاهر بالإسلام، ومن تلقف ذلك عنه من كل ساذج، لا يكاد يعلم من الإسلام إلا اسمه.
فدُسَّ بين ثنايا التفسير أن بني إسرائيل قد اختيروا من بين جميع الأمم الماضية واللاحقة، وذاك كذب على الله، فلقد خاطب الله المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
فالمؤمنون والمسلمون من أتباع نبينا عليه الصلاة والسلام خير الناس، فمنذ أن ظهر نبينا في هذه البقاع المشرفة المقدسة، يوم قال للناس: (إني رسول الله إليكم جميعاً) كان هو خير الرسل، وكانت أمته خير الأمم، فالأمم جميعها من بني إسرائيل وغيرهم يحتاجون إليه يوم القيامة للشفاعة العظمى، فيستشفعون بأنبيائهم واحداً واحداً، فيأبون الشفاعة ويقول كل منهم: نفسي نفسي، فيأتون إلى محمد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها أنا لها)، فيذهب فيشفع عند ربه، ويشفعه ربه، ويظل زمناً يحمد الله بمحامد وهو ساجد، إلى أن يقول له ربه: (ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع)، ولا يكون هذا إلا لنبي خير الأمم، وهذا ما أكده الله، ونطق به القرآن الكريم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
فالأمة المحمدية خير الأمم على الإطلاق، خير من بني إسرائيل ومن غيرهم، على أن بني إسرائيل قد كانوا في عصرهم كذلك، وإلا فبعد ذلك ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله، كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78].
كما لعنهم رسول الله، ولعنتهم الكتب السماوية، وقال عنهم آخر كتب الله القرآن الكريم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167].
فانتقلوا من كونهم خير الأمم في عصرهم إلى كونهم ألعن الأمم وأكثر الأمم عصياناً وكفراً بالله وبرسل الله، فكفروا بعيسى وهو من بني إسرائيل، وكفروا بسيد البشر نبينا العربي صلى الله عليه وسلم، فهم بين لعنات متتاليات، وغضب لم يفارقهم ولن يفارقهم حتى يكونوا في جنهم أجمعين أكتعين أبتعين.
فقوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32] أي: جعلناهم خير الأمم في عصرهم، وخير الشعوب في وقتهم، ولكنهم بعد ذلك بدلوا وغيروا، فبدلوا التوراة والإنجيل، كما بدلوا الزبور كذلك، ولو استطاعوا لحاولوا أن يبدلوا القرآن، ولن يبدلوه؛ لأن الله تعهد بحفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
ومع ذلك تظاهر بالإسلام منهم فئات وطوائف، فذهبوا يحرفون في التفسير، ويحرفون في التأويل، فأتوا بالطوام، وأتوا بالأكاذيب والأضاليل، ولكن المحققين من العلماء ميزوا ذلك، وفرزوه، وضربوهم به على أدبارهم وعلى جباههم بما كشف أمرهم، حتى إن بعضهم كان يدعي الإسلام ويتظاهر بالتقوى والصلاح والعلم، ولكن تأويله وتحريفه في التفسير كشفه وفضحه على الملأ قديماً وحديثاً، كما حكيت عن بعضهم الآن أنه حاول أن يقول: إن بني إسرائيل مفضلون على الأمم كلها، علمائها ومحدثيها، وهذا من الدس اليهودي، ولا أصل له ولا حقيقة، وقد قال ربنا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، فقوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32] أي: عالمي عصرهم، وعالمي زمانهم، وأما بعد ذلك فليس الأمر كذلك.(321/3)
تفسير قوله تعالى: (وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين)
قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} [الدخان:33].
آتى الله تعالى بني إسرائيل من الآيات والمعجزات ومن الفضل والمن ما تكرم به عليهم، ومن ذلك أنه أنجاهم من عذاب الفراعنة المهين، وأنقذهم وأخرجهم من أرض مصر مع موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وشق لهم البحر، وأذل عدوهم وأغرقه، وأعطاهم من الخيرات من المنّ والسلوى وأنواع المأكولات.
وبعد ذلك اتخذوا العجل إلهاً وهم حديثو عهد بالنجاة من فرعون، فقال السامري لليهود وقد ذهب موسى لميقات ربه: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88]، فزعم لهؤلاء بكل وقاحة اليهود وبكل خبث اليهود أن موسى قد ضل إلهه، وإنما إلهه هذا العجل.
فهم في وقت نجاتهم، ووقت حصول الآيات البينات في إكرامهم نتيجة إيمان أكثرهم كفروا النعمة، وأشركوا بالله وقت نعمته ووقت رحمته، وهكذا شأن الكذبة، وشأن الفجرة، وشأن المشركين المصرين على الشرك، تراهم وقت إكرام الله لهم بالإنقاذ يشركون ويكفرون.
فقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} [الدخان:33] أي: ما فيه اختبار ظاهر بين، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] فيكون الابتلاء بالخير، كما يكون بالشر، فهناك من يصبر على الشر، حين يختبره الله، ولكن بعد ذلك يتجاوز العقبة وينقذ من بلائه، وهناك من يبتلى ويختبر بالخير فلا يصبر، فتغره الدنيا وجاهها ومالها ونساؤها، فينقلب على وجهه {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]، وهذا ما حصل لبني إسرائيل ومن هم على شاكلة بني إسرائيل كفراً وجحوداً وشركاً مستمراً بالله.
فقد كانت الآيات لهم بلاءً، وكانت اختباراً بيناً واضحاً، ولكنهم لم يصبروا على هذا البلاء والاختبار والامتحان، وقديماً قال الناس: عند الامتحان يعز المرء أو يهان، سواء أكانت المحنة سماوية أم أرضية، فكما أن الطالب عند الامتحان قد ينجح ويعلو ويبيض وجهه، أو يسود وجهه ويرسب، فكذلك المؤمن إذا ما اختبر بالخير أو بالشر وابتلي بذلك وصبر، فذاك نجاحه، فإن لم يصبر فتلك محنته وعذابه.(321/4)
تفسير قوله تعالى: (إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين)
قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان:34 - 35].
المراد بهؤلاء كفار العرب، وكفار الأمة المحمدية الذين جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإيمان بالله وحده فكفروا برسالته، وكفروا بكتابه، فهؤلاء زادوا على ذلك قولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان:35].
فيقولون: ليس هناك إلا موتة هي الموتة الأولى موتة الدنيا، ولا حياة بعد ذلك، فزعموا أن الدهر يهلكهم، وأنها أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكهم إلا الدهر، والموت ليس إلا هو موت الدنيا، وليس بعد ذلك حياة.
فقال هؤلاء وزعموا: (إن هي) أي: ما هي.
{إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى} [الدخان:35] التي يموتونها في الدنيا.
{وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان:35]، أي: وما نحن بمبعوثين من الأرض بعد هذه الموتة الأولى، فزعموا كفراً وطغياناً أنه لا قيامة ولا بعث ولا نشور ولا عرض على الله بأعمالهم وكفرهم وإصرارهم على الشرك.(321/5)
تفسير قوله تعالى: (فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين)
ثم قالوا: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان:36].
طلبوا من محمد صلى الله عليه وسلم وطلبوا من أتباعه المؤمنين امتحاناً فقالوا: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان:36].
قال أبو جهل وغيره: ائتونا بـ قصي، وائتونا بـ عبد مناف لنسألهم: ما الذي وجدوا بعد الموت؟ أكلامكم حق أم باطل؟ ولو فعل ذلك صلى الله عليه وسلم لقالوا: هذا سحر وشعوذة، شأن الكافر الذي يكفر بلا دليل، ويصر على الكفر بلا سلطان ولا آية بينة.
فقولهم: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان:36] أي: إن كنتم صادقين في أن هناك حياة بعد الموت، وآخرة بعد الدنيا، فنريد أن نعلم ذلك من الآن، والأدلة عندهم لو كانوا يعلمون، فأين كانوا قبل أن يأتوا، ألم يكونوا ميتين؟ ألم يكونوا معدومين؟! ألم يكونوا غير موجودين؟! فكيف أتوا؟! ومن الذي أتى بهم؟! ومن الذي أخرجهم إلى الحياة؟! أليس الذي يخرج الموجود من العدم قادراً عن أن يأتي بمن وجد مرة ثانية فيعيد حياته؟! فالدليل قائم، ولكن كفرهم وإصرارهم على هذا الكفر غطى عقولهم، وأبعد فهمهم إدراكهم فابتعدوا عن الحق البين الواضح.
وقولهم: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان:36] جاء في غير محله؛ إذ لم يقل القرآن، ولم يقل نبينا عليه الصلاة والسلام: سيعيدكم الله إلى دار الدنيا مرة ثانية، بل أخبرهم القرآن بأنهم سيعودون بعد انقضاء الدنيا إلى حياة ثانية في القيامة، فهذا إفك اخترعوه.
على أن هناك أقواماً من قبل طلبوا هذا، فابتلاهم الله واختبرهم، كقصة الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، وقال له: {كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} [البقرة:259].
وأهل الكهف كانوا سبعة أو ثمانية، فأماتهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، ثم بعثهم وهم لا يظنون إلا أنهم كانوا نائمين، وتحقق ذلك أهل عصرهم، وكانت قصتهم مكتوبة على رقيم في باب الكهف فكان ذلك من المعجزات ومن البينات لأهل عصر هؤلاء، وليست القاعدة، أن الله لا يبعث من يموت إلا يوم القيامة.(321/6)
تفسير قوله تعالى: (أهم خير أم قوم تبع)
قال تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان:37].
أي: أكفار الدعوة النبوية المحمدية هم خير سلطاناً، وخير عزاً، وخير حضارة، وخير قوة، وخير تمكناً من قوم تبع وممن كان قبلهم عندما أصروا على الكفر وأصروا على الشرك؟! قال تعالى: (أهلكناهم) دمرهم الله تدميراً، وعاقبهم عقاباً لم يبقِ منهم ولم يذر.
قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان:37] كانوا مشركين، وأعظم الجرائم الكفر بالله، والشرك بالله، فكانوا مجرمين، وكانوا مشركين، وكانوا وثنيين، فعاقبهم الله وهم أعظم سلطاناً وأقوى بنياناً وأطول أجساماً من هؤلاء الذين يدلون بشيء قليل مما عندهم، وأردوا بذلك أن يتكبروا على الله، ويتعاظموا على رسول الله، وعلى عباد الله المؤمنين، فالله أنذرهم وتوعدهم بأن يعاملهم معاملة قوم تبع.
والأمم السابقة من قوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون وقوم إبراهيم وقوم لوط والأمم الكثيرة مضت وهلكت بين مصروع ومقتول وغريق ومرجوم من السماء إلى الأرض ومخسوف به، فهؤلاء يظنون أنهم أعظم من أولئك شأناً، وأقوى منهم بنياناً وحضارة.
و (تبع) كان لقباً لملوك اليمن، وقد كانوا قبل مجيء رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام بسبعمائة عام، قيل: إن تبعاً هذا الذي أشار إليه القرآن كان مؤمناً، وهو الذي بنى الحيرة، وبنى سمرقند، وهو الذي جعل لليمن حضارة في بنيانها وزروعها وبساتينها وفي قوانينها، فأسلم ثم أسلم من جاء بعده، فقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (إن الله ذم قوم تبع ولم يذمه) فذاك دليل على إيمانه، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن تبعاً آمن.
فإن صح هذا الحديث يكون فهم عائشة وقولها مستنداً إلى النص من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وورد عنه أيضاً: (لا أدري: أتبع كان نبياً أم لا؟!)، وعلى كل حال فهو إن كان مؤمناً فهو من أهل الخير، وإن كان نبياً فهو من أهل الخير الكبار.
فإن صحت هذه الأحاديث فقد تبين أن قومه كانوا مجرمين، ولم يكن هو كقومه، بل كان رجلاً صالحاً، إما مؤمناً أو نبياً، على أنه قيل: قد آمن به من رعيته مجموعات متتابعة.
وقالوا: جاء إلى المدينة المنورة (يثرب) كما كانت تسمى، فاجتمع فيها بحبرين، وأراد أن يضرب المدينة ويهلك سكانها انتقاماً وظلماً؛ لأنهم لم يبايعوه ولم يكونوا من أتباعه، فقال له هذان الحبران: إن هذه المدينة مهاجر خاتم الأنبياء، فالمدينة للصالحين المؤمنين من الناس، ولو حاولت أن تفعل لردك الله، ولعذبك الله، فخاف ثم جاء إلى مكة، وأراد أن يهدم الكعبة فخوفاه، فانقلب بعد ذلك مؤمناً بها، وذبح - فيما زعموا - ستة آلاف بدنة.
يقول الله تعالى عن كفرة قريش: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان:37]، أهلك الله أولئك بجرائمهم وبشركهم وبكفرهم، ويوشك هؤلاء أن يهلكوا كذلك، كما أهلك قوم تبع ومن قبلهم من الأمم الكافرة المشركة، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان:37].(321/7)
تفسير سورة الدخان [38 - 56]
يرد الله على الكافرين الذين ينكرون البعث ويكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما عبثاً، بل ذلك ليبتلي الناس في الدنيا، ثم إن موعدهم يوم الفصل في الآخرة، فحينئذٍ لا يغني مولى شيئاً عن مولاه، والمجرمون لهم جهنم بما فيها من الزقوم والمهل وغيرها من أنواع العذاب.(322/1)
تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين)
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:38 - 39].
يقول ربنا لهؤلاء الذين يظنون أنهم وجدوا في الأرض ليأكلوا ويشربوا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:38].
فما خلق الله الأرض التي نحن عليها وما فوقها من سماوات، وما بين السماوات والأرض من أفلاك ومجرات، ومما لا يعلمه إلا الله، ما خلق الله ذلك عبثاً، فلم يخلقه باطلاً، إنما خلق الكل لعبادته: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
وإذا كان الأمر كذلك فيجب على كل حي عاقل مدرك أن يعلم أنه خرج إلى هذه الدنيا لعبادة الله، فليعبد الله بقدر طاقته، وإلا فقد جعل من حياته عبثاً باطلاً، وإن لم يكن الأمر كذلك فسيكون في النار خالداً فيها مخلداً.
قوله: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:39].
فما خلق الله السماوات، وما خلق الأرض، وما خلق ما بين السماوات والأرض إلا بالحق، والحق عبادة الله، والحق توحيد الله، وغير العاقلين من الجن والإنس قد فطره الله على العبادة والطاعة، كما فطر الملائكة؛ وقد قال ربنا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44].
فالجماد يسبح بحمد الله، والدواب تسبح بحمد الله، ومن لم يعبد الله يوماً كان ذلك سبب موته وهلاكه، فالكائنات مفطورة على العبادة، وكثيراً ما سمعنا من أناس صالحين في حالة إيمان، وفي حالة روحانية كاملة يقول الواحد منهم: ألم تسمعوا معي، الجبل يقول: الله، والقطة تقول: الله، والكأس يقول: الله، وكل ما حولي وما فوقي وما تحتي يذكر الله ويسبح الله، وإنما يترك التسبيح عصاة الجن وعصاة البشر، على أن أرواحهم قبل خلقها عندما خوطبت بالتوحيد أتى ما أتى منها طائعاً، وأتى سائرها مكرهاً.(322/2)
معنى قوله تعالى: (ولكن أكثرهم لا يعلمون)
قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:39].
أي: أكثر الناس، ولم يقل: أكثر الخلق، فأكثر الناس مشركون، وأكثر الناس كافرون، فلم يذكر الله ويسبح الله ويعبد الله إلا فئة قليلة من الأمم السابقة، وقليل من الأمم اللاحقة، فهذا معنى قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، فأكثر من في الأرض كفرة، وأكثر من في الأرض مشركون، وإياك إياك أن تغتر بالأكثرية والأقلية.
ولذلك كان من النظم اليهودية في الأرض أن يجعلوا للناس والشعوب ما يسمى بـ (دور ندوة)، وما يسمى بـ (دور شورى)، وما يسمى بـ (برلمانات)، فقالوا: الحكم بالأكثرية، فيأتي الحاكم ويعرض على هؤلاء قوله: هل من الضروري أن يكون دين الدولة الإسلام؟! فإذا قال الأكثر: لا.
فقد أعلنوا الكفر وألغوا الإسلام، وهم في الأصل ينتخبون ويختارون كل كافر، وكل فاسق وكل جاهل، فيجري على دينهم على منوالهم ويفعل فعلهم، ويقول قولهم.
فلو جاءك سكان الأرض كلهم وقالوا لك: دينك ليس بصحيح، فهل تقبل كلامهم؟! فإن قبلته كنت مشركاً كافراً، وما الفرق بينك وبين أمتك وشعبك، حتى يعرض عليهم فيما يسمى بـ (البرلمان) اختيار دين دولة.
والأكثرية هي نظام يهودي؛ لأن الأكثرية جاهلة أمية ضالة لا تكاد تعي، ولا تكاد تسمع، ولا تكاد تنظر، فإذا أنت عرضت الأمر على هذه الأكثرية الجاهلة الضالة، فما عسى أن تجاب به؟! خاصة إذا كان معك عصاً أو كان معك مال أو منصب، أو جاه، فسينقادون إليه رغباً أو رهباً، وأمة تساق رغباً ورهباً أمة ضائعة ضالة لا تعي ما تقول ولا ما تعتقد، ومن هنا كان نظام البرلمانات فيما يسمونه بـ (الديمقراطية) نظاماً وثنياً يهودياً جعلوه لحرب الإسلام والمسلمين.
ونحن نرى شعوباً مسلمة عاشت مسلمة قروناً منذ عصر الصحابة، ثم تهودت ودانت بدين اليهود، وباعت أرضها لليهود، فإذا أنزل أمر قالوا: لنعرض الأمر على (البرلمان)، فإن وجدوا بعض المخالفة، حلوه وأتوا بآخرين أكثر طواعية وأكثر استسلاماً وأكثر استعباداً، فعند ذلك يعلنون أن ما صنعوه هو شيء شعبي ديمقراطي، أقرتهم عليه نظمهم المعاصرة المتحضرة، وما ذلك إلا من وحي الشياطين ومن كفر الكافرين ومن ضلال الضالين وكما قال ربنا جل جلاله عن فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] فأطاعوه على الكفر.(322/3)
تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين)
قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:40 - 42].
يوم الفصل هو يوم القيامة، يوم العرض على الله، يوم يفصل بين العباد، فهذا محق وهذا مبطل، وهذا مؤمن وهذا كافر، وهذا إلى الجحيم وهذا إلى الجنة، وهذا إلى الرحمة والرضا، وهذا إلى اللعنة والغضب، وسماه الله تعالى يوم الفصل لأنه يفصل فيه بين العباد.
وقوله تعالى: {مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40] أي: وقت اجتماعهم، ووقت الحكم بينهم، ووقت الفصل بينهم، ووقت معرفة الجاهل وتأكد العالم، فهذا اليوم يجمع الله فيه المؤمن والكافر، والمهتدي والضال، والشاك والموقن.
قال تعالى: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان:41]،المولى هو النصير والصديق والحميم، والقريب من أخ وابن عم، أو أب وأم، أو ولد.
قال تعالى: {لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان:41] أي: لا يستطيع قريب ولا صديق أن يغني عن قريبه من عذاب الله ولعنته، ولا يستطيع شفاعة ولا حماية قريبه وإنقاذه من النار، ولن يملك له شيئاً، ولن يستطيع أن ينفعه بشيء إن جاء كافراً.
وقوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [الدخان:41] أي: ولا يجدون من ينصرهم من عذاب الله، ومن المقت والغضب، بل يتركون لأعمالهم، فأعمالهم إما أن تنقذهم من النار، وإما أن تدفعهم إليها دفعاً، وإما أن تخلدهم فيها خلوداً، ولا ناصر إلا الله، ولا ينصر الله إلا من كان مؤمناً موحداً، جاء بعمل صالح، وأما سواه فلا ينتظر رحمة، ولا ينتظر شفاعة.
قال تعالى: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:42].
فهؤلاء الذين يأتون أجمعين، فيهم البر والفاجر، وفيهم المؤمن والكافر، فمن كان كافراً مجرماً فلا ينتظر رحمة، ولا ينتظر نصرة، ولا ينتظر ولاءً.
ولكن من رحمه الله يكون قد جاء مؤمناً ومات على التوحيد، ومات على الإسلام، ومات على (لا إله إلا الله محمد رسول الله)؛ فهؤلاء يرحمهم الله، فإما أن يغفر الله لهم، وإما أن يمحصهم وقتاً وزمناً الله أعلم بطوله وقصره، وبعد ذلك يدخلون الجنة ويرحمهم الله.
{إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:42]، فهو ربنا العزيز الذي لا ينال.(322/4)
تفسير قوله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم)
قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:44 - 46].
شجرة الزقوم هي شجرة في جهنم لو قطرت منها قطرة على أطعمة الأرض ومياه الأرض لجعلتها من المرارة بحيث لا يستطيبها إنسان ولا طير ولا حيوان.
وهذا الزقوم الذي هو بهذه المرارة وهذه الشدة يكون معه الماء الحميم، والماء الحميم هو الذي بلغ أقصى درجات الحرارة، فلو صُب منه على الرأس لذاب العظم قبل أن يذوب المخ، ولا غنى لهم عنها، فإذا جاعوا، فالزقوم طعامهم، وإذا عطشوا فالحميم شرابهم.
ولما سمع أبو جهل بخبر الزقوم قام يهزأ ويقول: هي شجرة عندنا هنا ترعاها الإبل والدواب.
فذل في غزوة بدر وقتل شر قتلة، حيث وضع ابن مسعود قدميه على صدره، وفصل رأسه عن جسده وهو يقول له: لقد علوت وصعدت مكاناً لا يليق بك أن تصعده، وهيهات هيهات، فـ ابن مسعود عبد لله كريم على الله، وأبو جهل عبد عاق كافر مشرك طالما تألى على الله وطالما كان قليل الأدب مع رسول الله، فعاش كافراً ومات كافراً ليحشر مع فرعون وهامان وقارون وأمثالهم.
يقول تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44] فهي الطعام الذي يأكله الأثيم، والأثيم: الآثم مرتكب الآثام، أي: المجرم الذي لا يعرف في حياته وعمره إلا الإثم والمخالفة والعصيان.
قال تعالى: {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:45 - 46].
(كَالْمُهْلِ) أي: كالزيت الأسود الذي يبقى في قعر الإناء الذي فيه الزيت، فالزقوم هو بهذا الشكل مع المرارة التي لا يطيق تذوقها أحد، ولكنهم لا غنى لهم عنه، حيث يجوعون ويشتد جوعهم، فيستطعمون فلا يُقدم لهم الملائكة إلا هذا الزقوم، فنعوذ بالله ونستغيثه من عذابه ومن نقمته.
{كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45]، أي: فتكون حامية شديدة الحرارة تنزل في البطن فلا تزال تغلي فيه حتى تسقط وتخرج الأمعاء والكرش وما يوجد في البطن نتيجة هذه الحرارة التي تذيب كل ذلك.
فقوله تعالى: {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:46] أي: كما يغلي الماء الحار في أقصى درجات الحرارة.(322/5)
تفسير قوله تعالى: (خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم)
ثم يقول الله لمالك كبير خزنة النار: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان:47 - 50].
قوله: (فَاعْتِلُوهُ) أي: اسحبوه وجروه على الوجه وعلى البطن، وادفعوه دفعاً دفع غير مشفق وغير رحيم به نتيجة كفره.
وقوله تعالى: {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] أي: إلى وسط النار حتى يأخذ يعذب الجسد من جميع أركانه، فيعذّب طولاً وعرضاً.
قوله تعالى: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:48].
أي: ثم خذوا هذا الماء الحار الذي يهتك الأمعاء وصبوه فوق رأسه، فصبوا فوق رأسه من هذا العذاب ومن هذا الحميم الذي هو عذاب في حق نفسه وفي حق ذاته، فتأتي الملائكة من خزنة جهنم فيأخذون هذا الماء الحار الذي بلغ من الحرارة منتهاها ويصبونه على رأسه، فيذوب عظم رأسه ويذوب مخ رأسه، نعوذ برحمة الله من عذابه وبرضاه من غضبه.
وقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49].
أي: تقول له الملائكة: ذق هذا العذاب بأشكاله وأنواعه، فأنت الذي كنت تقول في دار الدنيا بأنك العزيز في قومك العزيز على خلق ربك، والكريم في نفسك وفي عقلك وفي فهمك، وأنك كريم بما أعطيت من أرزاق وأولاد؛ فبعد أن ذُقت هذا العذاب هل لا تزال عزيزاً كما كنت تدعي في دار الدنيا؟! وهل لا تزال كريماً كما كنت تظن وأنت في دار الدنيا؟! هيهات هيهات أن يعّز مجرم مشرك، وإن ظن ذلك يوماً فهي أوهام لا حقيقة لها ولا واقع.
قال تعالى: {إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان:50].
أي: هذا العذاب وهذا البعث بعد الموت هو ما كنتم تمترون وتشكون في حقيقته وأنتم في دار الدنيا، فهل ما كنتم تشكون فيه أصبحتم تعيشون في واقعه أم هي أحلام ومنامات؟! وهكذا جاءتكم رسل الله فكذّبتموها، وجاءتكم كتب الله فأنكرتموها، ودعاكم المؤمنون إلى طاعة ربكم وطاعة نبيكم فعصيتموهم وخالفتموهم وخرجتم عن أمرهم، وكنتم تظنون أنكم أعزاء وكرماء! فهل ذلك الوهم الذي عشتم فيه لا يزال قائماً؟!
و
الجواب
أن حالهم يغني عن سؤالهم، فهم يرون أنهم كانوا مبطلين مكذبين كافرين.(322/6)
تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في مقام أمين)
قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} [الدخان:51 - 53].
سبق ذكر حال الكفار، والله جل جلاله يجمع في كتابه بين ذكر الكافرين وما يعاملون به، وذكر المؤمنين وما يعاملون به؛ لكي يعيش الإنسان بين الرجاء والخوف، يرجو رحمة الله ويخاف عذابه، فعندما يُذكر العذاب وهوله ترتعد فرائصه ويتوب إلى الله ويعود عما هو عليه من المعاصي، وإذا ذكرت رحمة الله يجدد إيماناً إن لم يكن، ويزداد إن كان، فيرجو الثبات على حاله، وأن يبقى على خير وعلى صراط مستقيم، فهؤلاء المتقون في مقام أمين، يقال: مَقام ومُقام، فالمقَام: المنزل والدار، والمُقام: الرُتبة والمنزلة، والمعنى متقارب.
قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51] أي: في منزل وفي دار وفي قصر آمنون فيه من العذاب ومن اللعنة ومن الخروج ومن الموت، منازلهم في الجنة، ولا يصل إليها شيطان، فمنازلهم بين أهليهم من الحور العين والولدان والخدم والحشم وزوجات الدنيا، فهم في أمان، كيف والله قد أمّنهم وكرّمهم والله الذي أنزلهم هذه المنزلة الكريمة.
فقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51] أي: آمن من كل سوء.
{فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:52] الجنات: جمع جنة، والعيون: جمع عين، فهم مقيمون في دور لها جنات ولها عيون متدفقة متفجرة وجارية بالسلسبيل العذب من الماء، مما يزيد القصور جمالاً ويزيده بهاء ويزيدها.
قال تعالى: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} [الدخان:53].
أي: يلبسون في الجنان من السندس والإستبرق.
والسندس: ألبسة الحرير الخفيفة الشفافة.
والإستبرق: الديباج الغليظ.
فهم يلبسون من الحرير خفيفه وثقيله شأن لبس أهل الجنة، وهم في الجنة متقابلون، كما قال تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] ليست بينهم عداوة ولا أحقاد ولا إحن، ولا يجلسون كل منهم خلف الآخر كشأن المتخاصمين والمتنازعين والأعداء، ولكنهم إذا جلسوا على الأرائك يجلسون ووجه هذا لوجه هذا، وهم يتحدثون عن نعم الله عليهم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا وفقهم للإيمان به وبرسوله وبكتابه وأماتهم على ذلك، وفي الآخرة حيث أنجز وعده لهم وأعطاهم المقام الأمين في جنات وعيون وإستبرق وديباج وأنواع من ألبسة الحرير لم ير مثلها.(322/7)
تفسير قوله تعالى: (كذلك وزوجناهم بحور عين)
قال تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان:54].
الحور: جمع حوراء، والعين: جمع عيناء، والحوراء: شديدة بياض العين شديدة سوادها، واسعة العينين في جمال أخّاذ، لو أشرفت الواحدة منهن على الدنيا لملأتها عبقاً وطيباً.
قال تعالى عنهن: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] فلا يخرجن عن الخيام، مقصورات على أزواجهن تتغنى الواحدة منهن لزوجها كلما حضر، ويقلن: نحن الناعمات فلا نبأس.
ولا ينظرن إلى غير أزواجهن، ولا يحاولن الخروج من قصورهن، والقصر الواحد ينظر فيه صاحبه ألفي سنة على مد البصر.
وسكان الجنة لهم قصور، وليس قصراً واحداً، ولكل واحد من سكان الجنة اثنتان وسبعون حورية، ومن نساء الدنيا زوجتان، إلا أن يكون قد تزوج أكثر، فمن مات منهن على عصمته فهي له.
ويروى أن أحد الصالحين كانت له زوجة سيئة الخُلُق، فصبر على إيذائها وهو يعلم أن الزوجة إذا ماتت تكون في عصمة من ماتت وهي عنده، فماتت، فعندما ذهب لدفنها والناس متحلقون حوله قال: اشهدوا أنها طالق، صبرت عليها في دار الدنيا وأما أن أصبر في الآخرة فلا والله؛ فهل ستطلق منه أو يصلحها الله كما أصلح نساء أيوب وعوضه خيراً منهن وزادهن صلاحاً؟! وقد يراها يوم القيامة بغير تلك العين؛ لأن الجنة لا عداوة فيها، فسينسى عداوته وتنسى عداوتها، وعندما يراها يراها أجمل من الحور العين.
وقد تساءل علماؤنا: هل النساء من البشر أجمل أم الحور العين؟ فقال بعضهم: الحور العين أجمل.
وقال آخرون: نساء الأرض تحملن في الدنيا الخير والشر، فسيكون من الجزاء لهن أن يجعلهن الله أجمل من الحور العين.(322/8)
تفسير قوله تعالى: (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين)
قال تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان:55 - 56].
أي: يدعون في الجنة بكل فاكهة من جميع الفواكه، فيطلبون من أشكالها وأنواعها وألوانها في الجنة مع الطعام والشراب وهم آمنون من أن تنقص، آمنون من أن يمنعوا منها، آمنون من الجوع، آمنون من العطش.
فهم آمنون في قصورهم، فالأمان يغمرهم من كل أطرافه.
قال تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان:56].
أي: لا يذوقون في الجنة الموت؛ فقد ورد في الصحيح أن الموت يوم القيامة يمثل على صورة كبش، فيأمر الله بذبحه، ويقال لأهل النار: خلود فلا موت، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، فهؤلاء في الجنة لا يموتون، وكذلك لا يموت أهل النار، فهم يتمنون الموت وهيهات هيهات أن يموتوا، كما قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].
فأهل الجنة لا يذوقون في حياتهم إلا الموتة الأولى التي كانت في دار الدنيا، فهو استثناء منقطع، فلا يذوقون في الجنة الموت، إلا الموتة الأولى في دار الدنيا، فقد ذاقوها ولا موت بعدها أبداً.
وقول تعالى: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان:56].
أي: ووقاهم ربهم عذاب النار وعذاب الجحيم، وتلك نعمة من أعظم النعم وأكبرها، فالذي ينقذ من عذاب الجحيم ينقذ من عذاب لم ير مثله أحد، كيف وهو ينتقل إلى الجنة بنعيمها وأمانها وحور عينها وقصورها وما فيها من أنواع الملاذ؟!(322/9)
تفسير سورة الدخان [56 - 59]
أهل الجنة يوم القيامة في مقام أمين في الجنة، ولهم فيها أنواع النعيم من الحور العين واللباس الجميل، والخلود في الراحة، فضلاً من الله عليهم، وجزاء إيمانهم وتقواهم.(323/1)
تفسير قوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى)
قال ربنا جل جلاله: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان:56].
يصف الله الجنة وما فيها من محاسن وما فيها من سعادة وما فيها من متعة وما فيها من ديمومة فيقول: إن هذه الجنة لا موت فيها، فأهلها لا يموتون فيها إلا الموتة الأولى، فالموتة الأولى التي كانت في الدنيا لا تعاد لهم مرة ثانية، ولن تكون، فقد قال عليه الصلاة والسلام وقد سئل هل ينام الإنسان في الجنة: (النوم من الموت، ولا موت في الجنة).
وأخبر عليه الصلاة والسلام بأنه يؤتى بالموت في صورة كبش، فيذبح ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ويقال لأهل النار: خلود فلا موت، فالجنة لا موت فيها ولا بؤس ولا شقاء ولا ملل ولا كلل ولا سأم، وهم خالدون فيها أبداً سرمداً.
فيقيهم الله ويحفظهم ويصونهم من عذاب الجحيم الذي يُعذب به سكان النار والجحيم، فسكان الجنة يكونون بعداء عن هذا العذاب، فيقيهم الله ويحفظهم ويبدلهم بالعذاب نعمة وبالمحنة راحة، لهم فيها مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.(323/2)
تفسير قوله تعالى: (فضلاً من ربك ذلك هو الفوز العظيم)
قال تعالى: {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان:57].
يكون ذلك فضلاً من الله وكرماً لا لعمل عملوه، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمن لا يدخل الجنة بعمله، فقيل له: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) فالله قد تفضل على المؤمن قبل أن يخرج إلى هذا العالم، فكتب في اللوح المحفوظ أنه سعيد.
فدخول الجنة فضل من الله وكرم منه لا لعمل عملوه، على أن العمل نفسه تفضّل الله به على الإنسان، فعمل صالحاً فجازاه على هذا الصالح، وقديماً قال الحكماء في الرقائق والآداب: إذا أراد أن يُظهر فضله عليك خلق ونسب إليك! قال تعالى: {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان:57] وذلك الفوز بوقاية الله لساكني الجنة من العذاب، وحفظه لهم من الجحيم، وإكرامه لهم بخيرات الجنة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك كله فضل من الله وكرم من الله، لا لعمل عملوه.
على أن العمل نفسه - كما قلت - فضل الله تعالى وتوفيق، فالكل فضل منه وإليه، وكون النبي يقول عليه الصلاة والسلام: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، هو ما قال الله له: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113].
فالله أعلم حيث يجعل رسالاته، وهو الذي اختار العبد قبل خروجه إلى هذا الوجود للرسالة، واختاره للجنة، واختاره للصلاح، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد) أي: تفضل الله على نبينا بالرسالة وبالنبوة وآدم لم تزرع فيه الروح بعد، ولم يصبح بشراً سوياً بعد، فكان ذلك من فضل الله، لا بعمل عمله.
وقال: (إني لرسول الله وآدم بين الماء والطين).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورؤيا أمي، رأت عندما ولدتني نوراً يخرج منها أضاءت له قصور الشام) وهو حديث صحيح مخرّج عن جماعة من الصحابة وفي أمهات السنة.
وقد كان عليه الصلاة والسلام مقدرة رسالته، ومقدرة نبوته، ومقدرة أفضليته على الخلق قبل أن يخرج إلى هذا الوجود، فاستجاب الله لدعوة أبيه إبراهيم، وبشّر به عيسى، ورأت أمه عندما ولدت نوراً يخرج منها يضيء له قصور الشام، وذلك لا بعمل، ولكن كان فضلاً من الله وكرماً.
يقول تعالى: {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان:57] فذلك الفضل يكون بفوز المؤمن بالابتعاد عن النار وبدخول الجنة ذلك، وهو الفوز الذي ليس بعده فوز، وهو أعظم فوز في الوجود، أي: أن يكون الإنسان قد أُنقذ من النار وأدخل الجنة.(323/3)
تفسير قوله تعالى: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون)
قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان:58].
أي: فإنما يسّرنا القرآن بلغة العرب، يسره الله وسهّله وعلّمه الناس بلغة العرب، وأنزله على العرب أولاً، ثم على الناس كافة، فالعرب أعلم الناس به وبحقائقه وبما جاء فيه عن الله وعن رسل الله.
فيسّر القرآن بلغة العرب ليعلمه العرب أولاً {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، وليعلموا حقائقه، وليعلموا حلاله وحرامه، وكان العرب بعد ذلك رسل رسول الله إلى الناس كافة.
فمات صلى الله عليه وسلم وذهب إلى الرفيق الأعلى وما كان قد أسلم من أمته إلا سكان جزيرة العرب، ثم خرج الإسلام من جزيرة العرب إلى الأرض كلها، إلى أرض الروم، وإلى أرض فارس، وإلى أرض البربر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى العرب أولاً ثم إلى الناس كافّة، وكان العرب رسل رسول الله إلى غير العرب من الناس، فنشروا دين الله، ونشروا كتاب الله، وبذلوا الأرواح في سبيل ذلك.
ومن هنا يقول عليه الصلاة والسلام: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فلهؤلاء من الأجر والثواب ومن الفضل والإكرام ما الله به عليم.(323/4)
تفسير قوله تعالى: (فارتقب إنهم مرتقبون)
قال تعالى: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان:59].
أي: انتظر -يا رسولنا- نصرك ونشر دينك، وانتظر هزيمة أعدائك، فهم كذلك يرتقبون وينتظرون.
أولئك ينتظرون موته، وهل موته سيقف حائلاً دون نشر الإسلام، ودون نشر كلمة لا إله إلا الله، ودون نشر كتاب الله؟! هيهات هيهات، لقد ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وانتشر بعده الإسلام انتشاراً لم ينتشر في حياته، فهؤلاء يرتقبون موته ولا يرتقبون وينتظرون - في الحقيقة - إلا ذلّهم وهوانهم وعذابهم والبطش بهم وإذلالهم.
وهكذا كان، فارتقب يا رسول الله، وارتقب أيها المؤمن، فالنصر لدينك، والنصر لك ولكل المؤمنين على الكفرة المفسدين أعداء الله ورسوله والمؤمنين، فهؤلاء يرتقبون موتك، ولن يكون موتك راحة لهم، بل سيذلون ويُهزأ بهم ويقهرون أكثر، فهم ينتظرون القهر والإذلال والضياع، وأنت تنتظر النصر والعز ونشر دينك ونشر كتاب ربك المنزل عليك، ونصرة أتباعك في مشارق الأرض ومغاربها.
وهكذا كان، فما أتت السنة الثامنة من الهجرة حتى فُتحت مكة وطُرد كفارها وذلّوا وأصبح حراماً على الكافرين دخول مكة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28].
ثم حرّم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك دخول المدينة المنورة، كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عند موته بأن يُخرج اليهود والنصارى جميعاً من جزيرة العرب، وأوصى بألا يبقى في الجزيرة دينان، وقد انبرى لهذا عمر رضي الله عنه، فأخرج يهود المدينة من الجزيرة، وأخرج نصارى نجران واليمن من الجزيرة، وبقيت جزيرة العرب خاصة بالموحدين.
كما أمر عليه الصلاة والسلام بإخراجهم من العالم الإسلامي، بدليل قوله: (لا تصلح قبلتان في أرض) وكلمة (أرض) نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم، أي: عموم أرض الله التي يستقبل أهلها الكعبة، والتي يدين أهلها بدين الإسلام، فلا يجوز أن يكون مع دين الإسلام غيره، ولا مع الكعبة غيرها.
ولكن بعض من جاء بعد الخلفاء الراشدين فرّط، وأذن لأعداء الله من اليهود والنصارى بالمقام في المجتمع الإسلامي، بحكم الأرض حكم كسرى وقيصر!(323/5)
تفسير سورة الجاثية [1 - 8]
القرآن الكريم تنزيل الله العزيز الحكيم الذي بث آياته في السماوات والأرض، ففي خلقنا آيات، وفي أرزاقنا آيات، وفي اختلاف الليل والنهار آيات، فلا يكفر بالله إلا كل أفاك أثيم.(324/1)
حكم قراءة البسملة مع الفاتحة في الصلاة
هذه سورة الجاثية، وهي تشتمل على تسع وثلاثين آية، وهي سورة مكية، أي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة.
ويقال: سورة مكية وسورة مدنية، فما نزل بمكة فهو مكي، وما نزل بالمدينة فهو مدني، وما نزل بينهما إن كان وهو في مكة فهو مكي، وإن كان في طريقه إلى المدينة فهو مدني، وليس في القرآن إلا مكي أو مدني.
وقبل بداية السورة تقرأ البسملة، والبسملة لم تنزل في سورة مقطوعاً بها إلا في سورة النمل في ذكر الرسالة التي أرسلها سليمان إلى بلقيس ملكة اليمن، في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30].
وذكر البسملة في أوائل السور من باب التيمن والتبرك بهذه الآية الكريمة، ومن هناك تنازع الفقهاء في قراءة البسملة مع الفاتحة في الصلاة، فقالت المالكية: لا تقرأ، وقالت الحنفية: لا تقرأ، واختلف في النقل عن الحنابلة كالعادة، وقالت الشافعية: تجب قراءتها، ودليل الشافعية ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شرع في الصلاة فقال: الله أكبر، {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1 - 2].
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الله أكبر {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وهذا دليل من قال: لا تجب قراءة البسملة مع الفاتحة.
ولكن علماء الأصول يقولون: المثبت مقدم على النافي، فمن نقل قراءة (بسم الله الرحمن الرحيم) فقد أثبت ما سمعه، وهو ثقة في الرواية، فيجب قبول الرواية، ومن لم ينقل ذلك فإنه لم يسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بسم الله الرحمن الرحيم)، وكونه لم يسمع ليس حجة على من سمع، ولذلك فإن القاعدة الأصولية: (من سمع حجة على من لم يسمع)، فقراءة البسملة ثبتت عمن سمعها من الأصحاب رضي الله عنهم، وثبتت في وصف الصلاة للمسيء صلاته عندما صلى مستعجلاً غير مطمئن، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ارجع فصل؛ فإنك لم تصل) أي: أعد صلاتك؛ فصلاتك ليست بصحيحة، فأعاد ثم أعاد، ولم يأت إلا بصلاة فاسدة، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله! علمني.
فقال: (توضأ ثم استقبل القبلة، ثم قل: الله أكبر، ثم اقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1 - 2]) إلى آخر الصلاة من ركوع وجلوس وسجود وقيام وتكبير وسلام.
فالنبي عليه الصلاة والسلام ثبت عنه أنه بسمل في قراءة الفاتحة، فهي رواية عملية، وثبت أنه قال: للمسيء صلاته: (قل: الله أكبر {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1 - 2]) فقراءة البسملة مع الفاتحة وردت بها الأحاديث العملية، والأحاديث القولية، وما ورد من خلاف ذلك فهي رواية من لم يسمع، ومن لم يسمع ليس بحجة على من سمع.(324/2)
تفسير قوله تعالى: (حم)
قال تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:1 - 2].
قوله تعالى: {حم} [الجاثية:1] مضى في السور قبلها أن هذه من الحروف المقطعة، وأنها من حروف الهجاء الأبجدية، وأن القرآن ألف وركب منها، فالكلام الذي تكلم به مشتمل على حروف الهجاء الأبجدية العربية، والقرآن على إعجازه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله -بل ولا الخلق كلهم، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً- لم ينظّم ولم يركب إلا من هذه الحروف، وهي حروف اللغة العربية التي يعلمها كل من يعلم لغة العرب، ومع ذلك تحداهم الله منذ (1400) عام في أن يأتوا بمثل هذا القرآن في سورة، ولم يفعلوا ولن يفعلوا، وقد مضى على هذا التحدّي 1400، عام وسيبقى التحدي قائماً، وسيبقى الإعجاز موجوداً، وذلك من معجزات القرآن، ومن أعظم الأدلة القاطعة على أنه كلام الله، فلن يستطيع مخلوق -سواء أكان ملكاً أم جنياً أم إنسياً- أن يأتي بمثله أو ببعضه في حال من الأحوال قط.(324/3)
تفسير قوله تعالى: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)
قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:2].
هذا الكتاب هو تنزيل من الله ووحي من الله، وليس هو كما زعم الكافرون، ولا كما زعم المنافقون أنه قول محمد صلى الله عليه وسلم وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، فمعاذ الله من ذلك، بل هذا كذب وإفك وبهتان.
وقوله تعالى: {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:2] أي: هو كلام الله العزيز الحكيم.
العزيز الذي لا يقاوم، العزيز الذي لا ينال في كلامه ولا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، فكل بحكمة، وكل لفائدة، وليس في أفعاله شيء باطل قط، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:38 - 39] فليس هناك شيء خلق عبثاً، وليس هناك شيء خلق باطلاً، بل كل شيء لحكمة ولفائدة.
وقوله تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ} [الجاثية:2].
الكتاب: هو القرآن الكريم، والألف واللام للعهد الذهني، أي: الكتاب الذي يتكلم عنه هو كتاب الله، وهو الكتاب الذي ورد وصفه ونعته وأنه كلام الله الحق.
وقوله تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:2] أي: هذا الكتاب هو تنزيل موحىً به إلى قلب عبده ونبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، نزل به عن الله جبريل روح الأمين على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم.(324/4)
تفسير قوله تعالى: (إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين)
قال تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية:3].
يلفت ربنا نظر العاقلين والمؤمنين إلى هذه الأرض وما عليها من جبال، ووهاد، وبحار، وتلال، وجذوع، ودواب، وطير، وجن، وإنس، وإلى السماوات والأرض وما فيها من نجوم وأفلاك ومجرات لا يحصي عددها إلا الله، وهي محمولة بغير عمد نراها، فلا عمد لها، بل هي قائمة بقوة الله وبقدرة الله لا تحتاج إلى ما يحملها.
ولو جئنا ببناء من بيت أو غرفة وأردنا أن نحمله على غير عمد لسقط ولعجزنا عن بنائه، ولكن الله الكريم حمل السماوات السبع وما فيهن وما بينهن، وحمل الأرضين السبع وما فيهن وما بينهن بغير عمد، ويرى ذلك كل ذي عينين، فهل هذا أمر يعجز الإنسان عن أن يفكر فيه، وأن ينظر في حكمته، وأن ينظر في آياته؟! ألم يدر بعقل المرء يوماً في ساعة من الساعات أن يقول: من خلق هذا؟! من حمله بغير عمد؟! كيف قام الله برزق هؤلاء جميعاً؟! كيف لم يعجزه رزق الخلق كلهم وكفايتهن وتدبير أمورهم والقيام عليه؟! إن الملك في الأرض -مهما كانت دولته عظيمة، ومهما كانت خزائنه عامرة- لو كُلِّف بأن يُطعم رعيته لعجز عن ذلك، ولماتوا عطشاً وجوعاً، ولكن الله الخالق الرازق لا يعجزه ذلك، فهو الذي خلق كل الخلق، وهو الذي يدبر أمورهم، وعليه حياتهم ومماتهم ورزقهم وصحتهم وضعفهم، وكل ما هم في حاجة إليه.
فالمؤمنون يتفكرون في هذا ويعون هذا ويدركون أسرار هذا ويتخذون من ذلك علامات بينات وآيات واضحات على قدرة الله ووحدانية الله، وأنه القادر على كل شيء المدبِّر لكل شيء، الرازق لكل شيء، المحيي المميت لكل شيء.
يقول تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية:3] أي: إن في هذه السماوات والأرض لآيات وعلامات واضحات معجزات بينات دالة على قدرة الله ووحدانية الله، وأنه الخالق لكل الكون وحده، لم يعنه على ذلك أحد ولم يحتج إلى أحد.(324/5)
تفسير قوله تعالى: (وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون)(324/6)
معنى قوله تعالى: (وفي خلقكم)
قال تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:4].
قوله تعالى: (وفي خلقكم) ألم يفكر أحدنا في هذا المعنى يوماً؟! فكيف تنظر العين فيما تراه من آلاف القطع والأجزاء؟! وكيف تسمع الأذن؟! وكيف يشم الأنف؟! وكيف يطعم اللسان؟! وكيف تمضغ الأسنان؟! وكيف يقدِّر العقل ويفهم؟! وكيف نمشي على هاتين الرجلين تحمل أجسامنا على طولها وعرضها؟! وهذه اليد كيف نحركها؟! فالأصابع منها لشيء، والكف لشيء، وبقية اليد لأشياء أخرى.
والصدر فيه القلب والكبد والرئة والأمعاء، وبعض هذه الأعضاء لو توقف ساعة لهلك الإنسان، ويدخل الطعام إلى المعدة فيطحن طحناً جيداً، ويمر بعض ما يستخلص منه على الكبد، وعلى الطحال، ويمر على قنوات، يدخل لذيذاً طيباً ويخرج قذراً منتناً، وأنت أول من يكرهه ويبتعد عن رائحته، يؤخذ اللب فيتغذى منه الجسد، وتبقى الفضلات فترمى إلى الأرض، ومن عجيب أمر الله أن تلك الفضلات القذرة يتغذى بها بعض الخلق، كالجراثيم مثلاً.
يقول تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ} [الجاثية:4] أي: في خلق أنفسكم، وكان أبوكم الأول من تراب، وبقي دهراً وهو أجوف، يدخل الشيطان من دبره ويخرج من رأسه وهو يعجب ويقول: ما هذا التمثال إلا لشيء أراده الله، وإذا بهذا التمثال يصبح بشراً سوياً ناطقاً متكلماً ذا حواس وشكل جميل يعقل ويدرك وينطق ويفهم.
ثم خلق بعده أمنا حواء من ضلع أبينا آدم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم خلق الخلق بعد ذلك من نطفة تكون بذرتها في أصلاب الرجال ويكون زرعها في أرحام النساء، ولا بد لكل مخلوق بعد ذلك من رحم وصلب.
وغير الله سنته فخلق عيسى من أم بلا أب، فقال عنه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، فخلق آدم من التراب، وقال لعيسى: (كن) من نفخة نفخها جبريل في جيب مريم، فكان جميلاً في رحمها، ومضت عليه الأشهر التي يولد لمثلها الأطفال، وهي تسعة أشهر، فمن فعل ذلك؟! ومن خلق ذلك؟! ومن دبر ذلك؟! فهل يفكر أحدنا يوماً في هذا؟! أما المؤمنون فنعم، فهم يعلمون هذا علم يقين، يعيشون به مؤمنين، ويعيشون به مصدقين، ويعيشون به موقنين، وليس كذلك الكفرة، فمن بلادة عقولهم وسخافة نفوسهم يرون هذا، وتتسلسل رؤيته في الآباء والأجداد والأولاد والأسباط، ومع ذلك لا يخرجون بمعرفة كيف كان ذلك ومن صنعه، وقد يقول كافر: صنعنا من هذه النطفة.
فنقول: ومن خلق النطفة؟! ومن كون النطفة؟! ومن جعله أطواراً من علقة إلى مضغة إلى بشر سوي، ثم إلى طفل رضيع ثم إلى طفل يحبو، ثم إلى طفل يقف على قدميه، ثم إلى يافع، ثم إلى شاب بالغ، ثم إلى مكلف بالحلال والحرام من الرسل ومن كتب الله، ثم إلى كهل، ثم إلى شيخ، ثم يعود إلى التراب، قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:14] فمن الذي خلقنا في هذه الأطوار وشكّلنا ونوّعنا؟! أليس هو الله جل جلاله؟!(324/7)
معنى قوله تعالى: (وما يبث من دابة)
قوله تعالى: {وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ} [الجاثية:4].
أي: وما نشر في الأرض وبث ووزع مما يدب على وجه الأرض على رجلين أو على أربع أو يزحف زحفاً على بطنه، أو يطير بجناحين، فكل دابة من خلقها؟! ومن صنعها؟! ومن صورها؟ فكل هذه علامات بينات ودلائل واضحات لا يردها إلا أعمى البصيرة الجاهل جهلاً مركباً، فهو جاهل ويجهل أنه جاهل.
ولذلك يلفت الله جل جلاله أنظارنا إلى شيء نراه في إصباحنا وفي ممسانا وفي نهارنا وفي ليلنا وفي اجتماعنا وفي وحدتنا، ولا يتجاهله إلا أعمى البصيرة، فيقول تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ} [الجاثية:4] أي: ما يبث في الأرض ويزرع وينشر ويخلق من دابة، و ((مِنْ)) للاستغراق، أي: من كل ما يدب على وجه الأرض من إنسان ناطق، أو حيوان غير ناطق، وإن كان الخرس في الحيوانات نسبياً، فهي تتكلم بما يفهم به بعضها بعضاً.
وقد يُفهم الله كلامهما لمن أراد، كما كان أفهم سليمان منطق الطير، وكما قد يحدث ذلك بمعجزة، كما حدث لنبينا عليه الصلاة والسلام، فقد أفهمه الله تعالى منطق الجمل ومنطق الضب ومنطق البقرة، بل ومنطق الجماد في الجذع الذي تركه حين وصنع له غيره، فكان لذلك الجذع تألم وتوجع وصوت حيث تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم من بركة رجليه ومن بركة كلامه، ففهم منطق الجماد، فكيف بالحي الذي يُرزق من دابة أو طير؟! وكيف بالإنسان؟! وقد كلمته الجن، وسمعت تلاوته، وآمنت به وبالكتاب الذي أنزل عليه، وبالوحي الذي آتاه الله إياه.(324/8)
معنى قوله تعالى: (آيات لقوم يوقنون)
يقول تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:4].
ففي ذلك آيات وعلامات ودلائل واضحات وبراهين ساطعات على قدرة الله ووحدانية الله وأنه القادر على كل شيء، ولذلك قالوا عن الحواميم: هن بساتين القرآن؛ لكثرة ما فيها من كلام عن التوحيد وعن أهل الجنة وعن أهل النار، وعن وصف أهل النار ووصف أهل الجنة، ووصف النار ووصف الجنة.
فهنا يعدد الله تعالى علينا آياته البينات وبراهين قدرته الساطعات، ثم يقول: {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:4] أيقنوا بالحق، وأيقنوا بالصدق، وأيقنوا بالله واحداً، وأيقنوا بمحمد نبياً ورسولاً، وأيقنوا بالقرآن كتاب صدق وكتاب حق من الله جل جلاله.(324/9)
تفسير قوله تعالى: (واختلاف الليل والنهار)
قال تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:5].
ومن الأدلة اختلاف الليل والنهار، فالليل قد يقع أربع عشرة ساعة، وقد يقع أقل منها، وكذلك النهار، وهناك ليل يأتي أطول من ذلك، ونهار يأتي أطول من ذلك، وهناك نهار يكون في شدة الحر، ونهار يأتي في شدة البرد، وهناك ليال تأتي في فصل الربيع وفصل الخريف، وهناك ليل بارد شديد البرودة، وليل حار شديد الحرارة، ونهار كذلك، كما تختلف أحوالهما والكون واحد، والدنيا واحدة، والخالق واحد جل جلاله، فاختلاف الليل والنهار، واللغات والألوان، والأزمان والأمصار، كل ذلك بأمره، وكل ذلك بقدرته، وكل ذلك بإرادته.
وقوله تعالى: {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ} [الجاثية:5] الرزق هنا الماء؛ فبه تنبت المزروعات، وتنبت النباتات، وتنبت الأشجار، وتعيش الدواب فتعطيك من لحمها ومن جلدها ومن حليبها ومن سمنها.
يقول تعالى: {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ} [الجاثية:5] أي: من مطر {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الجاثية:5] وقد كانت لا تنبت، وإذا بنا نرى النبت قد أخذ يهتز ويربو ويعلو، فتعطي الأرض الناس من ثمارها، ومن ورودها وأزهارها، ومن فواكهها، ومن الخيرات والأرزاق بسبب هذا المطر الذي أنزله الله ورزق به الإنسان والحيوان والطير، فمن الذي أنزل ذلك؟! ومن خلق ذلك؟! ومن رزقنا بذلك؟! لو فكر الإنسان في ذلك قليلاً لما احتاج إلى كثير علم ولا إلى كثير عقل، وسيفهم الحقائق كلها بلا تفهيم ولا تعب، وسيعلم خالق كل هذا هو الله الذي أحيانا وخلقنا ونوع الليالي والأيام، وخلق السماوات والأرض، وخلق الدواب، وأنزل الأمطار.
وقوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} [الجاثية:5] هذه الرياح منها رياح عقيمة لا تأتي بشيء، ورياح ملقحة تلقح الأزهار ذكرانها بإناثها فتعطي الطعم والثمر، ورياح تسقط الأوراق في الخريف، ورياح تأتي عاصفة تنقل الماء سحاباً من البحار، فينزله الله ماءً عذباً موزعاً على الأرض يحيي به الأرض بعد موتها.
وقوله تعالى: {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:5] أي: دلائل واضحات، وآيات بينات، على قدرة الله جل جلاله وعلى وحدانيته وعلى أنه استغنى عن الشرك في الذات والصفة والأفعال، هو الذي يفعل كل شيء بمحض قدرته وإرادته ووحدانيته، لا يحتاج إلى أحد، وكل شيء يحتاج إليه.(324/10)
تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق)
قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6].
قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} [الجاثية:6] أي: تلك -يا رسول الله، ويا أيها المؤمن- آيات من آيات الله ذُكرت لك، فخلق السماوات والأرضين، وخلق الإنسان، وخلق الدواب، وإنزال الأمطار، واختلاف الليل والنهار، وتصريف الرياح، كل ذلك آيات بينات وعلائم واضحات ودلائل قاطعات على وحدانية الله.
وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} [الجاثية:6] أي: تلك آيات الله، وتلك قدرة الله، وتلك إرادة الله، وتلك الدلائل القاطعة على معرفة الله بوحدانيته وقدرته وأنه لا شريك له.
{نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} [الجاثية:6] نقرؤها عليك، وننزلها عليك بالحق الذي لا باطل فيه، والذي لا ينكره إلا مبطل، متلاعب، مشرك، بعيد عن النور والحق.
قال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] فإذا لم يؤمنوا بهذه الآيات المتلوة نهاراً وليلاً؛ فما هي الآيات التي سيسمعونها، أو الآيات التي سيؤمنون بها، أو الآيات التي سيرونها الدلائل القاطعة التي تحتاج إلى إيمان وإلى استمساك وإلى معرفة.
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6]، فبعد هذا الذي تلاه الله في الكتاب، وقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات هي أعظم من هذه، وهي أشمل من هذه، وهي أقوى دليلاً من هذه؟! والاستفهام إنكاري توبيخي، أي: ليس بعد هذه الآيات آيات، ولا بعد هذه الأدلة أدلة، ولا بعد هذه البراهين براهين، ولا بعد القرآن كتاب الله كتاب يمكن أن يؤمنوا به، وقد كفروا بهذا القرآن، كفروا به متلواً، وكفروا به مسموعاً، فما زادهم جماله وبيانه إلا الخسران والعصيان والتمرد.
فقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] استفهام إنكاري صريح، أي: إذا لم يؤمنوا بهذه الآيات البينات فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بعد كلام الله ودلائل قدرة الله، ورسل الله وما أتوا به من بينات، وبأي دليل، وبأي كتاب، وبأي رسول سيؤمنون بعد هذا إذا أنكروه وكفروا به؟!(324/11)
تفسير قوله تعالى: (ويل لكل أفاك أثيم)
قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية:7].
أي: الويل له في جهنم من صديد ودماء المعذبين والمعذبات، ومن صديد الفواجر في النار، فهذا دعاء عليه بأن يكون الويل شرابه ونهره الذي يعيش عليه في النار، والمعنى يا ويل هؤلاء، أي: يا ما أعظم مقامهم ذلاً وهواناً وعذاباً في النار.
و (أفاك) صيغة مبالغة، أي: كثير الإفك، كثير الكذب، كثير البهتان، يكذّب بالحق إذا جاء وكتاباً وسنة ورسولاً ودلائل واضحة، فويل لكل أفّاك أثيم.
(وأثيم): مرتكب للآثام، أي: مجرم، أي أن حياته كلها آثام، أي: ذنوب ومعاص، ومخالفات وتحد وتمرد على الله وعلى رسل الله وكتب الله.(324/12)
تفسير قوله تعالى: (يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً)
قال تعالى: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:8].
قوله جل جلاله: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} [الجاثية:7 - 8] أي: هذا الذي له الويل من النار يسمع آيات الله تتلى عليه، ويسمع كتاب الله يُقرأ عليه، ويسمع بيان رسول الله في شرح وتذكير وبيان لكتاب الله.
{ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية:8]، ثم يصر على الكفر وعلى العناد، وعلى الآثام، وعلى الشرك، ويفجر وكأنه لم يسمع شيئاً؛ لإصراره على الكفر وعلى العصيان والآثام تعاظماً على الله، وتكبراً على رسول الله، وتعالياً على خلق الله من المؤمنين، فيعرض عنها ويصر على حاله مع تكبر وطغيان وكأنه لم يسمع كتاب الله، ولم يسمع حديث رسول الله، ولم يسمع من الآيات قليلها ولا كثيرها.
قال تعالى: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:8] أي: بشّر هذا الأثيم، وبشِّر هذا المتكبر المتعالي، وبشِّر هذا الذي يسمع كلام الله ثم يعرض عنه ويتكبر عن سماعه وعن الإفادة منه ويعرض كأنه لم يسمع ذلك، بشّره بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، والبشرى هنا من باب الهزء به، وإلا فالبشرى تكون في العمل الطيب.
وقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:8] أي: بشره يوم القيامة بعذاب مؤلم، وبعذاب موجع، وبخلود في النار ليس لهم فيها إلا العذاب والهوان والويل.(324/13)
تفسير سورة الجاثية [7 - 13]
إن الذي يسمع آيات الله المباركات ثم يعرض عنها، وإذا علم منها شيئاً اتخذها هزواً قد أعد الله له الويل لما تحلى به من الإفك، وجعل من ورائه جهنم، فلا يغني عنه من عذابها شيء، لأن الله أنزل له الكتاب المبين وسخر له ما في السماوات وما في الأرض فأبى إلا أن يكفر بالله العظيم.(325/1)
تفسير قوله تعالى: (ويل لكل أفاك أثيم)
قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:7 - 8].
(أفّاك): كذاب كثير الكذب.
و (أَثِيمٍ): كثير الإثم في فعله، فالويل لمن كانت هذه صفته، فهو كاذب في الحديث آثم في العمل، وهي صفة كل كاذب كافر مشرك بالله، لا يؤمن به ولا بآياته.
والويل: نهر في جهنم يكون من صديد أهلها ومما يخرج منهم مما يستقذر في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية:8].
هذا الآثم الأفّاك يسمع كلام الله، ويسمع القرآن، ويسمع التوحيد، ويسمع الدعوة المحمدية، ويسمع ما أنزل ربنا وما أتى به نبينا من كتاب وسنة، وبعد سماعه لكل ذلك يبقى مصراً على الكذب، مصراً على الكفر، وإصراره عناد، وإصراره كبرياء وتألٍّ على الله، وبعد عن صفات المؤمنين المسلمين، فهو يسمع القرآن الكريم، ويسمع معجزات الأنبياء، ويسمع أحكام القرآن من حلال وحرام، وصفة الجنة وصفة النار، وأهل جنة وأهل نار، ثم بعد ذلك يصر مستكبراً على إفكه وعلى كذبه وعلى نفاقه.
قال تعالى: {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية:8] فيصر على كبره وكأنه لم يسمع آية من كتاب الله ولا حديثاً عن رسول الله، ولا حكمة توصله إلى الحق وتبعده عن الباطل، فإذا بكل ما يُسمع من كتاب الله وسنة رسوله لا يزيد هذا الأفّاك الأثيم إلا إصراراً على الكبرياء وعلى الكفر وعلى الإثم، وعلى البعد عن الله ورسل الله.
قال تعالى: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:8].
أي: بشِّر هذا الآثم، وبشِّر هذا الأفّاك وهذا المتعالي على الله وكتابه، وهذا الذي كأن به وقراً فلا يكاد يسمع، وإذا سمع لا يكاد يعي ولا يفهم، بشِّره بعذاب أليم.
والبشرى هنا من باب الهزء به؛ إذ لا تكون البشرى إلا بما يستحسن، وما تطيب له نفس الإنسان، فإذا قيل بشر بالويل والبلاء والعذاب كان هذا هزءاً به، فهي بشرى للكافرين وبشرى للآثمين وبشرى للأفّاكين على الله ورسل الله.(325/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً)
قال تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية:9].
أي: سمع من آيات الله ووعى وحفظ يحفظ ذلك بلا وعي وبلا علم وبلا إيمان، ويتخذ ما يحفظ هزءاً وسخرية، والكفر يعيد نفسه كما يعيد التاريخ نفسه أبداً، فقد كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يسخر أبو جهل ويسخر الوليد بن المغيرة وغيرهما من طغاة الكفار، وليس هذا خاصاً بالعرب ولا بقريش، بل هو عام في كل كافر، فإذا سمع من هذه الآيات ومن هذه الأحكام كافر شيئاً اتخذها موضع هزء وموضع لعب وموضع سخرية.
وملة الكفر واحدة، سواء كانت نصرانية أم كانت يهودية، أم كانت وثنية، فكلها من وحي الشيطان ومن أعماله ومن وسوسته ومما يوحي به من الكفر والمخالفة والعصيان والتأني على الله.
يقول تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا} [الجاثية:9] فإذا سمع بعض هذه الآيات وحفظ بعضها اتخذها هزءاً وسخرية عوضاً عن أن يتخذ الموعظة للهداية وللإيمان، فإذا به لا يهتدي الناس به، بل يضلون به؛ لأن كفره غلب نوره، فلم يبق له نور، إن هي إلا ظلمات بعضها فوق بعض.
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية:9].
كان الكلام عن فرد، ولكن قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية:7] هو موضع الجمع، يعني الأفّاكين جميعاً والأثيمين جميعاً، وهم الذين يفعلون هذا كل على حدة؛ فهؤلاء لهم عذاب مهين يذلهم ويهينهم ويحقّرهم.(325/3)
تفسير قوله تعالى: (من ورائهم جهنم)
قال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الجاثية:10].
فهؤلاء -على عذاب الله الموجع الأليم المهين المذل- مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ، وقد قيل: (من ورائهم) أي: من أمامهم.
ولا حاجة إلى هذا التأويل، بل من ورائهم يتبعهم التهديد والوعيد بالنار، فالنار خلفهم كيفما ذهبوا وكيفما تحركوا، فإذا ذهبوا إلى الآخرة فالنار خلفهم، وإذا حوسبوا بعد ذلك يدخلون النار والنار خلفهم، أي أن الحكم بالنار والحكم بالعذاب المهين شيء قائم لا مفر عنه يجري خلفهم كما يجرون خلف الكفر والإثم والمعصية والشرك.
قال تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الجاثية:10] فجمع الله لهم بين العذاب المهين والعذاب الأليم والعذاب العظيم، فهم في عذاب على كل أشكاله وأنواعه لتنوع كفرهم وتفنن شركهم من نسيان لما أنزل الله على نبيهم، ومن ترك لما حفظوه ووعوه، ومن هزء بما وعوه وحفظوه، ومن استكبار وإصرار على الباطل، فمن أجل ذلك يعذبون بأنواع العذاب الأليم والمهين والعظيم.(325/4)
تفسير قوله تعالى: (هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب)
قال تعالى: {هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الجاثية:11].
قوله تعالى: {هَذَا هُدًى} [الجاثية:11] الإشارة للقرآن الكريم، وإن شئت قلت: الإشارة للإسلام، وإن شئت قلت: الإشارة لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك معناه واحد، فالقرآن هو رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ودينه، ورسول الله هو الناطق عن الله بكتابه والشارح لآياته والمفسّر بسنته.
يقول تعالى: {هَذَا هُدًى} [الجاثية:11] فالقرآن هدى يهدي الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهداية، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [الجاثية:11] أي: بكتابه المنزل عليهم، ببيانه الحلال والحرام، وبأحكامه وقصصه حول المؤمنين والكافرين من الأمم السابقة والأمم اللاحقة {لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الجاثية:11].
والرجز: العذاب في منتهاه.
والرجز: القذارة.
والرجز: النجاسة.
والرجز: الألم.
فهذه الكلمة تحتها جميع أنواع عذاب الله الأليم والمهين والعظيم والذي يستقذر والذي لا تقبله نفس طاهرة، والذي يلزم الكافر حيث كان، فهؤلاء هذا حالهم لكفرهم ومخالفتهم لربهم وطاعتهم لشيطانهم.(325/5)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره)
ثم أخذ ربنا يعدد نعمه على الناس فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية:12].
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ} [الجاثية:12] أي: ذلّله للركوب، وذلّله للأسفار، وذلّله للسباحة، وذلّله للصيد، وذلّله لاستخراج ما في باطنه من أنواع الثروات والكنوز التي يعيش بها الإنسان على وجه الأرض.
وهذا البحر صدق فيه وصفه عمرو بن العاص لـ عمر بن الخطاب عندما سأله: صف لي البحر؟ فقد طلب منه معاوية أن يغزو الأعداء والكفار وراء البحار، فقال عمر لـ عمرو: صف لي البحر، فقال عمرو: داخله مصفود والخارج منه مولود، يركبه خلق ضعيف دود على عود.
فقال عمر: والله لن أرسل جيشاً في البحر ما دمت حياً.
فـ عمرو نفّر عمر بهذا الوصف، وكان عمر حريصاً على أرواح جنده وعلى حياة المؤمنين، فقد يهون أن يموت واحد، ويمكن أن لا يموت إذا اقتضى الأمر ذلك، أما أن يصبح الجيش داخل البحر كله في خطر الغرق فهذا ما كان يخشاه عمر، ولذلك لم يبعث جيشاً مدة حياته ليحارب إلا في البر، ولكن البر الذي حارب فيه اكتسح فيه أقاليم وشعوباً وأراضي في المشرق والمغرب، ففتح الشام، وفتح العراق، وفتح فارس، وفتح مصر، وفتح المغرب أرض البربر، وكل ذلك لم يحتج فيه إلى بحر، ما كان يحتاج فيه إلا البر على الإبل والدواب، وقد فتح عمر في خلافته ما لم يفتح بعده.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ} [الجاثية:12]، أي: سخر هذا البحر وذلّله وطوّعه {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ} [الجاثية:12] والفلك: جمع لا مفرد له من لفظه، ومفرده من غير لفظه السفينة، فسخّره الله تعالى لركوب السفن والفلك لتجري في البحر بأمر الله وقدرة الله وإرادة الله، يقطع عليها ما بين القارات وما بين المشارق والمغارب.(325/6)
معنى قوله تعالى: (ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)
وقوله تعالى: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الجاثية:12] أي: من التجارة، ومن المكاسب، ومن السياحة، ومن طلب العلم، ومن صلة الأرحام، ومن نشر دين الله، ونشر علم الله، ونشر رسالة الله.
وكل ذلك قد حصل، فبواسطة البحار انتشر دين الإسلام، وانتشر الفاتحون من جند الإسلام من أراضي السند شرقاً إلى فرنسا غرباً، وبكل ذلك بشّر المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما أخبر بأن الله جل جلاله كشف له عن الأرض التي تفتح لأمته، فكشف له عن المغرب، وعن المشرق، وعن الهند، وعن السند، وعن بلاد العجم، وعن بلاد الفرس، وعن بلاد الروم، وبحار خاضها الدعاة إلى الله بالسفن، وخاض بعضها بعضهم سباحة، واستشهد من أكرمه الله بالشهادة فيها، وما رد ذلك مجاهداً عن جهاده ولا عن دعوته.
وكل ما ذكر من الدعوة والجهاد في سبيل الله مما بشِّر به صلى الله عليه وسلم في حياته، ولم يفتح في حياته إلا جزيرة العرب، فدخل العرب جميعاً في دين الإسلام، ودانوا بكلمة (لا إله إلا الله)، ثم كانوا رسل رسول الله إلى الدنيا كافة، فابتدأ الفتح من أيام الخليفة الأول أبي بكر، ثم مات رضي الله عنه، فأتم العمل ذلك الضرغام الأسد عمر بن الخطاب، فهو الذي أتم الفتح وفتح الكثير من البلاد التي لا يزال أهلها مسلمين إلى يومنا هذا.
وقوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية:12] أي: لعلكم تشكرون الله على نعمه التي منها تسخير لكم هذا البحر والسفن التي تجري عليه بما تريدون من معان كسبية مادية، ومن معان روحية في نشر دين الله ونشر العربية لغة كتاب الله ولغة نبي الله، فكم من أقطار لم تكن كذلك، فأصبحت عربية بالإسلام، وأصبحت العربية لغتها الأصيلة لا تعلم لغة سواها.(325/7)
تفسير قوله تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه)
قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13].
فسخّر الله للإنسان ما في السماوات من كواكب، وما في السماوات من أمطار، وما فيها من أرزاق، ما فيها من جو نقطع فيه ما بين الشرق والغرب والشمال والجنوب راحلين مسافرين، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8].
وأشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تحدث عن عيسى ونزوله من السماء، فأخبر بأن الناس سيركبون وسيأتون إلى مكة لأداء مناسك الحج على غير الخيل، ومعناه أنهم سيحجون على مراكب إذ ذاك لم تر، فهي ما أشار إليه القرآن وفهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشار إليه في حديثه بأن عيسى سيحج على غير الخيل، فهل سيحج طائراً كما نفعل نحن الآن؟! قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] فسخّر لنا ما في السماوات من أجواء نقطعها مسافرين راكبين، ومن أمطار وأرزاق يغيث الله بها الأرض فيحييها بعد موتها، ومن آلات حرب تكون دماراً وخراباً بأيدي أهل الخراب، وتكون صلاحاً وسلاماً بأيدي أهل السلام من المؤمنين المسلمين.
وسخّر لنا ما في الأرض من جبال ومن تلال ومن بحار ومن طير ومن دواب ومن كل ما هو على وجه الأرض، وذلّل لنا ذلك، فنحن نأكل من خضرتها ومن طيرها ومن حيواناتها، ونستفيد من كل ما على الأرض مما ذلّله الله وسخّره للإنسان، فمن سخّر ذلك؟! ومن ذلّل ذلك؟! ومن خلق ذلك؟! لم يفعل ذلك أحد إلا الله، فالله الذي ذلّل ذلك، فذلّل البحر، وذلّل الفلك، وذلّل ما في السماوات وما في الأرض وسخّره للإنسان لعله يشكر الله، ولعله يعبد الله، ولعله يدين بالتوحيد، وبكلمة (لا إله إلا الله) أشرف كلمة.
وفي الحديث: (أعظم ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله) وبغير قولها يكون الناس كفرة مشركين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، وهم في العذاب الخالد المهين.
يقول تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13].
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الجاثية:13] أي: في البحار وتسخيرها للإنسان، وتسخير الفلك والسفن، وتسخير الأفلاك والأجواء والأمطار والبحار والجبال والوهاد والتلال وما على الأرض وما فيها، كل ذلك آيات وعلامات لمن له عقل ولمن له فكر، ولا يتفكر المرء في ذات الله، ولكن يتفكر في خلق الله، فمهما تفكر المتفكر في الله فالله ليس كذلك، فكل ما يخطر ببالك فربنا مخالف لذلك.
فالمشروع أن نتفكر في السماء من خلقها، وفي الأرض من سوّاها، وفيما بينهما من خلقه وسخّره وذلّله لابن آدم؟ فسيخرج بنتيجة أن الله هو فاعل ذلك، وليس ذلك لأحد غير الله، فليس ذلك لشركاء ولا لأوثان ولا لأعوان، فلا شريك مع الله، ولا معين لله، ولا يحتاج الله جل جلاله وعز مقامه إلى حد.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13] يتفكرون في خلق الله وإرادة الله ووحدانية الله.(325/8)
تفسير سورة الجاثية [14 - 18]
كان الله قد كرم بني إسرائيل وفضلهم على العالمين، وأرسل إليهم رسلاً وآتاهم الكتاب والحكم والنبوة، لكنهم اختلفوا وتناحروا من بعد ما جاءتهم البينات.(326/1)
تفسير قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله)
قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية:14].
هذه السورة مكية، ولم يشرع القتال بعد، وقد أمر الله المؤمنين طيلة سكناهم في مكة أن يتحملوا ظلم الكفار وأذى الكفار ويصبروا على ذلك، فلعل منهم من يؤويهم ويقوى به جانب الإسلام، وهكذا ابتدأ الإسلام مدة ثلاثة عشر عاماً في مكة المكرمة بلا قتال ولا جهاد.
وكان صلى الله عليه وسلم قد أوذي بالقول، وأوذي بالفعل، ومع كل ذلك كان يأتي إليه المؤمنون يريدون الكفاح والجلاد ومقاومة الشر بالشر، فيقول لهم: (لم أومر بالقتال بعد)، وكان يمر على أسرة كاملة -وهم عمار بن ياسر وأبوه ياسر وأمه سمية - تعذب العذاب الأليم، ويرى ذلك، فلا يزيد على قوله لهم عليه الصلاة والسلام: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)، وهكذا حتى استشهدت سمية، وكانت أول شهيدة في الإسلام.
وتلك مفخرة للمرأة في الإسلام، فأول شهيد في الإسلام كانت امرأة تحمّلت العذاب وتحمّلت المكر وتحمّلت ما لا يتحمله الرجال الأقوياء، فصبرت إلى أن لقيت الله شهيدة موحدة.
قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية:14].
أي: قل -يا محمد- للمؤمنين: (يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)، أي: الكافرين الذين لا يخافون أيام الله، ولا يخافون عذابه، ولا يخافون نقمته، ولا يؤمنون بكتابه، ولا يؤمنون برسوله، ولا يؤمنون بالرسالة.
فأمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بأن يأمر المؤمنين ليغفروا وليصفحوا ولا ينتقموا ولا يعاملوا الكفار بالمثل، وكان هذا قبل فرض الجهاد، ولم يفرض الجهاد إلا في المدينة المنورة، وكانت أول آية نزلت من الله جل جلاله في ذلك هي قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39 - 40] فشرع القتال وأُذن فيه.
ومعنى ذلك أنهم استأذنوا رسول الله في الكفاح والجلاد والحرب، فلم يأذن لهم إلا في المدينة حيث أصبح لهم موطئ قدم في الدولة الإسلامية لتكوين الجيش، ولتكوين القوة، فلذلك أُذن لهم، كما أنهم كانوا في مكة قلة، وكانوا ضعافاً، فلو قاتلوا لقاتلوا من هم أكثر منهم بآلاف المرات، وهذا أمر لا يتم.
وبهذا نعلم أن في القرآن رداً على ما زعمه الكفرة والمنافقون من أن الإسلام انتشر بالسيف، فنحن نرى أن الفترة المكية على طول دعوة الإسلام فيها لم يكن فيها قتال ولا كفاح ولا جلاد، بل آمن الصحابة وأسلموا وهم تحت العذاب، وكل منهم كان معرّضاً صباحاً ومساءاً للقتل مع العذاب الشديد.
وقد قال أحد فلاسفة الغرب الكفرة: من زعم أن محمداً نشر إسلامه ودينه بالسيف فكأنه يقول: خرج رجل وحده في صحاري جزيرة العرب وحمل السيف وأخذ يقتل هذا ويضرب هذا ليدخلوا في دينه، ولا يقول مثل هذا الكلام إلا مريض العقل.
والأمر كذلك، والحق ما شهدت به الأعداء.
فقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية:14] أي: يصفحوا عنهم ويسامحوهم.
وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية:14] (قوماً) نكرة، وهي تدل على العموم، أي: ليجزي كل قوم بما كسبوا، والباء سببية، أي: بسبب كسبهم وأعمالهم يدخلون الجنة إن كانوا مؤمنين، وإن كانوا كافرين فالنار والعذاب الأليم، وهذا تهديد ووعيد لهؤلاء، أعلمهم أن الله تعالى يتولى جزاءهم بما كسبوه من كفر وشرك وظلم.
وقد فعل ربنا، فما كاد النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنون ينتقلون إلى المدينة المنورة حتى أذن الله بالقتال، فقاتلوا ومكروا بأعدائهم في غزواتهم التي لا تزال مسجلة على التاريخ وإلى أبد الآباد منذ غزوة بدر إلى غزوة حنين، وهذا في الغزوات النبوية المحمدية، ودعك من الغزوات الأخرى التي كانت أيام الخلفاء الراشدين التي فتحوا بها العالم خلال خمسين عاماً، فصار المسلمون معلمي الناس وحكام الناس، وكانت السلطة بأيديهم دون جميع الناس.(326/2)
تفسير قوله تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها)
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية:15].
يقول الله للناس: من كان عمله عمل الصالحين فلنفسه قدم الصلاح وقدم الرحمة وقدم الجنة وحفظها وصانها من اللعنة والعذاب الأليم، ومن أساء في الدنيا فعلى نفسها جنت براقش، فنفسها ظلمت، ولنفسها أساءت، وعليها كان العذاب الأليم.
فقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [الجاثية:15] أي: من عمل العمل الصالح؛ فمآله وأجره وثوابه لنفسه.
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [الجاثية:15] أي: ومن أساء من الخلق فعمل سوءاً وخالف وأشرك وعصى فنفسه أهان، ونفسه عذّب، ونفسه أخضع لعذاب الله الخالد يوم القيامة.
قال تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية:15]، فبعد أن يحسن إلى المحسن بالرحمة والجنة، ويساء إلى المسيء باللعنة والعذاب المقيم، سيكون الرجوع إلى الله، فسترجعون يوم القيامة إلى الله وإلى حسابه وإلى العرض عليه إما إلى جنة وإما إلى نار.
فمن تردد في يوم القيامة أو أنكره البتة فهو كافر حلال الدم، ومن أشرك بكلمة التوحيد ولم يقل: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فقد أذنب في حق نفسه وأساء عليها.
وهذه الدنيا قد يغتر فيها الحي ويقول فيها ما أملاه عليه هواه وشيطانه، ولكن يوم القيامة سيبعث كل الناس وسيعودون إلى ربهم لحسابهم في أعمالهم فإما إلى جنة وإما إلى نار.(326/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة)(326/4)
المعنى الإجمالي للآية
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:16].
إن الله جل جلاله كثيراً ما يذكر في الكتاب بني إسرائيل وما أعطاهم في أيامهم وأيام أنبيائهم وحكمهم، وذاك عظة للمسلمين الذين جعلهم الله خير أمة أخرجت للناس، فإذا فعلوا فعل اليهود وتركوا ربهم وتوحيده، ونبيهم وسنته، والقرآن وتحكيمه فسيفعل الله بهم كما فعل ببني إسرائيل.
وكما عاقب اليهود رغم أنهم كانوا يوماً أفضل الأمم، وأعطاهم الله من الأرزاق والحكم والكتاب، وأعطاهم ما لم يعطه لأحد في عصرهم، ولما بدّلوا وغيّروا وحرّفوا وتلاعبوا بالتوراة والإنجيل ورجعوا إلى الكفر بعد الإيمان، وعبد النصارى عيسى ومريم، وعبد اليهود عزيراً وعبدوا العجل، وقالوا جميعاً: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ} [المائدة:18] كان شركهم طامّاً عاماً بلية شاملة، فلعنهم الله وأخزاهم وطردهم عن رحمته وعن بابه، وأصبحوا أذل الأمم وأحقر الأمم.
قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78].
وقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [آل عمران:112].
وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167]، فلعنوا على ألسنة أنبيائهم كما لعنوا على لسان نبينا، ولم يفدهم أنهم كانوا يوماً أفضل الناس، وعندهم الأرزاق الطيبة وعليهم أنزلت الكتب السماوية، فعندما بدّلوا وغيروا بدّل الله عليهم نعمته وبدّل إفضاله.
وكذلك المؤمنون من هذه الأمة إذا بدّلوا وغيروا -مع أنهم أفضل الأمم وأكرم الأمم- سيعاقبهم الله ويلعنهم الله كما لعن اليهود قبلهم، ونحن نرى أنفسنا واقعين في هذا التهديد والوعيد، فقد سلّط الله علينا هؤلاء اليهود أنفسهم؛ لأننا خرجنا عن هدي كتاب الله، وعن سنة رسول الله ورسالته، فعاقب الله المؤمنين بما هددهم به في عشرات الآيات، بل عشرات السور، فنسأل الله أن يعيدنا إلى رحمته، وإلى اتباع الصراط المستقيم السوي بفضل الله وكرمه.(326/5)
معنى قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة)
يقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الجاثية:16] إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق، وإسحاق هو ابن إبراهيم، وإبراهيم كان له ولدان أحدهما نبي رسول والثاني نبي، فكان له إسماعيل، وكان نبياً رسولاً، وكان له إسحاق، وكان نبياً غير رسول، وكلاهما طيب ابن طيب، ونبينا عليه الصلاة والسلام ينتسب إلى إسماعيل بن إبراهيم، فهو نبي الله ابن نبي الله إسماعيل ابن خليل الله ونبي الله ورسول الله إبراهيم، وكل أنبياء بني إسرائيل هم أبناء إسحاق، ولذلك نسبوا إليه.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الجاثية:16].
فقد أنزل تعالى التوراة على موسى، وأنزل الإنجيل على عيسى، وعيسى هو آخر أنبياء بني إسرائيل، والتوراة أنزلت على موسى، وهو من الخمسة أولي العزم من الرسل، ولكنهم مع ذلك بدّلوا وغيّروا، وقد كانوا يوماً حكّاماً، فكان منهم ملوك أنبياء، وكان منهم ملوك صالحون، ثم بدّلوا وغيّروا فغير الله عليهم نعمته ورحمته، فشرّدهم وشتتهم إلى أبد الآباد، ولم تقم لهم قائمة إلى اليوم.
وأما ما هم عليه اليوم فهو من استدراج الله لهم، وتأثر المؤمنين الذين تأثروا بهم ودانوا بمذاهبهم وبحضارتهم فقالوا: نحن شيوعيون، وما يدير الشيوعية إلا ماركس، وهو يهودي ابن حاخام، وكذلك بقية المذاهب التي يؤمنون بها من ماسونية ووجودية وقاديانية وبهائية، وبقية ملل الكفر جميعها مذاهب يهودية.
فعندما ترك المسلمون شريعة ربهم وجروا خلف هذه المذاهب الضالة المضلة عاقبهم الله وسلط عليهم اليهود جزاء وفاقاً {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فإذا غيّرنا ما بنا من هدى الله غيّر الله ما بنا، والبلاء لا يزال شديداً، ونسأل الله الحفظ والسلامة.
يقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الجاثية:16] فأكثر الله فيهم الأنبياء، فإسحاق نبي، ويعقوب نبي، ويوسف نبي، وداود نبي، وموسى نبي، وهارون نبي، وعيسى نبي.
وقد روي في حديث غير صحيح (علماء أمتي أنبياء بني إسرائيل) قال المحدثون: هو حديث لا يصح لفظاً، ولكن معناه قائم، فعلم علماء المسلمين هو بمثابة علم هؤلاء الأنبياء، إلا أنه لا نبي بعد محمد، فهو خاتم الأنبياء وخاتم الرسل، ويكفي العالِم الصابر الصادق العالِم بالله وبدين الله أن يكون وارثاً محمدياً، فهو أحد ورثة علم النبي صلى الله عليه وعلى آله، وكفى بذلك مكسباً وكفى بذلك مفخراً.(326/6)
معنى قوله تعالى: (ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين)
قوله تعالى: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الجاثية:16].
رزقهم الله تعالى الحلال الطيب الذي لا حرام فيه، ورزقهم من المن ومن السلوى ومن صيد البحر ومن صيد البر ومما عملته أيديهم ومما كسبوه، فكان ما كسبوه وما رزقوه حلالاً طيباً، كان ذلك عندما كان بنو إسرائيل متمسكين بالكتاب، ومتمسكين بطاعة أنبيائهم، ومتمسكين بالله ورسله، أما عندما بدّلوا وغيّروا فقد انتقلوا من الإسلام إلى الشرك.
قوله تعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:16].
أي: فضّلهم ربنا على عالمي زمانهم وعصرهم؛ لأن الله قال لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] فهي خير الأمم عموماً، وهي خير أمة أخرجت منذ آدم عليه السلام.
فالأمة المحمدية خير الأمم، ونبيها خير الأنبياء، وكتابها خير الكتب، ولذلك عندما نزلت هذه الآية نزلت متأخرة في آخر الكتب وعلى آخر نبي، فكان ما مضى في أيام التوراة وأيام موسى تاريخاً قد انتهى، فبنو إسرائيل كانوا خير أهل عصرهم، أما خير الأمم قبل وبعد بني إسرائيل وبقية الشعوب الأخرى فهي الأمة المحمدية.(326/7)
تفسير قوله تعالى: (وآتيناهم بينات من الأمر)(326/8)
معنى قوله تعالى: (وآتيناهم بينات من الأمر)
قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:17].
قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ} [الجاثية:17] أي: كذلك آتى الله تعالى بني إسرائيل بينات وعلامات وأدلة وبراهين على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى صدق كتاب الله المنزل على نبينا، وهو القرآن الكريم.
وقد أخبرت التوراة وأخبر الإنجيل بصفة نبينا وزمنه الذي سيظهر فيه، ولذلك كان اليهود يقولون للأوس والخزرج من عرب المدينة: سيظهر نبي وسنقاتلكم معه.
وكانوا يتوهمون أنه من بني إسرائيل، فلما جاء من العرب حسدوه وكفروا به وأنكروا الأدلة القاطعة التي وردت في الإنجيل والتوراة وغيّروا ما في التوراة والإنجيل، وكذبوا على الله.
ولذلك قال عيسى -كما في الإنجيل وكما قص القرآن- {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، فقد صرّح باسمه وبنعته، وأنه يظهر في جبال فاران، وجبال فاران هي جبال مكة كما تقول كتب علم الجغرافيا ودواوينها العربية والأعجمية.
ولأحد العلماء الذين في رتبة مشايخ مشايخنا كتاب اسمه (الحق) أو (صوت الحق)، جرّد فيه من نسخ التوراة، ومن نسخ الإنجيل ما ورد فيه صفة نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو يزيد المؤمن إيماناً، ويلقم اليهود والنصارى حجراً لكفرهم بذلك وحقدهم على الفضل الذي آتاه الله للعرب ولسيد العرب نبينا صلى الله عليه وعلى آله.
قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ} [الجاثية:17] أي: أمر رسالته وأمر الكتاب المنزل عليه، آتيناهم آيات ودلائل واضحات، وحججاً وبراهين.(326/9)
معنى قوله تعالى: (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم)
قال ربنا: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية:17].
فقد كانوا مجمعين على ظهور رسول يأتي بعد عيسى، وإذا بهم يختلفون عندما ظهر وكان العلم به واضحاً، قال ربنا عنهم: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية:17] ظلماً وتعدياً وبغياً بينهم.
وبعض منهم -وهم قلة- آمنوا وأسلموا، وفي طليعة هذه القلة عبد الله بن سلام، أسلم بمحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلن إيمانه رسول الله، وكان قد طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن لا يخبر اليهود بإسلامه إلا بعد أن يسألهم عنه، فقال لهم وقد جمعهم وجمع رهبانهم وأحبارهم: (كيف عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: عالمنا وسيدنا وأفضلنا، فقال لهم: إنه أسلم فقالوا: لن يكون هذا.
فأعلن عبد الله بن سلام شهادته وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فعند ذلك شتموه وجهّلوه)، وهكذا كشفوا عن نفاقهم وعن كذبهم وعن بهتانهم وعما لا يليق بإنسان.
قال تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية:17] فجاءهم الحق على صدقه، وجاء بعد ذلك العلم اليقيني، فسألوه عن معجزات فأجاب عنها، وسألوه عن أنبيائهم فأجاب عنهم، وبعد كل هذا أبوا إلا حرباً وقتالاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم فغدروا، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقاتلهم ويحاربهم ويطردهم ويوصي بمن لم يطرد بعد أن يطرد، فقتل من قتل، وشرّد من شرّد.
قال تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية:17] فاعتدى بعضهم على بعض، اعتدى من بقي على كفره على من آمن، وطغى عليه وكذّبه ولم يؤمن بإيمانه.
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:17].
سيقضي الله بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، وهذا فيمن أصر على الكفر، أما من هداه الله وآمن بهدى الله وآمن برسول الله وآمن بالكتاب المنزل عليه فقد أراه الله الحق في دار الدنيا.(326/10)
تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها)
قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18].
أي: بعد إرساله تعالى الرسل من بني إسرائيل وما آتاهم من كتب وحكمة وما آتاهم من نبوة، ختم الله الأنبياء بنبينا صلى الله عليه وسلم، وختم الرسل برسولنا صلى الله عليه وسلم، وختم الكتب بكتاب الله المنزل عليه، وهو القرآن قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية:18] أي: يا رسول الله! قد أرسلك الله وجعلك على شريعة، وعلى طريقة، وعلى حكم، وعلى شريعة من الأمر فاتبعها.
والشريعة: القانون، والشريعة المشرع، يقال لممر الماء: مشرع، ويقال للطريق: شارع، ويقال للمذهب كذلك: شريعة، فالأنبياء يؤمنون بإله واحد، ورسالة الأنبياء جميعاً جاءت بـ (لا إله إلا الله)، وبالإيمان باليوم الآخر، أما الشرائع فهي مختلفة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات).(326/11)
تفسير سورة الجاثية [24 - 28]
الكفار الملاحدة ينكرون البعث والجزاء، ويقولون إنما هي حياة واحدة لا بعث بعدها، وإذا جاءتهم الآيات البينات التي تدل على وحدانية الله وصدق رسله، كابروا وطلبوا إحياء آبائهم في الدنيا، فهؤلاء سيلقون جزاءهم يوم يجمع الله الخلق يوم القيامة.(327/1)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا)(327/2)
المعنى الإجمالي للآية
قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24].
يخبر ربنا عن هؤلاء الذين كفرت بواطنهم قبل أن تكفر ظواهرهم، وكفرت ألسنتهم قبل أن تكفر حواسهم، حيث كفروا فلم يروا، وكفروا فلم يفقهوا، وكفروا فلم يسمعوا، واتخذوا الهوى إلهاً، ثم لم يكتفوا بالعمل فزادوا في القول طوام وبلاء فقالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية:24].
قالوا: لا آخرة ولا بعث ولا نشور ولا حساب ولا عقاب.
{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] فليست الحياة في أنظارهم إلا الحياة الدنيا التي عاشوا فيها، فهذه الدنيا التي عاشوها فيها يحيون وفيها يموتون، ولا يكون الهلاك إلا بالأعمار وبالسنين، وبطول المقام في الدهر والعصر، فليس هناك آخرة ولا رسل ولا كتب.
وهذا الكفر هو كفر الشيوعيين اليوم، وهو دينهم الذي نشروه بين الناس كتباً ونظريات، وجعلوه كتباً هي برامج في التعليم وبرامج في التربية تزيدهم كفراً على كفر.
وهذا هو الكفر الذي يسمون أنفسهم به التقدميين، ويلمزون غيرهم بأنه المتأخر الرجعي الذي لا يأتي إلا بما طواه الدهر وأكل عليه وشرب، وها نحن نرى أن كفرهم هذا كان قديماً، كان منذ آلاف من السنين، فهم الذين رجعوا إلى الكفر الأول، فهم رجعيون؛ لقولهم: نحيا في هذا العصر ونموت في هذا العصر، ولا يهلكنا إلا طول الدهر وكثرة أيامه في الدنيا، أما أن يكون هناك حياة بعد الموت وآخرة وبعث ونشور فلا! فهؤلاء رجعوا إلى المقالة القديمة الكافرة، فصاروا دهريين، كما قال الله عنهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] فجعلوا من الدهر إلهاً، وجعلوا هواهم إلهاً وعبدوه من دون الله، ونسبوا إلى الدهر الحياة والموت.(327/3)
معنى قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر)
قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية:24] فليس هناك قضية ولا عمل إلا هذه الحياة التي نحياها {نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية:24] يموت منا أقوام ويحيا منا أقوام، وقد رتبوا القول فقالوا: ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] وهكذا ظنوا، وهكذا وهموا.
والله لم يخلق السماوات والأرض إلا بالحق، وما خلق ذلك باطلاً.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص:27] وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فهيهات هيهات أن يكون هذا الهراء من القول ديناً، وأن يكون علماً، فقد قال هذا كفرة في جزيرة العرب، وكفرة في أرض الروم، وكفرة في مختلف بقاع الأرض، قالوه وقت أن قال هذا ربنا وأنزله على نبينا، ولا يزال ذلك مقولاً في أفواه قائلين به مستمسكين به، وهذا مذهب الفلاسفة الملحدين، ومذهب المعطّلين، ومذهب الشيوعيين، ودين الكفرة الذين لا يؤمنون بالله، فهم زعموا أن الحياة الدنيا هي الأولى الآخرة، وأنه لا شيء في الأرض إلا أن يحيوا ويموتوا، فيموت الآباء ويحيا الأبناء، ويذهب الأبناء ويأتي الأسباط، وهكذا سلسلة خلف سلسلة.
وهذا ما ورد في الصحيحين وفي السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار).
ومعنى ذلك أن الدهر الذي ينسبون إليه هذا العمل ليس بيده شيء، فالدهر: هو معنى غير محسوس، فهو سنون وأوقات تمضي وتتبعها أوقات، فكيف بهذا المعنى يحيي ويميت ويرزق ويعطي ويعز ويذل؟! ولذلك جعل الله من يقول: (يا خيبة الدهر) شاتماً لربه؛ لأن الدهر ليس بيده شيء، ولا يملك أخذاً ولا عطاء، ولا حساباً ولا نشوراً.
وسب الدهر كثيراً ما يجري على ألسنة الناس، حتى المؤمنين، فإذا فات أحدهم شيئاً، أو رأى غيره أكثر حظاً منه في الحياة وأكثر رزقاً وأكثر جاهاً وأطول عمراً يذهب ويشتم الدهر.
وقد أجمع العلماء إلا الظاهرية على أن الدهر ليس اسماً من أسماء الله الحسنى، وإنما معنى كلام النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي المروي عن الله جل جلاله أنه: يسبني عبدي ويؤذيني فيقول: (يا خيبة الدهر) فيشتم الدهر، وأنا الدهر بيدي الليل والنهار أقبضهما وأبسطهما، فمعنى ذلك أن هؤلاء الذين ينسبون إلى الدهر حياة ومماتاً وعطاء وأخذاً لم يعلموا أن الدهر لم يفعل ذلك، ولا يليق به ذلك، بل الله الذي يفعل ذلك، فمن يشتم الدهر يكون كمن شتم من فعل ذلك، والذي فعله هو الله جل جلاله.
قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية:24]، فليست القصة، وليست القضية، وليست الرسالة بمجموعها إلا هذه الكلمات بزعم هؤلاء الكفرة الملحدين {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] فما يهلك الإنسان بالموت إلا يومه وعمره، وطول أيامه وطول مكثه على هذه الأرض حتى يكل ويمل ويعجز عن القيام بشئون نفسه وبشئون الحياة، فيكون قد هلك ومات، وما ذلك إلا من طول دهره وطول أيامه وطول حياته وعصره.(327/4)
معنى قوله تعالى: (ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون)
هكذا زعم هؤلاء وكذبوا، فقال الله عنهم: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24].
فهذا الذي قالوه قالوه عن غير علم، وعن غير فهم، وعن غير إدراك، وقالوه جهلاً واعتباطاً، فقالوا ما لا علم لهم به، ومن أظلم ممن يكذب على الحق، ويجعل من الباطل حقاً دون دليل ولا برهان ولا رجوع لمنطق من حق أو عقل أو نقل.
قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24] فليسوا هم إلا ظانين و {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس:36]، فالظن لا يقوم به حق، والظن لا يبنى عليه حق، والظن لا تقوم عليه السماوات والأرض، إن هو إلا وهم من الأوهام قد يكون وقد لا يكون، والظن بهذا الاعتبار إذا دخل العقائد أفسدها وحولها من إيمان إلى كفر.
فهؤلاء قالوا ما لم ينزل به كتاب ولم ينطق به عقل يعي ذلك ويفهمه، ولكنه أوهام توارثوها كما يتوارث أهل الباطل الباطل، وأهل الكفر والإلحاد الكفر والإلحاد.
فكفرة اليوم عندما يقولون هذا القول بعينه كما قاله أولئك يكونون قد عادوا إلى ظنون وأوهام وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان.(327/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات)
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية:25].
إن هؤلاء من تمام كفرهم وإصرارهم على هذا الكفر إذا أتتهم آيات الله وبراهين قدرة الله ووحدانية الله، وأن الله المحيي وأنه المميت، وأنه المهلك وأنه الذي يحيي الناس ويحيي الخلق بعد موتهم فهذا إلى الجنة وهذا إلى النار، إذا تتلى عليهم هذه الآيات وهذه البراهين وهذه الأدلة القاطعة التي لا ينكرها عقل إلا إذا كان به خلل أو مرض، ولا ينكرها مؤمن، إلا إذا كان قلبه مريضاً عليه غشاوة، وقد قضي عليه فلا يعي ولا يفهم ولا يفقه، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيات الله بَيِّنَاتٍ واضحات ظاهرات كاشفات للحق، كاشفات للباطل، بها نعرف الباطل فنطويه ونكفر به، وبها نعرف الحق فنلتزمه ونؤمن به، إذا بهم يريدون أن يجادلوا بالباطل.
قال تعالى: {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية:25] فيقولون: إن صدقتم في أن هناك حياة بعد الموت، كما يقول الأنبياء قبل، وكما يقول المؤمنون بعد، وكما يقول القرآن، وكما يقول نبينا عليه الصلاة والسلام والمؤمنون، إن كان هذا حقاً فأتوا بآبائنا الذين ماتوا {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية:25] لنسألهم ماذا لقوا في قبورهم، هل رأوا جنة أو ناراً؟ وهذا الذي قالوا باطل من القول ولغو؛ إذ لم يقل لهم بأن الأموات سيعودون إلى الحياة الدنيا، وإنما قيل لهم بأن الله سيعيد الحياة في الآخرة بعد انقضاء الدنيا وبعد محوها وبعد فنائها، أما أن يعيش الإنسان في الدنيا حياتين ويموت فيها موتتين فهذا لم يقله أحد، لم يأت به نبي ولا كتاب، ولا يؤمن به مؤمن.
(وحجتهم) في قوله تعالى: (ما كان حجتهم): خبر كان مقدم على الاسم، وتقدير القول: ما كان حجتهم إلا قولهم: ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين، فقُدّم الخبر على الاسم للحصر والاختصاص، فهو مما يؤكد زعمهم وقولهم ذلك، واستمساكهم بهذا الباطل.
فأتوا بشيء ظنوه حجة، وهيهات هيهات أن يكون كذلك، ما هو إلا جدال بالباطل، وما هو إلا قول لا دليل عليه، وما هو إلا كلام لا يقبله عقل ولم يؤكده نقل، ولكنهم فتحوا الأفواه فعووا كما يعوي الكلب دون فهم ولا إدراك ولا دين من الله ولا كتاب منزل ولا نبي مرسل، وما كان كذلك فهيهات هيهات أن يكون حجة، أو يكون قولاً يعتمد عليه ليجادل على طريقته ويجادل في سبيله.
وما ذكر الله قوله: (حجتهم) إلا لكونهم اعتبروه حجة، وليس هو من الحجة في شيء، وإنما هو الجدال بالباطل.(327/6)
تفسير قوله تعالى: (قل الله يحييكم ثم يميتكم)(327/7)
معنى قوله تعالى: (قل الله يحييكم ثم يميتكم)
قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:26].
أي: قل يا رسول الله لهؤلاء المبطلين: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الجاثية:26] لا دهر ولا عمر ولا عصر ولا دنيا، فالدنيا مخلوقة، والدهر مخلوق، والأعمار كذلك، والله وحده المحيي المميت، ليس الأمر كما زعمتم أنه ما هي إلا الحياة الدنيا وما يهلككم إلا الدهر، بل الله المحيي المميت المهلك.
فقل -يا رسولنا- لهؤلاء وعلمهم وهذّبهم وأصلح ألسنتهم وأصلح عقائدهم {اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الجاثية:26] أحيانا وقد كنا عدماً، فأين كنا قبل مائة عام؟! وأين من كان في الدنيا قبل مائة عام؟! لقد كنا عدماً وكنا أمواتاً فأحيانا الله وأخرجنا إلى هذا الوجود، خلقنا من ذكر وأنثى، كما خلق أبانا آدم من تراب وأمنا حواء من ضلع من أضلاعه، وخلق عيسى من أم بلا أب، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى.
قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الجاثية:26] وهذا شيء نراه بعين الواقع، فأين آباؤنا؟! وأين أجدادنا؟! وأين كبارنا؟! لقد ماتوا ولن يعودوا، وبادوا فيمن باد، وهذه الطريق طريقنا {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] فمن فعل ذلك؟ ومن المحيي من المميت؟ إنه الله جل جلاله.(327/8)
معنى قوله تعالى: (ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه)
قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الجاثية:26]: يجمعنا أحياء على سطح واحد في أرض المحشر نُعرض على الله في يوم كان مقداره {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] في يوم كبير، ويوم فظيع، ويوم يشيب فيه الوليد، ويوم تُسقط فيه الحامل، ويوم يقول كل إنسان فيه: نفسي نفسي، فلا يفكر أب في ولد، ولا ولد في أب، ولا أخ في أخ، ولا قريب في قريب من شدة هول ذلك اليوم.
قال تعالى: {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الجاثية:26] أي: نحيا حياتين، ونكون قد متنا موتين: الموت الأول هو العدم قبل خروجنا إلى الدنيا، وخروجنا هو الحياة الأولى، ثم نموت الموتة الثانية بالنسبة للعدم الذي كنا فيه قبل أن يخلقنا الله، ثم يعيدنا ويحيينا ويجمعنا للعرض والحساب، وهي الحياة الثانية في الدار الثانية الآخرة الدائمة.
قال تعالى: {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الجاثية:26] أي: ليوم القيامة، وحروف الجر كثيراً ما ينوب بعضها عن بعض {لا رَيْبَ فِيهِ} [الجاثية:26] أي: لا شك ولا توهم ولا تردد، وإن رأيت شاكّاً أو رأيت متردداً فذلك الكافر الذي لا يؤمن بالله.(327/9)
معنى قوله تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:26].
فأكثر الناس منذ خلق الله آدم إلى موت آخر إنسان على وجه الأرض كافرون بالله وبالبعث، فلا يوقنون بأن يوم البعث حق، ولا بأن العودة إلى يوم القيامة حق، ولا يؤمنون بالجنة والنار، ولا يؤمنون بكتب الله، ولا برسل الله، ولا بقدرة الله وبوحدانيته، وذلك معنى قوله جل جلاله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
ولذلك فإن القول بالأكثرية والأقلية نظام يهودي؛ لأن الأكثرية ضالة، فأقاموا الندوات والبرلمانات ودور الشورى، وجعلوا القول والحكم للأكثرية، فما قاله الأكثر فهو الحق والصواب، وما قاله الأقل فهو الباطل! والله لم يقل هكذا، بل قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] والأمر لا يزال قائماً، فلو أن أحدنا قام اليوم فقال: أريد أن أعمل موازنة لأعلم هل الأكثر في الناس المسلمون أم الكفار لخرج بنتيجة مفادها كثرة الكفرة من يهود ونصارى ووثنيين وشيوعيين.
فلو اعتبر المرء الأكثرية لكان كافراً؛ لأنهم يزعمون أن الحق مع الأكثرية، وإنما يزعمونه لغيرهم، أما لهم فلا، ولو آمنوا بأن الأكثرية المحقة لوجب عليهم أن يتبعوا الأكثرية؛ لأنهم أقل الأمم وأقل الأديان، ولن يفعلوا أبداً، فإنك تجد اليهودي الواحد ضمن مائة مسلم أو أكثر، فتجده منذ طفولته وهو مستمسك بيهوديته، حتى لو أجبر على الإسلام أو داهن المسلمين فلا تثق به ولا تصدقه، فهو كافر العقيدة يهودي في باطنه لا يكاد يظهر لهم شيئاً، وهذا أمر رأيناه وعشنا في واقعه وعاش فيه سابقونا.
قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:26] فأكثر من في الأَرض من الأمم جميعها ومن الأقوام كلها سابقها ولاحقها لا يعلمون الحق، ولا يعلمون الصدق، ولا يعملون اليقين، ولا يؤمنون به ولا يؤمنون ببعث، ولا يؤمنون بحساب ولا عقاب.(327/10)
تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض)
قال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [الجاثية:27] إن أولئك الذين ينسبون إلى الدهر ما ليس له، ويقولون: ما يهلكنا إلا الدهر، وما تهلكنا إلا الحياة الدنيا، فنحيا ونموت، ولا بعث ولا نشور، هؤلاء الكذبة الفجرة يرد عليهم بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الجاثية:27] فلله الدهر ولله العمر، ولله الحياة، ولله الممات، وبيده القبض والبسط، فليس الأمر لدهر كما توهموا، ولا للحياة ولا للموت كما توهموا، بل الحياة بيد الله، والممات بيد الله، والسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما وما عليهما ملك لله خلقاً وتصرفاً وتدبيراً.
يقول ربنا: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [الجاثية:27] فيوم تقوم الساعة التي ينكرها الملاحدة والدهريون تظهر خسارة المبطلين الذين أبطلوا الحقائق، والذين آمنوا بالباطل، والذين كفروا بالله وبرسل الله، ففي ذلك اليوم يرون ما كانوا ينكرون، فيعيشون في واقع ما كانوا يكفرون به، ويومئذ سيشعرون بالخسارة، فقد خسروا دنياهم فلم يستفيدوا منها، إذ هي مزرعة للآخرة، وخسروا آخرتهم وقد جاءوا إليها كفرة فجرة غير مؤمنين بها ولا بما سيكون فيها.(327/11)
تفسير قوله تعالى: (وترى كل أمة جاثية)
قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28].
ترى يوم القيامة كل أمة جاثية، والجثو: أن يقف الإنسان على ركبتيه، وتكون أصابع رجليه على الأرض، فيوم العرض على الله سيعرض عليه خلقه قائمين على الركب، وهم في رعب وهلع يقول كل منهم: نفسي نفسي، فلا يفكر أحد في أحد، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
يقول تميم الداري ويقول سلمان الفارسي: يوم يقول كل أحد: نفسي نفسي، حتى إبراهيم يكون جاثياً على ركبتيه ويقول: يا رب! نفسي نفسي، لا أطلبك إلا نفسي، ويكون عيسى كذلك جاثياً على ركبتيه يقول: يا رب! لا أسألك إلا نفسي، لا أسألك حتى مريم التي ولدتني.
فهو يوم عظيم {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
ولكن الذي يبقى في هذا اليوم حاضر الذهن عظيم الرجاء والدعاء والضراعة هو شخص وحد، وهو الذي أقامه الله المقام المحمود، هو محمد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر).
فالخلائق يومها جاثية على ركبها مطأطأة تفكر في العذاب والحساب فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، وتأتي الأمم إلى الأنبياء، فيأتون إلى نوح فإبراهيم فموسى فعيسى وكلهم يقول: نفسي نفسي، وبعضهم يقول: قد أذنبت وفعلت كذا وكذا، فتأتي الأمم كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: اشفع لنا عند ربك.
فيقف صلى الله عليه وسلم ويقول: (أنا لها أنا لها) ثم يذهب إلى تحت العرش فيسجد ويطيل السجود، ويحمد الله بمحامد يلهمها، وهو من هو في قوله ومحاورته وخطابته.
فيوم القيامة عندما يخر ساجداً لربه تحت سقف العرش يلهم دعوات أخرى بفصاحة وبلاغة أخرى بوحدانية لله فريدة، فيدعو الله ويضرع إليه، فيقال له: (ارفع رأسك، واشفع تشفّع، وسل تعط) ولا يكون هذا لأحد في هذا اليوم وفي هذا المقام العظيم إلا لخاتم أنبيائه وسيد رسله وأفضل خلقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أكرمنا الله بشفاعته، وأسعدنا بها، وأدامنا على دينه، وأحيانا عليه وأماتنا عليه إلى أن نجتمع به على الحوض.
يقول تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] يصف الله يوم القيامة يوم يخسر المبطلون، فهذا اليوم لو تراه يا رسولنا، {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] وبهذه الكلمة سميت السورة سورة الجاثية، وهو من باب تسمية الكل باسم البعض.
قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] فكل الأمم من عهد آدم إلى أمتك تراهم جاثين على الركب على الأرض ينتظرون أمر الله إلى جنة أو إلى نار، ولا يستشفع عنده أحد إلا بإذنه فقبل شفاعته جل جلاله وعز مقامه.
قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية:28] تدعى كل أمة إلى كتابها، فأمة القرآن تدعى إلى القرآن، وأمة التوراة تدعى إلى التوراة، وأمة الإنجيل تدعى إلى الإنجيل، ويقال لهذه الأمم: كيف كنتم مع هذا الكتاب المنزل عليكم؟ هل أحللتم حلاله وحرمتم حرامه وقمتم بحدوده؟ وهل تأدبتم بآدابه واعتقدتم عقائده؟ وهل تلوتموه أم نسيتموه واتخذتموه وراءكم ظهرياً؟ قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28].
أي: يقال لهم: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28]، فهذا يوم الجزاء، فالدنيا كانت مدارس، وكانت جامعات، والامتحان ليس في دار الدنيا، بل هو في الدار الآخرة، فمن جاء بكتابه بيمينه كان الناجح الفائز وذلك الفوز المبين، ومن جاء بكتابه بيساره كان الراسب الساقط، وعند الامتحان يعز المرء أو يهان، ولا عزة يوم القيامة إلا النجاة من عذاب الله ومن نار جهنم، ولا فوز يوم القيامة ولا نجاة كالفوز في الجنة والخلود فيها، جعلنا الله من أهلها، ومن سكانها بفضل الله وكرمه.(327/12)
تفسير سورة الجاثية [29 - 33]
عندما يجمع الله الأمم يوم القيامة وترى كل أمة جاثية، فحينئذٍ يأخذون كتبهم فينطق الكتاب بما عمل صاحبه، فأما المؤمنون فيدخلهم الله الجنة، وأما الذين كفروا فيسألهم الله سؤال تقريع وتوبيخ عن كفرهم بآيات الله التي كانت تتلى عليهم في الدنيا، وعن تكذيبهم بوعد الله الحق وقيام الساعة.(328/1)
تفسير قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق)
قال الله ربنا جل جلاله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29].
قوله تعالى: (كتابنا) هو الكتاب الذي يكتبه الملائكة المكلفون بالإنسان.
فالكافرون الذين يأتون يوم القيامة وهم منكرون للبعث، ومنكرون للحساب والعقاب يقول الله لهم: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية:29].
أي: هذا الكتاب المكلف بكتابته الملكان عن اليمين وعن الشمال، فأحدهما يكتب الحسنات والآخر يكتب السيئات؛ لا ينطق إلا بالحق، أي: لا يكتب فيه إلا الحق ولا ينقل منه إلا الحق، وكأنه بذلك ينطق، وما النطق إلا أداء المعاني المرادة، فهذه المعاني التي يؤديها النطق تؤديها الكتابة التي يكتبها الملائكة في أعمال الناس حسناتها وسيئاتها {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية:29] أي: أيها الناس من مؤمنين وكافرين، فلا يُكتب في الكتاب ولا ينسخ في الكتاب ولا يسجّل في الكتاب إلا الصدق والحق الذي لا شك فيه ولا ريب.
قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29].
يقول ربنا جل جلاله: إنا كنا -وأنتم في دار الدنيا- نستنسخ ما كنتم تعملون، فنكلّف الملكين بنسخ وكتابة ما تعملون من خير أو شر، ولكن ليس مع الكفر خير، وليس مع الشرك حسنات، إن هو إلا شرك، وما زاد عليه إن كان حسنة -بأن كان صدقة أو خدمة لإنسان- فلا يزيد ولا ينقص؛ لأنها أعمال كانت بلا نية صادقة لا يراد بها وجه الله؛ لأن الكافر لا يعرف لله وقاراً ولا مقاماً، ولا يعرف إيماناً ولا توحيداً.
وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ} [الجاثية:29] فسّره قوم من المحققين والمفسرين فقالوا: النسخ لا يكون إلا من كتاب إلى كتاب، ومعنى ذلك أن أعمال الإنسان مدونة في الديوان في الملأ الأعلى في اللوح المحفوظ، فمدون هناك ما عمل وما سيعمل إلى يوم القيامة، وشقي هو أو سعيد، ومع ذلك يكلّف الملائكة بكتابة أعمالهم ونسخها من هناك، فإذا وافق ما كتبه الملكان فذاك، والحفظة الكتبة المكلفون بكتابة الأعمال هم قوم معصومون وملائكة مقربون {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فلا تتصور منهم مخالفة ولا تبديل ولا تغيير فيما ينسخونه من اللوح المحفوظ إلى كتبهم.
وقد قيل: يعرض ما كتبه الملكان على ما كان في اللوح المحفوظ، فما كان فيه من مباح لا حسنة ولا سيئة يعتبر لغواً، فلا يسجّل ولا يكتب ويلغى؛ لأنه لا تنشأ عنه حسنة ولا تنشأ عنه سيئة، فلا حاجة إلى كتابته.
يقول تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا} [الجاثية:29] يقال لهم يوم القيامة: هذا كتاب الله الذي أمر به الله الحفظة الكتاب من الملائكة ليدونوا فيه أعمال الإنسان منذ أن يبلغ إلى أن يتوفى، فهو ينطق عليكم بالحق لا يكذب ولا يزيد ولا ينقص، وينطق عليكم بالعدل، ويسجّل بالحق، ولا يقول إلا ذلك.
وهذا الكتاب فيه جميع ما كان يعمل الإنسان في دنياه من حسنات أو سيئات، فلا مجال للنكران ولا مجال للفرار ولا مجال إلى التخوف من الزيادة أو النقصان {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:22].(328/2)
تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته)
قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية:30].
أي: هذا الكتاب هو على شعبتين: شعبة لكتابة أعمال الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وشعبة للذين كفروا ولم يعملوا صالحاً يوماً.
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية:30] أي: آمنوا بالله لساناً، وأيقنوا جناناً، وعملوا بالجوارح وتمسكوا بـ (لا إله إلا الله)، ومع كلمة التوحيد فعلوا الحسنات والصالحات، ومنها الأركان الخمسة: الصلوات الخمس، وصيام رمضان، والزكاة، وحج بيت الله الحرام، وكذلك ترك المنكرات ما ظهر منها وما بطن.
قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} [الجاثية:30] والرحمة الجنة، ففي حديث مسلم في الصحيح: (أنت رحمتي أرحم بك من أشاء)، ورحمته إن كانت لرضاه فمؤداها الجنة، فلا تكون الجنة إلا بعد الرحمة.
قال تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية:30] أي: ذلك هو الفوز الظاهر البين، ذلك هو النصر الواضح، ذلك هو النجاح الكامل، أن يقبل الله من عبده إيمانه وعمله الصالح بأن تسجّل ملائكته ذلك في كتاب مستنسخ عن اللوح المحفوظ، فمن وجد ذلك فقد فاز فوزاً عظيماً ونصر نصراً مبيناً وآب بالجنة، وآب بالرحمة والرضا، وذاك مما استنسخه ملائكة الله في الكتب التي أمروا باستنساخها، فهذا حال المؤمنين.(328/3)
تفسير قوله تعالى: (وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم)
قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية:31].
أي: يقال لهم: {أَفَلَمْ تَكُنْ} [الجاثية:31] يستفهمون استفهاماً توبيخياً تحقيرياً، فيقال لهم: {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الجاثية:31].
أي: ألم تكن آيات كتابي ودلائل وحدانيتي وبراهين قدرتي يتلوها علماؤكم عليكم؟! أفلم تسمعوها من المؤمنين؟! أفلم تتلوها في كتاب الله؟! أين كنتم إذ ذاك وآيات الله تتلى عليكم تقرع آذانكم، وتعلمكم دين ربكم؟! بل كانت حالتكم أن اسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ، استكبرتم عن الإيمان، وتعاليتم على الأنبياء، واطرحتم العلماء، ولم تسمعوا ما وجب عليكم استماعه من الإيمان بالله والإيمان برسله والعمل بكتابه.
فالله يقول لنا هذا ونحن لا نزال في دار الدنيا لنتعظ ولنخاف ونهاب، ولنجعل ذلك نذيراً لعلنا نعود إليه، ولعلنا نخاف مما خوفنا منه، ومع ذلك يأتي أكثر الناس يوم القيامة وقد كفروا بربهم، وأشركوا بوحدانيته، وكفروا بقدرته، وكذّبوا أنبياءه ولم يعملوا بما سمعوه من آيات، فتكون حجة الله البالغة عليهم {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية:31] والإجرام هنا بالغ أعلاه وأقصاه، وهو الكفر والشرك بالله، استكبرتم عن الإيمان فكنتم مشركين كفرة بالله وثنيين.(328/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها)
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32].
أي: إذا قال المؤمنون: إن وعد الله بيوم القيامة وبيوم البعث والحساب والعرض على الله حق، {وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا} [الجاثية:32] أي: يوم القيامة ويوم البعث لا ريب فيه، ولا شك، فهو آت لا محالة لتعرض أعمال الناس وأعمال الخلق على الله فإما إلى جنة وإما إلى نار، إذا قيل لكم ذلك وسمعتم ذلك إذا بكم تجيبون: ما ندري ما الساعة؟! تتكلمون بهزء وتتكلمون بجهل، وتتكلمون بكفر، وتقولون: ما ندري ما الساعة؟! أهي ساعة تنتظر من ساعات الزمان؟! أم هي اليوم الذي يقول عنه أناس: هو يوم البعث والنشور والحياة الثانية؟! فإن كان كذلك فنحن لا ندري بهذا، ولا نعرفه، ولا نوقن به! {مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} [الجاثية:32] ولسنا إلا ظانين واهمين، فلا نتيقن بذلك ولا نؤمن بحقيقة ذلك، فكيف يعيش الإنسان مرة ثانية بعد أن يصبح عظاماً نخرة، وبعد أن يصبح رفاتاً، وبعد أن يعود تراباً؟! وقد أتى الله تعالى بالبراهين القاطعة والدلائل الواضحة في العشرات -بل المئات- من الآيات والعشرات من السور على البعث، كقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79]، فالدليل عندكم، فأنتم تدركون أنكم لم تكونوا فكنتم، لم تكونوا عظاماً نخرة ولا أشباحاً جامدة، بل كنتم عدماً، ومع ذلك صير الله هذا العدم وجوداً، فأخرجكم إلى الوجود أشباحاً ذات أرواح ناطقة ومتحركة عاقلة، فهذه الأشباح المتحركة أين كانت؟! ومن أتى بها؟! ومن صنعها؟! قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] فالدلائل القاطعة على القدرة الإلهية وعلى الوحدانية الإلهية هي قائمة في كل نفس.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فكيف بعد ذلك تنكرون هذا وتقولون: لن يكون، فكيف نعود بعد أن كنا عظاماً نخرة، وبعد أن كنا رفاتاً؟! قال تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79] وإنشاؤها أول مرة يدركه كل ذي عينين وكل متحرك من الخلق.
إذاً: هؤلاء يجادلون بالباطل ولا يعلمون حقيقة من عقل ولا نقل ولا أثارة من علم، إن هو الهراء والجدال بالباطل.
يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32] أخذوا يهزئون في دنياهم ويقولون: ما هي الساعة؟! لا ندري ما هي؟ أهي ساعة من زمن؟! أهي يوم من أسبوع؟! أهي عام من الأعوام؟! أم هي ما يقولون عنه: أننا سنعود لحياة ثانية بعد الموت {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} [الجاثية:32] إن كان ذلك حقاً فنحن نظنه ونتوهمه ويخطر ببالنا، ولكننا لسنا بمستيقنين منه، ولسنا بمتأكدين، ولسنا به بمؤمنين، وهكذا يسجّلون الكفر على أنفسهم بالقول والعمل، حتى إذا جاءوا وجدوا كل هذا في الكتاب الناطق بالحق المستنسخ من قبل الملائكة المعروض على الله جل جلاله.
قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الجاثية:33] جاءوا في الآخرة ووجدوا ما أنكروه حقيقة واقعة، وعاشوا بعد الموت، وسيقوا سوقاً ودفعوا دفعاً لمحكمة ربنا ولقضاء إلهنا حيث لا ظلم، وحيث العدل المطلق، وإذا بهم يفاجئون بما كانوا ينكرون فيجدون حقيقة واقعية {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [الجاثية:33] ظهر لهم سيئات أعمالهم بينة واضحة.(328/5)
تفسير سورة الأحقاف [1 - 6]
إن الله عز وجل بعث إلى عباده الرسل لينذروهم ويحذروهم من الإشراك به تعالى، لكن من هؤلاء العباد من أعرض واتخذ مع الله شريكاً لا ينفعه ولا يضره وإنما يتبرأ من عبادته يوم القيامة ويخاصمه عند الله أنه إنما كان عن عبادته غافلاً، وبدت عند ذلك العداوة بين العابد والمعبود.(329/1)
تفسير قوله تعالى: (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)
قال الله تعالى: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف:1 - 2].
كثيراً ما يقرءون ويقولون: قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {حم} [الأحقاف:1].
وهذا ليس بصحيح؛ لأن البسملة إنما وردت بعض آية من كتاب الله في سورة النمل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30].
وسورة الأحقاف سورة مكية اشتملت على خمس وثلاثين آية، ولكن هذا لا ينفي أن تكون ثم آية أو آيتان مدنيتان ضمن الآيات المكية، إذ كان من عادة نبي الله عليه الصلاة والسلام عند تنظيم كتاب الله وتصويبه أن يقول: (ضعوا هذه الآية في سورة كذا، وضعوا سورة كذا بعد سورة كذا).
{حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف:1 - 2]، تنزيل هذا الكتاب عن طريق الوحي، والوحي: ما أنزل من عند الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، لا شك في ذلك ولا ريب ولا مين.
{الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف:2] العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع، والحكيم في أقواله وفي أفعاله وفي قدره، الذي يضع الأمور في مواضعها، ولا أحد يفعل ذلك إلا الله تعالى جل جلاله، قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف:2].(329/2)
تفسير قوله تعالى: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق)
قال تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3].
أي: ما خلق ربنا السماوات والأرض وما بينهما من كواكب ومن مجرات إلا بالحق، لم يخلقه عبثاً ولا باطلاً، بل خلقه لحكمة، خلقه ليعلم وليعرف وليعدل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] خلق الإنس والجن ليعبدوه، وسخر للإنسان السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما، سخر له ما في السماوات من أرزاق وأمطار، وسخر له ما في الأرض من مياه وطير ودواب وفاكهة وخضرة.
فقوله تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأحقاف:3] أي: إلا بالعدل والحكمة، لم يكن شيء من ذلك باطلاً ولا عبثاً، بل خلقه لأجل مسمى، ولم يخلقه للأبد، بل خلقه للفناء، والأجل المسمى: يوم القيامة.
فهذه الدنيا بدايتها يوم خلقها ربها، وتنتهي بقيام الساعة، وقوله: (لأجل) لغاية أو لزمن أو لوقت معلوم عند الله، ويوم القيامة لا يعلم تحديده ووقته إلا الله، وإنما علمنا أماراتها وشرائطها، أما تحديدها بالضبط فلا يعلم ذلك إلا الله جل وعلا.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، مع كل هذا ومع انفراد الله بالخلق وقدرته عليه، وخلقه السماوات والأرض وما بينهما لأجل مسمى عنده، مع هذا كله فالكافرون عما أنذروا معرضون.
فالمشركون معرضون عن الذي أنذروا به، أي: عن الذي خوفوا به من كتاب الله تهديداً ووعيداً، تخويفاً وإنذاراً، لكي يتوبوا ويئوبوا إلى الإيمان والتوحيد، ولكنهم مع ذلك غافلون عن كل هذا، لا يلتفتون لنذارة ولا لبشارة ولا لرسالة ولا لكتاب نزل من عند الله مبشراً ومنذراً.(329/3)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض)
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4].
جمعت هذه الآية الكريمة بين مسالك الأدلة العقلية والنقلية، فالله جل جلاله يخاطبنا في كتابه بما لا ترده العقول ولا النقول، بل كل ذلك يتفق مع الأدلة والبراهين، ومع ما جاء عن الله في الكتب السابقة وما ينطق به العقل في إحقاق الحق وإبطال الباطل، فقال: قل يا محمد! (أرأيتم ما تدعون من دون الله).
هؤلاء الذين تدعونهم من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض، ما الذي رأوا عند هؤلاء المعبودين، وعند هذه الأصنام والأوثان، أخلقت أرضاً؟ هل أشركت الله في خلق جزء من الأرض؟ إن كان هذا كذلك فأروني مكانه وأروني موضعه، وأين هو من مشرق أو مغرب، أين هو من شمال أو جنوب.
قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} [الأحقاف:4] أي: هل أصبحوا شركائي في خلق سماء من السماوات السبع، أو في خلق الملائكة الموجودين في السماء، أو في خلق الأفلاك والكواكب بين السماء والأرض، أروني وأطلعوني وأعلموني.
أم لهم شرك في السماء خلقوه وانفردوا بخلقه، هل خلقوا معي جزءاً من الأرض؟ وإن كان كذلك أروني أين هذه الأرض التي خلقوها؟ قال تعالى: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [الأحقاف:4] بعد سرد الأدلة العقلية يقول الله: أم لكم على ذلك أدلة نقلية في كتب رويتموها وأثرتموها عن السابقين.
فقوله: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [الأحقاف:4] أي: هل نزل عليكم أو على آبائكم أو على من سبقكم كتاب يخبر بأن هؤلاء شركاء وأرباب من دون الله، والاستفهام إنكاري تقريعي، والجواب عن كل فقرة من الآية: لا دليل ولا خلق لهؤلاء المدعوين المعبودين من دون الله، لم يخلقوا جزءاً من الأرض وليس لهم شرك في السماء، ولا عند هؤلاء المشركين كتاب ثابت ينص على هذا.
قال تعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4] أو بقية من علم أو أثر أو رواية، فكل الطرق التي يسلك بها إلى الأدلة العقلية والنقلية جمعها ربنا جل جلاله في هذه الآية البليغة، وهذا سبب من أسباب إعجاز القرآن وبلاغته وفصاحته.
و
الجواب
لا يوجد شرك ولا كتاب ولا بقية من علم، ولكنكم رويتموها أثراً عمن سبقكم من علمائكم وآبائكم وأجدادكم.
وقوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف:4] أي: أثر، ومنه سمي الحديث بعلم الأثر، لأنه رواية تروى وأثر يؤثر عن شيوخنا وشيوخهم، عن آبائنا وآبائهم إلى العصور الثلاثة المفضلة، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلى جبريل رسول الملائكة إلى الرسل من البشر، إلى رب العزة جل جلاله وعز مقامه.
ففي هذه الآية دليلان عقليان، ودليلان نقليان، الدليلان العقليان: أنتم تعبدون أشياء لا تضر ولا تنفع حتى نفسها، فلم عبدتموها؟ هل رأيتموها خلقت معي جزءاً من الأرض؟ أروني أين هو؟ أم أنها أشركتني في جزء من السماء؟ أروني إياه، وأطلعوني عليه، فإن لم يكن هناك دليل عقلي فهل عندكم دليل نقلي؟ {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [الأحقاف:4] ائتوني بكتاب من السماء توراةً أو إنجيلاً أو زبوراً أو غيرها من الكتب الإلهية، فقولوا هذا عني، وأسمعوني (أثارة من علم) أي: بقية، وروي في القراءات السبع: (أُثرة) و (أَثرة).
والجواب في هذا موجود دل عليه الكلام المقدم: أنه لا شرك ولا شريك ولا كتاب ينكر هذا ولا رواية من علم ولا أثارة.
فمعنى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]، أنهم ليسوا بصادقين، فهم الكذبة الفجرة الذين كفروا بالله بلا دليل ولا برهان، وهذا شأن الكفر، وقد ابتلي الكافرون الجدد ببليتين: بالكفر نفسه، ثم هذا الكفر قلدوا به من سبقهم، فهم رجعيون رجعوا إلى سابق، ولم يستطيعوا أن يأتوا بكفر جديد وإنما كرروا كفر من سبقهم وشرك من سبقهم.
أن هؤلاء لما يأتوا بدليل من نقل، فكانوا بذلك هم الكاذبون الفاجرون الذين يدينون الله بدين باطل ما أنزل الله به من سلطان ولا دليل عليه من عقل.(329/4)
تفسير قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة)
قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]، أكد ربنا ذلك وزاده تقريعاً وتوبيخاً؛ ليكون ذلك أدعى للسامع في اجتناب هذه المفاهيم الباطلة والأقاويل المتهافتة، وهذا الكلام الذي لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل.
فقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ} [الأحقاف:5] أيضاً
الجواب
لا أحد، وأضل الخلق: أكثرهم ضلالاً وجهالة وبعداً عن العلم، يكفرون ويقولون كفراً علمياً، يسمون الأسماء بغير اسمها، يكذبون ويجهلون ويضللون ويقولون: نخاطبكم بالعلم، ويعنون بالعلم: الجهل، فالضلال: الباطل.
ونبغت نابغة من الجهلة الضالين زعموا أنهم يريدون أن يفسروا لنا كتاب الله تفسيراً علمياً عصرياً، فجاءونا بالعفن وجاءونا بالطوام وبالبلاء في تحريف كلام الله.
ومن العجيب! أن يجد أمثال هؤلاء المعطلون الشيوعيون تلامذة اليهود والنصارى والمنافقين مرتعاً لهم في أجهزة الإعلام المنظورة والمسموعة والمقروءة، تفتح لإفكهم ولشركهم ويقولون: اسمعوا هذا التفسير العصري، حتى إذا قلت لهم: من أين جئتم بهذا الذي سميتموه علماً؟ فسروا لك الماء بالماء، والتراب بالتراب، والشيء بالشيء، وهو شأن العابثين الذاهبة عقولهم، الضائع وعيهم.
فقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:5] أي: هل هناك أكثر ضلالاً من إنسان يعبد وثناً أو يعبد ملكاً أو يعبد بشراً ويدعوه، ويوم القيامة لا يستجيب له؟ إذا قال له: ارزقني لم يجبه، وإذا قال له: عافني لم يجبه، فهو يعجز عن ذلك وهو أضعف من ذلك، وهؤلاء المدعوون والمعبودون من دون الله عن دعاء هؤلاء الوثنيين المشركين غافلون، لا يحسبون لهم حساباً ولا يهتمون بهم ولا يلتفتون إليهم، وذكر الله (من) التي تطلق على العقلاء، وقد يشترك فيها العقلاء وغير العقلاء ولم يقل: (ما)، {لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:5].
وكل هؤلاء العاقلين وغير العاقلين لا يملكون لهؤلاء العابدين ضراً ولا نفعاً، قال ربنا: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6].
فقوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} [الأحقاف:6] أي: جاء يوم الحشر وحشر الناس يوم القيامة للعرض على الله للحساب والعقاب للجنة والنار، كان هؤلاء المعبودون أعداءً لهم.
وقوله تعالى: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6] أي: كفروا بعبادتهم وقالوا لهم: ما عبدتم إلا الأوهام والتخيلات، وعبدتم ما لم ينزل الله لكم به من سلطان، أما نحن فنحن عبيد أذلاء تحت إحاطة الله وقدرته، وكما قال ربنا في أفضل هؤلاء المعبودين: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:116]، ليس له بحق، وليس له أن يقول ما ليس له بحق: بأنه إله معبود، قال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة:117] بأنه عبد الله، وبأنه رسول الله وما سوى ذلك فكذب وباطل وضلال.
فمن المفسرين من قال: هذه الآية تشتمل على المعبودات الجمادية، الآية الآتية لا تنطبق على ذلك: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]، فكيف يكفر الحجر والجماد بعبادة هؤلاء ويكونون لهم عدواً؟
الجواب
إن العداوة تكون من معبودين عقلاء، فمن الملائكة من عبد من دون الله، ومن الجن كذلك، ومن البشر مريم وعيسى وغيرهما كذلك.
فالجمادات لا تجيب ولا تستجيب لدعاتها وعبادها يوم القيامة، ولا تنفعهم ولا تضرهم ولا تشعر بهم فهي جمادات، ويوم القيامة أولئك العاقلون من المعبودين يكونون أعداءً لهم، ويكونون كافرين بعبادتهم، وواقع الحال في الدنيا هكذا، فمن المشركين من عبد البشر، ومنهم من عبد الملك، ومنهم من عبد الجن، ومنهم من عبد الحيوان، ومنهم من عبد الجماد.
فكل هذه المعبودات يقال لها معبودات بغير حق ومعبودات باطلة، وكلها لا تستجيب لعابديها ولا تضرهم ولا تنفعهم، وكل واحد من هؤلاء المعبودين سواءً كان ملكاً أو نبياً أو جناً لا يملك مع الله شيئاً، إن هو إلا عبد له خاضع لقدرته ولجلاله ولإرادته جل وعلا.(329/5)
تفسير سورة الأحقاف [7 - 9]
إن الله عز وجل أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم للناس كافة وأمرهم باتباعه وتصديقه وبين لهم أنه ليس أول نبي وأن رسالته ليست أول رسالة بل سبقه إلى الدعوة إلى التوحيد الكثير من الأنبياء والرسل ولكنه كان آخرهم وخاتمهم وكانت رسالته ودعوته المهيمنة على رسالتهم ودعوتهم.(330/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات)
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:7]، أي: إذا أتت آيات الله، وإذا تليت وقرئت وقرعت آذان هؤلاء المشركين بما قال ربنا في كتابه، وبما بين نبينا صلى الله عليه وسلم في سنته، مما تأتي به الآيات البينات الواضحات المشروحات المفسرة الذي لا يغيب بيانها عن عقل عاقل، ولا إدراك مدرك، ولا طلب طالب، فالمؤمن يقول: سمعنا وأطعنا، والكافر يقول: {هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:7]، فلما جاء هذا الحق البين، وهذه الآيات البينات بالدلائل القاطعات والبراهين الواضحات عجز الكافرون عن الاستدلال نقلاً أو عقلاً، فأخذوا بالبهتان والإفك.
فقوله: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [الأحقاف:7] الحق: القرآن الكريم، والحق: الرسول صلى الله عليه وسلم، والحق: الرسالة المحمدية كما الرسالات السابقة، فالكافرون قالوا عن القرآن: هذا سحر، وقالوا عن المعجزات النبوية: هذا سحر، وقالوا عن السيرة النبوية العطرة وما فيها من دلائل: هذا سحر، وكذبوا بالرسول صلى الله عليه وسلم مع أنهم عاشروه وساكنوه، وهو ولد من أولادهم، وعاش بينهم مدة أربعين عاماً، عرفوا أباه وأمه وعمه وجده، وعلموا صدقه وأمانته، حتى ما كان أحد يذكره إلا يقول: الصادق الأمين.
فكيف بعد ذلك يصبح ساحراً، ويزعمون أن كلام الله سحر فهؤلاء القدامى كالمحدثين يحملون جهلاً مركباً يعصم الله عنه الحيوان، فالحيوان أعقل منهم، وأفهم للأمر منهم، فالحمار الذي نضرب به المثل في البلادة ترونه يلعب في الملاعب الحيوانية، فتجدونه يمتثل للحركة التي يأمره بها مربيه، فالحمر تعقل عنه وتسمع وتعي، ولكن هؤلاء البشر لا يكادون يعقلون ولا يدركون، فقدماؤهم كمحدثيهم، النعل بالنعل، والقذة بالقذة، وحق هذا المثل فيهم.(330/2)
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً)
قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38] أي: هل يوجد فيهم من يقول: إن هذه الرسالة افتراها محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا القرآن كتبه هو وأتى به من عند نفسه.
ولقوة دليل القرآن وبراهينه يعيد قول الكافرين ليقضي عليه بالحجة والبرهان، وليزيف هذه الأقاويل، ويميز الحق من الباطل، وليعلم المؤمن أنه مؤمن عن دليل وبرهان، وعن حق ومنطق بما يقبله العقل أولاً، وليس إيمانه عن هراء أو استسلام لا دليل له ولا برهان، لم يكن ذلك أبداً، فكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملان المنطق الساطع، عقلاً ونقلاً وبياناً، ولا ينكر ذلك إلا أعمى البصيرة قبل أن يكون أعمى البصر.
فأهل الكفر والإلحاد في الماضي والحاضر قالوا كل ذلك، قالوا: سحر، وقالوا: افتراه، وقالوا: {أَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان:4]، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] أي: صباحاً ومساءً.
كل هذه الأضاليل التي نسمعها اليوم من كتبة العصر؛ شيوعيين وماسونيين واشتراكيين وقاديانيين وجميع ملل الكفر كلهم حمقى رضوا بهذا الكفر دون دليل ولا برهان، واستمسكوا به استمساك البليد الجاهل بلا علم ولا منطق، وكرروه صباحاً ومساءً، وهو وصف للضعاف من الشباب، والضعاف من الكهول الذاهبة عقولهم وأديانهم، قالوا: هذه أشياء تقدمية، وأشياء تجددية، ونحن لا نعيش في الماضي المتخلف الذي مضى عليه ألف وأربعمائة عام.
نقول لهم: وبماذا أتيتم أنتم؟ أتيتم بكفر قوم نوح الذي مضى عليه آلاف السنين.
من قلدتم واتبعتم؟ أي بصيرة سلكتم؟ أي نقل من الكتب السابقة اتبعتم؟ اتبعتم كفرة اليونان والروم والفرس، فيزيدون كفراً وعناداً.
فقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [الأحقاف:8]، افتراه: كذبه، {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الأحقاف:8].
أي: قل لهم يا محمد: إن أنا كذبته وافتريته على الله، فإنكم لا تملكون لي من الله شيئاً إن أراد تعذيبي وعقابي، وما بالكم أنتم أفأفتري على ربي من أجلكم؟ وهذا من الضلال البين، فإن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام تواترت واستفاضت أجيالاً بعدها أجيال، وقروناً بعدها قرون على أنها كانت بينة وواضحة، عرفت قبل النبوءة بأربعين عاماً بالصدق والأمانة واليقين والغيرة والشفقة والشجاعة، فهل الذي لا يكذب على مخلوق مدة أربعين عاماً يكذب على ربه أو يكذب عليكم بعد سن الأربعين؟! وأيضاً جاءكم بالكتاب المبين وبالأدلة عليه، وبالدلائل القاطعة والمعجزات التي لم يأت بها أحد قبله، ولن يأتي بها أحد بعده.
أبعد كل هذا يأتي من يقول بعد ألف وأربعمائة عام: أن هذا القرآن صنعه محمد وأصحابه؟ وأكبر معجزة لنا نحن في هذا العصر ومن سبقنا ومن يأتي بعدنا: قول الله عن كتابه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، غيرت التوراة وهي كتاب الله، وحرفت الإنجيل وهي كتاب الله، وبدلت الزبور وهي كتاب الله، والقرآن على كثرة أعدائه في كل عصر وفي كل زمان ومن كل ملة ومن كل شعب لم يستطع أحد أن يزيد فيه آية أو ينقص آية، أو يغير تنظيماً لها أو ترتيباً، فهم أعجز من أن يفعلوا ذلك، وقد حاولوا أن يفعلوا ذلك في عصور مختلفة فما عادوا إلا بالخزي والذل والهوان، ومن يتأل على الله يقصمه الله.
ويقول تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} [الأحقاف:8]، هو ربنا أعلم بما تخوضون فيه من الكذب والضلال والباطل والقول الغث، مما لا يقبله منطق، ولا يخضع له عقل، ومنه الإفاضة أي: أفاضوا واندفعوا.
وهكذا هؤلاء اندفع بعضهم خلف بعض كاندفاع الحمر الشاردة، يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، ويفيضون بالكذب، ويخوضون في الباطل، ويقولون: هذا افتراء، والرسالة كذب، والقرآن كذب، وحاشى الله من ذلك، وحاشى كتابه ونبيه.
قال تعالى: {كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الأحقاف:8].
أي: يكفي إن لم تقبلوا أي شهادة على صدقي أن يكون الله شهيداً بيني وبينكم، يشهد كذبكم ويشهد فجوركم، ويحضر سماعه جل جلاله، وهو يشهد عليكم بما أنتم فيه من باطل، ويشهد بصدقي وأمانتي وبصدق رسالتي، وبصدق تبليغي لكتاب ربي.
{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الأحقاف:8]، والله جل جلاله رحمةً بنا يخاطب أعداءه الجاحدين الكافرين والمبهتين لأنبيائه، يجرهم إليه، ويدعوهم إليه، ويطمعهم في مغفرته ورحمته، فهو الغفور إن تبتم عن هذه الأقاويل الكاذبة والأقاويل الباطلة، وهو الرحيم بكم إن تبتم فلا يعذبكم ولا يدخلكم النار، ولا يحاسبكم بما مضى من ذنوب قبل التوبة والإنابة، وهو الغفور للمؤمنين والرحيم بهم، وباب الإيمان مفتوح على مصراعيه، فكل من قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله فتحت له أبواب المغفرة والرحمة، فيدخل من أيها شاء، تعالى ربنا وجل سبقت رحمته غضبه، وأرسل نبيه رحمة للعالمين.(330/3)
تفسير قوله تعالى: (قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم)
قال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:9].
قل يا محمد: ما كنت بدعاً من الرسل، لم هذا العجب؟ ولم هذه الضجة الكبيرة؟ ولم هذا الكذب الذي تفيضون فيه، تارة تقولون: سحر، وتارة ساحر، وتارة كذب، وتارة كاذب، وتارة مريض، وتارة يريد نساءً، يريد ويريد، لم كل هذا؟ فقوله: {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي: لست أول رسول جاء إلى الأرض، لم التعجب والاستغراب؟ كلكم سمعتم أن هناك أنبياء كثيرين سبقوني، قالوا ما قلت، ونزل عليهم ما نزل علي، ودعوا شعوبهم كما دعوتكم، ومع ذلك لم يقل الناس كلهم لهم: أنتم سحرة، أنتم كذبة، أنتم مفترون، بل آمن من آمن، وكفر من كفر، وما كانوا جميعاً على وتيرة واحدة.
ولا تنسوا أن السورة مكية، ولا يزال المسلمون قلة مضطهدين، بين قتيل وشريد وطريد.
فقوله: {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] البدع: الأول، والبدع: المبتدع، والشيء الذي لم يكن له سابقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أول نبي في الأرض، بل هو آخر الأنبياء، سبقه ثلاثمائة وثلاثة عشر نبياً رسولاً، وسبقه الآلاف من أنبياء الله، ممن أوحي إليهم بشرع ولم يؤمروا بتبليغه، فلم العجب؟ ولم هذا الضجيج؟ ولم هذه الزوبعة في غير مكانها؟ لم يكن بينه وبين آخر من سبقه من الرسل أكثر من 630 عاماً.
قال تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، هذه الفقرة الكريمة من هذه الآية العظيمة ظل فيها أقوام، فقد زعم قوم من المفسرين أنه عندما قال النبي عليه الصلاة والسلام ذلك فرح لذلك الوثنيون وأهل الكتاب من اليهود فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل الذي يعترف بأنه لا يعلم ما سيجري له، فضلاً عن غيره، ويقول لنا: سيكون لكم ويكون لكم، وهنا يعترف بأنه لا يعلم ما سيجري له.
وهذا النقل ليس بصحيح، إذ إن الآية ليست بهذا المعنى، والقرآن يفسر، ولكل علم أصول، وأصول القرآن أن تفسر الآية بالآية، فإن لم نجد فسرت الآية بالحديث الصحيح، فإن لم يوجد فبإجماع الصحابة، فإن لم يوجد إجماع فبما دلت عليه قواعد اللغة العربية نحواً ولغةً وبلاغةً وبياناً، ومن خرج عن هذه القواعد الأربع ضل وأضل، وأتى بالباطل والزور من القول، وكان تفسيره كما يفسر اليهود توراتهم والنصارى إنجيلهم فبدلوا وحرفوا وغيروا، ومن هؤلاء تقريباً جميع مفسري هذه العصور المتأخرة، إلا أفراداً معدودين، فمن الشيوعيين من زعموا أنهم أسلموا، فرأوا بهذه الطريقة أنهم يستطيعون التخريب، فنشروا الرسائل، وأذاعوا في الأجهزة المسموعة والمقروءة والمنظورة أفكاراً لا يقول بها حيوان، ويجدون أحياناً آذاناً صاغية وعقولاً واعية، ولكن الله لا يضل إلا من كتب عليه الضلالة يوم وضع جنيناً في بطن أمه.
فمعنى قوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9] المعنى بسيط وواضح، فمن الأنبياء من قتل، ومنهم من طرد، ومنهم من لم يؤمن به إلا الواحد والاثنان، وأممهم منهم من شردوا، ومنهم من أغرقوا، ومنهم من صعقوا، ومنهم من خسف الله بهم الأرض، ومنهم من جعل الله أرضهم عاليها سافلها، وأنا الآن أدعوكم، وأحرص على هدايتكم وتبليغكم، وأنتم تحرصون على عصياني والكفر بي، ولا أدري النتيجة والنهاية، هل سأقتل؟ هل سأخرج من بلدي؟ هل سينزل الله عليكم صاعقة لا تذر كبيراً ولا صغيراً؟ فالكلام متعلق بهذا المعنى.
ثم أيضاًً لو أعلمه الله -وقد أعلمه- فهو ليس علماً ذاتياً، فالنبي بذاته لا يعلم الغيب، ولا يعلم ما في الغد.
ومن أدب النبي أن يقول ذلك، وما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من الله لم يكن ذاتياً، بل هو من تعليم الله له ومن إكرام الله له، ولنستعرض حياة رسول الله، وما قاله رسول الله، وما قاله القرآن، فسنجد أن المعنى في هذه الفقرة لا يتجاوز هذه المعاني الدنيوية، هل سيقتل؟ هل سيخرج؟ وهذا ما قاله الحسن البصري رحمه الله.
قال تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى} [الأحقاف:9]، أي: لا أتبع إلا ما يوحى إلي، لست بدعاً من الرسل، ولا أضع رسالة ولا شرعاً، ولا آتي بقرآن، ولكن الذي أوحي إليَّ فأنا أشرعه ممتثلاً له، شأني شأن من سبقني من آبائي الأنبياء.
قال تعالى: {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:9] أي: لست إلا نذيراً من قبل الله، مخوفاً للكافرين، مهدداً لهم، متوعداً إياهم على خلافهم وخروجهم عن أمر الله وطاعته.
أقول يا قوم: آمنوا بالله، وإلا فالنار تنتظركم، وغضب الله قريب منكم، فخذوا العبرة من الأمم السابقة.(330/4)
الفوائد المستنبطة من قوله تعالى: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم)
قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] أخبر الله في كتابه النبي صلى الله عليه وسلم بنصره وتأييده، وأخبره بسخط أعدائه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] فالله وعد نبيه وذكره بأنه رسول للهدى، أرسله بالنور ليمحو بهداه الضلالة وبنوره الظلمة، وليظهره على الدين كله، وأرسله بدين الحق لا بالأديان الباطلة التي زعمها الأفاكون من المشركين والوثنيين الضالين المضلين؛ لتصبح الغلبة له على الدين كله، فالألف واللام ألف العموم، أي: جميع الأديان، وقد مضى محمد صلى الله عليه وسلم وعاش الإسلام قروناً، لم يكن يذكر في الأرض إلا الإسلام ودولته وقادته وأئمته وعلماؤه، وهذا عائد لا محالة، ونحن في بداية القرن الخامس عشر الذي يقول عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرسل لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)، فهو قد أخبرنا وبشرنا بأن تجديداً يحدث عند كل مائة عام، وسيحدث هذا بصورة أشمل وأعم أيام نزول عيسى بن مريم إلى الأرض، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب الكنائس والبيع، ولا يقبل إلا الإسلام، ولا يدع يهودياً ولا نصرانياً إلا إذا أسلم وإلا قتله، وهكذا ستنتشر كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله عامةً شاملةً، كما سبق أن كانت، ولا يفعل عيسى ذلك إلا بأمر من النبي عليه الصلاة والسلام، فهي ليست رسالة مستقلة ولا وحياً انفرد به، ولكنه أمر من رسول الله بأن عيسى ينزل إلى الأرض وهو على دين الإسلام وعلى ملة محمد عليه الصلاة والسلام، ومن هنا ترجم له أعلامنا في كتب الصحابة؛ لأنه يتصف بصفة الصحابي، وقد اجتمع برسول الله حياً وآمن به، وسيموت على ذلك.
في يوم من الأيام صلى عليه الصلاة والسلام الصبح في مسجده، ثم صعد المنبر، فبقي يخطب إلى أذان الظهر، ثم نزل فصلى الظهر، ثم صعد المنبر فلا زال يخطب حتى صلى العصر، ثم عاد إلى المنبر فبقي يخطب حتى أذن للمغرب فنزل فصلاها واكتفى بما صنع.
وهذه الخطبة قد توزعت في كتب الفتن وأبوابها، وفي المعجزات النبوية في كتب الصحاح والسنن والمسانيد، وجميع أمهات كتب السنة، قال رواة الحديث: وهو من الأحاديث المتواترة التي توجد في الصحاح كلها، رواها أكثر من عشرة من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين.
قال هؤلاء الرواة: حدثنا بما كان وما سيكون إلى قيام الساعة، حتى إنه ما من صاحب فتنة ومعه رجل أو رجلان إلا وحدثنا صلى الله عليه وسلم عن اسمه ونسبه وعصره ومن معه، حتى ما من طائر يطير في السماء إلا وحدثنا عنه.
وقال حذيفة: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان وما سيكون، فكان أعلمنا أحفظنا، ومجموع ما حفظوه كان خطبة كاملة، وجميع ما حدثنا عنه صلى الله عليه وسلم قد حدث بعد موته كما في الصحاح.
فقد حدثنا عليه الصلاة والسلام بقتل عمر وعثمان وعلي والحسين.
وحدثنا بقيام عائشة على علي، وقال: (ويحكن أيتكن تنبحها كلاب الحوأب)، وحدثنا أن الخلافة بعده ثلاث وثلاثون سنة، ثم تصبح ملكاً عضوضاً، كما في إجماع المؤرخين والمفسرين والمحدثين والعلماء فقد ختمت الخلافة الراشدة الأولى بعده صلى الله عليه وسلم باستشهاد الحسن بن علي رضي الله عنهما، وأخبرنا عليه الصلاة والسلام عن شرائط الساعة الصغرى والكبرى، وعن تغلب المسيح عيسى على المسيح الدجال، وعن قتال اليهود، وعن تخلف المسلمين.(330/5)
تفسير سورة الأحقاف [10 - 14]
إن الله عز وجل بعث الكثير من الأنبياء إلى بني إسرائيل فكفر أكثرهم بالله وعصوا الرسل وكذبوهم وقتلوا فريقاً منهم، إلا أن منهم -على قلتهم- من آمن بالله ورسله، فلما جاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم برسالته الخاتمة سارعوا إلى إجابته والإيمان به فآتاهم الله أجرهم مرتين.(331/1)
تفسير قوله تعالى: (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم)
ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وفي سنن النسائي عن أبي النضر عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد بن أبي وقاص أنه قال: (ما رأيت أحداً على وجه الأرض بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة إلا ما كان من عبد الله بن سلام، وفيه نزل قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10]).
ويقول عبد الله بن سلام بسند صحيح في مستدرك الحاكم: (جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمنت به، وشهدت شهادة الحق، وقلت: لا إله إلا الله، محمد رسول الله).
وكان عبد الله بن سلام أحد أحبار اليهود وربانيهم، وبعد أن أسلم ابن سلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أخفني في مكان وادع اليهود واسألهم عني، ثم قل لهم بعد ذلك وقد أسلمت، واسمع ماذا سيقولون)، ففعل ذلك صلى الله عليه وسلم وسألهم، وقد دعاهم لمجلسه: (ماذا ترون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وعالمنا وابن عالمنا، قال: أرأيتم إن أسلم، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله بن سلام وقال لهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإذا بهم بهتوه، وعادوا عن قولة الحق بقولة الباطل، فقالوا: هو شرنا وابن شرنا، وكذبوه، وشتموه).
وهكذا عادة اليهود، فهم قوم بهت.
يقول عبد الله بن سلام: وفيَّ نزل قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10]، فكانت الإشارة في هذه الآية الكريمة إلى عبد الله بن سلام صحابي من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وحبر من أحبار بني إسرائيل الذين اهتدوا، وكان قد آمن عندما شهد بشهادة الحق بصدق القرآن وبصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته.
فيا من أشركتم بالله وكفرتم بهذا الكتاب ولم تؤمنوا بالرسول المنزل عليه، إذا كان حقاً وقد كفرتم به فكيف سيكون حالكم يوم القيامة؟ كيف تكفرون به وقد شهد شاهد من أحبار بني إسرائيل على صدق هذا الكتاب، فآمن به وصدقه، وبقيتم أنتم مستكبرين عن شهادة الحق، وقصة إسلام عبد الله بن سلام وشهادته بالحق رويناها عن عوف بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، بل وعن عبد الله بن سلام نفسه، كما في الصحاح والسنن ومستدرك الحاكم.
وزعم قوم أن هذه السورة مكية، وعبد الله بن سلام مدني، والنبي لم يكن قد هاجر بعد إلى المدينة المنورة، وعبد الله بن سلام لم يكن بعد قد أسلم.
هكذا قال قوم وزعموا أن المقصود بقوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف:10]، هو موسى بن عمران، (على مثله) أي: من قومه بني إسرائيل.
أي: وشهد شاهد قبلكم بشهادة الحق، فآمن بالقرآن حسب نعت الله له في التوراة المنزلة عليه، فآمن به كتاباً من عند الله، وآمن بمحمد رسولاً من عنده صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وهذا كلام حق في نفسه، ولكن أن يكون بياناً وتفسيراً للآية ففيه جزاف وتكلف، كيف والحديث الذي رويناه عن مالك بن أنس أخرجه البخاري في الصحيح وأخرجه مسلم في الصحيح، وأخرجه الحاكم في الصحيح، وأخرجه النسائي في الجامع، ورويناه عن جماعة من الصحابة: عبد الله بن سلام نفسه، وسعد بن أبي وقاص، وعوف بن مالك، وعبد الله بن عباس كذلك.
صحيح أن السورة مكية، ولكن كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترتيب القرآن وتنظيمه أنه يقول للصحابة بأمر الله: (ضعوا هذه الآية في سورة كذا، وهذه الآية في سورة كذا)، وكثير من السور مدنية وفيها آيات مكية، وهناك سور مكية فيها آيات مدنية، وهذا لا عجب فيه ولا غرابة، وقد صرح بهذا النص سلف من الصحابة والتابعين، فهذه الآية مدنية ضمت في سورة مكية بأمر من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وسياق الآية وبيانها يؤكد هذا الذي رويناه عن الصحاح والسنن، وعن جماعة من الصحابة.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10]، من فعل هذا بنفسه فقد اعتدى عليها وظلمها بالشرك والكفر والنفاق، وليس بعد هذا الظلم ظلم.(331/2)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه)
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11]، وهذه هي عادة الكفار عند بعدهم عن الحق، حتى إذا تبين لهم أن من هم أقل منهم منزلة قد آمنوا، فإنك تجدهم يعزفون عن الحق ويتمسكون بالباطل.
فقوله: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] أي: قال الذين كفروا لمن آمن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان هذا الإنسان حقاً ما سبقنا إليه عبيدنا ودراويشنا وعمالنا وولداننا، ولو كان حقاً لسبقناهم إلى هذا الحق، ولأمسكنا به إمساكنا بالعزيز من الأمور.
وهكذا قالوا عندما رأوا بعض المستضعفين كـ صهيب وبلال وأبي ذر وسلمان الفارسي سبقوهم إلى الإسلام، وهم ينظرون إليهم على أنهم عبيد لهم، أو موالٍ قد أعتقوا، أو أقوام ليسوا بالذروة من قبائل قريش أو من قبائل بني هاشم، فقالوا عند ذلك: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] أي: لو كان القرآن خيراً، ولو كان الإسلام خيراً، لما سبقنا هؤلاء العبيد الذين ليسوا في الذروة من الشرف والأنساب والأحساب من قريش والعرب.
ويقول الله عنهم: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11]، ولما كانوا لم يهتدوا به، لم يؤمنوا به ولم يخرجوا من الظلمات إلى النور، بل زادهم لعنةً وظلاماً، فهم عند ذلك سيقولون: {هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11] أي: هذا كذب وأساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه.
وكما يقولون في المثل: من جهل شيئاً عاداه، وقد سئل مفكر: هل جاء في كتاب الله ما يطابق المثل: من جهل شيئاً عاداه؟ فقال: جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11]، عندما جهلوه وعادوه وتنكروا له وأخذوا يقولون عنه الأقاويل والأباطيل، ويقولون: {هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11]، أي: كذب قديم وأساطير طلب كتابتها وهي تملى عليه ويقصها بدوره.
هكذا يقول الكفرة، وهكذا يقول الضالون بلا منطق ولا فهم ولا إدراك.(331/3)
تفسير قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة)
{وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف:12].
فقوله: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [الأحقاف:12] أي: من قبل القرآن أنزل الله تعالى كتابه التوراة على يهود، ومع ذلك كفر به الكثير، وأشرك بالله الكثير، وهؤلاء المشركون كذلك لم يبادروا إلى الإيمان بالله، والإيمان بأحقية هذا الكتاب، وأنه من الله.
فالمشركون هم أشباه اليهود في كفرهم وشركهم واليهود أصل الفساد في الأرض.
وهكذا في عصرنا كذلك، ما من كفر قديم ولا حديث إلا وأئمته وقادته وموجهوه هم اليهود عنصر الفساد في الأرض، الذين كان الحق لهم عدواً، وكان الإيمان لهم عدواًَ، وكانوا بذلك في غاية الضلال والشرك المبين.
قوله: {كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:17]، كان إماماً لبني إسرائيل، ولكن أكثرهم كفروا به وعتوا عن أمر ربهم، وكفروا بنبيهم وبكتاب ربهم، وقد كان الكتاب الذي أنزل على موسى إماماً يؤمهم إلى الهدى والنور، ولو آمنوا به لرحمهم الله بما فيه.
{وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا} [الأحقاف:12]، وهذا كتاب جاء بعد كتاب موسى مصدق للكتب التي قبله، كالتوراة والإنجيل والزبور وصحائف إبراهيم، على أنها قد كانت يوماً حقاً، ولكن من أنزلت عليهم من أتباع الأنبياء بدلوا وغيروا وحرفوا، وأشركوا وعادوا للوثنية التي جاء الأنبياء للقضاء عليها.
وقوله: {لِسَانًا عَرَبِيًّا} [الأحقاف:12] أي: فصيحاً بيناً، معجزاً واضحاً، يفهمه كل من يفهم العربية، ومن درس العربية يفهم منه أوامر الله ونواهيه.
قال: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف:12].
أي: ليخوف الذين ظلموا وليهددهم وليعدهم بعذاب الله ولعنته وغضبه إن هم أصروا على الكفر وعلى الشرك.
قوله: {وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف:12] أي: هذا القرآن بشرى لمن أحسن ولمن آمن وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، يبشره بالجنة وبرحمة الله ورضوانه.(331/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13] فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الأحقاف:13] أي: الذين قالوا: ربنا الله لا سواه، وهو واحد لا ثاني له، {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13]، أي: أقاموا على الطريقة المثلى، واستقاموا على الحق المبين الواضح من طاعة ربهم وطاعة نبيهم وعمل الصالحات، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
قال تعالى: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13] فهؤلاء إن جاءوا يوم القيامة قد آمنوا بالله وعملوا الصالحات واستقاموا في أعمالهم وفي سلوكهم، {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13] أي: فلا يخافون يوم يخاف الناس، لا يخافون من النار ولا من غضب الله ولا من عقابه، ولا حزن عليهم بل لهم المسرة ولهم الفرحة، ولا خوف عليهم بل يجدون ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يجدون من أنواع الأفراح والمسرات والحبور ما يزدادون به حبوراً وانشراحاً.(331/5)
تفسير قوله تعالى: (أولئك أصحاب الجنة)
قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:14]، أولئك الذين أتوا يوم القيامة وهم مؤمنون بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالمؤمنين إخوةً، وبالكعبة قبلةً، هم أصحاب الجنة أي: سكانها وأهلها، وهم المالكون لها أبداً سرمداً جزاءً وفاقاً لعملهم قولاً بالإيمان بالله، ولعملهم فعلاً بالطاعات من صلاة وصيام وحج وزكاة وفعل الخيرات هؤلاء لهم الجنات جزاء أعمالهم الصالحة؛ لأنهم أُمِروا فأتمروا، ونهوا فانتهوا، ودعوا للإيمان فآمنوا، ودعوا لترك الكفر فنبذوه وتركوه.(331/6)
تفسير سورة الأحقاف [15 - 17]
إن بر الوالدين من أعظم ما يتقرب به إلى الله وتطلب به جنته، فقد قرن الله بين الإيمان به وبين بر الوالدين في غير ما آية من كتابه العزيز، وما ذاك إلا لعظم فضل الوالدين على ولدهما، فهما سبب وجوده في هذه الدنيا بإرادة الله سبحانه وتعالى، وما بلغ مبلغ الرجال حتى استنفذ منهما الوسع والطاقة في رعايته والحنو عليه وبذل أسباب العيش له.(332/1)
تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً)
قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].
هذه الآية في بر الوالدين، وبر الوالدين ذكره الله في كتابه في كثير من الآيات عقب دعوته الناس للإيمان به وتوحيده وطاعته، والأمر بالإيمان بكتبه ورسله، وقد قال ربنا كذلك: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، قوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف:15]، وصينا الإنسان أي: أمرنا الإنسان ووجهناه.
ومن هنا نعلم أن كل إنسان سواءً كان كافراً أو مسلماً قد كلف بفروع الشريعة كما كلف بأصولها، ولكن قبول الفروع لا يتم إلا بأصول، فمن لم يقل: لا إله إلا الله ولو صلى وصام وزكى وحج، ولو فعل ما عسى أن يفعله، لن يقبل منه ذلك؛ لأن شرط قبول الطاعة الإيمان بالله أولاً.
قوله: {بِوَالِدَيْهِ} [الأحقاف:15] أي: بأبيه وأمه، أمر الله جل جلاله بالإحسان إليهما.
قرئ: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف:15]، وقرئ: (حسناً)، وكلاهما قراءتان سبعيتان متواترتان.
والحسن مقابل القبح أي: أن يبر والديه بأحسن الأشياء وبأنبلها وأكرمها، ويبعد عنهما قبيحها ورذيلها، وما لا يليق بهما، ومن الإحسان إلى الوالدين عدم رفع الصوت عليهما، وألا تقول لهما: أف، وهي أقل كلمة تقال.
أما رفع الصوت من قبل الوالدين ومعارضتهما للولد لا تكون إلا في صالحه، والوالدان لا يأمران الأولاد إلا بما يعود عليهم بالخير، فعليك أن تحسن إليهما الإحسان الذي يرضيهما في دار الدنيا، ولا تعصي أحدهما ما لم يأمر بشرك أو يأمر بمعصية.
وهذا مثل قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15].
فالأبوان لا يُعصيان إلا إذا أمراك بالشرك أو بمعصية الله، حينها لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلا يطاع حاكم ولا شيخ ولا والد ولا أم إن هم أمروك بمعصية الله، وبالخروج عن طاعة الله، كأن تقول لك زوجتك: لا تصل ولا تصم، وكأن يأمروك بالكفر والشرك، فلا طاعة لهم، بل ولا بيعة لهم ولا كرامة.
أسلم سعد بن أبي وقاص وبقيت أمه كافرة، فقالت له: ألم يأمرك دينك بالبر بي وطاعتي؟ قال: نعم.
قالت: رأسها من رأسه حرام وألا يظل سقف رأسها ما لم يكفر بمحمد وبدين محمد، فقال لها: يا أماه إلى هنا فلا طاعة، والله لو بقيت دهراً تحت شمس تحرقك، ولو بقيت في مجاعة تقتلك، أو عطش يخنقك لما رجعت عن إيماني بالله، وإيماني بمحمد رسول الله، فقدمي أو أخري، وإذا بها بعد قليل تقول: ما ثبت ولدي على هذا وهو الذي عودني البر والطاعة إلا لأنه الدين الحق، فأنا كذلك مع ولدي، فقالت: أشهد أن لا إله ألا الله، وأن محمداً رسول الله، ولذلك فإن الثبات على الأشياء لا يأتي إلا بالخير، والتزعزع والتذبذب لا يأتي على الإنسان إلا بشر.
فقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:14]، أي: أوصى الله الإنسان أن يحسن لوالديه إذا استطعماه واستسقياه واستسكناه، وفي كل ما يتعلق بأمور الدنيا، ومن باب أولى إذا أمراه بالمزيد من الطاعة والتهجد والعبادة والصدقات، فطاعتهما في هذه الحالة يصبح براً، وهو في الأصل طاعة لله وامتثال لأوامره، فيجتمع بذلك طاعة الله وبر الوالدين.
قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف:15]، أي: وللأم زيادة على الأب في ذلك، الأب أنزله لذة، والأم حملته كرهاً ووضعته كرهاً، وعاشت دهراً وهي تتعب نفسها معه وليداً وحابياً وصغيراً، إلى أن أصبح شاباً يافعاً، وأصبح إنساناً قوياً، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام عن الأم: (الجنة تحت أقدام الأمهات).
ولها قراءتان القراءة الأولى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} [الأحقاف:15]، والقراءة الأخرى: (كَرهاً) والمعنى واحد، أي: حملته تسعة أشهر، وهي تجد وحمه وثقله وغثيانه ووجع الرأس الناتج عن حملة، وتفتقد صحتها إلى أن يولد، وفي الولادة يشتد وجعها ومخاضها، وقد يبقى أياماً وقد يبقى ساعات، ولا يكاد يخرج منها حتى ترى الموت أمامها.
فلهذه المشقة ولحملها به وولادتها له أمر الله بمزيد العطف والعناية بالأم، وللأب طاعة مطلقة، إذ هو الذي يربيك ويعلمك، فالأم تعيش معك بالعاطفة، والأب يعيش معك بالعقل والمنطق، فلو تركت لأمك لما حضتك على دراسة ولا على شيء يشق عليك، ولأصبحت جاهلاً لا تعرف شيئاً من أمور دنياك ودينك.
أما الوالد فيشرف عليك مع محبته لك والعطف عليك، لكنه يغلب عليه جانب القسوة؛ ليكون ذلك أقوم لنشأتك ولتربيتك، ولتكون إنساناً تعرف أمور دنياك فلا تحتاج إلى أحد، وفي آخرتك يرضى عنك ربك ويدخلك جنته.
قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، أيضاً هذا متعلق بالأم.
يروى أن الإمام علياً كرم الله وجهه بلغه أن عثمان بن عفان يريد رجم امرأة ولدت لستة أشهر، فأقبل على عثمان فقال: يا أمير المؤمنين! ألم تقرأ كتاب الله؟ قال: بلى، قال: اقرأ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، وقال الله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233]، فـ علي رضي الله عنه أخذ الدليل من نصين من كتاب الله، إذا كان الرضاع حولين كاملين، أي: أربعة وعشرين شهراً، فإنه سيبقى من مجموع ثلاثين شهراً ستة أشهر، وهذا دليل على أن المرأة تلد لستة أشهر، وكانت المرأة التي أراد عثمان رجمها تبكي، وتقول: لا والله ما مسني أحد من خلق الله إلا زوجي، وهم يقولون لها: لا تلد امرأة لستة أشهر، لكن القرآن يقول ذلك، ولا يقول القرآن إلا حقاً.
قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، أي: حمله وفطامه من الرضاعة ثلاثون شهراً.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} [الأحقاف:15].
يتدرج الإنسان في الشدة والقوة من السنة الثامنة عشرة إلى الأربعين حيث تكتمل رجولته وقوته.
فقوله: {بَلَغَ أَشُدَّهُ} [الأحقاف:15]، أي: بلغ قوته وقدرته ورجولته، وقوله: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:15] أي: بلغ مبلغ الرجال الأقوياء الذين بلغوا شدة رجولتهم وشدة قوتهم.
يعني: حتى إذا بلغ هذه الرجولة وهذه القوة أخذ يدعو ربه ويقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي} [الأحقاف:15] أي: ألهمني، رب ألهمني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} [الأحقاف:15] أي: أن أشكرك على ما أنعمت به علي من إيمان وإكرام وعطاء وغير ذلك، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
قوله: {وَعَلَى وَالِدَيَّ} [الأحقاف:15]، بأن جعلهما مؤمنين صالحين، إذ ربيا أولادهما على الإيمان والإحسان والأخلاق الفاضلة، فهو يشكر الله لنفسه، ويشكر لأبويه، قوله: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [الأحقاف:15].
أي: ويرجو من الله أن يلهمه أن يدعو الله بأن يعمل صالح الأمور التي يرضاها عنه، لا التي ترضاها نفسه، أو يرضاها هواه، أو يرضاها فلاسفته، أو الضالون المضلون من أدعياء العلم والفلسفة، بل يدعو الله أن يعمل الصالح الذي يرضاه الله عنه، من صلاة وصيام وزكاة وحج، وترك للمنكرات ما بطن منها وما ظهر.
قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف:15]، وهذا شأن من يتزوج في أول شبابه، حتى إذا بلغ الأربعين سنة قال: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف:15] أي: اجعل الصلاح والهداية والإيمان فيهم، بأن يكونوا جميعاً موحدين مؤمنين بك رباً وبنبيك رسولاً، وبالكتاب المنزل عليه حكماً {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأحقاف:15]، وهذا شأن الإنسان حين يكبر ويكبر أولاده ويأتي أحفاده، إذ يكون قد أدى مهمته في هذه الحياة، ويوشك أن يدعى فيجيب، ومن اللائق بالمؤمن أن يبادر بالتوبة، وهو على أبواب الدار الآخرة ليكون آخر عمله توبة، والاستغفار والندم على ما فات علمه أو لم يعلمه.
قوله: {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15]، أي: من الذين استسلموا لك، فقد أسلمت وجهي إليك، لا منجى ولا مفر إلا إليك، أنت خالقي، وأنت رازقي، منك أطلب العون والمغفرة.(332/2)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16] أي: أولئك الذين آمنوا بالله رباً وبمحمد نبياً ورسولاً، وبروا بأبويهم، وأحسنوا إليهما وأطاعوهما في المعروف، ودعوا الله بالعمل الصالح، وأن يعطيهم الذرية الصالحة البعيدة عن الخنا وما لا يليق، فهم مسلمون إلى لقاء الله، فهؤلاء {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [الأحقاف:16] أي: يقبل الله أحسن أعمالهم، ويجازيهم عليها أحسن الجزاء، ويتجاوز عن سيئاتهم ويمحوها كأن لم تكن، ويتقبل الحسنات ويجعل من الحسنة الصغيرة عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإلى ما شاء الله من أضعاف.
قال تعالى: {وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} [الأحقاف:16]، أي: يتجاوز الله عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، أي: هم من أهلها ومن سكانها.
ثم قال تعالى: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16] أي: وعدهم وعد الحق الذي لابد أن يكون، وعدهم بالجنة والمغفرة والرضوان، وقبول الصالحات والتجاوز عن السيئات.(332/3)
تفسير قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما)
قال تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأحقاف:17].
هذه آية العققة والكفرة الذين عصوا ربهم.
ولهذه الآية أسباب، وقديماً قال علماء الأصول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقد قالوا عن آية البررة، {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [الأحقاف:15] أنها نزلت في أبي بكر الصديق وانفرد بها من بين الأصحاب، إذ آمن أبواه كلاهما، وأسلم أولاده جميعاً، واستجاب الله له فيهم، وكان من البر إليهم والإحسان إليهم ما أصبح المثل المضروب فيه بين الأولاد البررة.
ولكن هذا -وإن كان سبباً- فالآية تعم كل بار بوالديه، وكل من أطاع وأناب وأحسن إليهما.
أما النوع الآخر: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف:17]، هذا العاق قال لأبويه: (أف لكما) لم؟ عندما دعواه إلى الله وإلى الإيمان به، وهما يصرخان في وجهه، ويستغيثان الله له بأن يتوب عليه، وأن يعيده إلى الإيمان والبر بهما، ومن العقوق أن يقول لهما: (أف لكما) وأف: كلمة تضجر وتضايق، كأنه يقول: ضقت بكما، وتضجرت في وجوهكما، وإن صحب ذلك صوتاً مرتفعاً سيكون أكثر في العقوق وأقبح في المعصية والكبيرة.
قال: {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف:17] أي: أتجعلان لي موعداً وعهداً بأن أخرج لهذا الوجود بعد الموت وأحيا مرة ثانية؟ {وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف:17] أي: ولم نر أحداً منهم، ولم يعش أحد منهم، وأخذ يقول لأبويه: أين هؤلاء؟ أين كبار قريش وزعماؤها؟ أين ذوو الرأي فيها؟ أين فلان؟ وأين فلان؟ وقد مضت عليهم قرون، والقرون: جمع قرن، فإنما تقولان شيئاً لا يعقل.
قال تعالى: {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ} [الأحقاف:17]، الواو واو الحال، أي: وهما يستغيثان الله أن يصلحه وأن يعيده للإيمان، ويناديان في وجهه: ويلك آمن، أي: سيصيبك الويل إن بقيت كذلك، والويل وادٍ في جهنم.
قال تعالى: {فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأحقاف:17]، ما وعدتموني به من حياة بعد الموت وأن هناك إيماناً، وهناك داراً ثانية أساطير الأولين، والأساطير: جمع أسطورة، أي: خرافة وقصة لا معنى لها من قصص الأولين.
وزعموا أن هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وأنه هو الذي دعاه والده ودعته أمه إلى الإيمان بالله، وهو يصرخ في وجههما، وهذا قول لا أساس له من الصحة، قال تعالى: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الأحقاف:17]، وعد الله بأن الدار الآخرة قائمة، وأن يوم البعث آت، وآن الآخرة لا شك فيها ولا ريب، فيجيب ويقول: {مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأحقاف:17] أي: خرافات حفظتموها ونقلتموها عن القرون الخالية وعن الآباء الماضية.(332/4)
ذكر ما حصل بين مروان بن الحكم وعبد الرحمن بن أبي بكر في شأن هذ الآية
كان مروان بن الحكم أميراً لـ معاوية على المدينة المنورة، وهو يخطب يوم جمعة في المسجد النبوي، فقرأ الآية وقال: نزلت في عبد الرحمن قبل ذلك، وذلك لأنه دعاهم إلى أن معاوية يريد أن يتخذ سنة أبي بكر وعمر في أن يجعل ولده يزيد ولي عهده من بعده، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: يا هذا! لا تقل: سنة أبي بكر وعمر، قل: سنة هرقل وقيصر، فـ أبو بكر وعمر لم يعهدا لأولادهما ولا لعشائرهما ولا لواحد من حوضهما، ولكنك تريدها قيصرية هرقلية، وإذا به ينادي الحرس: خذوه، فدخل عند أخته أم المؤمنين عائشة، وكان البيت لا يزال في المسجد النبوي ثم قال مروان: هذا الذي نزل فيه قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف:17]، فإذا بـ عائشة تسمعه من وراء الباب فقالت له: كذبت، أشهد لقد لعن أبوك وأنت في صلبه، وهذا الذي قالته عائشة تواترت به الأحاديث، وصح عن جماعة من الصحابة، وقالت عائشة: لم ينزل فينا شيء إلا ما كان من عذري عندما عذرني الله في رد الإفك على أهله، ولو شئت أن أقول فيمن نزلت هذه الآية لذكرت اسمه واسم أبيه، ولكن عائشة لم تذكر اسمه، وكلام مروان هذا الذي أعلنه على المنبر اغتر به الكثيرون فنشروه ورووه، وتجدونه الآن منشوراً ومنقولاً عن الكثير من المفسرين والرواة، وصدقت عائشة، فإنه ليس لذلك أساس من الصحة.
فـ مروان قال ما ليس بحق وعائشة صديقة صحابية جليلة عالمة فاضلة، ومروان لم يكن شيئاً من ذلك، ومروان عندما قال: سنة أبي بكر وعمر ما قال إلا الكذب، ولكن عائشة لنبلها وفضلها لم تذكر اسم هذا الذي قال هذا؛ لأنه قد أسلم، والإسلام يجب ما قبله، فلم تر ذكر اسمه بعد إسلامه مقبولاً، وعبد الرحمن قد أسلم بإجماع العلماء، فكان لـ أبي بكر من الأولاد عبد الله ومحمد وعبد الرحمن وأسماء وعائشة وأم كلثوم، ولم يمت أبو بكر حتى كان والداه مسلمين وأولاده ذكوراً وإناثاً جميعهم مسلمين؛ ولذلك فإن هذه الآية لم تنزل في عبد الرحمن.
وقال البعض: نزلت في عبد الله.
وليس الأمر كذلك، بل نزلت في شخص لم تذكره عائشة وسكتت عنه.(332/5)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين حق عليهم القول)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:18].
أولئك الذين كفروا بالله وقالوا عن كتبه أساطير الأولين، أولئك الذين عقوا الآباء وقالوا لهما: أف وكذّبوهما ورفضوا دعوتهما إلى الإسلام، فهؤلاء قد خلوا من الأمم الكافرة والأمم الضالة من الجن والإنس، ومن الأمم التي أدخلها الله النار من الجن والإنس.
{إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:18] فتلك الأمم وتلك الشعوب التي كفرت بالله وعقت الآباء قد خسروا دنياهم وآخرتهم وكانوا من أهل النار.(332/6)
تفسير سورة الأحقاف [18 - 25]
إن من حكمة الله عز وجل أن يبعث الرسل إلى الناس ليقيموا عليهم الحجة، وقد ذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قصص الأنبياء وتكذيب أقوامهم لهم، وما تبع ذلك من عقاب الله لهم، ومن أولئك قوم عاد الذين أرسل الله عليهم الريح العقيم التي ما تركت منهم عيناً تطرف، فجعلهم الله آية لمن بعدهم.(333/1)
تابع تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين حق عليهم القول)
قال الله جل جلاله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:18] يقول ربنا عن هؤلاء العققة الكافرين الذين أشركوا بربهم وعقوا أبويهم وخرجوا عن دين الله، جزاؤهم أنه قد حق عليهم القول ووجب عليهم لعنة الله، حيث قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: قال الله عز وجل: (هؤلاء إلى النار ولا أبالي، وهؤلاء إلى الجنة ولا أبالي).
هذا القول صدر عن الله في عذاب كل كافر وفي عذاب كل عاق، إذا هو لم يؤمن بالله ويتب مما أذنب فسيكون حاله كذلك عندما يبعث يوم القيامة.
فقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [الأحقاف:18] أي: وجب عليهم العذاب في قول الله تعالى بأن هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار.
فقوله تعالى: {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأحقاف:18] أي: مع أمم وشعوب قد كفرت بالله وقد سبقت ومضت وهلكت وبادت {مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأحقاف:18] أي: ضمن أمم خلقت وسبقت من قبلهم من الجن والإنس {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:18] فهؤلاء الأمم خسروا دينهم ودنياهم وأنفسهم في الدنيا والآخرة.(333/2)
تفسير قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا)
قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف:19] وقرئ: (وَلِيُوَفِّيَنّهُمْ أَعْمَالَهُمْ) وهاتان قراءتان متواترتان سبعيتان والمعنى واحد.
قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف:19] هذا التنوين يقال عنه في النحو وفي لغة العرب: تنوين العوض، أي: لكل أمة ولكل فرد درجات وجزاء ومنزلة، فبعمله يجازى إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ودرجات الصالحين تعلو ودركات الكافرين تسفل فيقال عن منازل الصالحين: درجات، حيث تعلوا درجة بعد درجة، ومنازل الكافرين يقال عنها: دركات وتنزل إلى قعر جهنم، فأولئك يعلون، والكافرون ينزلون ويسفلون.
قوله: {وَلِيُوَفِّيَهُمْ} [الأحقاف:19] أي: ليعطيهم أجورهم وليجزيهم أعمالهم كاملة غير منقوصة، فالوفاء غير النقص حال كونهم لا يظلمون، فلا ينقص من عمل صالح ولا يزاد في عمل كافر، إن هو إلا العدل المطلق والقسطاس المستقيم.(333/3)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار)
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20] يقال لأهل النار يوم القيامة وقد عرضوا عليها وجروا إليها: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20] أي: قد جاوزتم الحد في دنياكم من الإسراف وأكل الباطل وأكل الحرام والشهوات، فافتقدتموه في الآخرة، وأنتم بذلك قد أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا وأنهيتموها فلا حياة طيبة ولا متعة بعد ذلك، فقد تمتعتم بالكفر والشرك بالله وعدم حمده على نعمه، وعدم الإيمان به.
قال تعالى: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأحقاف:20] أي: تجزون عذاب الهون والعذاب المهين المذل، ثم ذكر الله سبب استحقاقهم هذا العذاب، فقال: {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف:20] فالباء سببية أي: بسبب تعظيمكم للحياة الدنيا وتكبركم على الناس بغير حق، فالكبر لا يجوز بحال، فكيف إذا كان بلا حق ولا سبب؟! فهو كفر وشرك وخسران؛ ومع ذلك تكبروا بكفرهم، وتعاظموا بشركهم، ورفضوا أمر ربهم، وظلموا المؤمنين وتعالوا عليهم.
قوله: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20] والفسوق: الخروج عن الحق والخير، والخروج عن كل فضل وإيمان وعن كل ما يدعوك للطاعة وللامتثال.
ثبت في الأثر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هجر نساءه أو طلقهن، فصعد إلى علية حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيماً لمدة تسعة وعشرين يوماً، واستأذن عليه أولاً وثانياً وثالثاً فأذن له ولما يكد، فعندما دخل عليه لم يجد في الغرفة ما يرفع البصر فقال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أهكذا أنت؟ وأنت رسول الله في هذا الجرف في شظف من العيش وكسرى وقيصر يرفلون في الخيرات والنعم! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس وقال: (يا ابن الخطاب! أفي شك أنت؟ أولئك عجلت طيباتهم في الحياة الدنيا فقال عمر: استغفر لي يا رسول الله! قال: غفر الله لك)، وقال نبي الله عليه الصلاة والسلام: (لقد أخفت في الله حيث لم يخف أحد، وأوذيت في الله حيث لم يؤذ أحد، ولقد كان يمضي عليَّ الثلاثون يوماً وليس عندي ما آكل إلا تمرات يحملها بلال تحت إبطه) هكذا كان رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهكذا الأخيار من الأنصار والمهاجرين زهدوا في الحياة الدنيا وفي الطيبات وفي المتع رجاء ما عند الله، وخوفاً من أن يدخلوا ضمن هذه الآية، ولقد قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: (لقد كان يمر على آل محمد الشهر والشهران ولا نوقد فيه ناراً، إن هو إلا الأسودان: التمر والماء) فما كانوا يجدون ناراً ينضجون عليها لحماً أو إداماً من زيت أو سمن أو لبن، وكان أكثر طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم خبز الشعير.
وقال أبو هريرة: لقد كنا أهل الصفة ثلاثمائة رجل ما عند أحدنا إلا رداء أو إزار يسفر نصف ساقه أو يصل إلى الكعبين ويمسكه بيده خوف أن تكشف عورته، وكان يمضي عليهم الأيام الطوال لا يأكلون فيها شيئاً، وكان سيدهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمكث الأيام الطوال لا يجد طعاماً، ويربط على بطنه الحجر من الجوع، وكان ذلك عن رضاً منه واختيار منه، فقد عُرضت عليه جبال مكة وجبال المدينة على أن تكون له ذهباً وفضةً فأبى، وعُرضت عليه مع النبوة والرسالة الملك فقال: (لا، إن أنا إلا عبد رسول، أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر) وهكذا كانت حياة الصحابة أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كانوا سادة الناس، فقد نشروا الدين في المشارق والمغارب، وقد كان يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذوقون مرارة الجوع: (لست أخاف عليكم الفقر، ولكنني أخاف عليكم الغنى فتغنون فتتنافسون على الدنيا فيقتل بعضكم بعضاً) وهذا الذي توقعه عليه الصلاة والسلام وخافه على أمته هو الذي حدث، فلم يكد عليه الصلاة والسلام ينتقل إلى الرفيق الأعلى وتمضي بضع سنين حتى استشهد عمر ثم استشهد عثمان ثم استشهد علي ثم استشهد الحسن، وقامت الفتن وقتل فيها عشرات الآلاف من عباد الله الصالحين خير الخلق بعد الأنبياء، ملكوا المشارق والمغارب فتنافسوها فتقاتلوا عليها وأراق بعضهم دماء بعض في سبيلها، ولقد كانوا كما قال عليه الصلاة والسلام في حال فقرهم أعظم شأناً من حال غناهم وحال انتشار ملكهم وسلطانهم.(333/4)
تفسير قوله تعالى: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف)
قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف:21] واذكر لقومك قصة أخي عاد، وأخو عاد هو نبيهم هود بن عبد الله بن رباح العادل، اذكر قصته مع قومه وما لقيه من كفر ومن تكذيب، ويقال للإنسان من العشيرة: أخ لها، ويقال: يا أخا قريش أي: يا قرشي يا أخا هاشم: أي يا هاشمي يا أخا أمية أي: يا أموي يا أخا المغرب أي: يا مغربي.
قال تعالى: {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} [الأحقاف:21] أي: إذ خوفهم بالله وأنذرهم عذابه وفتنته في أرض الأحقاف، والأحقاف: جمع حقف، وهي أرض في حضرموت يقال لها: الشحر ويقال لها: الرمال، فهناك أرسل هود إلى قوم عاد وهم من أهل اليمن الحضارمة، دعاهم إلى الله وأنذرهم غضبه ونقمته وخوفهم، فلم يطيعوا ولم يوحدوا الله سبحانه، على أن هوداً لم يكن بدعاً من الرسل، فقد مضت نذر من قبله من بين يديه ومن خلفه.
والنذر: جمع نذير، والرسول نذير وبشير.
فقد خلت قبله رسل وجاءت بعده رسل أنذروا أقوامهم وعشائرهم وأمروهم عن أمر الله بطاعة الله ووحدانيته وترك الأصنام والأوثان، وكلهم قالوا ما قاله هود: أن اعبدوا الله وحده لا شريك له.
قال تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف:21] خوّفهم يوم القيامة وأنذرهم يوم القيامة وقال لقومه شأنه شأن النبي الناصح الأمين: إني يا قوم! أخاف عليكم عذاب الله في يوم عظيم، أي: يوم القيامة ويوم البعث والنشور.
وكان عاد أقواماً طوالاً عراضاً ذوي قوة وأيد وحضارة، وذوي قصور شاهقات يبنونها بالسهل وينحتونها من الجبال، وكانوا يعمّرون المئات من السنين، وقد جعل الله لهم سمعاً وأبصاراً واعية عاقلة، ولكنهم مع كل ذلك كانوا جاهلين ولم تنفعهم عقولهم في الإيمان والتوحيد، شأنهم شأن الناس في هذا العصر الذي يقال عنه: عصر الحضارة، فقد سبقته حضارات وسبقته اختراعات وأشياء ليست موجودة في بال أحد من معاصرينا لا يهوداً ولا نصارى ولا معطّلين ولا ملاحدة، ومع ذلك كانوا عمي الأبصار والبصائر، صم الآذان، غلف القلوب، إذ سخروا من الأنبياء واستهتروا بهم؛ وهكذا عندما جاءهم ابن عمهم وأخوهم هود ودعاهم إلى الله وإلى الإيمان به وإلى ترك الأوثان والأصنام.
قال تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف:22] أي: يا هود! أجئت إلينا تنذرنا وتخوّفنا لتأفكنا وتصرفنا وتبعدنا عن آلهتنا؟ أتريد منا أن ندع آلهتنا ونعبد إلهك؟ {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف:22] فاستعجلوا بالعذاب وتحدوا نبيهم عليه الصلاة والسلام، فقالوا {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأحقاف:22] ويعنون: الوعيد.
قوله: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف:22] أي: أرادوا أن يعلموا صدقه وصدق رسالته في أنفسهم وعقولهم، وإذا بالله جل جلاله يعجّل ما استعجلوه، فقال لهم نبيهم: {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف:23] فأجابهم وقال: إنما العلم عند الله ولست أنا إلا رسولاً وعبداً للذي أرسلني جل جلاله، فالعلم في تعجيل العذاب أو تأخيره أو ترككم زمناً بيد الله وفي علم الله، إن أنا إلا عبد مثلكم ولكنني رسول من الله إليكم أبلغكم ما أرسلت به، والذي أرسلت به هو ما بلغتكم إياه من تخويفي لكم عذابه ونقمته واليوم الآخر، أما وقد استعجلتم العذاب وأصررتم على كفركم فالأمر لله يفعل ما يشاء.
ثم قال لهم: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف:23].
قال لهم ثلاث كلمات بليغات مختصرات فيها معان كثيرات: {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحقاف:23] إن شاء عجّل عذابكم وإن شاء أخره.
{وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} [الأحقاف:23] ليس من شأني إلا ذلك ولست معجّلاً لعذاب ولا مؤخراً له.
{وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف:23] اتهمتموني بالجهل وبعدم الفهم وبعدم الوعي! وكان بإمكانكم أن تسألوني مستفسرين عن صدقي أن آتيكم ببينة أو آتيكم بمعجزة أو آتيكم بما يصدِّق قولي، ولكنكم رغم كونكم تعلمون صدقي وأمانتي وقد عشت دهراً بينكم وما رأيتم سوى ذلك؛ بادرتم بالتكذيب والإصرار على عبادة الآلهة المزيفة الباطلة.(333/5)
تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا)
قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24].
قال لهم نبيهم: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24].
لا تكاد تمضي أيام حتى رأوا ريحاً جاءت من جهة الجنوب، قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالصبا وأهلكت قوم عاد بالدبور) والدبور ريح الجنوب، وتكون عادة ريحاً عقيماً مدمرة، أما الصبا فهي عادةً ريح خير وغيث، فرأوا الريح قد جاءتهم من الجنوب ولم ينتظروا ليميزوها، إنما رأوا عوارض الريح قد أقبلت فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] أي: هذا سحاب قد عرض لنا سيمطرنا ويغيثنا، وقد مضت عليهم سنوات لم يمطروا فيها ولم يغاثوا فيها وأجدبت الأرض ويبس الشجر وجف الضرع وقل الكسب وضعفت التجارة وقلت الصناعة، ولو آمنوا بالله وصدّقوا نبيهم هوداً لكان ما رجوه من رحمة ومن غيث، ولكنهم أبوا إلا الكفران والجحود.
قوله: {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} [الأحقاف:24] أي: رأوا السحاب مستقبل أوديتهم -جمع واد- ولما رأوا العارض مستقبل وديانهم ودروبهم وتلالهم ومزارعهم استبشروا خيراً، وكان ينبغي أن يستبشروا بالشر، {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] أي: هذا السحاب آت بالمطر والغيث والخيرات والأرزاق، وإذا بنبيهم يقول لهم: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف:24 - 25].
فهؤلاء عندما طغوا وتحدوا نبيهم واستعجلوا العذاب الذي خوّفهم منه أصابهم الله بما استعجلوا به وسلّط عليهم ريحاً عقيماً.
فقوله: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24] أي: عذاب مؤلم مخز موجع.
وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] رأوا خيامهم تتطاير، والأطفال والنساء تتطاير بهم العواصف كما تتطاير بالجراد وخفيف الطير، فأغلقوا عليهم بيوتهم، وإذا بالريح تشتد فتقلع الأبواب، وكان الواحد منهم تحمله الريح العاصف مئات من الأمتار فيلقى في باطن واد أو على شاهق جبل، فيجمع له بين الريح العقيم وبين الدهدهة من رأس الجبل إلى أسفل الحضيض؛ وهكذا حتى لم يبق فيهم عين تطرف أو روح تتحرك لا من إنسان ولا من دابة ولا من ماشية ولا من طير.
قال تعالى: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] أي: لم تبق إلا المساكن خربة وخاوية وينعق فيها الطير والغراب، ذكر الله هذا وذكر المغزى في آخر الآية فقال: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف:25] أي: وكما فعلنا بقوم عاد، والخطاب لقريش حاضراً ولأمة محمد كلها عربهم وعجمهم، حاضرهم وغائبهم، وهذا العقاب لا يزال قائماً بين عربنا وعجمنا، وبين مؤمننا وكافرنا، وبين أبيضنا وأسودنا وأحمرنا، وما نرى من هذه الآفات والمصائب، وما نرى من هذه الطوام هي جزء من هذا العذاب الذي أنذر الله به الأمم والشعوب، فقد أنذر الأمة المحمدية وضرب لها الأمثال والأشكال فيما صنعه بقوم عاد وبقوم ثمود وبقوم لوط وبقوم إبراهيم وبقوم فرعون، وبجميع الأمم الماضية الخالية ممن أشركت بالله وكفرت بنعمه وخيراته وأرزاقه، وهذا الحق الذي لا مين فيه ولا شك آمن به من آمن وكفر به من كفر.
فقوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف:25] أي: كما جازى الأولين بكفرهم وشركهم كذلك يجازي أمثالهم من كل قوم مجرمين، والإجرام هنا: الشرك.(333/6)
تفسير سورة الأحقاف [26 - 28]
إن تكذيب الرسل ورفض الرسالات سنة مضى عليها أكثر الأولين، فما من نبي أرسله الله إلى قوم إلا وكذبه أكثرهم، وما آمن معه إلا قليل، فكان نتيجة ذلك أن دمر الله المكذبين فمنهم من أرسل عليهم الريح، ومنهم من أغرقوا في البحر، ومنهم من أهلكوا بالطاغية، ومنهم من جعل أرضهم عاليها سافلها وأمطرهم بحجارة من سجيل، وما ربك بغافل عما يعملون.(334/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه)
قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأحقاف:26] أخبر ربنا عن قوم عاد هؤلاء الذين أذلهم وعاقبهم وشردهم ودمرهم: أنهم لم يكونوا قوماً عاديين، بل كانوا شيئاً لم يبلغه أحد منكم {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف:26] فما موصولة، والمعنى: ولقد مكناهم في الذي لم نمكنكم فيه، أي: مكناهم بالقوة وبالسلطان وبالجاه، وإلى اليوم لا نزال نجد في حفريات حضرموت وحفريات الشحر وفي نواحي اليمن ووديانها وتلالها وجبالها آثار حضارة هؤلاء، فقد كانوا يبنون القصور في السهول وكانوا ينحتون الجبال بيوتاً وقصوراً، وهذه القصور موجودة عندنا في المغرب ودخلتها ونزلت فيها وأقمت فيها أسابيع، ولها خصائص عجيبة، ففي وقت الشتاء تكون دافئة؛ لأن فيها مدافئ، وفي وقت الصيف تكون باردة؛ لأن فيها مكيفات وأدوات تهوية، وكان هؤلاء هم أول من اخترع ذلك وصنعه؛ ولذا فإن في مكة كثيراً ما كانوا يأتون إلى الجبال فينحتون منها القصور والبيوت يتحصنون فيها من أعدائهم.
وكذلك بلاد اليمن باردة شديدة البرد أيام الشتاء، شديدة الحرارة في أيام الصيف، فسكناهم في قصور الجبال المنحوتة، ومن هنا يخبر الله أنه رزقهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة، سمعاً يستفيدون منه، وبصراً يستفيدون منه، وقلوباً يعون بها ويدركون، إلا ما كان من الإيمان بالله ككفرة هذا العصر.
قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف:26] أي: مكناهم في أشياء لم نمكن لكم فيها، فقد كان طول الرجل منهم يتجاوز الأربعة والخمسة أمتار والمرأة قريبة من ذلك في عرض مناسب وتقاطيع مناسبة، وكانوا في غاية الجمال والبهاء والقوة والأيد، فقد كان الرجل منهم يمكنه أن يقتلع شجرة أو أن يلوي حديداً، لكن هذه القوة وما رزقوا من الوعي ومن التبصير والفهم اتخذوه لدنياهم كما اتخذه أهل هذا العصر، إذ لم يستفيدوا من اختراعاتهم ولا من حضارتهم إلا الكفر بالله والشرك به وارتكاب المعاصي بكل أنواعها مما لا يكاد يخطر على بال أهل الجاهلية الأولى؛ لذلك فإن الله حقّر الجاهلية، وأمر النساء بقوله: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] وقد علّق ابن عباس مفسّراً فقال: ما ذكر الله الجاهلية الأولى حتى كانت هناك جاهلية ثانية، ونحن نعيشها اليوم، وهي أقبح من الجاهلية الأولى، إذ لم يذكر التاريخ أن الأب كان يسمح لابنته أن تخرج عارية في الشوارع ويعرضها للزوار وتختلي بهم إلا في هذا العصر، ولم يذكر التاريخ جاهلياً عربياً ولا أعجمياً يجعل زوجته تخرج عارية فيطوف الغير بها ويختلي بها ويراقصها، وهم مع ذلك رؤساء دول وزعماء فقدوا العلم والدين والشرف والرجولة، وبذلك فهذا العصر عصر جاهلية ثانية لو رآها أهل الجاهلية الأولى لاستعاذوا بالله منها ومن أهلها.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ} [الأحقاف:26] أي: خلق الله لهم سمعاً مفيداً وبصراً مفيداً وأفئدة واعية مدركة، واستفادوا من هذه الأشياء الثلاثة السمع والبصر والفؤاد في شئون دنياهم.
وقال ربنا: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26] أي: لم ينتفعوا بهذا السمع في شئون الآخرة وفي شئون الدين والحياة الأخرى، والسبب كما قال تعالى: {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26] أي: يكفرون بقدرة الله وبالأدلة القاطعة الواضحة على وحدانيته وقدرته وإرادته.
فبسبب كفرهم ومعصيتهم وخروجهم عن أمر الله سلّط الله عليهم الريح العقيم، قال تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] وكانت الغاية والنتيجة: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] ذهب الإنس وذهب الوحش والطير، وخلت الديار من ساكنيها ولم يبق إلا النسر والغراب ينعق ولا مجيب لها من ساكن.
والله ذكر ذلك إنذاراً لنا ولأمثالنا ممن سبقنا وممن عاصرنا وممن يأتي بعدنا؛ ولذلك ضرب المثل فقال: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف:25] أي: وكما فعلنا بقوم عاد نفعل بكل قوم مجرمين مشركين عصاة خارجين عن أمر الله: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأحقاف:26] وهكذا شأن الكفر الجديد، وليس كفراً جديداً، بل هو كفر قديم ورجعي وكفر أثري تاريخي، وكل ما تقوله الشيوعية اليوم والاشتراكية والماسونية والبهائية والوجودية وجميع ملل الكفر حتى الكتابية من اليهود والنصارى إنما عادوا به للكفر القديم، وقد قصه الله علينا في كتابه عن قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم إبراهيم وقوم موسى وهارون وقوم عيسى، والأمم التي مضت وخلت، فالله أتى بذكرها ليضرب بها الأمثال، ويجعل منها الأشكال، حتى إذا فعل فعلهم من فعل من المؤمنين من أتباع محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم عوقب عقابهم ودُّمِّر دمارهم.(334/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27].
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف:27] الخطاب لأهل مكة ولأهل الحجاز إذ كانوا السبب في نزولها، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ ولذلك قل ما أذكر السبب، حتى لا يفهم أحد أن هذا القرآن في أحكامه وما أنذر به من أنذر خاص بالعرب، وقد قال هذا بعض الجهلة والكفرة.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف:27] يقول الله لأهل الحجاز ولقريش: قد أهلكنا ما حولكم من القرى الذين ظلموا وأشركوا وكفروا قبلكم، فأهلك أصحاب صالح وهم في الحدود بين الحجاز والأردن، وأهلك قوم لوط وهي في أرض فلسطين عند البحر الميت، فهي كذلك حول حدود الجزيرة وحول أرض الحجاز، وأهلك حضرموت قوم عاد الذين دمرهم الله بالريح العقيم، وكذلك أرض شعيب في مدين وهي على مشارف وحدود أرض الحجاز، فتلك قرىً أشار الله إليها بأنه أهلكها ودمّرها، وأنتم يا معاشر قريش! تمرون عليها عند كل صيف وشتاء، قال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:1 - 2] ومر عليها صلى الله عليه وسلم بجيشه المنتصر في أرض ثمود، فوجدهم قد سقوا من مياهها وآبارها وعجنوا وطبخوا، فقال لهم: (اقذفوا كل ذلك، وإذا مررتم بهذه الأرض فابكوا فإن لم تستطيعوا فتباكوا حتى لا يصيبكم ما أصاب قومها من قبل، قوم صالح عشائر ثمود) فأكفئوها وأطعموها لدوابهم ورواحلهم.
قوله تعالى: {وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27] أي: فرقنا الآيات الواضحات والدلائل القاطعة على صدق الرسالة وصدق هذا الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(334/3)
تفسير قوله تعالى: (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة)
قال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف:28].
يقول جل جلاله عن هؤلاء: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف:28] هل نصر قوم عاد من بطشنا وعقابنا وتدميرنا لهم؟ أين هذه الآلهة التي قالوا عنها لهود: {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الأحقاف:22] أي: هل جئتنا لتصرفنا عنها وتصدنا عنها؟ وبعد أن دمّروا يقول الله لهم ولمن جاء بعدهم ممن يجب أن يأخذ العبرة والمثل منهم: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف:28] أي: فلم ينصرهم هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة قرباناً إلى الله كما زعموا فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].(334/4)
تفسير سورة الأحقاف [29 - 32]
إن من سنة الله سبحانه وتعالى أن يرسل إلى خلقه من يدعوهم إلى عبادته والتزام أمره واجتناب نهيه، ولما كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسالات وكان هو آخر المرسلين بعثه الله للخلق كافة عربهم وعجمهم وإنسهم وجنهم، وكما آمن له من الإنس أقوام كذلك آمن معه من الجن مثلهم.(335/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن)
قال الله جل جلاله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29].
أي: واذكر يا محمد يوم صرفنا إليك طائفةً من الجن سمعوا منك القرآن وآمنوا بك وتدبّروا قولك وبلغوا دينك، ومعنى ذلك: يا معشر العرب! ويا معشر أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم! لا يزال فيكم الكثير ممن لم يؤمن، ولا يزال فيكم من هو مصر على الكفر، فهذه الجن قد سمعت القرآن وتدبّرته وآمنت به، وآمنت بالرسول الذي أتى به، فهم ضُرب بهم مثلٌ لمن أصر على الكفر من بني آدم.
قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف:29] أي: وإذ أرسلنا إليك وبعثنا ووجّهنا إليك نفراً أي: جماعة من الجن، والجن: خلق من خلق الله خُلقوا من نار كما خلق الإنسان من تراب، وكما خلق الملائكة من نور.
{فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29] فلما حضرت هذه الطائفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسوا في حضرته وبين يديه لسماع القرآن أخذ بعضهم يقول لبعض: {أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29] أي: اسمعوا وعوا ولا تشتغلوا باللغو وبضياع الوقت، بل أنصتوا لما يقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
{فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] أي: فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من إسماع هذا النفر من الجن تلاوة القرآن {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] أي: رجعوا إلى قومهم مخوِّفين بما سمعوه من كتاب الله، وبما هدد وأوعد من أشرك بالله ومن بقي على الكفر والوثنية، إذ يعذّبه الله عذاباً لا يعذّبه أحداً مثله.(335/2)
قصة النفر الذين حضروا لسماع القرآن من الجن
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: كان ذلك عند ذهابه عليه الصلاة والسلام للطائف ليدعوهم إلى الله وينشر بينهم الدين، ففي بطن نخلة في الطريق إلى عكاظ أخذ يصلي صلاة الغداة -أي: صلاة الصبح- وإذا بنفر من الجن حضروا ليسمعوا القرآن وهو يقرؤه في الصلاة، ومن المعلوم أن الجن كانوا يسترقون السمع في السماوات، فيسمعون الكلمة الحق من الملائكة ينصتون إليها سارقين للسمع فيزيدون عليها تسعاً وتسعين كذبة، فيذهبون إلى كهنتهم ورهبانهم وحاخاماتهم، ويوهمونهم أنهم أتوهم بالحق، يفعلون ذلك كذباً وزوراً وافتراء ونشراً للأكاذيب على عادة الجن في عداء الإنسان، وإذا بهم يوماً حاولوا الذهاب والعلو إلى السماوات وإلى الأجواء ينصتون كعادتهم، وإذا بهم يُضربون بشهب من السماء وبنيازك نارية تقتل من تقتل وتشرّد من تشرّد، وإذا بكبيرهم إبليس يقول لهم: ما هذا إلا لحدث عظيم، اذهبوا واضربوا في مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ماذا حدث؟ وإذا بهم وهم في طريقهم إلى أرض تهامة إلى الطائف يسمعون ويرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ويتلو عند صلاة الصبح، فأنصتوا وتدبّروا وكانوا بين سبعة وتسعة أنفار، فذهبوا إلى كبيرهم وقصوا عليه ما سمعوا فقال لهم: إذاً: هذا الحدث الذي قطع بينكم وبين ما تسمعون، وهذا نبي جديد قد بُعث، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يرهم ولم يحضروا بين يديه أولاً، وإنما أوحي له بذلك، قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:1] فالنبي قد قال عليه الصلاة والسلام أي: قل يا محمد! أوحى الله إليّ أنه استمع طائفة من الجن لهذا القرآن واستمعوا لهذه الرسالة النبوية وعلموا الحقيقة، وقد رأوا ما الذي حدث وما الذي حال بينهم وبين السماء وما ينصتون إليه، ثم رجعوا إلى قومهم ينذرونهم ويخوفونهم ما سمعوا من كتاب الله، وما سمعوا من رسالة النبي عليه الصلاة والسلام، فقولهم: {مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] جمع منذر، أي: مخوفين مبلّغين مهددين.(335/3)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى)
{قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30] ذهبوا منذرين أقوامهم مخوّفين لهم ومهدديهم فقالوا: إنا سمعنا عجباً، سمعنا اليوم كتاباً أنزل من بعد موسى ويعنون القرآن الكريم، وهؤلاء كما قال ابن عباس: كانوا يهوداً من أتباع موسى ولا علم لهم بعيسى، وإلا فإن محمداً قد جاء بعد عيسى وهو أقرب الرسل إليه، ولم يكن بينه وبين عيسى إلا ثلاثون عاماً وستمائة عام، وكان بينه وبين موسى الآلاف من السنين، قال تعالى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] أي: من بعد زمنه وعصره جاء متأخراً، قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف:30] أي: هذا الكتاب الذي أنزل بعد كتاب موسى جاء مصدقاً للكتب التي سبقته ومؤكداً صحتها؛ لأنها كانت في الأصل كتباً سماوية أنزلها الله على رسله وأنبيائه.
قوله: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} [الأحقاف:30] أي: يخرجهم من الضلال إلى الهداية، ومن الظلمات إلى النور، ومن الجهالة إلى العلم، قال: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30] يهدي إلى الحق عقيدة، ويهدي إلى الحق سلوكاً، يهدي إلى الحق علماً وإلى طريق مستقيم ويهدي إلى المعاملات الجارية التي تكون على استقامة، لا كذب فيها ولا مين ولا دجل ولا ختل ولا تحايل، فمعناه: إلى كتاب عظيم أنزل من بعد موسى لا علم لكم به، وكان هذا الكتاب فيه من الهداية للخلق وفيه من الطريقة المستقيمة ما يهدي الناس إلى الحق وإلى الطريق المستقيم لا عوج فيه ولا أمتاً.(335/4)
تفسير قوله تعالى: (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به)
عادوا فقالوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31] فهم قد أخبروهم بما وجدوا وبما أصابوا من أنهم استمعوا إلى كتاب هاد للحق وهاد لطريق مستقيم أنزل بعد عصر موسى، وبما أنه جاء بالهداية وبالطريق المستقيم قالوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف:31] هذا الذي استمعنا منه القرآن هو داعي الله، وهو الذي جاءنا به عن الله.
قوله: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31] أي: استجيبوا له وآمنوا برسالته ولا تكفروا بما جاء به.
قوله: {وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف:31] أجيبوه حيث تؤمنون وتسلمون بأن هذا الذي أنزل عليه هو كلام الله حقاً، وبأنه جاء عن الله أتى به رسول حق من الله، فاستجيبوا لذلك وآمنوا به وصدقوه؛ صدّقوه جناناً، صدقوه ضميراً، صدقوه أعمالاً وحواساً.
قال تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31] أي: إن أنتم فعلتم وأجبتم داعي الله محمداً صلى الله عليه وسلم يجركم ويحفظكم وينقذكم من عذاب أليم فقوله: {وَيُجِرْكُمْ} [الأحقاف:31] الإجارة: الغوث والنصرة والتأييد.(335/5)
المعاني المفهومة من قصة النفر الذين استمعوا إلى القرآن
وهذه الآيات الكريمات لها معان أخذت من فصل الخطاب ومن مفهوم الكلام: أولاً: فهم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو رسول الله إلى البشر كافة كذلك هو رسول الله إلى الجن كافة؛ وهذا صريح القرآن، وقد قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] خُلق الجن للعبادة كما خُلق الإنس بعدهم، ولا عبادة بغير علم ولا علم إلا برسول، وإلا كان ضرباً من الخط ومن الرجم بالغيب ما لم يكن ذلك حقيقة عن وحي من الله بإرساله رسله وإنزاله كتبه.
ونفهم من الآية أن في الجن منذرين ينذرون ويدعون، ومن العلماء من قال: ليس في الجن رسل، مستدلين بقوله الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا} [يوسف:109] فالله تعالى ما أرسل من الرسل إلا الرجال، والرجال بشر، إذ لم يرسل امرأة رسولاً ولم يرسل جناً إلى أقوامهم، وهذا فهموه استنباطاً، وليس هذا بصريح القول؛ لأنهم قالوا: من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام أنه أرسل للجن كما أرسل للإنس، والرد على هؤلاء بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فلما خلقهم للعبادة علمهم هذه العبادة، ولا يكون هذا التعليم إلا بإرسال رسل منذرين ومبشرين، وبكتب يأتون بها من الله تعلِّم وتهذّب.
ثانياً: هذا كان إخباراً من الله لنبينا عليه الصلاة والسلام، والسورة مكية، إذ لم يعلم بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالوحي، وقيل: كذلك أخبرته الشجرة التي صلى عندها الصبح، ولكن الله أخبرنا بأنه أوحى إليه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:1] ولكن كما تتابعت الأخبار وتتابعت الأحاديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن عبد الله بن عباس وعن الزبير بن العوام وأكثر الروايات عن عبد الله بن مسعود أن الجن بعد ذلك تتابعت ووفدت على رسول الله عليه الصلاة والسلام من ذي نوى في أرض العراق، ومن أقطار الأرض المختلفة، جاءت أفراداً وجاءت مئات وجاءت آلافاً يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاحاً وجهاً لوجه حديثاً مع حديث أذناً لفم، وقد حكى ابن مسعود ذلك قال: (قال عليه الصلاة والسلام: من يذهب معي إلى وفد الجن؟ فلم أكن إلا أنا فذهبت معه، وإذا بي أصل إلى مكان فيخط لي خطاً ويقول لي: لا تتجاوز هذا المكان بحال فجلست امتثالاً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا به يتقدمني ويبعد حيث لا أراه وإذا بي أرى أثوبة وأرى ضجة وأرى حركة وأرى أشياء تطير كأنها النسور مقبلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولها دوي كدوي النحل، فأخذني الفزع علي وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكدت أذهب إلى رسول الله، لو أني تذكرت أن النبي أمرني بألا أتجاوز هذا المكان الذي خطّه لي، وبعد زمن طال أو قصر جاء النبي عليه الصلاة والسلام وقال: هل عندك من وضوء؟ فوجد عنده ماءً نبت فيه تمر، فأخذه وقال: ماء وطهور وثمرة من الله، فتوضأ به) وهذا ما يعتمد عليه الحنفية من جواز الوضوء بالماء إذا تغير أحد صفاته الثلاثة لوناً أو طعماً أو ريحاً، ولكن هذه الزيادة أكثر أئمة الفقه وأكثر الحفاظ من أئمة الحديث لا يصححونها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ابن مسعود: (جاءوا إليّ وحكّموني في قتيل لهم فحكمت لهم بالحق، ثم سألوني طعاماً فأمرت لهم بكل عظم وكل شعرة وكل روث، فلا تستنجوا بعظم ولا روث ولا بعر فقال ابن مسعود له: وماذا يغنيهم هذا يا رسول الله؟! قال: هذا العظم عندما يصبح طعامهم يعود لحمه الذي كان عليه كما كان أولاً).
فالبعرة والروث يعود لهم حبه قبل أن تأكله الدواب كما كان من قبل وذاك يكفيهم، وحصل هذا في مكة المكرمة ولعله قرب المسجد الذي يسمى اليوم مسجد الجن، وحصل هذا في المدينة المنورة عند مقبرة بقيع الغرقد، وحصل هذا عند النخلة عند عكاظ في الطريق إلى الطائف، هذا ما روي، وقد يكون ذلك من تتابعهم وتكاثرهم لأنهم أمة النبي عليه الصلاة والسلام كأمم الإنس، فهم بحاجة لأن يترددوا عليه وأن يسألوه عن عن الحلال والحرام وعن آداب هذا الدين وأخلاقه، فكان الاجتماع الأول إخباراً من الوحي لم يدر به عليه الصلاة والسلام جاءوا فاستمعوا إلى القرآن ولم يظهروا بذواتهم للنبي عليه الصلاة والسلام، ولكن بعد ذلك اجتمعوا إليه وحدّثوه وخاطبوه.
والجن ثلاثة أصناف: جن يطير كما يطير الطائر، وجن يتكيف ويتلون كالحرباء، وجن يكون على شكل الأفاعي والحيات وما إلى ذلك من الهوام والحشرات، وإذا شك إنسان في شيء من هذا إن لم يؤذه ينصرف عنه، وإن آذاه فليتعوذ بالله ويبعده عن أذاه ولو بالقتل، وعلى نفسها جنت براقش والمبتدئ ظالم، وإنما فعل الإنسان ما فعل دفاعاً عن نفسه ودفعاً للظلم الذي حصل له.
فقوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31] أي: آمنوا بالله واحداً لا ثاني له، وآمنوا بمحمد العربي التهامي نبياً رسولاً من الله، آمنوا بهذا القرآن أنه كلام الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإن أنتم فعلتم {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31] وسئل الأئمة المجتهدون وغيرهم: هل الجن يدخلون النار ويدخلون الجنة كالبشر؟ فقال أبو حنيفة: الإحسان للجن المسلم أن ينجيه الله من العذاب وأن يغفر ذنبه ثم يصبح تراباً بعد ذلك ولا يدخل النار، واستشهد بهذه الآية: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31] ولم يقل: يدخلكم الجنة، ولكن الله قد قال هذا في الآيات عن البشر أيضاً، وذكر الإنقاذ من النار كما ذكر الإنعام بالجنة، وليس إلا الجنة والنار، فقال مالك وقال الليث وقال الجمهور: بل يدخلون الجنة ويتنعمون كما يتنعم الإنس، وقالوا كلاماً مفهوماً لا مستند له لا من آية ولا من حديث ولكن ما يفهم من ظواهر القرآن وظواهر السنة أنهم يدخلون الجنة وينقذون من النار، ويعذب في النار من عصى الله وكفر به، ودليل مالك: قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39].
فهذه الآية ذكرت الجن في الجنة، وذكروا مع الحور كذلك، وهذا دليل مقبول، وهو حجة مالك والليث وكفى بهذه الآية حجة.(335/6)
تفسير قوله تعالى: (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض)
قال تعالى: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:32].
{وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:32] وهم يدعون قومهم الجن للإيمان بالله والإيمان بكتابه، ويبشرون من آمن بمغفرة ذنوبه وتكفير سيئاته والإنقاذ من العذاب، ويقولون المفهوم وقد جعلوه منطوقاً: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:32] أي: ومن لم يستجب لرسول الله {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ} [الأحقاف:32] أي: لم يكن ليعجز الله هرباً ولم يكن مفلتاً من عذاب الله سواء كان في أرض أو في جو أو في فلاة، فقدرة الله تصله حيث كان من أرض الله.
قوله: {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ} [الأحقاف:32] أي: ليس له من دون الله نصراء ينصرونه ويدفعون عنه ويؤيدونه ويوالونه وينقذونه من عذاب الله، هيهات هيهات أن يكون ذلك لأحد، فالله القادر على كل شيء وليس لأحد من خلقه التدخل في شيء، أو نصرة شيء أراد الله تأديبه أو أراد محنته وعذابه.
قوله: {أُوْلَئِكَ} [الأحقاف:32] أي: الذين خرجوا عن أمر الله ولم يستجيبوا لدعوة رسول الله، ولم يؤمنوا بكتاب الله ولم يؤمنوا بمحمد رسول الله، {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:32] أي: هؤلاء المنعوتون بهذه النعوت في ضلال وبلاء وجهالة، وفي ظلمات وضياع، فهو ضلال بيّن واضح ولا يحتاج للكثير من السؤال والبحث والاستدلال، فهم قد ضلوا وما اهتدوا عندما اختاروا الشرك على التوحيد، وعندما تركوا الإيمان بكتاب الله والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً من الله وخاتماً.(335/7)
تفسير سورة الأحقاف [33 - 35]
إن رسل الله عز وجل حين يأتون أقوامهم بدعوة التوحيد فإنهم يأتونهم بما هو جديد عليهم، فيجدون من أقوامهم الصد والنكران والكفر والإعراض، وقد نال النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الحظ الأوفر فأمره الله بالصبر عليهم والتأسي بمن سبقه من الأنبياء أولي العزم.(336/1)
تفسير قوله تعالى: (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى)
قال تعالى مخاطباً هؤلاء المشركين المنكرين للبعث والقيامة والمنكرين للجنة والنار: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33].
والرؤية هنا رؤية القلب ورؤية العلم، أفلم يعلم هؤلاء المشركون والوثنيون والضالون المضلون أن الذي خلق هذه السماوات العلى والأرضين السفلى بما فيها وما عليها من كواكب ثابتات ومن جبال راسيات ومن جن وإنس وملائكة وما يتبع ذلك، ألم يروا أن الله الذي خلق كل هذا قادر على أن يحيي الموتى؟ بل الله القادر على كل شيء لا يحتاج لأكثر من أن يقول: كن فيكون جل جلاله وعزّ مقامه، هل هذا الذي خلق هذه السماوات على كبرها وعظمتها وسعتها، هل إحياؤه الموتى وإعادته للأرواح وقد كانت، وللأجساد وقد كانت، أهون من ذاك وأقرب من ذاك؟ والكل على الله هين؛ ولذلك ضرب الله الأمثال في خلق السماوات والأرض: هل هي أكبر خلقاً وأكبر سعة أو هذا الجسم البشري الضئيل؟ هل هذا أهون في الخلق أو ذاك؟ والكل على الله هيّن، فالله قادر على إحياء الموتى كما خلق السماوات وخلق الأرض وهم يعتقدون ويقرون بأن الله خالق السماوات والأرض وأنه خالقهم ولكنهم كفروا بالحياة بعد الموت، وكفروا بالدار الثانية، وقالوا: إن عقولهم لم تقبلها.
قوله: {بَلَى} [الأحقاف:33] إضراب عن الكلام الماضي، هؤلاء آمنوا أم كفروا؟ أقروا أم اعترفوا؟ لا يغير نكرانهم ولا كفرهم من الحق شيئاً: {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33] إن الله قادر على خلق الكبير والصغير، وخلق السماوات والأرض وخلق الأجساد بعد فنائها، وقادر على عودتها بعد أن تصبح رمماً بالية، وقادر على عودة الأرواح إلى أجسادها كما كانت في دار الدنيا.(336/2)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق)
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف:34].
يقول ربنا لنبيه وللناس من المؤمنين وغير المؤمنين: واذكروا يوم يعرض الكافرون على النار، يوم ذلهم وهوانهم، وعودتهم للإيمان بالحق يوم لا ينفعهم إيمان فقد فات الأوان، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، فقوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} [الأحقاف:34] لقد كانوا في دار الدنيا منكرين للآخرة ومنكرين لنعيمها ومنكرين لعذابها، وهم الآن في الدار الآخرة في عذابها يكتوون، فتقول الملائكة عن أمر الله أو يقول الله جل جلاله: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} [الأحقاف:34] استفهام توبيخي تقريعي: هل يتمكن أحدكم بعد أن عاش في واقع ما كان يحذر منه أن ينكر هذا؟ وإذا بهم يبادرون ويقولون مقسمين: {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} [الأحقاف:34] أليست الدار الآخرة حقاً؟ أليس البعث والنشور حقاً؟ أليست الجنة حقاً؟ أليست النار حقاً؟ إذاً: فيم كنتم تعيشون؟ أليس في باطل وفي ضلال وفيما لم ينزل الله به من سلطان؟ فأقسموا بربهم أن هذا حق وقالوا: {بَلَى} [الأحقاف:34] استجابة بعد الإنكار قال: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف:34] فعذبوا وأدخلوا النار وذلك بسبب كفرهم، قال تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف:34] أي: بسبب كفركم وحرصكم مدة حياتكم على هذا النكران وعلى هذا الجحود.(336/3)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)
قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35] يخاطب الله عبده وحبيبه محمداً صلى الله عليه وسلم، ويقول له: اصبر، وهي آية مكية في سورة مكية، والنبي عليه الصلاة والسلام مدة مقامه بمكة كان تحت اضطهاد قومه وتحت شتائمهم وتكذيبهم وإيذائهم له، فقد أدموا عقبيه صلى الله عليه وسلم وهو الذي يفدى بالنفس والمال والولد، ورموا عليه جزوراً وتآمروا على قتله، ولبب في عنقه، وتآمروا على سجنه، وتآمروا على طرده، هذا مع التكذيب ومع ما كان يواجه به صلى الله عليه وسلم، وكان أحياناً يجد في نفسه شيئاً فالله يثبته ويقويه، فقال له: {فَاصْبِرْ} [الأحقاف:35] أي: تحمل ذلك واصبر قليلاً والعاقبة لك والنصر لك، والعاقبة على أعدائك بأن لهم الذل والهزيمة، ولهم العذاب في الدنيا والآخرة.
قوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] أي: فاصبر كما صبر من سبقك من أولي العزم والحزم والإرادة من رسل الله من آبائك ومن إخوانك، فلا تكن بدعاً بينهم ولا تخرج عن سننهم بل اصبر كما صبروا، ومنهم أولوا العزم.
والجمهور يقول: هم خمسة: نوح عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام، وموسى عليه السلام، وعيسى عليه السلام، ونبينا خاتمهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقال قوم: هم ستة، وقالوا: أكثر، وقالوا: جميع رسل الله أولوا عزم وحزم؛ فـ (من) هنا بيانية وليست تبعيضية كما تقول: اشتريت ثوباً من خزف، ولا تريد أن تقول: أخذت بعض الخزف فصنعته ثوباً، ولكنك تريد أن تبين أنك اشتريت ثوباً من خزف ليس قطناً ولا صوفاً، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم المؤمنين عائشة يريد طعاماً فلم يجد فقال لها: (نحن معاشر آل البيت لم يرد الله لنا الدنيا ولا تليق بنا الدنيا، ربي يأمرني بالصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل قبلي، فقد أمرني بالصبر على مكروه الدنيا وبالصبر عن محبوبها، ولذلك فلا حاجة لي في دنيا ولا نعيمها ولا رفاهيتها ولا يليق ذلك بي ولا بآل بيتي) هكذا كان يقول المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام قد حصل له بعض الضيق والتبرم من صنع قومه معه، فكأنه أراد أن يعجّل لهم العذاب، وهو بذلك يكاد أن ينفد صبره، فوجهه ربه ودله على الطريق الأنسب والأقوم له وأن العاقبة له فلا يستعجل، قال تعالى: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] أي: لا تستعجل لقومك عذاباً، فلعلهم يعيشون أياماً أو أشهراً أو سنوات يتوب منهم من يتوب ويصبحون لك عوناً ولدينك أنصاراً، ولعلهم يعيشون أياماً وأعواماً يخرج الله من أصلابهم مؤمنين به داعين لرسالته أنصاراً لك.
قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35] هؤلاء القوم كأنهم يوم ينزل بهم ما أوعدوه من عذاب مقيم ومن محنة حالّة يستقصرون الزمن وكأنهم لم يعيشوا في دنياهم كلها إلا ساعة من نهار، وقت بسيط من الزمن كمن يجتمع بآخر للتعارف: من أنت؟ فلان بن فلان وأنا فلان بن فلان! وانتهى الجمع والزمن.
فقوله: {كَأَنَّهُمْ} [الأحقاف:35] تشبيه ليس واقعاً ولكن هذا ندركه في دنيانا قبل أخرانا، فالمنتظر يقول: الانتظار شديد وصعب، والمنتظر لشيء مهما كان هذا الشيء تجده يستعجل الزمن، وتمر الأيام والأسابيع والشهور وكأنها ثوانٍ، والله شبّه الدنيا كلها بالنسبة لهؤلاء المعذّبين بقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35]، وماذا عسى أن تكون هذه الساعة؟ {بَلاغٌ} [الأحقاف:35] أي: كأنهم لبثوا وأقاموا مقدار ما يبلِّغ الإنسان كلاماً لآخر كُلّف بتبليغه، والأكثر على أن {بَلاغٌ} [الأحقاف:35] خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا القرآن بلاغ، جاء لتبليغ الناس بالإيمان بربهم وصلاح حياتهم وسيرتهم مع نظامهم في دنياهم ونظامهم عند آخرتهم، نظاماً أسروياً وشعبياً، ونظاماً يعيشون به مع العدو ومع الصديق، هذا القرآن جاء بلاغاً ومبلِّغاً لكل ذلك، فيه خبر من قبلكم ونبأ من بعدكم وهو الفصل ليس بالهزل، ما تركه من جبار إلا قصمه الله، هو الذي لا يبلى قديمه، وكأنك عندما تتلوه وتقرؤه تقرؤه لأول مرة لقوة المعاني التي تخطر ببالك وأنت تتلو، شريطة أن تتلوه وأنت متدبر ومنصت، وأنت تعيش في معاني ما تتلوه وتقرؤه.
قال تعالى: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35] قالوا: هذه أرجى آية في كتاب الله يرجوها إنسان، وهي كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (لا يهلك على الله إلا هالك).
فقوله: {فَهَلْ يُهْلَكُ} [الأحقاف:35] استفهام تقريري يقرر الله لنا شيئاً: لا يهلك على الله إلا الكافر والذي خرج عن الإسلام ألبتة وأشرك بالله وكفر به، ومن عدا ذلك يرجو وينتظر ويأمل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فلا يهلك ولا يقضى عليه إلا الذي جاء الآخرة وهو لا يؤمن بالله ألبتة، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وإلا فالصغائر يمحوها الله ما بين الأوقات مع الوضوء والغسل، ولكن المرتكب للكبائر هو الذي يحتاج للمغفرة ويحتاج للشفاعة، وقد وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من أهل الكبائر، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] اللهم أطمعنا في رحمتك وشوقنا إليك ولا تجعلنا من الآيسين: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] فالمؤمن في خير على أي حال، فمن مات وهو يقول: لا إله إلا الله دخل الجنة، ومن مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة، ومن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله أو يوقن بها جنانه فهو في الجنة لا محالة، إما أن يغفر الله له فيدخل الجنة بلا عذاب، وإما أن يدخل النار فيبقى فيها ما عسى أن يبقى، ثم بعد ذلك لا يخلد فيها فيخرج إلى الجنة ويعامل معاملة إخوانه من المؤمنين.
وبهذا نكون قد ختمنا سورة الأحقاف ولله الحمد والشكر والمنة.(336/4)
تفسير سورة الفتح [1 - 3]
لقد كان صلح الحديبية فتحاً كبيراً وعظيماً للمسلمين، وإن كان بعض المسلمين لم يفهموا الغرض والحكمة منه في وقته، ولكنهم عرفوا نتائجه بعد ذلك، وقد أنزل الله سورة الفتح تتحدث أنه نصر من الله.(337/1)
بين يدي سورة الفتح
سورة الفتح سورة مدنية، فقد نزلت بين مكة والمدينة عندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية وقد كان في مشارف مكة المكرمة.
وقد روى بعض الصحابة رضوان الله عليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جابر بن عبد الله والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (نزلت علي سورة لهي أحب إلي من حمر النعم)، وفي رواية: (لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)، وفي رواية: (لهي أحب إلي مما على وجه الأرض).
وهذه السورة مشتملة على تسع وعشرين آية، وقد نزلت ليلاً في الطريق بين مكة والمدينة، وما كان كذلك فهو ينسب إلى أقربها نزولاً: مكة أو المدينة.(337/2)
سبب نزول سورة الفتح
وسبب نزول السورة هو صلح الحديبية، وذلك عندما أخبر نبي الله عليه الصلاة والسلام المهاجرين والأنصار بأنه يريد أن يدخل مكة المكرمة للحج والعمرة، وكانت مكة لا تزال دار كفر، ولا يزال كفار مكة الوثنيين هم أهلها وسكانها والمتسلطين عليها.
فنادى النبي صلى الله عليه وسلم البدو والحضر فتأخر من تأخر وحضر أربع عشرة مائة من الرجال سيوفهم في قرابها، وأخذ طريقه إلى مكة يريد الحج والعمرة، وأعلن للناس أنه لا يريد حرباً ولا قتالاً بأن جعل السيوف في قرابها، وساق معه الهدي، فلما وصل إلى عسفان إذا به يجد رجلاً مقبلاً من جهة مكة فقال له: ما وراءك؟ قال: إن قريشاً بلغهم مسيرك وخروجك وقد استقبلوك بالعوذ المطافيل يريدون منعك من دخول مكة، ويريدون صدك عن البيت.
والعوذ جمع عائذ، والعائذ: الناقة الحديثة الإنتاج، والمطافيل: ذوات الأطفال والصغار من الإبل خرجوا بها كذلك، حتى إذا طال بهم العهد وناجزوا الحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مانعيه من الطواف ومن دخول مكة فإنهم يجدون هذا اللبن زاداً لهم، فلا يحتاجون إلى الرجوع إلى مكة، فعندما قال الرجل هذا الكلام إذا برسول الله عليه الصلاة والسلام يقول لمن معه: (أيكم يغير لنا الطريق فنحيط بهؤلاء قبل وصولي إلى مكة؟) فقال رجل خبير بالطريق: أنا يا رسول الله! فذهب بهم إلى طريق وعرة صعبة ذات حجارة وصخور، لقي الأصحاب منها عناء ومشقة، ولكنهم أحاطوا بأولئك الذين خرجوا مانعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما خرجت كوكبة من الخيل يقودها خالد بن الوليد وكان لا يزال على كفره، وفرقة أخرى يقودها ابن أبي جهل، وكان هذا في شهر ذي القعدة في العام السادس من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هذا في شهر ذي القعدة، وإذا بهؤلاء العوذ المطافيل وركابها والخيل وقائديها عكرمة بن أبي جهل وخالد بن الوليد يقال لهم: محمد قد سبقكم إلى داخل مكة بجيش عرمرم، وإذا بهم يسرعون فارين إلى مكة خائفين من الإحاطة بهم والقضاء عليهم، ومناجزتهم وهم قله.
فوصل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى الحديبية وهي في مداخل الحرم، وعلم من أعلام الحرم ولا يزال فيها إلى الآن علامة بناء يبينها ويظهرها عند مدخل حرم مكة، وإذا بناقته القصواء عليه الصلاة والسلام تبرك، فحاول تحريكها فلم تفعل، فقال الصحابة خلأت الناقة -أي: حرنت- فلم تبرح من مكانها، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ما خلأت وما ذلك لها بخلق، ولكنه حبسها حابس الفيل) وصاحب الفيل: هم الحبشة الذين جاءوا في السنة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم لهدم الكعبة، فمنعهم الله وسلط عليهم الطير الأبابيل فجعلتهم كعصف مأكول.
فمنع الله القصواء من الدخول إلى مكة لحكمة هو يعلمها، ثم عاد فقال عليه الصلاة والسلام: (والله ما عرضت علي قريش أمراً فيه احترام المقدسات وتقدير الحرمات إلا وأجبتهم إليه) فقد كان يظن من معه أنهم إذا منعوا من أداء العمرة قاتلوا ودخلوا عنوة، والنبي لا يريد ذلك، وإنما يريد عمرة، ويريد ما نقوله في حكمة عقد صلح الحديبية بعد تمام القصة.
وصل رسول الله عليه الصلاة والسلام وأمر بالنزول عند شجرة سمر هناك في الحديبية، فقالوا: يا رسول الله! ما هذا لنا بمنزل؛ لا ماء يكفي الناس، وكانت هناك آبار قليلة لا تكاد تكفي أفراداً من الناس، فجاء عليه الصلاة والسلام إلى بئر منها وأخذ ماءً وتمضمض به ومجه فيه ووضع سهماً، وإذا بالبئر تجيش وتفور وكأنها العين الفوارة.
قيل لـ جابر راوي هذه القصة: كم كنتم؟ قال: كنا 1400 رجلاً، وقد كفتنا جميعاً، قالوا: وكيف كفتكم؟ قال: والله لو كنا مائة ألف لكفتنا شرباً وطبخاً ووضوءاً ولكل ما نحتاج له من الماء، وكان ذلك من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم التي رآها كل من معه، وكان عددهم 1400 رجلاً.(337/3)
أهم بنود صلح الحديبية
لقد بعثت قريش سهيل بن عمرو، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: (قد سهل لكم أمركم)، ثم اتفقا على قواعد الصلح، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ليكتب الكتاب، فأملى عليه: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وبسم الله الرحمن الرحيم في لغة الإسلام تساوي باسمك اللهم، أي: باسمك يا ألله! أفتتح كتابي، وماذا يضر لو بدّل بسم الله الرحمن الرحيم ببسمك اللهم؟ فتلك كانت معارضة حرفية من قريش لا تدل على فهم ووعي، وكان ذلك من سعة صدر رسول الله عليه الصلاة والسلام وفهمه الأمور كما هي، وكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، قالوا: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فأمر علياً بذلك، فامتنع علي، وهذا فيه أنه التزم الأدب ولم يلتزم الطاعة، وهكذا عند أصحاب الرقائق وأصحاب الآداب إذا اجتمع أدب وطاعة يقدّمون الأدب على الطاعة، ثم محاها رسول الله بيده.
وكون قريش والدنيا كلها لم تعترف بمحمد رسول الله ماذا عسى أن يكون؟ فهو رسول الله حقاً أكد ذلك الله جل جلاله وصدّقه، وأرسل معه ملائكته وعززه بجبريل، وأوحى إليه بالقرآن وسانده وعززه وقواه ونصره على أعدائه، فلا يضيره ولا يضير المسلمين ألا يعترف سفير قريش بأنه رسول الله، وفي مستقبل الأيام سيسلم هذا السفير وسيكون أحد كبار الدعاة إلى الإسلام والمجاهدين في سبيله.
قالوا له: من جاءك أرجعته ومن جاءنا لا نرده، أي: من جاء رسول الله فإن الرسول يرده، والمسلم مسلم حيث أسلم في أي بقاع الأرض، وما دام قد قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله سواء كان في مكة أو كان في المريخ أو كان في الأرض السابعة فهو مسلم، وسواء اجتمع برسول الله وسمع منه أو لم يسمع.
وهانحن - ولله الحمد - جئنا بعد رسول الله بألف وأربعمائة عام وكوننا لم نجتمع برسول الله ما ضر هذا ديننا ولا إسلامنا ولا اعترافنا، فنحن مسلمون مؤمنون وملتزمون بالشهادتين، ثبتنا الله على ذلك إلى لقائه.
ومن جاء من عند رسول الله لا يردونه؛ لأنه لا يترك الجيش النبوي ويذهب إلى المشركين إلا مرتد، وماذا عسى أن يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد ارتد؟ فلو عاد إلى المسلمين فإما أن يُجبر على الإسلام أو يُقتل ولا يستفيد المسلمون منه شيئاً.
إذاً: فالمعاهدة كانت ضحكاً على قريش واستهتاراً بهم واستبلاداً لهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد النظر جداً فلم يرد أن يذكر أسرارها، وقد خفيت على أصحابه، فلو كشفها لسمعها أعداؤه وزالت فائدتها ونتيجتها وحكمتها وما يراد منها.
وفي المعاهدة: أن الهدنة بين المسلمين والكفار كانت عشر سنوات، وأنه يدخل مع محمد من شاء من القبائل ومع قريش كذلك، فأفسح المجال في هذه المدة ولم تمض على المعاهدة إلا سنتان حتى غدرت قريش، وكانت الكارثة عليها في هاتين السنتين، فقد انتشر الإسلام فيها انتشاراً عظيماً لم ينتشر قبله منذ بدء الإسلام: منذ اثني عشر عاماً في مكة وست سنوات في المدينة، أي: منذ (18 سنة)، فعدد الذين أسلموا في تلك السنتين كان أكثر من جميع من أسلم خلال السنوات الطوال الماضية.
قال ابن إسحاق: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للعمرة ومعه (1400) رجل، وفي السنة الثامنة بعد أن غدرت قريش بخزاعة التي كانت من أحلاف رسول الله، وكان ذلك منهم غدراً ونكثاً للعهد، دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة فاتحاً بعشرة آلاف مقاتل، ومعظمهم من الذين آمنوا خلال هاتين السنتين من معاهدة الحديبية إلى سنة فتح مكة.
فقد أُفسح المجال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى الله بلا صد ولا معارضة.
وأما العمرة فلم تكن واجبة ولم تكن فريضة، وكون النبي لم يعتمر تلك السنة فقد اعتمر في السنة الثانية، فنشأ عن هذه المعاهدة نصر للمسلمين ولرسول الله معزز مؤزر لم يكن في جميع المعارك التي مضت حتى ولا في غزوة بدر.
والشرط الذي قالوا: من جاء إلى رسول الله فإنه يرجعه، فكان نتيجة ذلك أن انقلب هؤلاء عليهم وقطعوا الطريق عليهم وحاربوهم ورسول الله غير مسئول عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم من حيث المعاهدة ما زالوا على عهدة قريش، وقد فروا منهم وليس رسول الله مسئولاً عنهم.
فكانت معاهدة الحديبية أول معاهدة عاهد فيها رسول الله أعداءه، فكشفهم واستصغر عقولهم، وكانوا بلداء في الفهم قصيري النظر في الإدراك، وكان رسول الله أعظمهم فهماً وبياناً.
وقبل سنوات دُعيت إلى القاهرة لإلقاء سلسلة من المحاضرات في الدبلوماسية والسياسة النبوية في حروبه ودولته وجيوشه، فتكلمت عن هذه المعاهدة أياماً طوالاً، وكان يحضرها السفراء والوزراء المفوضون والدبلوماسيون من رتب كبيرة وصغيرة فبُهتوا وفتحوا أفواههم، هل هذا يوجد في المعاهدات النبوية؟ فهم لم يدركوا ذلك، ولن يدركوه؛ لأن الإسلام ما عاد يُدرك في الجامعات ولا المعاهد، ولا في معاهد العسكريين والسياسيين، فقد قطعوا بينهم وبين الإسلام البتة؛ ليسهل عليهم تنقيص الإسلام في صدورهم، وإبعادهم عن دينهم وعن نبيهم، فقد أصبحوا جهلاء في دينهم وتاريخهم، وأصبحوا أكثر جهلاً من أعداء الإسلام يهوداً ونصارى ومنافقين.
هذه المعاهدة وأسرارها لا تنتهي وستبقى المثال العالي لكل سفير مسلم، ولكل وزير مفوض مسلم، ولكل سياسي مسلم.(337/4)
شبهة بعض المنافقين في جواز مصالحة اليهود
وفي هذه الأيام العصيبة على المسلمين احتج بهذه المعاهدة بالذات منافقون من أدعياء الإسلام ومن أدعياء العلم واتخذوها حجة في الصلح مع اليهود، وقالوا: رسول الله قد صالح كفار مكة! فهذا كلام رجل منافق وجاهل ومضلل، وكلام قوم لم يمتوا للإسلام بصلة فضلاً عن العلم، والرد عليهم بما يلي: أولاً: مكة كانت دار هؤلاء وكان النبي واحداً من قريش، وهو الذي قام من بينهم وجاء بدين جديد عن أمر ربه، فزيّف أصنامهم وآلهتهم ومجتمعهم وحياتهم، وأما الصلح مع إخوان القردة والخنازير في أرض هي أرض المسلمين منذ جاء الإسلام منذ (1400) عام، فتحها واستلم مفاتيحها عمر بن الخطاب والصحب الكرام، وهي للعرب قبل ذلك بقرون، وكون أنبياء بني إسرائيل أقاموا فيها زمناً، وأنبياء بني إسرائيل هم أنبياء الله، فلا صلة لهم بهؤلاء القردة والخنازير، وهم برآء منهم؛ لأنهم كفروا بهم، وقذفوهم، ولأنهم قالوا عنهم الأقاويل.
ثانياً: جاء رسول الله عزيزاً مكرماً وأراد أن يأتي بعمرة فصدوه على أن يأتي مرة ثانية، فأخذ معهم معاهدة كان ذلها ووبالها عليهم، وكانت النتيجة أن أسلم جميع أهل مكة يوم فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه المعاهدة بسنتين، ومن فر عن الإسلام عاد إليهم مغتبطاً مسلماً، حتى لقد أجمع أهل السير أنه لم يبق في قريش كافر ولا منافق.
وأما اليهود الذين احتلوا بيت المقدس فقد كذبوا على الله وافتروا عليه، وقد أتى بهم الاستعمار الحديث فأدخلوهم قهراً للمسلمين، وحرباً عليهم، وتشتيتاً لوحدتهم، وبذر السوء والألغام في أوساطهم، وما يجري اليوم هو أثر ذلك.
ثالثاً: إن اليهود احتلوا أرضاً مسلمة فيها القبلة الأولى، والمسجد الثالث الفاضل في الإسلام، ومليئة بأبناء الصحابة مهاجرين وأنصاراً، والعلماء والأولياء من كل لون في جميع القرون، فتنازل عنها حكام العرب وأعطوها للقردة والخنازير، وذهبوا إليهم وقالوا: قد جئناكم في عقر داركم، فمتى كانت القدس دارهم لتكون عقر دارهم؟ ثم بعد ذلك لم يقف الأمر عند المسالمة بل التحالف، فقد فتحت مصر أرضها للسفارة اليهودية، وهي البلاد ذات العلماء الصالحين وذات التاريخ العظيم في تاريخ الإسلام، وحُرِّف تاريخ الإسلام في مصر وأصبحوا يتحدثون عن فلسطين أنها أرض اليهودية، وأن قومها حرروها، وأن العرب والمسلمين كانوا فيها مستعمرين فكذبوا على الله، وارتدوا عن دين الإسلام، وتهودوا وخرجوا عن الدين الحق، وزيفوا الحقائق واخترعوا الأباطيل وقاموا بالهراء من القول.
وأما احتجاجهم بمعاهدة المدينة المنورة: فلم تكن معاهدة مع يهودها فقط، بل كانت مع جميع ساكنيها من الأوس والخزرج واليهود ومن إلى ذلك، فكان هؤلاء أبناء البلد، وكانوا عرباً وليسوا طارئين ولم يكونوا أجانب عن ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي هاجر إلى المدينة وهو الذي جعلها دار نبوته ودار رسالته ودار دولته، وغدر اليهود فلم يحالفهم، ولم يرفع رايتهم في داخل البلاد، ولم يلفظ باسمهم، ولم يفتح لهم الأبواب، ولم يسلم المسلمين إليهم.
فالتجاوز في الصلح والسلام قد يكون ردة إلى اليهودية وإلى اللعنة وإلى غضب الله.
فالمعاهدة كانت نصراً مبيناً وفتحاً عظيماً، وقد كان عمر رضي الله عنه الذي عارض بعض بنود الصلح عن عدم فهم يقول: لا زلت طوال أيامي أستغفر الله، وأتوب إليه، وأتصدق من مالي، وأُعتق من رقابي؛ لعل الله يغفر لي ذلك الموقف الذي فعلته عند المعاهدة، وهذا نتيجة عدم فهمي وعدم إدراكي وعدم وعيي.(337/5)
تفسير قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً)
لقد كانت المعاهدة نصراً للإسلام عزيزاً مؤزراً؛ ومن هنا كان نزول قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] أي: إنا قضينا قضيتك، وجعلناها فتحاً مبيناً لك، فتحت لك بها القلوب والأمصار، وتمت نعمة الله عليك، وكان فتح مكة قبل صلح الحديبية بعامين.(337/6)
تفسير قوله تعالى: (ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر)
قال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2].
أي: ليغفر الله لنبيه ما صدر عنه من خلاف الأولى مما عوتب عليه في شأن عبد الله بن أم مكتوم، وفي شأن أخذ الفداء من أسرى بدر، وما يشبه ذلك.
وهذا لم يكن لأحد ممن مضى لا الأنبياء والرسل ولا غيرهم من الخلق، وكل ما ورد في أن الله يغفر من الذنوب ما مضى منها وما هو آت لم يصح بذلك حديث.
فمعنى قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] أي: من ذنب أبويك آدم وحواء، ومن ذنب المذنبين من أمتك.
قال الله تعالى: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح:2] أي: ليكون ذلك تمام نعمة الإسلام والنبوة والرسالة والأحكام والدولة، فقد أتم الله على نبيه ما أرسل من أجله، وما دعا الخلق إليه، ففرضت جمع الأركان، وتم النصر المبين، وخضعت مكة والجزيرة، ورُعبت الروم وفارس، ونصر الله نبيه مسيرة شهرين شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وسحق أعداءه، ونشر دينه، ونصر الأنصار والمهاجرين وجعلهم سادة الأرض وأئمتها، وأتم الله عليه نعمته، وأتم عليه رسالته بتحقيق أحكامها وأهدافها وغاياتها، وما يتعلق بالنعمة في دار الدنيا وفي الآخرة.
قال الله تعالى: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:2] أي: ويزيد الله هدايتك للطريق المستقيم فيما يشرّعه لك من أحكام مدنية وعسكرية وعبادات ومعاملات داخل دولتك وأمتك، وخارجهما مع أعدائك ومع الناصبين لك العداء.(337/7)
تفسير قوله تعالى: (وينصرك الله نصراً عزيزاً)
قال الله تعالى: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:3].
نصر الله بمعاهدة صلح الحديبية نبيه والمسلمين، {نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:3] أي: نصراً عظيماً لا يُنال مثله ولا يوصل لمثله، فكان العز والنصر والتأييد في ركاب رسول الله والمؤمنين من أصحابه، فقال الأصحاب: هنيئاً لك مريئاً يا رسول الله نزول هذه الآية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، هذا لك، فما أعد الله لنا؟ قال: أعد لكم: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:5]، فكذلك المؤمنون أكرمهم الله بدخول الجنان، وبتكفير السيئات، وبالفوز العظيم عند الله في الدنيا والآخرة، فالله أكرم الأكرمين، ومن هنا كانت بشارة المصطفى لأصحابه بأن بشر جميع أهل شجرة الرضوان بالجنة، وقال لهم: أنتم أفضل أهل الأرض ممن على وجه الأرض إذ ذاك، فهم من باب أولى أفضل ممن سيأتي بعدهم.(337/8)
تفسير سورة الفتح [4 - 9]
عندما عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم كفار مكة على بنود صلح الحديبية كان في ظاهر بنودها الإجحاف والضرر بالمؤمنين، فقلق واضطرب كثير من المؤمنين، لكن الله تعالى أنزل السكينة في قلوبهم، وثبتهم فهدأت أنفسهم، وازدادوا إيماناً إلى إيمانهم.(338/1)
تفسير قوله تعالى: (هو الذين أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم)
قال الله جل جلاله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح:4].
يقول تعالى بعد أن بشّر عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالفتح المبين، وبالهداية للصراط المستقيم، وبالنصر العزيز المؤزر، بأنه أنزل السكينة في قلوب المؤمنين وقد كانوا مضطربين وقلقلين ومنزعجين أمام مواد معاهدة الحديبية، حيث لم يفهموا مغزاها وأهدافها، وكان ذلك من الحكمة في أن قريشاً لم تنتبه لما ضُحك به عليها، وخُدعوا بذلك، والحرب خُدعة كما يقول عليه الصلاة والسلام.
فالله أنزل الطمأنينة والوقار في قلوب الصحابة فزال قلقلهم واضطرابهم، ووثقت أنفسهم، وعادوا بما كانوا فيه من بشرى وسيادة وسعادة واطمئنان بهذه المعاهدة، فاطمأنت قلوبهم، وهدأت جوارحهم، وازدادوا إيماناً مع إيمانهم، وازدادوا يقيناً وثباتاً.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أمر الله بالشهادتين، ثم أمر بالصلاة فازدادوا إيماناً، ثم أمر بالصيام فزادوا إيماناً على إيمانهم، ثم أمر بالحج، ثم أمر بالزكاة فتم لهم الإيمان من كل أطرافه.
وبهذه الآية استدل الإمام البخاري بأن الإيمان يزيد وينقص، فبعض الناس مؤمن حقاً ولكنه مع إيمانه غير مطمئن ومستيقن، وتجد آخر مؤمناً وهو يقول: والله لو كشف لي الحجاب لما ازددت يقيناً على ما أنا عليه.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفتح:4] أي: لو شاء الله لنصر عبده ونصر جنده بلا حاجة إلى معاهدة ولا حرب ولا قتال، فالله له جنود السماوات والأرض، فلو سلّط على هؤلاء ملكاً واحداً لجعل الأرض عاليها سافلها، ولمحقهم وسحقهم سحقاً، ولكن الله يبلو الناس بعضهم ببعض؛ ليختبر الصادق من الكاذب، والمخلص من المنافق، ويثبت الذي بذل حياته في سبيل الله بالجنة والرضا والرحمة، ويعاقب من خرج عن أمره بالعذاب المقيم.
وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح:4] كان عليماً بخلقه وبعباده وبالصادق منهم من الكاذب، وبالمخلص من المنافق، وحكيم جل جلاله يضع الأمور في مواضعها بما يعود بالنفع والصلاح على الناس بما يعلمه الله جل جلاله.(338/2)
تعريف السكينة
والسكينة عند المفسّرين هي: الطمأنينة تنزل على القلب، والوقار يلزم الجوارح، وهي عند أهل الآداب والرقائق تشتمل على ثلاثة أشياء: النور، والقوة، والروح.
ولا تكاد تنزل السكينة على قلب إلا ونزل معها الاطمئنان واليقين والرضا بما قسم الله، وعدم المعارضة في شيء ظهر من أمر الله، فيكون المؤمن ضاحك السن، قرير العين، راضياً بقسمة الله، لا يحزن ولا يتألم، ويعد نفسه موضع جلال الله وجماله، وموضع سكينته التي أكرم بها المؤمنين، فلا تنزل السكينة إلا على قلب نبي أو ولي؛ فبعد أن قلق الأصحاب وانزعجوا ولم يفهموا مغزى هذه المعاهدة نزل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] فتح على قلب نبيه ونصره وأعزه وهداه وولاه الصراط المستقيم، وكذلك أنزل السكينة على قلوب المؤمنين؛ ليزول اضطرابهم وقلقهم.(338/3)
تفسير قوله تعالى: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها)
قال تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:5].
لما نزل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] قال الأصحاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هنيئاً لك مريئاً يا رسول الله! نصر الله لك، ورفعة لقدرك، ومغفرة ذنبك ما تأخر منه وما تقدم، وإتمام نعمته عليك، هذا لك فما لنا؟ قال تعالى: {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:5].
فأتم الله لمحمد سيد البشر صلى الله عليه وسلم تمام النعمة والنصر المبين، وتمام الهداية، وإتمام رسالته، وإذلال أعدائه، ووعد على المؤمنين بأنه سيدخلهم الجنة مؤمنين ومؤمنات، أزواجاً وزوجات، وغفر لهم ذنوبهم، وأخلدهم في الجنان أبداً سرمداً، {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:5]، فدخول الجنة ومغفرة الذنوب فوز عظيم ونصر مبين، وهو كسب لرضا الله ورحمته، فلم ينس الله النبي عليه الصلاة والسلام ومن كان معه من جنده أنصاراً ومهاجرين، وهذا من فضل الله ورحمته.(338/4)
تفسير قوله تعالى: (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات)
قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6].
نصر الله نبيه النصر العزيز المؤزر، وأتم نعمته عليه، وجازى من كان معه من أهل الحديبية وعددهم 1400 مجاهد جازاهم بدخول الجنان، وغفر سيئاتهم، وكان ذلك عند الله فوزاً ونصراً ونجاحاً وكسباً عظيماً جداً لا يذل بعده مؤمن، ولا يتعب بعده مسلم، ولا يجد إلا الرضا والسرور وقرة العين في الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وأما أولئك المشتتون من المنافقين فقد دعاهم رسول الله للخروج معه لمعاهدة الحديبية، فأبوا وتعللوا واعتذروا بأعذار باطلة.
وأما المشركون والمشركات من أهل مكة فقد صدّوا رسول الله والمؤمنين عن دخول مكة، وعن القيام بأعمال العمرة: كالطواف بالكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، فالمشركون صدّوا عن عبادة الله وطاعة الله، والامتثال لأوامر الله.
وسبب النزول لهذه الآية - والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب - هم منافقو المدينة ومشركو مكة، ثم هي بعد ذلك لكل منافق ولكل مشرك في الأرض إلى أن يُنفخ في الصور.
قوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [الفتح:6] بالدخول في النار، واللعنة والغضب وعدم المغفرة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فالله لا يغفر للمشرك البين الواضح الذي أعلن كفره، وعبد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وجعل مع الله نداً وشريكاً في عبادته، وقال الكفر الذي ما أنزل الله به من سلطان، فهذا كافر مجاهر، وأما المنافق فهو ذو الوجهين الذي يبيت مع المسلمين مسلماً، ويظل مع المشركين مشركاً، فلا يستقر على حال، فهو في الدرك الأسفل من النار.
وقوله تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:6] من المنافقين والمشركين، وظن السوء هو ظن الشر، وعندما دعا عليه الصلاة والسلام أهل البوادي والأعراب حول المدينة وحول مدن الحجاز إلى العمرة حضر من أخلص الإيمان، وتأخر من كان منافقاً، وقد ظنوا به ظن السوء وأعجبهم ذلك، فظنوا أنه سيهلك، وأن قريشاً ستقضي عليه وعلى القلة المؤمنة التي معه، فكانوا بذلك قد ظنوا بربهم شراً وأنه غير ناصر دينه وغير مؤيد عباده المؤمنين ورسوله النبي الكريم، وظنوا بالنبي والمؤمنين شراً.
يقول ربنا: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح:6] أي: فهم الذين سيهلكون وهم الذين سيبيدون، ودائرة السوء ستدور عليهم، وسيكون الهلاك والهزيمة عليهم بمرض قلوبهم وفساد عقائدهم بالشرك الواضح من المشرك، والنفاق البيّن من المنافق، ومن حفر حفرة لأخيه وقع فيها.
قال تعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6] غضب الله عليهم: طردهم من جنته ورحمته، ولعنهم: أخرجهم عن رضاه وعن رحمته وعن جنانه، وأعد جهنم ليوم القيامة لتكون منزلهم ومأواهم وعقابهم، والعقاب الموافي حسب ظلمهم وجزاء نفاقهم وشركهم، فمصيرهم وعاقبتهم ونهايتهم كانت سيئة، ودارت بهم دوائر السوء، وحلت بهم لعنة الله وغضب الله نتيجة أعمالهم من نفاق وشرك.(338/5)
تفسير قوله تعالى: (ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزاً حكيماً)
وقال الله تعالى مؤكداً: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:7].
أي: لو شاء الله لما أمر بالجهاد ولا بالقتال من المسلمين، لأن جنده كثُر، فمن في السماوات جنده، ومن في الأرض جنده، ولو شاء لسلّط عليهم ملكاً واحداً فجعل الأرض عاليها سافلها وكأنهم لم يكونوا، كما سبق أن فعل جل جلاله بقوم لوط وغيرهم.
وجنوده جمع جند، وجند جمع جندي، فالجنود جمع الجمع، وكل خلق الله من ملائكة في السماوات أو في الأرض ومن جن ومن بشر كلهم جند الله، وتحت أمر الله وجلال الله، فيفعل فيهم ما شاء وكيف شاء، فهو الخالق المالك جل جلاله وعزّ مقامه.(338/6)
تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً)
قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح:8].
أي: يا محمد! أرسلناك بالحق رسولاً تُبلّغ عنا كتابنا القرآن، ورسالتنا الإسلامية، ولتكون بذلك شاهداً على الخلق من آمن ومن لم يؤمن، من أخلص ومن نافق، من آمن ومن أشرك، إذ أرسله الله جل جلاله للناس كافة: أبيضهم وأسودهم وأحمرهم، شرقيهم وغربيهم، من عاصروه ومن سيأتون بعده وإلى قيام الساعة، فهو خاتم الأنبياء وخاتم الرسل فلا نبي بعده ولا رسول بعده؛ ولذلك كان العلامة الأولى الصغرى لقيام الساعة، فهو نبي آخر الزمان ولا نبي بعده، فكان يقول كما في الصحيح: (بُعثت والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى).
قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] الرجال والنساء، الحاضرون والغائبون، العرب والعجم وكل من على وجه الأرض من أبناء آدم وحواء، بل وللجن أيضاً.
وقوله تعالى: {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح:8] أي: مبشراً للناس بالجنة لمن أطاعك وآمن بك، ومنذراً ومهدداً بالنار وغضب الله لمن كفر بك وكفر بالله وكفر بكتاب الله؛ هكذا أرسل الله عبده وخاتم أنبيائه وسيد خلقه وإمامهم، أرسله ليكون شاهداً على الخلق من آمن ومن لم يؤمن، وليكون مبشراً بالجنة لمن آمن بالله وقبِل واستجاب للرسالة، ونذيراً بالنار لمن أنكر الرسالة وكفر بالله ولم يؤمن.(338/7)
تفسير قوله تعالى: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً)
قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:9].
أرسل الله تعالى رسول الهدى محمداً سيد البشر وسيد الخلق شاهداً ومبشراً ونذيراً، لتؤمنوا بالله واحداً قادراً، وبمحمد نبياً ورسولاً لله وخاتم الرسل والأنبياء، وتعزّروه وتعينوه وتنصروه وتبذلوا النفس والنفيس، وتعظموه، وتوقّروه: من التوقير والوقار، فتحترمونه وتعظمونه وتتأدبون معه صلى الله عليه وسلم، فإذا ناديتموه فلا تنادونه كما يُنادي بعضكم بعضاً، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]، بل قولوا: يا رسول الله يا نبي الله! وإذا ذُكر اسمه فقولوا: صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا تجعلوا ذكره كذكر غيره من الخلق.
وقوله تعالى: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:9] أي: لتسبحوا الله جل جلاله صباحاً ومساءاً وعشية، وتذكروا الله فتقولوا: سبحان الله، أي: ننزهه عن كل نقص لا يليق بجلال الإلوهية والربوبية، ونصفه بكل كمال لا يليق إلا بالربوبية والإلوهية، ونصلي له ونعبده صباحاً ومساءاً؛ وقد أمرنا بالصلوات الخمس فنصلي له فجراً إلى قبل طلوع الشمس بزمن، ونصلي صلاة العصر التي هي الصلاة الوسطى كما في الحديث الصحيح، ولا ننساه بين أطراف ذلك، ونسبّحه بكرة وزوالاً وأصيلاً ومغرباً وليلاً وفي جميع الأوقات، وإنما نُص على البكور والآصال لفضل الصلاة فيها، فقد قال الله عن صلاة الصبح والتلاوة فيها: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] أي: تشهده ملائكة الله الصاعدون من الأرض والنازلون من السماء في البكور والآصال، وهم يتلون القرآن، وذُكرت الآصال؛ لأن صلاة العصر قد نص رسول الله عليها، فقال عن يهود بني قريظة: (أشعل الله قبورهم ناراً شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر)، وقال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فأمر الله بالمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، ثم خصص الصلاة الوسطى التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها صلاة العصر، وقد قال للتأكيد في ذلك والحث عليه: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) أي: من فاتته صلاة العصر في وقتها فكأنما فقد الأهل والمال، فشبهه المصطفى عليه الصلاة والسلام بمن وتر الأهل والمال.(338/8)
تفسير سورة الفتح [10 - 15]
لقد كانت معاهدة الحديبية فتحاً مبيناً للمؤمنين على المدى القريب والبعيد، ولكن المشركين لم ينتبهوا للحكمة منها، وقد بايع الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية على القتال وعدم الفرار عندما بلغهم نبأ مقتل عثمان، وكان هذا النبأ غير صحيح، فرضي الله عن هؤلاء المبايعين، ووعدهم بالأجر العظيم.(339/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:10].
سبب نزول السورة هو معاهدة الحديبية والصد القرشي المكي لرسول الله والمؤمنين عن العمرة في تلك السنة، ثم بعد ذلك أرسلوا رسلاً وهم: مكرز وحليس وعروة بن مسعود الثقفي وسهيل بن عمرو، وقبل وصول سهيل لم تتم الأمور، فأخذ بدوره عليه الصلاة والسلام يرسل رسله إليهم، فأرسل عثمان يقول لهم: إن محمداً عليه الصلاة والسلام لم يأت مقاتلاً ولا محارباً، وإنما أتى والسيوف في أغمادها، ولن نناجزكم حرباً ما لم تناجزونا، وما دعوتموني لصلة رحم ولا إلى احترام المقدسات والحرمات إلا استجبت لكم.
فوصل عثمان رضي الله عنه فحماه وأجاره أبان بن سعيد بن العاص، وبلّغ الرسالة لقادة قريش، فقالوا له: طف بالبيت إن شئت، قال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمسكوه فشاع في الجيش النبوي أن عثمان قد قُتل، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقيم تحت شجرة سمرة عند الحديبية، ويقول لقومه وقد جمّعهم حوله وحلّقهم عليه: إن كان هذا حقاً فسنناجز قريش الحرب والقتال، فتعالوا بايعوني.
فتقدم إليه (1400) وقيل (1300) وقيل (1500) ولكن الذي في الصحيح وأكّدته رواية الصحابة أنهم (1400) فبايعوه، قال البعض: بايعناه على الموت، وقال البعض: بايعناه على ألا نفر، والمؤدى واحد، فإذا بايعوه على عدم الفرار فسيبقون في المعركة ولا يفرون إلى أن يقتلوا أو يُهزموا أو ينتصروا، وإذا عاهدوا على الموت فسيبقون في المعركة ما لم يموتوا أو ينتصروا.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر) فالتفت الأصحاب يبحثون عن صاحب الجمل الأحمر فوجدوا رجلاً في مؤخرة القوم، فذهبوا إليه وقالوا له: ويلك تقدّم إلى رسول الله فبايعه، قال: لا حاجة لي في بيعة، فقد فر جملي وأنا أبحث عنه، قالوا له: ويحك تقدّم بايع، فقال: لا حاجة لي في بيعة، فلم يكن منهم وإنما أُلحق بهم يبحث عن جمله الضائع منه، ولذلك قال لهم النبي: (كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر) فهذا الذي دخل فيهم ليس مؤمناً.
ولما جاءت البيعة باسم عثمان مد رسول الله يده وبايع نفسه وضرب بيده على يده الثانية، وقال: (هذه عن عثمان، اللهم إنه ذهب في طاعتك ورسالة رسولك)، وما فعل رسول الله ذلك إلا وقد اطمئن على أن عثمان لم يُقتل، ولو علم أنه قُتل لم يبايع له، فإنه لا يُبايع عن مقتول، وفي هذه البيعة إشادة له ورفع لمقامه.
قال الله لمحمد وصحبه: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] أي: هؤلاء الذين بايعوك ووضعوا يدهم على يدك إنما بايعوا الله، ويد الله على أيديهم، وكقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] فبيعة رسول الله هي بيعة لله، وطاعة رسول الله هي طاعة لله، ويده المبايعة نائبة عن الله، وهم في الحقيقة قد بايعوا الله على أن يموتوا في سبيله، وعلى ألا يفروا من الزحف؛ إعلاء لكلمة الله، وطاعة لرسوله المرسل محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] أي: يد النبي صلى الله عليه وسلم هي يد الله النائبة عن يده؛ لأن البيعة في حقيقتها كانت بيعة لله وطاعة لله وامتثال لأمر الله.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجر الأسود: (سيأتي يوم القيامة وله عينان ينظر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من لامسه بالحق، ومن لامسه فكأنما بايع الله) فهذا الحجر يشهد لله يوم القيامة ويُعطيه الله عينين يُبصر بهما من مسحه ومن التمسه ومن قبّله، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ومن لامسه فكأنما بايع الله).(339/2)
معنى البيعة
والبيعة معناها أن يبيعوا نفوسهم وحياتهم لله، كما قال ربنا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] فهذه البيعة كتلك، والله جل جلاله يعلم الصادق من الكاذب، والكاذب إنما يفر بنفسه ويُحرم هذا الخير، والصادق قد فعل هذا فما عليه إلا أن يلتزم به ويقف عنده، فالله اشترى أنفسنا وبذل لنا الثمن وأغلى فيه، أعطانا الثمن الجنة، وهذه الأرواح والنفوس هي ميتة لا محالة بعناها لله أو لم نبعها؛ ولكننا عندما نبيعها لله نقبض عليها الثمن، ويكون الثمن الجنة والرضا والرحمة.
قال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح:10] فمن نكث البيعة، ومن غدر العهد، ومن رجع عن الميثاق فإنما يغدر بنفسه، وينقض العهد على نفسه، وسيلقى جزاءه فلا يدخل الجنة لأنه لا يستحقها.
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:10] أي: لم ينقض العهد، وإنما ثبت عليه، وقام بما أوجب على نفسه، وثبت على بيعته لله ورسوله، فسيأتيه الله يوم القيامة الأجر الكبير العظيم والثواب العالي، وهو ما بينته الآية: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، فالثواب العظيم والأجر الكبير هو الجنة، ويا سعادة من قال ذلك وعاهد عليه، وأوفى به، وأخذ الثمن من الله رضاً ورحمة وجنة.
وقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] أي: أن يد النبي صلى الله عليه وسلم نائبة عن الله، وهذا من نيابة الرسول عن المرسل.(339/3)
تفسير قوله تعالى: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا)
قال الله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح:11].
نقول: عربي، أي: حضري من العرب، ونقول: أعرابي، أي: بدوي من بلاد العرب، فالأعراب هم البدو، والعرب حضر الجزيرة، وأما في زماننا فقد تحضرت البلاد الناطقة بالعربية مشرقاً ومغرباً.
وقد ذكرنا في سبب نزول السورة بأن النبي عليه الصلاة والسلام عندما دعا قومه المهاجرين والأنصار للخروج معه، وأرسل إلى القبائل المحيطة بالمدينة ومدن الحجاز يدعوهم للذهاب معه للعمرة بمكة، حضر من كان مخلص الإيمان، وتأخر من كان منافقاً في إيمانه.
وهؤلاء المخلفون الذين تركوا أنفسهم خلف ووراء ولم يحضروا مع رسول الله هذا الفتح العظيم، وهذه المعاهدة الفاتحة المعززة المؤزرة الموقرة، فقال الله لنبيه ذلك قبل أن يلتقي بهم وقبل أن يصل إليهم، ونزلت سورة الفتح في الطريق إلى المدينة قبل وصوله صلى الله عليه وسلم إليها، قال الله لنبيه: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح:11] أي: عندما تؤنبهم وتوبخهم وتعتب عليهم: لِمَ لمْ تخرجوا معي عندما أمرتكم؟ فسيقول لك هؤلاء المخلفون الذين خلفوا أجراً وديناً وحضوراً عن بركة هذا الفتح العظيم.
كنا في شغل في مزارعنا، وتجارتنا، فلم نجد من يخلفنا على الأهل والأولاد والزراعة والتجارة، فاستغفر لنا تخلفنا وسامحنا على عدم حضورنا، فهذا الذي منعنا عنك وخلفنا وراءك.
يقول الله لنبيه قبل أن يجيبوه، وقبل أن يلتقي بهم، وقبل أن يصلوا إليه: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11].
يقول الله جل جلاله عنهم: هم منافقون، تقول الألسنة - جمع لسان - ما لا يعتقدونه في القلوب - جمع قلب -، فقالوا لك شيئاً وأبطنوا سواه، وأظهروا ما لم يكن حقيقة وأبطنوا الحقيقة، فلم يكن لهم عذر في هذا التخلف لا من مال ولا من زراعة ولا من تجارة.
هؤلاء الذين تخلفوا قالوا: ليس محمد وصحبه إلا أكلة رأس، أي: قلة قليلة يكفيهم رأس للطعام، ومعناه: أنهم ذهبوا لقريش في عقر دارها، ولهم قيادة العرب وقوة ومناعة وغنى وحضارة، فذهب إليهم بهذا العدد القليل وهم هالكون ومستأصلون وميتون لا محالة، ونحن لا نريد أن نموت معهم، ولا أن نقضي على أنفسنا.
ولذلك ذكر الله ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم وكشف عن دخائل هؤلاء المنافقين: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} [الفتح:11] أي: لو أراد الله بكم ضرراً فسيلحقكم هذا الضرر وهذا الهلاك وأنتم على فرشكم، وفي عقر داركم، حضرتم أو غبتم، ولو أراد بكم خيراً فسيصلكم وأنتم داخل المعركة والسيوف تصلصل والخيول تصهل، ولن يضركم ذلك شيئاً، ولكنكم نافقتم وأردتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الهلاك، وحدثتكم أنفسكم بذلك، واشتهت نفوسكم ذلك، فأردتم أن تنجوا بأنفسكم وتبعدوها عن هذا الهلاك الذي ظننتموه وهيهات هيهات، فليست إلا أوهام خطرت في أنفسكم المريضة الضعيفة.
وقوله تعالى: {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح:11]، فيا هؤلاء! إن اعتذاركم كذب، وطلبكم المغفرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب، فلا يهمكم استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عدم استغفاره، ولكن تخلفتم عن الحضور إلى الحديبية خوف الضرر والهلاك، وأنتم تظنون محمداً هالكاً هو ومن معه؛ لقلة عددهم، وهيهات هيهات! تلك الأماني الباطلة سيعود ضررها وبلاؤها عليكم، فالله خبير بقلوبكم وبظواهركم، وبما تكتمون وبما تعلنون، فلا تخفى على الله خافية.(339/4)
تفسير قوله تعالى: (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً)
قال الله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12].
{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح:12] أي: لن يعودوا للمدينة، ولن تراهم زوجاتهم ولا أولادهم، فقد ذهبوا ليسلموا أنفسهم -لقلتهم وضعفهم- أسرى لقريش، هكذا حدثتم أنفسكم وهكذا تمنيتم.
وقوله تعالى: {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} [الفتح:12] أي: زينوا ذلك وأعجبهم واشتهوه وتمنوه في نفوسهم؛ لحقدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولنفاقهم، وكانوا يتظاهرون بالإسلام وهم كفرة كذبة، والله خلفهم ليتطهر الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجود منافق أو مشرك.
وأما الذين خرجوا معه فهم أهل الجنة، وهم مغفور لهم، إلا صاحب الجمل الأحمر الذي جاء معهم باحثاً عن جمله الذي ضاع، وعندما قال له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! بائع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لا حاجة لي ببيعته، إنما أريد جملي، فاستثناه الله من المغفرة والجنة، كما أبعد هؤلاء المنافقين فلم يحضروا ولا يستحقون ذلك.
فزين لهم الشيطان وحسنه في نفوسهم وتمنوا ألا يرجع، وظنوا أن في ذلك فلاحهم ونجاحهم وغناهم، وهم في الحالة هذه في الذل والهوان وغضب الله.
وقوله تعالى: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12] أي: ظننتم ظن الشر والبلاء، وهو ظنكم بالله أنه غير ناصر عبده وعبيده، وظنكم بمحمد أن ليس له من الفكر والدهاء ما يخدع به أعداءه حتى ينتصر عليهم النصر العزيز المؤزر، وأنه سيهلك مع أصحابه المؤمنين، وكنتم قوماً هلكى لا خير فيكم، يقال: فلان بائر، أي: هالك لا خير فيه، فلا ينتظر خيره ولا الاستفادة منه، فـ (بوراً) جمع بائر، والبائر: الهالك الذي لا خير فيه.
أي: كنتم قوماً لا خير فيكم؛ لأنكم لم تؤيدوا جيشاً، ولم تقاتلوا عدواً، ولم تؤمنوا بدين، ولم تتخلقوا بخلق، وكنتم أهون من الدواب، بل كانت الدواب خيراً منكم.(339/5)
تفسير قوله تعالى: (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً)
قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح:13].
يخاطب الله كفار الأرض ومنافقيها منذ نزول الآية وإلى قيام الساعة: من لم يؤمن بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة، وبالإسلام ديناً، وبالمؤمنين إخوة، فإن الله أعد له جهنم سعيراً يتسعر فيها ويحترق، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
وما خلق الله الجن والأنس إلا للعبادة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فمن ترك العبادة، وترك الغاية من وجوده كان عليه الغضب واللعنة، ومأواه النار خالداً مخلداً فيها أبداً.(339/6)
تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء)
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفتح:14].
يقول الله للخلق كلهم وهو في غنى عنهم: من آمن فلنفسه، ومن كفر فعليها، فله ما في السماوات وله الأرض وما عليها وما بينهما، فالكل ملك له وعبد له وتحت ربوبيته وجلاله وقدرته.
وقوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [الفتح:14] أي: يغفر لمن تاب وأناب وقال: ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين، ويغفر لمن رجع عن الكفر إلى الإيمان، والإسلام يجب ما قبله.
وأما الكافر فلا مغفرة ولا توبة له، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] أي: يغفر ما دون الكفر لمن شاء الله مغفرته، إما أن يغفر له ولا يدخل النار، وإما أن يغفر له بعد أن يمحص قليلاً أو كثيراً ثم يدخله الجنة، ولن يبقى في النار من يقول: لا إله إلا الله، ومن يعتقد أن لا إله إلا الله، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} [الفتح:14] للمستغفرين التائبين، {رَحِيمًا} [الفتح:14] بالمؤمنين، يرحمهم ولا يعذبهم، ويرضى عنهم فيغفر لهم.(339/7)
تفسير سورة الفتح [15 - 16]
عندما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج للعمرة أرسل إلى بعض القبائل المحاذية للمدينة للخروج معه لذلك، فلم يأت منهم إلا الصادقون المؤمنون وهم قلة، وتخلف الكثرة وهم منافقون، فلما أراد الخروج إلى خيبر وهي بلدة غنية بالإبل والزراعة والخيرات، أراد هؤلاء المخلفون أن يغزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ طمعاً في الغنائم، فمنعهم الله تعالى من ذلك، وجعل غنائم خيبر للمؤمنين الذين شاركوا الرسول في صلح الحديبية.(340/1)
تفسير قوله تعالى: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم)
قال الله جل جلاله: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح:15].
وعد الله أهل الحديبية بمغانم؛ لأنهم عادوا بلا غنائم ولا مكاسب بينة واضحة، فوعدهم بحرب خيبر وأخذ المغانم منهم، وانفرادهم بها جزاء قتالهم وعهدهم ووجودهم وخروجهم لمعاهدة الحديبية حيث كان النصر المبين، فعندما سمع المخلفون ذلك قالوا: نريد أن نكون معكم (ذرونا نتبعكم)، فيريدون أن يشاركوا أهل الحديبية في حرب خيبر وكسب مغانمها، وهم واثقون بأنهم منتصرون لا محالة، ولكن الله أبعدهم عن ذلك وأمر نبيه ألا يقبل أحداً منهم.
فقوله تعالى: {إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} [الفتح:15] أي: إذا انطلقتم وذهبتم وحاربتم لتأخذوا مغانم أهل خيبر وقد انتصرتم عليهم.
وهذه السورة نزلت في الطريق بين مكة والمدينة ولم يكن شيء من ذلك بعد ولكنه سيكون، والله وعد أهل الحديبية بتلك المغانم فطمع هؤلاء المخلفون بأن يكونوا معهم، وأن يكسبوا كسبهم، ويغنموا غنائمهم، لكن الله أمر رسوله بألا يذهب أحد منهم معهم؛ لأنهم رفضوا أن يحضروا معاهدة الحديبية، ثم تعللوا بعلل كاذبة منافقة فقالوا: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11].
فهؤلاء المنافقون كذبة لم يكن لهم عذر، ولم يطلبوا الاستغفار من رسول الله وهم يريدون التوبة والاستغفار، ولكنه كلام قالته الألسن وأنكرته القلوب، فلم يكونوا صادقين.
وقوله تعالى: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} [الفتح:15] أي: اتركونا نتبعكم في هذه الغزوة.
وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15]، وكلام الله كان قولاً ووحياً لرسوله في ألا يدع هؤلاء يذهبون معه للحرب والقتال، وإذا ذهبوا فلن يكسبوا غنائم، ولن يأخذوا ما يأخذه المحارب المجاهد الصابر.
وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] أي: يريدون تغييره ومعصيته وخلافه، وهيهات هيهات أن يمكنوا من ذلك.
قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح:15] أي: لا ندعكم ولا نذركم تتبعوننا، فقد أمرنا ألا نقبلكم؛ لأنكم لم تحضروا معنا معاهدة الحديبية، ولن يقبل قولكم.
قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} [الفتح:15] أي: فسيقول هؤلاء المخلفون من الأعراب للمؤمنين من الأصحاب: بل حسدتمونا في هذا الخير.(340/2)
تعريف الحسد والغيرة
والحسد: تمني زوال النعمة عن الغير حصلت عليها أم لم تحصل، والغيرة: تمني أن يكون عندك ما عند الآخر، فالغيرة معروفة وفيها يتنافس العقلاء والمؤمنون، والحسد قبيح وهو صفة من صفات المنافقين وصفة من صفات المبغضين الحاقدين.
فقوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} [الفتح:15] أي: سيجيبكم هؤلاء الأعراب بأنكم حسدتموهم، ولم تريدوا لهم الخير بأن طردتموهم من أن يكونوا شركاء في هذه الغنائم، وما ذلك إلا حسد منكم.
قال الله تعالى: {بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح:15] أي: ليس عندهم شيء يحسدون عليه فهم كذبة منافقون، ولكنهم قليلاً ما يفهمون، فلا يفقهون ديناً ولا فهماً ولا علماً، وإنما قالوا ذلك لجهلهم بحقائق الأمور، ولعدم إخلاصهم بالإيمان والإيقان.
ومجمع تفسير الآية الكريمة: بأن النبي عليه الصلاة والسلام عندما عزم على الذهاب للعمرة أرسل رسله وبعوثه للقبائل المحيطة بالمدينة مثل قبيلة: أسلم وخزيمة؛ ليعتمروا معه صلى الله عليه وسلم، وليدحضوا الطوائف والقبائل التي تصد رسول الله ومن معه عن الدخول إلى مكة معتمرين،، ليكونوا قد استعدوا لهم بالكثرة وبالجند وبالسلاح، فحضرت قلة من المؤمنين المخلصين، وتخلف الكثرة وتبين أنهم كانوا منافقين.
ووعد الله المؤمنين بأنهم سيقاتلون أهل خيبر؛ لأنهم غدروا ونكثوا العهد، فقد ألّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم القبائل من أهل الجزيرة يريدون قتاله وغلبته، وهيهات هيهات أن يتم لهم ما يريدون، ولكن المخلفين عندما سمعوا بأن هؤلاء سيذهبون لقتال خيبر - وكانت خيبر غنية بالأموال وبالإبل وبالزراعة - طمعوا في الحضور؛ ليكسبوا من هذه الغنائم.
وهم لم يحضروا من قبل معاهدة الحديبية؛ ظناً منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لا يعودون لأهلهم سالمين، فعندما كبتوا وعاد النبي صلى الله عليه وسلم سالماً منصوراً نصراً عزيزاً مؤزراً، طمعوا في حضور معركة خيبر؛ ليأخذوا من غنائمها ومن أموالها، ولكن الله منعهم من أن يشاركوا نبيهم، وسيجيبون بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الحسد هو الذي منعكم من أن تقبلوا حضورنا ووجودنا في غزوة خيبر؛ لكي لا نشرككم في الغنائم.
فسخّف الله عقولهم وفهمهم، وقال: {بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح:15] أي: بل كان فكرهم وفهمهم واطلاعهم قليلاً، ولم يكن منهم إلا القلة المؤمنة المخلصة هي التي تفهم، وأما الكثرة المنافقة فقد كانت تهرف بما لا تعرف.(340/3)
تفسير قوله تعالى: (قل للمخلفون من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد)
قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:16].
قال الله لهؤلاء المخلفين: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الفتح:16] أي: إلى قتال أقوام ذوي قوة وشدة، وحرب وبأس شديد، وسلاح كثير، فقاتلوهم ولا ترفعوا السيف عنهم حتى يسلموا، {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} [الفتح:16] أي: إن استجبتم لقتال هؤلاء القوم الأشداء ذوي البأس الشديد، وأطعتم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فتحضروا هذه المعركة فإن الله سيثيبكم الأجر الحسن، ويغفر لكم ما مضى إن كنتم قد أخلصتم الإيمان والإسلام.
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} [الفتح:16] أي: إن تعصوا وتعرضوا كما أعرضتم وتوليتم وعصيتم من قبل؛ فامتنعتم من حضور معاهدة وصلح الحديبية، {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:16].
والذين سيدعى الأعراب إلى حربهم وقتالهم وهم ذوو بأس شديد، وقوة ومنعة في الحرب والقتال: اختلف الناس فيهم، فقال قوم: هم هوازن، وهم الذين حوربوا في السنة الثامنة من الهجرة بعد صلح الحديبية بسنتين، وهم أهل الطائف الذين حوربوا في غزوة حنين، وقال قوم: هم غطفان، وقال قوم: هم قوم سيأتون بعد ذلك لا يعلمونهم، وقال قوم: هم أهل فارس والروم، كما تقول اليوم: هم أمريكا وروسيا، فهؤلاء ما كان يخطر ببال العرب أنهم يستطيعون حربهم وقتالهم، والقدرة عليهم، والإتيان بمثل سلاحهم وبمثل جيوشهم وبمثل أنصارهم.
فقد كان العرب أيام فارس والروم فئة متخلفة، وكانوا أعز من أن يحاربوا أو يقارعوا مثل دولتي الروم وفارس في ذلك الزمان، فقد كانتا أعظم دولتين وأقوى دولتين وأوسع دولتين، ولذلك فإن الآية تشير إليهما بلا شك.
{سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح:16] فستقاتلونهم حتى يسلموا ويقولوا: لا إله إلا الله أو يستسلموا لسلطانكم ولقوتكم ولجيوشكم، وهذا هو الذي كان بعد ذلك، فقد قاتل النبي صلى الله عليه وسلم الروم في غزوة تبوك، وأرسل في غزوة مؤتة من يحارب الروم ويقاتلهم، وأمر عليهم ثلاثة من القادة: جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة ابتداء بـ زيد، فإذا قتل فـ جعفر، فإذا قتل فـ ابن رواحة، فاستشهد الثلاثة، وتولى القيادة خالد وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: ولي القيادة خالد سيف من سيوف الله.
وفي غزوة تبوك خرج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، ولكن الروم استهتروا بالجيش العربي المسلم وما ظنوا أنهم سيجرءون على حربهم وقتالهم فضلاً عن ابتدائهم بالحرب وهجومهم إلى حدودهم، فلم يحضروا بل كانت مناوشات لا تكاد تذكر.
قال تعالى: {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} [الفتح:16] أي: إن أنتم دعيتم وأطعتم أمر نبيكم وأمر قادتكم فالله يؤتيكم الأجر الحسن في الدنيا من الغنائم، وفي الآخرة من المغفرة ودخول الجنان.
قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:16] أي: إن أعرضتم وعصيتم وخالفتم كما سبق أن خالفتم من قبل فلم تستجيبوا لحضور صلح الحديبية، فإن الله يعذبكم العذاب الأليم المهين.
وبعد أن انتهى أبو بكر من حرب المرتدين وحرب مانعي الزكاة، أمر بخروج الجيوش لحرب هرقل ملك الروم، وتوفي رضي الله عنه وجيوشه على أبواب دمشق.
فجاء عمر الأسد الضرغام وإذا به يفيض على هؤلاء وينساب عليهم انسياب البحار وهيجانها، فيقاتل الروم والفرس والأقباط والبربر وينتصر عليهم، فتدخل الشام والعراق في الدولة الإسلامية وفي المجتمع المسلم، وينتزعونهما من الفرس والروم، وحاربوا فارس حتى أصبحت ولاية من ولايات المسلمين.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا قبل ذلك فقال: (إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده)، ثم أفاض إلى مصر وقضى على الأقباط وضم مصر للإسلام، ودخل البربر -وهي بلاد المغرب- وأخضعهم للإسلام، وتمت في ذلك النذارة الإلهية: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح:16]، فقاتل من قاتل، وتخلف من تخلف، وعذب من عذب، وتم نصر الله المبين.
وكانت معاهدة الحديبية هي بداية النصر حيث بشر الله نبيه وقال له: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:1 - 3]، والانتصار على فارس والروم يعتبر النصر العام الشامل الكامل، وأما بداية النصر فكانت في غزوة بدر التي كانت في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك، كما كان فتح مكة في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك، كما كان استشهاد علي رضي الله عنه في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك، فرمضان كله ذكريات طيبة للمؤمن، وفيه نزل القرآن، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر:4].
فرمضان منذ اليوم الأول إلى آخر يوم فيه وهو شهر خير وبركة، وعز ونصر، وعبادة ومغفرة، وتقييد للشياطين بالسلاسل والأغلال، وهزيمة لأعداء الله من المنافقين والكفرة، ولو أن المسلمين جيشوا جيوشهم وقاتلوا اليهود وأنصارهم والمستسلمين لهم في شهر رمضان لنصرهم الله نصراً عزيزاً مؤزراً.
وما اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالاً لمشركي مكة في شهر رمضان إلا التماساً لبركة رمضان وخير رمضان وعز رمضان وفتح رمضان.
قال تعالى: {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:16]، فهؤلاء الذين دعوا لقتال فارس والروم لو أعرضوا كما أعرضوا عندما دعوا لصلح الحديبية لعذبهم الله العذاب الأليم الموجع المهين.(340/4)
تفسير سورة الفتح [17 - 20]
لقد عذر الله تعالى أصحاب العاهات والأمراض في عدم خروجهم في صلح الحديبية وغيرها من الغزوات، وذلك لعدم استطاعتهم ذلك، وقد ينفعون في أمر آخر مثل المشورة والرأي والتدبير، وقد وعد الله تعالى المؤمنين بأنه سيسخر لهم مغانم كثيرة يأخذونها، وهذا ما كان فقد أخذوا غنائم اليهود في خيبر، وفتح الله عليهم فيما بعد خزائن الفرس والروم.(341/1)
تفسير قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج)
قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح:17].
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [الفتح:17]، عندما نزلت آيات توبيخ الذين تخلفوا عن حضور صلح الحديبية وعمرة الحديبية، كان فيمن تخلف مرضى وعميان وعرج، فقال هؤلاء: يا ربنا كيف بنا ونحن لم نتخلف إلا لعجزنا وحبسنا المرض، فنزل قول الله تعالى يعذر هؤلاء ويقبل عذرهم ولا يجازيهم إلا بالخير حسب قلوبهم: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70]، وقال: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ} [الفتح:17]، والأعرج هو من مرضت إحدى رجليه فأصبح يعرج مشياً، ولا يصلح لقتال ولا لجري ولا لعدو، {وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح:17] بأي مرض من الأمراض بحيث يطرحه فراشاً، ففي مدة مرضه هو معذور إلى أن يشفى ويعود للعافية.
وأما إذا كان مرضه مرضاً مزمناً ملازماً فهو معذور كذلك عن حضور القتال، بل هو في الأصل لا يصلح للقتال، وإن كان يصلح للرأي وللتدبير، وللإدارة وللفكر، كما يقال في الأمثال: من لا يصلح قربة يصلح دلواً، فمن لا يصلح لحمل السلاح وللجري على الخيل والركائب وسوق الدبابات والطائرات، يصلح للفكر وللإدارة بما يعين المجاهدين والمقاتلين.
ومعنى قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [الفتح:17] هذا عام، أي: لا حرج عليه، فلا يشدد عليه، ولا يكلف فيما ليس هو في قدرته وطاقته.
قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:17]، يذكر تعالى عن هؤلاء فيما هم عاجزون عنه أنهم لا يطالبون بذلك لمرضهم ولعماهم ولعرجهم، ولكن الطاعة لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد منها، ولم يأمرهم الله ورسوله إلا بما يستطيعونه، فإن عجزوا عن حمل السلاح فلا يعجزون عن الإعداد للحرب بالفكر والإدارة.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الفتح:17] أي: يطيع الله في كتابه ويطيع رسوله في سنته وفي الأمر والنهي، {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الفتح:17] أي: يجازيه الله بدخول الجنات ذات الأنهار الجارية، والمياه الدافقة من كل نوع؛ أنهار من عسل مصفى، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من ماء كأنه سلسبيل، وأنهار تجري من كل جانب، حصباؤها اللؤلؤ، وطينتها المسك.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:17].
أي: والذي يعرض ويعصي ويخالف يعذبه الله عذاباً أليماً بالغضب عليه في دار الدنيا، وبلعنته في الآخرة يوم القيامة، وبتعذيبه عذاباً مهيناً مؤلماً موجعاً، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].(341/2)
تفسير قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة)
قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18].
قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (كل من حضر بيعة الرضوان مغفور له)، ثم قال لهم: (أنتم خير من على وجه الأرض)، هذا ما قاله الله جل جلاله وحياً لرسوله صلى الله عليه وسلم، وصرح به في هذه السورة الكريمة فقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، ولذلك سميت هذه البيعة بيعة الرضوان، أي: بيعة رضا الله ورضا رسول الله، وبيعة المغفرة والرحمة وسكنى الجنة، وقصة الشجرة والبيعة ذكرناها في سبب نزول السورة: وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتبادل الرسل والسفراء مع أهل مكة، فأرسل عثمان بن عفان ليبلغ قريشاً أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لم يأتوا لقتال، ولا لحرب، ولا لانتهاك حرمة، وإنما جاءوا معتمرين محرمين، فلم يحملوا معهم إلا السيوف في قرابها وغمدها.
والذي يريد الحرب لا يقتصر على ذلك، إنما يأتي بالخيل وبالدروع وبالنبال وبالحراب وبالسهام، وبأنواع أسلحة الحرب والقتال آنذاك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يحملوا إلا السيوف؛ احتياطاً للطوارئ، والسيوف موضوعة في أغمادها وليست مسلولة.
فقالوا لـ عثمان: طف أنت، قال: لن أطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم غامزاً في عثمان أنه طاف بالبيت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أقام دهراً لم يطف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم)، هكذا كان عثمان، يرفض الطواف ما لم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حبسوه وشاع أن عثمان قتل.
وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام ينادي مناديه: أيها القوم! من المهاجرين والأنصار والأعراب ومن تبعنا لهذه العمرة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة في أرض الحديبية، فتحلقوا حوله، فأتوا إليه وهو مستظل بظلال تلك الشجرة، فقال: بايعوني، فبايعوه على الموت، وهو عدم الفرار، ومعنى بايعوه: أي: باعوا أنفسهم طاعة لله، ثم طاعة لقتال أهل مكة إن كانوا قد قتلوا عثمان حقاً، فلن يغادروا المنطقة ما لم يؤدبوهم ويقاتلوهم {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام وكأنه كان مطمئن النفس أنهم لم يقتلوه، فكل تقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده في يده المبايعين له بذلك، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يضع يمناه في يسراه والعكس؛ نيابة عن عثمان، وقال: (هذه بيعة عثمان)، فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائبة عن يد الله، والأخرى نائبة عن يد عثمان.
ومن بايع النبي صلى الله عليه وسلم نيابة عن عثمان وحضرها فله أجرها وثوابها ومغفرتها، وفضل المبايعين فيها، فبايع جميع الصحابة إلا الجد بن قيس، فقال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (كلكم مغفور له إلا صحاب الجمل الأحمر)، فأخذ الأصحاب يبحثون عن صحاب الجمل الأحمر وإذا بهم يجدون أعرابياً يمسك بيده جملاً أحمر، فقالوا له: ويلك يا أعرابي تقدم بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بي في البيعة من حاجة؟ إنما افتقدت بعيري وراحلتي فجئت أبحث عنها ووجدتها هنا.
فتبين أنه لم يكن مسلماً، ولم يحضر ضمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء مفتقداً لراحلته الضائعة ووجدها ضمن رواحل الأصحاب، ولذلك استثنى من المغفرة صلى الله عليه وسلم صاحب الجمل الأحمر.
وهذه الشجرة قال قوم: إن عمر قطعها، وقال أقوام -وهو الصحيح-: فقدت ولم تعرف؛ فربما جاءها أعرابي يريد حطباً وخشباً فاحتطبها وأزالها أو حصل لها ما حصل.
قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] أي: رضي الله عن بيعتهم، وهو أيضاً ما قاله ربنا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111].
فهذه البيعة التي أعاد الله ذكرها في سورة الفتح هي البيعة التي بايعها الأصحاب أهل صلح الحديبية المهاجرون والأنصار الذين حضروا لعمرة الحديبية، يقول الله عنهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:18] أي: رضي عنهم ورضي فعلهم وقبل بيعتهم، وقال أكثر من هذا: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، فاعتبر الله جل جلاله يد النبي التي كانت فوق أيديهم بيعة للقتال، وموتاً في سبيل الله، وعدم الفرار من المعركة، اعتبرها نائبة عنه جل جلاله وعز مقامه، فبيعة رسول الله هي بيعة لله.
وهذا كقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، والرسول عليه الصلاة والسلام ما جاء لنفسه ولا لأمرها ولا لعبادتها حاشا لله، وإنما جاء رسولاً آمراً وناهياً عن الله، ولذلك فإن أبا بكر عندما حضر الوفاة النبوية وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجىً في غرفة زوجته عائشة، فقبل جبينه الطاهر وقال له: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! ثم صعد المنبر فوجد في درجته الأولى عمر قائماً شاهراً سيفه ويقول: من قال: إن محمداً قد مات قتلته بسيفي هذا، فجاء أبو بكر وأقعده وصعد إلى أعلى درجة في المنبر، وقال: من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ثم تلا قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
فالله أرسل محمداً نائباً عنه ومفوضاً في أرضه، يدعو الناس لتوحيده ولعبادته، وللتخلق بمحاسن الأخلاق، ويدعوهم للبعد عن الشرك والرياء والسمعة في العبادة.
ولذلك كانت بيعته بيعة لله، وطاعته طاعة لله، وامتثال أمره امتثالاً لأمر الله، واجتناب نهيه اجتناباً لنهي الله وهكذا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10].
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] هذه الشجرة سجلت وخلدت في كتاب الله، فشرفت وأصبح ذكرها قرآناً يتلى، لأن النبي عليه الصلاة والسلام بايع أصحابه تحتها، فسجلت قصتها وخلدت.(341/3)
تعريف السكينة
وقوله تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18].
السكينة: هي الطمأنينة والوقار، وقال أصحاب الرقائق والآداب: هي شيء يشمل على ثلاثة معان: النور، والقوة، والروح، وما تكاد السكينة يكرم بها أحد إلا ووجد يقيناً في نفسه، وسكينة في أعضائه، وقبولاً لأمر ربه ورضاً بما قسم له، فلا يكون قلقاً ولا مضطرباً، ويصبح أمام أمر الله وما صنع الله به من خير أو غيره في موضع سكينة، وهكذا باستمرار مادام ممتعاً بنزول السكينة على قلبه.
ولذلك قال أصحاب الرقائق والآداب: لا تنزل السكينة إلا على قلب نبي أو ولي.
وقوله تعالى: {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18].
أي: أنزل الله السكينة على المؤمنين فاطمأنت الجوارح، وقد كانوا قلقين من معاهدة الحديبية ومن موادها ومن أحكامها، فلم يفهموا لها معنى ولا مغزى، ولكن بعد نزول السورة الكريمة ونزول السكينة عليهم اطمأنت جوارحهم، وزال قلقهم واضطرابهم، {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] كان الفتح القريب هو: معاهدة الحديبية، والفتح البعيد هو: فتح مكة والطائف والروم وفارس والقسطنطينية والبربر، وكل فتح فتحه الله بعد ذلك.
ولكن البداية كانت في هذا الفتح المبين والعظيم: صلح الحديبية، الذي نزل فيه قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:3]، فكان صلح الحديبية فتحاً عظيماً ونصراً عزيزاً، وتتابع النصر بعد ذلك هيناً ليناً بلا مشقة ولا تعب ولا ما يزعج أو يقلق، وهكذا دام الأمر بينهم.(341/4)
تفسير قوله تعالى: (ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً)
قال الله تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:19].
في صلح الحديبية لم تكن هناك مغانم ملموسة ولكن كانت مغانم معنوية: من النصر المؤزر، والمغفرة من الله، والرضا منه على هؤلاء، ولكن الله وعدهم فيما بعد الحديبية بمغانم كثيرة يأخذونها، قال تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:19]، وبداية المغانم والأرباح والمكاسب كانت في حرب خيبر، فمعاهدة الحديبية كانت في شهر ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة، وكانت غزوة يهود خيبر في شهر محرم من السنة السابعة للهجرة، وكانت هي المغانم القريبة.
وخص نبي الله امتثالاً لأمر الله في هذه الآية مغانم خيبر من حضر معاهدة الحديبية، ولم يعط من تلك المغانم أحداً ممن لم يحضرها، وكان ذلك عطاء من الله، وتعويضاً لهؤلاء حيث تركوا زراعتهم وتجارتهم وجاءوا زمناً، وحبسوا أنفسهم زمناً عند الحديبية؛ طاعة لله، وامتثالاً لأمر رسول الله، ورغبة في الجهاد والقتال، فجازاهم الله بالمغانم الحسية كما جازاهم بالمغانم المعنوية، فتملكوا مغانم أرض خيبر، وكانت شيئاً عظيماً، كانت أرضاً وعقاراً وإبلاً وخيلاً وذهباً وفضة وكانت وكانت.
وهذه الغنائم هي ما طمع فيها أولئك المخلفون من الأعراب، وقالوا لهم عندما انطلقوا إلى حرب خيبر: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} [الفتح:15]، فمنعهم رسول الله بأمر الله عن أن يحضروا، ولا أن يأخذوا من الغنائم قليلاً ولا كثيراً، ووعدهم أنهم إذا دعوا لقتال قوم {أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح:16] أي: يقاتلونهم إلى أن يسلموا أو يستسلموا، فإن استجابوا وأطاعوا غفر الله ذنبهم، وكفر عنهم سيئاتهم إن أخلصوا العمل لله، وإذا أعرضوا كما أعرضوا من قبل ضوعف لهم العذاب الأليم الموجع.
وقوله تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح:19] هذا الغنائم كانت خاصة لمن حضر صلح الحديبية من المهاجرين والأنصار والبدو، ووصفها الله بالكثرة، وهي: مغانم خيبر وما جاء بعدها من غزوات اليهود وحرب فارس والروم.
وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:19] العزيز: الذي لا يمانع ولا يغالب، فكل من سواه ذليل بين يديه وتحت قهره، فهو القاهر لعباده، الحكيم في أعماله، فلا يضع الأمور إلا بالحكمة في الدنيا والآخرة.(341/5)
تفسير قوله تعالى: (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها)
قال الله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:20].
فقوله تعالى: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح:20] أي: جعل لكم من الغنائم المعجلة المسبقة المقدمة غنائم خيبر.
وقوله تعالى: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} [الفتح:20] كانت رعاية الله وعنايته برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معجزة، فقد خرج إلى مكة يريد الدخول عليهم إلى عقر دارهم في قلة، فقال البدو والأعراب: ذهب محمد وأصحابه للهلاك، فظنوا ظن السوء، وعليهم كانت دائرة السوء، فقد ذهب صلى الله عليه وسلم راضياً مرضياً، ورجع منصوراً مظفراً مفتوحاً عليه متمماً الله نعمته عليه، وترك اليهود في المدينة وكان من الممكن جداً أن ينتهزوا غياب رسول الله عن المدينة فيهجموا عليها هجمة واحدة، فيقتلوا البقية الباقية من المسلمين، وينتهكوا الحرم، ويحاربوا عاصمة الإسلام الأولى، ومنزل الوحي الثاني، وقد فعلوا ذلك ورسول الله في المدينة بين أظهرهم في غزوة الأحزاب، حيث جمعوا عليه قريشاً وغطفان وأهل نجد وقبائل جزيرة العرب.
ثم حاولوا أن يحاربوه من خلفه، ويحاربه الكفار من أمامه، فصنعوا صنيعهم، ولكن الله جل جلاله نصره عليهم نصراً عزيزاً مؤزراً، أفلا ينصره الله وهو خارج المدينة بعشرات الأميال؟! فلم يفعلوا ذلك وهابوا رسول الله وهابوا قوة الجيش النبوي هيبة قلبية زرعها الله في قلوبهم، فخافوا ووجلوا.
وامتن الله على نبيه وعلى المؤمنين بأنكم عندما خرجتم لمعاهدة الحديبية كف الله عنكم أيدي أعدائكم من يهود المدينة، ومن كفار المدينة المنافقين، فلم يقاتلوكم ولم يحاولوا ذلك.
وقوله تعالى: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:20] أي: لتكون معجزة على قدر الله بين المؤمنين، فاليهود على قوتهم وهم يساكنون رسول الله في المدينة عقر داره، وتركها لما خرج هو وأصحابه إلى الحديبية، فلم يقاتلوه ولم يغدروا به ولم يهجموا على من هناك، فخوفهم أرهبهم فقد هابوا المسلمين، وكبروا في أعينهم، وعجزوا في أنفسهم أن يناجزوهم حتى ولو هم غائبون.
فكف أيدي الكفار واليهود عن حربكم وقتالكم وغدركم آية وعلامة ومعجزة بينة على قدرة الله، وذلك برعاية الله لكم ونصرته.
وقوله تعالى: {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:20] أي: ليزيدكم هداية على هداية وفتحاً على فتح، وإيقاناً على إيقان، ويثيبكم نصراً على نصر.(341/6)
تفسير سورة الفتح [21 - 25]
يذكر الله تعالى أن كفار مكة لو قاتلوا المؤمنين في قصة الحديبية فإنهم سيولون الأدبار، ولن يجدوا لهم ولياً ولا نصيراً، وقد قاموا بأفعال سيئة أخرى غير كفرهم، فقد صدوا الرسول والمؤمنين عن المسجد الحرام، وأخذت حمية الجاهلية تثور في نفوسهم، فثبت الله تعالى المؤمنين، وأنزل السكينة على قلوبهم، ونصرهم وفتح لهم.(342/1)
تفسير قوله تعالى: (وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها)
قال الله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الفتح:21].
هذه الآية مرتبطة بالآية السابقة: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الفتح:20 - 21].
فالله جل جلاله وعد المؤمنين من أهل الحديبية الذين لم يأخذوا غنائم في صلح الحديبية، بأن يأخذوا غنائم كثيرة معجلة، وهي غنائم غزوة خيبر، هذه المعركة التي قام بها اليهود فأدبهم المصطفى عليه الصلاة والسلام، فأرسل جيوشه وكان على رأسها وحمل الراية فيها: أبو بكر ثم عمر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) وأعطاها لـ علي، فكان النصر وكان فتح خيبر على يده.
وعندما خرج اليهود صباحاً بمساحيهم وفئوسهم للعمل والزراعة إذا بهم يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيشه، فيتصايحون: محمداً والجيش، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).
وكان المنذرون هم هؤلاء اليهود، فنصر الله عبده ونبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين نصراً عزيزاً مؤزراً، والغنائم كانت كثيرة: كانت عقاراً وأرضاً وذهباً وفضة، وجعل كل ذلك عليه الصلاة والسلام من نصيب من حضر صلح الحديبية وعمرتها، وهذا معنى قوله تعالى: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح:20] إلى أن قال ربنا: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح:21].
فهذه معركة جديدة وغنائم جديدة لا تعجزنا، ولم تفكروا يوماً بقدرتكم عليها، ولكن الله جلال جلاله قد أحاط بها قدرة وعلماً، فجعلها من نصيب عباده المؤمنين.
وقال ابن عباس: كانت هذه التي لا يقدرون عليها هي حرب فارس والروم، والغنائم التي بشره الله بها هي غنائم حرب فارس والروم، وهو معنى قوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح:21] أي: أحاط بها علمه وقدرته، فهو قادر جل جلاله أن يقويكم وينصركم لتقاتلوا هؤلاء الذين لم تحدثوا أنفسكم يوماً بحربهم وقتالهم، ولكن الله قد أحاط علمه بهذه الغنائم التي ما حدثتم أنفسكم فيها يوماً.
وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الفتح:21] أي: كان الله على كل شيء قديراً لا يعجزه شيء، وكل ما يريده يقول له: كن فيكون.
ولقد حارب المؤمنون فارس والروم، ففتحوا فارس، وأذلوا الروم، وكانت غنائم عظيمة غنمها المسلمون، قال ابن عباس وقتادة في قوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح:21] هي الفتوة الآتية والمقبلة، وهي كل ما يفتح في الأرض للمسلمين من أرض فارس والروم والقسطاط والبربر والهند والقسطنطينية وفرنسا وجميع دول الكفر التي فتحها المسلمون وغنموا غنائمها، وكانوا قبل الإسلام لا يقدرون عليها، فقدروا عليها ببركة الإيمان وقوة الإسلام، فكان لهم ما أرادوا.(342/2)
تفسير قوله تعالى: (ولو قاتلوكم الذين كفروا لولوا الأدبار)
قال الله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الفتح:22].
يقول تعالى عن كفار مكة عندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون للعمرة ثم توقفوا في الحديببية: لو قاتلكم كفار مكة وحاولوا أن يصدوكم بحرب وقتال لعجزوا، ولما استطاعوا على قتالكم، ولفروا وذهبوا عاجزين عن حربكم غير قادرين عليها ولهزموا، ولا يجدون من العرب من يواليهم أو يناصرهم أو يعززهم.
فقوله تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الفتح:22] أي: لا يجدون مؤازراً ولا معيناً ولا ناصراً حتى بالقول واللسان، فلو قاتلوكم لولوا الأدبار منهزمين، ولا يجدون من يواليهم أو يناصرهم عليكم.(342/3)
تفسير قوله تعالى: (سنة الله التي قد خلت من قبل)
قال الله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح:23] أي: سنة الله التي قد خلت وقد سبقت وقد مضت، وسنة الله هي طريقته وعادته جل جلاله في نصره لرسله وللمؤمنين، ولن يتخلف جل جلاله عن سنته وعادته في هزيمة الكافرين، ونصرة المسلمين حقاً، الذين ناصروا ربهم، وقاموا بدينهم، وكانوا كاليد الواحدة على أعدائهم، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح:23].(342/4)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم)
قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح:24].
يمتن الله على عباده المؤمنين من أهل الحديبية الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء، بأنه كف أيدي الكفار عنهم، فلم يحاربوهم ولم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من حدود الحرم، ولو شاءوا لاستطاعوا، ولكنهم لو فعلوا لأدبروا ولهزموا.
فالله كف أيديهم عنكم، أي: منعها من الحرب والقتال لكم، كما كف أيديكم عنهم، أي: كما منعكم من قتالهم، لأن هذا القتال لم يكن لكم فيه خير، وسيكون عليكم وبالاً، ولذلك كان الصلح خيراً، وكان هذا الموقف الذي ألهم الله نبيه والمؤمنين أن يقوموا به هو الذي ارتضاه الله لهم، ففيه نصرهم وعزهم ومصلحتهم.
وقوله تعالى: {بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح:24] بطن مكة هو داخل حدود الحرم عند الحديبية حيث نزل صلى الله عليه وسلم بخيامه وجنده، فالله كف أيدي الكفار عن المؤمنين، وأيدي المؤمنين عن الكافرين.
وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24] أي: من بعد أن ظفر المسلمون بجماعة منهم، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أطلق سراحهم.
وذلك بينما كان النبي عليه الصلاة والسلام في قومه وأنصاره إذا بثمانين كافراً أتوا من مكة للجهاد، وأرادوا أن يجدوا غرة وغفلة في رسول الله وأصحابه؛ ليجهزوا عليهم ويقاتلوهم، وطمعوا في أن يقوموا بمذبحة فيهم، فكان المسلمون على حيطة وحذر، فانتبهوا لهم فابتدروهم وأتوا بهم أسرى بعد أن نزعوا سلاحهم وسيوفهم، وجعلوهم بين يدي رسول الله أسرى في الحبال والسلاسل.
وهذا معنى قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24]، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (هل بيني وبينكم عقد ذمة؟ قالوا: لا، قال: هل عاقدتم أحداً من المؤمنين من أصحابي وأعطاكم الذمة والسلام؟ قالوا: لا، قال: إذاً: إن شئنا قتلناكم، قالوا: نعم، قال: اذهبوا)، فأطلق سراحهم، وامتن عليهم بلا فداء ولا تعويض، وقد كان منهم معاوية وأبوه أبو سفيان.
وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح:24] أي: كان الله بما تخلصون به، وما تعملون وما تتحدث به أنفسكم بصيراً وعليماً وناظراً، فالله لعلمه بصدقكم وإخلاصكم وتقواكم اختار لكم النصر والعز بلا حرب ولا قتال، وأذل عدوكم، وصالحكم معهم، وأخضعهم لشروطكم، وأخضعهم لما سيكون بعد ذلك وبالاً عليهم.(342/5)
تفسير قوله تعالى: (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام)
قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25].
يقول الله لنبيه: بأننا كففنا يديك وأيدي المسلمين عن حرب قومك وحرب أهل مكة؛ لأنه كان فيهم مؤمنون مستضعفون يكتمون إسلامهم رجالاً ونساء، وأنت لا تعلم هؤلاء ولا قومك، فيوشك لو تدخلون مكة أن تطئوا هؤلاء قتلاً وأسراً وتعذيباً، وهم مؤمنين مثلكم يوحدون الله كما أنتم كذلك، فإن فعلتم أصابتكم بذلك معرة وإثم وعيب.
وبما أنكم لم تعلموهم، والله لم يميز منهم الكافر من المؤمن كف الله أيدي الكفار عنكم وكف أيديكم عنهم، فكانت تلك الحكمة وتلك المصلحة.
قال الله عن أعداء النبي من أهل مكة: لقد تولوا وارتكبوا جرائم، فهم الذين كفروا بالله وبالرسول وبالإسلام، فهذه جريمة ولا جريمة بعدها {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح:25]، ثم زادوا على الكفر {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح:25] أي: منعوكم ودفعوكم عن دخول المسجد الحرام معتمرين طائفين ساعيين عابدين الله جل جلاله، فقد ارتكبوا الكفر ثم ارتكبوا الصد والظلم عن بيت الله، والإحالة بين المؤمنين وعبادة ربهم.
وقوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25] أي: وصدوا الهدي.
والنبي عليه الصلاة والسلام جاء للعمرة ومعه سبعون بدنةٍ هدياً بين يدي المسلمين؛ يقدمونها ذبائح لله ونسكاً للعمرة، وإذا بهؤلاء الكفار منعوا الهدي من الدخول لمكة، كما صدوا المسلمين من الدخول لمكة ولبيت الله الحرام لأداء العمرة والطواف والسعي، ومنعوا الهدي من بلوغ محله، ومحله المكان الذي يصبح فيه حلالاً فينحر أو يذبح.
وكان معهم أبل وبقر، وجعل صلى الله عليه وسلم لكل سبع منهم بدنة، والبقرة يقال عنها بدنة، والجمل والناقة يقال عنهما: بدناً، فهذه البدن التي جاء بها رسول الله والمؤمنون لتكون نسكاً بين يديهم، ويذبحونها وينحرونها داخل مكة، حال المشركون بين المؤمنين وعبادة ربهم، وحالوا بين المؤمنين وتقديم الهدي والمناسك لعبادة لله وبين يدي عمرتهم.
وقوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ} [الفتح:25].
أي: لولا أنه في مكة رجال مؤمنون مستضعفون لا تعلمونهم، ونساء مؤمنات لم تعلموهن، والمحذوف مقدر يدل عليه السياق، قال ابن مالك: وحذف ما يعلم جائز.
أي: لولا وجود هؤلاء المؤمنين والمؤمنات وعدم علمكم بهم، فإنه يخاف منكم أن تدوسوهم بالأقدام إذلالاً وقتلاً.
وقوله تعالى: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح:25] أي: فتصابون بسبب وطئكم لهم إثم ومذمة من الناس ومن الله.
فيقول الناس: جاء هؤلاء من المدينة إلى مكة ليقتلوا إخوانهم المسلمين وأخواتهم المسلمات، وبما أنهم اختلطوا فلم يعلمهم رسول الله ولا المؤمنون، لذا صان الله دماء الكفار ببركة هؤلاء المؤمنين الذين هم بينهم.
لولا ذلك لأطلقنا أيديكم عليهم فقاتلتموهم، وأخذتم منهم ثأركم، وعاقبتموهم للصد وللكفر وللظلم، ولكن الله صان دماءهم ببركة هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء الذين كانوا بينهم وأنتم لا تعلمونهم.
قال الله تعالى: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الفتح:25] أي: ليدخل هؤلاء المؤمنون والمؤمنات في رحمته، فيدخلون الجنة.
قال الله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25] أي: لو تميز الكافر من المؤمن، ومعنى ذلك: أن المحذوف يتعلق بالأمرين، أي: لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، ولو تميز الكافر من المؤمن لسلطكم الله عليهم فعذبتموهم العذاب الأليم: قتلاً وأسراً وإذلالاً ومهانة، ولعذاب الله يوم القيامة لهم أشد وأنكى، وبما أنهم قد اختلطوا بالمؤمنين فلم يتميزوا، فالمرأة هي المرأة ولا تعلم أمؤمنة هي أم كافرة؟ وكذا الرجل أهو مؤمن أو كافر؟ لأن الكثير من أهل مكة كانوا قد أسلموا نساء ورجالاً وغلماناً وإماء، ولكنهم مستضعفون لم يستطيعوا التواصل بالنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة ولا الهجرة إليه، فقد كانوا أضعف وأعجز من ذلك، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للمستضعفين من مؤمني مكة، وكان منهم: أبو جندل بن سهيل بن عمرو العامري الذي كان أبوه كاتب الصلح وسفير أهل مكة في عقد الصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
فعندما جاء أبو جندل والرسول عليه الصلاة والسلام وسهيل يكتبان العقد، رمى بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بأبيه يصيح في وجه ولده ويضربه على وجهه، فيقول له النبي عليه الصلاة والسلام: (دع لي هذا، فنحن لم ننته فيما بعد من العقد، قال: بل قد أتممناه فإما أن تسلمني وإما لا صلح بيننا) فألح رسول الله وألح سهيل، فما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا أن يوافق مكرهاً، وكاد ذلك أن يكون فتنة للمسلمين، فأخذ أبو جندل يصيح: يا معاشر المسلمين! أتردونني إلى الكفار ليفتنوني عن ديني! وتقدم إليه عمر بسيفه وسحب الغمد من مكانه؛ ليمد أبو جندل يديه للسيف فيضرب أباه، ولكن أبا جندل لم يفعل ولم يجرؤ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي جندل: (سيجعل الله لك ولأمثالك فرجاً ومخرجاً).(342/6)
تفسير قوله تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)
قال الله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح:26].
فقوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح:26] أي: وقت أن حمي الكفار وجعلوا في قلوبهم الحمية والنصرة والأنفة، وكانت هذه الحمية والأنفة وهذا السكر والتعالي وهذا العمل الجاهلي عندما جاء كاتبهم وسفيرهم في الصلح، فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، وقال: لا أعلم ما الرحمن ولا الرحيم؛ ليظهر ما كان يكتب سلفه وقومه: باسمك اللهم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً -وكان كاتب العهد- أن يكتب: باسمك اللهم.
ثم قال: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، فأخذته الأنفة وقال: لا نقر أنك رسول الله، ولو علمنا أنك رسول الله لما قاتلناك.
فحمية الجاهلية: الأنفة والاستعلاء بالباطل وبالكفر، فمنعوهم عن دخول البيت زاعمين بأن ذلك سيذلهم عند العرب، الذين يعتبرون أن قريشاً قد ذلت فخضعت لعدوها محمد وللمؤمنين، فكانت تلك الحمية الجاهلية كما سماها الله.
والله لم يجعل المؤمنين تأخذهم الحمية أو العصبية فيما يتعلق بشأنهم؛ لأن الحكمة ستضيع بذلك، فقال ربنا: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:26] أي: أنزل الطمأنينة على قلب عبده وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل هذه الطمأنينة وهذا الوقار على قلوب المؤمنين فلم يبادروا أهل مكة حمية بحمية، ولا عصبية بعصبية، ولا أنفة بأنفة، فالنبي عليه الصلاة والسلام ترك ذلك لله.
فشعار المسلمين: بسم الله الرحمن الرحيم أو عبارة باسمك اللهم يدعوان للإيمان، فكلاهما نداء لله وتبركاً باسمه.
وأما نفيهم أنه رسول الله فلن يضير ذلك رسول الله في شيء، فهو رسول الله حقاً شهد الله له بذلك وملائكته والمؤمنون، وهم أنفسهم سيشهدون بعد ذلك وسيخضعون للإسلام وكلمته.
ولذلك فإن الله أنزل طمأنينته ووقاره على قلوب المؤمنين، فلم تكن لهم حمية، ولو كان هناك حمية واصطدام وتقاتل لذهبت الغاية من الصلح.
وقوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح:26] أي: أوجب عليهم كلمة التقوى، فقد وفقهم لالتزامها حضراً وسفراً، سلاماً وحرباً، رضاً وغضباً، وكلمة التقوى هي: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فما قالها إنسان إلا ووقي العذاب، ووقي النار، ووقي اللعنة والغضب، وجعل بينه وبين عذاب الله وغضبه وجحيمه سداً يحفظه من اللعنة ومن العذاب، فلما كان رسول الله والمؤمنون معه قد أنزل الله سكينته على قلوبهم فاطمأنت وزال قلقها واضطرابها، والتزموا كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لم يبادلوا كفار مكة حمية بحمية، ولا أنفة بأنفة، ولا عصبية بعصبية.
وقوله تعالى: {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26] أي: كان رسول الله والمؤمنون أحق بكلمة التقوى، وأجدر بها من كفار مكة الذين قاتلوها ورفضوها، وامتنعوا أن يقروا لقب رسول الله في المعاهدة، وأبوا أن يفتتح الصلح بالشعار الإسلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن رسول الله والمؤمنين بما التزموا به من كلمة التقوى: لا إله إلا الله، وبما طمأنهم ربهم به من سكينة ووقار: لم يحموا ولم يتعصبوا.
وأهلها هم الملتزمون بها، القائمون عليها، الداعون إليها، فهم أهل: لا إله إلا الله، وكل من قالها هو من أهلها، أدامنا الله عليها، وأحيانا عليها، وأماتنا عليها، وحشرنا مع سيد المرسلين تحت لوائه.
وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح:26] أي: وكان الله عليماً بكل شيء، عليماً بحال الكافرين ظواهرهم وبواطنهم، وبحال المؤمنين ظواهرهم وبواطنهم، فسيجزي الكافرين على كفرهم، والمؤمنين على إيمانهم.(342/7)
تفسير سورة الفتح [27 - 29]
لقد وصف الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين معه وصفاً عظيماً، فهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، ترى سيما الخير والصلاح على وجوههم من أثر السجود والطاعة، وتراهم متآلفين متآخين فيما بينهم متعاونين، يحب أحدهم لأخيه ما يحبه لنفسه.(343/1)
تفسير قوله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق)
قال الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:27].
سبق في بداية السورة أن سبب نزولها أن النبي عليه الصلاة والسلام قال للمؤمنين: لقد رأيت رؤيا وهي: أنكم ستدخلون المسجد الحرام آمنين معتمرين محلقين ومقصرين، لا تخافون، أي: لا خوف ولا اضطراب، وكانت هذه الرؤيا في معاهدة الحديبية من أسباب الفتنة، فقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يميل إلى الصلح وعدم القتال منذ أن بركت ناقته، فقال الناس: خلأت القصوى، أي: حرنت القصوى، فقال رسول الله: (ليس ذلك لها بخلق وما خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل) وهو الله الذي حبس الفيل عن هدم الكعبة عندما جاء أبرهة وجيشه في عام الولادة النبوية ليهدموا الكعبة، وهو أيضاً أمر الناقة ألا تدخل مكة هذا العام، وهكذا تبادل السفراء مع كفار مكة إلى أن حضر كاتب العهد سهيل بن عمرو العامري، فعندما حضر وأخذ يكتب هو عن نفسه وعلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضج عمر وفقد صبره، وقال لـ أبي بكر: (أليس رسول الله رسول الله حقاً؟ قال: بلى، قال: ألسنا المؤمنين حقاً؟ قال: بلى، قال: فلمَ نعط الدنية في ديننا؟! قال: لا يختار الله لنبيه إلا خيراً، ثم عاد فقال له: ألم يقل لنا سندخل مكة آمنين محلقين رءوسنا ومقصرين لا نخاف، أين ذلك؟ هانحن أولاء في الأبواب ومنعنا من الدخول فلا حلق ولا تقصير، قال: هل قال رسول الله في أي عام؟ قال: لا، قال: الزم غرزه فستدخل مكة، وستعتمر وستحلق أو تقصر غير خائف، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله! ألست رسول الله حقاً؟ قال: بلى، قال: ألسنا المؤمنين حقاً؟ قال: بلى، قال: ألم تعدنا بأن ندخل مكة غير خائفين آمنين محلقين رءوسنا ومقصرين، قال: أقلت لكم في هذا العام؟ قال: لا، قال: ستدخل مكة معتمراً محلقاً أو مقصراً آمناً غير خائف).
وهكذا يقول تعالى في هذه السورة التي نزلت بعد الحديبية وقبل العمرة من السنة القابلة، ونزلت على رسول الله في الطريق بين مكة والمدينة: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح:27]، ومن المعلوم أن رؤيا الأنبياء حق ووحي، فعندما قال النبي للمؤمنين: (رأيت أنا داخل مكة غير خائفين محلقين ومقصرين) علموا أن هذا سيكون قطعاً ويقيناً، ولكنه لم يقل لهم في هذا العام، ولم يحدد الوقت والزمن، والأمر سيكون كذلك؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فالله يؤكد هنا لرسوله رؤياه وأنها حق، وأن الله تعالى سيجعلها صدقاً، فسيعتمرون وسيدخلون مكة محرمين، وبعد ذلك سيحلقون أو يقصرون غير خائفين ولا وجلين.
قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح:27] قال المفسرون: هذه حكاية لقول رسول الله لقومه، وهو أنه قد سبق أن قال لهم: لتدخلن المسجد الحرام، فهو قول رسول الله حكاه وأعاده الله في الآية.
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ} [الفتح:27] أي: إذ يقول محمد لتدخلن، ومن هنا جاءت {إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] فالاستثناء من رسول الله، وهذا من باب التأدب مع الله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، فوعد الله سيقع حقاً، والمشيئة قد تعلقت، ولكن من يدري من سيموت من هؤلاء ومن سيعيش، ولذلك تعلقت المشيئة بالأحياء، وأما الذي مات فقد انتهى عمله.
وقال آخرون: القول قول الله، و (إن شاء الله) بمعنى (إذ) فليست هي شرطية، إذ شاء الله أي: شاء وسبق في علمه ذلك.
قال: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح:27] اللام هنا: لام التوكيد الموطئة للقسم، والمؤكدة بالنون الثقيلة، فقوله: (لتدخلن المسجد الحرام) بمثابة: والله لتدخلن المسجد الحرام.
قال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] فلا خوف ولا وجل.
قال: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح:27] فأكد الأمن بقوله: (لا تخافون) فذكر المنطوق والمفهوم تأكيداً على الأمن والسلام وعدم الخوف والوجل.(343/2)
المقصود بالفتح في هذه الآية
قال: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} [الفتح:27] من المعاهدة، وأنها في حقيقتها وفي ما كتب من موادها لصالحكم، فقد لعبتم بأعدائكم وخدعتم أعداءكم؛ لأنهم لم يفهموا أسرارها، ولم يفهموا عواقبها، ولكن الله قد علم أن المعاهدة كانت في صالحكم، وكانت نصراً عزيزاً مؤزراً لكم، كانت قضاء مبرماً على عدوكم، وقد ذكرت أسرارها في بداية السورة، فلم يكن كفار مكة معترفين برسول الله صلى الله عليه وسلم طرفاً موازياً، فأصبحوا يعتبرون أنفسهم في جانب، ومحمداً وصحبه في جانب صلى الله عليه وسلم، وهو ما يقال له اليوم: الاعتراف السياسي، فقد اعترفوا به ككتلة وجماعة قائمة بنفسها، وليس هذا بالشيء القليل، وقد كانوا من قبل يقولون له: الصابئ، خرج عن دين قومه، وتآمروا لقتله، وتآمروا لسجنه، وتآمروا لنفيه، وإذا بهم الآن يعاملونه معاملة الند للند، فهذا سفير منهم وسفير من رسول الله، ومواد لهم ومواد في المعاهدة عليهم، وهنا يشير الله لها بقوله: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:27]؛ ولذلك استحقت المعاهدة أن ينزل عقبها ليلاً والنبي عائد إلى المدينة: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:1 - 3]، وعندما تلا رسول الله هذه الآيات لـ عمر عجب وقال: (أفتح هو يا رسول الله؟! قال: إي والله إنه لفتح)، ومن ذلك اليوم وعمر يقول: لقد أكثرت من الصدقات، ومن عتق الرقاب، ومن التوبة والاستغفار، لعل الله يغفر لي موقفي ذاك من المعاهدة، وأنا إلى يومي هذا -وكان قد أصبح خليفة- أدعو الله ألا يؤاخذني، وأن يغفر لي زلتي وخطيئتي، وهو ما قال الله: ((فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا)).
وكان من هذه المواد - وهي المادة التي أقامت الأصحاب وأقعدتهم -: أن من جاء من المسلمين إلى رسول الله رده إليهم، ومن جاء من رسول الله إلى الكفار لا يردونه، وبالفعل فقد جاء أبو بصير -وهو رجل قرشي، جاء مسلماً- فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (بيني وبين القوم عهد ولن أغدر) وإذا بقرشيين يقفان على رأس رسول الله ويقولان: يا رسول الله! العهد، فمكنهم منه وذهبوا به، وإذا به وهم بذي الحليفة في البئر التي نحرم منها يرى سيفاً في يد أحدهما فيقول: سيفك سيف بتار أرنيه، فاغتر ذاك ومكنه من سيفه مسلولاً، فأخذه وضربة على عنقه ففصل رأسه عن جسده، وفر الآخر وذهب إلى رسول الله وقال: قد قتل صاحبي، وإذا بـ أبي بصير يأتي فيقول له رسول الله: (ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه رجال) أي: يا ويله! سيسعر الحرب بيني وبين أعدائي، لو وجد من يرشده ومن ينصحه، والنبي لم يرد أن يزيد على هذا؛ لكي لا ينقض العهد، وإذا بـ أبي بصير يتأكد بأن النبي مسلمه إلى الأعداء مرة ثانية فذهب إلى شاطئ البحر في طريق قوافل مكة للشام، وأقام هناك فسمع به المستضعفون من المؤمنين بمكة فاجتمعوا حوله إلى أن بلغوا سبعين رجلاً، وإذا بهم يقفون في الشاطئ لا تمر قافلة، ولا يمر قرشي بسلعة أو بتجارة من الشام أو من مكة إلى الشام إلا قتلوه وسلبوه، إلى أن جاءت قريش بكبارها وقادتها يرجون رسول الله أن يضمهم إليه مقابل تنازلهم عن هذه المعاهدة، فتبين بأسرع وقت أن المعاهدة كانت لهم لا عليهم؛ ولذلك يقول الله تعالى: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:27].
لقد كان الفتح الأول هو فتح الحديبية وكتابة هذه المعاهدة، وكان الفتح الآخر هو فتح مكة، وكان ذلك بعد عامين من صلح الحديبية الذي وقع في السنة السادسة للهجرة، وفي السابعة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً حسب العهد والسيوف في أغمادها، وعندما دخلوا مكة اختفى الرجال واختفى القادة حقداً وعداوة وبقي الأطفال والنساء والعجزة والكبار، فرأوا أصحاب رسول الله بين متعب وبين جار قدمه، وبين من يمشي وهو يكاد يقع، فذهب الغلمان والأولاد وقالوا: انظروا، هؤلاء الذين يزعم محمد أنه سيفتح بهم العالم، لا يستطيعون مشياً في الأرض وإنما يزحفون زحفاً، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يسمع ذلك وينتبه له، فيأمر أصحابه بأن يهرولوا عند الطواف في الثلاث الأشواط الأولى، وهو أصل الهرولة في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى؛ ذكرى لهذا اليوم العظيم، وقال لأصحابه: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، فلما خرج الكبار ليستهزئوا بهم وجدوا الكبار والصغار يهرولون ويجرون، فقالوا لأولادهم وغلمانهم: خيبكم الله! أتقولون هذا والقوم يقفزون ويهرولون هرولة الآساد في العرين، والنمور في البراري، أيفعل الشباب مثل هذا؟! ولذلك فإن الله يثيب المؤمن على ما يغيظ به الكافر ولو بحركة أو نظرة.
وقف عمر في خلافته قبل أن يبتدئ الطواف وقال: كنا نهرول إغاظة للكفار والآن مكة دار إسلام، ثم عاد فقال: شيء صنعناه مع رسول الله لا نغيره، وهرول بدوره، وهي ذكرى، فأكثر أعمال الحج ذكريات إما من أيام إبراهيم، أو من أيام رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأهمها وأعظمها: السعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار في جمرات منى، إذ كان إبراهيم قد أمر بذبح ولده إسماعيل؛ وكان إسماعيل لا يزال رضيعاً، وبحثت أمه عن الماء لتسقيه فأخذت تسعى بين الصفا والمروة؛ لعلها تجد أحداً مسافراً غادياً أو رائحاً فتأخذ منه شربة ماء لولدها، وإذا بالله الكريم يفجر زمزم تحت قدمي إسماعيل، وإذا بالله الكريم يفدي إسماعيل بكبش، وهو أصل الأضحية والضحايا، فيعيش إسماعيل ويذبح الكبش مكانه، فأصبح رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة ذكرى لإحياء الله إسماعيل، فلم يمت عطشاً، ولم يمت ذبحاً، ولو مات عطشاً ومات ذبحاً لما كان من سلالته محمد سيد البشر إمام الأنبياء بعد ذلك، فإذا مات الأب قبل أن يلد فأين الولد؟! فهي ذكرى لحفظ الله لإسماعيل ليلد إسماعيل أولاداً، وليلد الأولاد أولاداً، وليكون بعد ذلك سليله عظيم الأنبياء وكبير الرسل عليه الصلاة والسلام.
{فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:27] فكان الفتح الأول: الحديبية، والفتح الثاني: فتح مكة، والثالث: فتح الطائف، فقد كانت فيها قبائل شديدة الحقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعركة في بدايتها كانت على المسلمين ثم نصر الله المسلمين وأذل الكافرين وهزمهم، فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً.(343/3)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)
ثم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28].
يعد الله في هذه الآية المؤمنين الأولين والآخرين فيقول: هو الذي أرسل رسوله بالهدى والنور الذي يبدد الظلمات والباطل؛ ليسود على الأرض ويعم الكون بأسره.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح:28] أي: ليؤيده وينصره على جميع الأديان: على الديانة النصرانية، والديانة اليهودية، وبقية الأديان الباطلة الوثنية والشيوعية وما إلى ذلك، وقد كان ذلك في عصر من العصور، وسوف يعود النصر والتمكين، وسينشر الله دينه ويخضع له جميع أمم الأرض وجميع شعوبها، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً لهذه الآية عندما قال: (والذي نفس محمد بيده لا تنتهي الدنيا حتى يبلغ هذا الدين مبلغ الليل -والليل يبلغ الأرض كلها- ولا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين مبلغ النجم -والنجم مشرف على الأرض كلها- والذي نفس محمد بيده! لا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين مبلغ كل حجر ومدر ووبر) وأرض الحجر أرض الحضارة، وأرض المدر أرض القرى والبداوة، والخيام هي أرض البدو الرحل، أي: لا تنتهي الدنيا حتى يعم دين الإسلام جميع طبقات الأرض، وجميع سكان الأرض، فذاك وعد الله الذي لا يخلف الميعاد.
يقول تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28] وكأن قائلاً يقول: من يشهد على هذا القول؟ كيف يكون ذلك والكفر ضارب أطنابه، والمسلمون مستذلون في مختلف بقاع الأرض؟! فيقول ربنا: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) فيكفي أن يشهد على هذا خالق الكون، ومدبر الأرض، ورازق العالم، والذي بيده الأمر والخلق جل جلاله، وعز مقامه.(343/4)
تفسير قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29].
قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] فإذا أنكر أولئك أن محمداً رسول الله فالله يشهد بأن محمداً رسوله، آمن أولئك أو كفروا، فلن يزيد إيمانهم في الدنيا شيئاً، ولن ينقص كفرهم من الدنيا شيئاً، (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، والذين معه هم أصحابه من المهاجرين والأنصار وبقية المؤمنين.
قال: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} فهم على الكفار غلاظ شداد، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين لا العكس كما يفعل منافقو العصر، فتجده مع الكفار في غاية ما يكون من الذل والهوان والحقارة، وتجده مع المسلمين على غاية ما يكون من التعاظم والتجبر والطغيان، وهذه صفة الكافرين.
قال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (محمد رسول الله) مبتدأ وخبر.
(وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) مبتدأ وخبر، يصف أصحابه بأنهم على الكفار أشداء غلاظ.
(رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) خبر ثان، فهم مع بعضهم يرحم بعضهم بعضاً، فكأن الكبير والد وكأن الصغير ولد، فيرحمون بعضهم لساناً ومواساة وعطفاً، ويحسن بعضهم لبعض.
قال: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح:29] يصف أصحاب رسول الله بأنهم كثيرو الركوع، كثيرو السجود، أي: كثيرو الصلاة، فيصلون الفرائض، ويصلون النوافل حتى يكثر ركوعهم وسجودهم، ويصفهم بملازمة العبادة وبكثرة التهجد، ومن كان كذلك كان أقرب إلى ربنا، وفي الحديث القدسي: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) إلى آخر الحديث.
قال: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) فركع: جمع راكع وهي صيغة مبالغة، وسجد: جمع ساجد، ويقال أيضاً: سجاد وركاع، أي: كثير الركوع والسجود، أي: كثير الصلاة من فرائض ونوافل، ليلاً ونهاراً.
قال: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29] وهم في صلاتهم، وهم في عبادتهم، وهم في تهجدهم يبتغون ويريدون فضلاً من الله، والفضل: الجنة والإفضال والإكرام، يريدون من الله ويبغون أن يرحمهم بالجنة، وأن يكرمهم بالرضا، وأن يتفضل عليهم بالجنان، ويبتغون ما هو أعظم، وأعظم من الفضل والجنة رضا الله تعالى، ولا يرضى الله على عبد يوم القيامة حتى يتجلى له، ويراه عياناً كما نرى القمر في السماء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (قيل: يا رسول الله! نحن أعداد متوافرة والله واحد فكيف نرى ربنا؟ قال: كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته)، وهذا من تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي.
قال تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29] علامتهم في وجوههم من أثر السجود، وهذه العلامة هي إشراق على الوجه، نور على الوجه، بريق على الوجه، له جاذبية بحيث أن من رآه أحبه، ومن رآه انجذب إليه من نور الإسلام وبهاء الإسلام وكثرة العبادة، وكثرة التهجد، ذلك كله يتجلى على وجهه، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (من أسر سريرة ألبسه الله رداءها)، ورداء هذا يكون نوراً ويكون إشراقاً، ويكون حسناً، ويكون جمالاً، قال البعض: هي تلك التي تكون في الجبهة من أثر السجود على التراب والحجر، ولكن قال السلف: قد تجد تلك العلامة في بعض الناس وهم أشد قسوة على المؤمنين من الكافرين، ولكن العلامة هي نور وإشراق وحسن يتجلى على وجوه هؤلاء العابدين المؤمنين، ونرى هذا في عابديه من المؤمنين المتهجدين الزاهدين.
قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] ذلك نعتهم في التوراة؛ فقد ورد في التوراة ذكر رسول الله، وصفة أصحابه، قال الله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] أي: هذا الذي ذكر هو وصفهم ونعتهم في التوراة.
قال تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} [الفتح:29] كزرع زرعته فأخرج شطأه، والشطء: هي تلك الفروع التي تصدر عن ذلك العرق الأول، فتجده قد انضم إليه ونبتت معه الكثير من الفروع والكثير من الجذور، فتزرع نخلة وإذا بها تصبح عشر نخلات.
قال (وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ) أي: نعتهم وصفتهم في الإنجيل المنزل على عيسى، (وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أعطى ثمره، وخرج معه ولدانه، وخرج معه فتيانه وأفراخه، وخرجت معه تلك الفروع التي أصبحت الشجرة بها أشجاراً.
قال تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} [الفتح:29] أي: آزر الشطء الزرع فقواه وسانده ونبت معه وكاثره.
قال: {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29] (استغلظ) أي: كبر الفرع، وكبرت معه الفروع والأفراخ، وأصبحت الشجرة أشجاراً، والفرع فروعاً.
(فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) تم وكمل وأعطى الثمرة، وسوقه: جمع ساق، أي: استوى على ساق الشجرة التي نبت عليها وعلا بها، فأصبحت متكاثرة متآزة ناضجة تؤتي ثمرها بإذن ربها في كل حين.
قال: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} [الفتح:29] يعجب الزارع أي: من زرعه، فيسر ويفرح بذلك، وأن إنتاجه لم يضع، وأن ما زرعه قد أثمر.
قال: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] ولم يقل: ليغيظ بها الكفار، أي: بالزرع والشطآن، بل استرجع الضمير للمعنى، أي: هؤلاء المؤمنون في بدايتهم ونهايتهم كالشجرة الواحدة، فقد كان محمد صلى الله عليه وسلم هو المؤمن الوحيد، ولمدة ست سنوات في مكة ولم يؤمن معه أكثر من أربعين رجلاً، فقد ابتدأ الإيمان بـ خديجة ثم بـ علي وأبي بكر ثم تتابع الناس، وكان المؤمن واحداً فأصبحوا اثنين، فأصبحوا ثلاثة، فأصبحوا عشرة، فأصبحوا ألفاً، واجتمع في صلح الحديبية ألف وأربعمائة مؤمن، وإذا بهم يأتون بعد عامين في فتح مكة في عشرة آلاف مقاتل دون ما تركوه في المدينة، ودون ما تركوه في الجزيرة، وهكذا كان هذا الزرع واحداً فتكاثر، فاجتمعت الشطآن فغاظ الكفار نباته.(343/5)
تفسير سورة محمد [1 - 3]
سميت سورة محمد باسم نبينا صلى الله عليه وسلم لما فيها من أن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان به، وهذا من تشريفه صلى الله عليه وسلم.
وسميت أيضاً بسورة القتال لما فيها من ذكر القتال في سبيل الله وبعض أحكامه.(344/1)
تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم)
قال الله جل جلاله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:1 - 2].
هذه سورة محمد عليه الصلاة والسلام، وتسمى كذلك بسورة القتال، وآياتها ثمان وثلاثون آية، وهي مدنية.
وسميت باسم النبي عليه الصلاة والسلام لما في الآية الثانية من أن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان به صلى الله عليه وسلم.
وسميت بسورة القتال لما ذكر فيها من القتال والحض عليه والدعوة إليه والجزاء بالجنات وبالرضا وبالشهادة لمن استشهد في سبيل الله.
قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1].
أي: الذين كفروا بالله وأشركوا بجلاله ووحدانيته وصدوا عن سبيله ونفروا الناس عن الإيمان به، ودفعوهم للبعد عنه وعن الإيمان به وبأنبيائه هؤلاء يبطل الله أعمالهم ويضلها ويمحقها ويذروها حتى تصبح هباء منثوراً، فلا يقبل منهم حتى ما يعتبر إحساناً أو صلة رحم أو صدقة أو ما أشبه ذلك؛ لأن قبول هذا متعلق بالإيمان بالله، ومن لم يؤمن بالله فلن يقبل منه.(344/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [محمد:2].
أي: والذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء يغفر الله سيئاتهم ويكفرها ويقبل منهم، كما قال تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)).
والمعنى: من جمع مع الإيمان بالله الإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل عليه من كتاب ورسالة، فهؤلاء يجازيهم الله بتكفير سيئاتهم ورفع درجاتهم وإصلاح بالهم وشئونهم وأمورهم، ولا يشغل بالهم بشيء.(344/3)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل)
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:3]: ذلك: سبب هذا، أي: سبب جزاء المؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم أن تكفر سيئاته ويصلح باله، وسبب دخول من كفر بالله ولم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كتاب الله النار أن الذين كفروا اتبعوا الباطل والذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم، فهذا سببه أن الكافر في كفره اتبع الباطل والشيطان، واتخذه إماماً وقدوة ومثالاً، وذلك سببه أن المؤمنين اتخذوا الحق واتبعوه وجعلوه ديدنهم ودينهم، والحق هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكتابه.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:3].
كذلك: أي كما بين الله وفصل حال المؤمنين والكافرين يضرب لهم الله أمثالهم، أي: أشباههم، أي: ما يشبه فيه الكافر الكافر والمؤمن المؤمن، فيتبع الكافر أمثاله والمؤمن أمثاله، هذا إلى النار وهذا إلى الجنة؛ حذو القذة بالقذة!(344/4)
تفسير سورة محمد [4 - 7]
شرع الله للمؤمنين الجهاد في سبيله وقتال الكفار، وحضهم سبحانه على ضرب رقاب الكفار عند القتال حتى إذا أثخنوهم شدوا الوثاق، ثم هم مخيرون فيهم بين القتل والاسترقاق والمن والفداء بمال أو مبادلة بأسرى.(345/1)
تفسير قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)(345/2)
معنى قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)
قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4].
هذه آية القتال التي بسببها سميت السورة سورة القتال، وقد علمنا الله فيها كيف نقاتل الكفار والأعداء، فقال تعالى: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ)) أي: فإذا قابلتموهم في الحرب زحفاً هم أمامكم وأنتم تجاههم فاضربوا الرقاب.
فقوله: ((فَضَرْبَ الرِّقَابِ)) نصب على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر، والتقدير: اضربوا منهم الرقاب ضرباً، أو منصوب بالإغراء، أي: يغري الله المجاهدين المؤمنين بأن يضربوا من الأعداء رقابهم؛ لأن ضرب الرقاب أقرب إلى الموت وإلى الفناء وإلى التأديب وإلى معاملة الأعداء حسب شركهم وكفرهم بما هم له أهل، فإذا التقى الجيشان المسلم والكافر فليبادر الجيش المسلم الأعداء بضرب رقابهم وفصلها عن أماكنها؛ لأن ذلك أردع لأمثالهم وأنسب في عقوبتهم فهو يوافق ما كانوا عليه من شرك وكفر بالله.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4].
أي: فلا ترفعوا السيف عنهم حتى تثخنوهم وتكثروا القتل فيهم وتبالغوا بالقتل حتى يموت منهم من يموت بأن تقتل كبارهم وتفنى زعماؤهم وتبقى غوغاؤهم ممن لا رأي لهم في حرب ولا إدارة ولا قتال.
والإثخان: المبالغة في القتل، والإكثار منه، أي: بالغوا في قتالهم وضرب رقابهم حتى يكثر منكم قتلهم وتبلغوا منهم قتل القادة والزعماء.
والوثاق: الرباط الذي يربط به الأسير في الحرب، أي: حتى إذا هزمتموهم وقتلتم كبراءهم واستأصلتم شأفتهم عند ذلك انتقلوا من الحرب إلى الأسر، فقد أصبح الجيش تحت قهركم وغلبتكم، أي: حتى إذا أسرتموهم وأصبحوا تحت أسركم وسلطانكم واستيلائكم ((فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)) أي: اربطوهم ربطاً شديداً بالحبال والسلاسل وسوقهم بعد ذلك أسرى، وإياكم أن تأسروهم قبل أن تقتلوا كبارهم وضباطهم وزعماءهم؛ لأنه يوشك أن تنتهي المعركة ولا تنتهي الحرب، فينتقلون إذ ذاك من معركة إلى أخرى، ويوشك أن تنقلب الحرب عليكم بعد أن كانت لكم، فلا ترفعوا السيف عنهم حتى تكثروا من القتل فيهم، ثم بعد ذلك أسروهم وشدوا وثاقهم ورباطهم بالحبال والسلاسل بعد الحرب والأسر.(345/3)
معنى قوله تعالى: (فإما مناً بعد وإما فداء)
قال تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} أي: أنتم مخيرون إذ ذاك بين أن تمنوا على هؤلاء الأسرى بأن تطلقوا سراحهم مناً منكم وتفضلاً بلا فدية وبلا مبادلة وبلا استعباد وبلا استرقاق.
((وَإِمَّا فِدَاءً)) أي: وإما أن تفادوهم بأمثالكم من أسراكم أو بمال يقدمونه أو بعمل يقومون عليه.
قال تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ} [محمد:4] حتى غائية، أي: تفانوا في قتال الأعداء وضرب الرقاب منهم وإثخانهم في القتل وشدته وأسرهم وتشديد الرباط والسلاسل على أسراهم، ثم بعد ذلك فالأمر والخيار لكم بحسب ما ترونه من المصلحة، فإما أن تمنوا عليهم وتطلقوا سراحهم بلا مكاتبة وبلا عمل وبلا مال، وإما أن تفدوهم بأن تأخذوا فدية مقابل كل أسير حسب ما ترونه من المصلحة لجيشكم ولدولتكم، ويبقى هذا باستمرار حتى تضع الحرب أوزارها، أي: ليكون هذا في كل حرب وإلى نهاية الحروب في الأرض بينكم وبين أعدائكم.
والأوزار: جمع وزر بمعنى: الثقل، أي: حتى تضع الحرب وتنزل عن كاهلها أثقالها ومشاقها ومتاعبها، ويكون ذلك إما بنهاية الحرب القائمة، أو بنهاية سلسلة الحروب مع الأعداء، والحرب لن تنتهي إلى قيام الساعة بين المؤمنين والكافرين.
وقد أراد بعضهم أن يفسر: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] بأن الحرب ستنتهي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (الجهاد قائم منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال)، والدجال من العلامات الكبرى لقيام الساعة، فمعنى ذلك: أن يبقى الجيش المسلم مجاهداً مقاتلاً لإعلاء كلمة الله إلى يوم القيامة.
وأما متى تضع الحرب أوزارها، فقالوا: إن ذلك عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، والأحاديث بذلك مستفيضة ومتواترة، وعند ذلك يصبح الدين واحداً والدولة واحدة، فعيسى عليه السلام سيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل اليهود والنصارى والمشركين، ولا يدع في الأرض إلا موحداً مؤمناً مسلماً يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعند ذاك تضع الحرب أوزارها وأثقالها ومشاقها ومتاعبها، ولا حاجة للحرب بعد ذلك.(345/4)
معنى قوله تعالى: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم)
قال تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد:4].
(ذَلِكَ) أي: الأمر بقتال الكافرين وضرب رقابهم، والإثخان في قتلهم، ثم المن أو الفداء.
{وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} أي: ولو شاء الله لما أمر بحرب ولا قتال ولانتقم من الأعداء بلا حرب ولا قتال، ولو فعل ذلك لفعله مع حبيبه وآخر أنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو لم يفعل، فقد قاتل عليه الصلاة والسلام الأعداء، وجرح وقتل منهم، وكانت الحرب سجالاً بين المؤمنين والكافرين، يوم لهم ويوم عليهم، وهكذا إلى أن أدال الله للمسلمين وهزم الكافرين، وكانت العاقبة لنبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
ولكن الله فعل ذلك لحكمة، وهي ما قاله تعالى: ((لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)) أي: ليختبر المؤمن بالكافر والكافر بالمؤمن وليفتن بعضهم ببعض، وليرى -وهو العالم قبل ذلك- من الذي سيقاتل ممتثلاً لأمر الله حتى يبذل حياته رخيصة في سبيل الله ومن سيجرؤ من الكفار فيقاتل من يقول: لا إله إلا الله، غير عابئ بشيء لا بالأوامر ولا بالزواجر والروادع الواردة عن الأنبياء وفي كتب الله، فهو يبتلي المؤمنين بالكافرين، فيعاقب الكافرين بالنار واللعنة، ويجازي المؤمنين بالجنة والرحمة.(345/5)
فضل الشهادة في سبيل الله
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:4].
أي: والذين استشهدوا في سبيل الله وقتلوا من أجل دين الله.
{فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4] أي: لن يبطلها، وسيجازيهم عليها بالجنان وبالمغفرة وبالشهادة.
فقد أمرهم الله أن يبذلوا أرواحهم في سبيله، واشتراها منهم رخيصة، فاستجابوا وباعوها، وبذلوا أنفسهم وأرواحهم فأخذوا الثمن الجنة، كما قال الله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111].
فالمؤمن لا يملك نفسه ولا حياته، فقد باعها من الله والثمن الجنة، وهذا وعد من الله على لسان الأنبياء السابقين في الكتب المنزلة عليهم من التوراة والإنجيل والقرآن الكريم، قال ربنا: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] أي: ومن أكثر وفاء بالعهد من الله؟ أي: لا أوفى منه جل جلاله.
{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111] أي: خذوا البشرى عن الله وأبشروا بهذا البيع المربح الناجح، الذي بعتم فيه أرواحكم -وهي ميتة لا محالة سواء بعتموها أو لم تبيعوها- وأخذتم ثمنها الجنة ورضا ربنا، والله لا يبطل أعمال الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله، وسبل الله كثيرة، منها: القتال في سبيل تحرير أوطان المسلمين، والقتال في سبيل العقيدة وقوانين الإسلام، والقتال في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة، وكلمة الحق يقولها المسلم في وجه سلطان جائر فيقتله فيموت شهيداً، ويكون ثاني الشهداء بعد حمزة سيد الشهداء.(345/6)
خلاف العلماء في بقاء حكم المن والفداء في القتال
وهذه الآية الكريمة اختلف المفسرون فيها: هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقال أبو حنيفة وطائفة معه في رواية عنه: هي منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] قال: وهذه الآية التي في سورة التوبة مدنية نزلت عند حجة الوداع، ولذلك فالمشهور في مذهب أبي حنيفة: أنه لا أسر ولا من، وليس إلا القتل والقتال، فالأمر بالقتال واجب لإعلاء كلمة الله وسبيله، ومن أسر فليس له إلا القتل، وليس له من ولا استرقاق ولا فداء.
وقال الإمام مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وطوائف من أئمة الاجتهاد وأعلام الإسلام: إن الآية محكمة وليست منسوخة؛ لأن الله أمر بالقتال والإثخان في القتل؛ حتى يكثر القتل في صفوف الأعداء، فتقتل القادة والزعماء والضباط، فلا يبقى إلا أتباع ورعاع لا يقودون جيشاً ولا يدبرون حرباً ولا يستطيعون إلا الامتثال لآمريهم، فهؤلاء ائسروهم وشدوا وثاق أسرهم، واربطوهم ربطاً محكماً بالحبال وبالسلاسل؛ حتى لا يفروا؛ وبعد ذلك الأمر لكم حسب مصلحتكم ومصلحة الإسلام والدولة الإسلامية والجيوش الإسلامية، فإما أن تمنوا على أسراهم فتطلقوا سراحهم بلا مقابل، وإما أن يكون ذلك مبادلة بأسرى آخرين، وإما أن تطلقوا سراحهم بالفداء من مال أو عمل أو مبادلة بأسرى لكم عندهم، ويبقى هذا مستمراً إلى أن تنتهي الحرب ويهزم العدو ويستسلم وينكس رايته ويخضع لسلطانكم وأمركم ونهيكم، وإذا لم يتم ذلك فلا ترفعوا السيف عن رقابهم ولا الأسر عن أسراهم.
هذا قول الجمهور، وهو ما كان يفعله عليه الصلاة والسلام في حروبه، فقد أسر في غزوة بدر قبل أن يثخن في الحرب فعاتبه الله على ذلك، وهدد وأوعد الجيش الإسلامي إن هو عاد، ولولا كلمة من الله سبقت لكان الجيش الإسلامي في خبر كان، ولكان الإسلام وكأنه لم يكن، قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:67 - 68].
وهذه الآية نزلت في أسرى غزوة بدر، فقد انتصر صلى الله عليه وسلم والأصحاب الكرام انتصاراً ساحقاً على أعدائهم وقتلوا وشردوا وأسروا، ولكنهم أخذوا كبار الجيش وقادة الحرب وزعماء المعركة أسرى، وكان عددهم اثنين وسبعين زعيماً، فأسرهم النبي عليه الصلاة والسلام وشد وثاقهم واستشار فيهم أصحابه، فقال له أبو بكر: يا رسول الله! قومك، دعهم لعلهم يسلمون ويخرج من أصلابهم من يؤمن بك وينصرك وينصر دينك.
وقال عمر: يا رسول الله! اذكر صنع هؤلاء معك ومع المسلمين، شتموك وآذوك وأخرجوك، وتآمروا عليك، وقالوا عنك وقالوا، وأدموا عقبيك، وهجروك سنوات، وقتلوا من أصحابك وشردوا، وعذبوا وقتلوا، فأعط كل واحد منا قريبه يقتله؛ ليعلم الله أن ليس في قلوبنا محبة للمشركين.
وكان في الأسرى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن عمر يقول له: أعطني أخي أقتله أنا، واقتل أنت عمك العباس، ويقتل علي أخاه عقيلاً، وهكذا بقية القادة.
وقال عبد الله بن رواحة: هذا الوادي مر بأن يملأ حطباً ثم ألقهم فيه، فسكت النبي عنهم، ودخل عريشيه، وبعد ليلة أو أكثر عاد إليهم، فقال: ليؤد كل واحد من هؤلاء الأسرى فدية لنفسه، ومن لم يكن له هذا المال فلتؤد عنه عشيرته، ومن كان قارئاً فليعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.
انظر هذا العلو والحضارة ونشر العلم في الإسلام، ففي في أول معركة انتصر فيها الإسلام هذا الانتصار، جعل النبي صلى الله عليه وسلم من مواد الصلح أن يعلم كل واحد من قرائهم عشرة من الأميين من المسلمين، وهكذا كان.
وإذا بالآية الكريمة تنزل في اليوم الثالث، وهي قوله تعالى: ((مَا كَانَ لِنَبِيٍّ)) أي: لا ينبغي لنبي {أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67] أي: لا يليق به أن يتخذ أسرى وهو لم يقتل بعد ويبالغ في القتل، ويستأصل القادة والزعماء؛ لأنه قد تكون معركة حدثت ويؤسر القادة، ثم سيطلق سراحهم ويعيدونها جذعة، ويتداركون الأخطاء الماضية، وتكون العاقبة على الجيش المسلم خطيرة؛ ولذلك هدد الله وأنذر، ثم امتن وتكرم فقال: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال:68] أي: لولا أن الله سبق في علمه وفي كتابه المكنون أنه ناصر دينه ونبيه لأصاب هؤلاء عذاب عظيم، أي: لهزموا، ولأصبح الإسلام والرسالة المحمدية في خبر كان، وكأنها لم تكن.
والفائدة من الآية: أن ما مضى قد عفا الله عنه تكرمة لسيد البشر صلى الله عليه وسلم.(345/7)
بقاء حكم المن والفداء في الأسرى
ولكن قال تعالى لمن يأتي بعده: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4] أي: إذا قابلتم عدوكم في معركة، فاضربوا منهم الرقاب، أي: قاتلوهم قتال الصناديد الأشاوس الشجعان، قتال من دخل الحرب وهو لا يريد أن يخرج منها إلا قاتلاً أو مقتولاً.
فاقصدوا في ضرب أعدائكم رقابهم؛ لكي لا يفكروا في الحياة بعد ذلك؛ لأن في قتل الكافر حياة للمسلمين، والسيف شعار للقوة، فضرب الرقاب في كل عصر بحسب سلاحه، فضرب الرقاب كان بالسيف وقتها، والسيف هو سلاح القائد، وضرب الرقاب أيضاً بالقنابل وبالصواريخ وبالمدافع وبالطائرات وبالغاز الخانق، وبكل ما يوصل إلى سحق العدو وقتله، ونصر الإسلام والمسلمين، أشخاصاً وعقيدة وأوطاناً.
والنبي عليه الصلاة السلام فعله وعمله في حروبه وفي غزواته، وهو ما فهمه الأئمة: مالك والشافعي وأحمد، وفي رواية: أنه عاد لقولهم أبو حنيفة وهو رأي الجماهير، والآية محكمة وليست بمنسوخة.
قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد:4] الكافر: هو كل من لم يؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:2] فلا يتم الإيمان إلا أن يكون مع عمل الصالحات، وإيماناً بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى: ((وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ))، أي: محمد هو الحق، وما أنزل عليه من كتاب حق، والمنزل عليه حق، جل جلاله وعز مقامه.(345/8)
ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأسرى في حروبه
والنبي صلى الله عليه وسلم في حروبه أسر، ومنَّ، واسترق، وفدى، كل ذلك قد فعله عليه الصلاة والسلام، ففي غزوة حنين عندما أسر ستة آلاف ظعينة -أي: امرأة وطفل- من هوازن، ثم من عليهم وأطلق سراحهم بلا مقابل، وما كان قد أعطى المجاهدين من الأنصار والمهاجرين أرضاهم صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحهم أيضاً.
وفي غزوة بدر جعل للأسرى فداء، فيفادي بعمل أو مال، وقد أخذ الجزية من كل أسير أربعمائة دينار، ومن لم يملك هذا المال وكان مقرئاً أمره بتعليم عشرة من أميي المسلمين القراءة والكتابة، فهو فداء بمال وفداء بعمل، والاختيار وارد في قوله: (إما مناً) ومفهومه: أو لا تمنوا، وعدم المن يكون بالقتل، فلا يطلق سراح، ولا يفادى بمال، ولا بأعمال.
وفي غزوة بدر قتل صلى الله عليه وسلم من الأسرى: عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، وعندما قدم عقبة للقتل قال: (من للصبية يا محمد؟ قال: النار)، وهكذا كان شرعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المجاهدين أو قواد الجيش مخيرون بين كل ما فعله عليه الصلاة والسلام.
والقتال فرض عين عندما يهاجم العدو ديار الإسلام كحالنا اليوم، ومع ذلك نرى أن لا حرب ولا قتال، وإنما نرتع بين الشهوات والنزوات والمناكح وبناء القصور، وجمع الملايين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وما يتبع ذلك، ونسينا الله فنسينا، وسلمنا لأذل أعدائه وأحقرهم، إخوة القردة والخنازير وعبدة الطاغوت عليهم لعنات الله المتتالية.
إذاً: فالنبي عليه الصلاة والسلام أسر، وبعد الأسر قتل، وفدى بالمال والعمل، وفدى بالمبادلة من بني عقيل، الذين أسروا منه صلى الله عليه وسلم أسيرين، وأسر منهم أسيراً، فبادل أسيرهم بأسيرين.
واسترق صلى الله عليه وسلم عندما حارب يهود خيبر ويهود بني قينقاع، وعشائر اليهود، وأسر منهم، فقتل من قتل واسترق من استرق، وأخرج من البلاد من أخرج؛ ولذلك فالدولة مخيرة في القتال بين أن تطرد وأن تستعبد، أو أن تمن بلا مقابل، أو أن تمن مقابل فدية من مال أو أعمال، وهكذا، فالآية محكمة واضحة صريحة، والسنة النبوية المطهرة أيدتها بالقول وبالعمل.(345/9)
معنى الألفاظ الواردة في آية القتال
وقوله: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4] أي: إذا لقيتم الكفار في ساحة الحرب والمعركة فابتدئوا بضرب رقابهم، أي: بمقاتلهم حيث تقضون عليهم لأول هجمة لا للجرح والكسر فقط، بل للقتل والقضاء المبرم، ويبقى ذلك مسترسلاً ((حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ)) أي: إلى الإثخان والمبالغة في القتل، وقتل الزعماء والقادة والضباط والكبار.
وقوله: ((فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)) أي: اربطوهم بالسلاسل والحبال بشكل محكم، وربط تام كي لا يفروا.
وقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] أي: بعد الأسر والقتل والإثخان، فلكم المن أي: بأن تمتنوا عليهم وتطلقوا سراحهم، وتفادوا بهم بمال أو عمل.
وقوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] أي: حتى تضع الحرب التي أنت فيها أثقالها ونهايتها، وذلك باستسلام العدو وتنكيس الراية منه، وقبوله الخضوع لحكم الإسلام دون قيد ولا شرط.
وقوله: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد:4] أي: ولو شاء الله لانتقم منهم بلا حرب ولا قتال، وانتصر للمسلمين بداهية تنزل على أعدائهم، إما بزلزال من الأرض، وإما بصواعق من السماء، وإما بريح عاصف.
وقوله: {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4] أي: أمر بالقتال والجهاد ليختبركم ويفتن بعضكم ببعض، ليعلم الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، وهو من قبل أعلم بهم جل جلاله وعز مقامه.(345/10)
ضابط القتال في سبيل الله
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4].
أي: الذين قتلوا من المسلمين في سبيل الله لا لوطن أو لقوم أو لغنائم أو لإبراز شجاعة.
وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل حمية -أي: وطنية قومية- ويقاتل ليقال: شجاع وبطل، ويقاتل للغنائم، ويقاتل في سبيل الله، أيهم الذي إذا مات كان شهيداً أو في سبيل الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
وسبل الله كثيرة، فكما قال الإمام مالك: الدفاع عن الأطفال والمستضعفين من المؤمنين، ورفع الظلم، والدفاع عن الإسلام وعن وطنه وأحكامه، والدفاع عن كل ما يمت للمسلمين والإسلام بسبب، هو في سبيل الله، ومن مات في سبيل ذلك مات شهيداً، ودخل تحت قوله تعالى: {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4] أي: لن يبطل أعمالهم من صلاة وزكاة، وحج وأعمال صالحات، فهم في كل ذلك يجازون الجزاء الأوفى، ويدخلون الجنان؛ لأنهم الذين باعوا لله أرواحهم رخيصة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
باعوا الأنفس لله، وكان الثمن الجنة، ويا سعد من باع، ويا سعد من قبل الثمن، على أن الكل ميت: من باع ومن لم يبع، ومهما طال بالمرء زمن وحياة، فهو ميت لا محالة، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].(345/11)
تفسير قوله تعالى: (سيهديهم ويصلح بالهم)
قال تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد:5].
أي: سيهديهم الله إلى طريق الجنة، وإلى سواء السبيل يوم القيامة.
وقوله: {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد:5] أي: يصلح أمورهم؛ لأن الله يغفر سيئاتهم ويكفر زلاتهم.
قال تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6] أي: يهديهم إلى الجنة، ويقودهم لها.
وقوله: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6] أي: الملك الملازم له في الحياة الدنيا يكون أمامه يدخل به الجنة، فيعرفه طريقها، ويبين له قصوره ونساءه، وغلمانه وخدمه وممتلكاته فيها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن ساكن الجنة يعرفه الله الجنة، ويعرفه منازله فيها، حتى ليكون أحدهم أعرف بمنازله في الجنة من معرفة أحدكم بمنزله في دار الدنيا).
فيعرف طريقها وجنانها وقصورها وأزواجها وحور عينها.(345/12)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
ينادي الله عباده المؤمنين، ويقول لهم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ)) هذا وعد من الله ومن أوفى بعهده منه سبحانه؟! يقول الله للذين آمنوا: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وكيف نصر الله؟ يكون بأن ننصر دينه، وعباده المسلمين، ونقاتل في سبيل الله، ونبذل الحياة رخيصة له سبحانه، فإن نحن قمنا بذلك وفعلنا الشرط، حصلنا جوابه، وقد ذكر الله الشرط وجزاءه، فقال: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] أي: إن نحن نصرنا دينه وعباده ونبيه وكتابه، وبذلنا الأرواح رخيصة في سبيله سبحانه، فإنه سينصرنا.
فإن رأيت أن الله لم ينصرنا على كثرة عددنا، حتى إننا غثاء كغثاء السيل، كما أنذر بذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام، فبسبب أننا لم ننصر ديننا، كيف تقوم شرذمة من اليهود عبدة الطاغوت، أحقر الخلق وألعنهم عند الله فيحاربون أمة الإسلام، وهم مليار من الخلق؟! فتقوم معهم أمريكا وأوروبا وجميع دول الأرض، ومعهم جميع الشياطين والقردة، أما من كان الله معه فلا يحتاج لسواه، ومن كانت نصرة الله معه فلن ينتظر ويحتاج لنصر أحد، كما قال بعضهم: ومن تكن برسول الله نصرته إن تلقه الأسد في آجامها تجم فمن سينتصر بالله وبرسوله وبدينه، إن تلقه الأسود والوحوش الضارية في الغاب؛ فإنها تفر وتخاف منه، وهكذا الأمر، ولكننا عندما كنا غثاء لم ننصر الله في شيء، لا في عقيدة، ولا في وطن، ولا في عباد صالحين، ولا في مستضعفين من رجال ونساء وولدان، وما يفعله العدو يهودياً كان أو نصرانياً من منكر نفعله ونزيد عليه، فهو تبرج وخرج بعوراته مكشوفة، والمسلمون فعلوا ذلك، واليهود والنصارى كفروا بالله واتبعوا طواغيتهم، والمسلمون تركوا دين الله وقيادة رسول الله وكتاب الله خلفهم ظهرياً، واتبعوا كل شيطان مارد: من شيوعي وبهائي ووجودي، ومن بقية ملل الكفر من اليهود والنصارى والمنافقين.
ومنا من يقول: لم نصر الله العدو ولم ينصرنا؟ ف
الجواب
لم ينصرنا لأننا لم ننصره تعالى، لم نكن مسلمين حقاً، لم نبذل الأرواح رخيصة في سبيله، غدرنا ونكثنا بالعهد، والمفروض في كل مسلم أن الله اشترى منه نفسه وحياته، وبذل له الثمن الجنة، فنحن بذلت لنا الجنة وبعنا أنفسنا، ثم عدنا فاسترجعناها وأعطيناها لليهود والنصارى، يستبيحون الأعراض والأديان والأموال، ويستبيحون الكرامة والشرف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
ينادي الله عباده المؤمنين، يحضهم ويحرضهم على نصرة دينهم، وكتاب ربهم، ونبيهم عليه الصلاة والسلام، فإن هم فعلوا نصرهم الله في دنياهم على عدوه وعدوهم.
وقوله تعالى: {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] أي: يثبتكم على الإسلام، وعلى الهداية والصلاح والتقى، لتكونوا كمن رسخت قدمه لا يخاف زعزعة ولا ميلاً، ولا ردة ولا انفراطاً، وعن نبي الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من بلغ ذا سلطان حاجة من لم يستطع تبليغها ثبت الله قدمه على الصراط يوم القيامة).
وهذا من ذاك، فمن كان عوناً للمسكين الذي لا يستطيع الاتصال بذي السلطان ليرفع إليه شكواه ومطالبه، ثبت الله قدمه على الصراط، فلا يزل ولا يقع.(345/13)
تفسير سورة محمد [8 - 14]
عندما يذكر الله تعالى في القرآن الكريم أوصاف المؤمنين يتبع ذلك بذكر أوصاف الكافرين، فكأنه سبحانه وتعالى يعقد مقارنة بين حياة المؤمن في الدنيا وجزائه في الآخرة من جهة، وبين حياة الكافر في الدنيا وجزائه في الآخرة من جهة أخرى، وأنه يأكل في الدنيا ويتمتع كما تفعل الأنعام والدواب.(346/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8].
أي: ما تقدم صفة المؤمنين، وهذه حال الكافرين، فقوله تعالى: ((فَتَعْسًا لَهُمْ) أي: فهلاكاً ودماراً وخيبة لهم، وهذا دعاء من الله عليهم بالخيبة والدمار والتعاسة والشقاوة.
وقوله تعالى: ((وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطلها ولم يقبلها، وضرب بها وجوههم.(346/2)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم)
قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9].
لم أتعسهم الله وأشقاهم وأبعدهم عن رحمته؟ لأنهم كرهوا ما أنزل الله، أي: كرهوا كتاب الله والعمل بما جاء به، وكرهوا الرسالة والرسول، وطاعتها وطاعته، وكرهوا الإيمان والصلاح والتقوى، فكان الجزاء أن أحبط الله أعمالهم، أي: أضلها وأضاعها، وجعلها هباء منثوراً.(346/3)
تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10].
يقول تعالى عن هؤلاء: أليست لهم أقدام يسيرون بها على الأرض، ويتجولون ويسيحون بها فيرون عاقبة الأمم والشعوب قبلهم ممن كفروا بالله، وخرجوا عن دينه، ويرون كيف دمر الله عليهم؟ يقال: دمره، ودمر عليه، والتدمير: الهلاك والاستئصال.
ففي الآية أمر للكفار بأن يضربوا في الأرض، وينظروا إلى آثار من مضى من الأمم الكافرة والشعوب الضالة، التي لا تزال آثارها في الأرض، ممن أغرقهم الله وأرسل عليهم زلازل، وريحاً عقيماً، وجعل أرضهم عاليها سافلها، وأخذتهم الصيحة، وكأنهم لم يغنوا بالأمس، فآثار هؤلاء لا تزال ماثلة للعيان، يراها كل من وصل لأرضهم ووقف على آثارهم فيتعظ بذلك، ويتأمل كيف فعل الله بهؤلاء الذين أرسل الله إليهم رسله عليهم الصلاة والسلام، فكذبوهم، وكذبوا كتبهم، وكيف دمر الله عليهم دورهم وقراهم وحضارتهم، فكأنهم لم يكونوا يوماً.
وقوله تعالى: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10] هذا مغزى الآية الذي لفت الله الأنظار إليه، أي: كذلك يفعل بأمثالهم من الكافرين الذين يأبون إلا الكفر والعصيان، وإلا الردة والاستمرار على الوثنية والشرك، فهؤلاء يوشك الله أن يعاملهم معاملة من سبقهم من الأمم التي كفرت كفرهم وأشركت شركهم.(346/4)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم)
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11].
كان هذا في نصر الله للمؤمنين وخذلانه للكافرين، أي: أن الله مولى الذين آمنوا، وناصرهم ومؤيدهم وراحمهم في دنياهم وأخراهم، وأن الكافرين لا معين لهم ولا ناصر من دون الله.
ُمُحِصَّ المسلمون في غزوة أحد نتيجة مخالفة الرماة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك حين أمرهم بأن يبقوا على رأس الجبل، لا ينزلون منه ولو رأوا الصحابة يقطعون، ولو رأوا الغنائم تكاد أن تعلو التلال والجبال فليلزموا مواقعهم، ولكنهم خالفوا، فرأوا الغنائم وأن النصر لهم في البداية، فتركوا الجبل ونزلوا إلى الأرض ليأخذوا الغنائم، وإذا بصوت أبي سفيان: احتلوا الجبل الذي كان موقعاً حربياً من قبل جند الإسلام، فدالت الدولة وانقلبت المعركة على المسلمين، وقتل من قتل، ومثل بمن مثل، كـ حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيتيه فداه نفسي وأهلي وولدي ومالي.
وبعد نهاية المعركة وقف أبو سفيان رئيس الكفر وقائد جيش الكافرين المهاجم للمدينة فقال: أفيكم محمد؟ أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟ فلم يجبه أحد.
فقال: قد كفيتم هؤلاء وماتوا.
فإذا بـ عمر يقول له: كذبت يا عدو الله! فلك من هؤلاء يوم، فعاد فقال: يوم بيوم بدر، أي: هزموا في معركة بدر، وهم الآن يهزمون في معركة أحد، فقال: يوم بيوم، وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني، ثم عاد فأخذ يرتجز، ويقول: اعل هبل، اعل هبل -وهبل أحد أصنامهم- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أفلا تجيبوه) فقالوا: بماذا نجيبه؟ فقال: (قولوا: الله أعلى وأجل).
وقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أجيبوه: الله مولانا ولا مولى لكم).
وهكذا يقول ربنا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] فالمؤمنون الله مولاهم وناصرهم، ومعينهم، والكافرون همل لا ناصر لهم ولا معين ولا مساند من قضاء الله وأمره، فهم أذل من ذلك وأحقر.(346/5)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12].
يقارن الله بين حياة المؤمن وحياة الكافر.
فيقول عن المؤمن: ((إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا)) أي: آمنوا بالله رباً، وبكتابه ودينه ورسله.
وقوله تعالى: ((وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) أي: ضموا إلى الإيمان بالله عملاً صالحاً، من القيام بالأركان من صلاة وصيام وحج وزكاة وغيرها.
فهؤلاء الذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات جزاؤهم عند ربهم أن يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، فيكرمهم بجنات لا جنة واحدة، جنات تجري من تحتها الأنهار، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أما الكافر فقال تعالى عنه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} [محمد:12].
أي: الذين كفروا بالله يتمتعون في دنياهم تمتع الدواب والأنعام، فيأكلون كما تأكل ويعيشون كما تعيش، لا هنأ لهم في الحياة ولا هدف ولا غاية، إلا أن يملئوا البطون ويرغبوا الفروج، ويلبسوا الظهور، ولا فكر في آخرة ولا في عبادة، ولا في الله جل جلاله، وما أنزله من كتب وملائكة ورسل، وحال هؤلاء كما يقول عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).
فالمؤمن يأكل ليعيش، والكافر يعيش ليأكل.
المؤمن يعيش ويحتاج في العيش لزاد يتزود به لعبادة ربه وامتثال أمره، ولطاعة نبيه وامتثال أمره، وليتم ذلك فليأكل ليعيش للعبادة.
وأما الكافر فهدفه من الحياة الأكل والشرب والظهر والفرج، ولا شيء سوى ذلك، يعيشون هملاً مع أنفسهم، لا يفكرون فيما سوى بطونهم وفروجهم وظهورهم، يعيشون للمتعة وللذة زائلة وحياة غير دائمة، فلا يفكرون في اليوم الآخر ولا في العرض على الله، وكأنهم الأنعام والدواب، بل الأنعام أشرف منهم، وهم أضل منها، كما قال الله: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179] فهم أبعد عن المنطق، وعن الخير، فلا يحرمون حراماً ولا يحلون حلالاً، والأنعام نستفيد من بطونها وظهورها وأوبارها وضروعها، وهؤلاء يكونون كلاً على الناس، وجودهم في بطن الأرض خير لهم من ظهرها، فلا ينتج عنهم إلا الضرر والشقاء وأذية الإنسان.
وقوله تعالى: {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] أي: هؤلاء مقامهم ومثواهم ومنزلتهم يوم القيامة النار، جزاء وفاقاً لكفرهم وخروجهم عن أمر الله ودينه.(346/6)
تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك)
قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13].
عندما اضطر نبي الله عليه الصلاة والسلام للخروج من مكة، أعلن الكفار أن من جاء به حياً وميتاً فله مائة ناقة، دية قتيل من الناس، ولذا ذهب إلى غار ثور يختفي أياماً ليتابع رحلته ومسيرته إلى دار الهجرة المدينة المنورة، وصل للغار متألماً حزيناً، وخاطب مكة قائلاً: (ما أحبك إلى الله، وما أحبك إلي، ولولا أن المشركين أخرجوني منك لما خرجت) فأنزل الله عليه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13].
قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [محمد:13] أي: كم من قرية، أو كم من مدينة أهلها أشد سلطاناً وأكثر غنى، وأوسع حضارة من قريتك ومن بلدك التي أخرجت منها، ومع ذلك أهلكناهم ودمرناهم، وجعلناهم عبرة للمعتبر.
فهؤلاء الذين أخرجوك لقد كانوا أقل ممن سبقهم شأناً وأضعف سلطاناً وأقل حضارة، فلا يعجزوننا، كيف ولم يعجزنا من هم أشد منهم قوة وأكثر سلطاناً، عندما أخرجوا نبيهم، وكفروا بدينه، وكذبوا كتابه، والرسالة المرسل بها أنبياؤهم.
وقوله تعالى: {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13] أي: فلم يكن لهم ناصر، وأصابهم منا الدمار من غرق ومن جعل الأرض عاليها سافلها، ومن رياح عقيمة ومن صواعق من السماء، وزلازل من الأرض، فلم يجدوا ناصراً ولا معيناً ولا مسانداً ينصرهم من أمر الله وقضائه، وهيهات هيهات أن ينصر مشرك وعدو لله!(346/7)
تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه)
قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14].
يا رسول الله، يا محمد، يا أنصاره من الموحدين المؤمنين، اضربوا مقارنة ومثالاً: هل من آمن بالله على بينة من ربه، وآمن بكتاب الله، أصلح أم الذين زين لهم الشيطان سوء عملهم فظنوا أنهم على شيء وهم ليسوا على شيء؟ أهؤلاء خير أم أولئك؟ فكانت نتيجة من أبطل الله أعمالهم وأحبطها وقضى عليها، أن أعمالهم التي حفظوها لأنفسهم من صدقة وصلة رحم وعطف على مسكين ونحوها قد جعلها الله هباء منثوراً؛ لأنها أعمال لم يرد بها وجه الله، ولو أريد بها وجه الله لآمن أصحابها بالله وأطاعوه في أمره، واجتنبوا نهيه.
وقوله تعالى: ((وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)) أي: جعلوا إلههم هواهم، واتبعوا ما تقوله لهم أهواؤهم من شهوات ونزوات وفسوق وعصيان، فلم يشرعوا إلا في الباطل، ولم يطيعوا الله يوماً، ولم يقولوا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، عاشوا أنعاماً دواب، وبقوا كذلك، إلههم هواهم، لا يحللون ولا يحرمون.
أفيمكن أن يسوى أولئك الدواب والأنعام بذاك المؤمن الذي آمن بالله إيماناً مبنياً على أدلة عقلية ونقلية، وعبد الله على يقين، ولم يتبع هوى، ولم يعش لا لبطن ولا فرج، كعيشة الدواب والهوام والأنعام؟(346/8)
تفسير سورة محمد [15 - 19]
يصف الله تعالى جنته وما أعد فيها للمؤمنين من النعيم المختلف، فكلما ذاقوا نعيماً انتقلوا إلى غيره فوجدوه خيراً منه، ومن ذلك ما جعل الله فيه من أنهار الماء والخمر والعسل واللبن التي يحصل شاربها على منتهى اللذة دون أذى.
وفي المقابل أعد لأهل النار ماء من حميم يقطع أمعاءهم، وذلك جزاء نفاقهم وكفرهم وإعراضهم عن سماع الحق والعلم بشهادة التوحيد.(347/1)
تفسير قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون)
قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15].
هذه الآية الكريمة يصف الله فيها ما جعل في الجنة التي وعد بها المؤمنين الصادقين، الذين اتقوا الله في عقيدتهم وفي أعمالهم، فجعلوا بينهم وبين الحرام وقاية وحاجزاً وأطاعوا ربهم ونبيهم، وعملوا الصالحات مما أمروا به، واجتنبوا الفواحش ظاهرها وباطنها، وعاشوا وماتوا في سبيل الله.
فالجنة التي وعد الله هؤلاء وأمثالهم، أخذ الله يصفها بقوله: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15] الحياة بلا ماء لا تكاد تؤنس ولا تسر ولا تقر العين.
والله يصف ما أكرم به المؤمنين في منازلهم الدائمة في جنات عدن فقال: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15].
قوله: (غير آسن): أسن يأسن إذا تغير وأنتن، ففي الجنة مياه غير منتنة، ولا متغيرة، فليست كالماء الذي يركد في بقعة أو في آنية، وإذا به مع مرور الزمن والوقت يتغير وينتن ويستكره شرباً واستعمالاً، أما هذه الأنهار التي في الجنة فليست كذلك، بل هي في صفاء الدر، وفي برد الثلج، وفي لذة المياه التي تلذ شديد العطش في أرض حر.
وقوله تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15].
أي: وفيها أنهار جارية من اللبن الذي لم يتغير طعمه، وعادة اللبن إذا مضت عليه فترة أنه يحمض ويتغير وينماع ويذهب دسمه، أما هذا فيبقى أبيض دسماً، غير متغير الطعم، بل هو من ألذ ما يشرب الإنسان ويتذوق.
وقوله تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15].
أي: وفيها الأنهار من الخمر، والخمر الذي تسمى في الدنيا خمراً، لكن خمر الآخرة ليست كخمر الدنيا، فليس لها صداع ولا مرارة ولا قذارة، ولم تعجن بالرجل ولا اتسخت باليد، وليس فيها ما ينزف العرق والصحة ويشق على الإنسان، وإنما هي خمر لذة للشاربين، ومعنى: (لذة) أي: لذيذة بمعنى: أنها لذيذة للشارب، فلا يجد لها صداعاً، ولا ألماً، ولا مرارة، ولا وساخة ولا قذارة، بل هي من أصفى وألذ وأصح ما يكون.
وقوله تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15].
أي: وفيها الأنهار السائحة الجارية من عسل مصفى، لم تصفه نار، ولكن هكذا خلقه الله مصفى، ليس فيه قذارة، وليس فيه أرجل ولا أجنحة للنحل، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (في الجنة بحور: بحر من ماء، وبحر من خمر، وبحر من لبن، وبحر من عسل مصفى، وتجري من هذه البحار جداول وأنهار سائحة على أبواب قصور ومنازل سكان الجنة وأهلها).
ولبنها أيضاً لم يخرج من ضروع الأنعام، والعسل لم يخرج من بطون النحل، والخمر لم يخرج من شجر أو غيره، ولم يشعل ولم يستخدم بالأقدام، ولكن الله خلق ذلك في أرض الجنة لسكانها، كما خلق المياه والعسل، واللبن كذلك، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (ليست أنهار الجنة تجري في أخدود من الأرض، ولكنها سائحة حافتها جبال من لؤلؤ، وطينها المسك الأذفر)، وهذا من النوع الذي يقول عنه العلماء: لا مجال فيه للرأي، أي: لم يكن أنس ليقوله إلا إن سمعه من رسول الله عليه الصلاة والسلام.(347/2)
جماع وصف الجنة
هذه الأنهار التي خلقها الله في جنته، هي جزء من نعوتها وصفاتها، وإلا فقد أجمل الله وقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] حتى إن بدوياً قال: (يا رسول الله! إني أحب الخيل، أفيها الخيل؟ قال: إن دخلت الجنة ستجد الخيل، وتركب حيث شئت فيها.
وقال آخر: يا رسول الله! إني أحب الإبل، فهل أجد في الجنة الإبل؟ قال: نعم، إذا دخلت الجنة ركبت من الإبل ما تشاء)، وهذا ما أجمله الله وعممه دون تفاصيل.
وقوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:71]، هذا ما زاده تفسيراً وبياناً رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
وشربة ماء من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعطش الإنسان بعدها أبداً، لونه أشد بياضاً من اللبن، وأكثر حلاوة من العسل.
وهذا من تفاصيل ما في الجنة من نعيم.
ففيها ما لا عين رأت، والإنسان في الدنيا رأى بعض ما ذكر فيها، فقد شربنا الماء ولا نستغني عنه، وشربنا اللبن ولا نستغني عنه، وكذلك العسل ولا نستغني عنه، وأعاذنا الله من خمر الدنيا، ولكن النبي يقول عليه الصلاة والسلام: (ما لا عين رأت) ونحن قد رأينا هذا، (ولا أذن سمعت) وقد سمعنا به، (ولا خطر على قلب بشر) ومعنى هذا: ما قاله حبر القرآن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (كل ما ذكر الله في جنته ليس منه في الدنيا إلا الأسماء) أما المسميات فهي في الآخرة غير ما يخطر بالبال، وغير ما رأت العين، وغير ما سمعت الأذن، وهذا يتم بياناً وشرحاً وتفسيراً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه في أوسط الجنة، وفي أعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن).
قال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:15].
فهذه أنهار الماء والعسل والخمور والألبان لهم مع ذلك وفوقه المغفرة من ربهم، يغفر الله ذنوبهم وآثامهم، وما ملّكهم الجنة، وجعلهم من أهلها حتى غفر ذنوبهم، وكشف كروبهم، وأزال سيئاتهم.
ولهم فيها من الثمار ما لا يخطر ببال إنسان، كذلك في أرضنا يوجد من الثمار والفواكه ما ليس في أرض أخرى، وقد رأيت في آسيا القصوى وفي أقطار أخرى بعيدة وقريبة من الفواكه والثمار ما لم يُعرف في بلاد العرب، وهو من ألذ ما يؤكل، ومن ألذ ما تتمتع به النفس؛ أما الآخرة ففيها من أنواع الثمار والفواكه بجميع أشكالها ومما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، مع مغفرة الله وتكفيره لسيئات أهل الجنة، وما أدخلهم حتى كفّر سيئاتهم، وغفر لهم ذنوبهم.
قال تعالى: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15].
أي: فمن هو خير؛ أهذا الذي دخل الجنان وكان له فيها من الأنهار أنواع وأشكال، وغفر الله ذنبه وستر عيبه وكشف كربه، أم الكافر الذي إذا دخل النار سُقي من الحميم الشديد الغليان الذي إذا شربه قطّع أمعاءه وخرج من دبره؟ وهكذا كلما نضجت جلودهم بُدلوا جلوداً غيرها؛ ليذوقوا العذاب وليزدادوا عذاباً وعقاباً جزاءً وفاقاً على كفرهم وشقاقهم في دار الدنيا.(347/3)
تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك)
قال ربنا جل جلاله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16] قوله: ((وَمِنْهُمْ)) أي: من أنواع الكفّار المنافقون الذين يظهرون الإيمان مظهراً ويخفون الكفر باطناً.
((مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ)) أي: يحضر مجلسك، ويدخل مسجدك، ويسمع خطبك ومواعظك، وأوامرك ونواهيك، حتى إذا خرج من مجلسك وقد سمعك تشتم المنافقين وتذل الكافرين، وتذكر ما أعد الله لهم في الآخرة من عذاب ومحنة إن بقوا على ذلك ولم يتوبوا، أخذ يسأل أولي العلم: ماذا قال آنفاً؟ يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد سألوا عبد الله بن مسعود كما قال عن نفسه، وسألوا عبد الله بن عباس كما قال عن نفسه، وسألوا غيرهما.
قوله: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد:16] أي: ماذا قال رسول الله الآن؟ آنفاً: أي في الزمن الحاضر، وهو من الأنف، وأنف كل شيء أوله، ومنه الروض الأنف للإمام السهيلي الأندلسي.
{حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد:16] وهم يسألون سؤال المستهتر الذي لم يلق بالاً ولم يكن يهتم بما يقول رسول الله؛ لأنه ليس بمؤمن؛ بل منافق وكاذب، فهو عندما يخرج يكشف عن نفسه: ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم تكشفه فلتات لسانه، ونظرات عينيه، وحركات شكله في وجهه ومقاطعه.
قال تعالى عن هؤلاء: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16].
أي: أولئك المنافقون المستهترون الذين تظاهروا بالإسلام كذباً ونفاقاً، وحضروا مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستهتروا بها، ولم يعطوها أذناً صاغية، وعندما خرجوا أخذوا يتساءلون سؤال المستهتر غير المصدّق الكاذب المنافق؛ فقال الله عنهم: ((أُوْلَئِكَ)) أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات ((الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)) أي: طبع الله عليها بأقفالها فلا يفقهون ولا يعون ولا يهتدون، زادوا ضلالاً على ضلال، وركبهم الجهل فوق الجهل، وأصبح جهلهم وكفرهم مركباً، هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم ونزواتهم وشهواتهم لم يتبعوا الله، ولم يؤمنوا برسول الله، ولم يطيعوا أمراً لا في كتاب ولا في سنة، أولئك عبدة الأهواء، أولئك الذين إلههم هواهم.
أولئك الذين طبع الله على قلوبهم فلا يعون ولا يفقهون، كانوا من الضلّال أزلاً، وكانوا من الكفار، حيث سجّلوا كذلك في اللوح المحفوظ.(347/4)
تفسير قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17].
((وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا)) أي: والمؤمنون الذين اهتدوا إلى طريق الهداية، فآمنوا بالله، وبرسول الله، وبكتاب الله، فهؤلاء زادهم الله هدى وإيماناً، وعلماً وتوفيقاً، وزادهم إنارة قلب وسعة صدر، وزادهم فهماً ووعياً لكتاب الله وحديث رسول الله.
قوله: ((وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ)) أي: أكرمهم بالتقوى، وأثابهم عليها، وجزاء التقوى الجنة، هؤلاء هم الذين وعدوا بالجنة التي مضى الكلام عليها آنفاً بأنهارها وثمارها.(347/5)
تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة)
قال ربنا جل جلاله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18].
قال الله عن هؤلاء الذين التزموا الكفر وأصروا عليه، وثبتوا عليه، ماذا ينتظرون في التوبة؟ وماذا ينتظرون في العودة عن كفرهم؟ {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي: فهل ينتظر هؤلاء إلا أن يُفاجئوا بغتة بقيام الساعة.
وقوله: ((فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا)) أي: فإن لم تأتهم الساعة بعد فعلاماتها وأماراتها وأشراطها قد أتت، قال هذا ربنا، والقرآن لا يزال ينزل على قلب نبينا عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكان هو صلى الله عليه وسلم من أشراطها الأولى، كما جاء في حديث سهل بن سعد الساعدي كما في صحيح البخاري قال: قال رسول الله وأشار بالوسطى والتي تلي الإبهام: (بُعثت والساعة كهاتين) فما بين الساعة وإرسال رسول الله وبعثته إلا كما بين السبابة والوسطى.
وقل لي: كم مضى في السبابة من قرن وكم بقي من الساعة؟ ذلك مما لا سبيل إليه، فعلم الساعة مما استأثر الله به، ولا يعلمها إلا هو.
وعندما سئل المصطفى صلى الله عليه وسلم من جبريل، وقد أتاه إلى المسجد النبوي في صورة الرجل الغريب، جميل الثياب -أبيضها ونظيفها- فجلس بأدب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ويديه على فخذيه، وأخذ يسأل: يا محمد! ما الإيمان؟ فأجاب، ما الإسلام؟ فأجاب، ما الإحسان؟ فأجاب، وهو الحديث المشهور في الصحاح وأمهات السنن، يُقال عنه: حديث عمر، وحديث جبريل، ثم سأل عن الساعة؟ فأجاب: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي: لست أعلم منك بها، فعلمي كعلمك قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:187] جل جلاله، وعزّ مقامه.
ولكن أشراطها -جمع شرط- أي: علاماتها وأماراتها، وهي ما سأل جبريل رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: (ما أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة الرعاة الشاه يتطاولون في البنيان).
وقال أنس في روايته كما في صحيح البخاري: (ومن شرائط الساعة أن يُرفع العلم، ويكثر الجهل، وينتشر الزنا، ويكثر شرب الخمر، وأن تكثر النساء ويقل الرجال حتى يُصبح للرجل الواحد خمسون امرأة).
وكل هذا قد ابتدأ في عصرنا وفي عصور مضت، وأكثر سكان الأرض النساء، حيث تذكر الصحف دوماً في الإحصائيات الدولية الشعوبية أن أكثر الناس النساء، ومنذ يومين قرأت عن روسيا أن النساء تزيد فيها عن الرجال بثلاثين أو أربعين مليون امرأة، وبعضهن لا يجدن رجلاً حتى في الفساد والزنا؛ ولهذا عندما شرّع الله جل جلاله شريعة الإسلام أباح للرجل أربع نساء وقال: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] أباح الأربع وأذن بها، وأباح ملك اليمين.
ونحن في عصر لو وزّعت أربع نسوة على كل رجل لبقيت الملايين لا يجدن رجلاً، ولا ينفع بعد ذلك إلا ملك اليمين، ولا تكون ملك اليمين إلا بعد حروب تنتصر بها الجيوش الإسلامية، ويجعلونهن جواري وإماءً، وذاك لخيرهن وصيانتهن وعيشهن وسترهن، والحفاظ على كفالتهن.
وأكثر ما يكون النساء في ديار الكافرين، وإن كانت بعض ديار المسلمين أخذت تلحق بهم، فنجد أكثر من خمسين في المائة لقطاء لا والد لهم، أباحوا الزنا قانوناً، وشرّعوه دستوراً، وأباحوا العشيقة، ونشروا الزنا مباحاً، فانتشرت بذلك البلايا والمصائب؛ ولذلك انتشر مجموعة من الغلمان الذين نشئوا بلا عطف، لأنهم فقدوا عطف الأب وبعضهم فقد عطف الأب والأم، فعاشوا في الشوارع عيشة الكلاب الضارية، وعيشة الخنازير السائبة، فكثر حقدهم بعد أن ميّزوا ذلك وأدركوه على كل رجل وامرأة، فظهر فيهم الفساد.
وكانت قوانين الأرض والسماء لا تُبيح معاقبة من لم يبلغ الرشد بعد، ولكن ما يحصل عن هؤلاء من أنواع الفساد والإجرام قتلاً وتعذيباً وتحريقاً وإفساداً لم يصدر مثله من الكبار، فتحايلوا على القوانين وجعلوا سجوناً، وقالوا عنها: دور الأحداث ودور التأجيل، وهي سجون فيها من أنواع العذاب ما لا يوجد في سجون الرجال، وهؤلاء الذين نشئوا نتيجة الفاحشة ونتيجة فساد المجتمعات كانوا لعنة آبائهم وأُمهاتهم في هذه الأرض.
ومن هنا نرى حديث أنس، وأن من أشراط الساعة أن يكون للرجل الواحد خمسين امرأة، ولو أردت أن توزّع النساء اليوم على الرجال لكان لكل رجل خمسون امرأة، والكثير منهم قد أعجزته امرأة واحدة، فكيف يقوم بخمسين فراشاً أو كسوة أو سكناً أو طعاماً؟ هو أعجز من ذلك؛ ولذلك أصبحت المرأة تجري خلف الرجل لكل هذه المعاني، وابتدأ هذا وكثر حتى في ديار الإسلام، وصدق رسول الله عليه الصلاة والسلام القائل: (لتتبعن سنن من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قيل: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذاً؟) هم بلاء وفساد الأرض، ومصدر لكل فساد وكفر وسفك دم ونشر فساد في المجتمعات بين الرجال والنساء والأطفال والشيوخ كذلك والعجزة.
قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18].
فمن أشراطها الأولى نبي آخر الزمان الذي لا نبي بعده ولا رسول، ولا وحي بعده ولا كتاب بعد كتابه صلى الله عليه وسلم، وقد بيّن هذا رسول الله فقال: (بُعثت والساعة كهاتين) فكان هو من أشراطها ومن علاماتها وأماراتها.
قال تعالى: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18] أي: إذا جاءت الساعة فكيف يتذكّرون؟ وكيف يفكّرون؟ وهل تنفعهم ذكرى أو فكرة وقد قامت الساعة؟ بل الإنسان إذا وصلت روحه إلى الغرغرة {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158] فكيف يتذكّر هؤلاء يوم القيامة وقد قامت الساعة؟ وهل تنفعهم ذكرى أو فكرة آنذاك؟ هيهات هيهات! الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.(347/6)
تفسير قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك)
قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19].
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
أي: فاعلم يا محمد واعلموا أيها الناس أنه لا إله إلا الله.
الخطاب هنا لنبينا ومعناه: اثبت على لا إله إلا الله، ودم عليها، واعلم أنه لا دين سواها، ولا حقيقة في الحقائق غيرها.
ثم هو كذلك خطاب لأتباعه، وأن الحياة هي لا إله إلا الله: (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله).
وعن أبي بكر الصدِّيق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الناس: لا إله إلا الله، واستغفروا لذنوبهم، فأغواهم الشيطان بالذنوب والمعاصي، فعادوا واستغفروا وقالوا: لا إله إلا الله، فأغواهم بالأهواء حتى ظنوا أنهم على شيء ويحسبون أنهم على شيء وما هم على شيء) أو كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وفُسّرت الآية: ((فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا)) ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)): أي: إذا حضرت الساعة فجأة فلا ملك ولا حكم، ولا ملوك ولا حكام، ولا شيء في الوجود إلا الله، لا يبقى إله مزيّف، ولا إله باطل، وإنما هو الله الحق الصدق ذو الجلال جل جلاله.
والمعنى على هذا صحيح جداً، فإنه إذا قامت الساعة يتساءل ربنا ويقول: أين ملوك الأرض؟ أين الجبابرة؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب الله نفسه ويقول: أنا الملك! أنا ملك الملوك! أنا الجبار! جل جلاله، وعزّ مقامه.
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:18 - 19] أي: إذا برزت الساعة فليس هناك دين ولا عمل، فليس إلا الله والدار الآخرة، وقضاء الله بين الخلق إما إلى جنة وإما إلى نار: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5].
وقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] كقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:1 - 3].
فالاستغفار مطلوب في نهاية الأعمال مما يمكن أن يكون من نقص أو خلاف أولى أو خطرات فكر، أو ما لا يليق مما هو من الخطرات، ومما لا ينبغي أن يكون؛ لأنه خلاف الأولى.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] وقد بيّنوا في معنى الآية أنه: استغفر الله واشكره حيث غفر ما تقدم من ذنبك وما تأخر {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2].
وذنوب رسول الله ليست هي معاصي وآثاماً، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن الصغائر والكبائر، ولكن هي من النوع الذي يُقال عنه: خلاف الأولى، ومنه ما مضى من قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال:67] لم يكن من الله أمر لنبيه ألا يتخذ أسرى فاتخذهم فيكون ذلك ذنباً ومعصية؛ ولكن الله أراد من عبده ألا يفعل خلاف الأولى، وكان الأولى به وبمقامه ألا يتخذ أسرى حتى يُثخن في الأرض، ويكثر القتل في الأعداء.
وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة).
وقد ورد في الأذكار النبوية الاستغفار كثيراً في مدخل البيت، والمخرج من البيت، واستقبال النهار، وتوديع النهار، وعند النوم، وعند الصحو من النوم، والاستغفار على أي حال؛ وقد كان يقول خلف الصلوات صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي لا إله غيرك، ولا إله إلا أنت).
وهذا تعليم لنا نحن العصاة الخطائين المذنبين، هو إمامنا المعلم، ونبينا المرشد، ورسولنا الهادي صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا الله باتباعه فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] جعله أسوتنا وقدوتنا ومرجعنا، وإمامنا الذي نتأسى به في الحركات والسكنات والفرائض والنوافل والآداب والرقائق، وجميع شئون الحياة إلى لقاء الله.
فقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] من رحمة الله بعباده المؤمنين أن أمر نبيهم وشافعهم ورسولهم أن يستغفر لنفسه ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات، جاء بدوي اسمه لقيط بن عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه فقال هذا البدوي: غفر الله لك يا رسول الله.
أي أنه دعا لرسول الله بالمغفرة، والصلاة منا كذلك دعاء، فلا يستغني عبد عن دعاء، والنبي صلى الله عليه وسلم هو في الدرجات العلى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4] ويزيده الله مقامات على مقاماته، ومنازل على منازله مدة الدنيا والآخرة.
{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] وإذا استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعبد -أي: طلب أن يغفر الله له- فتلك شفاعة منه إلى الله لهذا العبد المؤمن المسكين.
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19].
((وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ)) أي: تصرفكم في نهاركم، ومقامكم في داركم وقت منامكم، يعلم متقلبكم في بطون أمهاتكم جداً لجد لأب لابن، لجدة فأم مباشرة، يعلم كيف تسلسلت نطفنا في أصلاب آبائنا، وفي أرحام أمهاتنا إلى أن خرجت بشراً سوياً مؤمناً بفضل الله.
((وَمَثْوَاكُمْ)) أي: ومقامكم وآخرتكم وسؤالكم في قبركم.(347/7)
تفسير سورة محمد [20 - 24]
كان المؤمنون يتمنون على الله أن ينزل سورة، فلما أنزل سورة محكمة وذكر فيها القتال إذا بالمنافقين ينكصون عن الجهاد ويخذلون الإسلام والمسلمين، وكان خيراً لهم لو أطاعوا فآمنوا وجاهدوا.
ومن أهمية القتال في سبيل الله أن الله تعالى يربط بين ترك الجهاد وانتشار الفساد وقطيعة الأرحام.(348/1)
تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة)
قال الله جل جلاله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20].
قوله: ((وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ)).
أي: يقول المؤمنون: هلا نزّلت سورة تشرع القتال، وتدعونا إلى القتال وتفرض علينا القتال لنجاهد في سبيل الله، وننصر الإسلام والمسلمين، وندافع عن المستضعفين من النساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة؟ هؤلاء المؤمنون المصلحون الصادقون يتمنون على الله، ويقولون: يا ربنا! هلا أنزلت علينا سورة فيها شرعية القتال والجهاد لنقاتل أعداءنا وأعداء الإسلام؟ يقول ربنا: ((فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)).
أي: فلما نزلت السورة وكانت سورة محكمة غير منسوخة، ونزل فيها القتال فرضاً لازماً واجباً على المسلمين، إذا بالذين في قلوبهم مرض، أي: المنافقون، فإذا قيل: فلان في قلبه مرض أي: فيه ضغن وحقد على الإسلام، وفيه نفاق بالتظاهر بالإسلام وهو كاذب غير صادق فيما يتظاهر به.
((فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ)) نزلت السورة التي يطلبها هؤلاء المؤمنون، وكانت محكمة مسبوكة الأطراف، مشروعة الأحكام، ومن الأحكام في الدرجة الأولى شرعية القتال والجهاد، إذا كان ذلك: ((رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) أي: رأيت المنافقين ((ينظرون إليك)) نظر المرض والحقد والجبن، ونظر الخوف من القتال ((نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)) وكأن غشية الموت أخذت تستولي عليه فتأخذه سكرات الموت وتستولي على نفسه، ويفقد الصبر، وكأنه ينظر نظر المحتضر الشاخص بصره لا يرى ما أمامه، وإنما هو تائه مغشي عليه: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198].
قوله: {فَأَوْلَى لَهُمْ} أي: قرب الهلاك منهم، وهي كلمة تهديد ووعيد تُقال في مثل هذه المناسبات لمن يكفر بالله، ومن ينافق في دين الله.
ومعنى الآية: أنه تمنى المؤمنون على الله أن ينزل سورة تُشرّع القتال والحرب؛ ليكونوا جنداً متراصين في حرب أعداء الله، وفي حرب الكافرين المنافقين، ولكن عندما تنزل السورة المطلوبة عند المؤمنين، ويذكر فيها القتال، إذا بمرضى القلوب من المنافقين تأخذهم غشية الموت، وتأخذهم نظرات الحقد والجبن والرعديدة من القتال، فهم لا يريدون قتالاً، لأنهم جبناء ومنافقون، لا يؤمنون بقتال في سبيل الله، ولا لإعلاء كلمة الله؛ ولذلك ينكشفون عندما تنزل مثل هذه الأوامر في الدعوة إلى الجهاد والقتال.
وقد مثّل الله بهم تمثيلاً؛ لأنهم إذا فرض القتال تجدهم لا يكادون يبصرون، ولا يكادون يعقلون جبناً ونفاقاً وعداوة للإسلام ورسول الله والمسلمين.
وقد قال الإمام قتادة: كل آية ذُكر فيها القتال فهي محكمة، فليس في آيات القتال آية منسوخة ألبتة.
وكذلك قالوا: ما من آية نزلت وذُكر فيها الجهاد إلا وكانت كاشفة فاضحة لأعداء الله المنافقين؛ لأنهم يريدون أن يؤمنوا بما يكون عليهم هيناً سهلاً، لا كلفة فيه ولا نفقة، فضلاً عن بذل حياة وعمر وموت في سبيل الله، فهم لا يؤمنون بذلك، فكيف يعملونه؟ وكيف يقومون به؟(348/2)
تفسير قوله تعالى: (طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر)
قال تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21].
قُرئ: {فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:20 - 21] ومعناه: أولى بهؤلاء المنافقين أن يقولوا طاعة لما يأمر به الله ورسوله، وأن يقولوا قول معروف، أي: يقولوا القول المعهود المعروف المقبول الذي لا يخرجون فيه عن أمر، ولا يقومون فيه بنهي، يكونون عند أمر الله فعلاً، ويكونون عندما يُنهون عن شيء ينتهون، هذا إذا وصلنا فقرأنا: {فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:20 - 21] أي: أولى بهم الطاعة والقول المعروف المقبول من النفاق ومرض القلوب.
فإذا فسّرناها منفصلة: ((فَأَوْلَى لَهُمْ)) أي: ما أقربهم للهلاك بهذا الموطن، ثم بدأنا: ((طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)) أي: شأنهم طاعة وقول معروف يجب عليهم، وإلا كانوا قد كشفوا نفاقهم وكفرهم، وحلّت عليهم اللعنة التي تحل على المنافقين والكافرين.
((فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ)) فإذا كان الأمر عزيمة كان واجباً، وكان الأمر بتاً لا منحى عنه ولا مهرب منه، إذا عزم القتال ووجد ولزم القتال ((فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)).
فعندما يصبح القتال عزيمة وأمراً واجباً خير لهم أن يصدقوا الله ويستجيبوا لأوامر القتال، فيقاتلوا ويجاهدوا باذلين أرواحهم كما يبذلها المؤمنون، وهم إن لم يفعلوا حلّت عليهم اللعنة التي تحل على أمثالهم من الكافرين والمنافقين.(348/3)
تفسير قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)
قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22].
أي: إن أنتم تركتم الجهاد والقتال، وإن أنتم أعرضتم وابتعدتم عنه ورفضتموه ولم تقوموا به عم الفساد في الأرض وقطعت الأرحام.
والفساد: هو نشر أنواع الفجور والفسوق، وسفك الدماء، واستحلال الأموال، وقطع كتاب الله، وقطع الطرق، وفقد الأمن ونشر الجوع.
وقطيعة الأرحام، أن يقطع المؤمن أرحام ذويه من أخ وابن عم وقريب وحمٍ، وهكذا ترك الناس الجهاد فابتلوا بهذه البلايا، وعم الفساد في الأرض من كل نوع، وقُطعت الأرحام في كل بلد، وعاد المؤمنون إلى جاهليتهم الأولى وكأنهم لم يقولوا يوماً: ربي الله، وكأنهم لم يعترفوا لله بالوحدانية ولا بمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وتركوا الجهاد، واشتغلوا ببعضهم، فساد منتشر، وقطيعة أرحام عامّة، وجرائم يمسك بعضها بكلابيب بعض، وكأنهم لم يكونوا مسلمين يوماً؛ هذا تفسير.
والتفسير الأقرب للمعنى والذي تدل عليه ظواهر الآية: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)) أي: إن وليتم الحكومات، وقمتم بالدول، وأصبحتم ولاة وحُكّاماً عوضاً عن أن تشتغلوا بالقتال وجهاد أعدائكم، وجهاد اليهود والنصارى والمنافقين، إن أنتم لم تفعلوا ذلك وأصبحتم حُكّاماً وولاة ودولاً: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) وأن تنشروا الفساد في الأرض، وتنشروا أنواع الخمور والزنا، وقطع الطريق وزوال الأمن، ونشر الجوع، وضياع الاقتصاد، وضياع المال، وقطيعة الأرحام، ألا يرحم أخ أخاً ولا يبر ولد أماً ولا أباً، ولا تبر أخت ولا خالة ولا أم ولا عمة ولا ذو رحم محرماً.
وهذا الذي أنذر الله قد كان؛ فقد ترك المسلمون الجهاد، وولوا الحكومات والولايات والدول، وتركوا العدو بجانبهم وعلى حدودهم يستبيح دماءهم وأعراضهم، ويذلهم، ويهدم عليهم دورهم ومبانيهم وقصورهم، ويستهتر بأحكامهم حتى أصبحت دماء المسلمين أهون دماء الناس في الأرض، دماء تراق في لبنان، ودماء تراق في فلسطين، ودماء تراق في بلاد العرب والمسلمين، ودماء تراق في الفلبين، ودماء تراق في الأفغان، ودماء تراق في إريتريا، ودماء تراق في الصحراء.
فدماء المسلمين قد استُبيحت وكأنها دماء كلب لا شأن لها ولا حرمة ولا مقال، وكل ذلك قد أنذرنا الله ولم نقم بالنذارة، ولم نهتم بذلك، واستهترنا بأمر الله وبما أوجب الله، فكان ما أنذرنا به.
ولم يكن هذا فقط اليوم، فقد كان في عصور مضت مختلفة، ولكن عندما يعود الناس لدينهم ولجهاد أعدائهم يتوب الله عليهم، ويعيدهم لعزهم وكرامتهم وشرفهم، فإن عادوا عاد الله إلى عقوبتهم كما في عصرنا هذا.
((فَهَلْ عَسَيْتُمْ)) أي: قد قارب ذلك، وهذا التقارب قد حدث وتم كما كان في النذارة الإلهية في عصور مختلفة، وفي عصرنا أشد وأنكى، فالمسلمون عددهم مليار من الناس ولكنهم غثاء كغثاء السيل؛ لحبهم الدنيا وكراهيتهم الموت.
((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) وها نحن أولاء نرى ما أنذر الله به منذ (1400) عام كيف انتشر الفساد في البر والبحر! وكيف انتشرت قطيعة الأرحام في كل مكان! وقد قال عليه الصلاة والسلام في فساد هذا الزمن: إنه يقل العمل، ويكثر القول، وتتصاخب الألسن، وتتباغض القلوب، وأن يقطع كل ذي رحم رحمه، عند ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم) فعندما انتشر الفساد، وانتشرت القطيعة كان الجزاء من الله جزاءً وفاقاً، فعميت الأبصار ما عادت تُدرك ولا ترى: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198] وترى بهم صمماً وما فيهم من صمم، فلا يسمعون حكمة، ولا يستفيدون من آية، ولا يعملون بحديث، وإذا رأوا من ينفعهم ويقودهم للخير عميت عنه أبصارهم، وزادت بصائرهم طمساً وعمى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].
والأرحام قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرحم تعلقت بالله وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة) أي: لقد قُطعت (فقال الله لها: قطع الله من قطعك، ووصل من وصلكِ).
وجاء رجل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله! إن لي أرحاماً أُحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأصلهم ويقطعونني، أأفعل مثلهم؟ قال: إذاً تُتركون كلكم) أي: يتخلى الله عن هؤلاء الذين سيتبادلون قطع الأرحام والفساد في عدم العناية بالرحم، وعدم إكرامها والعناية بها ومواصلتها.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) فصلة الأرحام تُطيل الأعمار، وتُكثر الأرزاق.
وقال عليه الصلاة والسلام: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) ارحموا الرحم، فمن قطعها قطعه الله، ومن وصلها وصله الله.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن من إذا قطعته رحمه وصلها) أي: ليست صلة الأرحام على المكافأة، زرني لأزورك، وجاملني لأجاملك، فتلك مجازاة، ولكن صلة الأرحام أن تصل رحم من قطعك، وهي صلة أمر الله بها أن توصل، فهي عبادة لله في حد ذاتها، وما يتعلق بالأرحام يأتي بعد ذلك؛ ولذلك ربط الله جل جلاله بين الفساد في الأرض وقطيعة الأرحام، وبين قيام الجهاد.
وتمنى المؤمنون على الله أن تنزل سورة ذكر فيها القتال، فلما نزلت إذا بالمنافقين ينفرون من ذلك وينظرون لرسول الله والمسلمين نظر المغشي عليه من الموت، الكاره للقتال والجهاد، وهكذا فروا من القتال إلى أن عم ذلك الأرض وطم، فكان الكفرة بالله المتظاهرون بالإسلام طائفة، وكان الأذلة الضعاف الفارين عن أمر الله والامتثال لرسول الله فئة ثانية، وكان التواكل والتخاذل من الفئة الأخرى الثالثة، وهكذا انتشر الفساد في الأرض شعوباً وحكومات بما أنذر الله وقال: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)) أي: إن أصبحتم ولاة وحُكاماً ومسئولين عن إدارة شعوب وإدارة دول لترككم الجهاد (أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم) وزيادة المبنى -كما تقول لغة العرب- تدل على زيادة المعنى، أي: تكون قطيعة الأرحام شاملة في كل بيت ومدينة، وفي كل شعب وإقليم من أرض المسلمين مشارق ومغارب، وكل ما أنذر الله به قد كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(348/4)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23].
أولئك المنافقون الناكصون عن الجهاد، أولئك الذين إذا نزلت سورة محكمة وذُكر فيها القتال رأيتهم ينظرون إلى المؤمنين نظر الجبان الرعديد الذي أخذته غشية الموت، وأخذ يحتضر رعدة وجبناً وعدم شجاعة، ونفاقاً وبعداً عن الله، وإذا نزل القتال والأمر به لم يصدقوا الله ما أمرهم به ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ)) أي: طردهم من رحمته وأبعدهم عن جنته ((فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)).
أي: أصابهم بالصمم عن أن يسمعوا حقاً، أو أن يسمعوا حلالاً أو حراماً، أو أن يسمعوا آية أو موعظة من كتاب، أو أن يسمعوا سنة محكمة وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم قد عميت منهم البصائر، وصُمّت منهم الآذان، فلا يسمعون ولا يبصرون إذا رأوا النور لم يشعروا إلا بالظلمة، وإذا رأوا الهداية لا يشعرون إلا بالضلال، هم إلى الكفر أقرب منهم للإيمان.
((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)) أي: أولئك المنافقون ضعاف القلوب الذين تركوا أعداء الله ينتهكون أعراض المسلمين، وأوطان المسلمين، وأموال المستضعفين من الرجال والنساء والولدان من الشعوب المسلمة.(348/5)