تفسير قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي)
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
هذه رتبة عظيمة وشرف كبير لمحمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، أن الله وملائكته يصلون عليه، ويحض المؤمنين أن يعملوا عمله وعمل ملائكته.
ومعنى الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} [الأحزاب:56]: (يصلون): فعل مضارع يدل على الحال والاستقبال، أي: أن الله جل جلاله وملائكته منذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً يصلون عليه حال نزول الآية ومستقبلاً وإلى يوم القيامة.
وقوله تعالى أيضاً: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4] أي: للزمن الآتي خير لك من ما مضى درجة ورفعة، وذلك بكثرة صلاة الله عليه وصلاة ملائكته عليه وصلاة أتباعه من المؤمنين وسلامهم عليه عليه الصلاة والسلام.
والصلاة من الله رحمة وثناء وذكر بين الملائكة، أي: الله جل جلاله يثني على نبيه في أوساط الملائكة وبين ملئهم في الحال وفي الاستقبال وإلى يوم القيامة.
ثم هو يرحمه رحمات متتابعات إلى لقاء الله وإلى دخول الفردوس الأعلى من الجنة، وهي منزلته من الجنة.
وصلاة الملائكة دعاء لرسول الله، فالملائكة يدعون لرسول الله عليه الصلاة والسلام باستمرار، يدعون له برفع الدرجات وبتوالي الرحمات، ويدعون الله جل جلاله أن يزيده مقاماً فوق مقامه صلى الله عليه وسلم.(210/3)
صفة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأحزاب:56].
أي: كما أن الله جلت رفعته وعز مقامه يصلي على نبيه ويشيد به ويثني عليه في الملأ الأعلى، ويرحمه دواماً واستمراراً، وبما أن الملائكة الكرام يدعون لنبينا عليه الصلاة والسلام في كل زمن وحين وإلى يوم القيامة، فأنتم كذلك يا هؤلاء الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
وصلاتنا كصلاة الملائكة أي: ندعو له برفع مقامه وعلو درجته في الفردوس الأعلى، ونسلم عليه تسليماً.
وتسليماً: مفعول مطلق، أي: نسلم عليه كثيراً ودواماً عند زيارته في المسجد النبوي وفي البعد وحيث كنا من أرض الله تعالى.
عندما نزلت هذه الآية جاء الأصحاب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالوا له: (يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، وأما الصلاة فكيف نصلي عليك؟) أي: أن السلام تعلموه من التحيات حيث كان يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين من على المنبر كما يعلمهم السورة من القرآن، وفي التحيات (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله تعالى وبركاته).
فهم علموا معنى السلام، ولكن الصلاة في لغة العرب: هي الدعاء، فجاء الاصطلاح وغير هذا المعنى إلى اصطلاح شرعي، فكانت الصلاة هي الصلاة المعروفة عندنا بالتكبير مع الطهارة واستقبال القبلة، مع قراءة الفاتحة والسورة، مع الركوع والسجود والارتفاع من الركوع ومن السجود، إلى ركعات معدودة اثنتين وأربعاً وأربعاً وثلاثاً وأربعاً، جهرية وسرية.
فهم قد علموا أن الصلاة انتقلت من مصطلحها اللغوي في العبادة إلى اصطلاحها الشرعي، فعندما قيل لهم: صلوا، فلم يدروا الصلاة على رسول الله كيف هي، هل سيصلون عليه هذه الصلاة بمفهومها الشرعي؟ فهم يعلمون أن الله وحده المعبود، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عبد لله وتلك أشرف صفاته وأسماها وأعلاها.
إن التحية هي: السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، وقد ألغى الله سلام العرب في الجاهلية، وألغى سلام الأمم الأخرى في الجابهلية، وقد كانوا يقولون: عم صباحاً وعم مساءً، والمسلمون اليوم تركوا السلام الإسلامي وصاروا يقولون: صباح الخير، مساء الخير، وهذه تحية جاهلية، وليست تحية إسلامية، وكانوا يسلمون على الأمراء في الجاهلية ويقولون: أبيت اللعن، أي: أبيت وامتنعت عما يوجب اللعن، فألغى الله تعالى هذه التحية أيضاً، فجعل التحية بيننا: السلام عليكم، نقولها لرسول الله حياً وميتاً، ويقولها لنا رسول الله عندما كان حياً عليه الصلاة والسلام، ونسلم على بعضنا كذلك، وهذا معنى قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86].
فإذا قال المسلم: السلام عليكم، فرد السلام واجب وجوب كفاية، فتقول له: وعليكم السلام، وإن زدت وقلت: وعليكم السلامة ورحمة الله فحسن.
فإن قال هو ابتداء: السلام عليكم ورحمة الله، فزد أنت: وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته، ولا زيادة على قولك وبركاته.
فإذا سلم المسلم وقال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، فرد التحية بهذا اللفظ ولا زيادة.
فالصحابة قالوا: (يا رسول الله، أما السلام عليك فقد علمناه فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد)، والحديث رواه الجماعة: البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه، ومالك في موطئه، وأحمد في مسنده، والشافعي في مسنده، وأصحاب السنن الأربعة في سننهم وهم: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، فهذه تسمى الصلاة الإبراهيمية، ولها ألفاظ أشملها وأعمها هذا اللفظ.
وفي بعض الروايات: (اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته) وذكر الذرية بعد الزوجات ينفي المعنى الذي يقوله من لا يعلم: إن الآل هم جميع المسلمين، وليس الأمر كذلك، بل الآل هم أزواج رسول الله وذريته، ولا ذرية لرسول الله إلا من بنته فاطمة.
فكان السلام على الآل سلاماً على الأزواج، وهن من خاطبهن الله بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] فكان الخطاب لأمهات المؤمنين، وعندما نزلت الآية في بيت أم سلمة نادى ابنته فاطمة وزوجها علياً وابنيهما الحسن والحسين عليهما السلام، وكان عليه كساء أسود فلفهم به وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً).
وهو ما فسره الحديث الصحيح الذي رواه الجماعة: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد).
وقوله: (اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته) وذكر الذرية لا يبقي مجالاً لمعنى آخر.(210/4)
حكم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة
أما حكم الصلاة على رسول الله فالله قد أخبرنا بأنه يصلي على النبي، وأن ملائكته تصلي على النبي، وأمرنا أن نصلي عليه ونسلم، وقد نقل الإجماع في وجوب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم القاضي عياض في الشفاء، وقال به الإمام الطحاوي والإمام الحليمي والإمام محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي كرم الله وجهه وعليهم السلام.
وقال الإمام الشافعي: الصلاة على رسول الله واجب في كل صلاة في التشهد الأخير، فمن لم يصل على رسول الله في الصلاة فصلاته باطلة وعليه أن يعيدها.
وما قاله الإمام الشافعي وأعلنه قولاً واحداً بلا خلاف، وهو مذهب جميع أصحابه بلا خلاف، وهو ما ذهب إليه الإمام أحمد أخيراً، وهو مذهب الإمام إسحاق بن راهويه، وهو مذهب الإمام محمد بن إبراهيم بن الموالي المالكي، وهو مذهب ابن المواز المالكي، وهو مذهب ابن العربي الأندلسي المالكي، فلم ينفرد بهذا الإمام الشافعي.
إذاً: القول بوجوب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وأن من لم يصل عليه في الصلاة في التشهد الأخير فصلاته باطلة هو مذهب جماعة من الصحابة، منهم: جابر بن عبد الله وعبد الله بن مسعود، وهو مذهب جماعة من التابعين منهم: الإمام الشعبي، ومنهم الإمام محمد الباقر، وزاد أصحاب لـ أحمد وأصحاب للشافعي: أن الصلاة على رسول الله في الصلاة في التشهد الأخير لا بد وأن تكون مع الصلاة على الآل في الصلاة الإبراهيمية، فمن لم يصل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة العامة ويصلي معه على الآل فصلاته باطلة.
وهذا هو رأي طائفة من الصحابة وطائفة من التابعين وطائفة من الأئمة المجتهدين.
والأحاديث في الصلاة على رسول الله متواترة مستفيضة عن العشرات من الصحابة، وفيهم من الخلفاء الراشدين عمر وعلي، وفيهم من آل البيت الحسن والحسين وفاطمة أمهما بنت النبي عليه وعليهم السلام.
وروي كذلك عن جماعات تجاوزت الثلاثين إلى الأربعين، ومع هذه الكثرة الكاثرة والنص على التواتر من الإمام ابن كثير وغيره فهناك من كتب في التواتر فأغفل ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأنها من المتواتر.
فمن الأحاديث هذه الصلاة الإبراهيمية، ومن ذلك: (من أراد أن يدخل الجنة معي فليصل علي).
ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي).
ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام وقد أصبح يوماً منشرح النفس ضاحك الأسارير، فسئل عن ذلك عليه الصلاة والسلام؟ فقال: (أتاني جبريل فبشرني أن من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً، وكتب له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفعه عشر درجات).
وجاء رجل للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله إني أصلي عليك كثيراً، أأصلي عليك ربع صلاتي؟ -أي: ربع وقتي من الدعوات- قال: إن شئت، وأن تزيد خير لك، قال: فالثلث يا رسول الله؟ قال: إن شئت، وأن تزيد خير لك، قال: فالنصف يا رسول الله؟ قال: إن شئت، وإن تزيد خير لك، قال: الثلثين؟ قال: إن شئت وأن تزيد خير لك، قال: يا رسول الله، أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذاً يكفيك الله همك في الدنيا والآخرة، ويغفر الله لك جميع ذنوبك).
من الذي يزهد في هذا الخير؟ من الذي يبتعد عن هذه الخيرات؟ من الذي يسمع هذا عمن لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم -وهو في غنية عنا بصلاة الله عليه وصلاة ملائكته عليه- ولا يصلي عليه، والله يأمرنا بذلك، ونبي الله عليه الصلاة والسلام يأمرنا بذلك ويحضنا؟ والصلاة على رسول الله لا وقت لها ولا زمن كالذكر، وهي تفرض في أوقات معلومة، إذا صلينا على الجنازة فعند التكبيرة الأولى نقرأ الفاتحة الأولى، وعند التكبيرة الثانية نقرأ الصلاة الإبراهيمية: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد إلى آخرها.
فنحن في الصلاة على الميت ووداعه الوداع الأخير نصلي على رسول الله؛ لأن هذا الميت كان فضل رسول الله عليه عظيماً، إذ هو برسول الله صار مسلماً، فنحن نيابة عنه وهو قد أفضى إلى ما قدم نصلي على رسول الله شكراً لما أكرم به هذا العبد من كونه آمن به واتبع أوامره واجتنب نواهيه.
فإن قصر فنحن ندعو له في التكبيرة الثالثة وندعو لأنفسنا، وفي التكبيرة الرابعة نقول: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده.
إذاً: فالصلاة على رسول الله مطلوبة عند بداية الخطاب وعند نهايته، وعند ابتداء الكلام وعند انتهائه، وتزداد استحباباً وتأكيداً ليلة الجمعة ويوم الجمعة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من صلى علي يوم الجمعة بلغتني صلاته، فقالوا له: كيف تصلك يا رسول الله وقد أرمت - أي: بليت وفنيت - قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، إن صلاتكم تبلغني حيث كنتم وحيث سلمتم) فصلى الله عليه وسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن لله ملائكة سياحين يبلغونني عن أمتي صلاتها وسلامها، وإن الله كلف ملكاً أو ملكين يردان السلام على من سلم علي) صلى الله عليه وعلى آله.
ويوم الجمعة قال عنه عليه الصلاة والسلام: (هو خير أيامكم، فيه خلق آدم، وفيه يموت آدم، وفيه تكون الصعقة - أي: يوم القيامة - ومن صلى علي فيه بلغتني صلاته) فصلى الله عليه وعلى آله.
والصلاة على رسول الله يكفي في أجرها وثوابها أن المكثر في صلاته على النبي يكفى همه في الدنيا والآخرة، وتغفر ذنوبه، وتصلي عليه الملائكة، ويرفع الله له عشر درجات، ويمحو عنه عشر سيئات، ويؤتيه عشر حسنات، ومن هنا أوجب من أوجب الصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
(جاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام بدويان أعرابيان فسأله أحدهم، قال: يا رسول الله! قد كثرت علي الشرائع فاختر لي، قال: إن استطعت أن يكون لسانك رطباً بذكر الله فافعل)، ثم ذكر الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
فكانت هذه درجات ومنازل بالنسبة للمصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، وفيها من أسمى ما يتمناه المسلم ويسعى إليه العابد، ولا يزهد فيه إلا مغبون، ولا يبتعد عنه إلا مخذول، خاصة إذا ذكر عليه الصلاة والسلام.
فإذا ذكرنا اسمه لا نزال نعقب عليه بقولنا: صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإذا ذكرناه لا بد أن نصلي عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (البخيل كل البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي) أي: البخيل كثير البخل من يسمع اسم محمد نبيه ورسوله وخاتم الأنبياء ولا يقول عنه: صلى الله عليه وعلى آله.
ولا بد أن يذكر آله مع الصلاة عليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد).
ومن هنا فالإمام الشافعي المطلبي أوجب اجتهاداً بمثل هذه الأحاديث وأضرابها وأشكالها الصلاة على رسول الله في الصلاة، وأن من لم يصل على رسول الله في الصلاة الواجبة فصلاته باطلة، وليس هذا مذهباً خاصاً به، فهو مذهب لـ أحمد.
وقال الإمام مالك، والإمام سفيان الثوري: الصلاة على رسول الله في الصلاة في التشهد الأخير سنة مؤكدة يعاتب ويوبخ ويلام تاركها، وكأنهما أيضاً يقولان بالوجوب؛ لأن التوبيخ والتقريع والملامة لا تكون إلا على من ترك واجباً.
فقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] لنقول امتثالاً لأمر الله وهو يأمرنا كما أمر من قبلنا: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد).
والعالمين جمع عالم، أي: عالم الإنس والجن والملك، وفي عوالم البشر عربها وعجمها، مشارقها ومغاربها، وفي العوالم المعاصرة والعوالم الآتية بعدنا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام والتي ستتوالى إلى يوم القيامة.
وقوله: (وسلموا تسليماً) مفعول مطلق أي: سلاماً دائماً مستمراً لا ينقطع.(210/5)
تفسير سورة الأحزاب [57 - 59]
يحذر الله الكفار المجرمين الذين يؤذون الله ورسوله، ويبين أن عليهم لعنة الله، وكذلك الذين يؤذون المؤمنين، ويأمر الله أمهات المؤمنين وبنات رسوله الأمين، وكافة نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن حتى لا يؤذين من قبل السفهاء والمنافقين.(211/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57].
أما إذاية الله فكانت بجعل الولد والصاحبة له، كما زعمت اليهود والنصارى، فقد أخبر الله عنهم بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] وغير ذلك من صور الإيذاء.
أما إذاية رسول الله عليه الصلاة والسلام فكانت بإخراجه من بلدته مكة المكرمة، وبقولهم عنه: ساحر ومجنون، وبرمي رجليه بالحجارة، وبكسر رباعيته وجرح خده الشريف في المعركة، وبمخالفة أمره وارتكاب نهيه.
ومن الإيذاء: قلة الأدب مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهلا نتأدب معه؟ وهلا نصلي ونسلم عليه؟ وهلا نعظمه ونحترمه؟ وهلا نجازيه خيراً عما أكرمنا الله به على يده من إيمان وإسلام.
وقد قال عليه الصلاة والسلام لـ علي: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس) فكيف بمن هدى الله على يديه هؤلاء البشر جميعهم من عاصروه ومن جاءوا بعده إلى عصرنا؟! فهو صلى الله عليه وسلم صاحب الفضل الأكبر في إيماننا وإسلامنا واتباعنا له، فكان ذلك موجباً علينا الأدب معه، والصلاة عليه، والتزام احترامه صلى الله عليه وعلى آله.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الأحزاب:57].
أي: طردهم الله من رحمته، فهم في دنياهم كفرة تحت ذل المؤمنين واستعبادهم، وفي الآخرة هم في النار خالدين فيها أبداً، إن ماتوا على نصرانيتهم وعلى شركهم ويهوديتهم، إن لم يتوبوا قبل الموت ويتوب الله على من تاب.
وقوله: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57] أي: هيأ وأوجد لهم العذاب المهين في الدنيا من الذل والاستعباد، ومن حبهم وعشرتهم للكلاب والخنازير وأمثالها من القاذورات.
والعذاب المهين في الآخرة من دخول النار والخلود فيها أبداً سرمداً، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].(211/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58].
أي: كما حرم الله إيذاءه بالقذف والقول بما لا يليق بعزته وجلاله من نسبة الولد والصاحبة له، وحرم إيذاء رسوله صلى الله عليه وسلم، كذلك حرم الله إيذاء المسلمين.
وإيذاء الله ورسوله كفر وردة، وجزاء فاعل ذلك القتل، وأخذ المال غنيمة، وإيذاء المؤمنين إن كان بحق كأن يرتكب جريمة يستحق عليها الحد من قتل أو زنا أو سرقة أو قذف أو شرب خمر أو ما إلى ذلك؛ فهذا يكون إيذاءً بحق، وبما اكتسب هؤلاء من جرائم وذنوب ومعاص.
أما إذا لم يصنعوا شيئاً من ذلك وأوذوا بغير سبب موجب، أو أوذوا بشيء لم يكتسبه المؤمن ولا المؤمنة، فلا يستحق إيذاء ولا يستحق ضرباً ولا يستحق عقاباً ولا يستحق شتيمة، فمن فعل ذلك أخزاه الله وعاقبه الله.
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58] المؤذون للمؤمنين والمؤمنات حملوا في صحائفهم إثماً مبيناً وذنباً ظاهراً، وجريمة بينة، وسيعاقبون عليها في الآخرة، وقد يعاقبون في الدنيا الآخرة إذا لم يسترضوا من آذوه وسامحهم؛ لأن الله يسمح ما يتعلق به، أما ما يتعلق بالعباد فلا بد أن يغفروه ويتنازلوا عنه، كما قال الشاعر: كن كيف شئت فإن الله ذو كرم وانف الهموم فما في الأمر من بأس سوى اثنتين فلا تقربهما أبداً الشرك بالله والإضرار بالناس فالإضرار بالناس لا يغفره الله إلا إذا غفره من أوذي، والشرك بالله إذا مات المرء عليه فلا مغفرة ألبتة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فإذاية المؤمن والمؤمنة كبيرة من الكبائر وجريمة من الجرائم، وكل ذلك بحسبه، فإن سرقه قطع، وإن قذفه جلد، وإن انتهك حرمته عزر، وإن قال عنه ما ليس فيه كان أفاكاً آثماً.
وفي الحديث: (جاء رجل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قال: فإن كان فيه؟ قال: إن كان فيه فهو غيبة، أما إن ذكرته بما ليس فيه فهو البهتان) والبهت هو أشد الكذب.
فمن ذكر أخاه المؤمن بما ليس فيه فلا يعتبر مغتاباً فقط بل يعتبر كذاباً قاذفاً، فالبهت أكبر من الغيبة، ذاك كبيرة وهذا أكبر من الكبيرة وعليه تعزير وتأديب، فقد يصل إلى حد القذف فيجلد الحد.(211/3)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59].
فقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأحزاب:59] لا يزال الله جل جلاله ينادي عبده بلقبه الشريف المكرم، وهكذا منذ البداية وإلى ختم القرآن.
قال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59].
الآية الأولى التي درسناها وشرحناها وفسرناها آنفاً في حجاب أمهات المؤمنين، وهذه الآية أصرح، فهي في نساء النبي عليه الصلاة والسلام وبناته والنساء المؤمنات عموماً.
يقول الله لنبيه: يا محمد، يا رسول الله: قل لهؤلاء زوجة وبنتاً وامرأة مسلمة: يدنين عليهن من جلابيبهن، والإدناء هو التقريب، والجلباب هو الرداء، أو العباية، أو الملحفة.
ويكون عادة أقرب لما يصنعه أهل الحجاز، يكون على الخمار فوق الرأس يستر به الوجه وجميع البدن، بحيث ترى المرأة ولا يراها أحد، إن كان ذلك الحجاب صفيقاً.
أما ما يجري الآن فالحجاب يكاد يكون في رقة قشر البيضة ولا يستر، فهو إلى الزينة أقرب، وكان مثل هذا الحجاب كما هو حاصل في بعض الأقطار الأخرى، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
فأمر الله نبيه أن يأمر نساءه وبناته وأن يأمر نساء المؤمنين إن خرجن لضرورة دينية أو دنيوية كذهاب إلى المسجد أو صلة رحم لأبوين، أو سبب ما قد أذن به فليخرجن غير متبرجات، كما أمرن من قبل، وأن يخرجن بجلباب تام يستر البدن كله الجسد والوجه.
قال ابن عباس: أن يحجبن جميع البدن إلا عيناً واحدة.
وكان النساء الجزائريات منذ سنوات على هذه الطريقة، ولكنهن الآن ممن رفعن الحجاب ألبتة، وكان في المغرب كذلك في الجبال وفي البدو.
أما الحضريات فكن يحجبن البدن كله ويكشفن العينين معاً، وكان المسلمات في الأرض كلها يحتجبن لا يبتعدن من الحجاب.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59].
أي: إن كن لا يحتجبن، ومع ذلك كن في الجاهلية يلبسن الجلباب والعباءة ويضعنها على الأكتاف كالرجال، فأمر الله أن يوضع هذا الجلباب على الرأس، وأن يغطى به الوجه والبدن كله.
قال تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59].
أي: حجابهن أقرب أن يعرفن فلا يؤذين، فقد كان المنافقون واليهود والفساق والفجار في المدينة، عندما يخرج النساء ليلاً لقضاء الحاجة؛ لأن البيوت ليس بها مراحض وليس هناك مجار، فكن لكي لا يفسدن روائح البيت يصبرن إلى الليل فيخرجن إلى قضاء الحاجة، فكان هؤلاء المنافقون والفجار يتبعوهن، فكانت الإماء لا يحتجبن، فأمر الله الحرائر أن يحتجبن، فإذا جاء المنافقون والفساق فرأوها محتجبة ابتعدوا عنها لا ديناً، ولكن خوفاً من زوجها أو أبيها.
أما الأمة فلم يعتبروها، وكانوا يقولون: إذا تجاوزت حدها بيعت أو أعتقت وخلي سبيلها.
فالله أمر الحرائر بالحجاب حتى يميزن ويعرفن عن الإماء، فيهابها المنافقون ولا يمسونها ولا يكلمونها ولا يجرءن عليها، فكانوا يخافون من الحرة ومن زوجها ومن أبيها، وممن يتصل بها من رجالها.
فالله أكد هنا وأمر أمهات المؤمنين وبنات رسول الله عليه الصلاة والسلام والمؤمنات عموماً بالحجاب، وخص أمهات المؤمنين وبنات رسول الله عليه الصلاة والسلام بالذكر لشرفهن ومقامهن، ثم نساء المؤمنين كذلك، والأمر واحد أن يحتجبن إذا خرجن لضرورة.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59].
غفوراً للمؤمنات فيما مضى في الجاهلية من تعرية الوجه وعدم حجابه، رحيماً بهن في السنوات التي لم ينزل فيها الحجاب بعد، وكانت جميع سنوات مكة وخمس سنوات من الهجرة في المدينة على ذلك؛ لأنه لم يصدر أمر خلالها بالحجاب.
وقال الله لأمهات المؤمنين: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] الأمر لأمهات المؤمنين في الدرجة الأولى أن يبقين في البيوت ولا يخرجن، فإذا اضطررن فلا يخرجن متبرجات لا مظهرات لزينة ولا متطيبات، بل يخرجن تفلات، ويلبسن الجلابيب ويغطين بها جميع أبدانهن.
قال أمهات المؤمنين: رحم الله الأنصاريات! عندما نزلت هذه الآية أصبحن في المسجد وكأنما على رءوسهن الغربان.
كن يلبسن الملاحف والجلابيب السوداء كما لا زالت تلبس هنا، وكما لا تزال سنة في الشام بالنسبة لمن لا يزال يلبسها.
أما جلابيب المغربيات فكن يلبسن الثياب البيضاء الخشنة.
فهنا بين تعالى أن الجلباب ليس خاصاً بأمهات المؤمنين وليس خاصاً ببنات رسول الله ولكنه عام في الجميع.
وعندما قال جل جلاله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] كان من المعلوم أن السؤال لا يكون من وراء حجاب إلا وهن محتجبات، وفسر المفسرون الآية الماضية بخصوص أمهات المؤمنين، وأنه لا يجوز أن ترى جسومهن حتى مع الجلباب والنقاب، وأنه لا بد أن يكون هناك ستار قائم، حتى لا يعرف طولهن من عرضهن، ولا صغرهن من كبرهن.
كما فعل عمر لما ماتت إحدى أمهات المؤمنين أمر ألا يحضر جنازتها إلا محرم، فقالت له أم حبيبة أم المؤمنين: يا أمير المؤمنين، رأيت في الحبشة إذا ماتت المرأة منهم وضعت في صندوق ودفنت، فسرّ هذا الرأي عمر وأمر به، فكانت المرأة من أمهات المؤمنين وغيرها توضع في صندوق من الخشب وتدفن به.
وفي الحجاز تدفن بغيره، وفي المغرب كانت ولا تزال توضع في صندوق من الخشب يحمل في النعش بحيث لا يرى شخصها كله، وتدفن بهذا الصندوق، ويحمل الصندوق بالحبال من هنا وهنا ويوضع ويبقى معها كذلك.(211/4)
ذكر أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته
ذكرنا أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا: كان له القاسم وهو الأكبر، وكان له الطاهر، وكان له الطيب، وكان له عبد الله كلهم من خديجة.
وكان له إبراهيم من مارية القبطية المصرية الأمة.
ومن المحقق أن القاسم كان يكنى به عليه الصلاة والسلام قبل النبوة وبعدها.
أما الطاهر والطيب وعبد الله فقد قال البعض: ليسوا إلا واحداً، الطاهر يقال له: الطيب ويقال له: عبد الله.
إذاً: لم يكن له من خديجة إلا ولدان في رأي بعض أهل السير وبعض الأئمة.
والمشهور أنهم ثلاثة: القاسم والطاهر والطيب وإبراهيم ابن مارية.
وكان له أربع بنات عليه الصلاة والسلام: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة.
أما زينب فزوجت للعاص بن الربيع، ورقية وأم كلثوم زوجتا معاً لـ عثمان، تزوج الأولى ثم ماتت، ثم الثانية ثم ماتت، وقال رسول الله: (لو كان عندي ثالثة لزوجتك بها) وهؤلاء الثلاث توفين في حياة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
أما فاطمة فقد ولدت قبل النبوة بخمس سنوات، وقيل: أكثر، وليس هناك تأكيد، وتزوجها علي بن أبي طالب، ولم يكن لرسول الله ذرية ولا سلالة إلا من فاطمة، ولم يكن من أولادها سلالة إلا من الحسن والحسين، وكان هناك المحسن ولكنه مات صغيراً.
وهناك من كفار مكة من عيروا رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالوا: محمد أبتر، أي: لا سلالة له ولا ذرية، فالله قال لهم: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] أي: مبغضك وشاتمك هو الأبتر، وهو الذي سيبتر الله سلالته وذريته، وكان لبعض هؤلاء أولاد وأسباط وبعضهم أسلم، ومع ذلك محق الله ذريتهم لا قبل الإسلام ولا بعده وبقيت ذرية رسول الله عليه الصلاة والسلام وإلى يوم القيامة؛ لأن الله قال عمن قال عنه أبتر: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3].
فمن قال: محمد لا ذرية له ولا سلالة له يكون جزاؤه جزاء من قال ذلك من أهل الجاهلية أن يبتره الله من الذرية والسلالة، وأن يفقده الأولاد.(211/5)
تفسير سورة الأحزاب [60 - 62]
يحذر الله المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في المدينة أنهم إن لم ينتهوا عن الإيذاء والتعرض للمؤمنات ليبيحن لرسول الله قتلهم والتنكيل بهم.(212/1)
تفسير قوله تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض)
قال الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:60].
ذكرنا في الدرس الماضي أن آية الحجاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] عامة، وكان الفساق والمنافقون في المدينة المنورة ينتهزون فرصة خروج هؤلاء الكرائم والعقائل إلى قضاء حاجتهن ليلاً، ولم يكن في دور المدينة مراحيض، فكان هؤلاء إذا رأوا أمة حاولوا الفسق بها، ولذلك أمر الله الحرائر أن يلبسن الحجاب ليميزن ويعرفن أمام هؤلاء المنافقين فيهابون رجالهن وآباءهن فلا يفعلون ذلك، هذا بالنسبة للنساء.
أما بالنسبة للحكم فقد تهدد هؤلاء وأوعدهم بأنهم إن لم ينتهوا عن هذا ليسلطن عليهم رسوله عليه الصلاة والسلام، فيطردهم عن جواره ويقتلهم تقتيلاً، ويمكر بهم مكراً حيث وجدوا بعد طردهم عن المدينة.
قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} [الأحزاب:60] تهديد ووعيد لهؤلاء المنافقين، والمنافق هو من أظهر غير ما يبطن، وكانوا في المدينة كثيرين من الأوس والخزرج واليهود.
وقوله: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب:60] أي: مرض قلوب هؤلاء بسبب أنهم كانوا فساقاً زناة، ومرض القلب هنا فسر بالزنا والسعي خلفه.
وقوله: {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} [الأحزاب:60] الإرجاف هو التهديد والوعيد من قبل أعداء الله ليخيفوا المؤمنين، فكان هؤلاء المرجفون إذا خرج النبي عليه الصلاة والسلام لمعركة من المعارك، أو أرسل سرية من سراياه لمحاربة أعداء الله يخرجون للمعركة وبعضهم يبقى في المدينة، فمن خرج منهم فإنه قبل أن يصل إلى المعركة ينسحب؛ ليخاف المجاهدون الصادقون، ويشيعون بأن جيش الأعداء أكثر عدداً وعدة، ولا قبل لنا بهم.
وقد فعل ذلك كبير المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول في غزوة أحد، حيث انسحب بمن كان معه، والبعض كان منافقاً والبعض الآخر كان ضعيف الإرادة والنفس، حيث فر وهو لا يعلم لماذا يفر.
فالله تهدد هؤلاء وتوعدهم، وقد قيل: إن الواو في قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} [الأحزاب:60] زائدة، فتكون هذه كلها صفات لهؤلاء المنافقين، فهم الكذبة الذين يشيعون الرعب بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليفروا من المعركة وينسحبوا منها، وهم مرضى القلوب الذين يرغبون في الفحش والزنا والفساد، فهم قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين.
وقوله: {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} [الأحزاب:60] أي: من أهل المدينة ومن سكانها.
وقوله: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب:60] هذه اللام يقال عنها لغة ونحواً: اللام الموطئة للقسم، فيكون المعنى في الآية: أن الله يقسم بأن هؤلاء إن لم يكفوا ولم يتوبوا عن نفاقهم وفجورهم وإرجافهم وكذبهم فلنعلمنك بهم لتعرفهم واحداً واحداً، ولنسلطنك عليهم فتقتلهم وتبيد خضراءهم، أو تطردهم عن جوارك من المدينة المنورة.
وقوله: {ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:60] أي: بأن يبقوا قلة لا تملك لنفسها أمراً ولا نهياً، وإنما يكونون قلة ذليلة حقيرة يمكن القضاء عليهم في كل وقت وزمن.
أو أنهم لا يبقون في جوارك إلا زمناً قليلاً ومدة قليلة، وكل ذلك تشتمله الآية في معناها.(212/2)
تفسير قوله تعالى: (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً)
قال الله تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:61].
فقوله: (مَلْعُونِينَ) أي: حال كونهم مطرودين من رحمة الله، وحال كونهم مغضوباً عليهم من الله ورسوله.
وقوله: {أينما ثُقِفُوا} [الأحزاب:61] أي: أينما وجدوا.
وقوله: {أُخِذُوا} [الأحزاب:61] أي: أسروا واعتقلوا وأمسكوا.
وقوله: {وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:61] في لغة العرب أن زيادة المبنى في الكلمة يدل على زيادة المعنى، كان يكفي أن يقال: وقتلوا فقط.
فقوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا} [الأحزاب:61] يأمر الله نبيه بقتلهم، وهذا أمر بصيغة الخبر أن يقتلهم قتلاً مدمراً، أو يطردهم بحيث لا يبقي منهم أحداً في المدينة، أو يأسرهم فيبيعهم كما يباع الرقيق.
إذاً: سلط الله النبي عليه الصلاة والسلام على هؤلاء المنافقين وأمره بتأديبهم؛ لما يقومون به من فساد وفسوق ونفاق وإرجاف وكذب على الله والرسول في المدينة، وشأن اليهود الفساد، وهم الذين أفسدوا طائفة من الأوس والخزرج، حتى صاروا منافقين متظاهرين بالإسلام وهم ليسوا كذلك، وكانت النتيجة أن نبي الله عليه الصلاة والسلام بعد أن نزلت عليه هذه الآية قام على المنبر في مسجده النبوي، وذكر النفاق والمنافقين وأخذ يشير إليهم: قم يا فلان قم يا فلان قم يا فلان، وطردهم من المسجد وأعلن نفاقهم، وإذا بهم يكشفون، فيهجرون ويطردون ويلعنون.
وكانت النتيجة بعد ذلك أن خرج عن جواره من المدينة من خرج خوفاً على حياته، وحضر منهم من حضر القتال مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقي منافقاً، فقتل قتل الكافرين.
مثال ذلك: أنه في معركة من المعارك رأى الصحابة رجلاً يقاتل قتالاً في غاية ما يكون من الحماسة والشجاعة ويصول على الأعداء يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً إلى أن جرح، فذهبوا يخبرون رسول الله عليه الصلاة والسلام عن بلائه وشجاعته وقتاله، فقال لهم: (هو في النار، فعجبوا وقالوا له: إن كان هذا معنا وقد أبلى وهو في النار فأين نحن ولم نبل بلاءه ولم نقاتل قتاله؟ قال لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: هو في النار).
فذهبوا ليترصدوه ويترقبوه، فأتوه وهو يجود بنفسه ويحتضر ويموت، فقالوا له: هنيئاً لك يا فلان الجنة، قال: والله لم أقاتل من أجل الدين وإنما أقاتل عصبية وأقاتل للقبيلة والعشيرة، فتبين أنه تظاهر مع المؤمنين أنه مؤمن وكان كذاباً منافقاً.
قال ابن عباس: هذا خبر في الآية بمعنى الأمر، وكأن الله يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: اطرد هؤلاء عن جوارك، وأبعدهم عن كرامة المؤمنات وشرفهن أو اقتلهم تقتيلاً.
ومن هنا قال علماؤنا: الحدود في الزنا تكون جلداً للأعزب، ورجماً للمحصن المتزوج.
هذا إذا تراضى هو وإياها ودخلا مكاناً لا يراهما الناس ثم كشفا، أما إذا اختطفها، فهذا يعتبر مفسداً في الأرض، وجزاء هذا أن يقتل ويصلب، بأن تقطع يده ورجله من خلاف بهذه الآية وبالآيات الأخرى.
والأحكام تؤخذ من مختلف الآي، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} [المائدة:33] وهذه الآية فيها: حيثما وجدوا فإنهم يقتلون تقتيلاً قال تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا} [الأحزاب:61].
إذاً: هؤلاء مفسدون في الأرض؛ لأنهم أخافوا وأرعبوا المؤمنات في دينهن، وفي عرضهن وشرفهن.
وهذه الآية التي في سورة الأحزاب خاصة بالزناة، وتلك التي في سورة المائدة عامة بالزنا وغيره من أنواع الفساد، فجزاء هذا أن يقتل، والتقتيل معناه: أن تقطع يده ورجله ويترك بدون حسم حتى يموت، أو يصلب حياً ويبقى مصلوباً إلى أن ينزف دمه ويموت مصلوباً.(212/3)
تفسير قوله تعالى: (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً)
قال الله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62].
أي: هذه سنة الله.
و (سنة) منصوبة على المفعولية المطلقة، أي: سن الله سنة، ثم هي سنة الله في الأولين والآخرين من المنافقين.
والأنبياء السابقون وأتباعهم أمروا بتقتيل أو طرد كل من نافق وكل من نشر الفساد والإرجاف، وكل من حاول أن ينتهك أعراض المسلمين، كما أمر نبينا عليه الصلاة والسلام بتقتيلهم وتدميرهم وطردهم عن جواره.
فقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب:62] أي: سنة الله وحكم الله ودين الله في معاقبة هؤلاء، وفيمن مضوا من الأمم السابقة.
وقوله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62] أي: لن تجد يا رسول الله في سنة الله وحكمه تبديلاً أو تغييراً، وهذا ما اتفقت عليه جميع الشرائع السماوية، وجميع الأنبياء والرسل عليهم صلاة الله وسلامه في مكافحة الفساد وعقوبة المفسدين، والله لا يأمر بالفحشاء، فلم يأت دين من الأديان يأمر بالزنا والفاحشة، ولا بالفساد بأنواعه، ولذلك فإن جريمة الزنا جريمة الاغتصاب والأخذ بالعنف والقوة وقطع الطريق، والاعتداء على العقائل والكرائم من المؤمنات المسلمات هي كما أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرين، وهي الأمر والسنة الإلهية في الأمم السابقة، ولن تغير ولن تبدل سنة الله في الأمر بترك الفواحش والعقوبة لأهلها من قتل وطرد وصلب وقطع أيد وأرجل من خلاف.(212/4)
تفسير سورة الأحزاب [63 - 72]
قضى الله تعالى أن تكون الساعة بغتة، وقد أخفاها فلم يعلم بها ملك ولا رسول، ولذلك يجب على المرء أن ينشغل بالإعداد لها، والحذر من اتباع الكبراء المضلين.(213/1)
تفسير قوله تعالى: (يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله)
قال الله تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63].
سبق هذا السؤال في سورة الأعراف وهي مكية، وكثر في غير ما آية، وجاء في هذه السورة وهي مدنية، ومعنى ذلك: أن نبينا عليه الصلاة والسلام أكثر ما سئل هذا السؤال من كفار ومنافقين ينكرون البعث ويوم القيامة، ويأتون لرسول الله عليه الصلاة والسلام فيسألونه: متى هذه الساعة التي تتحدث عنها؟ وهل يمكن أن يعود الآباء والأجداد وقد أصبحوا رمماً وتراباً؟ وهذا السؤال قد حصل من مسلمين كذلك، لكن أولئك المنافقون والكفار يسألون سؤال استنكار، أما المسلمون فيسألون عن قرب وقتها؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد سبق أن قال لهم: (بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى) أي: أرسلت للناس وبيني وبين الساعة والقيامة المنتظرة ما بين السبابة والوسطى.
والذي بين السبابة والوسطى قدر ضئيل.
فالأنبياء الذين ذكرهم الله في كتابه لا يتجاوزون خمسة وعشرين، وأنبياء الله كما أخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام أنهم جم كثير ثلاثمائة وزيادة، وكم بين النبي والنبي، وكم بين الأمة والأمة، وإنما ذكر الله لنا قصص خمسة وعشرين نبياً؛ لأخذ العبرة والدرس، حتى إذا ارتكب المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما ارتكبه الأولون الذين دمروا، والذين زلزلوا، والذين فاض عليهم الفيضان، والذين رجموا من السماء وزلزلت بهم الأرض وكان مما فصل الله، فيحذروا أن يحصل لهم ما حصل لمن قبلهم، فيتوبوا إلى الله.
فقوله: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} [الأحزاب:63] أصبحت كلمة (الساعة) إذا أطلقت تعني القيامة وتعني البعث والنشور، وتعني الحياة الثانية عندما تزرع فينا الأرواح، ونقوم للعرض على الله في أرض المحشر، فإما إلى جنة وإما إلى نار.
وقوله: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} [الأحزاب:63] كلمة (الناس) هنا تشمل المؤمن والكافر، أي: كلهم قد سألوا.
وقوله: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:63] أي: قل لهم يا رسول الله: إنها مما استأثر الله بعلمها، فلا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل.
فلا يعلم وقتها بالتحديد إلا الله.
وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ} [الأحزاب:63].
أي: إذا لم أعلمك بها أنا فلا أحد يعلم بها لا ملك ولا رسول، وإنما الذي يعلمها الله تعالى، كما قال سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27].
فما يعلم الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من الغيب يقوله للناس، وما لا فلا.
وقد استأثر الله بأشياء من الغيب منها علم الساعة، فقد جاء جبريل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ ما الإسلام؟ ما الإحسان؟ إلى أن سأله: متى الساعة؟ قال: ليس المسئول عنها بأعلم من السائل.
يعني: أنت تسألني لتعلم وعلمي وعلمك فيها سواء، فلا تنتظر مني جواباً بعلمها.
قال: وما أمارتها؟ ألها علامة؟ قال: نعم، إذا رأيت الحفاة العراة العالة يتطاولون في البنيان، وإذا رأيت الأمة تلد سيدها، وذكر له عدة من الأمارات، وهذه الأمارات كلها قد حدثت، وهناك أمارات صغرى وكبرى منها: خروج يأجوج ومأجوج، والريح الحمراء، والدابة، وغير ذلك من الأمارات.
والبدو هم الذين كانوا إذا ملك الواحد منهم جملاً أو حماراً وتمرات يسد بها جوعته وجرعة ماء يطفئ بها عطشه فكأنما ملك الدنيا، واليوم يملكون القصور والبنايات، ويعيشون في الرفاهية، والعيش الرغيد.
وكون الأمة تلد ربتها، يعني: أن تلد الأمة الجارية ولدها فيكون عاقاً، فيذهب يسب أمه كما تسب الأمة، وقد يضربها كما تضرب الأمة، نرى هذا قد حدث ولا يزال يحدث.
وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63].
أي: لعل يوم الساعة يكون قريباً، فقريباً جاء لذكر اليوم، على أن الساعة وإن كانت كلمة فيها تاء التأنيث ولكن ليس تأنيثاً حقيقياً، وما كان كذلك يذكر ويؤنث.
والقرآن هو أبلغ ما نطق به من لغة العرب، كيف وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فهذه الآية فيها إخبار من الله بقرب الساعة، وقربها بدا وظهر يوم ظهر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو نبي آخر الزمان، لا نبي بعده ولا رسول، به انقطعت الشرائع والنبوءات والرسالات السابقة، وهو كما قال عن نفسه: (بعثت والساعة كهاتين) في القرب كقرب السبابة إلى الوسطى.(213/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً)
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:64 - 65].
هذه الآيات تؤكد أن السائلين كانوا من المنافقين والكفار، فسؤالهم سؤال إنكار وتعجب: كيف يبعث الموتى بعد أن يصبحوا رمماً وتراباً؟ وكيف يعودون للحياة مرة أخرى؟ فبين الله لهم وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم، وهو الذي جاء عليه الصلاة والسلام ببيان ما يجهلون.
فقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ} [الأحزاب:64] أي: طرد هؤلاء المستنكرين لأمر الله وأمر رسوله من رحمته.
وقوله: {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} [الأحزاب:64] أي: هيأ لهم يوم القيامة ناراً متسعرة ملتهبة محرقة مدمرة، كلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.
قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الأحزاب:65] أي: ناراً مستعرة ملتهبة محرقة خالدين فيها أبد الآباد، لا أموات فيستريحون ولا أحياء فيرجون، هم أحياء بالحركة والشعور والحس، وهم أموات بالعذاب والمحنة التي هم فيها، ماتوا من الراحة ومن الرحمة ومن الرضا شأن أمثالهم من الكافرين والمنافقين.
ويوم القيامة يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح، فيقال لأهل الجنة: خلود لا موت بعده، ويقال لأهل النار: خلود لا موت بعده.
وهذا من المعلوم بالدين بالضرورة، لم يختلف فيه مسلمان في الأرض.
وقوله: {لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:65] أي: هؤلاء على جبروتهم وطغيانهم واستيلائهم على المؤمنين وتعذيبهم لهم، وتظاهرهم بالتأله والطغيان، فهؤلاء الطغاة عند الموت يرمون في حفرة لا يجدون لهم من أوليائهم ومن أقاربهم، من أنصارهم، ومن جندهم من يستغيثون به، ومن ينصرهم.
يوم القيامة يقول الله جل جلاله عند فناء الكون: أين ملوك الأرض؟ فلا جواب، فيجيب نفسه جل جلاله بنفسه فيقول: أنا ملك الملوك.
وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن من أسماء الله: ملك الملوك، ونحن نرى من تلقب بملك الملوك كيف يذل ويهون، وكيف يصبح ألعن من خنزير وأذل من كلب وأذل من شاة، بل الشاة أشرف منه.(213/3)
تفسير قوله تعالى: (يوم تقلب وجوههم في النار)
قال الله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66].
أي: يوم يدخلون إلى النار مسحوبين على وجوههم يتقلبون ظهراً لبطن، تارة على الخد الأيمن وتارة على الخد الأيسر وهم يحرقون، وكلما نضجت منهم الجلود وذهبت مع لحومها جددت وأعيدت؛ ليزدادوا العذاب جزاءً وفاقاً على كفرهم بالله خالقهم ورازقهم، وعلى كفرهم بالأنبياء والرسل، وما جاءوا به من أدلة قاطعة على صدقهم، وأنهم رسل الله المتكلمون بأمر الله، ومع ذلك كذب هؤلاء فكان جزاؤهم الخلود في السعير وفي النار أبد الآبدين ودهر الداهرين، لم يجدوا ولياً يواليهم ولا نصيراً ينصرهم، فهم يقلبون ليل نهار على وجوههم في النار، فيصيحون نادمين وهيهات فقد سبق السيف العذل؛ لأنهم لم ينتهزوا الحياة قبل الموت وهم يؤمرون أو ينهون، وقبل أن يذهبوا للقبور ويسألون من منكر ونكير: ما دينكم؟ من ربكم؟ من نبيكم؟ وعندما ماتوا كفاراً لم يعرفوا جواباً.
وقوله: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ} [الأحزاب:66] أي: حال كونهم يقولون: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] أي: عندما يرون من يهزءون بهم ويسخرون منهم ويتسلطون عليهم قد أمنوا هذا العذاب، وأبعدوا عنه، وأدخلوا الجنة آمنين سعداء متلذذين بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فهؤلاء الكفار يقولون يا ليتنا فعلنا فعل هؤلاء، وأطعنا الله فيما أمرنا به من طاعته وطاعة رسوله وطاعة كتابه.
فهؤلاء يتمنون أنهم كانوا مع المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله، وآمنوا برسالته صلى الله عليه وسلم وبأنه خاتم الأنبياء ولا نبي بعده، لكن ولات حين مندم، فلو آمنوا بالله الواحد، وأنه الخالق لا صاحبة له ولا ولد، ولا أول له ولا آخر، وأنه كان ولم يكن شيء معه، وأنه يعيد الخلق كما كان جل جلاله، وهو القادر على كل شيء.
وقوله: {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] الألف واللام في الرسول للعهد الذهني أي: محمد عليه الصلاة والسلام، وتطلق على كل رسول أرسل إلى قومه أيام زمانهم؛ لأن هذا القول سيقوله جميع الأمم الذين كفروا بربهم وبالنبي المرسل لهم، فكل واحد يقول: ليتني أطعت الله ورسوله المرسل إليَّ.
إذاً: قوله: (الرسولا) في هذه الآية ألف (الرسولا) يقولون عنها: ألف الفواصل؛ لأنها تفصل بين الآي والآي وبين المعنى والمعنى، ولا يصح أن تقول: أطعنا الله والرسول.
وهذا من تمام فصاحة اللغة العربية وبلاغتها، ولا يوقف عليها بسكون اللام وإنما يوقف عليها كما هي.(213/4)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا)
قال الله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:67] أخذوا يعتذرون وهيهات.
فالله لم يرسل لكم كبراءكم ولم يرسل لكم سادتكم، وإنما أرسل أنبياء ومرسلين وهم الذين أمروكم بطاعته سبحانه، كبراؤكم إنما أكبرتموهم أنتم وليسوا بحال من الأحوال كبراء، بل هم الصغراء، وسادتكم من الذي سودهم عليكم؟ أنتم الذين سودتموهم، وأنتم الذين جعلتموهم أنبياء، بل وألهتموهم دون الله، وأخذتم تطيعونهم كما تطيعون الله، وكما تطيعون أنبياءكم، فكانت النتيجة كما قال الشاعر: ومن يكن الغراب له دليلاً يمر به على جيف الكلاب أي: الذي يتخذ الغراب دليلاً، فإن الغراب لا يذهب به إلا إلى جيف الكلاب، فهذا مثل من يتبع هؤلاء الكبراء والسادة ومن سودوهم على أنفسهم، وجعلوهم زعماءهم وحكامهم وعلماءهم وفلاسفتهم، وهم بهذه الألقاب ليسوا مؤمنين ولا مسلمين.
أما إذا كان الكبراء والسادة مسلمين فهم خلفاء النبي صلى الله عليه وعلى آله في تبليغهم أمر الله وأمر رسوله، كما هي عادة الخلفاء الراشدين وأمثالهم ممن جاء بعدهم.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح فالزعيم والكبير والملك والرئيس من يدعو الناس ويقول: يا أيها الناس اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً يا أيها الناس عليكم بدين الإسلام فهو الدين الحق ولا دين بعده.
يا أيها الناس عليكم بلغة العرب فبها نزل القرآن، وبها نطق سيد العرب والعجم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل إلى تفهم القرآن وتفهم السنة إلا بتعلم لغة العرب، فمن كان غير ذلك فليسوا من السادة والكبراء.
وكم من أناس يسمون أنفسهم بالسادة والكبراء والرؤساء وهم منافقون يدعون المسلمين إلى الجري وراء اليهود والنصارى، فهؤلاء لا دين عندهم ولا ضمير ولا شرف.
فهؤلاء ليسوا هم سادة في حد أنفسهم ولا كبراء، ولكن هؤلاء الناس سودوهم على أنفسهم وجعلوهم كبراءهم، ولذلك يوم القيامة سيتبرءون منهم وهيهات، وسيطلبون من الله -وهم أحقر من أن يطلبوا- عقابهم مرتين.
وقوله: {وَقَالُوا رَبَّنَا} [الأحزاب:67] أخذوا يقولونها وهم في النار، وعندما كانوا في الحياة ما كانوا يقولونها، كانوا يقولونها عن سادتهم وكبرائهم من المنافقين والكفرة، ممن سموا أنفسهم شيوعيين واشتراكيين وماسونيين ومجددين وتقدميين.
وقوله: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:67] أي: وهم في النار؛ لأنهم تركوا طاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام وأطاعوا السادة والكبراء، فأضلوهم السبيل والطريق المستقيم، وعوضاً أن يذهبوا إلى طريق الجنة وإلى الصراط المستقيم الذي ليس هو صراط اليهود المغضوب عليهم، ولا صراط النصارى الضالين، ولكنه صراط الله وهو الإسلام الذي جاء به خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.
أبوا كل ذلك، وقاوموه، وحاربوه ولا يزال هذا ديدنهم في كل عصر كل حسب كفره ووضعه، بل أخذ المسلمون يتركون كتاب الله وسنة رسول الله وجعلوهما وراءهم ظهرياً، وذهبوا إلى وضع قوانين وضعها اليهود والنصارى والمنافقون، عوضاً عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، التي ساد المسلمون بهما في الأرض ألف عام، فعندما تركوهما ذلوا وهانوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(213/5)
تفسير قوله تعالى: (ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً)
قال الله تعالى: {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:68].
الأتباع يدعون ربهم وهم في السعير أن يعذب رؤساءهم ويذيقهم ضعفي العذاب، وفي آيات أخرى تقول الملائكة لهم: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:38] الرؤساء لأنهم أمروا بالضلال، والأتباع لأنهم أطاعوا من لم يؤمروا بطاعتهم في كتاب الله، ولم يؤمروا بذلك على لسان رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فقوله: {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [الأحزاب:68] ضعفاً لكونهم أضلوا كثيراً من خلق الله، وأخرجوهم من الهداية إلى الضلال، وضعفاً لأنهم في أنفسهم ضالون، ولم يعلموا هذا ويدركوه حتى وجدوا أنفسهم مقيمين في العذاب أبد الآباد.
وقوله: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:68] أي: أكثر من لعنهم، وقرئ: (كثيراً) والمعنى واحد، أي: العنهم لعناً كثيراً مع العذاب مرتين؛ لأن النار دركات كما أن الجنة درجات، والجنة منازل والنار منازل، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، وهناك من هو في ضحضاح من النار، قد وضعت على قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، نسأل الله اللطف والسلامة.(213/6)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69].
أي: يا أيها الذين آمنوا لا تؤذوا رسول الله كما آذى بنو إسرائيل رسولهم موسى، وقد آذى رسول الله عليه الصلاة والسلام المنافقون الذين زعموا الإسلام ظاهراً وأبطنوا الكفر.
وهناك مسلمون مغفلون كانوا قليلي الأدب مع رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وسبب نزول هذه الآية أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم مالاً، وكان هناك أعرابي فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهة: هذه قسمة لم يرد بها وجه الله.
وقد يكون هذا البدوي منافقاً بهذه الكلمة، وقد تكون بدويته دفعته إلى الجهل بمقام النبوة، وذهب يتأدب معه حسب الملوك والأمراء فأراد أن يكون جريئاً، ولكن عدم الأدب مع الملوك والأمراء لا يحكم على صاحبه بكفر ولا نفاق، أما مع رسول الله عليه الصلاة والسلام فتلك الردة، وجزاء فاعل ذلك القتل.
مثال غير الرسول صلى عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه جاءه إنسان يطلب حقاً، فأجابه أبو بكر بكلام لم يرضه، فشتم أبا بكر، فغضب أبو بكر غضباً شديداً وكان بمحضره أحد الأصحاب، فقال: يا خليفة رسول الله مرني بقتله، فهدأ أبو بكر وذهب ما كان في نفسه من الغضب فقال: أكنت فاعلاً لو أمرتك، قال: والله نعم، قال: ويلك، لا يكون ذلك مع أحد إلا مع رسول الله.
أي: لا يقتل الساب والشاتم وقليل الأدب إلا إذا فعل هذا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولـ ابن تيمية كتاب عظيم الشأن في هذا الجانب اسمه (الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم) وقد طبع أكثر من مرة، وهو ما يقرب من (800) صفحة، ويذكر فيه القصص بالأدلة والبراهين القاطعة، وأن شاتم النبي عليه الصلاة والسلام وقليل الأدب معه يقتل ولو قال: أنا تائب.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69] أي: لا تؤذوا رسولكم كما آذى اليهود نبيهم موسى، وكان موسى عند الله وجيهاً، كان إذا طلب ربه ودعاه استجاب له؛ لأن له مكانة عنده، شأنه كشأن الرسل والأنبياء، وخاصةً أولي العزم من الرسل: نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
ولقد آذى اليهود موسى بعدة أنواع من الإيذاء، والآية لم تذكر نوعاً معيناً، ونحن نذكر أنواعاً من أذى بني إسرائيل لموسى: من ذلك أنه كان من شريعة اليهود أنهم لا يتسترون، ولا عورة عندهم، فكان موسى حيياً ستيراً يحب الستر، حتى إنه كان إذا دخل نهراً للغسل يدخل بثيابه، فأخذ أتباعه يقولون: موسى لا يحرص على هذا إلا وفيه مرض في رجولته؛ فلذلك هو يحرص على ذلك.
وفي يوم من الأيام دخل نهراً ولم يكن أحد، فوضع ثيابه على حجر، ووضع حجراً آخر عليها؛ خوفاً من الرياح، وإذا بهذا الحجر يتحرك ويذهب بثيابه، فطفق موسى يلحق هذا الحجر وينادي: ثيابي حجر ثيابي حجر، إلى أن وقف الحجر على ملأ من بني إسرائيل، فرأوه سليم البدن ليس به برص ولا مرض، فعند ذلك كما قالت الآية: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب:69] والحديث في الصحيحين.
ومن أنواع الأذى: أن هارون مات فدفنه موسى، فقالت له اليهود: أنت قتلته واتهموه بذلك، وهو أخوه الذي سأل الله له أن يكون رسولاً نبياً مقرباً منه، قال تعالى مخبراً عن موسى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} [طه:29 - 30].
ومما آذوه به كذلك: أنهم إذا أمرهم بأمر يقولون في وجهه ما يتشككون في أمر النبوة والرسالة.
المهم كان اليهود يؤذون نبيهم، فالله قال للمؤمنين: إياكم أن تؤذوا رسولكم كما كان اليهود يؤذون موسى، أولئك بأذاهم لنبيهم وقولهم على ربهم ما لا يليق به ارتدوا وكفروا ولعنوا لعن الأبد.
وما سلطوا برهة من الزمن على المسلمين إلا بعد أن ترك المسلمون كتاب الله وسنة نبيه، فينبغي للمسلمين أن يرجعوا إلى الكتاب والسنة، لا أن يجروا خلف اليهود ويتبعوهم.
وهكذا كلما رأينا محنةً أو عذاباً فهو بأعمالنا وبعصياننا وبمخالفتنا لأمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام.(213/7)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70].
أي: هذا البدوي الذي قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، قد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحذروا أيها المؤمنون واتقوا الله من مثل هذا القول، واتقوا الله من المخالفة والمعصية، واتقوا الله من فعل المنافقين والكافرين.
وقوله: (وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا).
والقول السديد هو القول الصواب، والقول الحق، وأحق ما يقال في السداد والقول الصواب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويأتي بعدها كل الأحكام والأركان والآداب والفرائض والحلال والحرام.
(وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) أي: آمنوا بالله رباً، وبالقرآن إماماً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً.
قال الله تعالى: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
أي: قولوا القول السديد والقول الحق والصواب، ولا تقولوا قول المنافقين والكافرين، وإن أنتم قلتم القول السديد وفعلتموه يصلح الله أعمالكم، ويصلح بالكم، ويصلح لكم ما تريدونه من طاعة لله ورسوله.
فقوله: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب:71] أي: أن أعمالكم تكون صالحة، وتكون حسب رضا الله وحسب رضا رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (يُصْلِحْ) مجزوم على أنه جواب الأمر.
وقوله: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ): ما فعلتموه عن جهالة عن نسيان أو خطأ مع القول النجيب مع الإيمان والإسلام يغفره الله لكم، ويمحوه الله من صحائف ذنوبكم، ولا يحاسبكم عليه؛ مغفرةً ورحمةً بكم.
وقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي: من يطع الله يكن مؤمناً مطيعاً، ومن يطع رسوله، فيما أمر به، ويطعه فيما نهى عنه، ويطعه في التأسي به على أنه الأسوة العظمى والإمام المتبع صلى الله عليه وعلى آله.
وقوله: (فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) أي: فاز بالجنة وهو فوز عظيم، وفاز برضا الله وهو شيء عظيم، وفاز برحمة الله ومغفرة ذنوبه وهو الفوز وهو النجاة، وهو أكبر من نجاحات جامعات الدنيا، وأكبر من كل كبير في الأرض، فمن فاز وهو مطيع لله ومطيع لرسوله فقد فاز الفوز العظيم، وفاز برحمة الله ورضاه ودخول الجنة، ثم رؤية الله جل جلاله في الجنان، جعلنا الله من أهلها، وأكرمنا بذلك فضلاً منه وكرماً.(213/8)
تفسير قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال)
قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].
يخبر جل جلاله عن عظم الأمانة ومكانتها في الدنيا والآخرة، ويبين سبحانه أن هذه الأمانة تشمل كل معاني الدين، ومن الأمانة الطاعة لله ولرسوله، ومن الأمانة حفظ المال والودائع للناس، وحفظ الأعراض، وأنت أيها المسلم اؤتمنت على فرجك فلا ترتكب فاحشة، واؤتمنت على عينيك فلا تنظر بهما ما حرم الله، واؤتمنت على سمعك فلا تستمع إلى ما حرم الله، واؤتمنت على لسانك فلا تستعمله فيما حرم الله.
ومن الأمانة نشر العدل في الأرض، والسعي في الإصلاح بين الناس، وعدم الظلم والأذى، وأن يكون المؤمن أخاً لك، وأن يكون الكافر عدواً لك، لا بأس أن تصاحبه في الدنيا معروفاً، أما أن تخلص له وتقدمه وتزيل الحواجز بينك وبينه، حواجز اليهودية وحواجز النصرانية وحواجز النفاق وزوال الإسلام بينك وبينهم، فمعنى ذلك: أنك أصبحت واحداً منهم، وأنك ارتددت عن الإسلام.
الأمانة تشمل كل هذه المعاني، وقديماً قالوا: (لا إيمان لمن لا أمانة له).
فقوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) أي: امتنعن ورفضن لا إباء عصيان ولا إباء مخالفة، ولكن شفقة وخوفاً أن يعجزن عن القيام بهذه الأمانة.
هذه الجمادات خلق من خلق الله، وقد تنطق وقد يكون لها إحساس، والآية تدل على ذلك، والقرآن مليء بهذا، والسنة النبوية كذلك.
من القرآن قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج:18] فيسجد لله الشجر والجبال، وهي ممن عرضت عليها الأمانة، ولا يسجد إلا من يدرك.
والله تعالى قال عن الحجارة: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] أي: تتدحرج وتترامى، كما جرى لجبل الطور عندما سأل موسى عليه السلام الرؤية وكانت النتيجة أن الجبل دك دكاً من خشية الله وعظمته وهو جماد.
فالحجارة تدهدهت وهبطت من خشية الله.
وفي الدنيا من السيرة المتواترة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أن هذا الخشب بعد أن قطع من شجره ومن غابته كان يخطب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسجد النبوي، فرأى بعض أصحابه أن يصنع له منبراً صغيراً له ثلاث درجات، فصنعوا له المنبر ليسمع كل من في المسجد، وليراه كل من في المسجد، فلما ترك عليه الصلاة والسلام الجذع الذي كان يخطب عليه وصعد المنبر الجديد حن وصوت، وسمعه كل من في المسجد وهو جماد، أحس بشرف وقرب النبي عليه الصلاة والسلام وقت الخطابة عليه لسنوات مضت.
ثم أحس بعد ذلك أنه هجر وترك وأتي بغيره فبكى وهو جماد، وأي عجب في ذلك ونحن خلقنا من التراب، {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} [طه:55] نحن جزء من هذا التراب بدليل أنه عندما يموت أحدنا يعود تراباً، فيصبح جماداً كما كان، فمن أنطق الجماد وزرع فيه الروح؟ إنه الله، كذلك هذه الجمادات من السماوات ومن الأرض ومن الجبال عرضت عليها الأمانة، فالأمانة بالنسبة والجبال والأرض بحسبها، فالأرض تؤتمن على من فيها من الخلق فلا تدخلهم في بطنها قبل الموت، ولا تتزلزل بهم فلا يستقرون عليها، والسماء لا تطبق على الأرض، ولكن مع كل هذا امتنعوا شفقةً لا عصياناً ومخالفةً، شفقة وخوفاً من أن يعجزن عن القيام بهذه الأمانة.
وزعم بعض المفسرين أن هناك كلمة محذوفة كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] أي: أهل القرية.
فيكون المعنى: إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وعلى أهل الأرض وعلى أهل الجبال.
هذا كلام لا يقبل ولا معنىً له، فأهل السماوات هم الملائكة، وهل عرضت الأمانة على الملائكة فرفضوا، ما كان هذا ولن يكون، وهم الذين {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
وأهل الأرض هم الإنس والجن، والله قد أرسل لنا الرسل والأنبياء وأمرنا بأوامر، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
والجبال نحن نسكنها، فهل معناه: أن كل إنسان رفض الأمانة؟ ليس هذا صحيحاً، بل قال الله: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب:72].(213/9)
تفسير سورة الأحزاب [72 - 73]
عرض الله الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، لما يترتب على ذلك من التبعات، ولكن حملها الإنسان جهلاً منه، فكان ذلك سبباً لشقاء الكافرين والمنافقين.(214/1)
تابع تفسير قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال)(214/2)
معنى الأمانة وأحكامها
قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].
شرحنا في الدرس السابق بعض معاني هذه الآية العظيمة الكريمة، ونحن اليوم نتمم ذلك بعون الله وتوفيقه.
هذه السورة فيها أحكام خاصة بالنبي صلى الله عليه وعلى آله، وفيها أحكام عامة للمؤمنين، فناسب أن تكون خاتمتها أمراً شاملاً لكل تلك الأحكام ولجميع تلك المعاني، فذكرت الأمانة، وقد قيل: (لا إيمان لمن لا أمانة له).
والأمانة كلمة فسرت بتفاسير متعددة، فسرت بكلمة الشهادة، وفسرت بالإسلام، وفسرت بالقيام بالأركان، وفسرت بحفظ ودائع الناس، وفسرت بالعدل ونشره في الأرض ودفع الظلم وقتال الظالمين، وفي الحقيقة أن الأمانة كلمة جامعة شاملة، تشمل الإسلام في جميع أركانه، المؤمن مؤتمن على عقيدته ومؤتمن على طاعة ربه، ومؤتمن على حواسه بألا يرى ما حرم الله، وألا يسمع ما حرم الله، وألا يحل ثيابه فيما حرم الله.
والمرأة مؤتمنة في دينها وعلى نفسها وفي مال زوجها.
والأمّة مؤتمنة على أوطانها وعلى دينها وعلى فقرائها ومساكينها.
والدولة مؤتمنة على رعاياها وعلى حدود بلادها وعلى نشر العدل بينهم.
فإذا زالت الأمانة ضاع الإيمان بين الناس، وضاعت البلاد، وهتكت الأعراض، وضاعت الأموال، وأصبح الإنسان حيواناً في غاب لا يقدم ولا يؤخر ولا يحلل ولا يحرم، شأن الكافرين في أحوالهم وأعمالهم.
هذه الأمانة التي بهذه المعاني قال الله فيها: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب:72].
قال ربنا للسماوات: أتحملن الأمانة فإذا أحسنتن أثبتن بالخير وإذا أسأتن عوقبتن؟ فأشفقن وخفن وعجزن وأبين قبول ذلك، وكان عرضاً ولم يكن أمراً، وكان تخييراً ولم يكن إرادة صادرة، وإلا فلو أمر الله فليس لأحد أن يعصيه ولا أن يخرج عن أمره.
وقال جل جلاله مثل ذلك للأرض، وقال مثل ذلك للجبال وهي جزء من الأرض، فامتنع الكل وأبى لا معصية، ولكن خوفاً وعجزاً، خوفاً من الله أن يعجزن عن تحمل هذه الأمانة، فيمحقن ويدمرن ويزلن.(214/3)
أقوال العلماء في كون الجمادات تعقل الأمر
واختلف العلماء في معنى الآية، هل هو على ظاهره، أمرت الجمادات فأجابت، أو هناك كلمة محذوفة، أو هو ضرب مثل؟ فقد قال بكل ذلك أعلام ومفسرون، وسنعرض لكلامهم لنقبل ونرد، وما لا دليل عليه لا يجوز أن يعمل به، فالذين قالوا: الأمر كان للجمادات؛ وهي قد عقلت أمر الله وليس هذا بالأمر الجديد ولا الشاذ، فقد قال تعالى في كتابه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
والسماوات شيء، والأرض شيء، والجبال شيء، وهي تسبح الله، فإذاً تعقل بما أودع الله فيها من حس وعقل، ولكننا لا نفقه ذلك ولا نفهمه، حتى إننا في أنفسنا لا نفهم جميع لغاتنا ولهجاتنا، وإن تعلم أحدنا يتعلم بضع لغات، والأرض فيها مئات من اللغات.
فترى الإنسان يجتمع مع إنسان آخر وهما من أرومة واحدة، ومن أب واحد وأم واحدة، ولا يفهم أحدهما الآخر، فكيف نفهم الجمادات؟! وقال الله عن الحجارة: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] يعني: أن الحجارة تخشى الله وتخافه وتهبط وتدهده.
وقال الله عن الجمادات: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج:18] فذكر الله الجبال والشجر والشمس والنجوم والقمر، وغير ذلك من الجمادات، ذكر أنها تسبحه سبحانه وتسجد له وتعبده وتوحده، فهي إذاً تعقل.
بل وفي دنيانا في قصة المنبر النبوي عندما حن عندما تركه النبي عليه الصلاة والسلام، فهو خشب قد قطع من شجر وهو جماد في الأصل والفرع، ومع ذلك عندما تركه عليه الصلاة والسلام شعر بذلك وحن وصوت حتى سمعه جميع من في المسجد.
والقصة صحيحة في جميع أمهات كتب السنة لم ينكرها أحد، ويبقى المعنى في الآية على ظاهره: بأن الله عرض على السماوات وعلى الأرض وعلى الجبال حمل الأمانة، عرضها عليها ولم يأمرها، فمع عظم الأمانة امتنعن عن حملها إشفاقاً وخوفاً، لا معصية ولا خلافاً.
أما من قال: إن هناك كلمة محذوفة يدل عليها المعنى، فقدرها وقال: (إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وعلى أهل الأرض وعلى أهل الجبال) نقول: هذا كلام لا يستقيم، وأعجب كيف ذكر هذا في كتب التفسير منسوباً لأعلام وأئمة، فأهل السماوات هم الملائكة، والملائكة محملون بأمانة تخصهم، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
وأهل الأرض نحن، ونحن قد تحملنا الأمانة عن عجز منا وجهل وظلم، وأهل الجبال كذلك.
فإذاً: هذا المعنى لا يستقيم، وهي زيادة على الآية لم ترد عن صحابي فضلاً عن الله ورسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقال القفال: هو ضرب مثل.
والأمثال يضربها الله للناس، ومعناه: نحن أمرنا السماوات والأرض والجبال على عظم أجرامها وعلى ما فيها من عرض وطول وسعة، ومع ذلك عجزت عن حملها وقال لسان حالها: نحن نشفق عن أن نحمل ذلك ونعجز.
نقول: هذا التقدير لا حاجة إليه، ما دام قد ثبت قرآناً وسنةً أن الذي أنطقنا ونحن نوع من أنواع الجمادات عندما نموت، وهذه الروح المزروعة فينا هي من أمر الله، ولا يعلم كنهها إلا الله، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] هذه الروح عندما يأخذها واهبها يعود الإنسان تراباً وجماداً كما كان، كذلك هذه الأرض أعطاها الله حساً وإدراكاً مع غيرها من الجمادات كالسماوات والجبال، فهي تدرك بما تسبح الله وتسجد له، وهذا تأكد في القرآن باليقين في غير ما آية، وتأكد في السنة المتواترة المستفيضة، فلا حاجة إلى تأويل ولا إلى زيادة كلمة.(214/4)
ظلم الإنسان لنفسه بتحمله الأمانة وعدم القيام بها
قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب:72] أي: امتنعن عن حملها شفقةً عن كونها تعجز عن حملها.
قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب:72] أي: الإنسان الأول آدم عليه السلام، عرض الله عليه الأمانة فقبلها، ولكنه ما كاد ينتهي ما بين الظهر إلى العصر وهو في الجنة إلا وقد ارتكب الخطيئة، فأكل من الشجرة المحرمة، واغتر بوسواس الشيطان هو وأمنا حواء.
فكان بهذا عاجزاً عن حمل الأمانة ظالماً لنفسه في قبوله للأمانة، وهو لم يستطع منذ الساعات الأولى تقبلها، ثم قد جهل في نفسه حقيقة هذه الأمانة ومسئولياتها وعظمة ما فيها مدى الحياة.
كان السلف يعيشون مئات السنين، وقد قص الله علينا قصة نوح وأنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وتحكي التوراة والإنجيل عن أنبياء بني إسرائيل أنهم عاشوا مئات السنين، كذلك يؤكد ذلك إخبار الله تعالى في كتابه المهيمن على الكتب السماوية في قصة نوح في القرآن الكريم.
فقوله: (الإنسان) ذكرت هذه الكلمة بالألف واللام فهي وإن خص بها الإنسان الأول آدم عليه السلام، فإنما خصته لأنه كان مفرداً، ولكنها بعد ذلك عمت كل من يمكن أن يطلق عليه إنسان، فآدم إنسان وزوجته إنسان وأولاده وإلى يوم القيامة من ذكور وإناث كذلك أناسي، فحملها الكل.
قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].
أي: ظلم نفسه بتحمل الأمانة وعجز عن تحملها، فآدم ارتكب ما ارتكب وغفر الله له كما أخبرنا ربنا جل جلاله، أما ولداه قابيل وهابيل فصنعا ما لا يزال القاتل منهما يتحمل الإثم إلى يوم القيامة.
كما قال عليه الصلاة والسلام: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، فهو قد قتل روحاً ظلماً وعدواناً حسداً وتكبراً، وعلم الإنسان بعده القتل والظلم وإزهاق الأرواح بغير حق، فهو مع تحمله الأمانة ظلم نفسه فارتكب كبيرةً من الكبائر بقتل أخيه، وقطع رحمه حيث ارتكب معه ما لا يرتكبه عدو مع عدوه.
وعدد الناس اليوم في الأرض ما يقرب من أربعة مليارات من البشر، ومليار أو قريب منه هم مسلمون، والباقون بين وثني يعبد الحجارة ويعبد الخلق ويعبد الطبيعة ويعبد ماركس ولينين، وبين طبقة تعبد العزير والعجل، وطبقة تعبد عيسى ومريم.
والمسلمون حملوا الأمانة فيما زعموه، ومع ذلك هذا المليار من الخلق منهم من أصبح شيوعياً، ومنهم من أصبح اشتراكياً، ومنهم من أصبح ماسونياً، وما بقي من المؤمنين -وهم قلة- إلا من رحم ربك.
ولذلك قال الله عن المؤمنين الحق: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14]، فهؤلاء وإن كانوا ينسبون إلى الإسلام فهم مع كفرهم بالله وارتدادهم وخروجهم من الإسلام أفواجاً كما دخل آباؤهم في الإسلام أفواجاً، عادوا فألغوا الأمانة كلها.
كذلك الأتقياء من المسلمين قد يعصون وقد يخالفون وقد يرتكبون، ولكن إذا سلمت لهم العقيدة، وإذا سلمت لهم الأركان الخمسة من الشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج فهم على خير على كل حال، وما سوى ذلك، فإن الحسنات يذهبن السيئات.
فالإنسان المتحمل للأمانة قد حمل نفسه ما لا تطيق، كما رأينا الأولين وقرأنا عنهم في كتاب ربنا، وكما رأينا المعاصرين وقد غلب عليهم الخيانة في تحمل الأمانة، ومن هنا وصف الله الإنسان بظلم نفسه.
فقوله: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] أي: كان جاهلاً بحقيقة ما تحمّل، كان جاهلاً أن من تحمل الأمانة يجب أن يحملها ما دام فيه عرق ينبض وإلى أن يلقى الله، فهو في صحوه ونومه، وهو في شبابه وشيخوخته، وهو في حضره وسفره، وهو في مرضه وصحته كان الواجب عليه أن يلتزم بهذا الذي احتمله والذي التزمه، ولكن لم يلتزم ذلك، بل كان ظالماً لنفسه، ومن هنا وصفه الله بأنه ظلوم كثير الظلم لنفسه؛ لأنه التزم شيئاً ولم يقم به.
فمن حين نصبح إلى أن نمسي وربنا يدعونا إلى أوقات معهودة نؤدي الصلاة فيها والوقوف بين يديه، مناجين قائمين راكعين ساجدين ذاكرين، ومن حين نصبح إلى حين نمسي وعلينا مسئوليات أنفسنا ولأزواجنا ولأولادنا ولمجتمعنا، ولعموم مسلمي الأرض، وعلينا واجبات كثيرة، من أهمها أن نعلن كلمة الله وأن نقاتل أعداء الله إلى أن نلقى الله، ويفعل ذلك من أكرمه الله وأعانه الله وحرص على ذلك وهم قلة، ومع ذلك تجدهم ارتكبوا ما يخالف الأمانة، ولكن الحسنات يذهبن السيئات.
أي: أن الله تعالى جل جلاله أظهر لنا ميزة الأمانة وقيمتها، وأنها الكلمة الجامعة الشاملة لكل ما أمر به المسلم في دنياه إلى أن يلقى ربه، ومع ذلك وصف الله الإنسان بالظلم لنفسه في تحمله الأمانة، وبالجهل في معرفته بحقيقة الأمانة وعاقبتها، ولكون هذه السماوات العلا وهذه الأرض السفلى وهذه الجبال وما خلق الله فوقنا وتحتنا على عظمة أجرامها عجزت وخافت وخشيت من التحمل، فامتنعت وأبت مع خضوعها لأمر الله، وهي لم تؤمر ولو أمرت لنفذت على قدر ما تستطيع.(214/5)
تفسير قوله تعالى: (ليعذب الله المنافقين والمنافقات)
قال الله تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:73].
لقد حمل الإنسان الأمانة من تلقاء نفسه في الأصل، والله يقول لنا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وعبادة الله في معناها الأعم هي الأمانة.
وكلف الله الإنسان بالأمانة وإن عصى من عصى من المنافقين والمنافقات ومن المشركين والمشركات.
والمنافقون والمنافقات هم من تظاهروا بالإسلام وأبطنوا الكفر، والمشركون والمشركات هم من أظهروا الكفر وأبطنوه.
وأمر الله الإنسان بحمل الأمانة؛ ليعذب هؤلاء المنافقين والمشركين بعصيانهم، وينكل بهم لمخالفتهم، وما خلقت النار إلا لأمثالهم؛ لذلك كانت الأمانة أمراً إلهياً للإنسان؛ ليعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات بإيذائهم وبخيانتهم في تحمل الأمانة، وبتعهدهم بحملها ثم تركوها، وهم لم يتركوها جهلاً ولا ظلماً لأنفسهم، ولكنهم تركوها عصياناً وخلافاً لله في أوامره ولرسله في أوامره، وعاشوا كذبةً منافقين يتظاهرون بأنهم مؤمنون وليسوا في الحقيقة كذلك.
والمشركون قد أعلنوا الكفر ظاهراً وباطناً، أظهروه أمام الملأ استهتار وعدم اهتمام.
فالله أمر بالأمانة وإن نافق من نافق في حملها، وأشرك من أشرك في عصيان الآمر بها وهو الله ورسله بأمر الله لهم؛ ليغفر الله للمؤمنين والمؤمنات بحرصهم وبذل جهدهم لتحمل هذه الأمانة طاعةً لربههم وطاعة لنبيهم، فالمؤمنون تحملوا الأمانة بحواسهم بحيث لا يرتكبون إلا ما أذن الله به وأحله.
وليتوب الله عليهم ويغفر ذنوبهم؛ لما تركوا من إذاية الإنسان وظلم إخوانهم المسلمين، فهؤلاء لحملهم للأمانة قدر الله جهدهم، حتى إذا أساءوا استغفروا وأنابوا فتاب الله عليهم وغفر لهم.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:73].
هذا المؤمن الذي تاب تاب الله عليه، وهذه المؤمنة التي تابت تاب الله عليها، والله يغفر الذنوب جميعاً لكل مؤمن تائب، ولكل مؤمنة تائبة، ويرحم ضعفهم وعجزهم وكثرة نسيانهم؛ لقاء توبتهم وإنابتهم وعودتهم إلى الله.
وبهذا نكون بفضل الله وعونه قد ختمنا سورة الأحزاب.(214/6)
تفسير سورة سبأ [1 - 6]
سورة سبأ سورة مكية، وسميت بهذا الاسم لأنه ذكر فيها، وهو اسم رجل من اليمن كان له عشرة من الولد، تيامن منهم ستة وتشاهم أربعة، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.(215/1)
مقدمة بين يدي سورة سبأ
سورة سبأ سورة مكية، فقد نزل بها الروح الأمين عن رب العزة جل جلاله على قلب نبينا خاتم الأنبياء عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم، وكان ذلك في مكة المكرمة مسقط رأسه الشريف، ومنزل الوحي الأول، وبيت الله الحرام، ومركز الكعبة المشرفة، ومناسك الحج المقدسة.
والجمهور يقولون: هي مكية إلا آية، وزعم قوم -بعد أن أجمعوا على أنها مكية- أن هذه الآية مدنية، والآي في أكثرها تدل على أنها مكية.
ولكن من سبأ الذي سميت به السورة؟ جاء من يسأل رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ما سبأ يا رسول الله! أرجل هو أو امرأة أو أرض؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: هو رجل كان له عشرة أولاد، تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة)، أي: ستة ذهبوا لليمن، وأربعة ذهبوا إلى الشام.
قال النسابة: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ولذلك أكثر ما يقال عن عرب اليمن: القحطانية، ومنهم ملوك سبأ، ومنهم بلقيس صاحبة سليمان في القصة التي مضت، وأخذنا منها العبر والحكم والأحكام.
وهذا الاسم هو من باب تسمية الكل باسم البعض، وذلك في الآية الخامسة عشرة: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا} [سبأ:15 - 16]، فعندما أعرضوا عن النعم والمغفرة أصابهم الله بما أصابهم به.
هذه السورة التي سميت بسبأ، سيقص الله علينا فيها قصته مع ما يتخللها على عادة القرآن الكريم من حكم وعبر وأحكام وآداب ورقائق، ونحن مع القرآن ومع السنة الطاهرة وخاصة في كتاب الله يجد الدارس والتالي والعالم والطلاب يجدون أنفسهم في روض فيه من كل ثمرة زوجان.
ففيها صفات الله ونعوته الكريمة، وتحدثت عن الأنبياء وكيف أكرمهم الله بالنبوءة وأوحى إليهم، وعن الأمم السابقة العاصية والمطيعة، وقصة بدء الخليقة منذ خلق آدم من تراب وإلى يوم القيامة، وعن الحلال والحرام، والآداب والرقائق والقصص، فلا تجد المدرس ولا الطلاب يملون منها؛ لأنهم يتنقلون من زهرة إلى وردة، إلى عسل إلى ثمرات طيبات في كتاب الله.
وعن نفسي أقول قبل أن أقول عنكم: عندما أدرس كتاباً مصنفاً على طريقة كتب الفقه، وأجد نفسي أبقى في أبواب الطهارة الشهور المتعددة، وقل مثل ذلك على بقية الأبواب، فإني أمل وأكل، وأما مع كتاب الله وسنة رسوله في المسانيد المرتبة على أسماء الرواة من الصحابة لا على أبواب الفقه، فالإنسان ينتقل من حديث في أول الخلق، إلى حديث في الله، إلى حديث في النبوءة، إلى أحاديث في الأحكام والحلال والحرام، وهكذا، فلا يمل، وهكذا نحن في كتاب الله، وقد أعاننا الله وتابعنا بيانه وشرحه ولنا إلى الآن تسع سنوات بنشاط وغبطة ولله الحمد، وعدم ملل البتة، وكما نرجو من الله الذي أعاننا في الماضي أن يعيننا في الآتي إلى إتمامه بفضله وكرمه.(215/2)
تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض)
قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ:1].
ابتدأ الله الخلق بالحمد، وختم الدنيا والخلق بالحمد لله، {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10]، وكانت السورة التي هي ديباجة كتاب الله، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وهي التي نتلوها ونقرأها وقلنا بفرضيتها كما تؤكد ذلك الأحاديث في جميع الصلوات، فرائضها ونوافلها، وفي كل الحالات جماعات أو فرادى.
وهنا الحمد لله: الحمد الكامل، بجميع أنواعه، الحمد الحق لله، فمهما أوتيت من عافية ومن رزق ومن مال ومن كل شيء إذا جاء على يد العبيد، فالله هو الذي ألهمهم، والله الذي حرك قلوبهم، فهو المحمود على ذلك، وإن كان من آداب الإسلام كما يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله).
ولكن الحمد الكامل، والحمد التام بجميع أنواعه هو لله، نحمده على ما هدانا إليه من دين وإسلام، نحمده على أن جعلنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، نحمده على ما وفقنا إليه من التزام ذلك والرجاء والضراعة إليه أن يحيينا عليه وأن يميتنا عليه، إلى أن نلقاه يوم القيامة مع محمد وصحبه.
نحمده على ما أولانا به من عافية ومن رزق ومسكن، وكسوة، وذرية، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، ومهما قلنا: يبقى فضل الله عظيماً، ولكننا مع ذلك نقول ما علمنا الله أن نقول: الحمد لله، فنحمده على كل حال، ويتأكد ذلك عقب الصلوات، وتجدد النعمة في الذات أو الأخلاق أو الأولاد أو الأرزاق.
وعلمنا الله أن نحمده، وعلى أن له السماوات والأرض، وهو من السماوات يميتنا، ويسيل الأمطار لغياث الأرض ولخصبها، ولإنباتها بما نعيش عليه، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، لا يحيا مخلوق بلا ماء، كان إنساناً أو حيواناً أو نباتاً، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [سبأ:1].
ونحمد الله على أن الأرض له، أسكننا في أطرافها، نضرب في جوانبها ونسترزق ربنا، نعيش من باطنها بما ينبته من نبات وثمرات، وما يعيش عليها من دواب وحيوانات من أشكال اللحوم وأشكال النعم، فنحن نحمد الله أن السموات والأرض هي له ومن عليها من خلق، الكل ملك له، والكل عبد له، والكل متوقف على رحمته، والكل متوقف على رزقه، فهو المحيي وهو المميت.
{وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} [سبأ:1]، أي: في يوم القيامة الحمد له وحده، فلم يكن لأحد فيه حمد أو شكر؛ لأن الكل له، ولن يستطيع أحد فعل شيء إلا ما كان من الشفاعة المحمدية -أكرمنا الله بها- وإلا ما كان من شفاعة العلماء والصالحين والأخيار كذلك -أكرمنا الله بها- وهي أيضاً من الله، ولن يشفع أحد إلا بإذنه، فالحمد كله لله، فهو الذي أذن لمن يشفع أن يشفع، ولا يشفع إلا في مؤمن أدى الشهادتين، فالحمد في الدنيا لله: في السموات والأرض، والحمد في الآخرة لله، فالحمد إذاً كله لله بتمامه وأنواعه وأشكاله دنيا وآخرة، ولذلك ينبغي للمسلم كما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الأعرابي الذي جاء وقال: (يا رسول الله، قد كثرت علي شرائع الإسلام، فقل لي شيئاً أكتفي به، قال: إن استطعت أن يكون لسانك رطباً بذكر الله فافعل).
ومن أعظم الذكر وأعلاه وأسماه: الحمد لله، الذي امتلأ بها كتاب الله، فهو كما أثنى على نفسه لا نحصي ثناءً عليه.
{وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ:1] أي: هو الحكيم في كل أعماله، وفي كل أقواله، وفي جميع قدره، والحكمة هي وضع الشيء محله، والله وحده حكيم، ومن يكرمه الله بشيء من ذلك، فهو الحكيم في أمره، الحكيم في نهيه، الحكيم في قدره جل جلاله وعز مقامه، (وهو الحكيم الخبير) الخبير بعباده مؤمنهم وكافرهم، وما يصلح لهم نساءً ورجالاً، كباراً وصغاراً، فمن يصلح له الفقر أفقره، ومن يصلح له الغنى أغناه، ومن تصلح الحياة له أكبره إلى الشيخوخة، ومن يصلح له الموت أماته في الطفولة، فالأمر أمره، فلا يسأل عما يفعل ونحن نسأل، فهو الحكيم بكل أعماله، الخبير بكل خلقه.(215/3)
تفسير قوله تعالى: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها)
قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ:2].
ربنا جل جلاله الخالق لكل شيء هو العالم بكل شيء، يعلم ما يلج في الأرض: أي: ما يدخلها، ويلج: يدخل، والمعنى: ما يلج الأرض من أمطار: كم قطراتها، وكم أوزانها، وفي أي ساعة وفي أي وقت من ليل أو نهار نزلت أو ستنزل، وما يلج في الأرض من أموات ومن أجسام، فالله يعلم كل شيء، (وما يخرج منها) أي: ما ينبت من ثمراتها وأرزاقها ومعادنها وخيراتها.
فهو العالم بما يدخل إلى الأرض مما ينزل من أوامر ونواهٍ.
{وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ:2] ويعلم ما يعرج ويصعد للسماء من أرواح المؤمنين، ومن الملائكة الجند المكلفين، ومن دعوات الداعين، وهو جل جلاله الخالق لذلك، العليم به وحده.
{وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ:2] الرحيم بعباده المؤمنين، فمن رحمته أنه غفر ذنوبهم، وقبل توبتهم، واستجاب لاستغفارهم، وتاب على من تاب وأناب إليه، فهو الرحيم بعبادة المؤمنين التائبين، وهو الغفور لذنوبهم عندما يستغفرون.(215/4)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة)
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:3].
كفروا بالقيامة وأنكروها، وكذبوا رسلهم، وأنكروا ما ورد عن الله لرسلهم، فكان جواب الله لنبيه: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3] أي: قل يا رسول الله: بلى، وكلمة بلى تعني نعم بعد الإنكار، فهم أنكروا فكان
الجواب
بلى ستأتي الساعة.
(بلى وربي) أمره الله أن يقسم بربه أن الساعة آتية لا محالة، ((عَالِمِ الْغَيْبِ)) صفة لربي.
وقد ورد القسم على قيام الساعة في ثلاثة مواضع: الموضع الأول: في سورة يونس، والآية: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس:53] أي: يطلبون نبأك وخبرك أحقٌ يوم القيامة؟ {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53]، فهم طلبوا الاستنباء والاستخبار من رسول الله عن القيامة، فقال الله: {قُلْ إِي وَرَبِّي} [يونس:53] أي: نعم وربي، فأقسم بربه أن يوم القيامة حق لا مين ولا شك فيه.
الموضع الثاني: آيتنا هذه التي في سبأ.
الموضع الثالث: قوله في سورة التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]، والزعم مطية الكذب، فقد زعموا بأنه لا بعث ولا نشور ولا قيامة، قال الله لنبيه: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]، فأكد ذلك بلام الابتداء، وبنون التوكيد الثقيلة، زيادة على القسم الظاهر، فهي ثلاث آيات في ثلاث سورة كريمات، يأمر الله نبيه فيها أن يقسم به أن القيامة حق، ونحن تبعاً لأمر الله، ولما استجاب إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام كذلك نقسم ونقول للمنكرين الكافرين: بلى وربي لتبعثن، بلى وربي إن يوم الساعة حق.
قوله: ((لَتَأْتِيَنَّكُمْ))، أكد القسم بلام الابتداء، مع التأكيد بنون التوكيد المثقلة.
(عالم الغيب) أي: الذي لا يطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول، وهذا من الغيب الذي أخبر به رسوله، وعلمناه نحن عن رسولنا عليه الصلاة والسلام.
قوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:3].
قوله: لا يعزب عنه أي: لا يغيب، ولا يغرب، ولا يبعد عنه الاطلاع على خلقه، ولو كان هذا الخلق في وزن ذرة، والذرة هي الهباءة الصغيرة التي لا تكاد ترى إلا بالمجهر، سواء كانت في السماوات أو في الأرض، وفي السموات السبع العلى وما فوقها إلى سدرة المنتهى إلى العرش، إلى الأرضين السبع بحارها وجبالها ووهادها وأعماقها إلا ويعلمها الله جل جلاله، ولا تغيب عنه ولا تبعد.
((وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ)) ولا أصغر من الذرة.
((وَلا أَكْبَرُ)) أكبر من الذرة.
((إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) علم كل ذلك وغيبه في الكتاب، والكتاب هنا اللوح المحفوظ، واللوح المحفوظ لوحان، لوح من قبل الحق لا يراه إلا الله، ولوح من قبل الملائكة، فما كان من قبل الله لا يراه غيره، قال عنه: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:29]، وما دون فيه لا يغير ولا يبدل، جفت الصحف ورفعت الأقلام.
واللوح الذي من قبل الملائكة، هذا يقع فيه المحو والإثبات، يمحى ما سبق أن كتب فيه الجنين شقياً أو فقيراً أو بائساً، بدعوات والديه، وبالصدقة، وبالضراعة إلى الله، أو بأي سبب من الأسباب، كما جاء في أحاديث كثيرة، وفي كتاب الله، وهو ما قال الله عنه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].
فاللوح المحفوظ الذي من قبل الله هو الأم، كما نقول: أم الشريعة كتاب الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسنة النبوية شرح وبيان لأم الكتاب، وهو أيضاً فيما صح عنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، هو المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهو الذي إذا قال لا يقول إلا الحق، وإذا غضب لا يغضب إلا للحق، وإذا سر لا يسر إلا للحق، وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل ما سمع من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسمى بعد ذلك ما كتبه: الصادقة، وكان في هذا الكتاب ألفا حديث، لم يضع منها شيء ولله الحمد، وكلها رويت في الكتب الستة، وبقية الصحاح والسنن، فانقطع عن الكتابة يوماً، فانتبه له رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (ما بالك لا تكتب؟ قال: يا رسول الله! رآني فلان وفلان فقالا لي: أتكتب كل ما يقول رسول الله في الغضب والرضا وهو بشر؟ قال: اكتب فوالله لا يخرج عن هذا إلا حق في الغضب والرضا).
ولذلك كانت حياة رسول الله في جميع سيرته قولاً وفعلاً وعملاً وإقراراً من الشريعة الشارحة والمبينة للقرآن الكريم، ومن هنا قال الله لنا في كتابه في أكثر من آية: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، فرسول الله أسوتنا وقدوتنا في غضبه ورضاه، وفي حبه وبغضه، وفي سلمه وحربه، وفي حضوره وغيبته، وفي حضره وسفره، وفي سلامه ومعاركه عليه الصلاة والسلام، وفي كل أحواله.(215/5)
تفسير قوله تعالى: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [سبأ:4 - 5].
قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سبأ:4]، لم كانت القيامة؟ ولم جعل الله لهذه الدنيا الدنية حياة فانية؟ حتى لا يفر الظلمة في الأرض بظلمهم وبجبروتهم وبطغيانهم، ويظنون أن الأمر كان سبهللاً، وأن الضعيف لا يجد من يدافع عن حقه، وهيهات هيهات، ما كانت الآخرة إلا للحكم العدل، وسيكون الحاكم العدل أحكم الحاكمين الله جل جلاله.
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3] لم؟ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سبأ:4] ليجزيهم أجر ذلك، ليجزيهم ويحسن إليهم ويكافئهم على ما فعلوه من طاعة وعبادة، وهيهات أن يكون المحسن كالمسيء، والجاهل كالعالم، والظالم كالعادل، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سبأ:4]، أولئك الذين أحسنوا وآمنوا وعملوا الصالحات يجزيهم الله المغفرة والرزق الكريم، المغفرة مما أتوا به، وهم دائمون على الإيمان والإسلام، ثم يرزقهم الرزق الكريم، والرزق الكريم هو الجنة، ورضا الله جل جلاله، والحياة الدائمة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ومقابل ذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [سبأ:5]، فكانت الساعة وكانت القيامة ليجازي الله المؤمنين العاملين للصالحات بمغفرة ذنوبهم، وبرضاه عنهم، ثم يرزقهم الرزق الكريم الذي لا مشقة فيه ولا تعب، وذلك في دخولهم الجنان، وتمتعهم بما فيها.
((وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا)) أولئك الذين أساءوا وسعوا في الأرض بالفساد.
((مُعَاجِزِينَ)): ظنوا أنهم سيفوتون على ربهم ويعجزونه، وأنه يعجز عن عذابهم، زعمت ذلك عقولهم الكاسدة، وهيهات أن يكون لذلك أصل أو وجود إلا في ضمائرهم الفاسدة الغبية.
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} [سبأ:5] سعوا في تكذيب آياتنا وكتابنا ومعجزات أنبيائنا، وما أمرنا به وقلناه في كتابنا، وأنزلناه على أنبيائنا، هؤلاء يسعون في صد الناس عن الإيمان.
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} [سبأ:5]، سعوا في إفسادها، وصد الناس عنها، وبذلوا من أنفسهم سعياً وحركة وعملاً للإفساد والصد عن الله وعن دينه، {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [سبأ:5]، (أليم) قرئ: (مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٍ)، وقرئ: (أليمٌ) صفة للعذاب، بمعنى: أولئك لهم عذاب أليم من رجز، والرجز أشد العذاب والمهانة والإذلال، ففي يوم القيامة يحسن إلى المحسن، ويساء إلى المسيء، يلاقي المحسن رضاء ربه ومغفرته ودخول الجنان، ويلقى المسيء الساعي في الأرض الفساد، المكذب لله ورسوله، الصاد عن الله ورسله، العذاب والمهانة في جهنم وبئس المصير.(215/6)
تفسير قوله تعالى: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق)
قال الله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ:6].
(ويرى الذين أوتوا العلم) هذا كلام عام، وقد فسره البعض بمؤمني أهل الكتاب الذين آمنوا برسول الله، وكانوا من أهل العلم الذين فهموا التوراة والإنجيل، وفسروه بعلماء المسلمين، والآية تشمل الكل: من آمن من أهل الكتاب من علمائهم كـ عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وهؤلاء الذين كانوا من أهل العلم، والذين حازوا رتبة العلم بالله والمعرفة به.
((وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)) أي: يعلموا، أي: من رأيهم، ومن عقيدتهم، ومن فهمهم، كما نقول: يرى فلان كذا وكذا، أي: يعتقد ويدين بهذا الرأي.
((الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ)) يرون ويعتقدون ويؤمنون أن ما نزل إليك من كتاب الله، وما نزل إليك من رسالة الله هو الحق، الذي انفرد بعد الأديان السابقة وتبديل أصحابها لها وتحريفها، ولم يبق الحق إلا الإسلام، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] لا سواه ولا غيره.
((وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ)) أي: أن الذي أنزله إليك ربك بواسطة رسول الملائكة إليك جبريل، هو الحق، لا كما يزعم الكفرة، والحق الذي أنزل عليك هو قوله بيوم القيامة وبالنبوءة وبالجنة والنار، وبالجن والملائكة، وبالموت والحياة، وبأن خالق الخلق هو الله الواحد جل جلاله.
((وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)) هذا الذي أنزل إليك يهدي أي: يدل ويرشد ويوجه إلى الصراط وإلى الطريق، والعزيز هو الله الذي لا ينال، والغالب الذي لا يغالب، وصراط الله الحق هو الإسلام، أي: رسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
فهؤلاء أهل العلم يعتقدون بأن هذا القرآن الكريم يهدي إلى صراط الله العزيز الحميد، المحمود في السماء، والمحمود في الأرض، الذي له حق الحمد.(215/7)
تفسير سورة سبأ [7 - 9]
الاستهزاء بالرسالة والرسل هو منهج الكافرين والمشركين الماضين وكذلك المعاصرون؛ وذلك إنما هو لعجزهم عن مقارعة الحجة بالحجة، فيلجئون إلى السخرية والتهكم، حتى يلبسوا على الجهلة وضعاف العقول، والله من ورائهم محيط.(216/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق)
قال الله جلت قدرته: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ:7]، هؤلاء الكفرة المشركون، الجاحدون ليوم القيامة ويوم البعث، وهؤلاء الذين لا يزالون يصرون على تكذيب الأنبياء والكفر بالله وما جاء عن الله.
يقول الله عنهم: ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ)) أي: قال الذين كفروا لغيرهم من الناس وأمثالهم -وقد يطمعون أن يقولوا ذلك للمسلمين-: ((هَلْ نَدُلُّكُمْ)) أي: هل نوصلكم ونوجهكم لتتعرفوا على رجل يخبركم وينبئكم ويبلغكم بأنكم إذا مزقتم كل ممزق، وتفرقت أجسادكم وأخرجتم من هذه الدنيا بالموت والفناء، أنكم لفي خلق جديد، وتعودون مرة ثانية في جسد جديد، وفي حياة جديدة، وفي دار جديدة، يقولون هذا مستنكرين متعجبين، منفرين الناس عن الإيمان بالله، وأن هناك بعثة يوم القيامة، ليحاسب المسيء على إساءته، وليجزى المحسن على إحسانه.
هؤلاء الكفرة عندما يقولون ذلك لا يقتصرون على أنهم كفرة جاحدون منكرون للبعث، ولكنهم يأبون إلا أن يذيعوا الكفر، ويكونوا دعاة للكفر.
ثم هم عندما يتكلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: رجل وهي كلمة نكرة، أي: رجل مجهول، ويقصدون بذلك شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بعد الكفر ذنب، فعندما يكذبون ربهم وأنبياءهم مهما قالوا بعد ذلك فليس غريباً عنهم، على أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن مجهولاً في حياته، بل كان يعرفه البر والفاجر، وكان يعرفه المؤمن والكافر، فقد كان سبط وحفيد سيد العرب عبد المطلب، وكان عبد المطلب معروفاً في جميع جزيرة العرب، وكان مقدراً ومعظماً ومحترماً، فهم عندما يقولون: محمد بن عبد المطلب، ويقولون: محمد بن عبد الله، كان جده أشهر من أبيه، فأبوه مات شاباً صغيراً، ولذلك فالنبي في غزوة حنين عندما شاع أنه قتل في المعركة قام على دابته وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ولكن هؤلاء الكفرة الذين يقص الله عنهم، يريدون أن ينقصوا من مقام النبي عليه الصلاة والسلام في كلمة رجل، وهم متعجبون، ويقولون لغيرهم: يا هؤلاء الناس هل نعرفكم ونوصلكم إلى رجل يقول الغرائب؟! وهذه الغريبة والعجيبة أنه يقول عن الناس: إذا هم مزقوا وصاروا قطعاً في التراب أنهم سيعودون مرة أخرى.
فقوله: ((مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)) أي: ضعتم وأصبحتم ذراً مع الذر، وتراباً مع التراب، أنكم تعودون مرة ثانية في خلق جديد، وحياة جديدة وجسم جديد.(216/2)
تفسير قوله تعالى: (أفترى على الله كذباً أم به جنة)
قال تعالى: {أَافْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سبأ:8].
ثم عاد هؤلاء الكفرة فقالوا عن نبي الله: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ:8]، قال الله يجيبهم: {بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سبأ:8].
قالوا ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أعلن وبلغ عن الله، والحقيقة أن الله هو الذي قال ذلك، وهو الذي أمر نبيه أن يقسم بربه أننا سنبعث، وبأن الساعة آتية، وأن الحياة الثانية قائمة، فهم عندما يكذبون نبيهم يكونون قد جحدوا ربهم، وجحدوا رسالته ونبأه وكتابه.
((أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ)) أي: أأفترى، فهما همزتان همزة استفهام وهمزة وصل، ولكن حذفت الثانية فبقيت الأولى، ودل على المحذوفة بقاء الأولى، وهو استفهام إنكاري تعجبي، يقولون: هل افترى الكذب، وزعم أنه رسول، وأن ما يقوله هو كلام الله، وأنه نقل عن الله أننا بعد الموت سنعيش حياة جديدة بجسد جديد وجسم جديد؟ فهو لا يخلو إما أن يكون قد اخترع الكذب -وحاشاه من ذلك- أو به جنة: أي: أصابه الجنون، وفقد عقله، فأصبح يقول ما لا يعقل، ويتكلم بما لا يعلم، ذاك قولهم مع أنهم هم الكذبة الفجرة، والمكذب للصادق وهو الكاذب، قالوا ذلك لصغار عقولهم، فعقولهم لم تتسع لدين الله، ولا لأنبياء الله، ولا لرسالات الله، فالذي يكذب نبياً فإنه مكذب لجميع الأنبياء؛ لأن الأنبياء جميعاً ظهروا للناس وقالوا: إننا رسل ربنا إلى الناس جميعاً، وقالوا عن ربهم: إن حياة جديدة ستكون بعد الموت وأننا سنحيا بعد الموت والفناء للحساب والمجازاة، إما إلى جنة وإما إلى نار، فلم يكن هذا خبراً عن رسول الله فقط، ولكنه خبر الله الذي نطق به كتابه، والذي يعتبر أصلاً في جميع الشرائع، فهم لم يتصوروا إلا حالتين، فلم يقولوا الاحتمال الثالث وهو: أن يكون صادقاً، فكفرهم وحقدهم على الرسالات، وبغضهم لسيد البشر صلى الله عليه وسلم، تركهم لا يتصورون إلا صورتين: الكذب، والجنون، فهو إما نطق عن جنة، وإما نطق كاذباً، فكذبهم الله وأخزاهم، ولعنهم وقال: ((بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)).
(بل) كلمة إضراب عن كلام سابق، أي: اسكتوا عما مضى، وعما هذى به هؤلاء الذين هرفوا بما لم يعرفوا، بل الحقيقة في ذلك ليس هناك كذب، والنبي لا يكذب، وليس هناك جنون، فالنبي من العقلاء، ولكن الواقع هو أن الذين كفروا لا يؤمنون بالآخرة، ((بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)) هؤلاء حملهم على ذلك عدم إيمانهم باليوم الآخرة.
((بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ)) هم في العذاب لكفرهم، ولقلة أدبهم مع نبي الله عليه الصلاة والسلام ولتكذيبه، هم في العذاب المهين، في جهنم وبئس المصير، خالدين أبداً سرمداً، فهم علاوة على كونهم كذبة فجرة، جزاؤهم العذاب وسيلقونه، وهم في ضلال لقولهم هذا، ضلوا الطريق السوي، وضلوا الحق القائم والواقع، والذي جاءت به جميع الأنبياء منذ آدم أبي البشر، إلى نوح وإبراهيم، وجميع أنبياء بني إسرائيل، إلى خاتم الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وعليهم جميعاً، ((وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ)) أي: الضلال العميق الذي ليس له أي شبهة، لا من فكر ولا من عقل، فبذلك أصبحوا من أئمة الكفر؛ لإعلامهم ذلك وقولهم للناس هذا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهم من أجل ذلك في العذاب، وفي ضلال بعيد وسحيق وعميق، لا يكاد يدل عليه، لا منطق ولا أية شبهة.(216/3)
تفسير قوله تعالى: (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم)
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ:9]، هؤلاء الجاحدون ليوم القيامة، المنكرون لها ولوقوعها، أفلم يروا: استفهام تقريعي توبيخي من الله لهم ولأمثالهم، فإنكار القيامة هو كفر الأولين وكفر الآخرين والمعاصرين، وهم يقولون هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ويتهمونه بالكذب، فإذا قرءوا سيرته العطرة قالوا: به مس، أو به جنون، أو به طموح، فأملى عليه طموحه والجنون القائم فيه ما ليس بواقع، صلى الله عليه وحاشاه من كل ذلك.
وها نحن نرى أن هؤلاء الكفرة المعاصرين سواء منهم اليهود والنصارى والوثنيون أو المنافقون المرتدون عن الإسلام، الذين يصفون أنفسهم بالتقدمية والإدراك، لكنهم هم الرجعيون المتأخرون الذي رجعوا لكفر أسلافهم.
ومن كان بيته من زجاج لا يضرب بيوت الناس، ومن كان بيته من فولاذ ومن صخر أصم لا يهمه هراء الكذبة وفجور من لا يعقل ولا يدرك، فجميع أنواع الكفر المعاصرة والتي سبقت لم تزد في كفرها على ما قاله الأولون، فهم رجعوا إليهم فكانوا رجعيين متأخرين، وكانوا مع ذلك في الضلال البعيد، وفي العذاب المهين.
(أفلم يروا) هؤلاء أين عقولهم؟ بل أين أبصارهم، ولكن كما قال ربنا: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198]، {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
((أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ))، أفلا يرون فيما يعيشون؟ أمامهم الأرض والسماء، وخلفهم أرض وسماء، وبين أيديهم ومن كل جهاتهم هذه السماء العالية، بما فيها من ثوابت وكواكب مما لا يحصيه إلا الله، وهذه الأرض الثابتة بما فيها من جبال وغابات وصحار وبحار، كل هذا هم يرونه ويقيمون عليه، وينامون فيه، ويصحون عليه، ويتنقلون في شماله وجنوبه وشرقه وغربه، هل يفكر هؤلاء المنكرون للخلق، من خلق هذا؟ من أقام السموات بهذا النظام الثابت؟ من الذي أرسى هذه الأراضي وثبتها بالجبال الرواسي؟ بل أنت نفسك، {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، من الذي خلقك؟ من الذي أعطاك عينين للبصر؟ من الذي أعطاك أذنين للسمع؟ وإذا ثبت هذا، وهو ثابت برؤيا العين وبالحس وبالواقع، فالخلق لا يمكن أن يكون بلا خالق، ومن قدر على كل هذا، فأوجدنا من العدم، وأوجد السموات والأرض والكون من العدم، وبلا مثال سابق، فعندما يفنيه ويقضي عليه، أيعجز أن يعيد ما كان صنعه؟ {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79].
ولكن العقول ضائعة، والجنون هو القاعدة القائمة، ومن أضله الله لا يهديه أحد، لا مرب ولا داع ولا عارف ولا عالم.
هؤلاء الذين يرون السماء والأرض بين الأيدي وعن اليمين والشمال، ومن الأمام ومن الخلف، هؤلاء الذين يعيشون بين السماء والأرض، ألم يخافوا أن يخسف بهم الأرض؟ هذه الأرض التي ينكرون خالقها.
وقد خسفت بالكثيرين قبل وبعد وفي عصرنا، ومنذ سنوات خسف بإقليم من أقاليم أمريكا الجنوبية، وغيرت خريطته، وذهبت مدن وكأنها لم تكن، وغرقت في البحار، وصعدت جبال لم تكن.
قارون وقصته من الذي صنعها؟ قوم لوط في أرض فلسطين من الذي خسف بهم الأرض ودهدهها عليهم من السماء والأرض؟ فمن يقول مثل كفرهم ومثل شركهم، لا يخاف أن هذه الأرض تلفظه وترفض أن يقوم عليها وهي المسبحة الموحدة لله؟ أفلا يخاف أن يصبح في الأرض السابعة؟ وإذا لم يخف من الأرض ألم يخف من السماء ونحن نرى يومياً ما يقع منها من نيازك، وما يقع منها من صواعق، أن تقع عليه يوماً صاعقة؟ ألم يخف أن تقع عليه قطع من السماء فيصبح وكأنه لم يكن؟ ولكن الله عندما يقول هذا ويهدد ويوعد إنما رحمة منه بالعباد؛ لأنه أرسل عبده ونبيه، وخاتم أنبيائه رحمة لكل الناس، مسلمين ويهوداً ونصارى ووثنيين، فذلك الإمهال وذلك التأجيل هو رحمة من الله، كما أرسل النبي الكريم رحمة للعالمين، (إنما أنا رحمة مهداة) كما قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
ومع ذلك فالله جل جلاله أجل العبد بعد أن رزقه عقلاً وبصراً وسمعاً وحساً، وأخذ يستدل عليه بالأدلة القاطعة، على الخلق والإيجاد، وعلى الدنيا والساعة الآتية، وأن هناك آخرة فيها الحساب، فيها العقاب وفيها الجنة والنار، {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ:9]، فالله يفعل ما يشاء، وهو القادر على ما يشاء، وإذا شاء جل جلاله أن يخسف الأرض بهؤلاء وكأنهم ما كانوا، أو يسقط عليهم قطعاً من السماء فيسحقهم سحقاً.
من الذي يعجزه؟ ومن الذي يمنعه؟ هو الذي لا يغالب، هو العزيز القهار الجبار، هو القاهر فوق عباده، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ:9] أي: إن في السماء والأرض، وفي الكون وما فيه من نظام ثابت، ومن حياة لا يعلمها أحد، ولا يصل إلى حقيقتها أحد لآية.
من خلقنا؟ من رزقنا؟ من الذي رزقنا هذا المنطق واللسان؟ من الذي رزقنا جميع حواسنا؟ من الذي سخر لنا السموات والأرض وما فيهما من أرزاق وخيرات ورحمات؟ هل أحد إلا الله؟ فعل ذلك بالمؤمن، وفعله بالكافر، فالمؤمن يحمد الله ويشكره في الدنيا والآخرة، والكافر يزداد بكل نعمة كفراً على كفر، ثم عندما يأخذه يأخذه ولا يفلته، لأن الله لا يهمل ولكنه يمهل، وإذا أخذ العبد أخذه أخذ عزيز مقتدر، ولله الحجة البالغة.
إن في هذه الآية لعلامة ودليلاً ظاهراً لكل عبد منيب، تائب رجاع إلى الله، مسلم مؤمن، إذا كان هؤلاء الكفار لم يروا ولم يتعظوا به، ولم يؤمنوا به، ولم يدركوا هذه الحقائق، إذا كانوا هم كذلك فليس المؤمنون كذلك، فكل تائب، وكل مؤمن، وكل منيب راجع لله في عبادته وفي عقيدته وفي نفسه يعلم هذه الآية، ويعلم أن هذا الخلق آية وعلامة على قدرة الله وعظمة الله ووحدانية الله.(216/4)
تفسير سورة سبأ [10 - 13]
ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة سبأ قصة نبيه ورسوله داود عليه السلام، ومما ذكره سبحانه وتعالى عنه أنه أمر الجبال والطير أن تسبح لتسبيحه، وأنه ألان له الحديد، وقد أتبع الله ذلك بذكر ابنه سليمان بن داود عليهما السلام، وما تفضل الله سبحانه وتعالى عليه من المعجزات، وهو تسخير الجن والرياح له، وهو الملك الذي لا ينبغي لأحده بعده عليه السلام.(217/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا داود منا فضلاً)
ننتقل ونحن لا نزال في سورة سبأ أو ابتدأناها من جديد إلى قصة داود وسليمان النبيين الملكين الإسرائيليين، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:10 - 11].
يقول ربنا: وكما أكرمنا محمداً بالمعجزات وبالآيات الدالات على صدقه وعلى أمانته وبما أعطيناه من فضل {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، كذلك آتينا من سبق، آتينا داود وسليمان، ((وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا))، وداود هو أبو سليمان، وكان أحد كبار أنبياء بني إسرائيل ورسلهم، وكان نبياً رسولاً ملكاً، ((وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا)) تفضلنا عليه، وأكرمناه، وفضل: نكرة، أي فضل؟ وما هو هذا الفضل؟ كل ما فعله الله له، وكل ما أكرمه الله به هو فضل من الله، تفضل عليه بأن جعله نبياً وبأن جعله من قبل موحداً، وجعله رسولاً، وجعله ملكاً داعياً للحق وللهدى والصلاح، وأكرمه بمعجزات، وأكرمه بعلامات، وأكرمه بآيات كما أكرم الأنبياء السابقين واللاحقين.
وقد تفضل الله عليه وأكرمه بأنواع من الفضل، مع النبوءة والرسالة والملك، قال الله عنه: ((يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ))، نادى الله الجبال أن تسبح معه، ونادى الطير أن تسبح معه، وكان لداود صوت سبق جميع آلات الطرب، كان صوته طرباً في حد ذاته، وكان إذا ناح بتلاوة ما أنزل عليه من زبور تجد الجبال تردد عليه نياحته وأنغامه وتوحيده وتسبيحه، وتجد الطير قد تجمعت جميعها بين يديه، تسبح بتسبيحه وتنوح بنواحه، وتذكر بذكره، ((يَا جِبَالُ أَوِّبِي)) أي: سبحي، والأوب هو الرجع، أي: رجعي معه ما يقوله، ومنه الترجيع الذي في الأذان، وهو أن يرجع المؤذن الشهادتين عندما ينطق بهما.
ونحن قد ذكرنا ما قاله المفسرون من أقوال مختلفة، وأكدنا القول الحق أنه عرض عليها ذلك عرضاً، سمعته وأحسته، وللجبال من الحس ومن الحياة ما تدرك به ما تؤمر، بدليل قوله تعالى: ((يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ))، أي: من الفضل الذي أعطيناه أن نادينا الجبال إذا سبح، وإذا وحد، وإذا نزه، وإذا ذكر داود ربه أن ترجع معه تسبيحه، وترجع معه ذكره، فكان هذا مؤكداً للأول، ولا حاجة لكل تلك المعاني التي قالها من استبعد أن تتحرك الجبال وأن تعي، والله يقول: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، وهذا من ذاك.
فمن المعجزات التي آتاها الله لعبده داود أنه نادى الجبال وأوحى إليها بأن تسبح معه، وداود في مزاميره في الزبور المنزل عليه، كان له من جمال الصوت ما لا يكون لمجموع آلات الطرب، فالله جل جلاله يزيد في الخلق ما يشاء، وفسروا (يزيد في الخلق): الصوت الحسن، وهناك قراءة خارج السبعة (يزيد في الحلق).
وإحدى الشهيرات من مصر بجمال الصوت عالمياً هلكت، وكانوا يقولون: بأن حنجرتها فيها من أنواع العروق والشرايين ما لم يكن في جميع أنواع آلات الطرب، حتى إن شركة عالمية من شركات الطرب اشترت منها حلقها بعد موتها بكذا وكذا مليون، لترى ما هي الشرايين الزائدة، وتبني عليه معارفها وعلمها، ولكن هذه ماتت بسرطان الحلق، فذهبت الشرايين في حياتها، وانقطع الصوت في حياتها، وعندما ماتت كان هذا الحلق وهذه الشرايين كتلة مريضة، اختلطت بالقيح وبالصديد.
وداود عليه السلام قالوا عنه: أكثر مما قالوا عن هذه.
وهذا يرى في بعض الناس، فإذا تكلم أحدهم مجرد كلام تجد في صوته النغمة، وتجد جرساً، أما إذا تلا القرآن فتجد شيئاً عجيباً غريباً، وقد استمع نبينا عليه الصلاة والسلام يوماً إلى أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن الكريم، فلما أصبح قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)، وكان أبو موسى مشهوراً بصوت إذا سمعه الطير سقط بين يديه، صوت يحمل له الإنسان والحيوان، وينصت إليه من يفهم لغته ومن لا يفهمها من الأعاجم.
وأدركت وأنا صغير بأرض الشام منشداً، عندما يتغنى بالقصائد الإلهية أو المدائح النبوية تجد الطير يتجمع من أمكنة مختلفة، ويترامى بين يديه، ولا يهابنا ولا يهاب الناس، وقد يكون أيام برد شديد بأرض الشام، ونوافذ الغرف مغلقة من شدة البرد، ولكن البلور من الخارج فتجد الطير يترامى على البلور ويدخل أحياناً يرتمي بقوة ويصرخ ويموت.
وهذا ما قاله الله لنا، وكل ما قال الله هو حق، وهذا الحق يتكرر مع الأيام والسنين والقرون، وإلى عصر الناس هذا.
((وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ))، أي: كما تفضلنا عليه بأمرنا للجبال أن توحد معه، وأن تسبح معه، كذلك الطير، والألف واللام للجنس، أي: جميع أنواع الطيور، على كل أشكالها، كان داود إذا تغنى بتوحيده، وإذا رفع صوته بالتسبيح بمزاميره وبالزبور المنزل عليه تجد البهائم والطير والجبال والجمادات والمتحركات كلها تتحرك متأثرة بصوته، وتسبح معه، وهذا من المعجزات.
((وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)) الحديد معروف، جعله الله ليناً بين يديه، قالوا: كان كالعجينة.
ثم هل هذا التليين معجزة له بمجرد مسحه أو كانت له القوة في ذلك؟ قال بعض المفسرين: كانت له من القوة ما إذا مسح الحديد صنع به ما يصنع بالعجين، وأنه يأتي إلى قضبان الحديد ويلويها كما شاء، ويصنع منها ما شاء، فإن كان ذلك قوة فهي من الله، فهو الذي ألانها من أول مرة، إذاً: فهي كذلك معجزة من الله.
(أن اعمل سابغات)، ألان له الحديد ليصنع السابغات، وهي الدروع الكوامل الساترة لكل البدن، والدرع هي تلك اللبسة التي يلبسها المحارب، ويغطي بها جميع جسده من الرأس إلى القدمين، ولا يبقي إلا فتحة صغيرة في عينيه، وليس بارز العين حتى لا تضرب بسهم أو برصاص.
فالله ألان له الحديد، وأمره ((أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ)) أمره وعلمه كيف يصنعها، والسرد: هو نسجها وصنعها، يقال لدروع الحرب واللأمة: سراد، وأصل السرد: التتابع، وفي المغرب نقول للمعيد: سارد، أي: يسرد الكلام بعضاً بعد بعض ما دام يؤمر بذلك.
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (لم يكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديثكم سرداً)، أي: لا يقول الكلمات متتابعة، ولا يخلط كلمة بكلمة بحيث يضيع بعض كلامه، ولكنه كان عليه الصلاة والسلام كما وصف أنس بن مالك، وكما وصف غيره من الصحابة إذا قال كلمته أعادها ثلاثاً لتفهم عنه، وإذا قالها تأنى بها تأنياً، حتى إذا أراد العاد أن يعد الحروف التي ينطق بها لعدها، ومع الفصاحة والبلاغة أوتي جوامع الكلم، فكان سيد البلغاء وسيد الفصحاء.
((أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ)) أي: اصنع سابغات، وأسبغ الوضوء أي: أتمه ولم يترك عضواً بدون وضوء، وأسبغ الله عليه النعمة أي: أتمها.
فسابغات: أي: دروع كوامل.
((وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ)) أي: عندما تصنع جرساً وتدخل حلقة في حلقة قدر في السرد، أي: لا تصغر المسمار، فتتقلقل حلقة داخل مسمار، وربما تتفكك تلك الحلقات، ولا تغلظها فتكسر الحلقة، وبالتالي تنكسر الدرع، فلا تصون ولا تحصن المقاتل والمدرع.
قالوا: إن داود كان من عادته -وهذه العادة كان يفعلها عمر أيضاً رضي الله عنه- يخرج ليلاً فيتحين الرجال الذين لا يعرفون داود، فيسألهم كيف داود بينكم؟ فقد كان حاكماً وكان مع حكمه نبياً، فكانوا يصفونه بالخير ويثنون عليه، وجاءه ملك في صورة إنسان فسأله: كيف داود واليكم بينكم؟ قال: نعم الرجل، لو استغنى عن العيش ببيت مال المسلمين، وإذا بداود يفزع فيسأل ربه أن يعلمه صنعة يعيش عليها، فعلمه صنع الدروع، قالوا: كان يصنع الدرع في يوم وليلة، ويبيعه بستة آلاف، وهذه قد تكون من الإسرائيليات، وقد يكون لها أصل، فيأكل الثلث ويتصدق بالثلث، ويضع الثلث في بيت المال، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري ومسلم: (خير طعام الرجل ما كان من صنع يده، وكان داود يعيش بصنع يده)، والصنعة كانت الميزة الفارقة بين العلماء قديماً وحديثاً، وأدركنا شيوخنا في أرض المغرب وأرض الشام فيهم الخياط وفيهم المزارع، وفيهم الحداد، وفيهم وفيهم، فيعيشون على كسب أيديهم، لذا استطاعوا أن يعيشوا بلا رفاهية ولم يأخذوا من بيت المال، فقد يكون خليطاً من حلال وحرام، ولم يأخذوا الهدايا ولا الصدقات.
وهكذا كان علماؤنا في سلفنا الصالح وشيوخنا، وإن كان الخير لم ينقطع إلى يوم القيامة، ولا يزال الصالحون يعتمدون على صنعة أيديهم فيعيشون بها مع الزهد والورع.
لقد كان داود كما كان ولده سليمان لا يشبعان إذا أكلا قط، وهكذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام، بل كان نبينا في ذلك القدوة والأسوة والمثال العالي، وكان يأمر الناس بما هو أصح لأبدانهم وأحسن لدينهم، فقد كان يقول عليه الصلاة والسلام: (يكفي ابن آدم أن يأكل لقيمات، فإن كان ولا بد فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس).
وكان يقول: (ارفع يدك من الطعام وأنت تشتهيه) أي: لا تشبع، ولا تستكمل شهوتك، لأن المعدة ما دامت تشتهي فمعناه أنك صحيح، فإذا أملأتها يوشك أن تمرض بالتخمة، وقد مات الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك بالتخمة، وغيره كذلك.
وكان الطبيب العربي الحارث بن كلدة يقول: المعدة بيت الداء، والحمية أصل الدواء.
والمعدة تكفيها لقيمات لقيام الحياة، وقلة الطعام أصح للبدن، وأحد للذهن، وأما التخمة فإنها تبلد الذهن، وتكثر النوم، وتمرض الأعضاء، وتفسد المعدة مع الأيام، وقلما تشفى من القرحة، نسأل الله السلامة.
وقوله تعالى: ((وَاعْمَلُوا صَالِحًا)(217/2)
تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر)
قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:12].
أي: كما سخرنا الجبال لوالده تسبّح معه، وكما آتينا داود تسبيح الطير، وألنّا له الحديد، وعلمناه صنعة اللبوس، فكذلك ((وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ)) أي: آتينا سليمان الريح وسخرناها له.
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} سخر له الريح فكان يضع على الريح بساطاً، وأخشاباً تحمله وتحمل جميع جنده، وكانت الغدوة الواحدة عندما يطير ببساطه يقطع فيها ما يُقطع على الدواب مدة شهر، والغدوة: الصباح، والرواح: المساء، وكان يقطع في رواح واحد ما يقطعه الراكب وما تقطعه الدواب في مسافة الشهر، وهذا نحن نفعله اليوم.
وهذا يؤكد ما قاله أحد كبار العارفين من أصحاب الرقائق والآداب والمعرفة قال: كل ما ذُكر في القرآن معجزة لا تنتهي الدنيا حتى تُصبح شيئاً عادياً في متناول كل الناس، قال هذا ولم يستدل، ولكن كان ذلك من بديع معرفته بالله ونظره البعيد.
فآخر الأنبياء قد مات عليه الصلاة والسلام ورسالته لا تزال قائمة، وهو رسولنا كما كان رسول من قبلنا، وهو رسول من بعدنا، فالقرآن أُنزل عليه وأُمر به كل من معه وكل من يأتي بعده إلى يوم القيامة، فعندما يقول ربنا: يا أيها الناس! فنحن من المخاطبين بيا أيها الناس، وإذا قال ربنا: يا أيها الذين آمنوا! فنحن من المخاطبين بذلك، ومن هنا كان سلفنا من مفسري كتاب الله يقولون: إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فأعرها أذنك، فأنت المخاطب، فانظر ماذا يقول لك ربك.
والمعجزات قد انتهت وبقيت الكرامات، لكن الكرامة لا يُتحدى بها، والمعجزة للتحدي، والتحدي لم تعد له حاجة.
فقال هذا العارف: لا تنتهي الدنيا حتى يصبح كل ما مضى من معجزة شيئاً عادياً، وبساط سليمان منها، فنحن نسافر اليوم بأسرع من بساط سليمان، وأكثر الطيران اليوم عند من لم يؤمن بالله، وإن كان المخترع للطيران مسلم عربي وهو عباس بن فرناس من الأندلس، حيث صنع لنفسه جناحين كالطائر، ودرّب نفسه على ذلك زمناً إلى أن طار وحلّق وقطع مسافة، وحاول النزول فعجز؛ لأنه فكر في أجنحته وفي صعوده ولم يفكر في هبوطه، والطائر له ذنب يساعده على الهبوط، ولذلك تجد جميع الطائرات فيها ما يسمى بالمؤخرة كذنب الطائر، وهو يساعد الطائرة على النزول، ومقاومة ضغط الرياح والعواصف، فلما حاول النزول لم يستطع، فبقي يطير إلى أن عجز ووقع، وقبل أن يموت قال: غفلت عن حكمة وجود الذيل للطائر، وعندما مات لم يتشجعوا لأن يتابعوا عمله، وهابوا الموت ثم عادوا يفكرون الآن في صنعه، ويوشك أن نفاجأ به يوماً، وعندها سنحتاج أن نعمل أبواباً في الأسطح؛ حتى لا ينزل علينا طائر الإنسان، فهذا الطيران الذي كان بالنسبة لسليمان معجزة وذُكر في القرآن معجزة أتى هذا العصر ولم يبق معجزة، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ} [فصلت:53]، وربنا قال هذا منذ 1400 سنة، {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، والطيارة صنعها الإنسان نعم، ولكن من الذي أعطى الإنسان هذا العقل ليصنع هذه الطائرة؟ فلو فقد صانع الطائرة أو سائقها عقله والطائرة تطير لذهبت الطائرة بجميع من فيها، وهم لم يعطوه عقلاً احتياطياً حتى إذا ذهب عقله استعمل العقل الثاني، وهيهات، فلم يصنع هذا إلا الصانع الأول واهب الحياة والجسد وجميع حواس الجسد.
ومن المعجزات التي ذكرها القرآن قصة بلقيس عندما قال أحد الجن لسليمان: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39]، وقال الله عن الثاني: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40] أي: أنا آتيك بعرشها قبل أن يرتد أهداب عينيك عاليها لسافلها، فكان العرش موجوداً في فلسطين في القدس وكانت بلقيس في صنعاء في اليمن، وبينهما آلاف الكيلو مترات، والآن هذه الصواريخ التي وصلت القمر تقطع الثلاثين والأربعين ألف كيلو متر في ثانية وقد فعلت، والطيران منذ اكتشف وأدركناه كان أشبه بجرادة، ثم تطور إلى أن وصل الآن إلى ما يسمى بطائرة كونكورد التي تقطع ما بين المشرق والمغرب في ثلاث ساعات، والقرآن كله معجزات في أخباره وأنبائه، والسنة النبوية أوسع؛ لأنها هي البيان والشرح.
إن الصحابة آمنوا على معجزات شاهدوها وعاصروها، وآمنوا بما يأتي تصديقاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ونحن كذلك، فقد أدركنا في حياتنا معجزات ذكرها القرآن وتحققت في أيامنا، فآمنا بها شهوداً وحضوراً ومعاصرة، وآمنا بالمعجزات السابقة التي وردت عن سلفنا إلى التابعين إلى الصحابة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.
والله قال عن قبل يوم القيامة: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، أي: إذا بها بعد ذلك تُصبح حصيداً كأن لم تغن بالأمس، كالزرع حين يُحصد وكأنها لم تكن؛ فأخبر عن الدنيا أهلها سيخدمونها وسيكونون عبيداً لها ويحرصون على أن يزخرفوها حتى يظنوا أنهم قدروا عليها، ونسمع اليوم الكثير من كلام جبابرة الأرض وطغاتها من الكفرة من الحكام وخاصة ممن يسمونهم الدولتين العظيمتين من أنواع الجبروت، فهذا يهدد هذا ويقول: عندي من الأسلحة ما أستطيع أن آتي لقارتك ودولتك وأمحوها من الوجود، وتقول الدولة الأخرى مثل ذلك؛ وهذا صحيح، ونحن لا نكذبهم، فقد اخترعوا من أنواع السلاح والتدمير والبلاء ما نخافه، وما يكاد يجف معه الريق في حلوقنا، ومع ذلك فلن يقيموا هم الساعة، وإنما الله سيقيمها، وسيرجع سلاحهم عليهم، والمسلمون بعد ذلك عليهم أن يأخذوا هذه الدروس من الذل والهوان والغلبة؛ لأنهم ابتعدوا عن الله وفروا عن كتابه وجعلوا القرآن وراءهم ظهرياً، تركوا محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه، وذهبوا لمن يسمونهم: فلاسفة القادة، وعندما نقرأ سيرة أحد هؤلاء في هذا العصر نجدها كلها فساد وفجور وسفك للدماء، وفي برلماناتهم وندواتهم يُعلنون مُبيحين أقبح وأخس أنواع الفواحش، فقد أباحوا اللواط وأصبح قانوناً، وأباحوا تعدد الأزواج للزوجة الواحدة وأصبح قانوناً، وأباحوا ما لا يكاد يخطر بالبال، وتحللوا تحللاً لم يسبق لا في روما قديماً ولا فيمن تحلل من تلك الشعوب التي أصبحت في أمس الدابر، والتي مقتها الله عندما أرسل الله محمداً عليه الصلاة والسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نظر الله إلى الأرض شرقها وغربها فلعن هؤلاء وهؤلاء إلا بقايا من أهل الكتاب) ثم أكرم من أكرمه بالإيمان بالله وبنبينا عليه الصلاة والسلام، فإذا بالأرض تتبدل غير الأرض، وإذا بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار يفتح الله لهم البلاد خلال خمسين عاماً من أقصى الهند إلى أقصى بلاد الغرب في الأندلس والبرتغال والجزء الكبير من فرنسا وأوروبا والصين، فكانوا أئمة الناس ومعلميهم وسادتهم وناشري العدل بينهم، ولكن جاء من بعدهم كما قال الله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59]، فأنذرهم الله بالتسويف البعيد فقال: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] ولا حول ولا قوة إلا بالله، فكما أريتنا يا ربنا ويا خالقنا قدرتك فأرنا عفوك، اللهم حوالينا ولا علينا.
قال الله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ:12]، والقطر: النحاس، أسال الله له عيناً من نحاس تجري كما تجري المياه في العيون والأنهار، قال تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ:12] فجعل للنحاس عيناً سالت وجرت كما تجري عيون الماء، وأخذ يصنع منها ما سخّر له الله به الجن، فأخذوا يصنعون له ما قاله الله: ((وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ))، أي: من الجن، ((عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ)) فقد سخّر له الرياح فكانت تطير به وبجنوده، وسخّر له الجن فكانوا خدماً وجنداً له، وتحت قهره وسلطانه وإذلاله، وكلّف الله ملكاً بيده عصاً من نار يضرب أي جن من هؤلاء الجن يعصي أمر سليمان بتلك العصا فيحترق، وذاك معنى قوله تعالى: ((وَمَنْ يَزِغْ))، أي: ومن يمل ويعصي ويخالف، ((نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ)) أي: يذقه من النار المتسعرة الملتهبة الحارقة.(217/3)
تفسير قوله تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب)
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].
أي: أخذ يأمر الجن بأن يصنعوا من هذا النحاس العجائب، فيصنعون و ((يَعْمَلُونَ لَهُ)) أي: لسليمان ((مِنْ مَحَارِيبَ))، جمع محراب، والمحاريب قيل: هي المساجد والمعابد، وقيل: هي القصور، وفيها غرف تُعتبر صدر الدار كما نقول: صالون، ويُصعد إليه بدرجات، أي: يصنعون الصروح والقصور من النحاس ويصبّونه صباً كما نصب نحن اليوم الصب؛ ويصنعون له من ذلك النحاس ما يريد ((مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ)) جمع تمثال وهو الصور، صور الشجر والبشر والملائكة والأنبياء والصالحين، وكان ذلك في شريعته جائزاً، وهو ما تسلسل بعد ذلك إلى أن تغيروا وبدلوا وأصبحوا يعبدون هذه التماثيل، فجاء الإسلام الخاتم المهيمن فحرّم هذا، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين، وهو عند موته قال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود والنصارى، كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه التصاوير) أي: جعلوا في كنائسهم التماثيل والصور.
والجفان: جمع جفنة وهي قصعة الطعام، فكانوا يصنعونها كبيرة كالجواب، وهي جمع جابية، والجابية: الحوض، وهو الحفرة الكبيرة، قالوا: كان يأكل على جفنته ألف إنسان، ويصعد عليها بالسلالم، وفي عصرنا الكثير من أهل الكرم من شيوخ العرب من الأمراء والسادة من له من هذه الجفان ما لا تملأ إلا بمائة جمل ومئات الشياه.(217/4)
تفسير سورة سبأ [12 - 14]
سخر الله سبحانه وتعالى الجن لنبيه ورسوله سليمان عليه السلام، وسخر له الريح تحمله هو وجنوده فتقطع بهم في الغدوة مسافة شهر، وفي الروحة مسافة شهر، وفي قصة موت نبي الله سليمان عليه السلام دليل واضح وبرهان جلي على عدم معرفة الجن للغيب، فسبحان الذي تفرد بعلم الغيب وحده.(218/1)
تفسير قوله تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل)
قال الله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:12].
الآية متعلقة بما أكرم الله به آل داود، وقد مضى بعض ذلك في إكرام سليمان به، وأن الله سخّر له الريح تطير به وتحمل الأخشاب والسجاد فيما كان في الأصل يسافر إليه شهراً مشياً على الأقدام أو على البهائم أو على الدواب، فسُخّر ذلك لسليمان في ساعة، وقد مضى كل ذلك فكانت تطير به السجادة أو ما يصنعه من أخشاب في الهواء هو وجنوده وأتباعه ومن يرغب فيهم، ويقطع في ساعة ما تقطعه الدواب في شهر، فيقطعه بغدوة صباح أو بروحة مساء، وأسال الله وأذاب له عين القطر -أي: عين النحاس-، فكان يصنع منه ما يشاء، وسخّر الله له الجن تعمل بإذن ربه بين يديه ما يشاء، ومن يحد عن أمر الله ويخرج عن طاعة سليمان يذقه الله من عذاب السعير، أي: يعذّبه عذاباً متسعّراً ملتهباً مهيناً أليماً.
قال تعالى: ((يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)) كانت الجن التي سخّرها الله تعالى لسليمان يعملون ويصنعون ما يشاء، ويبنون له القصور، ويصنعون له البساتين، ويزرعون فيها ما يشاء من أشجار وثمار وحبوب، وقد نص الله تعالى على ما هو أكثر من ذلك جهداً، فقال: ((يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ))، جمع محراب، والمحراب: صدر المنزل والقصر والمسجد، وهو غرفة يُصعد لها بدرج كالصالون باعتبار الناس اليوم واصطلاحهم، فكانوا يبنون له معابد وقصور ومساجد وما يشاء، ويستخدمون في قطع الحجارة، ويعملون له ذلك مرغمين، وكلّف الله ملكاً يُعاقب كل جني خرج عن أمر سليمان، فيضربه بعصاً من نار فتحرقه.
قال تعالى: ((يَعْمَلُونَ لَهُ)) أي: لسليمان، ((يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ))، جمع تمثال، والتماثيل: الصور، فكانوا يصنعون له صوراً من أخشاب ومن نحاس ومن أي مادة شاءها سليمان، وكانوا يصنعون صور الأنبياء والصالحين في المساجد؛ ليكون ذلك عندهم أدعى للعبادة، وكان هذا جائزاً في دين سليمان، ثم بعد ذلك جاءوا إلى هذه الصور والتماثيل فعبدوها وجعلوها شركاء لله وأنداداً، فجاء الإسلام فحرّم ذلك تحريماً باتاً قاطعاً، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم من يصنع ذلك، وفي حديث أم حبيبة وكانت في الحبشة مهاجرة مع زوجها الذي ارتد عبيد الله بن جحش ثم تزوجها بعد ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام، قالت له: يا رسول الله! تركت الناس في الحبشة يصنعون صوراً في معابدهم، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: (أولئك شرار الخلق) فلعنهم عليه الصلاة والسلام وقال: (إنهم يوم القيامة يقال لهم أحيوا هذه الصور) وما هم بمحييها، فهم أعجز من ذلك وأضعف، وإنما أُذن بالرقم في الثوب، وهو ما يسمى اليوم رحلاً، وما سوى ذلك ممنوع غير مأذون به بحال من الأحوال.
والجفان: جمع جفنة، والجفنة: القصعة، فكانوا يصنعون له القصعة من الطعام تكفي ألف آكل وألف ضيف، ((وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ)) جمع جابية، والجابية هي: الحوض الذي يملأ بالماء أو السفرة الواسعة في الأرض، وقد كان لسليمان جفان وقصاع يحيط بها ألف آكل، يجمع عليها جنوده وضيوفه وأهل البلد إن شاء، وكان يصنع هذا الجن الذين سخّرهم الله لسليمان وجعلهم له عبيداً يصنعون له ما يشاء، قال تعالى: ((مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ)) جمع جفنة أي: قصعة، ((كَالْجَوَابِ)) جمع جابية وهي: الحفرة والحوض الذي يسع من الماء ما عسى أن يسع، ((وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)) قدور: جمع قدر، وهي ما يطبخ فيه الطعام، راسيات: ثابتات في الأرض، وكانوا يصعدون إليها بسلالم ويضعون فيها المئات من الشياه والعشرات من الإبل ومن البقر، ويضعوا فيها من الطعام من أشكاله وألوانه، وكانت راسيات ثابتات، بحيث لا يُخاف عليها أن تميل أو تنكسر، كل هذا كان يصنعه الجن لسليمان، كما قال تعالى: ((يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا)) يقول الله لهم: اعملوا وأطيعوا ربكم واعبدوه واتقوه واعملوا الصالحات، ودعوا ما سوى ذلك من الباطل ومن الفساد ومما لا يليق، قال تعالى: ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا)) أي: اعملوا يا آل داود شكراً، وشكراً مصدر، أي: اشكروا الله شكراً، فهو مفعول مطلق منصوب على المفعولية المطلقة، أي: اشكروا الله في عملكم وفي أقوالكم، والشكر كما يكون بالأركان يكون باللسان، فعندما أكرم الله داود بما أكرمه به وأكرم سليمان بملك لا ينبغي لأحد من بعده قال لهم: ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ)) وآل داود: داود وسليمان وأزواجهما وأولادهما، وفي الحديث: (إن داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه)، وقالوا: كان سليمان يقسم العبادة بينه وبين آله بحيث لا يوجد وقت إلا وأحدهم مصلياً، البعض في النهار والبعض في الليل، ولا ينقطعون عن ذلك البتة، فكان لا تريد أن ترى داود وسليمان وقومهما في العبادة وفي الصلاة وفي الطاعة إلا وجدتهما كذلك.
قال تعالى: ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا)) والشكر يكون بالعمل بالأركان ويكون باللسان فمن صلى أو صام أو زكى أو عمل الصالحات فعبادته عملية، ومن شكر ربه وحمده جل جلاله بلسانه يكون كذلك شاكراً، والشكر فرض على كل مسلم، إذاً الشكر هنا العبادة، قال تعالى: ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا)) أي: اعملوا الطاعة، والشكر منصوب على أنه مفعول مطلق، أي: اشكروا الله شكراً بالدوام على العبادة وعلى الصلاح والتقى والصلاة لله والعبادة له في جميع الأحوال.
قال تعالى: ((وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)) أي: إن الناس في العبادة قلة، كما قال تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14] وقد سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يقول: اللهم اجعلني من القليل، فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال: يا أمير المؤمنين! دعوت الله أن أكون من تلك القلة والثلة التي يقول عنها الله تعالى: ((وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ))، فرجوته أن يجعلني من هذه القلة الشاكرة العابدة، فقال عمر: كل الناس أعلم منك يا عمر! وهذا هضم للنفس وتواضع منه بأن القليل الذي قالها هذا لم يفهم ويعرف معناها.(218/2)
تفسير قوله تعالى: (فلما قضينا عليه الموت)
قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14].
كان سليمان له خلوات في العبادة، فكان يدخل معبده فيبقى فيه سنة أو أكثر، وقد يبقى شهوراً وأسابيع، فينقطع عن الناس وينقطعون عنه، ولا يأذن لأحد بالدخول، وكانت تنبت في مكان سجوده كل يوم شجرة -كما زعموا- فكان يسأل الشجرة: ما اسمك ولم أنت؟ فكانت تقول: هي لدواء كذا، أو في ثمرة كذا، فيأخذها وينقلها إلى البساتين ويكتب اسمها والدواء الذي تصلح له، والداء الذي يصلح له دواؤها إلى أن نبتت في مكان سجوده يوماً شجرة فقال لها: ما أنت؟ قالت: الخروب- فقال: لعلها جاءت لتكون سبب خراب بيته، والناس يتشاءمون بالخروب، والتشاؤم ليس بصالح، فالتساؤل مقبول، وأما التشاؤم فلا- فأخذ اسمها وقال لها: ما أنت إلا للخراب، فقطعها وصنع منها عصاً هي المنسأة، وصار يعتمد عليها، فلما قُدِّرت وفاته دخل إلى خلوته، وإذا به وهو على كرسيه يموت وهو متكئ على عصا، ((فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ)) أي: لما سبق قضاء الله عليه بأن يموت كما يموت كل حي، ((مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ))، ما دل الجن على أن سليمان مات إلا الدابة التي أكلت المنسأة التي كان يعتمد عليها، ومعنى ذلك أن الجن الذين سُخّروا لسليمان كان يظهر كثير منهم عصياناً، فكان يربطهم بالسلاسل والأغلال، زيادة على العقاب الذي كانوا يعاقبون به من الملك المكلّف بهم، فكان من زاد تمرده ضربه الملك ضربة أحرقته، وكان الكثير منهم في السلاسل والأغلال يعملون؛ ليكفوا شرهم عن إيذاء الإنسان، فلما دخل سليمان خلوته قُدّرت وفاته، وبقي ميتاً سنة وهو جالس على كرسيه والعصا بيده معتمد عليها، وإذا بالجن تُطل عليه من الكوة ومن النوافذ فترى العصا في يده وتراه جالساً فلا تظن إلا أنه حي، فلبثت في العذاب المهين وهي في السلاسل والأغلال مع العذاب تصنع له القصور والصور والقصاع، وتصنع له ما قال الله تعالى: ((يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ))، ومما لم يذكره الله جل جلاله، ثم أشرفوا عليه يوماً وإذا به يسقط على الأرض، فرأوه قد خرّ على وجهه فعلموا إذ ذاك أنه قد مات، وهذه العصا لطول متنها مكثت الأرضة تنخرها سنة كاملة، وهذه الأرضة دويدة تعيش من نخر الخشب والعيدان، وتموت بسببها أعظم الأشجار وأعظم الأبنية إذا كانت من خشب، فترى تلك الأخشاب والأشجار تنخرها الأرضة ودويدة الشجر والأخشاب فإذا بها مع الأيام تسقط وكأنها لم تقف يوماً، فسليمان كان متكئاً بجهده على العصا فبقيت العصا حاملة ثقله، فلما دخلتها الأرضة إذا بها تعجز عن حمله فسقط سليمان، قال تعالى: ((فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ)) أي: تأكل عصاه الذي يعتمد عليها، فهذه الأرضة هي التي دلّت الجن، أي بسببها وبسبب أكلها للعصا لم تبق هذه العصا حاملة لسليمان وثقله، فسقطت العصا وسقط سليمان معها، وأدركوا أنه مات منذ سنة عندما أخذوا العصا ووضعوا عليها الأرضة وانتظروها حتى تأكل مثلما أكلت فوجدوه قد مضى عليه سنة، فعلموا أن المأكول الأول قد مضى عليه سنة، أي: مات سليمان قبل عام وهم لم يدركوا ذلك.
قال تعالى: ((مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ)) خرَّ: سقط عن غير رضا منه، فلم يقعد من نفسه ولم يحاول الجلوس، ويقال على من سقط دون إرادة منه خرّ، ((فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ)) والجن كانت تستعبد الإنس وكانت توهمهم أنها تطّلع على الغيب، وكانت تسترق السمع من كلام الملائكة عندما تحاول الصعود إلى أعلى الأجواء، فيرميها الله بالشهب فتتساقط محترقة، وكان هذا قبل ظهور الرسالة المحمدية وقبل ظهور نبينا عليه الصلاة والسلام، ثم أدرك الجن في أنفسهم بعد أن رأوا سليمان قد مضى على موته عام وهم لم يدركوا ذلك ولم يعلموه أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ويطّلعون على ما هو بعيد عنهم لما لبثوا ولما أقاموا في هذا العذاب المهين، من تسخير سليمان لهم، واستعباده لهم وتكليفهم بأشق الأمور وأصعبها، وتبينت كذلك الإنس الذين كانوا يثقون بالجن ويعتقدون بهم ويصدقونهم في أخبارهم وفي كهاناتهم، فتبيّن الجن في أنفسهم وتبيّن غيرهم أن الغيب منفرد به الله، لا يعلمه ملك ولا جن ولا إنس، ولا يعلم الغيب إلا الله، ومن أراد الله أن يعلمه ذلك، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27]، وليس الجن منهم.
قال تعالى: ((فَلَمَّا خَرَّ)) أي: فلما سقط سليمان تبين للجن وقد بقوا سنة وسليمان ميت وهم لا يدركون ذلك أنهم لو كانوا يعلمون الغيب في زعمهم لما لبثوا وأقاموا في العذاب المهين، وقد رأوه لمدة عام كامل على صورته لم يتغير بالموت، وهذا يؤكده قول النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال له بعض أصحابه جواباً لكلامه: (إن الله كلّف ملكاً أن يبلغني سلام الناس وصلاتهم علي حيث كانوا في الأرض، فقالوا له: يا رسول الله! كيف وأنت قد أرمت -أي: مت وفنيت- قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) وهذا من الأنبياء، والله يخبر جل جلاله أن سليمان مكث ميتاً سنة، وما أدركوا ذلك ولا فهموه ولا عقلوه، وما بقي سليمان تلك السنة وهم يظنونه حياً إلا لأن جثته لا تزال على حالها وقت الحياة، وللإمام البيهقي كتاب مشهور اسمه: حياة الأنبياء، فهم يُرزقون عند ربهم أحياء الحياة البرزخية، وأجسامهم لا تبلى في الأرض ولا تصبح رمماً ولا تنتهي، ومع ذلك قال الله لنبينا عليه الصلاة والسلام: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وكان ذلك عندما انتظر أعداؤه من كفار قريش ومن كفّار الناس ورجوا موته وقالوا: أيام تنقضي ويموت وكأنه لم يكن، وأخذوا يتربصون به الدوائر، فقال الله له: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وقال الإمام الشافعي وقد تمنى موته خصومه وأعداؤه فقال لهم: تمنى أناس أن أموت وإن أمت فتلك طريق لست فيها بأوحد أي: تمنى لي أقوام أن أموت، وإذا أنا مت فلست وحدي الذي سأموت، فسيموت معي خصومي وأعدائي، وعند الله تجتمع الخصوم.
((فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ)) أي: كانت دلالة الموت بسبب هذه الدويدة، ((إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ))، إلا الأرضة، ((تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ)) المنسأة: العصا، وزعم أقوام من المفسّرين ومن غيرهم: أن كلمة منسأة هي بلغة الحبشة العصا، وهؤلاء أناس يلذ لهم أن يأتوا إلى كلمات من كتاب الله فتارة يحيلونها عن عربيتها، فيقولون: إنها حبشية أو رومية أو غيرها، وكل ذلك لا أصل له، وإنما هو كلام لا دليل عليه، وقد قال الله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف:2] وكرر ذلك مرات في كتابه، والإمام الشافعي في كتابه العظيم المسمى الرسالة المطبوع مرات سفه القول بأن في القرآن كلمات غير عربية ورد على قائليه، وقال: كثير من اللغات فيها كلمات تتشابه، وتشابه هذه الكلمات ليس هناك دليل يدل على أصلها منهم، وإن صح أن في الحبشية كلمة منسأة تعني العصا فلم لا نعكس ونقول: إن الحبشة أخذوها عن العرب؟ وإذا وجدنا كلمة عند الروم أو غيرهم فلم لا نقول: هم أخذوها عن العرب؟ وما جاء الإسلام إلا بعد أن كانت لغة العرب قد نضجت ووسعت القرآن جميعاً بما فيه من معان علوية ودينية ودنيوية، ووسعت قبائل العرب جميعاً، وهي أوسع لغات الأرض على الإطلاق، فلسان العرب مطبوع في عشرين مجلداً ضخماً، وهناك كتاب لا يزال مخطوطاً في الأندلس اسمه الذر والعالم في مائة مجلد، لا يزال محفوظاً بكل أجزائه، وهو في لغة العرب من الذرة إلى العالم، كما يدل اسم الكتاب على أن هذه الكلمة وما لها من اشتقاقات تكذب هؤلاء الذين زعموا ذلك، فالمنسأة: هي من نسأ، أي: أجّل وأخّر، يقال: أنسأ الله في أجلك، أي: أطال الله عمرك وأجّل أجلك إلى سنوات وسنوات، ويقال: النسيء، وهي كذلك في كتاب الله، أي: الشيء المؤخر والمؤجّل، فكلمة النسيء والنسي والمنسأة وأنسأ فيها من الأفعال ومن الأسماء والمصادر ما يؤكد بالقطع على أنها لفظة عربية، لها اشتقاقاتها في الأفعال والأسماء، والقرآن جميعاً ليس فيه كلمة إلا عربية كما أكّد الإمام الشافعي، وسفه قول كل من قال بأن فيه كلمات غير عربية.(218/3)
تفسير سورة سبأ [15 - 19]
يقص الله سبحانه وتعالى علينا في كتابه الكريم قصص الأمم السالفة، وما امتن الله سبحانه وتعالى عليهم من الخيرات والنعم، وسلبه لهذه النعم، واستبدالها بالعذاب والنقم بسبب كفرهم وطغيانهم وجحودهم، ومن هذه الأمم قوم سبأ الذين كانوا في أرض اليمن.(219/1)
تفسير قوله تعالى: (لقد كان لسبإ في مسكنهم)
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَة جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15].
ننتقل من الكلام عن سليمان وداود عليهما السلام إلى الكلام عن سبأ، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] كان لسبإ في مسكنهم قرئت (مَساكِنهِمْ)، و ((مسكنِهِم))، على صيغة المسجد، فلقد كان في مساكن سبأ في أرض اليمن ((آيَةٌ)) أي: علامة على قدرة الله جل جلاله، كما كانت هذه العلامات فيما سخّر الله لداود ولسليمان، وكذلك سخّر لهؤلاء، وقد كانوا مؤمنين صالحين قبل أن يبدّلوا ويغيروا.
قال تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ)) وقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فروة الغطيفي فقال: يا رسول الله! ما سبأ؟ أرجل هو أو امرأة أو أرض؟ والحديث في مسند أحمد قال: (سبأ رجل كان له عشرة من الأولاد، تيامن ستة وتشاءم أربعة) أي: سكن في اليمن ستة وسكن في الشام أربعة، وهؤلاء الذين سكنوا اليمن أسسوا حضارة كبيرة وبنوا السدود؛ لأن أرضهم كانت جبالاً، واستفادوا منها، وجمعوا المياه التي تأتي من العيون والتي تنزل من السماء والتي تجمعها الوديان والوهاد فجعلوا منها سدوداً، وقالوا إن الذي فعل ذلك هي بلقيس صاحبة سليمان، وقد كانت ملكة سبأ، وسبأ أرض على مرحلة من صنعاء عاصمة اليمن، انتبهت بذكائها إلى أن أرض اليمن يمكن أن تكون جناناً، ويمكن أن يكون فيها من الخصوبة ومن الفواكه ومن الأنعام ما يغني البلد ويغني جيرانها ويدع السكان يعيشون في رفاهية، ومن الماء جعل الله كل شيء حي، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] وانتبهت بأن مأرب هي بين جبلين فأتت بالصنّاع وبالمهندسين وبالأبّارين المعتنيين بالماء وبالمياه، ثم جاءت لهذه الطريق بين الجبلين، فجعلت جداراً سداً من جهة اليمين وسداً من جهة الشمال، وإذا ببحر من الماء يرتفع وجعلت له أبواباً في أعلاه وأسفله قالوا: الأبواب عشرة، إذا فاض الماء فتحت الباب الأعلى، فإذا نقص فتحت الذي يليه، إلى أن تفتح آخر باب، ومع كثرة المياه والأمطار والينابيع أصبح هذا السد بحراً من الماء العذب الزلال، فأصبحت هذه المياه تسقي الجنان والبساتين والدور والقصور وما هم في حاجة إليه، ثم عن يمين وشمال زرعت هذه الجبال والأراضي والقصور والدور والبيوت والبساتين، فكانت فيه جنتان عن يمين وشمال، أي: أشجار وجنان عن اليمين والشمال، عن يمين سد مأرب وعن يساره وفي الدور وحيثما تنقلت، ومن هنا سميت في التاريخ بالأرض السعيدة، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً).
وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (تعود) عاد في لغة العرب هو الرجوع إلى شيء سبق وكان، ومعناه: أن جزيرة العرب بما فيها اليمن كانت في العصور السحيقة جناناً متصلة وبساتين، وهذا سنجد أثره فيما يدل عليه قول الله في الآية الآتية.
فعاشوا زمناً في غاية ما يكون من الرفاهية والخصب وتنوع الفواكه والحبوب وكثرة المواشي والدواب وكل ما يشتهون، قالوا: وأرسل إليهم ثلاثة عشر نبياً، فكانوا مؤمنين مسلمين موحّدين، فحفظ الله عليهم دنياهم وخصوبة بلادهم وما فيها من رفاهية ومن حضارة.
قال تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ)) أي: علامة على قدرة الله فيما يريده.
قال تعالى: ((جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ)) (كلوا) أمر بمعنى الخبر، أي: يخبر الله بأنهم كانوا يأكلون من رزق ربهم مما رزقهم من المياه، والمياه ليسوا هم الذين خلقوها، وإنما استفادوا من خلق الله، وما خلق الماء إلا الله جل جلاله.
قال تعالى: ((كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ)) أي: الذي كان نتيجة الأمطار والمياه والغيث، وهكذا أصبحت بلادهم جديرة باسم الأرض السعيدة التي سعد أهلها بما يريدونه ويرجونه ويسعون فيه من هناء وحضارة وأرزاق دارة.
قال تعالى: ((كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ)) وبالشكر تدوم النعم، فكلوا مما رزقكم الله واشكروا الله تعالى على هذه النعم، اشكروه بالأركان وباللسان، وكما قال ربنا في كتابه المنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] فبالشكر تزيد النعم، {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
وجحود النعمة وكفرانها تجرّد المنعم عليه من النعمة، والعذاب على كفر النعمة زوالها، نعوذ بالله من الخذلان ومن السلب بعد العطاء.
قال تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] أي: بلدة طيبة بخيراتها وبمياهها وبفواكهها وبأرزاقها وبأنواع لحومها وبكل ما يشتهيه الإنسان في الأرض، وكأنها قطعة من جنان الآخرة، {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] أي: إن شكرتموه وأطعتموه وعبدتموه، وماذا يريد الإنسان أكثر من حسنة الدنيا والآخرة؟ وقد علمنا الله جل جلاله وعلمنا نبيه عليه الصلاة والسلام أن نُعيد هذه الآية ونكررها ونحن نطوف بالبيت المقدّس بين الركن اليماني والحجر الأسود: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، وقد قال هذا لسبأ: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} أي: البلاد طيبة، وفي الآخرة لهم غفران الله لذنوبهم، ومحو سيئاتهم، وقبول حسناتهم، ثم النهاية لهم بالجنان ورحمة الله دائماً.(219/2)
تفسير قوله تعالى: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم)
{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16].
وهكذا الله جل جلاله يقص علينا قصص الأمم السابقة وما أكرمهم به وتفضّل عليهم به من أرزاق دارة وهم موحدون مؤمنون، فإذا كفروا النعمة: وكفرانها الشرك بالله وترك الطاعات ومعصية رسل الله فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فإذا غيروا ما بأنفسهم من طاعة وتوحيد غير الله رحمته ومغفرته ورزقه إلى الغضب وإلى الجوع وإلى الخوف وإلى البلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة.
قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16]، فأعرضوا عن الله وعن شكره وعن طاعته وعن امتثال أوامر أنبيائهم، فعندما أعرضوا أعرض الله عنهم، وعندما نسوا الله نسيهم، وعندما أبوا إلا الجحود والكفران سلبهم الله النعمة، قال تعالى: ((فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ)) وسيل العرم السيل المعروف، والعرم: الشديد القوي، والسيل: المياه الجارية التي لا يكاد يقف في طريقها شيء، وقد أغرق الله تعالى قوم نوح بهذا، وأغرق هؤلاء فقال: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16]، والعرِم هو من باب إضافة الشيء إلى صفته، أي: الماء العارم، يُقال: شاب عارم، أي: شاب سيئ الخلق، والعرامة: الشدة.
و ((سَيْلَ الْعَرِمِ)) أي: السيل العارم الشديد القوة والضغط وجريان المياه، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:16]، ومعنى ذلك أن هذا السد الذي كان مرتفعاً عشرات القامات ولعله كانت تجري فيه السفن، سلطه الله عز وجل عليهم.
وهذه البلدة كانت طيبة الهواء وطيبة الروائح من الزهور والورود ومن أنواع الفواكه والثمرات، بحيث إن البعوض والبط والحشرات لا تعيش فيها، وقد كان الآتي من الخارج يأتي وفيه قمل، فلا يكاد يدخل هذه الأرض حتى يموت ما عليه من قمل وحشرات، وكانت الجرذان في كبر القطة الصغيرة، فأخذت تنازع القطط التي تريد أكلها، حتى خافت القطط وفرّت فتكاثرت الجرذان وتوحشت وأخذت تحفر السد من تحته، ومن عادة الجرذ أن يحفر في الأرض ومع مرور الأيام إذا بالمياه تنفجر من تحت، وإذا بشدة المياه تحيط بالسد وتخرج وتغرق الدور والبساتين، وتقلع الأشجار، وتصبح الأرض بعد أيام خراباً وكأنها لم تكن يوماً ذات جنان عن اليمين والشمال يأكلون منها أكلاً طيباً، وكانت فيها حياة طيبة رغيدة، ثم غار الماء فإذا بالبلاد يصيبها القحط والجدب والجوع والخوف، ولشدة الجوع أصبح القوي يأكل الضعيف، فلا أمن ولا شبع ولا راحة ولا أشجار، وسيقص الله علينا كيف كانت اليمن ومأرب بهذه المياه وهذا السد.
قال تعالى: ((فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ)) أي: أبدل الله ما كان عن اليمين من الجنان المتصلة يميناً والجنان المتصلة يساراً في جميع البلاد دوراً وبساتين وحدائق وقصوراً وساحات وشوارع وأزقة، وحيثما ذهبت كانت الأشجار عن اليمين والشمال، ((فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ)) أي: أبدل الله جنتيهم الكريمتين الطيبتين الكثيرتي الثمار بجنتين من غير ذلك، ((جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ))، أبدلهم بجنتين عكس تلك الجنتين السابقتين بالمرة، ووصف الله هاتين الجنتين بقوله: ((ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ)) أي: ذواتي مأكول خمط مر تعافه النفس ولا تستطيع ابتلاعه، (وَأَثْلٍ) وهي الطرفاء التي لا يصلح ثمرها ولا يصلح أكلها، فبدلت بالطرفاء التي لا تصلح لشيء مما كان من أشجار وكروم ونخيل وأنواع من الفواكه لا تمل ولا تنتهي.
((وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ)) السدر: هو شجر النبق، ومنه البري ومنه المزروع باليد، وهو معتنى به، وهذا البري نبت بفيضان المياه من السد، ومع ذلك هو شيء قليل وليست شجراً كثيرة فيه، وإنما الكثير ما لا يكاد يؤكل ولا تستسيغه الأفواه؛ وهكذا عندما كفروا النعمة ذهب الله بطيب البلدة وبأشجارها وبنعيمها وبثمارها، فأعرضوا وغيّروا وبدّلوا فغيّر الله ما عنده، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
قال تعالى: ((فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ))، أي: مر لا يكاد يؤكل ولا يسيغه حلق إنسان، ((وَأَثْلٍ)) الطرفاء، ((وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ)) أي: شيء قليل من السدر البري الذي فيه النبق، والثمر كذلك مر لا يكاد يسيغه الإنسان، وهو بري يأكله الإنسان كما يأكل التبن، لا ماء فيه ولا غذاء.(219/3)
تفسير قوله تعالى: (ذلك جزيناهم بما كفروا)
قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:17].
((ذَلِكَ)) أي: فعلنا بهم ما مضى من تغيير النعمة عليهم بسبب كفرهم بالله، فالجنتان اللتان كانتا ذواتا ثمار يانعة وأشجار باسقة، والأرض التي كانت ذات مواش ودواب وطيور ولحم طير ولحم مواش ومن كل ما يشتهون، وكما وصفها الله بلدة طيبة، كل ذلك صار كأن لم يكن، وهكذا إذا رأيت قوماً أصابهم الله بالذل بعد العز، وبالجوع بعد الشبع، وبالفقر بعد الغنى، فما ذاك إلا لمعصيتهم، وما ذاك إلا لخروجهم عن أمر الله، ولا يكون ذلك إلا عقوبة من الله، فعندما يجحد المؤمن بدين ربه ويكفر بنعمته ويخرج عن أمره ويبدل الطاعة معصية والتقوى فجوراً يسلّط الله عقوبته، كما سلط على المسلمين منذ أزمان وإلى اليوم، ولم نعد إلى ربنا بعد ونتب من ذنوبنا ونستغفره مما نحن فيه، فعلى الإنسان أن يستغفر ويندم على ما فرط منه ويعزم على أن لا يعود لذلك، فإذا لم يفعل فإنها توبة باللسان ولا يكاد يكون لها أثر، ويكون التائب كالمتلاعب.
قال تعالى: ((ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا))، الباء باء السببية، أي: كانت عقوبتنا لهم من استبدال جنتيهم الطيبتين بالجنتين ذواتي الأكل المر الذي تعافه النفس وذات الطرفاء والسدر البري بسبب كفرهم وجحودهم بتلك النعم الفائضة التي أغدقها الله عليهم، قال تعالى: ((وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)) يقول ربنا: وهل نجازي؟ وهو استفهام تقريري، أي: ولا نجازي ولا نعاقب إلا الكفور، أي: الجاحد الكافر الشديد الجحود والكفر، الذي يصمم ويصر على جحوده وكفره، والكفور صيغة مبالغة من شدة الجحود وشدة الكفر، فالله لا يجازي إلا الكافر، وأما المؤمن فقد يعاقبه وقد يغفر له، والله يغفر كل الذنوب إلا الكفر والجحود، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].(219/4)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18] يصف الله هذه البلاد بأنها كانت ذوات قرى متصلة بارزة ظاهرة من أرض اليمن من صنعاء إلى بقية جزيرة العرب وإلى أرض الشام، وهي البلاد التي بارك حواليها بخصبها وبثمارها وبالنعم الدافقة على أهلها، أي: قد كان هذا يوم ذاك، ثم كل من جحد النعمة ولم يشكرها وكفر بالله ولم يتق ويخف الدار الآخرة وعذاب الله يُصاب بما أُصيب به هؤلاء أهل اليمن وأهل سد مأرب الذين أعطاهم الله من الخيرات ما يكاد يشبه بعض ما ذكر الله لنا من جنان الآخرة، ومع ذلك كفروا النعمة وجحدوها بعد أن أكرمهم الله بثلاثة عشر نبياً متواليين، هذا خلف هذا، ليذكروا الجيل بعد الجيل قال تعالى: ((وَجَعَلْنَا)) أي: بين أهل سد مأرب وقوم سبأ ((وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً)) أي: بارزة متصلة واضحة ومعروفة، أي: جعل الله من أرض مأرب وسد مأرب وأرض سبأ من أرض اليمن التي كانت تسمى الأرض السعيدة جعل قراها متصلة بارزة وظاهرة بحيث اتصلت من أرض اليمن إلى القرى التي بارك الله فيها، والقرى التي بارك الله فيها هي قرى أهل الشام، وهم أهل فلسطين والأردن ولبنان وسوريا، فكل هذه أرض الشام، وكلها كانت ذات خصب ونعم دافقة وأشجار وثمار متنوعة، قالوا: وكانت الأشجار ما بين القرية والقرية من القرب بحيث لا يكاد يمر الإنسان قريباً إلا ويرى القرية التي بعدها، قالوا: وكانت المرأة تخرج من القرية إلى القرى المجاورة وعلى رأسها قفة وتمشي تحت أشجار ظليلة في ظلها، فتمشي والفواكه تقع بطبيعتها كما تقع عندما تنضج، فلا تكاد تصل من قرية إلى قرية حتى تكون القفة قد امتلأت بتلك الثمار من كل نوع، ولا تحتاج إلى زاد ولا إلى تمويل بل ولا إلى ركوب، وتقطع القرى بأرجلها من مكان إلى مكان، فالنعم باسطة خيراتها لكل إنسان، وجعل هذه القرى من أرض مأرب ظاهرة بارزة بيّنة، لا يظل فيها الإنسان، تظهر من أول قرية، فكلما ذهب الإنسان رأى القرية الآتية ويرى ما بعدها، وهكذا منذ يخرج من صنعاء إلى أن يصل إلى قرى ومدائن الشام، فكانت أرض الشام كلها وأرض اليمن كلها قرى متصلة، قالوا: وقد كانت آلافاً، وكلها بهذه الخيرات والأرزاق، أشجار متصلة عن اليمين والشمال، ليست من نوع السدر ولا الأثل ولا من تلك الأشجار التي لا ثمر فيها، ولكن كلها أشجار ثمار وفواكه تلذ للآكل، منوعة مشكلة.
قال تعالى: ((وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً)) أي: بارزة بيّنة واضحة يرى الإنسان القرية خلف القرية، بحيث لا يحتاج إلى دليل، فهي تظهر من قريب، وهذا معناه: أنهم كانوا ذوي حضارة كبيرة وعلم بالزرع وبالسدود وباستنباط المياه وبرصف الشوارع والطرق، ومما لا يزال الناس يحلمون به ولم يصلوا إليه حتى في هذا العصر، عصر اليهود والتبرّج والفساد والكفر بكل أنواعه والفواحش والمنكرات والظلم وإراقة الدماء، والذي يسمونه عصر النور والعلم والحضارة، ومن يسميه بذلك ليس إلا جاهلاً لا يعلم ماذا كان عليه العالم الإسلامي من حضارة ومن أمن ومن خيرات دافقة ومن علوم مندثرة بين الكبار والصغار وبين الرجال والنساء.
قال تعالى: ((وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ)) أي: جعل بين كل قرية وقرية قدراً معلوماً معروفاً من الزمن، أي: ليس بين القرية والقرية إلا مسافة قريبة لا يكاد يمضي عليها أكثر من ساعة أو ساعتين على الأرجل، فبين كل ساعة وساعتين وثلاثة قرية، وكلها من هذا النمط، فكلها أشجار وثمار وخيرات دافقة وما تشتهيه النفس من لحم ماشية أو طير أو حيتان أو ما تريد.
قال تعالى: ((وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ)) أي: جعل له قدراً ليس بعيداً ولا متعباً ولا مجهداً.
قال تعالى: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}، وهذا أمر بالصيغة، وهو خبر بمعنى الأمر، أي: يقول الله كانوا يسيرون في هذه القرى المتواصلة المتصلة بعضها ببعض، وقد قدر السفر والمشي من قرية إلى قرية بمدة يسيرة لمن يأت من الشام إلى صنعاء من أرض اليمن، أو من يذهب من أرض اليمن إلى أرض الشام، فكانت جزيرة العرب إلى أرض الشام كلها قرى متصلة والسير فيها مقدّر، وكانوا يسيرون الليالي والأيام ذوات العدد، ((آمِنِينَ))، وماذا يريد الإنسان أكثر من الأمن والشبع وأنواع الطعام والشراب والفواكه؟ فقد كانوا يعيشون في جنة على الأرض، إلا أن جنة الآخرة دائمة وجنة الدنيا زائلة، وقد زالت بكفرهم، ولا كفران في جنان الآخرة، فالكافر يكون في السعير وفي جهنم.
وقد كان يقول بعضهم لبعض: سيروا ما شئتم واقطعوا السفر ليالي متتابعة، أي: سواء كان السفر ليلاً أو نهاراً فالطريق عامرة وليست مخوفة، والأمن ضارب أطنابه، فلا يخاف طفل ولا مولى ولا رجل ولا امرأة؛ لأن الخوف لا يكون إلا من جوع جائع أو فقر الفقير أو كفر الكافر، وهم كانوا مؤمنين، كما قال لهم ربهم: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] وكان الرب يغفر لهم بطاعتهم لأنبيائهم وطاعتهم لربهم وعبادتهم له آناء الليل والنهار، كما يأمرهم أنبياؤهم بذلك مع النعم الدافقة، فإذاً لا داعي للخوف، {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18].(219/5)
تفسير قوله تعالى: (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا)
قال تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:19].
فهؤلاء أرادوا أن يفعلوا ما فعله اليهود عندما هربوا من مصر واستعباد وقهر فرعون وهامان ومن إليهما من جندهم، واتبعوا موسى وهارون، وخرجوا وابتعدوا، وغرق فرعون، ثم تاهوا في صحاري سيناء أربعين سنة؛ لعودتهم إلى جحود النعمة، ومع ذلك كانوا يرزقون بالمن وهو العسل، كان ينزل على الشجرة فيأكله الإنسان دون أن يصنعه، والسلوى: نوع من الطائر كألذ ما يأكله الآكل، مع المياه اثنتا عشرة عيناً متدفقة، فملوا الشبع والأكل وتمنوا الفوم والبصل والقثاء، وأخذوا يسألون الأدنى دون ما هو أعلى، وهكذا هؤلاء: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19]، وذلك عندما جحدوا النعمة، وأعرضوا عن الطاعة، وعادوا إلى الكفر.(219/6)
تفسير سورة سبأ [19 - 21]
كان قوم سبأ في رغد من العيش، وفي نعم شاملة متضافرة، ومن هذه النعم أن قراهم كانت متصلة متقاربة، فجحدوا أنعم الله وبطروا، وطلبوا من الله سبحانه أن يباعد بين أسفارهم؛ اتباعاً لأمر إبليس وطاعة له، فمزقهم الله كل ممزق، وجعلهم أحاديث.(220/1)
تفسير قول تعالى: (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا)
قال الله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19].
لا نزال مع كتاب ربنا وهو يقص علينا قصة سد مأرب، وقصة قوم سبأ وكيف كانوا في رغد من العيش، وكانوا في نعمة شاملة، وكانوا في نعم متضافرة، وكانوا يعيشون بما أكرمهم الله به من أرزاق من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، وكانت قراهم متصلة تُعد ثلاثة آلاف وسبع مائة قرية من أرض اليمن، من مأرب إلى أرض الشام، وبين كل قرية وقرية قُدّر فيها السير، فلا يكاد يقطعون ساعة إلا ويرون قرى ويرون نعماً وثمرات وفواكه، حتى إن المرأة إذا كانت متنقلة بين قرية وقرية يكفي أن تذهب وعلى رأسها مكتل، وإذا بالثمار تتساقط في هذا المكتل ولا تحتاج إلى جمع، ثم تجلس فتأكل مما تشتهيه نفسها، قال ربنا: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18] هذه القرى ذات الأشجار المثمرة اليانعة، والمياه المتدفقة من أرض اليمن إلى أرض الشام، وهم في ظلال من الأشجار وفواكه دانية، ولكنهم أعرضوا عن الله وعن طاعته، فكان جزاؤهم جزاء من كفر بعد إيمان، وجحد النعمة بعد إسلام، فأبدلهم الله جنتين {ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16]، ثم عادوا فدعوا ربهم كما دعاه اليهود ومشركو الجزيرة عندما كانوا يأكلون من المن والسلوى ونعم الله الدافقة، وبعد أن أكرمهم الله وأنقذهم من فرعون وهامان وقومهما، وإذا بهم يأخذهم البطر ويأخذهم التيه بهذه النعم، فيسألون موسى وهارون أن يُرزقوا من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها؛ وهكذا انقلب عليهم ما كانوا فيه من النعم إلى قحط وأرض يابسة لا تكاد تُثمر، وأرض جافة لا يكاد يجدون ماء للشرب؛ وهكذا هؤلاء.
وطلبوا كما طلب الكفار {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32] فأُرسلت، لكن قوم محمد صلى الله عليه وعلى آله أُكرموا بالنبي عليه الصلاة والسلام فلم يُصابوا بسوء مدة وجوده بين أظهرهم، ومدة حياته عليه الصلاة والسلام تكرمة له.
فقال هؤلاء: ((رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)) بطروا النعمة فأرادوا أن تكون هناك مفاوز وقرى بعيدة بعضها عن بعض، فيتزودون لها، ويركبون الرواحل أسابيع وأشهراً، فالله جل جلاله استجاب لهم وكانوا هم الذين ظلموا أنفسهم، فأنهى ما كانوا فيه من نعمة، وسلّط عليهم القحط، وسلّط عليهم من جاء إلى سد مأرب فجعله كأنه لم يغن بالأمس، جعله خراباً يباباً، فخربت جدرانه، وذهبت مياهه، وساقت أمامها جميع مدن اليمن، وجميع شجره وبساتينه، وتفرقوا وتشتتوا في كل موقع كما قال ربنا: ((فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا))، وقرئ في السبع: ((بَعِّدْ)) أي: اجعل بين أسفارنا -أسفار: جمع سفر- مسافات بعيدة، بمعنى: لا نُريد هذا القرب بين هذه القرى، ولكن باعد بينها، وإذا بالله الكريم يجيبهم لما طلبوا بعد أن بطروا النعمة وجحدوها وكفروا بنعمة الله، فضاع سد مأرب، فذهبت المياه، ويبست الأشجار، وذهبت الفواكه، وماتت الدواب والشاء والطير، سواء الداجن أو البري، وإذا بهم لا يجدون طعاماً يُغنيهم ولا شراباً يرويهم، فتشتتوا في أقطار الأرض.
فقوله تعالى: ((وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ)) أي: ظلموها بالكفر والجحود، وظلموها بما طلبوا لأنفسهم من عذاب ومحنة، فاستجاب الله لهم، يقول تعالى: ((فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)) ذهبوا في أمس الدابر، وانتقلوا من شهرة واسعة إلى أسماء تُذكر، فيسير الناس على ذكرهم وعلى غريب قصصهم ويملئون المجالس بحديثهم، وأنه كان يوماً من الأيام وفي سنة من السنين قوم يقال لهم: قوم سبأ، كان لهم من الخيرات ومن النعم والأرزاق، وكان لهم أنبياء تعددوا وتكاثروا، وإذا بهم في يوم من الأيام رجعوا للكفر والردة، وأضاعوا ما أوتوا من الإيمان والتوحيد، فضاع بضياعهم خيرهم وبلادهم وجعلوا أحاديث.
قال تعالى: ((وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)) أي: فرّقهم الله تفريقاً، وشتت جمعهم وشملهم، وأصبحوا كدابر الأمس، كأن لم يغنوا فيها يوماً من الأيام، وتشتتت القبائل فذهبت الأزد إلى عمان، والأوس والخزرج إلى المدينة، وغسّان إلى الشام، وخزيمة إلى العراق، وخزاعة إلى تهامة، وهكذا تشتتوا طرائق وأحزاباً ومللاً ونحلاً، فأصبحوا يُضرب بهم المثل، وكل هذه القبائل في أصولها من قوم سبأ، وهو: ابن يشجب بن قحطان.
((فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ)) بهذا الدعاء ((فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ)) انتقلوا من صفوف قائمة، وقبائل حية إلى فناء، ولم يبق إلا ذكرهم على الورق، وفي ألسنة الناس يسمر عليهم بحكايات وقصص.
قال تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ)) الإشارة لسبأ لما كانوا فيه من نعمة وأمان وعيش رغد وحضارة، ثم انقلب عليهم الأمر عندما جحدوا ربهم وكفروا بدينه وعصوا رسله، فسلب عنهم هذه النعم، ولا يبدّل الله ما بقوم إلا بعد أن يبدّلوا ما بأنفسهم؛ فأصبحوا مثلاً ضربه الله لأهل مكة، ولكفار الجزيرة والعالم إذا هم أبوا وأصروا على الجحود والكفران، وإذا هم صنعوا ذلك يصنع الله بهم ما صنعه في قوم سبأ، يشتتون ويمزّقون، ويصبحون أحاديث، وقد فعل هذا ربنا، فأين فارس؟ وأين الروم؟ وأين دول عاصرناها كانت تُعتبر الدول الأولى في الأرض؟ وإذا بها آبت ورجعت للذل والهوان والفقر والحاجة، واستولى عليها من كانوا تحت حكمها وتحت سُلطانها! فعندما جحد المؤمنون عوقبوا، وعندما أصر الكافرون زاد الله من محنتهم وعذابهم.
فقوله: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ)) أي: لعلامات على قدرة الله جل جلاله، وهو القادر على كل شيء، يرزق ويكرم ويُعطي ويُعز، حتى إذا جحد من أُنعم عليه نعم الله نزعها وسلبها منه، وأعاده إلى الذل والفقر والجوع والحاجة.
قوله: ((صَبَّارٍ شَكُورٍ)) صبّار: صيغة مبالغة، أي: شديد الصبر، يصبر على طاعة الله ويصبر على ترك المنكرات والمعاصي، يُمهل نفسه ويعقلها طاعة لله وبعداً عن الأرجاس.
قوله: ((شَكُورٍ)) أي: كثير الشكر، يشكر الله في كل أحواله بأركانه ولسانه، يشكره مصلياً ويشكره مزكياً وصائماً وحاجاً، يشكره بلسان الحمد لله رب العالمين، فيفرده بالحمد، ومن حُمِدَ إنما هو حمد مجازي، فالله المكرم والمنعم وهو الذي حرّك قلب ذلك العبد الذي قدّم لك خدمة أو قدّم لك إحساناً، فالمشكور هو الله دوماً واستمراراً.
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه -في مسند أحمد - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن كل خير، إذا أصابه خير حمد الله وشكر، وإذا أصابته مصيبة حمد الله وصبر) فهو على كل حال مأجور، يؤجر حتى باللقمة يرفعها إلى في امرأته، ويؤجر بالنفقة على عياله؛ فالمؤمن على كل حال مأجور شاكر للنعمة صابر على البلوى، ولهذا الحديث شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيحي البخاري ومسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبت للمؤمن هو في خير أبداً إذا أُنعم عليه شكر، وإذا بُلي صبر، وهو في كل حال مأجور مثاب) أو كما قال عليه الصلاة والسلام؛ وهكذا المؤمن يرى أن كل ما يحصل عليه هو من الله، فيفرح لكرمه ولنعمه ويشكر الله عليها، ويصبر على قضاء الله، ويقول: هي كفارات للذنوب ورفع للدرجات، وهكذا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن ليؤجر حتى في الشوكة يشاكها) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(220/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه)
قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20] هؤلاء الكفرة بالله في قديم الزمان وفي حاضره وفي مستقبله، أتباع الشيطان وحزبه، ولقد صدق الشيطان فيهم، أي: صدّقوا ظنونه، فإبليس عندما تكبّر أبى السجود لآدم، ثم طرده الله من الجنة، وطلب أن يُنظر إلى يوم البعث، أجابه الله لطلبه، فأخذ عند ذلك يتوعد آدم وذريته وقال: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39]، {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} [النساء:119] قال ذلك ظناً منه، فإنه لا يعلم الغيب إلا الله، فاحتمل ذلك وظن ذلك رجماً بالغيب، وإذا بالأمر كان كما ظنه الشيطان، فكفر المشركون فصدق فيهم ظن إبليس، حيث انتقلوا من حزب الله إلى حزب الشيطان، ومن شكر النعم إلى جحودها وكفرها، ومن حمد الله إلى الكفر بالله، وهكذا أصبحوا من حزب الشيطان وأنصاره، وما ذلك الظن إلا عندما أغوى آدم وحواء، فأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها، عند ذلك قال في نفسه: إن كنت أغويت الأبوين وهما من هما، فالأولاد مهما كانوا فهم أضعف عند الصبر على مثل هذه الطاعة، وعلى وساوسي وإغوائي؛ فأخذ يظن ويتوعد ويقول: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} [النساء:119]، {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39]، {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] وهكذا سمى الله هذا الظن صدقاً قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20] فكانوا من أتباع الشيطان، كفروا بكفره وجحدوا بجحوده، وخالفوا بمخالفته، وتكبروا على الله وعباده بتكبره، فكانوا بذلك من جماعة الشيطان، فأوقدت جهنم لهم ولأمثالهم من الكفار والعصاة.
قال تعالى: ((فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) فريق: مستثنى منقطع أي: اتبعه هؤلاء إلا فريق المؤمنين، أي: إلا المؤمنين جميعاً أهل التوحيد والعبادة والإيمان بالله وبرسوله، وفسّر قوم ((إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) إلا طائفة من بين المؤمنين، وليس جميع المؤمنين، فنحن نرى في المؤمنين من يعصي الله ويرتكب الكبائر، والمعنيان صحيحان، فهم اتبعوه في المخالفة الفرعية، أما الاتباع في أصل الشرك وأصل الكفر فليسوا كذلك.
ومن قال: ((إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: إلا جماعة من بينهم، فالمعنى: لم يعصه إلا المؤمنون الكاملون الذين عصمهم الله من بين الأنبياء والرسل، والذين كانت حسناتهم أكثر من سيئاتهم، وإذا أساءوا بادروا إلى التوبة، ومن تاب تاب الله عليه، وخير المؤمنين الواهي الراقع، وخير المؤمنين من إذا أذنب عوض ذنبه بحسنة، قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فهم على كل حال اتبعوهم في الفروع، وعصوهم في الأصول، وهم على كل حال في خير، وفرق كبير بينهم وبين المشركين، فأولئك حزب الشيطان، أما المؤمن الذي مات على التوحيد والإيمان بالله وبرسله فهو على خير على كل حال، إما أن يغفر الله له، وإما أن يعذبه ثم المآل إلى الجنة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].(220/3)
تفسير قوله تعالى: (وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة)
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ:21].
يقول الله: لم يكن لإبليس والشيطان سلطان على العباد، أي: استيلاء وتسلط، ولكن الله سلّطه اختباراً وابتلاء؛ ليعلم من يؤمن بالآخرة، أي: من كان مؤمناً بالله ورسله واليوم الآخر، وبما أوجب الله ورسوله من الإيمان به، ثم الإيمان بالكتب وبالقدر خيره وشره وبجميع العقائد الإسلامية، فالله لم يجعل للشيطان سبيلاً ولم يجعل له استيلاء وتسلطاً إلا ليعلم علم ظهور ووقوف، أما العلم السابق في الأزل -علم الغيب- فقد قدّر الله ذلك قبل أن يخلق الكون وقبل أن يخلق العوالم بألفي عام؛ ولكن العلم هنا علم الظهور والوقوف، والله يعلم ذلك قبل أن يكون وكيف سيكون، فهو ابتلاء من الله لهؤلاء، فصبر من صبر على البلاء وانتصر على الشيطان، وأبى إلا أن يكون مطيعاً لله ولرسوله وأن يكون من حزب الله، فآمن بالله ورسله والآخرة فلم يكن للشيطان عليه سبيل، فإن وسوس له ساعة من الزمن سرعان ما يعود للتوبة وللاستغفار، يقول الله: ((إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ)) أي: ليظهر حقيقة دين المؤمن باليوم الآخر، وحقيقة دين الكافر الذي هو في شك من الآخرة ولا يؤمن بها حقيقة واقعة، ولا يؤمن بالله وحده، ولا بالكتاب كتاباً من الله، ولا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً لله وخاتماً فابتلي بالشيطان ووسواسه فلم يصبر على ذلك وسرعان ما تهدم وسقط، وعند الامتحان يُعز المر أو يُهان، وقد امتُحن فرسب ولم ينجح.
قوله: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ:21] أي: وربك الله على كل شيء رقيب، يحفظ المؤمن الذي يسعى لتطهير قلبه، فإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ فإذا كان الله في قلبه عقيدة وإيمان ثبت وانتصر على إبليس، وإن كان مرتاباً شاكاً متردداً متزعزعاً بعقيدته رسب وخسر وخاب وأصبح ممن صدّق إبليس ظنه فيه، فالله رقيب على الخلق يعلم الصالح من المفسد، ويحسن إلى الصالح، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
قال الإمام الحسن البصري: لم يكن للشيطان سلطان ولا قوة، ولا ضربهم بعصا ولا أجبرهم بمال ولا ألزمهم بسلطان، ولكنه منّاهم ووعدهم وأغراهم بالنزوات والشهوات فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين، فلم يكن له عليهم في الأصل قوة ولا سلطان يجبرهم ويلزمهم بالكفر بالله، ولكن أنفسهم أضاعوا وأنفسهم ظلموا فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة.(220/4)
تفسير سورة سبأ [22 - 27]
للشفاعة شرطان يجب توافرهما حتى تقبل: إذن الرب تعالى للشافع أن يشفع، ورضاه عن المأذون بالشفاعة فيه، وهذا الشرطان منتفيان عن المشركين وآلهتهم التي زعموا أنها ستشفع لهم عند الله عز وجل.(221/1)
تفسير قوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله)
قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22].
قال الله لنبيه: قل يا محمد! لهؤلاء الذين كفروا في عصرك ومن سيكفر بعد ذلك، قل لهم: يدعون من شاءوا ممن زعموهم آلهة مع الله، قل لهم أن يدعوهم ليرزقوهم وليعطوهم وليجعلوا لسليمان وداود ما جعلنا لهم من معجزات، وما أعطينا قوم سبأ من خيرات وأرزاق، فعندما أشركوا بالله وأعرضوا عن طاعته جازيناهم بالنقمة والعذاب وسلبناهم نعمنا، قل لهؤلاء الكفرة: ليدعوا من زعموهم آلهة من دون الله، ليعملوا عمل الله فيرزقون من يدعون وليحيوا ويميتوا، وهم أعجز من ذلك هم وآلهتهم المزيفة، ومع هذا قال الله: ((لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)) فهذه الآلهة المزيفة والأرباب المزعومة من قبل حزب الشيطان ليس لهم ملك في السماوات ولا في الأرض مقدار ذرة، والذرة: الهباء الذي في الهواء ولا يُرى إلا عند الشمس، ولو كان هناك شيء أذل وأحقر من الذرة لذكره الله تعالى، فهؤلاء لا يملكون ذرة لا في السماوات ولا في الأرض.
قال تعالى: ((وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ)) أي: ليس لهؤلاء الأدعياء أرباب وآلهة من دون الله، وليس لهم شريك مع الله في السماوات ولا في الأرض، بل انفرد سبحانه بالملك والخلق، ولم يشتركوا معه في شيء، فهم أحقر وأذل من ذلك، وإنما يعبدون ما لم يستطع أن يقدّم لنفسه نفعاً ولا ضراً، وإنما يعبدون أصناماً وأمواتاً وعجزة.
قال تعالى: ((وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)) أي: وما لله ظهير من هذه الآلهة أي: معين ومساعد ومشارك، وليس لله حاجة إلى أحد منهم في العون والمشاركة، بل الكل خلق الله وعبيده، إذا لم يرزقهم ماتوا، وإذا لم يسقهم ماتوا، وإذا لم يحيهم لم يوجدوا، فهؤلاء الذين يدعون من دون الله أرباباً لا وجود لربوبيتهم ولا وجود لإلهيتهم إلا في الأوهام والأساطير.
فقل لهؤلاء: إن آلهتهم أعجز من أن يملكوا ذرة في سماء أو أرض، وليس لله حاجة إلى عونهم ومساعدتهم، فالله قادر على كل شيء، وهو الغني المطلق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] أي: الغني غنىً مطلقاً عن كل الخلق، وليست هذه صفة لواحد من الخلق، فالكبير والصغير لا يستطيع أن يقوم بنفع نفسه لا يخبز خبزه ولا ينضج طعامه، ولا يذبح شاته، ولا يبني داره، ولا يصلح طريقه، ولا يخيط ثوبه، ولكن الله سخر بعضنا لبعض؛ ليعين بعضنا بعضاً، وبهذا قامت السماوات والأرض، والمعين والمعان خلق لله وعبيد له، فلا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، والله سبحانه هو الغني المطلق الذي لا يحتاج لمعين ولا مساعد، وليس هناك معين ولا مساعد لله، إن هي إلا أسماء سماها هؤلاء المشركون الجاحدون كذباً وزوراً وشركاً بالله.(221/2)
تفسير قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له)
قال تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] جل جلاله وعلا مقامه.
يقول تعالى: هؤلاء ليسوا شركاء، ولا يملكون في السماوات والأرض مقدار ذرة، ولا لله حاجة إلى واحد منهم أن يساعده أو يعينه، فالله الغني الغنى المطلق عن كل خلقه، بل هم خلقه وعبيده، وهم المحتاجون والفقراء إليه، ولا يجرؤ أحد أن يشفع عنده، قال تعالى: ((وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)) لأنهم قالوا عن آلهتهم: هم شفعاؤهم عند الله، فلن يكون هذا أبداً، ولن يشفع عند الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، إلا بعد إذن الله له بالشفاعة، ولن يجرؤ أحد أن يتكلم بكلمة أو يقول قولاً بين يدي ربه شفاعة في أحد ما لم يأذن الله له، فإذا لم يأذن الله فليس لأحد قدرة ولا إرادة أن يشفع في أحد حتى في نفسه فضلاً عن غيره، والقرآن مليء بهذه المعاني.
وسيد البشر قد ذكر الله له مقاماً محموداً يوم القيامة، وهو يوم الشفاعة العظمى، مع مقامه وسيادته العامة على جميع الخلق، ومع ذلك عندما يريد أن يشفع يخر ساجداً لله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وأدعو الله بمحامد لا أعرفها، فأبقى ساجداً ما شاء الله لي أن أسجد، فيقال لي: ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفّع) إلى تمام الحديث على طوله، وهو متواتر ومعلوم من الدين بالضرورة، ولن يشفع إلا بعد أن يخر لله ساجداً لربه، مستأذناً بالشفاعة إلى أن يؤذن له بعد زمن يطول أو يقصر، إذ إن اليوم في الآخرة كألف سنة مما تعدّون، وهو يحمد الله، ويمجّده، ويوحّده، ويذكره جل جلاله، إلى أن يؤذن له بالشفاعة، فيقال له: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يُسمع لك، واشفع تشفّع.
عند ذلك يشفع في جميع الخلائق ممن مات على التوحيد، أما من مات على الشرك فلا شفاعة، وقد حرّم الله الجنة على الكافرين أبد الآبدين، ويكون الخلق قد اشتد بهم الحال وعظم عليهم الكرب ويذهبون إلى أبينا آدم أبي البشر فيردهم ويقول: نفسي نفسي، نهاني الله أن آكل من الشجرة فعصيت، فيأتون إلى نوح فيقول: نفسي نفسي، وهكذا إلى إبراهيم ثم موسى ثم عيسى فلا يذكر عيسى شيئاً عن نفسه، ولا يقول: نفسي نفسي، ولكنه يقول لهم: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيذهب الناس جميعاً من جميع الخلائق والأمم، وهو اليوم الذي يبعثه الله فيه مقاماً محموداً تحمده فيه الخلائق كلهم صلى الله عليه وسلم، وذاك معنى قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ليس لعالم فقط، وليس للأمة المحمدية فقط، ليس لمن عاصره ومن جاء بعده من أمته، ولكن للأمم السابقة من أمة آدم إلى أمته صلى الله عليه وسلم، فهو شفيع كل الخلائق عليه الصلاة والسلام، ومع مقامه هذا لن يشفع إلا بعد أن يأذن الله له، وهذا معنى قوله تعالى: ((وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)) فكيف بمن زعم المشركون أنهم سيكونون لهم شفعاء عند الله، قالوا ذلك عن أوثانهم وأصنامهم، وهيهات هيهات، إذا كان نبي الله كذلك فمن دونه من الأنبياء والصالحين لن يشفعوا إلا بعد أن يأذن الله لهم، فكيف بمن لا وجه له، ولا كرامة له، ولن يجد ريح الجنة أبداً من المعبودين، أو من المشركين، أو ممن هو في الأصل جماد أو حيوان أو شيء من خلق الله؟! قال تعالى: ((حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ)) بعض المفسّرين قالوا: (فُزِّعَ) أي: زال الفزع، والتفزيع: زوال الفزع، كالتمريض: زوال المرض، فقالوا: هذا يكون عند الوحي الإلهي إلى جبريل عليه السلام، إذ يوحي الله لجبريل فيبلّغ جبريل أهل السماء السابعة والسادسة والخامسة إلى السماء الدنيا ومن يكون نبياً.
وقد انقطع الوحي ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام فلم يكن بينهما نبي ولا رسول، وما أرسل النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذهاب عيسى ورفعه للسماء إلا بعد ستمائة وخمسين عاماً؛ فعندما يأتي الوحي من الله يغشى على النبي صلى الله عليه وسلم ويسمع صوتاً كصلصال الجرس أي: الحديد يضرب بعضه ببعض، وقد فسّر ذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين، وهو أشد عليه من غيره، فقد كان يتصبب عرقاً في اليوم الشاتي البارد كأيامنا هذه في أرض الحجاز.
ولكن أكثر المفسرين قالوا: الآية ليست في سياقه ولا تقتضيه، بل تفسير الآية كما قال ابن عباس وغيره: إن هؤلاء عندما يفزّع عن قلوبهم يزول الفزع وهم في حال الاحتضار للموت، وذلك بعد أن يُصبح العلم بالغيب علم مشاهدة وحضور، فكل ما أخبر به الأنبياء من الإيمان بالغيب بعد الموت وعند الغرغرة بالروح يُصبح إيماناً بالمشاهدة وهيهات، فقد قال الله تعالى: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].
فالملائكة عندما تأتي لقبض الأرواح يقولون للكافر: ((مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ))؟ وذلك بعد أن تزول غيبوبته ويزول فزعه، ((قَالُوا الْحَقَّ)) أي: قال هؤلاء الكفرة: قال الله الحق.
وهكذا اعترفوا بعد أن أصبح الاعتراف بالنسبة لهم لا يفيد؛ ولذلك فإن النبي كان كثيراً ما يقول: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شُغلك، وغناك قبل فقرك) وآخرها الحياة قبل الموت، فما دام الإنسان في حياته لم يكسب خيراً، أي: لم يؤمن بالله ولا برسوله، ولم يؤمن بما جاء عن الله في كتابه، فإنه لن يعترف إلا عند الموت عند وصول الروح إلى الحلقوم، ومن باب أولى بعد الموت ولن ينفعه ذلك، فهو إذ ذاك يعترف للملائكة بأن الله قال الحق فيما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، ولكن هذا الاعتراف لا يزيدهم إلا حسرة وتوجعاً وندماً؛ لأنه كما قال أهل المعرفة بالآداب والرقائق: إن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، فمن لم ينتهز حياته في طاعة الله وعبادته يوشك إذا مات أن يكون سيف الحياة قد قطعه غير مؤمن بالله ولا برسوله، ولن يفيده اعترافه وإقراره بعد الموت.
فقوله تعالى: ((قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ)) أي: قالت الملائكة لهؤلاء الكفار: ماذا قال ربكم؟ فيجيبون: ((قَالُوا الْحَقَّ)) أي: قالوا: إن الله قال الحق، ((وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)) فالله جل جلاله هو العلي المنزّه عن كل نقص، وهو المتصل بكل كمال والعلي على خلقه العظيم جل جلاله، وهو الكبير المتعال فلا أكبر منه جل جلاله، فالكون خلقه، فهو أكبر من الطغاة والجبابرة والملوك؛ لأنه خالقهم والكل عبد له؛ ولذلك فإن شعار المؤمن: الله أكبر، وبها نستفتح الأذان للإعلام بدخول الوقت، وبها نستفتح الإقامة للدخول في الصلاة، وبها نشغل حركات الصلاة عند الدخول فيها: عند الركوع والرفع من الركوع، وعند الهوي للسجود إلى آخر أعمال الصلاة، وهي شعار الذاكر في حجه والملبي في حجه، وهكذا فالله الكبير المتعال العلي على خلقه العلي عن حاجتهم وعن عونهم، فكل الخلق عبيد لله فقراء إليه، وهو الغني الغنى المطلق.(221/3)
تفسير قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماوات والأرض)
قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24].
أي: قل لهؤلاء: من الذي يرزقكم من السماء؟ ومن يدبر أمر الملائكة بالخيرات والرحمات والأرزاق؟ ومن يرزقكم في الأرض؟ فمن ينبت شجرها وثمرها؟ ومن يغذي دوابها وطيرها؟ ومن يغذيكم لتعيشوا مدة إلى أجل مسمى؟ فالله قال لنبيه: ((قُلِ اللَّهُ)) ولم ينتظر جوابهم، وإلا فهم معترفون بذلك، ولكنهم يشركون بالله في الألوهية، ويجعلون معه شركاء من الملائكة والجن والأحجار والأخشاب والدواب، ومن عبادة النفس وتأليه هواها، وهم يعترفون لله برزقه ولا يعترفون له بتوحيد الألوهية، وهم بذلك قد ضلوا، والإيمان وحده لا يقبل التجزئة، ومن آمن بشيء وكفر بشيء فهو كافر لا محالة، ومن آمن ببعض شرائع الإسلام وكفر ببعضها فهو مشرك كامل ولا ينفعه الإيمان بالبعض دون البعض، قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85]، فهذا جزاء من يؤمن بالبعض، ويكفر بالبعض فلم يفدهم اعترافهم بأن الله الرازق من السماء والأرض، وبأنهم آمنوا بربوبيته وأشركوا معه بعض خلقه ممن هم أعجز عن دفع الضر عن أنفسهم فكيف لهم أن ينفعوا غيرهم أو يضروا!! قال تعالى: ((قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ)) أي: قل: الله الرازق من السماوات والرازق في الأرض، فيرزق عباده من السماء بالأمطار، ومن الأرض بالإنبات، فهو الرازق من السماء بالتدبير وهو على عرشه جل جلاله قد استوى يدبّر الأمر، فالله الرازق في السماء والرازق في الأرض وليس لأحد أن يرزق أحداً من الخلق إذا لم يرد الله رزقه؛ وهذا الذي يرزق لم يرزق أحداً بما عنده، وإنما بخلق الله وبرزق الله وبإمداد الله، أما أنه يأتي بشيء من عنده! فهيهات هيهات، فقد تحدى الله الخلق وعجزوا عن أن يخلقوا ذبابة، قال تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] أي: ضعف الوثنيون المشركون وضعف من يعبدونهم من أوثان وشركاء زعموهم آلهة من دون الله.
قال تعالى: ((وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ)) أي: كلهم، قال: ((لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) أي: قل يا رسول الله! لهؤلاء الكفار: نحن وإياكم إما على هداية أو على ضلالة، وليست ((أَوْ)) هذه للشك ولكنها للتفصيل، أي: نحن الذين على هداية فلقد أتينا بأدلة العقول على وحدانية الله وقدرته وخلقه لما تراه العين من خلقه للكون وتحس به، وأعظم شيء في الوجود الروح؛ ولذلك طالما تساءل الناس في الجاهلية والإسلام في مكة والمدينة وفي عصرنا هذا إلى يوم القيامة عن الروح، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] وهذا السؤال لا يزال قائماً إلى اليوم ورغم زعم المعاصرين أنهم تحضّروا وتعلّموا لو سألتهم: ما الروح؟ يقولون: لا ندري! ومن فسّر الروح بأنها حركات فهذا أثر الروح وليست الروح، فلكل من الإنسان والدواب والملائكة والجنة والنبات روح، نرى الأرض إذا جاء الشتاء يبس ورقها وأصبحت الأرض بلقعاً، فإذا جاء الغيث ونزل المطر وأحيا الله ما يريد ترى الأرض اهتزت وربت وإذا بها تنبت من كل نوع من الفواكه أشكالاً، ومن الخضار أشكالاً، ومن الثمار أشكالاً، ومما تأكله الناس والأنعام أشكالاً، فمن الذي خلق فيها هذه الحياة؟ وما الحياة؟ هذا ما عجز عنه البشر وسيبقون عاجزين؛ لأن هذا من علم الله الذي انفرد به، وقد قال عليه الصلاة والسلام في دعواته: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فقد استأثر الله بأسماء له وعلوم عنده لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] فلو أن سبعة أبحر ملأها حبراً ومداداً وجاء لشجر الأرض فذرأه أقلاماً تكتب وتستمد المداد من هذه الأبحر فتفنى الأبحر وتنتهي الأشجار وعلم الله لا ينتهي.
يروى أن موسى سئل: من أعلم منك؟ قال: لا أحد، فأدّبه الله تعالى وربّاه وقال: بلى عبدنا الخضر، فسأل الاجتماع به فكان من قصته ما قصه الله علينا في سورة الكهف، ومغزى القصة ما قاله الخضر لموسى وهو يحاوره، إذ جاء طائر صغير وأخذ قطرة من البحر فقال: يا موسى! ما علمي وعلمك أمام علم الله إلا كهذه القطرة يأخذها هذا الطائر من البحر، فأين أدعياء العلم والمعرفة؟ هيهات هيهات فكلنا ذوو أرواح إلا أن يشاء الله غير ذلك، ومع ذلك لا نعلم نحن ولا غيرنا ولا كل حي في الوجود عن هذه الروح التي ينطق بها وينظر بها ويسمع بها ويحس بها ويعقل بها ما هي؟ هذا ما انفرد الله به، ويكفي هذه المعجزة الإلهية على أن نعلم أن الله هو القادر وهو الواحد، وأن الله استأثر الروح في علمه وقدرته دون جميع خلقه.
وزعموا اليوم أنهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه ولم يصنعوا شيئاً، فقد صنعوا طائرة من خشب والخشب خلق الله، والماء خلق الله، والمسامير من الحديد خلق الله، والعقول التي صنعت ذلك خلق الله، ولو ذهب الله بعقولهم وبما خلقه لما استطاعوا صنع شيء، ولو ذهب الله بتلك الأشجار والأخشاب وذلك الحديد وتلك المياه التي يقال عنها البترول -وستذهب إنما هي مؤقتة- فستقف الطائرات والدبابات والمصانع، وقد قال أحد العارفين: إذا أراد أن يظهر فضله عليه خلق ونسب إليه، ومن فعل ما يقربه إلى الله كان فضلاً من الله، ومن فعل ما يبعده عن الله كان ابتلاء من الله، قال تعالى: ((وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)).
أما النبي وحزبه فهم على هدى، وقد بيّنوا ذلك بالأدلة العقلية القاطعة، وأما الشيطان وحزبه فهم في ضلال مبين واضح ظاهر لا دليل لهم عليه البتة، وهذا يشبه قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6].
فقوله تعالى: ((وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) أي: نحن الذين على الهدى بالأدلة العقلية القاطعة، وأنتم الذين على ضلال بالأدلة القاطعة، فاقبلوا أو لا تقبلوا، قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [النور:54]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272].
فليست الهداية وظيفة الأنبياء وإنما وظيفة الأنبياء -ومن باب أولى ورثتهم من العلماء- البلاغ، وأما الهداية فكما قال الله لنبيه سيد الخلق: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272] وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] فهؤلاء أقارب أحباب كانوا للنبي عليه الصلاة والسلام وطمع النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مؤمنين فما كانوا؛ لأن الله لم يرد لهم الهداية، فالله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] أي: لعلك مهلك نفسك على أنهم لم يؤمنوا ولكن الإيمان والهداية بيد الله، والعلم وحده لا يكفي، فإبليس كان أعلم العلماء في عصره فلم يفده علمه، فالتوفيق والهداية من الله؛ ولذلك فإن الأنبياء أنفسهم يعبدون ربهم ويحرصون على العبادة الليل والنهار، ومع ذلك يدعون ربهم ويلجئون إليه، هؤلاء وهم معصومون، فكيف بغير المعصوم! يفعل ما يفعل وهو لا يدري عن الخاتمة فالعبرة بالخاتمة، نسأل الله حسن الختام لنا ولكم جميعاً.(221/4)
تفسير قوله تعالى: (قل لا تسألون عما أجرمنا)
قال تعالى: {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ:25] أي: قل لهم يا محمد! لا تسألونا عما أجرمنا، فهم يزعمون أن من خرج عن دينهم فقد خان دين الوثنية وخان دين قومه وخرج عنه! فهم بذلك يعتبرونهم مجرمين، فقال الله: ((قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا)) أي: إن كنا مجرمين في نظركم لستم مسئولين عنا ولستم مطالبين بإجرامنا ((وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) كذلك نحن دعوناكم إلى الله وبلّغناكم كتاب الله وحرصنا على ذلك ليل نهار في الحضر والسفر وفي المنشط والمكره وفي كل وقت وحال ولا نستطيع أكثر من ذلك، أما أن نشق البطون والعقول وندخل الهداية والإيمان فليس هذا في إمكاننا ولا قدرتنا، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].(221/5)
تفسير قوله تعالى: (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق)
قال تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:26].
فهم لا يميزون هداية من ضلالة، ولا إيماناً من كفر، فقد ملئوا عقولهم بالخرافات والخزعبلات والأباطيل، فقل لهم: ((يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا)) أي: سيأتي يوم يجمع الله بيننا وبينكم وبين كل الأمم منذ آدم وإلى آخر مخلوق وإنسان في الأرض مؤمناً كان أو كافراً.
قال تعالى: ((ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ)) أي: يقضي جل جلاله بيننا ويرتفع الأمر له، وتنتهي رسالات الرسل ونبوات الأنبياء وتنتهي العبادة بموت الإنسان، وسيكون اليوم الآخر يوم الحكم والحساب، ويوم الوقوف بين يدي الله والعرض عليه، ويكون المآل إما إلى جنة وإما إلى نار.
قوله: ((ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ)) أي: ثم يحكم ويقضي بالحق، وسيعرفنا من المهتدي منا ومن الضال، ومن المؤمن ومن الكافر، وهل المفلح من عبد الأوثان وعاش في حياته مفسداً مرتكباً لأنواع الكبائر، من سفك الدم الحرام، وأكل المال الحرام، وهتك العرض الحرام، أم نحن الذين ملأنا قلوبنا وعقولنا بالله الواحد الرازق المحيي المميت، وقد طهّر الله أيدينا من سفك الدماء إلا بحق، وطهّرنا من الذنوب والمعاصي والكبائر، وطهّرنا من نشر الظلم والفساد، وأكل الأموال بالباطل، وانتهاك الحرمات بالباطل، ونشر الفساد في الأرض {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [هود:24] هيهات هيهات، فلا تستوي الظلمة مع النور، ولا الجهل مع العلم.
فقوله: ((ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ)) أي: يحكم ويقضي بالحق، والله هو الحق وسيقضي بالحق ويحكم به، قال تعالى: ((وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ))، فهو القاضي الحاكم المطلق العليم بما ينفع عباده، والعليم بجرائم المجرمين، والعليم بإحسان المحسنين، فيحكم على المجرم بما يليق به، ويحكم على المحسن بما يليق به، فهذا إلى النار وهذا إلى الجنة، ولا يظن إنسان في الأرض أنه سيفلت من يد الله العادلة وقضائه العادل، فيسفك الدماء ويقول: إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر كما يقول أكثر سكان الأرض ممن أضلهم الله على علم، فما نشروا إلا الفساد والكفران، وما نشروا إلا قطيعة الأرحام وسفك الدماء وهم يسعون في ذلك ليلاً ونهاراً.
((وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)) أي: هو الحاكم العادل جل جلاله العليم بعباده، فمن أحسن فله الإحسان، ومن أساء فعليه الإساءة، ومن يعمل مثقال ذرة من خير كان له الخير، ومن عمل شراً كان له الشر، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].(221/6)
تفسير سورة سبأ [27 - 33]
يستعجل الكفار عذاب الله سبحانه، استهزاء برسلهم وجحوداً لوقوعه، لكن حين يأتيهم ويحل بهم يتبرأ التابع من المتبوع، ويلقي عليه اللوم، ويدفع المتبوعون عن أنفسهم هذا اللوم، وهذا لا ينفعهم بشيء ولا ينجيهم من العذاب بعد كفرهم به في الدنيا واستعجالهم له.(222/1)
تفسير قوله تعالى: (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء)
قال الله جل جلاله: {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سبأ:27].
يأمر الله سبحانه نبيه أن يقول للذين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً: ((قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ)) أي: أروني إما رؤيا بصرية، أو رؤيا قلبية، أي أعلموني بذلك وأخبروني عن هؤلاء الذين كذبتم على الله واتخذتموهم شركاء له.
((كَلَّا)) وهي إضراب عن كلام سبق أن قيل، أي: لم يكن ذلك ولا أصل له ولا حقيقة ولا واقع، فليس هناك إله غير الله وليس هناك رب سوى الله وليس لله شريك، بل الكل عبيد لله وخلق لله ولكن من اتخذ ذلك اتخذه زوراً وكذباً، فسمى أسماء واخترعها وليس له عليها من الله سلطان.
((كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) إضراب عما قيل في الكلام قبل، أي: قيل هناك شركاء، وقيل هناك أصنام، كلا ليس هناك شيء، بل الموجود المعبود الخالق الرازق ((هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)).
العزيز الذي انفرد بالقدرة والقهر وهو القاهر فوق عباده، والحكيم في أقواله وأفعاله وأحكامه جل جلاله.
((بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) فليس هناك أوثان، وليس هناك شركاء، بل الموجود هو الله، وموجد الوجود هو الله جل جلاله، والكل له عبيد مقهورون مغبوطون ليس لهم شرك مع الله ولا اتخذ الله منهم معيناً ولا مساعداً.(222/2)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس)
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28].
زعمت طوائف من اليهود في العصر النبوي ويزعم هذا بعض من أضله الله عن علم أو عن جهل بأن النبي لم يُرسل إلا إلى العرب، وأن اليهود لهم نبيهم، وأن النصارى لهم نبيهم، فاتخذوا مع الله آلهة شركاء ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا البلاء أخذ يقوله اليوم من يتزعم ويتحكم في بعض الشعوب الإسلامية، فقد أضله حتى كفر بالله وارتد عن دين الإسلام، فذهب يزعم في كتاب أذاعه ونشره أن النبي لم يرسل إلا إلى الوثنيين، ولم يُرسل إلى اليهود ولا إلى النصارى.
يقول تعالى تأديباً لهؤلاء ممن يعبدون الأوثان قبل وبعد، وممن جعلوا لله شريكاً بلا دليل ولا سلطان من الله: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)).
أي: يا محمد لم نرسلك إلا لكل الخلق ولكل الناس، وهذه الآية هي كما قال الله له وأوحى إليه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، فهو النبي والرسول للخلق كافة عربهم وعجمهم، أحمرهم وأسودهم، شرقيهم وغربيهم، وهو الذي أُرسل لجميع عوالم عصره والعوالم التي بعده إلى يوم القيامة، فلا نبي ولا رسول بعده، هو خاتم الأنبياء وهو خاتم الرسل صلى الله عليه وعلى آله.
وقد قال عليه الصلاة والسلام كما تواتر عنه من جملة خصائصه: (كان الأنبياء قبلي يُبعثون إلى أقوامهم خاصة وأرسلت إلى الناس كافة) فكان الأنبياء السابقون أنبياء قوميين لم يرسلوا إلا لأقوامهم، وكان نبينا عليه الصلاة والسلام نبي البشرية كلها ونبي العوالم كلها من أدركه في عصره ومن سيأتي بعده إلى يوم النفخ في الصور.
وقال عليه الصلاة والسلام: (بعثت إلى الأحمر والأسود) كل هذا من المعلوم في دين الله بالضرورة، فمن أنكر ذلك بل من تشكك فيه خرج عن الإسلام وأصبح مرتداً.
ولذلك الخلق كلهم من يوم ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في الديار المقدسة ودعا الناس إلى الإيمان برسالته؛ أصبح كل الخلق منذ تلك اللحظة وإلى يوم القيامة يعتبرون شعوباً وأمماً وعوالم محمدية، ولكن من أجاب واستجاب للرسالة المحمدية كان أمة إجابة، ومن تمرد وأعرض كان أمة متمردة معرضة.
بعد ظهور النبي عليه الصلاة والسلام لم تبق رسالة موسى ولا رسالة عيسى ولا رسالة أي من الأنبياء، فقد كانوا أنبياء في وقت مخصوص ولأقوام بأعيانهم، فلما رُفع عيسى لم يرسل بعده نبي خلال 650 عاماً إلى أن أرسل الله محمداً العربي الهاشمي المكي المدني الرسول العام الشامل لكل الخلق، ولم تبق نبوة ولا رسالة بعده، وكل من أنكر ذلك وكل من تشكك في ذلك خرج عن الإسلام بخرافات وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان، وكل من قال سوى ذلك يكون قد أنكر القرآن الكريم والسنة النبوية والرسالة المحمدية.
قال تعالى: ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)): أكثر الناس لا يؤمنون بهذه الحقيقة ولا يعلمونها، ولذلك يقول ربنا لنبينا عليه الصلاة والسلام: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] وقال تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14] هي قلة ممن آمن قبل، وفئة قليلة ممن آمن بعد.
وسكان الأرض اليوم أربعة مليار نسمة، المسلمون منهم لا يتجاوزون ملياراً، والباقي كلهم بين عبدة عيسى ومريم وعبدة العجل والعزير وعبدة النيران والحيوانات وعبدة ماركس ولينين، وعبدة ما لم ينزل الله به من سلطان من كل من ضل وأضل ولم يقدم لنفسه نفعاً ولا ضراً.
((وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) أنك النبي الهادي لكل البشر، وأنك الرسول الخاتم لكل العوالم لا نبي بعدك ولا رسول، وأنزل عليك القرآن الكريم لتنذر به الناس ومن بلغ، أي: ومن سمع ذلك يجب عليه أن يدين بهذا وإلا كان كافراً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي) لو قُدّر وعاش موسى لما وسعه إلا أن يكون تابعاً لمحمد مسلماً ومؤمناً بدينه، وعيسى لا يزال حياً وهو في السماء الدنيا وسينزل في آخر الزمان فيحكم بدين محمد وبالكتاب المنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك من كتب في تراجم الصحابة ترجم لعيسى على أنه من الصحابة وأنه من أتباع النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الصحابي من آمن برسول الله ورآه في حياته ومات على ذلك، وعيسى اجتمع بنبينا في السماء الدنيا ليلة الإسراء ورحّب به وخاطبه بالرسالة.
وسينزل الأرض ويكون على دين الإسلام فيأتم بأئمة المسلمين في صلاته، وسيحج حج المسلمين في مكة ومنى وعرفات فهو على ذلك صحابي محمدي كما ترجم له الحافظ العسقلاني في الإصابة وأطلق عليه تعريف الصحابي.(222/3)
تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)
قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [سبأ:29].
هؤلاء عندما قال لهم نبي الله: يوم القيامة يجمع بيننا ربنا ثم يحكم بيننا بالحق، أنكروا هذا الجمع وأنكروا يوم القيامة وأخذوا يقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [سبأ:29].
أي: متى سيكون ذلك؟ يقولون ذلك متشككين ومتلاعبين وهازئين.
((وَيَقُولُونَ)) يقول الكفرة والمشركون {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [سبأ:29] يخاطبون النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الذين يؤمنون به وباليوم الآخر: أين هذا اليوم الموعود؟ متى ستكون القيامة؟ وسئل النبي عليه الصلاة والسلام من جبريل: متى الساعة؟ قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي: أستوي أنا وأنت في عدم معرفتها فهي من العلم المكنون الذي استأثر الله به، ولا يعلمه سواه، ولكن لها علامات، فسأل جبريل النبي عليه الصلاة والسلام: وما أماراتها؟ وكان من الأمارة الأولى والعلامة الأولى بعث النبي عليه الصلاة والسلام فهو نبي آخر الزمان ورسول آخر الزمان، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (بعثت والساعة كهاتين) وأشار بالسبابة والوسطى.(222/4)
تفسير قوله تعالى: (قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة)
قال تعالى: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ:30]: يوم خلق الله الخلق ويوم كوّن النطفة في رحم أمها جنيناً، ويوم أمر الله الملك بنفخ الروح كتب الله أهو شقي أم سعيد، أغني أم فقير، أمؤمن أم كافر، ما أجله فالآجال قد أُحصيت قبل خلق الخلق، وقدّرت المقادير قبل خلق الدنيا بآلاف السنين، وطويت الصحف على اللوح المحفوظ الذي قال الله عنه: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:29] واللوح الذي من قبل الملائكة الذي قال عنه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] قد قدّر الله ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق بآلاف السنين، فمن كانت له حياة مهما كانت ومهما لقي من العذاب والمحن لا بد أن يبلغها، ومن قُدّر عليه شيء لا بد أن يصل إليه خيراً أم شراً.
قال الله تعالى: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ:30].
أي: لكم يوم موعود ستموتون فيه، فاليوم المذكور هنا يوم الوفاة، وهو يوم القيامة الصغرى، واليوم الموعود هو يوم القيامة الكبرى، اليوم الذي يُبعث فيه الخلق إلى الله وينتصبون قياماً للعرض عليه لحسابهم، ليدخل الجنة من فاز وليدخل النار من خاب.
((قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ)) ميعاد: موعد، أي وقت محدد معلوم مقدر في الأزل في اللوح المحفوظ، لا يتقدم عن وقته ساعة ولا يتأخر ساعة، فنحن نرى أنه قد يتعرض الإنسان لكل أنواع الموت فلا يموت، قد يقع من الطائرة وهي في أجواء الفضاء فلا يموت، قد يغرق في البحر ويردم عليه الردم ثم يخرج حياً؛ وقد يموت الإنسان من عثرة، أو من وقوع إناء عليه.
((قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً)) أي: لا تتأخرون -ولو طلبتم- ولو ساعة من زمن والتاء للطلب.
((وَلا تَسْتَقْدِمُونَ)) أي: ولو طلبتم أن تموتوا، ولا بد من اليوم الموعود عند الله المكتوب في اللوح المحفوظ الذي كُتب على الجبين يوم زُرعت الروح للجنين وهو في بطن أمه؛ فلا تستعجلوا العذاب، الكلام مع الكفار الذي يستعجلون بالآخرة ولا يؤمنون بها، أما المؤمنون فهم منها وجلون خائفون ومن يوم العرض على الله ترتعد فرائصهم، وهؤلاء لا يقولون ذلك إلا كفراً بها وعدم إيمان بها، وسيرون ذلك عند الغرغرة.(222/5)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن)
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31].
لو ترى -يا محمد- حال هؤلاء المنكرين للبعث الذين يستعجلون يوم القيامة ولا يحسبون لها حساباً ولا يهابون يوم العرض على الله وهم في النار خالدون، يقول الله عن هؤلاء الذين أصروا على الكفر: ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)).
لن هنا يقال عنها لن الزمخشرية، أي أنها للنفي المؤبد، يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام: لن نؤمن بهذا القرآن الذي أُنزل عليك، لن نؤمن به كتاباً من الله، ولن نؤمن به وحياً، لن نؤمن به كلاماً من الله.
((وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)) أي: ولا بما سبقه قبل أن ينزل، فلا يؤمنون بالتوراة ولا بالإنجيل ولا بجميع الرسالات والكتب السماوية؛ فهم كفرة يتحدون بكفرهم، وهم مشركون مصرون على كفرهم يتجاهرون بذلك ويعلنونه.
قال تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام عن هؤلاء: ((وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) أي: لو ترى هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك بالله محبوسين عند ربهم وموقوفين للعرض وللحساب ولمناقشة الكتاب؛ لو تراهم ((يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ)) أي: يتجادلون يقول بعضهم لبعض كلاماً يرجع له الآخر بالقول ويجادله ((يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)).
هذا الذي كانوا يرجعون به في الجدال وفي الخصام وفي النزاع بعد أن جمعتهم النار، فهم يرجعون القول ويتجادلون ويتخاصمون ويتنازعون.
((يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)) أي: يقول الأتباع الفقراء ((لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا)) أي: لأوليائهم وسادتهم وزعمائهم وخبرائهم: ((لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)) أي: لولا ما نشرتم بيننا من الكفر وأمرتمونا به وسعيتم به بيننا وصددتمونا عن الله وكتاب الله ورسالة الأنبياء لولا ذلك لكنا مؤمنين.(222/6)
تفسير قوله تعالى: (قال الذين استكبروا للذين استضعفوا)
قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ:32].
عندما قال الأتباع للمتبوعين: ((لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)) أجابهم هؤلاء القادة والزعماء ((الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا)) أي: تعاظموا في الدنيا ورأوا لأنفسهم شأناً وعظمة وكبراً لأنهم سخروا من الأتباع وجروهم إلى اتباعهم وأضلوهم عن الله وعن دين الله وعن رسل الله؛ فأخذ هؤلاء الكبراء يجيبون: ((أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ)) استفهام إنكار تقريعي، أي: أنحن الذين منعناكم؟ هل ربطنا أيديكم بالأغلال، أم جعلنا على أرجلكم أكبالاً؟ هل أجبرناكم إلى أن كفرتم ودخلنا في عقولكم؟ ليس الأمر كذلك ((بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ)) أي: أنتم مجرمون في الأصل لأنا قلنا كلاماً نحن في أنفسنا لم نتحقق منه ولم نأت عليه بدليل ولا برهان، إنما استغفلناكم وأخذنا أموالكم وركبنا أكتفاكم وأصبحنا قادة وزعماء على حسابكم، وكنتم أنتم قد أطعتم النزوات والشهوات وكنتم مجرمين في قبولكم، إذ اتبعتم ما لا دليل عليه ولا منطق فيه ولا برهان يؤكده، ما ذلك إلا لطبيعتكم المجرمة التي قبلت هذا بلا دليل ولا برهان.(222/7)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا)
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ:33].
عاد الضعفاء وأجابوا الكبراء وقالوا لهم: ((بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا)): أي: هي أباطيلكم التي دأبتم في الليل والنهار تعلنونها وتجرونا إليها وتلبسون علينا الحقائق.
والمكر: الحيل والأباطيل، أي: تحايلتم علينا بأن قلتم لنا اكفروا بالله واجعلوا له أنداداً، أي: أشباهاً مما تشركون به.
قال تعالى: ((وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ)): أسر: من الأضداد، يكون معناها الجهر ويكون معناها السر، ((وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ)) أي: جهروا بالندامة، وهذا الكلام يدل على أنهم جهروا بها فأخذ بعضهم يوبخ بعضاً وكفر الأتباع بالزعامات والسيادات وتبرأ الكبراء من الصغراء، والنار قد جمعت الجميع، ولن يفيدهم ذلك هيهات! لقد أضاعوا فرصة الحياة وأضاعوا فرصة الشباب التي قال عنها في الحديث: (شبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وعافيتك قبل مرضك) فهؤلاء قد تركوا الفرص كلها مدة حياتهم فما آمنوا يوماً ولا قالوا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، حتى إذا رأوا الحقائق أخذ بعضهم يشتم بعضاً وأخذ بعضهم يتبرأ من بعض؛ والكل جمعتهم النار.
قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أُخذ كل كافر صغيراً وكبيراً وجُعل في أعناقهم أغلالاً من حديد سحبوا منها على وجوههم في النار وقيل لهم: امكثوا خالدين أبداً دائماً سرمداً.
والأغلال: جمع غُل، وهو الحبل الذي في العنق يُسحب به إلى النار.
والأعناق: جمع عنق.
قوله: ((هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) أي: فلا يلومون إلا أنفسهم هم الذين أشركوا بالله وكفروا بالله في دار الدنيا، كذّبوا أنبياءهم، كذّبوا كتب ربهم، ووقعوا فيما كانوا به يكذّبون، فلعن بعضهم بعضاً وتبرأ بعضهم من بعض، وأحاطت الملائكة بالتابع والمتبوع فجعلوا الأغلال في أعناقهم وسحبوهم منها إلى النار، وهل جزاء الكافر المشرك الظالم لنفسه إلا أن يعذّب عذاباً أبداً سرمداً.
جاء الأنبياء بهذا يعلمون ويبلغون وينذرون الكافرين ويبشّرون المؤمنين، ولكن هؤلاء أبوا في إصرار وتحدوا وقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ:31] أي: لا يؤمنون بكتاب سماوي البتة، فكما كفروا بالتوراة والإنجيل من قبل كفروا بالقرآن بعد ولم يؤمنوا برسالة سماوية ولا بكتاب من عند الله، وإذا بالدنيا تذهب ثم تأتي ملائكة الموت فرأوا الحقائق التي كانوا ينكرونها، فيجرون بالسلاسل في الأعناق، وذلك جزاء الكافرين.(222/8)
تفسير سورة سبأ [34 - 38]
ليست الكرامة بالمال ولا بالجمال ولا بالحسب والنسب، وليس مقام الخلق عند الله بالآباء والأجداد وما يملكه الناس، لكن بالتقوى، إلا أن سخافة عقول المشركين تجعلهم يقولون: (نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين).(223/1)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها)
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34].
((وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ)) أي: من رسول ينذر بيوم العذاب ويخوّف ويتوعد بيوم العقاب؛ فهذا الرسول ما كاد يظهر إلا قال مترفو القرية: ((إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)) يبادرون بالجحود.(223/2)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً)
قال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]: من عادة هؤلاء المشركين أن يكونوا سخفاء العقول ضائعي الفهم والإدراك؛ هكذا شأن من نرى من قادة دول الكفر وزعمائهم وفلاسفتهم ومفكّريهم وممن يزعمون العلم والزعامة، فتجدهم في غاية الغباء والبلادة، ويشاهد هذا في خطبهم وفي كلامهم، ولذلك أرادوا أن يستشهدوا على أنهم أهل الحق فقالوا وهم يترفّعون ويتعاظمون على الفقراء والمساكين: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35].
أي: نحن أغنى منكم، فنحن أكثر أموالاً منكم، وأكثر أولاداً منكم، وأكثر زعامة وسيادة، وأكثر منصباً، {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]، فظنوا أنه ما أعطاهم الله هذه الأموال والأولاد في الدنيا إلا لحبه لهم، ولأنهم ذوي منزلة كبيرة، وتبعهم أهل الكتاب فقالوا مثل ذلك، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] فزعموا أنهم أحباب الله والحبيب لا يعذّب حبيبه، وزعموا أنهم أبناء الله وأنهم من طينة غير طينة البشر، فقال الله لنبيه {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18].
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب) وفي جانب آخر ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الغنى، ولو أفقرهم لأفسدهم، وإن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأفسدهم).
وقال: (نعم المال الصالح للرجل الصالح)، والمال الصالح: هو الذي دخل مما أحل الله من العمل والتملك بالوجوه الشرعية التي أذن بها الإسلام.
والرجل الصالح هو الرجل الذي صلحت أعماله وصلحت عقائده، فإذا وقع في يده مال لا يتعالى فيه على الفقراء والمساكين، بل يعطي السائل والمحروم حقوقهم، فينفق على أهل النفقة من زوجة وأولاد وأقارب محتاجين، ويعطي الفقراء حقوقهم من مال الله الذي جعله في يده.
وكما قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون بجمع المال إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا)، أي: هلك الأغنياء المكثرون إلا من تصدق بماله في جميع وجوه الخير عن يمين وشمال، ومن بين يديه ومن خلفه.
وأما من كان جماعاً للحطام من الحسد والحرام واعتبر كل ذلك رزقاً فهيهات هيهات، فيوشك أن يهلك يوماً في حفرة فيأخذون ماله ويقتسمونه، ويتخذون زوجته زوجة لهم، ويعذب هو بما جمع من حرام، وهم إن علموا الحرام شاركوا بالمثل، وإن لم يعلموا فقد ورثوه عن حلال في ظنهم.(223/3)
تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ:36]: أي: قل يا محمد {إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ:36].
فالله تعالى يبسط الرزق ويوسع للإنسان في الأموال والخدم والحشم والأولاد.
ويقدر: أي: على البعض المال، فيقدر عليه ويقلل ماله ويكون هذا في صالح الفقير أفضل وأكرم، وإلا كان يمكن أن يغني هذا الفقير فإذا به ينسى الله فيكون الغنى عليه عذاباً.
نعلم الكثير من زملائنا عندما كنا أطفالاً في المدارس كانوا على غاية من الفقر والحاجة، ثم كبرنا وكبروا وتولوا مناصب في السفارات والوزارات والزعامات، وتمولوا العقارات أرضاً ودياراً، وكثر حشمهم وكثرت أولادهم.
فعندما كانوا فقراء صغاراً كانوا يعطون ويتصدقون ولو بقليل، وكانوا لا يتركون الصلوات الخمس، وكانوا يخافون الله ويهابونه، ولا يرتكبون الكبائر، وإذا بهم عندما استغنوا وأصبحوا قادة وزعماء نسوا الله، فتركوا الصلاة والصيام وكثرت فواحشهم.
وهكذا بلي هؤلاء بالمال والجاه، وإذا بهم يضلون بها ويفسقون، ويمنعون الفقير والمسكين حقه، ويتخذونها عوناً على سوء أعمالهم، وعونا للكفر ونشر الفواحش.
كانوا يقولون بالإسلام عقيدة ونظاماً ودولة، حتى إذا حكموا تنكروا لذلك، فحكموا بقوانين الشيطان، ونشروا الفواحش والخمور، ونشروا الفساد والعري والتبرج، وما عادوا يخافون الله من فوقهم ولا من يراهم، وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
فالغنى ابتلاء واختبار، فقد ابتليتم واختبرتم فرسبتم ولم تنجحوا.
قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ:36]: أكثر الناس يجهلون الحق ولا يعلمون الدين، فلا يؤمنون بالرسل، ولا يؤمنون بالكتب، ولا يطيعون الله، فما قالوا يوماً: ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين، ومع هذا لم يتركوا بلا نذارة ولا بشارة، بل أرسلت إليهم الرسل فسمعوا وما وعوا، وعلموا وما تعلموا، فرض عليهم فلم يفترضوا، وهكذا ما زادهم ذلك إلا ضلالاً وإيغالاً في الكفر والنفاق.(223/4)
تفسير قوله تعالى: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى)
قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37]: أي: يا هؤلاء أين ذهبت عنكم عقولكم، فهذه أجسام الحمير فيها عقول العصافير.
هؤلاء كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم، استدلوا بأدلة الحيوانات والقردة والببغاوات فقالوا: نحن أعظم الناس لأننا أكثر أموالاً، فمعنى ذلك أن من لا مال له فهو حقير.
مر النبي عليه الصلاة والسلام بين أصحابه وهم أفضل الناس بعد الرسل، فرأى رجلاً ضعيف الشكل يلبس ثياباً رثة، عليه آثار الحاجة والمسكنة والفقر، فسألهم النبي عليه الصلاة والسلام: (ما تقولون في هذا؟ فقالوا: يا رسول الله، هذا حري إذا خطب لم يزوج، وإذا دعي الناس لا يدعى، وإذا سئل الناس لا يسأل، وإذا غاب لا يذكر ولا يفتقد.
فسكت.
ثم مر بعده رجل آخر ذو قامة شامخة ولباس ظاهر جميل، فقال لهم: ما تقولون في هذا؟ فقالوا له: هذا حري إذا خطب أن يزوج، وإذا غاب افتقد، وإذا دعا الناس الناس دعي معهم، وإذا قال سمع له، فقال لهم نبي الله عليه الصلاة والسلام: إن ذاك خير من ملء الأرض من مثل هذا).
وهكذا هو، فليس التقى بالمال، ولا بالجمال، ولا بالحسب والنسب، وليس مقام الخلق عند الله بالآباء والأجداد وما يملكه الناس، ولكن {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
لأن الكل عبد الله، هو الذي اختار الأبيض واختار الأسود، وقد يكون الأسود أشرف بكثير من البيض، وهو الذي أغنى وأفقر، وهو الذي أعطى ومنع، وكل ذلك اختبار، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35].
كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وقد عذب سنتين من ملوك بني العباس من العذاب ما لا يحتمله أولو القوة، فصبر وتحمل وكان يعذب ويضرب حتى يغيب عن عقله وإحساسه.
ثم بعد ذلك مات الخليفة المأمون وجاء بعده أخوه المعتصم ثم مات وجاء الواثق، وإذا به يفك قيده عن رجله بيده؛ لأنه سأله وقال له: يا أحمد قل ما يقولون وإن فعلت والله لأفكن الأغلال والقيود عن رجلك بيدي، قال: يا أمير المؤمنين سل هؤلاء -زعماء المعتزلة أهل البدعة- عن هذا الذي يطلبونني فيه أقاله الله في كتابه؟ فسألهم فقالوا له: لا.
قال له: سلهم هل ذكر هذا رسول الله؟ قالوا: لا، قال: شيء لم يذكره الله في كتابه ولا رسوله في سنته، ألا يسعهم ما وسع رسول الله! وإذا بالخليفة ينتبه عندما سمع أن هؤلاء يقولون ما لم يذكره الله ولا رسوله، فقال: إذاً ففيم تعذبونه؟ وفيم تسألونه؟ فقام وحل القيود بيده، وأغدق عليه من النعم، وعرض عليه الكثير من المناصب، وقدم له المنح، ولكن أحمد عندما عرض الواثق عليه ذلك وقال له: اطلب ما شئت، قال: أسألك ألا تبحث عني، وألا تعطيني وألا تهدي إلي.
ومع ذلك أخذ الواثق يرسل له، ولكنه يقول له: الشرط بيني وبينك ألا تفعل، فذهب الواثق وتقرب لأولاده فولاهم قضاة وأغدق عليهم بالنعم.
وفي يوم من الأيام يجوع أحمد وكان البرد شديداً، فطلب الطعام فجاءوا بالخبز فسألهم أحمد: من أين هذا؟ قالوا: أخذنا الخميرة وجففنا الخبز من بيت ولدك صالح، وكان صالح قد نصبوه قاضياً، قال: والله لن آكل هذا الطعام قط.
فذهبوا بهذا الخبز، وأرادوا أن يهدوه، قال لهم: إن تصدقتم به فقولوا: رفض أحمد أن يأكله، فخرجوا يتصدقون فكل من قالوا له: امتنع أحمد عن أكله وأخذه، قال: لا حاجة لنا بطعام لم يأكله أحمد! وإذا به يسألهم: ماذا صنعتم به؟ قالوا: رفضه الفقراء ورفض الأغنياء، قال: فما صنعتم؟ قالوا: رميناه في التراب، قال: عليه من اليوم ألا يأكل طعاماً فيه شبهة، جمعه الملوك من الشبهة والحرام.
وصدق الله العظيم {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] يقول: صبرت على الشر وها أنا الآن يقبل علي الخير وهو ابتلاء أشد من ابتلاء الشر.
وهذا مشاهد، فقد يصبر إنسان على ابتلاء الشر، ويكون رجلاً شجاعاً صبوراً، ولا يصبر عن المناصب الكبيرة، والمال الوافر، والجاه والسلطان إلا من حفظه ربه، وقليل ما هم.
قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37]: أي: أموالكم وأولادكم لا تجعل لكم عندنا زلفى وقرباً، أي: لن تقربكم إلينا، ولن تنالوا الجنة بذلك، فذاك شيء والطاعة والتقوى شيء.
قوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37]: أي: ليس المال بالمقرب عندنا ولا الأولاد.
يعلمنا الله ويأمرنا أن لا تكون صلتنا ببعضنا لأجل المال والجاه والأولاد، ولكن لأجل الخير والصلاح والإحسان، ولأجل العلم، وأكرمنا على الله أتقانا، والتقوى الطاعة، ولكن إذا كان من بين هؤلاء الذين لهم أموال وأولاد وكانوا يحسنون إلى الفقراء فلهم عند الله جزاء الضعف.
فقوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ:37] أي: إلا من آمن بالله وعمل صالحاً فأطاع الله بصلواته، وبصيامه وبزكاته، وبحج بيت الله الحرام، وترك المحارم كلها، وفعل من الخيرات ما يطيقه كما قال: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوه).
{فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} [سبأ:37] جزاؤهم في الدنيا ومكافأتهم، وفي الآخرة يضاعف الله لهم الحسنات، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله.
وهكذا من آمن وعمل صالحاً وثبت على ذلك، إن كان يتمول فلا مانع بشرط أن لا يفسده المال، وإذا شاء أن يكون له أولاد بالعشرات فلا مانع على أن يعلم أولاده دين ربهم، والخلق الفاضل والطاعة لله ولرسوله، والبعد عن الشبهات والمنكرات بكل أنواعها، إن كان كذلك فسواء كان فقيراً أو غنياً فمنزلة الإنسان عند الله بحسب تقواه.
قوله: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37]: الغرفات: جمع غرفة، وهذه الغرفات هي منازل الجنة، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما رواه ابن أبي حاتم وأحمد وأصحاب السنن قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، ويرى باطنها من ظاهرها.
قيل: يا رسول الله، ولمن هذه الغرفات؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام).
وهكذا سمع الحاضرون أن الطريق لامتلاك هذه الغرفات أن يكون الإنسان طيب القول، لطيف العشرة والمعشر، لا يقول الخنا ولا يكون كذاباً ولا صخاباً بالأسواق، وتكون مائدته مفتوحة للغني والفقير، وللقريب والبعيد.
وأدام صيام الفرض وزاد من النوافل الإثنين والخميس مثلاً، أو اليوم الثالث عشر واليوم الرابع واليوم الخامس عشر، وقام يصلي بالليل والناس نيام، فمن فعل ذلك فهو المستحق لهذه الغرفات، والسكنى فيها.
{بِمَا عَمِلُوا} [سبأ:37] أي: بسبب عملهم، فالباء سببية.
{وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37]: أي: يأمنون غضب الله وعذاب الله، والدخول في النار، فهم في الجنة قد أمنوا الغضب والعذاب، وهم في لذة من العيش فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.(223/5)
تفسير قوله تعالى: (والذين يسعون في آياتنا معاجزين)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [سبأ:38]: ما سبق هو جزاء المؤمنين بالله وبرسله، القائمين بالأعمال الصالحة، وأما الآخرون فهم في العذاب محضرون، ودائماً ربنا يقابل بين عمل الصالحين وعمل الكافرين؛ لأن النبي أرسل مبشراً للمؤمن بهذه الغرفات، ومنذراً للكافر بالسعير والعذاب والغضب من الله.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [سبأ:38]: أي: أما الذين يسعون ويبذلون الجهد ويتعبون أنفسهم ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ويسعون في الصد عن الله ونشر الفواحش والصد عن البيت، والكفر بالله وبكتب الله وبرسل الله، {أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [سبأ:38] أي أنه يخلدهم في النار، فيغضب عليهم ويلعنهم.(223/6)
تفسير سورة سبأ [39 - 41]
يتوهم المشركون أن ما أعطاهم الله من مال وولد في الدنيا إنما هو لأنهم محبوبون عند الله، ونسوا يوم القيامة، وأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أما عبادتهم للملائكة وقولهم إنهم بنات الله إنما هي عبادة للجن والشياطين.(224/1)
تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39].
هذا المعنى مضى في آية سابقة، وهذا تأكيد له مع زيادة أن من أنفق نفقة في خير أخلفها الله عليه.
قوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي} [سبأ:39] هذا جواب على أولئك الذين عاشوا في رفاهية في الحياة الدنيا وكثرت أموالهم وتعدد أولادهم لكنهم بطروا في ذلك، وجعلوه كفراً بنعم الله وما رزقهم، وعندما جاءتهم الأنبياء كفروا بهم وبما أنزل عليهم، وقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين.
فهؤلاء الذين توهموا أن ما أعطاهم الله من مال وولد في الدنيا إنما هو لخيرهم، وأنهم محبوبون عنده، فنسوا يوم القيامة، وقالوا كما قالت اليهود والنصارى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فقال الله لمحمد عليه الصلاة والسلام {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18]، فالحبيب لا يعذب حبيبه، أي: ليسوا بأحباب الله، ولو كانوا كذلك ما دخلوا النار، وإنما يدخل النار كل مشرك وعاص، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، وحرم الله الجنة على الكافرين، وهؤلاء كذلك، فأكد الله هذا المعنى في آية أخرى، وقال لنبيه: قل يا رسول الله لهؤلاء: إن المال والغنى والرفاهية يعطيها الله لمن أحب ولمن لم يحب، وهو ابتلاء واختبار.
فمن شكر النعمة بالأركان واللسان وبالأعمال والأفعال والأقوال كان من أهل الخير والصلاح، ومن كفر النعمة ولم يشكرها كان ذلك ابتلاء وبلاءً ومحنة يعذب عليها يوم القيامة.
وأما الغنى في نفسه فليس خاصاً بالمؤمنين، كما أنه ليس خاصاً بالكافرين، فهو ابتلاء ومحنة يختبر الله بها من يرزقه ويعطيه حتى يقوم في ماله بما فرض الله عليه من زكوات ونفقات واجبة، ويوزع ماله يميناً وشمالاً لكل من احتاجه، {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]، وعسى أن يكون هؤلاء كذلك، فإن كانوا كذلك فلهم الجنة، وإن لم يكونوا فقد رسبوا في الامتحان وكان ذلك عليهم بلاءً ومحنة.
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [سبأ:39] أي: إن الله هو الذي يغني ويفقر، وهو الذي يعطي ويمنع، ويبسط الرزق ويوسع، ويكثره على من يشاء ابتلاءً له، ويفقر ويقدر ذلك بقدر معلوم، وقد يكون ذلك لصالح هذا العبد لكي يقل حسابه فيما أعطي وفيما أنفق.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا) أي: هلك الأغنياء الذين أعطاهم الله المال وفرض أن يعطوه للفقراء والمساكين والسائلين والمحرومين، {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، فالمال الذي بين أيدينا هو مال الله، جعله في أيدينا أمانة، وأمرنا بصرفه في وجوه المصارف والعطايا، فأمرنا بالصرف وجوباً للفقير والمسكين والسائل والمحروم.
وأمرنا بالنفقة على الزوجات والأولاد والخدم، وأمرنا أن نزكي من مالنا إذا بلغ النصاب على الفقير والمحتاج والمسكين، وأمرنا إن جاء سائل أن نعطيه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (للسائل حق ولو جاء على فرس)، فللسائل حق إذا صدق، وكذلك من جاءك محروماً فأعطه مما عندك من القليل أو الكثير حسب ما يلهمك الله، ومن لم يعط من القليل لا يعط من الكثير.
فالله الذي يبسط الرزق ويوسعه على عباده ممن شاء، ويقدره ويقلله أيضاً على عباده من يشاء منهم، وليس الفقر والغنى علامة غضب أو علامة رحمة، قد يفقر الصالح رحمة به؛ لكي لا يثقل عواتقه وتكبر عليه المسئوليات، وقد يعطي الكافر فضلاً عن غيره ويكون ذلك محنة ونقمة وعذاباً له يوم القيامة، فإن الله يعطي المال للكافر وللمؤمن، ولا يعطي الإيمان إلا لمن يحب.
ثم قال تعالى حاضاً على العطاء وعلى الكرم وعلى الإنفاق: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] يخاطب المؤمنين الأغنياء والفقراء، فالغني يعطي من الكثرة، والفقير يعطي من القلة.
فالله يخبر المؤمنين أن من أنفق مما أعطاه الله أخلف الله عليه وعوضه، وقد يكون التعويض في دار الدنيا والآخرة، وقد يكون التعويض في الآخرة فقط كما يقدر الله جل جلاله، وهو العليم بالحكمة لعبده ما ينفعه وما يضره.
وكما جاء في الحديث: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر ولو أغناهم لأفسدهم، وإن لله عباداً لا يصلحهم إلا الغنى ولو أفقرهم لأفسدهم، ونعم المال الصالح للرجل الصالح).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى حاضاً على العطاء والإنفاق في سبيل الله كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: (ينزل للأرض من السماء كل صباح ملكان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).
فيدعو هذان الملكان الله جل جلاله بأن يخلف على المعطي كل ما أنفق، والحسنة بعشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء ربنا، ويدعوان على الممسك بالضياع والسحق في المال.
وقال عليه الصلاة والسلام: (أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً).
وكان عليه الصلاة والسلام يحض على كثرة النفقات والعطايا، وكان هو في نفسه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، كان لا يريد الغنى بحال من الأحوال، فقد خير بين أن يكون ملكاً نبياً كسليمان وداود أو يكون عبداً نبياً، فاختار العبودية لله، قال: (أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر).
ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام ينفق كل ما يدخل يده من الغنائم في الحروب وفي الغزوات نفقة من لا يخشى الفقر، يعطي المائة ناقة، ويعطي من الشياه مئات، ويعطي من الأموال عليه الصلاة والسلام عطاء من يملك الدنيا ولا يخشى الفقر.
فقد عرضت عليه الدنيا فأباها وعرضت عليه الجبال ذهباً فأباها، وعرض عليه جبل أحد ذهباً فأباه، وعرض عليه أن يكون نبياً ملكاً فأبى ذلك، وأبى إلا أن يعيش عبداً نبياً، وأن يكون في أخلاق عبيده مسكنة وعبادة وتهجداً ولباساً وعطاءً.
وكان عليه الصلاة والسلام رئيس دولة، وملك أمة، وقائد جيش، فهو عليه الصلاة والسلام قد أقام ديناً بوحي الله، وأسس دولة للإسلام بأمر الله، وفرض نظاماً في ذلك، من تجاوزه وابتعد عنه خرج عن الإسلام.
فالنبي عليه الصلاة والسلام برز في مكة المكرمة وبين العرب ولم يكن عليهم ملك ولا رئيس، فقد كان القوي يأكل الضعيف والغني يأكل الفقير؛ ولذلك عندما سادهم عليه الصلاة والسلام وعندما كانوا صالحين أصبح هو المالك والحاكم والموجه والمسير، فقد كان يولي ويعزل، ويرسل الخبراء والسفراء والقادة، ويصدر الأحكام جلداً ورجماً وقطع أيدٍ وأرجل، وكان يفعل ما يفعله رؤساء الدول.
ومع ذلك كان ملكاً في شكل مسكين، وكانت الأرض كلها له، وتتشرف الملوك والأباطرة أن تمسح على قدميه، وأن تقدم الحذاء لرجليه، فهو إمام الأنبياء وسيد البشر الماضين والحاضرين وإلى يوم القيامة.
قوله: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]: هذا وعد الله الحق وجرب ذلك فإننا ما رأينا فقيراً يعطي من حاجته إلا والله لم يتخل عنه، وما رأينا غنياً مؤمناً مسلماً يعطي الفقراء والمساكين والسائلين ويؤدي الحقوق إلا والدنيا تكثر عليه وكأنه يحفر الأرض ويخرج الذهب والفضة، ذاك وعد الله الحق، هذا في الدنيا.
أما ما أعد له يوم القيامة في الجنان ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
{وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] وهو الرزاق الحق.
ومع ذلك قد يكون الرزاق يرزق رزقاً نسبياً، فالوالد يرزقه زوجته وأولاده، والرئيس يرزقه شعبه وأمته، ولكن رزقه من رزق الله وعطاء الله، والله خير هؤلاء الرازقين، رزقه من شيء لا يملكونه، إنما أعطوا عطاء.(224/2)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً)
قال ربنا: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40].
من المعلوم أنه كان ولا يزال بين البشر من يعبد الملائكة ويقولون عنهم بنات الله، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً.
فيوم القيامة يسأل الله هؤلاء المعبودين ذوي الروح والخلق والحياة والوجود، يسأل الأنبياء ويسأل الملائكة ممن عبدوا تبكيتاً لهؤلاء الذين كانوا يعبدونهم، وذلك حين يجمع العابدين والمعبودين يوم القيامة، فيقول ربنا للملائكة: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40]، أي: أهؤلاء كانوا في دار الدنيا يعبدونكم ويجعلونكم آلهة تحيون وتميتون وتخلقون وترزقون؟! كما سأل الله كذلك عيسى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:116] أي: أن هذا تكذيب وتبكيت للنصارى الذين اتخذوا عيسى إلهاً، والذين اتخذوه ابن إله، والذين عبدوه مع الله ومن دون الله.
فيقول عيسى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة:117].
والأنبياء والرسل جميعاً دعوتهم واحدة ورسالتهم واحدة، فكلهم جاء يقول للجن والإنس: قولوا لا إله إلا الله، واعبدوا الله وحده، واكفروا بالأوثان، واكفروا بالأصنام، واكفروا بكل معبود سوى الله جل جلاله.
كذلك سأل الملائكة هاهنا: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] أي: أهؤلاء الذين اتخذوكم آلهة وعبدوكم من دون الله؟ فأجاب الملائكة كما أجاب عيسى فقالوا: {سُبْحَانَكَ} [سبأ:41] أي: ننزه ونعظم ونبجل ونخصك بالعبادة وحدك، سبحانك أن يعبد معك أحد، فنحن وهم وكل من خلقت سيأتي لك عبداً، فأنت الموجد له من العدم، وأنت الرازق له، وأنت الذي أحييته ثم أمته ثم أحييته تارة أخرى، {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41].
ومن المعلوم أن طائفة تعبد الجن وطائفة تعبد الملائكة، أي: هؤلاء الذين عبدوا الملائكة عبدوهم لأمر الجن لهم، الجن يوسوسون للإنسان ليضلوه، وقد تعهدوا بذلك؛ ولذلك حذر الله بني آدم من أن يثقوا بالشيطان ووساوسه.
وأضلهم الجن ووسوسوا إليهم بعبادة الملائكة، فهم عبدوا الجن أي أطاعوهم بعبادة الملائكة، قالوا: ((بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ)) أي: يطيعون الجن بعبادتنا، فنحن لم نأمرهم ولم نقبل ذلك منهم، ولم يخطر لنا هذا ببال، بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون.
فأكثر هؤلاء الوثنيين المشركين كانوا مؤمنين بالجن، والإيمان بالجن طاعتهم وتحريض الناس على الكفر، تحريض الخلق على الشرك بالله، فتبرأ الملائكة منهم، كما تبرأ عيسى ممن كان يعبده من النصارى.
وحكمة ذلك أن هؤلاء الذين زعموا ما زعموا قد حكم الله بينهم بالعدل وجمعهم جميعاً، فسأل هؤلاء وهؤلاء، فقال الملائكة وقال عيسى وقال المعبودون من البشر: معاذ الله يا ربنا، فإننا نعظمك وننزهك ونجلك عن أن يكون هذا، إنما عبدوا الجن وأطاعوا وساوسهم وإغراءاتهم وخضعوا لهم، ما كان لنا أن نفعل ذلك ولا أن نقوله، ولا أن ندعي لأنفسنا ما ليس لنا بحق.(224/3)
تفسير سورة سبأ [42 - 47]
دين الإسلام دين يقوم على الحجة والبرهان، وقد ورد في سورة سبأ كثير من الحجج والبراهين الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به، وفيها الأمر بالتفكر والنظر في هذه الحجج لتتبين السبيل، وتتضح الطريق.(225/1)
تفسير قوله تعالى: (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً)
قال تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ:42].
يقول ربنا يوم القيامة وهو يحذرنا ونحن في دار الدنيا؛ لكي لا نظلم أنفسنا؛ ولكي ننتهز فرصة حياتنا ووجودنا فنرجع عن ذنوبنا ومعاصينا، ويرجع الكفرة عن شركهم وكفرهم فيقولون وهم لا يزالون أحياء: ربنا أغفر لنا خطايانا يوم الدين، ويسجدون لله يدينون لله بالطاعة.
فيقول الله للجن والإنس يوم القيامة: {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا} [سبأ:42].
أي: ها أنتم أولاء قد حشرتم جميعاً، وتعرضون على الله جميعاً ليفصل القضاء بينكم إما إلى الجنة وإما إلى النار، فاليوم لا ينفع بعضكم بعضاً ولا يضره.
لن يجرؤ هؤلاء الآلهة سواء كانوا ملائكة أو أنبياء أن يشفعوا لكم عند ربكم، إذ لا شفاعة لكافر، وحتى شفاعة المؤمن لن تكون إلا بإذن الله {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255].
ولن يستطيع هذا المعبود العبادة المزيفة أن يضر من كفر بألوهيته، فليس بيده نفع ولا ضر، لم يضر نفسه ولا ينفعها فضلاً عن أن يضر غيره أو أن ينفعه.
وهذا يوم يعترف الكل ويعيش في واقع يوم القيامة الذي أنكروه وهم على حال الحياة في دار الدنيا.
قوله: {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [سبأ:42] أي: الذين أشركوا وكفروا فظلموا أنفسهم بالكفر والشرك.
{وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ:42]: أي: يا هؤلاء احترقوا في النار وتذوقوها وكأنكم تتذوقون فاكهة شهية وطعاماً شهياً، هذا من باب الهزل والسخرية بهم، أي: ذوقوا عذاب النار وادخلوا فيها واحترقوا بهذه النار التي أنكرتموها وأنتم في دار الدنيا أحياء، هذه النار التي جاء أنبياؤكم ينذرونكم لظاها وعذابها، وقد أخبركم الله بها في الكتب المنزلة في صحائف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى، وفي القرآن المنزل على محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.(225/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات)
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ:43].
هؤلاء الكفار إذا تليت عليهم آياتنا، أي: تلاها رسول الله وتلاها الأصحاب وتلاها العلماء والدعاة إلى الله، وهي بينات واضحات في معجزات الله القادر على كل شيء كذبوها.
هذه الآيات البينات صدقها فيها، ونحن نتلوها الآن بعد ألف وأربعمائة عام، كل الكتب السابقة تبدلت وتغيرت وحرفت عن مواضعها، وجعلت كتب كفر وشرك، لكن القرآن آخر كتب الله المنزلة تعهد الله بحفظه، قال جل جلاله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فدليله فيه، وقد مضى عليه أربعة عشر قرناً على كثرة أعداء الله من كل ملة ومن كل جنس لم يجرؤ أحد على تغيير كلمة أو تحريف سورة أو رفع آية من مكان ووضعها في مكان آخر بعد هذه الحروب الطوال.
ونأتي نحن ونسمع أن هناك معجزة هي المعجزة الخالدة الدائمة التي يراها ويحس بها كل مؤمن إلى يوم القيامة، وهي القرآن الكريم الذي تحدى الله الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله، وكانوا أعجز من ذلك.
هؤلاء يسمعون هذا القرآن المعجز، الواضح في آياته فماذا قالوا؟ {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} [سبأ:43] هذا يشيرون إلى محمد سيد البشر عليه الصلاة والسلام، أي: يريد أن يبعدكم ويدفعكم ويحول بينكم وبين دين آبائكم.
وما هو دين آبائهم؟ عبادة الحجر، عبادة الوثن، عبادة الخلق من جن وملك، عبادة الهوى.
وقالت طائفة أخرى: {وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى} [سبأ:43] أي: ليس هذا إلا كذباً مختلقاً قاله وزعم أنه قول الله أوحي إليه.
وزاد آخرون بالإلحاح على الكفر: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ:43]: أي: قال طائفة أخرى من قادة الكفار وزعماء الكفار: ليس هذا القرآن إلا سحر مبين يسحرنا ببلاغته وفصاحته وجماله.
وهكذا شيطانهم الذي يعبدونه ويطيعونه أوحى إليهم زخرف القول غروراً!(225/3)
تفسير قوله تعالى: (وما آتيناهم من كتب يدرسونها)
قال تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44].
هذه خاصة بالعرب، يقول الله لنبيه وللمسلمين: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} [سبأ:44] هذا الدين من الذي أوحى إليهم به؟ {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} [سبأ:44] أي: لم ننزل كتباً من السماء على هؤلاء، فقد أنزلنا على بني إسرائيل التوراة والإنجيل، وأنزلنا على أمة إبراهيم صحفاً، وأنزلنا على قوم داود من بني إسرائيل الزبور، وأما العرب فلم ننزل عليهم كتاباً ولم تكن لهم رسالة من قبل، فمن أين جاءوا بهذه العبادة؟! ومن أين جاءوا بهذا الدين المزيف؟! وعمن تلقوه؟! وكيف تمسكوا به لدرجة أنهم اتهموا النبي عليه الصلاة والسلام بأنه ليس إلا رجلاً جاء ليصرفهم ويبعدهم عن دينهم.
أي دين هذا؟ هل عبادة الأوثان دين؟ وهل أكل أموال الناس بالباطل دين؟ وهل نشر المنكرات بكل أنواعها دين؟ {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44].
أي: لم نرسل لهم رسولاً قبلك، فأنت المفرد برسالة إلى العرب أولاً، ثم أرسلناك بشيراً ونذيراً لكل العالمين، فقد كانت الرسالة الأولى {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].
ثم قال الله له بعد ذلك: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، ثم أنزل إليه {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، فينذر الكفار المشركين الوثنيين بعذاب الله إن بقوا على ذلك، ويبشر من آمن منهم بالجنة والرضا والرحمة، فهو للعالمين.
وقد كانت النبوءة في الأيام الأول وفي الشهور الأولى ليجد من يكون معه، ليجد من يتلقى رسالته؛ ولهذا بعد سنوات وعذاب وتحمل وصبر من رسول الله دخل عمر في الدين وكان المتمم للأربعين، وهو عليه الصلاة والسلام يدعوهم ليلاً ونهاراً، يدعوهم في الأسواق العامة والمجامع الخاصة فلم يجيبوه.
فقوله: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} [سبأ:44] أي: فقد كانوا أمة أمية كما قال عليه الصلاة والسلام: (نحن العرب أمة أمية لا نحسب ولا نكتب)؛ ولذلك كان من أكبر المعجزات المحمدية ما قال البعض: كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم فيكفي أن يكون هذا الأمي عالم العلماء العارف بالأولين وبالآخرين، هذا العلم ما تعلمه من قومه فقد كانوا أميين، ولا تعلمه من النصارى واليهود فلم يكن في مكة يهودي ولا نصراني.(225/4)
تفسير قوله تعالى: (وكذب الذين من قبلهم)
قال تعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ:45].
قال الله لنبيه: قل لهؤلاء سخاف العقول الضائعين التائهين الضالين الذين لم نرسل إليهم قبلك نبياً ولم ننزل عليهم كتاباً: إنهم إنما اخترعوا أكاذيب وأضاليل من عبادة الأحجار والملائكة والجن، ولم يأت بذلك رسول ولم ينزل به كتاب.
أي: لقد كذب قبلهم أمم لم يبلغوا هم معشار ما آتيناهم من قوة، ومن سلطان، ومن جمال، ومن حضارة.
قالوا: والمعشار هو عشر العشر، أي: لم تكن حضارة العرب ولا جزيرة العرب ولا قوة العرب ولا غنى العرب في مثل قوة أولئك الأمم، حتى قيل: ولا عشر العشر من تلك القوة في الغنى والحضارة.
{وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} [سبأ:45] أي: ما بلغ كفار مكة والجزيرة العربية ومن جاء بعدهم نفس الشيء، وإنما جعل العرب مثالاً؛ لأن النبي أرسل فيهم ومنهم، ثم عمم الله رسالته على جميع البشر.
{وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} [سبأ:45] ما بلغ هؤلاء ولم يبلغوا إلى معشار ما آتينا الأمم السابقة من قوة الأبدان وقوة الشعوب والدول والحضارة كثمود وعاد، فقد ذكروا في التاريخ أنهم كانوا من القوة والسلطان والحضارة بمكان بليغ.
وكما قص الله علينا في نفس السورة قصة سبأ وما بلغوا من حضارة وغنىً ورفاهية، فكذبوا الرسل إلا قليل منهم، وكذبوا كتب الله.
قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ:45] استفهام تقريعي توبيخي، أي: ذكرهم وقل لهم: هذه الأمم القوية الغنية عندما كذبوا رسلي كيف كان نكيري؟
و
الجواب
كان نكير الله -أي إنكاره عليهم وعقوبته لهم- غرقاً وزلزلة الأرض، وقلب عاليها سافلها، وكان لعنة مستمرة أبدية، وغير ذلك.
تلك الأمم كانوا أكثر حضارة وأكثر غنىً وأكثر جمعاً وأكثر أفراداً وأكثر شعوباً، ولم يبلغ العرب معشار ما آتاهم الله من هذه المعاني، فكذبوا رسل الله، والكتب الموحى بها إليهم، فعندما كذبوهم عاقبهم الله، وقد قص الله هذا في كتابه في غير ما سورة من السور، فذكرهم بذلك يا محمد كيف كان؟ وهكذا ينذر الله هؤلاء بأنهم إذا لم يعودوا إلى الله ويؤمنوا بمحمد رسول الله سيقع عليهم ما وقع على الأمم من قبلهم، فلم يعجزنا أولئك على قوتهم وسلطانهم وكثرة عددهم، أفتعجزوننا أنتم، وأنتم شراذم مشتتة في هذه الصحاري القاحلة التي لا تكاد تنبت؟!(225/5)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما أعظكم بواحدة)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46].
أي: قل لهم يا محمد: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46].
رجع الله لعقولهم ولأذهانهم ولفهومهم، ولم يطلب منهم أن يرجعوا للقرآن أو لطاعة محمد بلا منطق ولا عقل ولا برهان.
قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:46].
أي: إنما آمركم وأنصحكم وأدعوكم إلى خصلة واحدة فقط، وهي (أَنْ تَقُومُوا) أي: تكلفوا أنفسكم بأن تفكروا وأن تنصفوا من أنفسكم.
{أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] أي اعقدوا اجتماعات ومؤتمرات وندوات، وتفكروا اثنين اثنين وواحداً واحداً، جماعة جماعة وأفراداً أفراداً، فكروا وقولوا لأنفسكم: هذا الذي أتى به محمد الذي عرفنا ولادته ونشأته وعشيرته وأجداده منذ عدنان إلى عبد مناف إلى عبد المطلب إلى عبد الله إليه، وعاش بيننا أربعين سنة ونحن نقول: إنه ما كذب كذبة قط! مر عليه الصلاة والسلام عندما أمره الله بأن ينذر عشيرته الأقربين، فوقف على الصفا ونادى: يا صباحاه! يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد المطلب يا بني عبد مناف، فتجمعوا وحضر ممن حضر عمه أبو لهب فقال لهم: إذا قلت لكم إن خلف هذه الجبال أعداءً جاءوا ليقهروكم ويغزوكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما علمنا عليك كذباً من قبل، قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
فقال له عمه أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ شتم ابن أخيه فأنزل الله فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:1 - 2] وهكذا أصبح شتم أبي لهب عبادة وتلاوة إلى أبد الآباد.
ومن اللطائف أنه جاء في صحيح البخاري أن العباس عم النبي رأى أخاه أبا لهب في المنام وهو لم يسلم بعد وسأله: يا أبا لهب كيف أنت؟ قال: في محنة وفي عذاب إلا ما كان من يوم الإثنين فإني أسقى قطرة من ماء في هذه الحفيرة بين الإبهام والسبابة فأجد فيها راحة.
ولم ذلك؟ أتدرون لم؟ يوم الإثنين يوم فيه ولد ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، وجاءت جاريته ثويبة وكانت قد حضرت ولادة النبي عليه الصلاة والسلام فقالت لسيدها أبي لهب: أبشرك بأنه ولد لأخيك عبد الله ولد وسموه محمداً، فأعتقها لبشارتها له بذلك.
فكان من رحمة الله له وهو كافر أن يسقى هذه القطرة من الماء جزاء ما أعتق ثويبة عندما بشرته بولادة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
وهكذا ما خدم النبي صلى الله عليه وسلم أحد بالكفر أو الإيمان إلا ويجد شيئاً، ومن ذلك عمه أبو طالب الذي نافح عنه ودافع عنه وكافح عنه، فسئل: أينفعه ذلك يوم القيامة؟ قال: (نعم.
هو في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، ولولا أنا لكان في قعر جهنم).
فقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:46] أي: إنما آمركم وأنصحكم بخصلة واحدة {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46].
أي: تفكروا في هذا الذي قلتم عنه شاعر، ساحر، كاهن، مجنون، طالب مال، طالب ملك، طالب زواج، ففكروا قليلاً متى تعلم هذا الرجل وقد جاءكم بعلم الأولين والآخرين، عاش بينكم أربعين سنة، وكان يكلمكم ويسائلكم، فتقولون له: ما علمنا عليك كذباً قط، وكنتم تلقبونه بالأمين؛ لصدقه وأمانته، أبعد أن بلغ الأربعين وتجاوز حد الشباب وحد الصبا تتهمونه بالكذب على الله؟! ثم هذا العلم الذي أتاكم به من أين تعلمه؟ وهذا الكلام البليغ الذي تحدث به عن الأمم الماضية والأمم الحاضرة والأمم الآتية وعن الخلق قبل أن يخلق وعن الآخرة بعد زوال الدنيا؛ هذه العلوم والمعاني من الذي آتاه بها؟ هل فيكم الآن أو قبل أو بعد من يعلم جزءاً من هذه المعاني؟ تفكروا هذه المعجزات التي ظهرت على يده من تكثير القليل ومكالمة الدواب له عليه الصلاة والسلام بل حتى الجمادات، هل كان هذا لواحد منكم؟ هل رأيتم ساحراً يفعل ذلك؟ وقد تهدمت الكعبة نتيجة الفيضانات يوماً وكدتم تتقاتلون بعد بنائها من يضع الحجر الأسود في مكانه، فحكمتم أول داخل، فكان الداخل محمداً صلى الله عليه وعلى آله، وإذا به يفصل بينكم ولم يستأثر عليكم، ولكن أمر كل واحد من فخد أن يحمل في طرف الثوب الذي وضع فيه الحجر، ثم وضع الحجر بيده الشريفة مكانه؛ فهذا يدل على العقل أو الجنون؟ وكل سيرته وحياته دلت على العقل وعلى الفهم وعلى الإدراك، فمن أين هذه الاتهامات؟ فكروا مجتمعين وأفراداً وليستعن بعضكم ببعض، وليستعينوا بالخلوة كل على حدة.
وفكروا أيمكن أن يكون محمد ساحراً؟ متى تعلم السحر؟ وما الذي رأيتم من السحر بين يديه؟ أهو مجنون يتكلم كلام العقلاء؟ بل كان عاقل العقلاء وكبير الفهماء وذكي الأذكياء، وليس بصاحبكم من جنة، أي ليس بالنبي الذي صاحبوه صحبة العداء وصحبة الكفر وصحبة الاتهام والشتم جنون.
{مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46] الله يخبر أن ما زعمتموه ليس كذلك، وهذا الذي قالوه كله يعيده اليوم الرهبان والحاخامات والمنافقون من الناس أولاد مدارسهم وأفراخ جامعاتهم.
قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46].
أي: إنما جاءكم منذراً متوعداً إن بقيتم على كفركم وقد قامت الحجة عليكم، فقد كنتم تقولون من قبل: ما جاءنا من نذير، فقد جاءكم النذير وجاءكم من يرشدكم ويدعوكم إلى الله ويقودكم إلى الخير، فما اعتذاركم بعد هذا، فليس هو إلا رسولاً من الله ونذيراً بين يدي عذاب شديد، مما يكون يوم القيامة من العذاب الشديد الذي تعجز كواهل البشر عن تحمله لمن مات كافراً.(225/6)
تفسير قوله تعالى: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم)
قال تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ:47].
أي: هل طلبت منكم أجرة في سبيل تحمل ما تحملته في سبيلكم؟ {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47].
قل لهم يا رسول الله: الذي سألته من المال والأجرة في مقابل دعوتكم للحق أنا أهبه لكم ولا حاجة لي فيه، وعلى ذلك فأنا لا أفعل هذا رغبة في مال ولا سلطان ولا عز ولا نساء ولا لشيء، وإنما أنا نذير وبشير من الله أبشر المؤمنين وأنذر الكافرين.
قوله: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ:47]: أي: أجري على الله، فلا أطلب ثوابي إلا من الله؛ لأنه هو الذي أمرني وكلفني وأرسلني إليكم؛ لأبشر الطائعين وأنذر العاصين، فأجري عليه.
قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ:47].
أي: حاضر ناظر شاهد بعلمه على عصيان العصاة وطاعة المطيعين، فهو شاهد على عملي وعملكم، وسيكون جزائي وجزاؤكم كل حسب عمله، فمن كفر بالله وبدين الله كان له عذاب السعير، ومن دعا إلى الله وبلغ رسالات الله، وقصر حياته على الله، كانت له الجنان والفوز.(225/7)
تفسير سورة سبأ [48 - 54]
يشتهي الكفار حين يأتي الموت أن يعودوا إلى الدنيا لكي يؤمنوا ويتوبوا، لكن هيهات هيهات، فقد حيل بينهم وبين ذلك، ولن يقبل منهم إيمانهم ولا توبتهم، ولن يعودوا لشهواتهم التي عاشوا عليها ولها في الدنيا.(226/1)
تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يقذف بالحق)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سبأ:48].
أي: قل يا محمد: إن ربي جل جلاله يقذف بالحق، بمعنى: يرمي بالحق، فيضرب كل داعية للباطل بخسار في الدنيا والآخرة.
والحق هو القرآن الكريم، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وما كان من الله فهو حق.
والله جل جلاله يأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول لهؤلاء: إن الله يقذف ويرمي باطلكم بالحق وهو الدليل والبرهان واليقين الذي لا شائبة فيه ولا مرية ولا ريبة، فمن جاء بالحق فله الحق، ومن جاء بالباطل فعليه ما على الشيطان وأتباعه من عذابه وسعيره، ومن عذاب دائم في جهنم.
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سبأ:48] أي: أنا عندما أمرتكم بما أمرتكم به لا علم لي بالغيب ولا أحد يعلم الغيب إلا الله وحده المنفرد به، وهذا الغيب هو غيب الله، وهو الذي يعلم كل شيء جل جلاله، فأمرني بتبليغ رسالته وبتبليغ كتابه، وأمرني بأن أدعوكم إلى أن تدعوا الباطل والفواحش كلها، وتتمسكوا بالحق ومحاسن الأمور ومعاليها كلها.
فالله جل جلاله هو الذي أطلعني من غيبه على ما أطلعني فجعلني نبياً ورسولاً، وأوحى إلي بالحق وهو القرآن الكريم؛ لأدعوكم إليه ولما جاء فيه، وإلا فأنا لا أعلم الغيب من ذاتي، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27].(226/2)
تفسير قوله تعالى: (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)
قال تعالى: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49].
هذه الآية كقوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81] أي: قل يا محمد لهؤلاء: ما كنتم عليه من ضلالة ووثنية وعبادة للأصنام، ذهب كل ذلك وبطل، وحصحص الحق وبان لكل عقل سليم أن ما كنتم تفعلونه من عبادة للأوثان وشرك بالله؛ كل ذلك باطل وزاهق.
قد جاء الحق من الله يدعو إلى المحاسن كلها وإلى الطاعات كلها، ويذم عبادة الأوثان والأصنام، ويزيف الباطل ويبطله، وذلك بإرسال محمد هادي الخلق وداعيهم إلى الله، خاتم الرسل والأنبياء، فقد جاءكم بالحق المبين.
{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ} [الإسراء:81] أي: جاء الإسلام وهو حق، وجاء كتاب الله القرآن الكريم وهو حق، جاء محمد عليه الصلاة والسلام وهو حق، فقد جاء الحق بكل أشكاله وأنواعه، جاء كتاباً مقروءاً وجاء رسولاً ناطقاً، وجاء وحياً من الله جل جلاله.
قوله: {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49]: الباطل: هو الشيطان، والباطل كل ما أبطله الشرع ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة، والباطل كل ما أنكرته العقول من شرك ووثنية، ومن ظلم وسفك للدماء، ومن فواحش ومن جميع أنواع البلايا والمنكرات.
فالباطل لا يبدئ ولا يعيد، فلا يستطيع أن يفعل شيئاً ولا أن يبتدئ شيئاً، وإذا ذهب هذا الباطل فليس بإمكانه أن يعيده، فلن يخلق ذبابة ولو اجتمع مع جميع الشياطين، بل إن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب.
والنبي عليه الصلاة والسلام عندما دخل مكة فاتحاً، دخل بيت الله الحرام مطهراً وناشراً للتوحيد، دخل للكعبة ووجدها محاطة بثلاثمائة وستين صنماً، وبيده القوس والعصا، فأخذ يشير إلى كل صنم فيهوي على وجهه، وهو يقول صلى الله عليه وسلم: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)؛ ولذلك كما قال مفسرو هذه الآية الكريمة: يستحب للداعية إلى الله إذا رأى باطلاً يزيفه، أو منكراً ينهى عنه أن يقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
أي لا يدوم الباطل بحال وهو هالك، ومتى ما ظهر يوماً فالنهاية زواله ودماره والقضاء عليه؛ لأنه لا دليل عليه من عقل سليم ولا من نفس مؤمنة، وإنما هي أوهام وضلالات من وحي الشيطان ومن وحي النزوات والشهوات وليس غير.
قل يا محمد وقد جئت بما أمرتك به من رسالة هادية ودعوة شاملة لتزييف الأصنام وعبادتها والدعوة إلى عبادة الخالق الرازق خالق الكل ورازق الكل جل جلاله وعز مقامه، فقل لهؤلاء: انتهت أيامكم وزهق باطلكم، والباطل الشيطان الذي تتلون منه أعمالكم لا يستطيع بداءة شيء، وإذا زهق ذلك فلن يستطيع إعادته بحال، والله الخالق المبدئ المعيد لا غيره جل جلاله.(226/3)
تفسير قوله تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي)
قال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ:50].
قل لهؤلاء: أتقولون عني قد ضللت، تقولون: عني صبأت، تقولون قد تركت ديانتكم، فإن كان ما تقولونه حقاً، فإنما أضل على نفسي، وهذا لا يتجاوزني ولا يمسكم بحال، ولكن: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] فالنفوس لا تدعو إلا إلى شر، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53].
ولو كانت الهداية والرسالة من نفسي لكنت رسولاً من اليوم الذي ولدت فيه، وأنتم تعلمون أني عشت بينكم أربعين عاماً، فما ادعيت نبوءة ولا طلبت رسالة، ولم يخطر لي ذلك ببال، {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ} [هود:49].
فلم يكن النبي كاتباً وكان أمياً، ولم يكن يعلم ديناً ولم يكن يعلم عن الله شيئاً، ولكن الفطرة تنبذ تلك الأصنام فلم يسجد لها يوماً ولم يعبدها يوماً، ولكنه كان ينتظر، وإلى الأيام الأخيرة من السنة الأربعين أخذ يفكر ويخلو بنفسه في غار حراء، وتقول له نفسه التي فطرت على الخير من أول يوم: أهذا الكون كان بلا مكون؟ أو وجد بغير موجد؟ هذه الأصنام وهي كلها حجارة وجمادات لا تضر ولا تنفع أهي التي خلقتني وخلقت غيري؟ لا يمكن ذلك، ذلك باطل وهراء! وهكذا تهيأت نفسه لقبول الحق ودعوة الناس إليه، فجاءه جبريل فعلمه وقال له بعد أن ضمه إليه مرة ومرة ومرة: اقرأ، وهكذا ابتدأ الوحي وتتابع.
فقوله: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] إن كان هادياً مهدياً فذلك بسبب هداية ربه له، وبما أنزل عليه من كتاب كريم، وبما أوحى إليه من نبوءة ورسالة، فكانت الهداية من الله، وكانت النبوءة والرسالة من الله، فأنتم الضالون حقاً، وأنتم المبطلون حقاً، وأنتم الذين تعبدون أوثاناً ما أنزل الله بها من سلطان، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم.
قوله: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ:50]، أي: إن ربي يسمع تحاورنا ويسمع كلام كل خلقه، فيسمع كلام الملائكة والجن والإنس، ويسمع من هتف بلا إله إلا الله، ومن هتف بعبادة الأوثان، ويسمع الآن ويعلم تحاورنا، وهو جل جلاله قريب من عباده {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
فربنا سميع لكل شيء وهو أقرب إليكم من حبل الوريد، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حاجاً وقائداً لقوافل الحجيج في حجة الوداع، فأخذ الحجيج يرفعون أصواتهم بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أربعوا على أنفسكم إن الله سميع قريب) فهو سميع الدعاء قريب ممن دعاه، فلا حاجة إلى رفع الأصوات بما يتجاوز الحد، ولا حاجة لرفع الأصوات لدرجة أن تصل للأصوات المنكرة.(226/4)
تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت)
قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [سبأ:51].
أي: لو ترى يا محمد ما سيحصل لهؤلاء الذين أنكروا النبوءة والرسالة، وأنكروا قدرة الله وما أنزله من كتب من السماء وأوحى بها إلى رسله.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} [سبأ:51] لو ترى بعينك إذ رعبوا، ولو ترى إذ زلزلوا، ولو ترى ما سيلاقي هؤلاء من هول عظيم.
ولو ترى هؤلاء في يوم مقداره كألف سنة مما تعدون، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] عيونهم زائغة، وأجسامهم هالكة، يرجون الموت وهيهات فلا موت! قوله: {فَلا فَوْتَ} [سبأ:51] أي: فلا مفر ولا منجاة، ولات حين مناص، وليس الوقت وقت الندم وليس الوقت وقت نجاة، فهؤلاء قد عاشوا عشرات السنين وأنبياؤهم تدعوهم إلى الله فلم يستجيبوا.
ثم خاتم الأنبياء قد دعاهم ليلاً ونهاراً، لمدة ثلاثة وعشرين عاماً، كان يدعوهم لكتاب الله القرآن الكريم، ويدعوهم لبيانه البليغ وحكمته وسنته، ثم كان يدعوهم أصحابه، ويدعوهم من جاء بعدهم من العلماء ورثة الأنبياء، ومع ذلك أبوا إلا الإعراض والصد عن الله، وأبوا إلا الجحود والكفران، فهؤلاء عندما يموتون ثم يبعثون وقد أنكروا الله في حال الحياة لا يستطيعون الفرار من العذاب.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ} [سبأ:51] أي: لا يفوتوننا ولا يفرون ولا يقدرون على ذلك، ولا منجى لهم من عذاب الله وعقاب الله وحساب الله.
قوله: {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [سبأ:51]: أي: أخذوا أخذ عزيز مقتدر، قال الحسن البصري: يؤخذون بمجرد خروجهم من قبورهم يوم القيامة، يسحبون من أقدامهم سحباً إلى العرض على الله والحساب ثم العقاب، وهم في غاية الفزع الذي تتهاوى له الجبال الصم والكون كله، ولكن هيهات لا فناء بعد ذلك في الآخرة ولا موت.
{وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [سبأ:51] فلن يكونوا بعداء عن يد الله وقدرته، ولو كانوا بعداء فذلك قريب إلى الله.(226/5)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد)
عندما يحدث ذلك {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ:52]: أي: بعد أن بعثوا وخرجوا من قبورهم للعرض على الله، أخذوا يقولون ما أنكروه في دار الدنيا، {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} [سبأ:52] أي: آمنا بالله، وآمنا برسل الله، وآمنا بكتب الله، وهيهات فقد فات الوقت الذي يقبل فيه الإيمان، وقد كان الإيمان إيمان غيب.
فقد خرجوا من دار التكليف ودار الابتلاء إلى الدار التي ليس فيها إلا عذاب الكافرين ونعمة الله للمؤمنين، وما سوى ذلك فالآخرة ليست دار عبادة ولا دار تكليف، وكانوا قد طولبوا في دار الدنيا وهم أحياء بالإيمان بالله صباح مساء، وحيث ذهبوا في أرض الله يجدون من الدعاة إلى الله من يدعوهم للتوحيد، فيأبون إلا الكفران ويصرون على الجحود، وأما الآن فهيهات فالوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ:52] التناوش: التناول والأخذ، ومنه ناوش جيش جيشاً، وتناوش الخصوم، أي: نال بعضهم من بعض بالسيوف أو أنواع السلاح، أو بالنية، أو حتى باللسان.
فقوله: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} [سبأ:52] أي: أنى لهم تناول الإيمان وتعاطيه، {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ:52] من الآخرة إلى الدنيا.
وأين الدنيا؟ ذهبت الدنيا وأصبحت قاعاً صفصفاً، لا وجود لها، فقد فنيت مع ما فني، وكل ما وجد بعد ذلك فهو من خلق جديد.
{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} [سبأ:52] كيف لهم التناوش؟ وكيف لهم التناول؟ وكيف سيتناولون الإيمان وهم في مكان بعيد؟ بعيدين عن دار الدنيا، وبعيدين عن دار التكليف، وبعيدين عن دعوات الأنبياء والرسل، فبالموت انتهى كل شيء وطويت الصحف، فمن مات على الشرك بقي مشركاً وخلد في النار، ومن مات على الإيمان بقي موحداً وخلد في الجنة، وأما أن يؤمن بعد ذلك فهيهات هيهات.
{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ:52] آمنوا بعد أن رأوا ما كانوا يكفرون به رأي العين، فأخذوا يقولون: آمنا بمحمد رسولاً، وآمنا بالقرآن إماماً، وآمنا بالله واحداً.(226/6)
تفسير قوله تعالى: (وقد كفروا به من قبل)
قال تعالى: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ:53].
{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:53] حال كونهم جاءوا للآخرة وهم كافرون برسل ربهم، كافرون بكتاب ربهم، كافرون بكل النبوءات والرسالات، لأن من يكفر برسول واحد فقد كفر بكل الرسل؛ لأن الكفر بالرسول كفر بالوحي، ومن كفر بالوحي كفر بالكل.
ولذلك فنحن ولله الحمد كما نؤمن بنبينا وهو خاتم الأنبياء نؤمن بمن سبقه من الأنبياء المذكورين في كتاب الله وعددهم أربعة وعشرون نبياً، فقد آمنا بهم تفصيلاً، فآمنا بآدم ونوح وإبراهيم وجميع سلالته من الأنبياء: إسماعيل وإسحاق، ومن بعده يعقوب، وبولده يوسف وبكل سلالته من الأنبياء الذين ذكر الله أسماءهم إلى عيسى وهو آخر أنبياء بني إسرائيل.
ولكن غيرنا قد كفروا بنبينا، وكفر اليهود بعيسى، وكفر النصارى بمحمد، فكان الجميع كفرة جاحدين، وحرم الله الجنة على الكافرين، وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).
فأولئك الأنبياء لو أدركوا حياة رسول الله لكان واجباً عليهم أن يؤمنوا برسالته ويكونوا من أتباعه، ويكون لهم بذلك الشرف، وعيسى الذي هو خاتم الأنبياء من بني إسرائيل لا يزال حياً في السماء الدنيا، وسينزل إلى الأرض في آخر الزمان على دين محمد صلى الله عليه وسلم، يصلي صلاة المسلمين، ويحج حج المسلمين، ويصلي مؤتماً بإمام المسلمين، ويموت على ذلك؛ ولذلك اعتبر صاحباً من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.
{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:53] آمنوا بالآخرة بعد فوات الأوان حين جاءوا كفرة بالله وبكل مقدسات الرسل والأنبياء والكتب، فلم ينفعهم ذلك.
قوله: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ:53] أي: كانوا يقذفون بالغيب بمعنى: يرجمون بالظن، ويهرفون بما لا يعرفون، ويقولون ما لا يعلمون، ويقولون ما خطر ببالهم من كل هفوة صلعاء لم ينزل الله بها سلطاناً، وهؤلاء قذفوا بالغيب وكفروا بشيء غائب عنهم.
فقالوا عن القرآن الكريم وهو كلام الله إنه كلام محمد، وقالوا عن النبي عليه الصلاة والسلام الذي جاء بالأدلة العقلية القاطعة على أنه رسول من عند الله؛ قالوا عنه كاذب، وقالوا ساحر، وقالوا كاهن ومجنون، وحاشاه من كل ذلك، فقذفوا بالغيب ورجموا بالظن، وقد أتاهم الله بأدلة واضحة وبراهين بينة فما زادهم ذلك إلا طغياناً وكفراً.
{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ:53] أي: من عقلية بعيدة عن الحق، ومن أنفس بعيدة عن الله، ومن عقائد زائغة لا دليل عليها من كتاب سماوي ولا من برهان عقلي، وإنما هي ترهات وأباطيل أوحى لهم بها الشيطان، فذكروا ذلك وكرروه وأعادوه إعادة الببغاوات والقردة.
وهكذا كفار عصرنا ومنافقوه رجعوا للكفر القديم، وهم الرجعيون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) فنفس التعبير أطلقه عليهم، وقال عن المسلمين إنهم المجددون؛ قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها)؛ ولذلك يعتبر العلماء المجتهدون مجددين، وقد جددوا في الإسلام.
جددوا من الفهوم ومن العقائد ما عادوا فيه إلى كتاب الله البين وإلى الحكمة النبوية، وهي السنة الواضحة، وأزالوا ما علق في الأذهان من إسرائيليات ومن ضلالات ومن بواطل، ولا يتبعون في ذلك إلا الكتاب والسنة، فإذا سمعوا علماً أو قرءوا كتاباً إذا لم يكن عليه دليل من الله وبرهان من سنة وقبول من عقل سليم لا يقبلونه بحال، فالكتب كالناس فيها الغث والسمين.
ولذلك فإن من يدعي العلم وهو ضال مضل، فلا صلاة ولا زكاة ولا حج، وهو مرتكب لأنواع الذنوب والمعاصي والكبائر والمنكرات فهو إلى الجهل أقرب، وعلمه علم جهالة وضلال، وقد كان إبليس يوم طرد من الجنة أعلم الناس، ومع ذلك لم يوصله علمه إلا إلى النار؛ لأنه لم يع ذلك ولم يتفهمه جيداً ولم يصل إلى قلبه وعقيدته، وهكذا كل من آمن بشيء عن غير دليل ولا برهان.(226/7)
تفسير قوله تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون)
قال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54].
أي: منعوا وجعلت هناك حيلولة وسد بينهم وبين ما يشتهون، وماذا كانوا يشتهون؟ اشتهوا أن يعودوا إلى الدنيا، وأن يؤمنوا، وأن يتوبوا، اشتهوا أن لم يكونوا ماتوا ليبقوا في ترفهم وقصورهم وكفرهم، ولكن هيهات هيهات! فإنما هي أمان تمنى بها النفس من وحي الشيطان.
قوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:54] فقد حصل لهم ما حصل للكافرين السابقين عندما كفروا ثم ماتوا وأخذوا بعد الموت، فهم يطلبون العودة لدار الدنيا ليقولوا: آمنا، فحيل بينهم وبين ذلك، ولن يقبل منهم إيمانهم ولا توبتهم، ولن يعودوا لشهواتهم التي عاشوا عليها في الدنيا.
والأشياع جمع الجمع، والجمع شيعة، والمفرد شيعي.
فمن كانوا أشباههم في الكفر في دار الدنيا ثم هلكوا وفزعوا ورعبوا بعد الموت، وقالوا: آمنا، وقد ماتوا على الكفر، اشتهوا أن يعودوا لدار الدنيا، واشتهوا أن تقبل التوبة منهم وأن يعودوا للطاعة والعبادة، فحيل بينهم وبين ذلك كما فُعل بالكافرين من قبل ممن كانوا على شكل الكافرين الحاضرين في الحياة الدنيوية ومن يجيء بعدهم إلى يوم القيامة.
وكل من لم يؤمن قبل أن تبلغ الروح الحلقوم لا ينفعه إيمانه، {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].
قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54] أي: إنهم عاشوا على الشك، فلم يؤمنوا بالله عن يقين، ولم يؤمنوا بمحمد رسولاً وهادياً، ولم يؤمنوا بالقرآن كتاباً أوحاه الله لنبيه؛ فهم يشكون ويرتابون، والشك لا يرفع اليقين، ولكن اليقين يرفع الشك.
والإيمان يجب أن يكون إيمان تحقيق صادر عن يقين، وهؤلاء عاشوا في شك مريب، فقد كانوا في ريبة وشك، وكانوا متهمين بذلك، وألسنتهم تدل عليه وأعمالهم تؤكده، ثم ماتوا على الشك.
ومعنى ذلك أن المؤمن الشاك لا يعتبر مؤمناً وأن الكافر الشاك كافر؛ لأنه بنى إيمانه على الشك ولا يجبر إلا بيقين، ونحن عندما نقول: لا إله إلا الله، نقولها امتثالاً لأمر الله ونوقن بأدلة العقل، ونقول: من خلقني؟ من خلق هذا الكون بما فيه علواً وسفلاً؟ فبالقاطع من العقل السليم أنه لا بد من خالق، والخالق لا بد أن يكون قديماً أزلياً.
ولذلك هؤلاء الذين أضلهم الله على علم قالوا عن عيسى إنه إله، وعن مريم إنها إله، ويقولون: مريم هي صاحبة الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ثم عادوا فقالوا: اليهود قتلوا عيسى، فكيف يقتل إله ويصلب، إذاً فالذي صلبه هو أعظم منه وأكثر منه في القدرة، فليس بإله.
وقد جاء الإسلام فأعاد منا من كان ضائعاً تائهاً فثبته، وقال إن الخالق هو الله المتصف بكل كمال المنزه عن كل نقص؛ فمن عاش شاكاً عاش كافراً، ومن مات شاكاً مات كافراً، وهكذا حكم الله على هؤلاء، رغم ما كان فيهم من شاكين.
ولذلك علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نقول: آمنت: أي صدقت عن يقين وقطع، آمنت بالله رباً، وبالقران إماماً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوة، فمن آمن بغير الكعبة قبلة يكون ضالاً وصلاته باطلة، ومن آمن بأن إخوته المسلمين أعداء فهو ضال مضل، ومن اتخذ من اليهود والنصارى والمنافقين أحباباً فهو ضال مضل، فقد قال الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وليس المنافق وليس النصراني وليس اليهودي داخلاً فيها، وكونه أخاً بالآدمية فجميعنا أبناء آدم وحواء، وذاك شيء لا علاقة له بالدين والإسلام، وعندما نذكر الأنساب والأحفاد نقول: آدم أبو البشر، لكن المؤمنين غير الكافرين.
وهكذا أضلوا المسلمين ونشروا في جامعاتهم وفي كتب دراستهم الكثير من الشعارات المشركة الوثنية الضالة المضلة، وإنما شعار الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ولا يوجد إله غير الله، ولا رسول إلا محمد عليه الصلاة والسلام، ومن سبق فليسوا رسلنا، وكانوا رسل أقوامهم، ومع ذلك انتهت رسالتهم.
أما نبينا فكما خاطب الأولين خاطبنا نحن، ويخاطب الآتين إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعده ولا رسول، وكتاب الله الكريم المنزل عليه، سيبقى لكل المسلمين إلى يوم النفخ بالصور، فهو الإمام في الأحكام، والإمام في الحلال والحرام، والإمام في الحقائق، والإمام في قصص الأنبياء.
وبهذا نكون قد ختمنا سورة سبأ، حامدين الله وشاكريه، وكما أكرمنا الله، ووصلنا من بداية كتابه إلى نهاية سورة سبأ، نرجو الله تعالى ونتضرع إليه أن يعيننا على إتمامه وختمه، فضلاً منه جل جلاله، ونحن نشرع الآن في السورة التالية سورة فاطر.(226/8)
تفسير سورة فاطر [1]
الله عز وجل هو فاطر كل شيء وخالقه على غير مثال سابق، فقد فطر السماوات بما فيها من عوالم ومخلوقات، كما فطر الأرض بما عليها من نبات وحيوان وكائنات، ومن خلق الله العظيم الملائكة الذين اختصهم الله عز وجل بسكنى السماء في الحياة الدنيا، وكلفهم بأعمال ووظائف يعملونها دائبين لا يملون، وهم في أثناء ذلك يسبحون الليل والنهار لا يفترون.(227/1)
تفسير قوله تعالى: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً)
سورة فاطر هي سورة مكية بإجماعهم، وقد احتوت على خمس وأربعين آية، ويقال لها سورة الملائكة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يختم بها في صلاة الصبح أحياناً بركعة واحدة، وللإنسان أن يفعل ذلك في الصبح، كما كان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك، فهي سنة باقية إلى يوم القيامة.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: كنت لا أعلم ما معنى فاطر، إلى أن جاءني يوماً أعرابيان يشتكيان إلي في بئر تنازعاها، فقال أحد الأعرابيين: أنا فطرتها -أي: بدأت حفرها، واخترعت ذلك وسبقت خصمي- فقال ابن عباس: جاءا يأخذان مني الحكمة وفصل الخطاب، فأخذت منهما بيان كتاب الله.
فمعنى الفاطر: المبدئ الخالق المخترع على غير مثال سابق.
هذا بالنسبة لله، وبالنسبة للخلق: من ابتدأ الشيء ابتداء نسبياً.
قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1].
فالحمد لله في البداية والحمد لله في النهاية، {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10].
فحمد الله هو الأول عند شروع الأعمال، وهو النهاية عند ختم الأعمال، ونحن أولاء نبدأ الآية بما بدأ به الله.
فالحمد لله أي: الحمد الكامل لله لا لأحد سواه.
فلو أحسن إلي إنسان بكلمة طيبة أو بخدمة قدمها أو بعطاء أعطاه فأنا أقول: الحمد لله؛ لأن الله هو الذي حرك قلبه لأن يقول هذه الكلمة، ولأن يخدم هذه الخدمة، ولأن يعطي هذا العطاء، وقد أدبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله).
والمحمود حمداً مطلقاً هو الله جل جلاله، فهل نحن عندما نقول: الحمد لله نعني بذلك الحمد الكامل بكل أنواع المحامد، وأشكالها المرئية والخفية؟ فنحن نحمده على أن خلقنا أسوياء في أجسامنا، أصحاء في خلقنا، ونحمده على كل خلايا أجسامنا، ونحمده أن جعلنا مسلمين، ومن آباء مسلمين، ثم نحمده جل جلاله بعد الإسلام أن وفقنا لملازمة الصلاة، وملازمة الطاعة، ومدارسة كتابه، ومدارسة سنة نبيه، ومحامد الله لا تحصى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
على كل ذلك نقول: الحمد لله.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1].
الحمد لله المنعوت بأنه فاطر السماوات والأرض، الخالق بغير مثال سابق، فلم يخلق ما نراه من خلقه على مثال سبقه، بل هو المبدئ وهو المعيد.
والفطر: الشق، والفطر: الابتداء، كما فهم ابن عباس من الأعرابيين، فالله هو الذي ابتدأ الخلق، وأخرجهم من العدم إلى الوجود.
{السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] أي: الكون كله، فهناك السماوات بما عليها من خلق الله أعلم بحقيقتهم.
ومن الملائكة الذين أطت السماء بحملهم، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء وحق لها أن تئط ما من موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع).
وقد ورد في آثار أخرى أن عملهم بالليل والنهار هو تسبيح الله وتمجيده، فهذا ذكرهم لله لا يفترون عنه، بل نفسهم هو الذكر لو انقطع الذكر لماتوا، كما أن الإنسان لو انقطع نفسه لمات، فكلهم يذكر الله بما ألهمه الله إليه وفطره عليه.
ومنهم الرسل إلى الأرض قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر:1]، أي: جعل الملائكة رسلاً إلى البشر، فهم رسل الله إلى الأنبياء والرسل من البشر، إذ الله لا يكلم أحداً من البشر وجهاً لوجه، فكان جبريل الروح الأمين هو رسول الله إلى رسله من البشر، فهو الذي نزل بالوحي على جميع الأنبياء والمرسلين الذين بلغ عددهم 310 نبياً رسولاً، وهؤلاء الرسل فقط.
وهم الذين جاءوا إلى آدم بما جاءوا به من وحي ورسالة، وإلى نوح ومن قبله إدريس وشيث وإلى سلالة نوح، وإلى إبراهيم وولدي إبراهيم، وإلى عيسى وإلى محمد، عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
فكانوا رسلاً إلى الأنبياء من البشر، وهم رسل كذلك للبشر، فبعضهم يرسل لقبض الأرواح، وبعضهم بالرياح، وبعضهم بالبوق، وبعضهم بالقطر، وهكذا لكل ملك عمل ووظيفة، وجند ربك لا يحيط بها وبعددها ولا يحصيها إلا الله.(227/2)
تفسير سورة فاطر [4 - 8]
إن الله عز وجل كتب على إبليس اللعن والطرد من رحمته وجعله فتنة لعباده فأمهله إلى يوم يبعثون، وقد حذر سبحانه وتعالى عباده من فتنة إبليس والاغترار بتزيينه؛ لأنه إنما يدعو الخلق ليكونوا معه في نار جهنم، كما حذر الله عباده من الدنيا الفانية مبيناً أنها ليست بدار قرار وإنما هي دار ممر إلى الآخرة.(228/1)
تفسير قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك)
قال الله عز وجل: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [فاطر:4].
يقول الله لنبيه مسلياً ومعزياً، وقد كفر به من كفر، وصد عن دينه من صد، وجابهه من جابهه من الكفار المعاندين، والمنافقين المفسدين: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر:4]، أي: إن يكذبك هؤلاء من أهل مكة والمدينة، ومن أرض جزيرة العرب وغيرها من بلاد العرب والعجم فليس ذلك خاصاً بك فالصالحون قليل، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
وقال سبحانه: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14].
هكذا كان الأنبياء قبلك، آمنت بهم قلة وكفرت بهم كثرة، فعاقب الله هذه الكثرة في الدنيا والآخرة، فأغرق بعضهم وزلزل ببعضهم الأرض، وبعضهم أسقط عليه رجماً من السماء، وبعضهم جرده ومكر به، وهكذا كانت عاقبة كل كافر وجاحد وصاد عن الله ومكذب لرسله وكتبه ورسالاته.
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر:4]، فقد كذب نوح وكذب إبراهيم ومن جاء بعده إلى عيسى عليهم السلام، وما آمن معهم إلا قليل.
قوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [فاطر:4].
فأمور الخلق كافة عائدة إلى الله يوم القيامة، يوم البعث والنشور، فمن جاء مؤمناً بالله ورسله فله من الله الجنة والرضا، ومن جاء كافراً بالله ورسله فله من الله الغضب والنار خالداً فيها أبداً، فقوله: (وإلى الله ترجع الأمور)، هو تهديد ووعيد لهؤلاء الذين كذبوا نبينا عليه الصلاة والسلام، وكذبوا غيره من الأنبياء السابقين، وما عادوا إلى الله، أن الله هو يفصل بينهم يوم القضاء والحساب إما إلى نار وإما إلى جنة.(228/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن وعد الله حق)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5].
تقدم في تفسير كتاب الله أن الله جل جلاله عندما يدعو الناس فإنه يخاطبهم جميعاً كفاراً ومؤمنين، وإذا قال: (يا أيها الذين آمنوا) فهو يخاطب المؤمنين في فروع الشريعة وتفاصيل الإسلام.
فقوله: (يا أيها الناس) أي: يا أبناء آدم وحواء، من كافر ومسلم.
قوله: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [فاطر:5].
وعد الله الذي وعده هو يوم القيامة، والمعنى: إن البعث حق، والعرض بعد الموت على الله حق، ومن أنكر ذلك كان كافراً خارجاً عن الإسلام.
وقد يكون معنى الوعد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [فاطر:5]، أي: الذي جاء به أنبياؤه، ونزلت به كتبه، وقرره للخلق كلهم، أن هذه الدنيا لم تخلق عبثاً، وإنما كانت دار بلاء كما كانت دار عبادة وطاعة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
حتى إذا عاشوا في الأرض ما شاء الله لهم عادوا إلى الله ليحاسب الصالح على صلاحه ويدخله الجنة، والطالح على فساده فيدخله النار.
ولن يفلت أحد من الحساب والعقاب، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن نوقش الحساب عذب).
فمن لقي الله مؤمناً صادقاً مطيعاً تائباً فله من الله الرحمة والرضا والخلود في الجنة.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [فاطر:5] إن القيامة حق ليست بخيال، ولا بكلام يقال، ولكنها حقيقة من الحقائق، سيمر بها الناس كلهم، منذ خلق آدم وحواء إلى آخر إنسان في الأرض، أمر الأنبياء والرسل أن يبلغوا أممهم وشعوبهم ليعتقدوا ذلك ويستمسكوا به.
وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5]، الغرور: أن يغتر الإنسان بالباطل من أوهام وخواطر لا حقيقة لها، ولا وجود لها في واقع الحال.
وغرور الدنيا في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [فاطر:5] خطاب من الله لبني البشر: أن الدنيا التي تعيشونها ما دمتم فيها فلا تغتروا بما فيها من شهوات ونزوات وأطماع ورفعة، فهي ليست دائمة بل هي فانية، فمهما عاش فيها من عاش فإن مآله إلى الموت، ثم إلى العرض على الله والحياة الأخرى.
وقد عمر نوح عمراً طويلاً، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً فمرت كأنها لم تكن، بل كانت كأنها حلم من الأحلام أو خواطر مرت ولم تبق، إذ بعد هذا الدهر الطويل والقرون المديدة كان مآله إلى الموت، ثم إلى العرض على الله، وهكذا مهما عمر من عمر، ونقص عمر من نقص، فالمآل إلى الله، فالدنيا دار غرور، فالله ينبهنا، ويأمر نبيه فيما أنزل عليه أن يأمرنا بعدم الاغترار بهذه الحياة الفانية مهما كان فيها من شهوات ونزوات، ورفعة وسلطان ومكاسب في النساء، وفي القصور، وفي المناصب، وفي المآكل والمشارب؛ لأن ذلك كله ينتهي بالموت وكأنه لم يكن.
فالله يدعو الناس -كل الناس- ألا تغتروا بالدنيا ولا بما فيها من أباطيل وأضاليل، وألا تغتروا بالغرور، وهو الشيطان، فمعنى الغرور في قوله: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5]، الشيطان، وسمي بذلك لأنه كثير الغرور، فالغرور هو الذي التزم وألزم نفسه أن يلزم الإنسان ضالاً مضلاً موسوساً صاداً عن الإيمان بالله، وعن الإيمان برسوله، وعن الإيمان بكتابه، وعن الإيمان بالحقائق من ربه.
{فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [فاطر:5]، الدنيا هي الحياة الدنيئة القريبة إلى الزوال فكأنها لم تكن، وقوله: (يغرنكم) هو فعل مؤكد بنون التوكيد الثقيلة، أي: أن الله جل جلاله يؤكد علينا بصيغ التأكيد ألا نغتر بالشيطان ولا نغتر بوساوسه، وألا نغتر بالحياة الزائلة الدنيئة التي تزول وكأنها لم تكن.
ولنسأل أنفسنا: أين الآباء؟ أين الأجداد؟ أين الملوك؟ أين الطغاة والجبابرة؟ أين الأمم السابقة؟ أين من بنى وشيد؟ أين من قال: أنا ربكم الأعلى؟ أولئك أصبحوا تراباً، فكل من جاء من التراب إليه يعود، ثم يبعث للحساب، ولعرض الأعمال، ومن ثم يعرف المصير إما إلى جنة وإما إلى نار.(228/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً)
قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
أمرنا الله في الآية السابقة بعدم الاغترار بالدنيا، وبحياتها، وبما فيها من شهوات ونزوات، كما حذرنا من أن نغتر بالشيطان ووساوسه، وقد جاء في الحديث: (إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم)، ولذا كان التحذير: ألا تغتروا به، فهو يدعوكم إلى الضلال والفساد، ثم أكد ذلك ربنا فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6].
وهذا شأن العقلاء من الناس، إذ من عاداك علمت أن لا سبيل إلى مؤاخاته، ولا إلى مصافاته، سواء عاداك في الدين، أو عاداك في رفيع الأخلاق، أو عاداك حسداً وبغضاً وحقداً، فإنك إن قابلت عداوته وصده عن الدين، أو استعماره لبلدك، أو خبثه معك ومع قومك ومع وطنك، إن قابلت ذلك بالاستسلام وبالمودة والمؤاخاة تكون زيادة على كونك غير مؤمن غير عاقل؛ لأنك لم تستفد من عقلك، ولم تطع ما تدعو إليه العقول، إذ العقل ينهى عن السوء، وعن الفحشاء، وعن البغضاء، وما إلى ذلك.
أما عداوتنا للشيطان فهي منذ أن أخرج أبانا وأمنا من الجنة، وطلب أن ينظر إلى يوم القيامة، فأجابه ربه لذلك ابتلاء للناس، وليعلم المؤمن من الكافر.
فعند ذلك أطلق عداوته صراحة: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، وهو عندما قال ذلك نفذه، فقد أضل الناس وأفسدهم، وصدهم عن الإيمان وعن كتاب الله، وصدهم عن طاعة رسول الله، كما صدهم عن الحقائق، فصدهم عما يصلح الإنسان في نفسه وأسرته وأمته.
فهو في الدرجة الأولى: أفسده فيما بينه وبين ربه ونبيه ودينه، فهو العدو الأول، وبما أنه كذلك: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6].
واتخاذ الشيطان عدواً معناه: ألا يطاع في وساوسه، ولا يطاع في دعوته إلى معصيتك لربك، ولا إلى معصيتك لنبيك، ولا إلى ترك الأخلاق الفاضلة، ولا إلى القيام بالأخلاق الفاسدة، فشأن المؤمن التحلي بما يجب أن يكون عليه المؤمن المطيع الصالح الملتزم، وبذلك يغيض الشيطان ويزعجه، وبذلك يكون له عدواً حقيقة.
أما إذا كنت تعصي ربك، وتعصي نبيك، وتعصي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كنت عبداً للشيطان مستسلماً له، تفعل ما يأمرك به، فالعبادة الطاعة، ونحن إن أطعنا آباءنا وأطعنا حكامنا وأطعنا شيوخنا فنحن في الحقيقة نطيع ربنا ونبينا عليه الصلاة والسلام.
فنحن نطيع الآباء لأن الله أمرنا ببرهم والإحسان إليهم، ولذلك يقول ربنا لمن كان أهله عصاة كأن يكون أبوه كافراً: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15].
فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ونحن نطيع شيوخنا لأنهم السبيل السوي إلى تعلمنا دين ربنا من كتاب وسنة، فنحن في الحقيقة لا نطيعهم لذاتهم ولكننا نطيع الله فيهم.
أما من ارتكب الفواحش، وعصى الله جل جلاله، وعصى نبيه صلى الله عليه وسلم، فذلك يكون عبداً للشيطان ويكون مطيعاً له فيما صده عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو إنما يدعو من أطاعه ومن استسلم له، وهؤلاء هم حزبه، علماً أنه ليس في الأرض ثلاثة أحزاب، وإنما هما حزبان: حزب الله، وهم الأنبياء والمؤمنون وأتباعهم، وحزب الشيطان، وهم الكفرة والمنافقون.
فالمطيع لله ولرسله من حزب الله، والمطيع للشيطان من حزب الشيطان، و (إنما) في قوله: {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ} [فاطر:6] أداة حصر، أي: حصر ربنا بأن الشيطان عندما يدعو أتباعه وأشياعه وأنصاره من الكافرين والمنافقين فهو إنما يدعوهم: {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، فهو يدعوهم ليرافقوه في النار، فيدخلون معه جهنم، والعذاب السعير: المتسعر المحترق الملتهب الذي يأكل بعضه بعضاً.
فمآل طاعة الشيطان دخول النار وغضب الله، ومآل الطاعة لله ولرسوله دخول الجنة ورضا الله، فالله يبين لنا بما أنزل على نبينا، ويأمر نبينا والعلماء والمؤمنين كل حسب قدرته وعلى حسب علمه أن يأمر أولاده وأنصاره وأصحابه وأقاربه وأسرهم أن يطيعوا الله ورسوله.
ولذلك كان يكثر عليه الصلاة والسلام من أن يقول: (نظر الله امرأ)، دعا له بالنظارة قبل أن يقول ما سيقول له، وذاك من لطف النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حسن أدبه وهو الرفيق مع أتباعه والمؤمنين به صلوات الله وسلامه عليه: (نظر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها -أي: حفظها وفهمها وأدركها- فأداها كما سمعها) أي: بلغها لمن لم يسمعها من ولد أو صديق أو زوجة، أو أي إنسان كان، وفي قوله: (فأداها كما سمعها)، تنبيه ليبلغ ذلك كما سمع من غير زيادة ولا نقصان (فرب مبلغ أوعى من سامع)، أي: قد يكون المبلغ الراوي أو المحدث حدث بشيء ففهم منه معنىً أو معنيين، ويكون السامع فهم مما سمع من هذا المبلغ معاني كثيرة.
وهكذا كان الأئمة الأربعة، وأئمة الاجتهاد، ومن قبلهم علماء الصحابة، فتجد المرء يسمع الحكمة، أو الآية، أو الحديث النبوي، وهو من الأميين أو من غير الأذكياء والنوابغ فيفهم معنىً أو معنيين، وإذا بالراسخين الأذكياء الواعين حين يسمعون ذات المقالة يفهمون من الكلمة الواحدة معان كثيرة، والفقه كله شرح وبيان لنصوص كتاب الله وحديث رسول الله، فتجد الكثيرين من علمائنا ومن سلفنا الصالح ومن كتبوا في الحديث الواحد والآية الواحدة المجلد والمجلدين والثلاثة بما فتح الله عليهم.
وقد سئل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: هل خصكم آل البيت نبي الله بشيء لم يخص به سواكم؟ فقال علي: لا وإنما هو الوعي والفهم؛ لأن علياً كان من أعلم الصحابة ومن أوسعهم إدراكاً ووعياً ومن أكثرهم فهماً.
فالكثير من الصحابة ومن الأتباع بعدهم كان يسمعه يتكلم على الحديث أو على الآية، وإذا به يتدفق تدفق البحر، فيعجب السامع ويتساءل: من أين هذه المعاني؟ فيقول له علي: ليس ذاك إلا الفهم والوعي والإدراك لما قاله لنا ربنا، ولما سمعنا فيه عن نبينا عليه الصلاة السلام.
قوله: {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، إخبار أن دعوة الشيطان للناس كل الناس بسبب عداوته لهم، وليكونوا في جهنم، ولكي لا يدخلوا الجنة، ولكي لا يرضى الله عنهم ولا يغفر الله لهم.
وهذا لا يكون إلا مع الكافر بالإيمان وبالتوحيد؛ لأنه كفر بالله رباً، وبالنبي رسولاً وخاتماً للرسل صلى الله عليه وعلى آله.
أما مجرد المخالفات والمعاصي من المؤمن الموحد، الذي آمن بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، فذاك يعيش بين مد وجزر، يعيش بين خرق ورقع، يعصي فيتمزق ثوبه، ثم يتوب إلى الله فيرقعه، يعصي الله ثم يندم ويئوب فيقول: رب! اغفر لي وهكذا، والله مع هذا يغفر للتواب الموحد المؤمن، ولا يغفر للكافر المشرك؛ لأن الله حرم الجنة على الكافرين: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فمآل من مات على التوحيد الجنة، وقد يدخل النار عقاباً على ما قدم ولكن لا يخلد فيها، ولذلك أمرنا أن نكثر الاستغفار ونكثر التوبة لعل الله يغفر لنا ذنوبنا، كما ندعو ربنا ونلجأ إليه ونضرع.(228/4)
تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا لهم عذاب شديد)
قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [فاطر:7].
يقرن الله دائماً العقاب بالرحمة في كتابه، ويقرن الكفر بالإيمان، وذلك ليعلم الكافر كم من درجة بينه وبين المؤمن، وليعلم المؤمن كم من درجة بينه وبين الكافر، فينذر هذا ويبشر هذا.
وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [فاطر:7]، أي: كفروا بالألوهية، وبالوحدانية، وبالقدرة الإلهية، وكفروا بالنبوءات، فهؤلاء لهم عذاب شديد أليم مخز دائم: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [فاطر:7].
وعندما يذكر الله الإيمان يذكر معه العمل الصالح؛ لأن الإيمان بلا عمل يكاد ألا يوصل صاحبه إلى الجنة، كما أن من كمال الإيمان وصدق الإيمان أن يصدق اللسان الجنان، ومعنى ذلك: أنه عندما ينطق الإنسان ويؤمن الجنان بكلمة: لا إله إلا الله، لا يكون مصداق ذلك إلا بعمل الجوارح والأركان، من صلاة وصيام وزكاة وحج وابتعاد عن المنكرات والفواحش كلها، وفعل الصالحات والقيام بالطيبات، وهكذا: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].
فالذي لا يصلي ليس له رادع من نفسه يردعه عن الشر والكفر، والكفر هنا: كفر المعصية؛ لأن من خصائص الصلاة للمصلي أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فبسببها يجد الإنسان من نفسه رادعاً ووازعاً وهادياً، وآمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر؛ لأنه عندما يقف بين يدي الله ويقرأ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ثم يهم بمعصية الله لعد أنه يكذب على الله، فتكون عبادته ليست خالصة وليست كاملة، واستعانته بالبشر لا بالله، فهو يعتمد عليهم ليرزقوه وليعطوه، والله أكثر رزقاً وإنما العبد سبب.
قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [فاطر:7].
أي: قاموا بالأركان الخمسة من الشهادتين إلى الحج {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} [فاطر:7]، فإن الله يغفر ذنوبهم، ويغفر نسيانهم، ويغفر خطأهم، ويغفر ما استكرهوا عليه: {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [فاطر:7]، الأجر من الله دخول الجنان، والأجر من الله رحمته الواسعة.(228/5)
تفسير قوله تعالى: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً)
قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8].
قوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر:8].
استفهام إنكاري توبيخي تقريعي، واختلف في المزين فقيل: زين له الشيطان، وقيل: زكاه له رفقاء السوء، وحسنه له الكفرة والمنافقون، فأخذ يعمل أعمالاً خارجة عن الإسلام، ومع ذلك يحسب أنه يأتي بخير، وأنه يعمل عملاً صالحاً.
قوله: {سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر:8]، أي: عمله الفاسد الضال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، هذا الذي عمل المنكرات وعمل السيئات وعمل الباطل زين له الشيطان عمله فظن أنه يفعل حسناً، ويصنع خيراً وقربة، وهكذا الكثيرون من أتباع هذه الأحزاب الضالة؛ الشيوعية والاشتراكية والماسونية والبهائية والوجودية، وكل مذهب وكل حزب وكل دين غير دين الإسلام: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، فكل ذلك باطل فاسد ضلال، وقد تجد بعضهم يجود بحياته بماله بعرضه بشرفه بكرامته في سبيل الشيطان، ويظن أنه يصنع عملاً حسناً، أين الجواب؟ {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ} [فاطر:8].
قال مفسرو الآية: الجواب في الآية التي بعد هذه: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، فهناك مقدم ومؤخر، والمعنى: يا محمد هؤلاء الذين يعملون السوء، ويتبعون المذاهب الضالة، ويفعلون المنكرات والفواحش، ويبتعدون عن دين الله الحق، ونبيه الحق، وكتابه الحق، ثم يزين لهم ذلك في أنفسهم فيرونه حسناً، ويرونه جميلاً، ويرونه صواباً، أهؤلاء تحزن عليهم؟ أو تذهب نفسك عليهم حسرات؟ وحسرات: جمع حسرة، وهي الحزن الأليم الشديد الذي قد يوصل إلى الموت.
ولذا يقول الله لنبيه: لا تتعب نفسك مع هؤلاء، ولا تتحسر عليهم، ولا تحزن عليهم، وهذا كقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، أي: لعلك مهلك نفسك ومميتها حزناً وألماً لعدم إيمان بعض قومك وأهلك وأقاربك بك، بل حتى كل من دعوتهم من العرب والعجم، إذ ليست هذه بوظيفة لك، إنما عليك البلاغ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272]، ولذلك يواسي الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام ويدعوه لعدم الحزن ولعدم الأسف والألم، لكون أمثال هؤلاء ممن زينت لهم أعمالهم وارتكبوا فيها الكفر والفواحش والمنكرات، فلا تحزن عليهم، ولا تتحسر لعدم إيمانهم، فلم نكلفك بالهداية، وإنما كلفت بالبلاغ، فالهداية بيد الله وليست وظيفة الرسل.
هذا أحد تفسيري قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8].
وفسر آخرون: أن الجواب مقدم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8].
قد أضاع الصواب، وابتعد عن الحق، وهذا يفهم من سياق القول، وسواء قدمنا أم أخرنا، وسواء قدرنا بعض المقدر، فالمعنى ظاهر واضح.
فيكون المعنى: هل الذي زين له عمله فرآه صواباً حسناً وهو كافر بالله غير مؤمن، أو مبتدع ضال، أيستوي هو والمؤمن الذي هو على الجادة المستقيم على السنة النبوية؟ أيستوي هو ومن جعل أسوته رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والصحابة السابقين الأولين: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100].
هؤلاء هم الذين رضي الله أعمالهم، ورضوا هم عن الله، فرضوا بجزاء الله لهم، وقبلوا قضاءه مهما كان، وإن كانت النهاية والخاتمة لخيرهم ولرحمتهم ولدخولهم الجنان.
فهذا بينه رسول الله عليه الصلاة السلام عندما تحدث عن الفرق في الأمم السابقة وأن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقه، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وأن الأمة المحمدية ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، أي ممن يزعمون الإسلام ويدعونه، قال عليه الصلاة السلام (كل هذه الفرق في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).
ولذلك كانت دراسة السيرة النبوية والإلمام بالحياة النبوية والشمائل المحمدية فرضاً على كل إنسان، ولا يستفيد منها إلا المؤمن، لأنه يتعلم كيف يكون رسول الله عليه الصلاة السلام الأسوة له والقدوة له، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ثم بعد رسول الله {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100].
أي: ممن جاء بعد الصحابة من التابعين، ثم تابعي التابعين ومن تبعهم إلى عصرنا، إلى آبائنا وشيوخنا، إلى من وجدناه على هدى من الله في كتابه، وعلى هدى من رسول الله في سنته وكلامه، فهو على الحق، وهو الذي بمنجاة، وهو الفرقة الناجية، وهو الفئة الناجية من عذاب الله وغضب الله، وبذلك حذرنا أسلافنا من البدع والمبتدعين، ومن كل من حاول أن يحرف كلام الله وكلام رسوله، وأن يبعدنا عن حبه وعن التعلق بأذياله وعن طاعته.
فكل من دعانا إلى ذلك وهو مبتدع ضال أمرنا بالإعراض عنه.
فيكون تقدير معنى قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8].
أمن كان كذلك يستوي هو ومن كان على محجة بيضاء، دليلها كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة السلام وهديه وسيرته، هل أولئك سواء؟ الجواب ظاهر ومعناه: لا سواء، هيهات هيهات، أن بينهما كما بين السماء والأرض، ما بين الضب والنون، وما بين العالم والجاهل، وما بين المؤمن والكافر.
{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8]، سبق في علم الله وفي الأزل، وفي اللوح المحفوظ أن الله حين خلق الكون -كما ورد عن النبي عليه والصلاة والسلام- خلقه في ظلمة، ثم أشرقت عليه أنوار الله، ثم خلق النور، فمن أصابه من نور الله اهتدى وسجل ودون في اللوح المحفوظ من الهادين المهديين، ومن لم يصبه من ذلك النور فلا نور له، ولا هادي له، خلق في ظلام وبقي في ظلام: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70].
(إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن)، (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله).
فإذا أنطوى ضمير الإنسان وقلبه على حب الله وطاعته، وحب رسوله وطاعته، وحب المؤمنين ومؤاخاتهم والإحسان إليهم، فليعلم أن ذلك نور من الله، وأنه مهما صدر عنه من ذنوب فإنه يجدد توبته سالكاً الطريق المستقيم.
ومن كان فاسد القلب فلا يكاد يتأثر قلبه بالمقدسات من كتاب الله، وسنة رسوله، مهما فعل ومهما تحركت جوارحه فمآله إلى سوء؛ لأنه لم يكن ذا نور من إشراق الله ونور الهداية في شيء، فقد عاش في ظلام وسيبقى في ظلام إلى أن يدخل نار جهنم في ظلام.
قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8]، إخبار بأن الأمر بيد الله ومشيئته، فمن لم يصبه من نور الله شيء فلا نور له وهو من الضالين.
قوله: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8]، معناه: أن من أصابه من نور الله وإشراقه، أشرقت عليه تلك الأنوار، فاستنار قلبه وضميره وعقله، وأصبح مهيأً للطاعة، وللامتثال وللعمل بما في كتاب الله، وبما في سنة رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
قوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، أي: فلا تذهب يا محمد نفسك عليهم ضياعاً ولا تهلكها؛ لأن هؤلاء لا يستحقون ذلك، ولكن الذين هم أهل لأن تكون رءوفاً بهم حريصاً عليهم هم المؤمنون المطيعون السابقون في إيمانهم وإسلامهم: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8].
إن الله عليم من هؤلاء الذي عصوا ربهم وخرجوا عن طاعته وعصوا نبيهم وخرجوا عن طاعته، وأبوا إلا الكفر والجحود والعصيان، هؤلاء الله عليم بهم وبصنعهم.(228/6)
تفسير سورة فاطر [9 - 11]
إن نعم الله تعالى على عباده عظيمة ومنائحه لهم جزيلة وجسيمة، ومن هذه النعم التي تفضل بها على عباده نعمة المطر الذي يحيي الله به الأرض بعد موتها، فتخرج نباتها وزرعها وتصير مخضرة بعد أن كانت قاحلة مغبرة، والله عز وجل يمتن على عباده بذلك ويذكرهم بحال الخلائق يوم النشور، يوم يقوم الناس لرب العالمين.(229/1)
تفسير قوله تعالى: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت)
قال الله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9].
هذا مثل ضربه الله، وكثيراً ما ترد الأمثال في القرآن الكريم.
يتساءل الإنسان: كيف يحيي الله الموتى؟ فقد سأل إبراهيم عليه الصلاة السلام ربه فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260].
قال له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260].
فبماذا أمره؟ {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة:260].
فقام إبراهيم إلى مجموعة من الطير فذبحها، وقطع لحومها قطعة قطعة، ثم خلطها ببعضها، ثم أخذ هذه اللحوم المختلطة فوضع جزءاً منها على رأس جبل، وجزءاً على رأس جبل، وجزءاً على رأس جبل، ثم دعاها: تعال يا غراب تعال يا حمام تعال يا إوز، وإذا بالريش والأجزاء تتطاير إلى أن رجع كل جزء إلى أصله، وأصبحت هذه الطيور تطير بين يديه وتهدر.
وفي الحديث: (جاء أعرابي فقال: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى بعد أن نكون رمماً؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: ألم تر وادي أرضك ممحلاً جدباً -أي: النبات فيه قليل- ورقه قد تحات ويبس، والمياه جفت قال: نعم، قال له: ألم تر إلى المطر ينزل عليها وإذا بها تهتز وتخضر؟ قال: بلى، قال: هكذا يحيي الله الموتى).
فقوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [فاطر:9]، وقرئ: (الريح).
هذه الرياح التي تتحرك كما نرى تثير وتهيج السحاب حتى يتجمع السحاب، فإذا به ينزل مطراً بأمر الله وإرادته.
وقوله: {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر:9]، تكلم أولاً عن الغائب الحاضر جل جلاله، ثم قال: {فَسُقْنَاهُ} [فاطر:9]، ونسب ذلك إلى المتكلم، وكل ذلك في حق الله سواء.
{فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر:9]، أي: إلى أرض جدباء قاحلة قد يبست أشجارها، وتحات ورقها.
وقوله: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر:9]، أي: أحيا الله بهذه السحب التي ملئت أمطاراً، ثم ساق هذه الأمطار والسحب إلى أرض ميتة قاحلة جدباء لا نبت فيها ولا ورق ولا اخضرار.
إذاً: فنحن عندما نأتي إلى أرض جدباء نرى هذه الشجرة في فصل الخريف تحات ورقها، ثم يأتي فصل الشتاء، ثم تأتي السحب بالأمطار فتنزل على هذه الأرض المجدبة، وإذا بالله تعالى يحيي هذه الأرض بعد موتها، وإذا بها تهتز فتخرج الشجرة من تحت الأرض أول مرة برعمة صغيرة، وهكذا تزداد وتزداد وتزداد إلى أن تراها شجرة كبيرة طويلة، فلا ترى رأسها حتى تطأطئ لها الرأس.
وقوله: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9].
ورد عن النبي عليه الصلاة السلام أنه قال: (إن الإنسان إذا مات فني جميع جسده إلا عجب الذنب).
وعجب الذنب هو: قطعة في آخر سلسلة فقرات الظهر، وحجمه كحجم حبة العدس، وقد ورد عن نبي الله عليه الصلاة السلام أن عجب الذنب بمثابة البذرة التي يحيي الله الإنسان به، فيوم القيامة سينزل سبحانه أمطاراً وإذا بعجب الذنب ينبت كما ينبت النبت، وإذا بنا قيام بين يدي ربنا عراة حفاة غرلاً، لما سمعت عائشة رضي الله عنها هذا من النبي عليه الصلاة السلام قالت: (عراة يا رسول الله يرى بعضنا بعضاً؟ قال لها: يا عائشة الناس في شغل عن ذلك، كل الناس تقول: نفسي نفسي)، يعني: الناس في ذلك اليوم كما قال سبحانه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36].
لا أحد يفكر في أحد، كل واحد يفكر في نفسه، فلا يرى هذا عورة هذا، ولا يلتذ ولا يتمتع الإنسان في ذلك اليوم بالنظر إلى العورات، إلا المتقون الذين يدخلون الجنان عندما يكرمهم الله بالحور العين.
إذاً: يضرب الله مثلاً بالأرض الميتة عندما يحييها بالغيث، فهكذا الإنسان يكون موته كما تموت الأرض، وكما يتحات ورق الشجر، ثم يأتي الله بسحب مليئة بالأمطار فيصبها في الأرض الميتة، وإذا بها تربو وتهتز وتخضر، وتعطي من كل فاكهة زوجين.
وهذا نراه بالعين ونشعر به بالحاسة البشرية، فلم تنكر البعث بعد الموت وأنت ترى هذا؟ هل يستطيع أحد من الخلق أن يفعل هذا؟ هل يستطيع أن ينبت إنسان شيئاً لم يأذن الله نباته؟ إذا ذهب الماء وغار في الأرض فهل يستطيع إنسان أن يأتي به مرة ثانية؟ إذا ذهبت الحياة من الإنسان فهل يستطيع بشر ما أن يعطيه الحياة؟ ليس هذا إلا من عمل الله، وليس هذا إلا من خلق الله.
وهكذا هنا يقول: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9] أي: كما أنه يحيي الأرض القاحلة بالغيث والأمطار، كذلك يحيي الإنسان وينشره بعد أن يكون قد مات.(229/2)
تفسير قوله تعالى: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً)
قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10].
ما أوقع هذه الآية على عصرنا الآن، فقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} [فاطر:10]، كثير من الشعوب الإسلامية والأمم الإسلامية ظنوا أن عزتهم تكون في متابعة اليهود والنصارى والاستسلام لهم، وفي متابعة المنافقين والاستسلام لهم وفعل فعلهم، والمشي على منوالهم، يقول الله لهؤلاء وأمثالهم: من كان يريد العزة فليبحث عن العزة عند صاحبها سبحانه، ليكون عزيزاً مستقلاً وذا حضارة وذا شأن ومقام، إياك أن تظن أن العزة لأحد غير الله، {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10]، يعني: قليلها وكثيرها، هذا كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، إذاً: لا عزة ليهودي ولا لنصراني ولا لمنافق، ومن شاء أن يعتز بغير الله ذل وكان له الهوان، وكانت له الحقارة في الدنيا، وعذاب الله يوم القيامة أشد.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10]، فمن يريد العزة فهي في طاعة الله، وهي في الإيمان بالله، وهي في الإيمان برسول الله، وهي في العمل بكتاب الله.
لقد اعتز آباؤنا وأجدادنا والمسلمون بدينهم فكانوا سادة الأرض، وما كان يخطر ببال أحد منهم أن الكفار سيرفعون رءوسهم في يوم من الأيام أمام الدولة الإسلامية، بل كانوا أذلاء حقراء أمامها، وعندما بدل المسلمون وغيروا غير الله عليهم، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
اللهم أعدنا إليك عوداً صالحاً دائماً بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، أي: إلى الله يصعد الكلم الطيب، والكلم الطيب: لا إله إلا الله، وهو الذكر بكل أنواعه؛ الله أكبر كبيراً، وسبحان الله، والحمد لله، والعزة لله، والمجد لله، والثناء على الله بجميع أسمائه الحسنى.
والكلم الطيب هو الإيمان، وهو الكلمة الصالحة التي يقولها المسلم لأخيه المسلم، وهو تلاوة القرآن ومدارسته، وهو دراسة حديث رسول الله، ومدارسة العلم بأشكاله، وهو العلم الموصل للآخرة، سواء كان علم دنيا أو علم آخرة.
فقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، أي: الكلام الطيب بكل أنواعه، كل كلمة طيبة فيها ذكر لله وفيها تلاوة ومدارسة للقرآن يقبلها الله وتصعد إليه.
وقوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، أي: أن الكلم الطيب بغير عمل صالح لا يرفع، وهو أشبه بالنفاق، كأن يقول الإنسان بلسانه: لا إله إلا الله، وهو كافر بمعناها ومقتضاها، فلا يصلي ولا يصوم ولا يزكي ولا يحج، وقد يكون مسلماً باللسان لكن يعتز بأنه شيوعي، أو أنه ماسوني، أو أنه اشتراكي، وإذا أمرته بالإسلام يقول لك: الإسلام مظاهر، ويقول: ليس هذا وقت قطع الأيدي ولا الرجم ولا الصلب ولا الجلد، نحن متحضرون، يعني: حضره الشيطان والكفر والذل والهوان، أما العزة والحضارة والسيادة الحقيقية فهي في طاعة الله وفي طاعة رسول الله، وهي في أن يكون الإنسان مسلماً.
(والعمل الصالح يرفعه)، عن رسول الله عليه الصلاة السلام أنه قال: (لا نية بلا عمل)، أي: لا قول بلا عمل، ولا عمل ولا قول بلا نية، ولا نية ولا قول ولا عمل إلا بإخلاص، فلا بد للكلام مما يصدقه، وتصديق الكلام عمل الجوارح، وتصديق الجوارح الإخلاص لله، فلا يفعل ذلك لكي يقال: فلان شجاع أو كريم أو دين أو مسلم أو أو بل يكون فعله عبادة خالصة لله، وما لم يكن كذلك لا يقبله الله: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً).
فقوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، العمل الصالح من طاعات بجميع الأركان، يعني: يرفع الكلم الطيب المقترن بالعمل الصالح إلى الله، هذا تفسير، وفسر أقوام فقالوا: لا إله إلا الله تفيد قائلها على كل حال، سواء بعمل أو بغير عمل، إذا قالها بلسانه وصدقها قلبه، وأما إن عمل فهو قد كمل إيمانه، وإذا لم يعمل فهو ناقص الإيمان وأمره إلى الله.
فالكلم الطيب يصعد إلى الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، أي يقبله إذا كان خالصاً، {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] أي: يرفعه الله، هكذا فسر هؤلاء الضمير هنا، والله على كل حال هو الرافع وهو الواضع، وهو الذي يقبل وهو الذي يرد جل جلاله.
ما كان خالصاً لله قبله وما كان لغيره رمى به وجه المرائي والمنافق الكذاب.
وقوله: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [فاطر:10]، المكر هو: الحيلة والتظاهر بالطاعة والإيمان، فقوله: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [فاطر:10]، أي: يفعلون السيئات ويتظاهرون بالطاعات، ويتحايلون على الناس استغلالاً لهم، بأن يظهروا لهم أنهم ناس طيبون صالحون وهم في حقيقة الأمر منافقون، لا دين لهم صحيح ولا خالص.
فهؤلاء يمكرون بالناس ويتحايلون عليهم ويظنون أن حيلهم ستجوز على الله، ولكن هيهات هيهات، فهؤلاء لهم عذاب شديد أليم، ولهم خزي من الله، وإن كانوا كافرين فلهم الخلود في النار، وإن كانوا من عصاة المؤمنين فإن شاء الله غفر لهم وإن شاء عذبهم.
وقوله: {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10]، أي: مكر أولئك الجاحدين وتحايلهم وأكاذيبهم وأضاليلهم يضمحل ويهلك ولا يقبل.
ويقال: بارت السلعة، أي: بقيت مهملة لم يقبلها أحد، ولم تعجب أحداً، كذلك أعمال هذا قد بارت ومكره بار واضمحل وعاد عليه بالسوء وبالعذاب الشديد.(229/3)
تفسير قوله تعالى: (والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجاً)
قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11].
يخاطب الله تعالى الذين كفروا به أو عصوه: ألم تتذكروا كيف كنتم؟ ومن أين جئتم؟ كنتم عدماً ونحن الذين أوجدناكم من تراب، كان الأب الأول آدم من تراب، فهذا الذي يريد أن يظلم الخلق ويتعالى على الناس ويقول: أنا ربكم الأعلى، يجب أن يتذكر أنه خلق من تراب يدوسه الناس بنعالهم.
وهذا الذي من تراب يجب أن يكون دائماً متواضعاً لله، ولعباد الله المؤمنين، وألا يتعالى ويتعاظم على الله ولا على خلق الله، ولا يظلم الناس، وليعرف أن أصله من تراب.
وقوله: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [فاطر:11]، أي: من ماء مهين، من نطفة تخرج من مخرج البول، ودخلت مدخل البول، وبقيت في قرار مكين بين البول وما يتعلق بالبول، هكذا خلقة الإنسان، فلم التعاظم؟ ولم التكبر على الله وعلى عباد الله؟ ولم تقول: أنا ربكم الأعلى؟! وقوله: {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} [فاطر:11]، أي: بعد النطفة جعل الله ذكراً وأنثى، وزاوج بين الذكر والأنثى، فكان الخلق بعد التراب، وبعد خلق حواء من ضلع آدم، جعل من آدم نطفة، ومن رحم حواء قراراً مكيناً، وهكذا وقع التزاوج ذكراً وأنثى إلى يوم القيامة، ولم يفرد بغير ذلك إلا آدم وعيسى فقد خلق آدم من تراب، وعيسى من أم بلا أب: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59].(229/4)
تفسير سورة فاطر [11 - 12]
خلق الله الخلق بعلمه وصرف أمورهم وأحوالهم بحكمته فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا في أنفس الخلق، وهو سبحانه إذ يمتن على عباده بذلك يأمرهم بأن يتفكروا في خلقهم وأصل نشأتهم ومآلهم، ثم يلفت أنظارهم إلى خلق البحار المالحة المائجة والبحار العذبة الوادعة وما فيهما من أرزاق سخرها الله لعباده وطالبهم في مقابلة ذلك بحسن استغلالها وشكره عز وجل عليها.(230/1)
تفسير قوله تعالى: (والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجاً)
قال الله جل جلاله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11]، يلفت الله جل جلاله أنظارنا إلى أن نفكر ونتدبر كيف خلقنا، ونسأل أنفسنا: من أين جئنا؟ ما أصلنا؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ لنجد الجواب في قوله جل جلاله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [فاطر:11]، فالله قد خلق أصل البشرية وهو آدم عليه السلام من تراب، ثم خلق البشر بعد ذلك من نطفة، ثم جعلنا بعد ذلك أزواجاً ذكراً وأنثى، فزوج الذكر بالأنثى، ثم تتابع النسل؛ ليبقى أصل الجنس إلى أن يأتي أمر الله بفناء الكون فينتهي الإنسان والخلق بانتهاء الكون.
وقد مضى تفصيل خلق الله الإنسان من تراب في آيات ماضيات، وعلمنا كيف أن الله خلق الإنسان بيده، ثم نفخ فيه من روحه، ثم خلق زوجه من ضلع منه، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]، ثم حدث الزاوج بين آدم وحواء، فكانت الخلقة الثانية بعد التراب من نطفة من صلب الرجل إلى مكان مكين في رحم المرأة.
وهكذا تتابع الخلق إلى أن ينفخ الله في الصور، فالذي صنع ذلك ليس إلا الله جل جلاله، فلا الأصنام ولا المعبودون من غير الله من جمادات ومن ملائكة ومن جن ومن إنس قادرون على ذلك.
قال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11]، أي: ما من أنثى في الكون من بنات حواء تحمل حين تسقط في رحمها نطفة الرجل من صلبه إلا وذلك بعلم الله، وبخلق الله، وبقدرة الله، وما تضع هذه النطفة جنيناً وليداً ذكراً كان أو أنثى {إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11]، أي: إلا بخلقه وبإرادته جل جلاله.
ثم قال تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر:11]، أي: ولا يحيا وليد من بني الإنسان ذكراً كان أو أنثى، و (يعمر) أي: يطول به العمر وتمتد به الحياة، إلا وكان ذلك بعلم الله جل جلاله وبقدرته وإرادته، فمن هذه النطفة ما تسقط قبل تكوينها، ومنها ما تجهض وقد أصبحت جنيناً تجري فيها الروح، ومنها ما يذهب طفلاً، ومنها ما يذهب يافعاً وهكذا إلى أن يبلغوا أرذل العمر لمن كان بالغاً ذلك.
فمعنى قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} [فاطر:11]، أي: ما يمتد به العمر، وتمتد به الشهور والأعوام والسنوات إلا وبعلم الله كان ذلك، وبقدرة الله كان ذلك، ولا ينقص من عمره إلا في كتاب.
نحن الآن نتدارس كتاب الله في هذه البنية المقدسة عند بيت الله الحرام قد عمرنا سنوات مضت، وتلك السنوات الماضية نقصت من أعمارنا، فالملائكة المكلفون كتبوا يوم زرعت الروح فينا ونحن أجنة في أرحام أمهاتنا، فقد كتب الملك بأمر الله تكويننا؛ ذكراً أو أنثى وشقياً أم سعيداً طويل عمر أم قصيره مؤمناً أم كافراً، ومن قدر له عمر مهما كان ذلك العمر فبمجرد خروجه للدنيا ومضي الأيام والأسابيع والشهور والسنين كان ذلك نقصاً من عمره.
قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر:11]، أي: ما يعيش عمراً، ويمتد العمر بإنسان من الناس إلا كان ذلك بعلم الله وقدرته، ثم يأخذ بالعودة والرجوع وينتقص عمره، فكل يوم يكتب الملك المكلف بذلك: مضى من عمر فلان يوم، مضت جمعة، مضى عام، مضت شبيبة، مضت كهولة، مضت شيخوخة إلى أن يأتي ملك الموت، فما من معمر يعمر -يطول عمره- وما من سنوات تنقص من عمره إلا كان ذلك (في كتاب) أي: كان ذلك في اللوح المحفوظ يوم قدر الله الخلائق، فقدر أعمارهم وحياتهم، وقدر ما يرتبط بهم قبل خلقهم بألفي عام، كل ذلك كان مكتوباً في اللوح المحفوظ وفي الكتاب الخاص بذلك الإنسان: كم يعمر، ذكر أو أنثى، شقي أو سعيد.
وهكذا كل ذلك بقدر سابق، وبترتيب سابق، وبخلق سابق، وإنما هي أمور يبديها ولا يبتديها يظهرها ولا يخلقها إذ ذاك، فقد قدر خلقها يوم قدرت في اللوح المحفوظ قبل خلق الأكوان.
وفسر قوم الآية: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر:11]، أي: جنس الإنسان، ما من عمر كان طويلاً، وما من عمر كان قصيراً إلا وذلك في كتاب في علم الله، فعلم أن هذا سيعيش سنوات، والآخر سيصل للشبيبة، والآخر إلى الكهولة، والآخر إلى أن يكون شيخاً، والآخر إلى أن يكون شيخاً هرماً فانياً -يصل إلى أرذل العمر-، كل ذلك مكتوب في كتاب في اللوح المحفوظ.
وفي كتاب الإنسان ما قدر له يوم خلق، بل يوم زرعت الروح فيه وهو في بطن أمه في رحمها، والمؤدى واحد، فإذا ذكرت الأعمار فهي في كتاب، فتذكر أن كانت طويلة أو قصيرة، وإن نقص منها بأن انتهت منها سنوات وأوقات وأزمان هي كذلك بعلم الله وقدرته، فالمؤدى واحد، ومعنى ذلك أن كل ما في الكون من خلق الله ومن إرادته ومن عمله جل جلاله، لا الأصنام المعبودة تقدر على شيء من ذلك، سواء كانت الأصنام جمادات أو كانت أناسياً، أو كانت ملائكة، أو كانت جناً، فكل ما عبد من دون الله فهو صنم بالنسبة لعابده، وكل أولئك لا يقدرون على شيء، ولا يخلقون شيئاً، بل الله الخالق لهم، والخالق لعابديهم الكفرة الجاحدين.
قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11]، أي: في اللوح المحفوظ، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11]، أي: أن تقدير الأعمار الطويلة والقصيرة، وتقدير الأعمال خيراً كانت أم شراً كل ذلك يسير على الله لا يصعب عليه شيء، ولا يعز عليه شيء، ولا يحتاج لذلك أكثر من أن يقول: كن فيكون، ولا يحتاج إلا أن ترتبط إرادته بالشيء فيكون، انفرد بذلك وحده الخالق الرازق المحيي المميت جل جلاله.(230/2)
تفسير قوله تعالى: (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج)
قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر:12].
الله يلفت أنظارنا إلى أن نتدبر وإلى أن نفكر وإلى أن نتساءل في أنفسنا كما تساءلنا عن أصلنا؛ كيف خلقنا لما جئنا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ كذلك لفت أنظارنا وعقولنا لهذه البحار المالحة والحلوة، هذه البحار التي نستخرج منها لحماً طرياً، ونستخرج منها حلية نلبسها مفاخرين بها، ونسافر عبر البحار من قارة إلى قارة نختصر بذلك الطرائق الطويلة، نبتغي من فضل الله من التجارة ومن الربح ومن الضرب في الأرض للاسترزاق، وللخدمة للأولاد، ولرزق العيال ولما يقي به الإنسان وجهه عن السؤال والحاجة إلى الناس، قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر:12] أي: ليس البحران سواء، {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} [فاطر:12]، عذب: طيب حلو كمياه الأنهار ومياه الآبار ومياه الثلوج، {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر:12]، وذاك مالح، بل هو الملح نفسه، وأجاج: أي: شديد الملوحة، مر شديد المرارة، وهذه صفة لكل البحار، وما يتعلق بالفرات وبالنيل وأشباهها فهي ليست بحوراً ولكنها أنهار كبيرة واسعة، فهي أكبر من غيرها، وأما البحار فكالبحر الأبيض، والبحر الأحمر، والبحر المحيط، والبحر الهادي وتكون رقعتها ثلثي الأرض أو زيادة.
فيبين الله آيته في هذه المياه؛ الفرات الطيب الحلو عذب يستعذبه اللسان ويستسيغه الحلقوم ويستطيع الشارب شربه بلذة ورغبة، وهو يقول: هل من مزيد، وليس كذلك مياه البحر، فلو شرب منه شربة لوجد أثره في حلقه، ولما استساغه إلا بالرغم عنه وإلا بالإجبار وذاك يضره، وما خلقت مياه البحر للشرب، ولكن خلقت لشيء آخر، وإن كان إذا اضطر إليها ساكنو الصحاري وساكنو الفلوات فهم يزيلون منها ملوحتها ومرارتها فيشربونها، ومع ذلك فرق كبير بينها وبين الماء العذب بخلقته وفطرته التي فطره الله عليها، والأجسام التي لا تشرب إلا هذه المياه المصفاة لا تكتفي بها وتترك في الجسم أثراً، ولا تغني عن المياه العذبة رغم ما يزاد فيها من مواد لتحلو وتطيب، ولذا لا تكون مياه البحر العذب الطيب الزلال كمياه الآبار والعيون والأنهار سواء مع المياه المالحة المرة، ومن كلا البحرين -الماء العذب الفرات الطيب والماء المالح الأجاج المر الشديد المرارة والشديد الملوحية- نستخرج لحماً طرياً فنصطاد الحيتان أشكالاً وألواناً، وكل صيد البحر حوت مهما كان شكل هذا الحوت، حتى ولو كان في شكل الإنسان كما زعم الزاعمون ولم يصح ذلك.
سئل الإمام مالك: أحيتان البحر حلال؟ قال: نعم، قال السائل: كل صيد البحر؟ قال: نعم، قال: وخنزير البحر؟ قال: حرام، قال: أنت أحللت لي الآن كل صيد البحر! قال: نعم، قال: أنت الآن حرمت الخنزير؟ قال: أنت سميته خنزيراً، فأنا حرمت الاسم وليس في البحر خنزير ولا كلب.
وكل ما سمي بذلك هي أسماء جعلها الناس بما وجدوا من شبه بين بعض الحيتان وهذه المخلوقات المحرمة كالكلب والخنزير في البراري، وإلا فصيد البحر كله حلال، حيه وميته ما لم يطف على وجه الماء، نستخرج منه لحماً طرياً على غاية ما يكون من اللذة، وتختلف لذاذته ويختلف طعمه كما تختلف لحوم البر، قوله: {وَمِنْ كُلٍّ} [فاطر:12] يسمى التنوين في قوله: (كل) تنوين العوض، أي: يعوض به عن كلمة، والمعنى: من كل البحر العذب الفرات والبحر الملح الأجاج تستخرجون وتصطادون وتأكلون {لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر:12] حوتاً طرياً لا يزال على طراوته، فأنتم تأكلون كل ذلك وقد أحله الله لجميع البشر، وذكاته استخراجه من البحر، ثم قال سبحانه: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12]، أي: تستخرجون من البحر الحلية كاللؤلؤ والمرجان، (تلبسونها) ولباس كل شيء بحسبه فنحن نضع الخاتم في الأصبع وهو لباس لها، ونجلس على الفراش وهو لباس له، نلبسه على أجسامنا وهو لباس، فكل ما ينتفع به الإنسان سواء وضعه على يده أو على بدنه أو اتخذه للجلوس فهو لباس.
قال أنس رضي الله عنه: لقد أخذت حصيراً أسود من كثرة ما لبسناه، ويعني بلبسه: الصلاة عليه، وسئل أحد السلف: الحرير الذي حرم الله على الرجال، هل لبسه فقط؟ قال: لبسه وفرشه، ففرشه لباس وجعله على البدن لباس، وكل ذلك لباس، ولباس كل شيء بحسبه، فنحن نضع الخاتم في اليد فهو لباس، وحين تضع المرأة العقد في عنقها والأخراص في آذانها والخلاخل في أقدامها يعتبر كل ذلك لباساً، وكذلك هنا نستخرج من البحر الحلية التي تتحلى بها المرأة من جواهر ولآلئ ومن مرجان، {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22].
(تستخرجونها) قال بعض مفسري الآية الكريمة: في البحر مياه عذبة، وعيون نابعة، فنحن نستخرج الحلية من هذه المياه العذبة والبحار، وهذا تكلف لا حاجة إليه ففي اللغة العربية الفصحى وفي كلام العرب البليغ -والقرآن نزل بلغة العرب وهو أبلغ كلام وأفصح كلام، بل هو الكلام المعجز أن يؤتى بمثله أبداً- تقول العرب: دخلت على الحسن والحجاج فدخلت على الخير والشر؛ الخير بالنسبة للحسن البصري والشر بالنسبة للحجاج، وتقول: تعرفت على الكسائي وسيبويه فتعرفت على اللغة والنحو، اللغة للكسائي والنحو لـ سيبويه.
وقد ذكر الله هنا البحرين فكان اللحم الطري لكلا البحرين: العذب الفرات والملح الأجاج، وكان اللؤلؤ والمرجان للبحر المالح المر، وهذه لغة فصيحة بليغة وإلا فليس من المعروف أن اللآلئ والجواهر والمرجان تستخرج من الأنهار وإنما تستخرج من البحار {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر:12]، قوله: (وترى الفلك فيه) أي: في البحر المالح، تراه مارجاً ماشياً مسرعاً، (وترى الفلك فيه مواخر) مخر البحر، أي: شقه، والمعنى: تجد هذه البواخر، وهذه السفن تشق البحر بجؤجئها الذي هو كصدر الطائر العائم أو الطائرة وما إلى ذلك، وخص الماء المالح في قوله: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ} [فاطر:12]، لأنها بحار كبار واسعة، والفلك: جمع السفن من البواخر والبوارج وكل ما يجري على مياه البحر وعلى سطحها وعلى أديمها {مَوَاخِرَ} [فاطر:12]، جمع ماخرة أي: تشقها بصدرها وتسافر عليها وتقطع المراحل لتطوي المشارق والمغارب، ولتصل من قطر إلى قطر، ومن قارة إلى قارة، وهذه المياه التي تحمل الإنسان وما يركب عليه من أخشاب وحديد وما إليها كل ذلك بقدرة الله، ومن ركب البحر يدرك ذلك خاصة البحر المحيط الذي يسمى: بحر الظلمات، وهذه البحار عندما تتحرك -وأيامها جميعاً متحركة وخاصة في أيام الشتاء- ترى الأمواج كأنها الجبال تتلاطم، حينها تجد نفسك وأنت على الفلك من باخرة أو سفينة وكأنها مدينة على سطح الماء، وعندما تأتي الأمواج تصبح السفينة بين جبلين فإذا تلاطمت تجد الباخرة كما وصفها عمرو بن العاص: كدود على عود، فتراها تتأرجح وتتلاطم بها الأمواج يميناً وشمالاً أماماً وخلفاً، حتى تعتقد أن هذه الموجة ستغرق الباخرة بمن فيها من ركاب، وإذا بكل ذلك لا يقع فهي تصنع يوم تصنع على غاية ما يكون من التوازن بما تستطيع به شق البحار الهائجة المائجة وهي تمخر البحار المحيطة، وتمخر البحار الصغيرة، ونعني بالصغيرة: كالبحر الأحمر، والبحر الأبيض فهي صغيرة بالنسبة للمحيطات.
ويعنون بالمحيط: أنه محيط للكرة الأرضية، ويسميه العرب بحر الظلمات أما الأجانب فيقولون له: البحر الأطلنطي، ومعناه: الظلمات، وكانوا يظنون قبل اكتشاف قارة أمريكا أنه ليس وراء هذه البحار إلا الظلام، وأنه ليس وراءها عمار إلى أن اكتشف أسلافنا في الأندلس أن وراء المحيط دنيا عريضة واسعة فذهب مجموعة من الشباب الجغرافيين وهم يظنون أول مرة ظناً قوياً أن وراء المحيط قارة وساعدهم بعض الأمراء على ذلك فأرسلوهم بمائتي سفينة ليكتشفوا ما وراء البحر المحيط، فلم يبق من المائتين إلا واحدة ودمرت تلك السفن كلها بعد أن ابتلعتها الأمواج، ووصلوا بعد ذلك إلى أرض وهم بين الحياة والموت فوجدوا فيها الأغنام وكأنها القطط، ووجدوا المياه العذبة ووجدوا الأشجار الباسقة بأنواع من الفواكه، وحينها استراحوا فشربوا من الماء ثم أخذوا يذبحون الشياه وإذا بهم يجدونها مرة، فذبحوا الثالثة والرابعة والخمسين مره فذهبوا يشبعون جوعتهم من الفواكه إلى أن اكتفوا وإذا بهم يخرج عليهم ناس من البلدة وهم هؤلاء الذين سموا الهنود الحمر، إذ هم سكان أمريكا الأصليون، وأما من جاء بعد ذلك فإنما هم مستعمرون تجمعوا من مختلف أقطار الأرض وخاصة من قارة أوربا، وبعد أن قبضوا أخذوا إلى أميرهم أو كبيرهم فسألهم: ماذا تريدون؟ فلم يتفاهموا وإذا بهم يجدون من يترجم لهم العربية، فقالوا: جئنا لنكتشف هذه الأرض وقد كنا ظننا ظناً قوياً أن بعد المحيط قارة، فقال لهم: أنتم شباب مغرورون فأركبوهم في سفينتين وغمضوا عيونهم وشدوا رباطهم وأبحروا بهم مسافة شهرين كما قدروا ورموهم إلى شاطئ، فلما فتحوا أعينهم أخذوا يسألون بعد أن وجدوا الناس: أين نحن؟ قالوا: أنتم على شاطئ أرض مسماة بالمغرب الأقصى، فصاحوا وقالوا: وا أسفي فهي مدينة لا تزال إلى اليوم كثيرة الخلجان كثيرة المصاب كثيرة المصانع للحوت المعلب تسمى آسفي.
ومن ذلك الوقت سميت بهذا الاسم ولم يكتشفها كولومبوس كما قالوا، وإنما كولومبوس سمع هذا تبعاً، وقبل سنوات كتب شاب ياباني أطروحة لنوال الدكتور(230/3)
تفسير سورة فاطر [13 - 18]
إن من وسائل القرآن التي يتبعها في مناقشة الكافرين المعرضين عن الله وعن دينه وسيلة المناقشة العقلية، فيلفت الله انتباههم إلى حال معبوديهم من دونه، فهم ضعفاء محتاجون إلى من يطعمهم ويسقيهم ويكلؤهم في ذوات أنفسهم، ثم إذا قدر الله عليهم الفناء كما قدره على سائر خلقه فإنهم لا يستطيعون دفعه ولا الفرار منه؛ لذا فهم أضعف وأهون من أن يعبدوا مع الله عز وجل.(231/1)
تفسير قوله تعالى: (يولج الليل في النهار)
قال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13].
يقول الله جل جلاله وقد دعانا للتفكير في أنفسنا كيف خلقنا؟ وما أصلنا؟ وكيف انتقل التراب إلى نطفة والنطفة إلى زوجين ذكر وأنثى؟ ثم عمر من عمر ومات من مات وقصر عمره، ثم هذه المياه العذبة الفرات، ثم هذه المياه المالحة الأجاج وما نستخرج منها مما نغذي به أبداننا من لحم طري، ومن حلية وزينة يتحلى بها نساؤنا في السواعد والأقدام والآذان والأعناق وما إلى ذلك، وهذه البحار التي نجوبها للتجارة نجوبها للسياحة نجوبها طلباً للعلم ومعرفة لخلق الله في كونه وفي أرضه جل جلاله وعلا مقامه، وهنا يلفت أنظارنا للزمن.
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [فاطر:13]، يولج: يدخل، ويولج الليل: يدخله في النهار، ويدخل النهار في الليل، يختلفان زمناً فيطول هذا ويقصر هذا، وقد يستويان زمناً فيكون لليل 12 ساعة والنهار كذلك، ثم يقصر أحدهما ويصبح من ثمان ساعات إلى عشر ساعات وقد يصل إلى 11 ساعة، ولا يتجاوز الليل والنهار 24 ساعة، وإنما يزيد الليل على حساب النهار ويزيد النهار على حساب الليل، نرى النهار مشرقاً فإذا أقبل الليل مال النهار إلى الاصفرار، ثم يميل إلى العتمة وإذا بالظلام يأتي من الغرب مسرعاً حتى يدخل في النهار فيغطيه ويغمره، وعندما يلج الليل في النهار يذهب النهار، وعندما ينتهي الليل يلج النهار في الليل وإذا بالضياء منتشراً مع الفجر، فيراه الرائي يعلو قليلاً قليلاً إلى الفجر الصادق ثم أذان الصبح ثم الاصفرار إلى شروق الشمس، وللمرء أن يتساءل أين الليل إذا ذهب النهار؟ وأين النهار إذا ذهب الليل؟ من صنع ذلك؟ لو جعل الله الدنيا نهاراً دائماً لما وجدت سكينة ولا راحة، ولو كان النهار ليلاً دائماً لما استطاع المرء أن يضرب في الأرض، ولما استطعنا أن ندبر أمورنا، أو نقيم شعوبنا، أو نعمر دولنا.
وهكذا تتجلى رحمة الله بالعباد حين جعل الليل والنهار، فجعل الليل لنسكن فيه والنهار لنعمل فيه، وكل يجري إلى أجل مسمى.
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [فاطر:13]، وهذه الشمس التي لا يستغني عنها كائن حي على وجه الأرض، لما لها من علاقة بالأجسام وصحتها، وبالشجر والنبات وبالمد والجزر في البحار كل ذلك من صنع الله وبديع خلقه، وهذا القمر الذي لا يستغني كذلك عنه الناس ولا النبات، وأثره على المد والجزر في البحر، وهكذا سخر الله لنا ذلك كله، جعله لصالحنا ولحياتنا كرماً منه وفضلاً جل جلاله وعز مقامه.
أفلا نتساءل: من خلق الشمس؟ من خلق القمر؟ من أولج الليل في النهار والنهار في الليل؟ من خلق الإنسان؟ من خلق هذه المياه وأنبعها من الأرض؟ وهي التي لم تنته منذ خلق الله الكون؛ لأنها إذا انتهت انتهى الإنسان وفني ومات، فقد يصبر أحدنا عن الطعام أياماً ولربما أسابيع ولا يستطيع الصبر على الماء ساعات في أيام شدة الحرارة، وهكذا لن يستغني حي عن الماء {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ} [الأنبياء:30].
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر:13]، فالليل يتابع النهار، والنهار يتابع الليل، والشمس تتبع القمر، والقمر يتبع الشمس وكل ذلك يجري لأجل مسمى، وهذا الأجل المسمى عند الله هو يوم القيامة يوم ينتهي النهار وينتهي الليل، وتنتهي الشمس وينتهي القمر ويعم الفناء الأرض، ويعود الكون كما كان، فكما كان في عدم سيعود إلى عدم، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، يبقى الله كما كان لا شيء قبله ولا شيء بعده، ثم يحيي الله الناس، فيعيد الخلق إلى الحياة للحساب، ومن ثم إما إلى جنة وإما إلى نار، فهو قد خلق ذلك إلى أجل وزمن محدد مسمى عنده، أي: مسمى في أي سنة من التاريخ الهجري مثلاً: في ليل أو نهار، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن القيامة تقوم يوم الجمعة، فنحن قد علمنا يومها على الأرض ولكن متى تكون في صيف أو شتاء؟ في خريف أو ربيع؟ بعد سنة أو أكثر؟ كل ذلك لا يعلمه إلا الله، وفي الحديث عندما سأل جبريل نبينا عليه الصلاة والسلام: (متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل).
فأمر الساعة مما استأثر الله بعلمه، وقد كرر الله هذا المعنى في القرآن في غير ما آية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:187]، فالله استأثر بعلمها فيما استأثر به، ولكن قد بين بعض العلامات كما في حديث جبريل الذي سأل فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (وما علامتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان)، وهذه العلامات الصغرى قد رأيناها ورآها جميع الناس، وتبقى العلامات الكبرى مثل: خروج المهدي المنتظر، وخروج الدجال، ونزول عيسى من السماء، وخروج الريح الحمراء التي تخرج في عدن، وشروق الشمس من مغربها، وظهور الدابة، وهي عشر علامات قد ورد ذكرها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن تنتهي الدنيا حتى تظهر هذه العلامات العشر الكبيرة، ولعلنا على أبوابها أو قريبون منها.
التنوين في قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ كُلٌّ} [فاطر:13]، هو تنوين العوض أي: كل الليل والنهار، والشمس والقمر تجري إلى أجل، فهي باقية ومتسلسلة ويجري بعضها خلف بعض إلى أجل مسمى عنده، وهذا الأجل هو يوم القيامة.
قال تعالى: {ذَلِكُمُ} [فاطر:13]، تقدم غير ما مرة في أكثر من مناسبة أن الإشارة تكون مفردة، ولكن إذا أشير إلى المخاطبين تتغير الإشارة بتغير المخاطبين، فإذا خاطبت واحداً قلت: ذلك الله، وإن خاطبت اثنين قلت: ذلكما الله، أي: أشير للمخاطبين، وإن خاطبت رجالاً جمعاً أقول: ذلكم الله، وإن خاطبت جمع نساء أقول: ذلكن الله، والخطاب الآن للرجال والنساء ولكل الخلق، ومعلوم أنه إذا كان الجمع مشتملاً على ذكور وإناث يغلب جمع الذكور {ذَلِكُمُ} [فاطر:13] أي: ذاك الذي يقدر على هذا، فهو الذي خلق الإنسان من تراب، ثم من نطفة، ثم جعله بشراً سوياً من ذكر وأنثى، وهو الذي خلق لنا المياه العذبة الزلال من الأنهار أو الآبار والعيون، وخلق لنا مياه البحار المالحة المرة، وهيأهما جميعاً حتى استخرجنا منهما لحماً طرياً من أنواع الحيتان والأسماك، واستخرجنا منهما الحلية التي يلبسها نساؤنا من أنواع الجواهر وأنواع اللآلئ وأنواع المرجان، والذي جعل الليل والنهار وجعل الشمس والقمر، وكل يجري لأجل مسمى، من الذي خلق ذلك؟ ومن الذي صنع ذلك؟ {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [فاطر:13]، خالقكم ورازقكم ومحييكم ومميتكم، لا الأصنام التي يعبدها المشركون، ولا ماركس ولا لينين أو غيرهما مما يعبد المرتدون، ولا الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان من أنواع الجمادات وأنواع الأحياء، كل ذلك لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولن يخلق ذبابة {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73].
وما ذاك إلا لأن الملك لله وحده، قال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [فاطر:13]، فله ملك السماوات السبع والأرضين السبع، له ملك الكون كله فلا يملك أحد معه شيئاً، ولذلك قال بعد ذلك: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13]، قوله: تدعون، أي: تعبدون، والدعاء مخ العبادة، والقطمير هو: القشرة الرقيقة التي تكون بين التمرة وبين النواة، والحفرة اسمها النقير، والعرب تضرب الأمثال في لغتها فيقولون: فلان لا يملك نقيراً ولا قطميراً، ونطق الله بهذه الفصاحة والبلاغة في كتابه، فبين أن هؤلاء لا يملكون حتى تلك الجلدة الرقيقة التي على ظاهر نواة التمرة في جوف التمرة، إذ هم أحقر من ذلك وأقل وأعجز.
فهؤلاء الذين نسبوا لهم الألوهية والربوبية، ويجعلهم العابدون المشركون الوثنيون آلهة مع الله فنسبوا لهم الخلق والرزق، ونسبوا لهم الحياة ونسبوا لهم الموت، كل ذلك كذب وهراء وضلال مبين، إذ هم أعجز من أن يخلقوا حتى هذه القشرة التي بين النواة والتمرة.
فالله هو المالك لكل شيء، وهو الخالق لكل شيء، وهو الرازق لكل شيء.
قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ} [فاطر:14]، أي: بل أكثر من ذلك، هؤلاء الذين تدعون وتعبدون من دون الله، وهم لا يملكون نقيراً ولا يملكون قطميراً، {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر:14]، أي: إن ناديتموهم مستغيثين مستجيرين لا يسمعوكم إن كانوا جمادات صماً.
{وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر:14]، أي: ولو سمعوا كما تسمع الملائكة بالنسبة لمن يعبدها وللجن بالنسبة لمن يعبدهم، وللعبد النبي عيسى وللصديقة مريم بالنسبة لمن يعبدهما لم يستجيبوا لهم، ولم يلتفتوا إليهم، ولم يحققوا طلبهم لأنهم عاجزون عن ذلك، وليس ذلك فحسب بل سيتبرءون منهم يوم القيامة، قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر:14]، ففي يوم القيامة تتبرأ هذه المعبودات الحية من شرك المشركين، وقد قص الله علينا قصة عيسى وهو يسأله ليقرع النصارى ويبكتهم ويكذبهم في زعمهم: {يَا عِ(231/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، خطاب لكل الناس: يا أيها الملوك والجبابرة والطغاة، يا أيها الأغنياء والفقراء، يا أيها الكافرون والمؤمنون، يا أيها الرجال والنساء، {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر:15]، كلنا فقراء إلى الله لأن يحيينا فقراء لأن يكسونا فقراء لأن يرزقنا فقراء لأن يصح أبداننا فقراء لأن يكرمنا بالإيمان فقراء له في كل شيء، وما يملك فينا من يملك ولو ملك الدنيا فإنما هو تملك عارية فحسب، قد ملك اسكندر المقدوني الدنيا يوماً، وقد ملك سليمان ما استطاع به أن يطير في الأجواء على السجاد، ويستخدم الجن والحيوانات والطيور ومع ذلك ذهب بمفرده وبقي الجن لله والإنس لله والفضاء لله، وكل خلق الله لله.
كل الناس فقراء إليه ذوو حاجة لفضله ولرزقه ولعطائه ولرحمته، ومن يدعي منهم سوى ذلك فهو كاذب، أين من بنى وشيد؟ أين من قال يوماً: أنا ربكم الأعلى؟ ها هي جثته مومياء بين موميات آثار مصر، بقيت لمن خلفه آية، لا يملك حتى جسد، أين من ادعى أنه رب شريك لله يخلق ويرزق ويعطي ويمنع؟ كذب على نفسه والله، بل الكل فقير إلى الله، وهذا مشاهد لا ينكره حتى الكافر ولو أنكره فإن العقل والسمع والبصر يرد عليه، والكفار حالهم كما قال الله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، فهم أضل من الحيوانات بكل أشكالها، إذ كيف يمكن إنكار الله جل جلاله؟! أينكر قدرته وحكمته؟ وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد ولذلك كان هؤلاء للحيوانية أقرب، بل الحيوانات أعقل منهم، فالحيوانات تدرك وتعقل وتملك الشعور بوجود الخالق الإله وهي فقيرة إليه، {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، ثم نعت نفسه أمام فقر عباده فقال: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، الله هو الغني غنىً مطلقاً، لم يحتج ولن يحتاج إلى أحد من خلقه والكل محتاج إليه، قد كان سبحانه ولا كون ولا زمن، فهو مكون الزمان وهو مكون الإنسان وهو مكون الأكوان، وهو خالق كل شيء، كان ولا شيء معه، وسيبقى ولا شيء معه، وهو على ما كان عليه جل جلاله، هو الغني عن عباده بل عن جميع خلقه، الحميد المحمود يحمده كل خلقه، هو رازقهم وهو محييهم، وهو معطيهم ومعافيهم، له كل أنواع المحامد، ونسبة الحمد للإنسان إنما هو استعارة وحمد نسبي.(231/3)
تفسير قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد)
قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:16 - 17]، نداء إلى هؤلاء الطغاة، المتألون على الله من يهود ونصارى ومشركين ووثنيين وكفاراً: اعلموا أن لو يشاء الله أن يذهبكم ويأتي بخلق جديد لفعل ولا راد لإرادته سبحانه، فلو شاء الله لأذهبهم وقضى عليهم وأفناهم وأتى بخلق جديد، والله يفعل هذا باستمرار، وإلا فأين آباؤنا وإن وجد من هم في أسنانهم؟ وأين أجدادنا؟ أين الدول السابقة؟ أين الملوك السابقون؟ أجيال انتهت وأتى الله بأجيال جديدة، وهذا يحدث باستمرار إلى يوم النفخ في الصور، قد كنا يوماً أجنة في بطون أمهاتنا، ثم أصبحنا أطفالاً، ثم شباباً وسيأتي يوم لا أحد منا موجود، أين من كان يحضر بيت الله الحرام منذ 1400 عام؟ أين رسول الله نفسه عليه الصلاة والسلام؟ أين أصحابه وتابعوه؟ أين الأئمة المجتهدون من السلف الصالحين؟ وأين غير الصالحين؟ أين كل أولئك؟ ذهب الكل وفني! الكل مات وأتى الله بخلق جديد لم يكونوا موجودين، ذهب الأوائل بمؤمنيهم وكفارهم، فهم بين يدي ربهم ينتظرون الحساب، ثم إما إلى جنة وإما إلى نار.
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فاطر:16]، الجواب محذوف تقديره: فعل، والمعنى: إن يشأ الله أن يذهبنا فعل وأتى بخلق جديد، وقد يكون المعنى أعم من ذلك: إن يشأ الله أن ينهي هذا النوع البشري بالمرة فهو قادر على أن يأتي بخلق من نوع جديد، الله أعلم بشكله ونوعه، ولا شك أنه قد كان قبلنا خلق آخر، ولا شك أن الأفلاك فيها سكان من غيرنا قد أشار الله إليهم في كتابه فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} [الشورى:29]، الأفلاك العلوية والأفلاك السفلية، {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29]، ولا يقال عن الملائكة: دابة؛ لأن الملائكة ذوو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وإنما الدابة: من يدب على وجه الأرض، ففي الأفلاك العلوية خلق من خلق الله تدب كما ندب، وهل تدب على رجلين أم على أربع أم على واحدة؟ الله وحده العليم بذلك، (وهو على جمعهم)، وأعاد الضمير بجمع العقلاء: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29]، أي: إذا شاء الجمع بين دواب السماء وبين دواب الأرض فعل، ولغة العرب تقول: إن (إذا) إذا دخلت على الماضي حولته مضارعاً، وإذا دخلت على المضارع حولته ماضياً، فقوله: (وهو على جمعهم إذا يشاء) أي: إذا شاء، ومعناه: قد شاء وسبق هذا في علمه وسيكون يوماً، وهي الإشارة لمن يبحثون عنه في هذه الأيام، وهناك آثار ضعيفة ولكن المحدثين أجمعوا على أن الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة إذا جاء زمن وحقت وصحت كان ذلك دليل على أن النبي قد قالها عليه الصلاة والسلام؛ لأن الكذبة والفجرة مهما كذبوا فلن يستطيعوا يوماً أن يقولوا ما سيكون بالفعل، بل ذلك لا يكون إلا للموحى إليه نبينا عليه الصلاة والسلام.
والمحدثون عندما يقولون: فلان كاذب فلان خاطئ فلان واه، فإنما يعنون أنه كثر وهمه وكذبه، وعلى ذلك تركوا روايته، ولاحتمال أن يكون الصدق كذباً تركوا الرواية كلها، على أن الصدوق قد يكذب والكذوب قد يصدق يوماً، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة عن الشيطان في قصته المشهورة معه: (صدقك وهو كذوب)، وقد أخبر سبحانه وتعالى بأن إبليس صدق في ظنه من أن الكفرة سيتركون يوماً دينهم فيتركون ربهم ويلهيهم الشيطان ويفسدهم، فكان ظنه وتوهمه في هؤلاء صدقاً.
ولذلك وردت أحاديث أن في الأرضين وفي الأفلاك نبي كنبيكم وشريعة كشريعتكم والأحاديث في ذلك لم تصح ولكن الآية تشير إلى أن هناك دواباً في الأفلاك العلوية كما في الأفلاك السفلية.
قوله تعالى: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:17]، وما ذلك بصعب على الله، إذ لا يصعب عليه شيء الكل عليه هين، وإنما يقول للشيء كن فيكون.(231/4)
تفسير قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)
قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر:18].
قوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر:18]، هذه الكلمة أصبحت دستوراً في كتاب الله، ومعنى: لا تزر، أي: لا تتحمل وزراً، والوازر: هو المذنب المسيء، والمعنى: لا تتحمل نفس وزراً ولا إثماً ارتكبه غيرها، أو لا تتحمل نفس مذنبة مسيئة ذنب غيرها من الأنفس وإنما تحمل كل نفس ما أذنبت وما أساءت، فلا يؤاخذ ولد بوالده، ولا والد بولده وإنما كل نفس مسئولة عن نفسها، على خلاف ما كان يفعل في الجاهلية، بل وإلى الآن ما انتهت الجاهلية وإنما ازدادت، يحاسبون الولد بالوالد ويحاسبون الوالد بالولد، والأمة والشعب بأمة مضت عليها قرون، وهكذا الظلم أنواع وفنون، ثم قال تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر:18]، قوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} [فاطر:18]، أي: إن تدع نفس أثقلت بالذنوب وبالأوزار وبالإساءات غيرها ليعينها في حمل أوزارها وآثامها لا يفعل ذلك، والحمل هو: ما يحمل على الظهر، وبالفتح: هو ما يكون حملاً للمرأة في بطنها، ويقال للشجر المثمر كذلك، فيقال: هذا حمل، أي: حمل على ظهره أو يده، والمعنى: لن تقبل نفس يوم القيامة أن تحمل أوزار غيرها بحال من الأحوال، ولو كان المطلوب والمرجو ذا قرابة، وقد قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]، تأتي الأم يوم القيامة فتقول لولدها: يا بني! لقد أرضعتك من ثديي، ولقد حملتك في بطني وجعلته لك فراشاً ووطاء، فأعطني اليوم من حسناتك لعلها تخفف علي بعض أثقالي فيقول لها الولد: نعم كما قلت يا أماه لقد كنت لي نعم الأم براً وحناناً، ولكنني الآن في حاجة إلى حسنة مهما قصرت، نفسي نفسي يا أماه إليك عني، وكذلك يطلب هذا الأب، ويطلبه الولد، ويطلبه الزوج، وتطلبه الزوجة، ويطلبه الصغير، ويطلبه الكبير ولكن هيهات، لن يحمل أحد وزر أحد، وما يزعمه النصارى من أن عيسى سلم نفسه لليهود ليقتلوه وليصلبوه، وأنه إنما فعل ذلك عن رضا وطواعية من نفسه ليحمل أوزار أمته من النصارى، إنما هي أكاذيب وأضاليل أصلاً وفرعاً، فالرب لم يقتل، ولو كان عيسى كذلك لن يتغلب عليه اليهود، وإنما تلك أكذوبة وذلك ضلال مبين، قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، فهو لن يحمل أوزارهم، ولن يحمل أحد وزر أحد، ولكن هناك الشفاعة ولا شفاعة إلا بعد إذن الله، ولا شفاعة إلا في مؤمن أما الكافر فلا شفاعة عليه ولا شفاعة له، والمؤمنون يشفعون إن أذن الله لهم بالشفاعة، أما الشفاعة العظمى فهي خاصة بسيد البشر نبينا عليه الصلاة والسلام أكرمنا الله بشفاعته بفضله وكرمه.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [فاطر:18]، يا محمد! إن نذارتك ووعيدك ورسالتك إنما تفيد وتخوف الذين خافوا ربهم، وخافوا عذابه، وآمنوا بوحدانيته، وآمنوا بألوهيته، الذين أسلموا لساناً وآمنوا جناناً وحققوا القول بالعمل، وأقاموا الصلاة فلزموا عبادة الله في الصلوات الخمس صباحاً وظهيرة وعشية وغروباً وعند الشفق، مع مزيد من النوافل، (ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ} [فاطر:18] أي: يخافونه وهو غائب عنهم ولم يروا لا قيامة ولا جنة ولا ناراً، وإنما آمنوا بالغيب كما بلغهم بحقيقته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إنما بلغهم ذلك عن قول الله وكتاب الله فآمنوا وصدقوا وأصبحوا في خشية من الله، وأصبحوا في عبادة لله تؤمن بها قلوبهم، وتنطق بها ألسنتهم، وتقيم شعائرها جوارحهم.
قوله تعالى: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} [فاطر:18]، أي: من فعل خيراً وأحسن فإنما يحسن لنفسه، ومن فعل ما يزكى عليه ويثنى عليه به بأن يكون عابداً مؤمناً صالحاً إنما يصنعه لنفسه، ومن أحسن فإنما إحسانه وصلاحه لنفسه، ولن يعطى ذلك لأحد غيره، فهو لن يعطي الحسنات كما لا يأخذ السيئات أحد منه وإلى الله المصير {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر:18] وعيد ونذارة وتهديد، والمعنى: يا هؤلاء المسيئون المسرفون على أنفسهم إلى متى وأنتم عن الله غافلون؟ وعن رسول الله معرضون؟ أما تعلمون أن مصيركم إلى الله، ألا فاعلموا أن الصيرورة والنهاية والعاقبة إلى الله، وسيحاسب كل نفس على أعمالها إن أحسنت فلنفسها وإن أساءت فعليها، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وكعادة الآيات بعد أن يبين الله ويوضح ويكلف رسوله عليه الصلاة والسلام بزيادة الشرح والبيان والتفسير يجمل ذلك بكلمات تنتهي بها الآية، تكون هي الجامعة والعبرة والمغزى من الآية.
فقوله: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر:18]، إعلام أن مصيرنا جميعاً أبرارنا وفجارنا مؤمنينا وكفارنا إلى الله، ومن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها.(231/5)
تفسير سورة فاطر [19 - 26]
يضرب الله عز وجل الأمثال للناس في كتابه العزيز ليبين لهم الفرق بين حال المؤمن بربه، القائم بأوامره، المنتهي عن نواهيه، وبين حال الكافر المعرض المتخبط في ظلمات الشرك، المنغمس في مستنقعات الشهوات والملذات، فبين الله عز وجل أن فرق ما بينهما كالفرق بين البصير في مقابلة الأعمى، أو كمثل الحي في مقابلة الميت، أو كمثل النور في مقابلة الظلام، أو كمثل الظل والفيء في مقابلة وهج الشمس وحرها.(232/1)
تفسير قوله تعالى: (وما يستوي الأعمى والبصير)
بسم الله الرحمن الرحيم.
قال الله جل جلاله: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:19 - 23].
يضرب الله الأمثال للناس ليستبين لهم الفرق، ومن ذلك مثل الكافر والمؤمن، ومثل الجاهل والعالم، ومثل الضال والمهتدي، فقال: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [فاطر:19]، أي: لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر، وذو العينين الذي يبصر، ذاك لا يرى الدنيا إلا ظلاماً في ظلام، وذاك يرى الضياء كما يرى الظلام، يرى المتحدث القريب منه كما يرى المتحدث البعيد عنه، وهذا مثل ضرب للكافر مع المؤمن، فالكافر أعمى القلب، والمؤمن مفتح البصيرة، ذاك قد عمي عن رؤية الحقائق من الإلهيات والنبوات، وعن أسرار هذا الكون، وكيف خلق؟ ومن خلقه؟ ولم خلق؟ فالكافر أعمى عن كل هذا، فهو أعمى البصيرة أعمى القلب لا يرى إلا الدنيا، وكأنها خلقت بلا موحد، وأنه وجد عبثاً في هذه الأرض.
{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ} [فاطر:19 - 20].
كذلك ضرب هذا مثلاً في الكفر والإيمان، فالكفر كله ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمات في العقل، وظلمات في القلب، وظلمات في النفس، وظلمات في العقيدة والدين والحياة والسلوك، أما المؤمن فله نور في بصره، ونور في بصيرته وعقله، ونور في سلوكه، فهو يرى نور الله جل جلاله وقد أشرقت به السماوات والأرض، فهو يرى الله في كل أثر من آثاره، وفي كل خلق من خلقه.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد قوله: {وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:21].
الظل: الجنة، والحرور: جهنم، وللتقريب فإن المستظل تحت شجرة أو سقيفة ليس كمن هو تحت الشمس تحرقه.
وظل يوم القيامة ظل دائم: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد:35]، لا حرارة ولا برد، لا شقاء ولا تعب.
فالظلال التي تظل الإنسان من حر الشمس، والحرور: الحر الشديد الذي يحرق الإنسان، ولم تستو الجنة ولا النار، فالجنة للمؤمنين، والنار للكافرين، فالظل للمسلم، والحرور للكافر.(232/2)
تفسير قوله تعالى: (وما يستوي الأحياء ولا الأموات)
{وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر:22].
دليل الحياة في الحي أنه يسمعك وتسمعه، ويراك وتراه، ويحاورك وتحاوره، أما الميت فهو جماد لا يستطيع ذلك كله، أصبح جماداً من الجمادات، كان تراباً ثم عاد إلى التراب، وهو مثل ضرب فيه المؤمن والكافر، فالمؤمن حي ولو كان ميتاً، والكافر ميت ولو كان حياً، المؤمن حي بنفسه بفكره بقلبه.
يدرك ما في هذا الوجود يعبد الله كما أمر يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته يحرص على أن يمتثل لأوامر ربه، كما يمتثل لأوامر نبيه، حتى إذا مات كانت حياته حياة الشهداء والأبرار ممن يمتعون ويرزقون، ويحسبون أمواتاً وهم أحياء يرزقون عند ربهم، {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:170].
أما الكافر فهو ميت ولو مشى على قدميه، والمؤمن حي ولو كان ميتاً، قد عاش بدينه وطاعته لربه، عاش بإحسانه وبالخير الذي قدمه، ولذا سيبقى حياً ذكره إلى يوم القيامة وإلى أن يحيا مرة ثانية ويدخل الجنة، وبالمقابل ضرب الله الأمثال لهؤلاء الكفرة بأنهم عمي يتخبطون في الظلمات أموات غير أحياء، وبأنهم في العذاب الدائم في نار جهنم، ثم قال الله عن نفسه مخبراً لنبيه: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:22]، أي: إن الله يهدي من يشاء وليست الهداية بيدك، وليست من وظيفتك، {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3].
فهؤلاء لو شاء الله لأسمعهم، ولو أسمعهم لاهتدوا، ولكن الله لم يسمعهم؛ لأنه علم ما في قلوبهم من فساد، (وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]، ففي الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! لست أنت بمسمع الموتى الذين هم في قبورهم، بمعنى: أن هؤلاء الكفرة الذين سبق في علم الله بقاؤهم على الكفر كالأموات الذين في القبور، وهؤلاء الذين في القبور لا يسمعون؛ لأنهم موتى، ولا يكلفون لأن الدنيا من حياتهم انتهت، فمن قدم خيراً وجده، ومن قدم شراً وجده.(232/3)
تفسير قوله تعالى: (إن أنت إلا نذير)
{إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:23].
أي: ليست الهداية لك، فأنت لم تكلف بمخاطبة الموتى، ولا ببلاغهم، وإنما كلفت بالبلاغ للأحياء، {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:23] (إن) هنا نافية، والمعنى: أنت لست إلا منذراً ورسولاً جئت مبشراً أقواماً اهتدوا فصاروا إلى الجنة، وجئت منذراً أقواماً خرجوا عن الطاعات وظلوا في الكفر فأنت تنذرهم بعذاب الله وعقابه وخلودهم في النيران.
قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك يا محمد (بالحق) أي: بالقرآن، فالقرآن حق، وهو وحي الله وكلامه، وبالسنة، فالسنة حق وهي بيان للقرآن وشرح وتفسير له.
وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله: كل هدي للنبي عليه الصلاة والسلام ما كان منها من عمل، وما كان منها من قول، وما كان منها من إقرار فهو بيان وتفسير لكلام الله، إطلاقاً أو تقييداً، تخصيصاً أو تعميماً، أو بياناً للناسخ والمنسوخ والمحكم.
ويفهم من قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} [فاطر:24]، أي: لتدعو الناس للحق، ولترشد الناس إلى الحق، والله هو الحق جل جلاله، وأنزل الكتاب المنزل وهو القرآن الكريم بالحق، وأرسل نبينا عليه الصلاة والسلام بالحق مبيناً وشارحاً ومفسراً، {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فاطر:24]، مبشراً المؤمن بالجنة، ومنذراً الكافر بالنار، فتبشر المؤمن لأنه آمن واستسلم لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم برضا الله ورحمته وجنانه، وتنذر من كفر بالله، فخرج عن أمر الله بالنار والعذاب والغضب إن هو دام على ذلك، ومات عليه.
{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].
(من أمة) من: حرف جر دخل على نكرة، فدل على العموم أي: ما من أمة خرجت في هذه الدنيا، وما نحن بين الأمم كما قال عليه الصلاة والسلام: (إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود).
أي: ما مضى من الأمم هي في عددها وفي كثرتها كعدد شعر الثور الأسود، وما الأمة المحمدية وأمة الإسلام إلا كالشعرة البيضاء بين هذه الكتل المتكتلة من الشعر الأسود في هذا الثور، ومع ذلك ما من أمة من هذه الأمم إلا أرسل الله لها نذيراً، يبشرها بالجنة إن هي أطاعت، وينذرها بالنار إن هي عصت وتمردت، ولذلك كانت حجج الله على الأمم كلها قائمة، فلا يوجد أمة من الأمم إلا وأرسل الله لها بشيراً ونذيراً، يبشرها وينذرها ويعلمها بالخالق الواحد، المتصف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، الذي لا أول له ولا آخر له، كان ولا شيء معه، وسيبقى كما كان ولا شيء معه، خالق الكل ورازق الكل، ومدبر الكل، له الأمر وله النهي جل جلاله وعلا مقامه، ويجدر التنبيه إلى أن الأنبياء جميعاً كانوا رسلاً قوميين، أي: أرسلوا إلى أقوامهم، فنحن نقول على أنبياء بني إسرائيل منذ إسحاق إلى عيسى خاتمهم أنبياء بني إسرائيل، أي: أنبياء قوميون لم يرسلوا إلا إلى بني إسرائيل، ولكن محمداً سيد البشر، وخاتم الأنبياء العربي المكي المدني الهاشمي مرسل وحده إلى جميع الخلائق، فلا نبي بعده ولا رسول، فقد أرسل إلى الأبيض والأسود والأحمر، وأرسل إلى العرب والعجم، وإن مات عليه الصلاة والسلام فرسالته قائمة، مأمور بتنفيذها، وبالإيمان بها، وبالعمل وفقها، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1].
فهو منذر ومبشر ورسول لكل العوالم من الإنس والجن، في الشرق والغرب، من العرب والعجم، منذ العوالم الذين عاصروه إلى من سيأتون بعده إلى يوم القيامة، كل أولئك أمة محمدية، من استجاب وأطاع فهو من أمة الإجابة، ومن تمرد وعصى فهو من الأمة المحمدية التي تمردت على محمد ودين محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك لم يبق للنصرانية ذكر، ولا لليهودية ذكر، ولا للأديان السابقة ذكر، فقد كانت أدياناً كلف بها من أرسلوا إليهم حال حياتهم، فعندما رفع عيسى بقيت نبوءته إلى وقت إرسال نبينا، ولكن رسولنا عليه الصلاة والسلام ما كاد يخرج لهذا الوجود ساعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً حتى كانت الأديان السابقة قد نسخت برسالته، وإن كانت قد نسخت بالتبديل والتغيير والتحريف قبل بعثته، فكان قول الله لرسوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، ناسخاً لكل ديانة قبله.
لم يكن أحد يقول: الله إلا هو، وعندما نزل من غار حراء إلى السيدة الطاهرة أم المؤمنين الأولى رضوان الله عليها، وحدثها بما حدثها، فقال لها: (دثروني دثروني، وقص عليها قصته فقالت: لا تخف إنك تحمل الكل وتعين على الزمان، وتقري الضيف، وتصدق الحديث)، وذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان شيخاً هرماً كبيراً مسناً وكان من العرب الموحدين، فقالت له: (اسمع يا ابن عم إلى ابن أخيك.
فقص عليه النبي قصته صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة: ذاك والله الناموس الذي أرسل إلى موسى وعيسى، ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك -أي: ليتني أكون شاباً عندما تدعو قومك إلى عبادة الله فيحاربوك ويقاتلوك ويرموك عن قوس واحدة، فليتني أكون شاباً كالمهر قوة وشبوبية لقاتلت عنك ونافحت عن دينك- قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم.
ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا وقاتلوه وأخرجوه)، وهذا قد كان.
ومن هنا ترجم علماؤنا ممن كتب في تراجم الصحابة لـ ورقة على أنه مسلم وصاحبي جليل؛ لأنه تمنى أن لو كان شاباً عندما يطرده قومه ليحارب معه ويدافع عن دينه، فهو إذاً قد آمن به.(232/4)
تفسير قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم)
قال تعالى يسلي نبيه ويصبره ويعزيه: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [فاطر:25].
أي: لا تبتئس يا محمد ولا تحزن، تلك سنة وطريقة الأنبياء قبلك، فقد أرسلوا إلى أقوامهم وكذبوا كما كذبك قومك، فكما كذبك الناس من المشارق والمغارب ممن لم يؤمن بك، كذلك الذين من قبل أمتك كذبوا أنبياءهم، ولم يطيعوا أنبياءهم إلا قليل منهم، مع ما جاءتهم به أنبياؤهم من بينات ومعجزات واضحات، ومع ذلك لم يؤمنوا بهم لا بمعجزة ولا بغير معجزة ولم يصدقوهم، بل أبوا إلا البقاء على الكفر ودين الآباء من عبادة الأوثان والأحجار والأصنام والشرك بالله، {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [فاطر:25] بالدلائل الواضحات، والمعجزات الدالة على صدقهم، والدالة على صدق ما يقولون، {وَبِالزُّبُرِ} [فاطر:25]، الزبر: جمع زبور وهو الكتاب، ومنه: زبور داود، أي: الكتاب الذي أرسل به داود، وعلى كل فقد كفروا بالأنبياء وبمعجزاتهم وكفروا بالكتب المرسلة عليهم، كفروا بصحائف إبراهيم، وبزبور داود وبتوراة موسى وبإنجيل عيسى.
ثم أردف الكتاب المنير بعد ذكر الآيات والزبر فقال: {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [فاطر:25].
وذكره الكتاب بعد الزبر تأكيد، فالكتاب هو: الزبر، ووصف بأنه منير، والمنير هو: النير الواضح البين بالدلائل القاطعة على أنه وحي من الله، وأنه أرسل على من قالوا: قد أرسلنا بذلك، فقد قال موسى: أرسلت بالتوراة فصدقت، وقال عيسى: أرسلت بالإنجيل وصدقت، وقال داود: أرسلت بالزبور وصدقت، وقال إبراهيم خليل الرحمن: أرسلت بصحائف وصدقت، ولكن أولئك كذبوهم كما كذبك هؤلاء، فلا تبتئس ولا تحزن، فلست مكلفاً بهدايتهم وإنما أمرت بتبليغهم {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35].
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272].(232/5)
تفسير قوله تعالى: (ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير)
قال تعالى: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [فاطر:26].
ثم إن هؤلاء الذين كذبوا أنبياءهم من الأمم السابقة؛ من قوم نوح، وقوم عاد، وقوم ثمود، وقوم صالح، وقوم موسى، وقوم لوط، وقوم إبراهيم أخذتهم وانتقمت منهم، فهو إنذار من الله وتذكير بالأمم المكذبة وأنه قضى عليهم وعاقبهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
والاستفهام في قوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [فاطر:26]، استفهام تقريري، أي: كان عقابي نكراً من النكر، فضيعاً من الفضائع، أليماً شديداً ساحقاً، وهكذا جزاء كل كافر بالله وبأنبيائه وكتبه ورسله؛ أغرق من أغرق، ورمى بالحجارة من السماء من رمى، وزلزل الأرض بمن زلزل وجعل عليهم عاليها سافلها، ومسخ من مسخ قردة وخنازير، وهكذا عاقب الله أولئك في دار الدنيا، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127]، أي: من عذاب الدنيا، وهذا معناه: تهديد ووعيد للأمة المحمدية لمن يكفر منهم، ولمن لم يصدق رسول الله منهم، ولمن أبى إلا أن يعيش كافراً عاصياً، والمعنى: كما فعلنا بالسابقين سنفعل باللاحقين.
ومن هنا: كان الذل الذي أصاب من أصاب من اليهود، والضلال الذي أصاب من أصاب من النصارى، وما أصاب المسلمين من استعباد واستعمار من الذين كانوا مسلمين يوماً، فعصوا وارتكبوا الكبائر، وارتد منهم من ارتد، وغير دين الله بدين ماركس من دين اليهود، وألحد فأصبح يقول: هو شيوعي هو اشتراكي هو بهائي هو ماسوني هو وجودي، وهكذا كل فرقة ضالة من نحل اليهود على وجه الأرض، فهؤلاء مكر الله بهم، واستعبدهم وملكهم لمن لا يرحمهم ممن أذلهم، وكتب عليهم الذل والهوان إلى يوم القيامة، وقطعهم في الأرض أمماً، وما من عصر وما من وقت وزمان إلا ويرسل الله عليهم من يهلكهم ومن يقضي عليهم، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167].
والذي نراه ليس إلا سحابة صيف، وهو استدراك للقضاء عليهم قضاءً مبرماً كاملاً ساحقاً، فهم لم يعطوا من فرص الفساد إلا فسادين: فساد قد مضى، وفساد نعيش نحن اليوم فيه، أما الفساد الماضي فقتلوا فيه الأنبياء، وسفكوا الدماء، وخربوا العمار ونشروا الفساد في الأرض.
والفساد الثاني الجديد الذي نعيش فيه: نشروا كذلك الفساد بكل أشكاله، فنشروا الفواحش بكل أنواعها، ونشروا الإلحاد والكفر بين الكبار والصغار في المشارق والمغارب، ودان لهم من لم يؤمن بالله، وهي الأكثرية الساحقة من المشارق والمغارب، والمسلمون عندما قلدوا غيرهم من الشرق والغرب وخرج من خرج منهم عن دين الله، وارتكب من ارتكب منهم الكبائر ولم يند لهم جبين، سلط الله عليهم ما سلط عسى أن يعودوا إلى دينه.
{ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [فاطر:26]، أي: فكيف رأيت يا محمد عقوبتي ونكيري على هؤلاء ممن أغرقوا، وممن رجموا، وممن مسخوا، وكما عاقبنا الأولين سنعاقب الآخرين إذا ارتكبوا ما ارتكب أسلافهم، وكفروا كفرهم وعصوا عصيانهم.(232/6)
تفسير سورة فاطر [27 - 30]
إن الله عز وجل امتن على عباده بالنعم العظيمة والعطاء الجزيل، ومن نعمه التي تفضل بها على عباده نعمة إنزال المطر الذي تحيا به الأرض فتنبت عشبها وثمرها وتخرج خيراتها المتنوعة والتي لا يحصي أنواعها إلا خالقها سبحانه وتعالى، وما هذه الخيرات المتنوعة إلا دليل على وحدانيته سبحانه وجميل صنعه وإبداعه عز وجل.(233/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها)
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر:27].
ألم تر يا محمد ويرى معك قومك، والرؤية هنا: رؤيا العلم والبصيرة، ورؤيا الإدراك والوعي والفهم والاطلاع.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [فاطر:27]، أي: أنزل من السماء كتلاً يدمج بعضها لبعض وإذا بالغيث ينزل على الأرض التي يريد الله غوثها، وإكرام أهلها، وإذا بهذا الماء الواحد الذي ينزل من سماء واحدة ويسقي تربة واحدة إذ بآثاره مختلفة، تختلف في الثمار، وتختلف في الأرض، وتختلف في الإنسان والدواب.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر:27]، أنبت الله بهذا الماء في الأرض ثمرات مختلفة ألوانها: بين أبيض وأحمر وأصفر وأسود، بين ثمار مرة وثمار حلوة وأخرى حامضة، وبين ثمار حمراء ودكناء وبيضاء وسوداء ومن كل شكل، والماء الذي سقيت به واحد، والسحب التي صبت غيثها واحدة، فمن الذي غيرها فجعل ألوانها مختلفة! وطعومها مختلفة! ولذائذها مختلفة! وأشكالها مختلفة بين مشمشة تكاد لا تصل في حجمها إلى أنملتين إلى بطيخة تزن الأرطال كل ذلك والماء الذي سقيت به واحد، والساقي واحد، ومع ذلك اختلفت الألوان واختلفت الطعوم، واختلفت اللذائذ، واختلفت الأشكال، أليس هذا وحده كافياً في الدلالة على قدرة الله؟ أليس هذا وحده كافياً في الدلالة على إرادة الله الواحدة الذي لا شريك له؟ من الذي صنع ذلك؟ هل بوسع أحد في الأرض أن يدعي أنه صنع ذلك؟ وهؤلاء الذين أشركوا دون الله مع الله هل ادعوا ذلك؟ هل قالوا: الصنم الفلاني هو الذي أحيا هو الذي أمطر هو الذي رزق هو الذي أمات؟! ما ادعوا ذلك ولم يدعوه، ولا وجود لهذا.
قال تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} [فاطر:27].
جدد: جمع جدة، والجدة: الطريق، أي: خلق من الجبال طرقاً، وهذه الطرق تارة بيضاء، وتارة حمراء، ونحن أولاء نرى الجبال ونرى الرمال ونرى التربة فنرى بعضها حمراء، وبعضها سوداء، وبعضها بلقاء بين البياض وبين السواد، وبعضها بيضاء خالصة، نرى هذا في الرمال، ونراه في التراب، ونراه في الطرائق بين الجبال، ولعل (جدة) التي أسيلت في تفسيرها كتب ومؤلفات وحبر ومداد ليست إلا اسم طريق كانت من الطرق بين مكة والمدينة، فخيم فيها من خيم في سابق الزمان، فقالوا عنها جدة أي: الطريق، أما أنها جدة حواء كما يقول البعض زاعمين أن قبر حواء في تلك الطريق فهذا غير صحيح، لا خلاف أن جدة: من التجديد، ولكن القريب والمعنى اللغوي، والأرض أرض العرب والجزيرة جزيرة العرب، وهم يتكلمون بلغتهم التي نشأ عليها صلى الله عليه وسلم، فكان أفصح العرب وأبلغ العرب، وبلسانه ولسان العرب نزل القرآن الكريم، يدل على أن الجدة: الطريق.
فقوله: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ} [فاطر:27]، أي: وجعل من الجبال طرقاً يقطع بها شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، وقرى ومدائن، وبراري وقفاراً، {جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ} [فاطر:27]، بيض: جمع بيضاء، وحمر: جمع حمراء، {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} [فاطر:27]، فهذه الطرق مختلف ألوانها فبعضها ذات لون أبيض، والبعض الآخر ذات لون أحمر، والأخرى ذات لون أسود ولون بين بين، كما جعل من الطعوم ومن الثمرات ألواناً وأشكالاً وطعوم ولذائذ، كذلك خلق في الجبال وفي الترب.
{وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر:27]، غرابيب: جمع غربيب، وفي قوله: (غرابيب سود) مقدم ومؤخر والتقدير: سود غرابيب، يقال: هذا أسود غربيب، أي: أسود شديد السواد، والغربيب: اسم من أسماء الغراب، والمعنى: أنه بلغ من شدة سواده أن أصبح كلون الغراب، فمن الجبال جبال سود شديدة السواد، ومن الطرق إليها، ومن الطرق منها، ومن الطرائق التي تربط بين القارات والأقاليم والمدائن والقرى منها بيضاء، ومنها سوداء شديدة السواد حتى كأنها الغراب.
والتقديم والتأخير في اللغة العربية كثيراً ما يكون، وهو يفهم من السياق ممن يفهم اللغة العربية كما يجب، ولذا ينبغي على كل مسلم أن يجيدها، فلا يفهم كتاب الله، ولا تفهم سنة رسول الله، ولا تفهم الشريعة إلا بلغة العرب، والترجمات لا تغني أبداً عن لغة العرب، ولذلك من يعتمد الترجمة كان علمه ناقصاً ضائعاً، ولذا نجد من يعتمد على الترجمة يؤمن بأشياء لا حقيقة لها في نفس الأمر.
ومن هنا: من لم يعلم من المسلمين العربية إذا كتب عن الإسلام كتاباً في الفقه أو غيره من علوم الشريعة تجده يكثر من الأخطاء، ويكثر منه تفسير الآية والحديث وتفسير كلام العرب بما يقلب المعنى رأساً على عقب، وهذا ما وقع فيه جماعة المستشرقين من اليهود والنصارى الذين يتعلمون لغة العرب على كبر، ويعتمدون الترجمة، فيكثر ضلالهم ويكثر جهلهم، ويكثر تغييرهم وتبديلهم وتحريفهم لآيات كتاب الله، ولأحاديث رسول الله، ولم تؤخذ العربية إلا من العرب، ولم يفهم الإسلام إلا ممن يعرف العربية معرفة أهلها.
ومن هنا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الخلافة في قريش)، وفيه إشارة إلى أنه لم يؤتمن على كتاب الله وبيانه ومعانيه، ولن يؤتمن على شريعة الله كتاباً وسنة وفقهاً إلا عربي أو رجل عالم بلغة العرب منذ الطفولة، حتى أصبح كأهلها العلماء المبرزين فيها، المطلعين على ظواهرها وخفاياها، وعلى جميع ما يتعلق بها من استعارة وبياناً وبلاغة، عبارات ومفردات، وإلا كثر خطؤه، فإذا كثر خطؤه كثر افتراؤه في الأحكام التي ما أنزل الله بها من سلطان نتيجة فهمه الخاطئ.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} [فاطر:28].
فليست الألوان في الثمار مختلفة فقط، ولا في الطعوم فقط، ولا في الطرائق والجبال والتربة فقط، ولكنها في الإنسان والدواب والأنعام، فمن الناس الأبيض، ومن الناس الأسود، ومن الناس الأحمر، ومن الناس بين بين.
فالبيض البهم يقول العرب عنهم: مقشرون، وهي ألوان الروم، والعرب فيهم حمرة وسمرة، والهنود ألوانهم تزيد على الحمرة بقليل، وهكذا الألوان تجدها بيضاء صافية، وسوداء غربيبة، وبين الأبيض والأحمر والأسود ذلك خلق الله، فالله لم يجعل الخلق بألوانهم، ولا بأنسابهم، ولا بأحسابهم، ولا بآبائهم وأجدادهم، ولكن {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
(كلكم أبناء آدم وآدم من تراب)، فالفضل الذي يتفاضل به الناس بطاعة الله وطاعة رسوله، ولسنا نحن المسلمين كأولئك في أمريكا الذين يفاضلون بين الناس بألوانهم، فنحن نؤمن أن تلك جاهلية من الجاهليات، وضلال من الضلالات، وعجيب لأمر الناس عندما يسمعون لهؤلاء في حضارتهم المزيفة، ودينهم الباطل، ولغتهم الفاسدة وعقولهم المرتدة المريضة.
{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} [فاطر:28]، فمن الإنسان كذلك، ومن الدواب كذلك، ومن الحمير والبغال والجمال كذلك تجد الأحمر، وتجد الأبيض، وتجد الأسود، وتجد الأدهم، وتجد الأبلق وهو ما بين بين، كل ذلك خلق الله، والأنعام من الشاة والبعير والغنم وما إلى ذلك تجدها كذلك بيضاء، أو سوداء، أو حمراء، أو بلقاء بين بين، كل ذلك خلق الله، فهل استطاع أحد من الخلق أو من الشركاء المزيفين الذين عبدهم المشركون دون الله أو مع الله أن يخلقوا مثل ذلك؟! هيهات هيهات، وأنى لهم ذلك وهم أعجز من أن يخلقوا ذباباً، بل إن يسلبهم الذباب شيئاً ما استنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب.
فمعنى قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} [فاطر:28].
أي: كما من الثمار، وكما من الطرائق، وكما من الجبال والتربة والرمال، أشكال وألوان من بين جميع الألوان، إما الصافية كالسواد الكامل، أو البياض الكامل، أو الأحمر، وما بينها من الأبلق والأدهم؛ كذلك الناس، وكذلك الدواب، وكذلك الأنعام، كالجبال والثمار، (كذلك) أي: وكذلك عباد الله من العلماء الراسخين في العلم ومن المتعلمين.
{كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
أي: وكذلك العلماء، وكذلك أهل العلم، فمنهم العالم الراسخ في العلم، ومنهم العالم الذي هو إلى الابتداء من البداية والوسط أقرب، ومنهم المتعلم طالب العلم ومنهم الذي يدعي الطلب والعلم وهو بعيد عن ذلك بعد السماء عن الأرض، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
وأعلا مراتب العلماء وأعلا منازلهم: من يخشى الله، أي: العالم الراسخ في العلم، أي: العالم الكامل في العلم هو الذي يخشى الله.
وقرئ: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} [فاطر:28] أي: (كذلك) كما الثمار وكما الجدد والطرائق والجبال والتربة والرمال اختلفت ألوانها من بيضاء وسوداء وحمراء وبين بين.
كذلك طالب العلم منه الطالب المبتدئ ومنه الواصل إلى مراتب العلماء، قالوا هذا ليربطوا بين {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وبين الآية.
أما إذا وقفنا على (كذلك) ينصرف المعنى إلى ما تقدم ذكره.
فالعلماء منهم العالم الكامل العلم، ومنهم العالم الوسط، ومنهم العالم المبتدئ، ومنهم طالب العلم، وطلب العلم كذلك مراحل ودرجات فمنهم من لا يزال في الدراسة الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية أو الجامعية أو أخذ بأعلى الشهادات، ومع ذلك حتى لو تخرج بأعلاها فإنه يعتبر قد ابتدأ في مراتب العلماء، فيبقى المران وتبقى الدربة ويبقى الرسوخ في العلم، وأعلا ذلك(233/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29 - 30].
يذكر الله جل جلاله هنا صفات العلماء الذين يخشون الله والذين علموا ما علمهم الله وعلَّموا وعملوا بعلمهم.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} أي: يلازمون تلاوة كتاب الله تدبراً وترنماً وتغنياً بحيث لا يخرجون عن آداب التجويد مداً وقلقلة، ونطقاً بالأحرف كما نطق بها العرب الأوائل، بالتجويد الذي جعله علماؤنا لنتعلم به كيف ننطق وكيف نتلو وكيف ندرس كتاب الله؛ لكي لا نلحن ولا نغير في كتاب الله، فللمد قواعد ورتب، وللضاد وللظاء وللذال أحكام، وللتفخيم وللترقيق أحكام، فمتى نقل: باسم الله نرقق، ومتى نفخم نقل: قال الله، لكل ذلك قواعده في علم التجويد وعلم اللغة.
يذكر أن نصرانياً كان له شأن في الشام وحكومتها، فارتقى إلى أن أصبح رئيس وزراء على كفره، وكان يتعلم على القراء علم التجويد، فقال له مرة أحد زملائه النصارى من أساتذة جامعة دمشق: وما حاجتك للتجويد؟ قال: إن التجويد عجيب في علوم المسلمين، فاللغات اللاتينية واللغات الصينية وما سواها من بقية لغات الأرض ينطق بها الناس اليوم، ولكن ليس كما كان ينطق بها الأوائل؛ لأنه لم يدون ولم يكتب إلا النطق بالحرف، أما كيفية هذا النطق، هل هو ذال أو دال، هل هو تاء أو ثاء، هل هو ضاد أو ظاء، هل هو مرقق أو مفخم، هل هو مدة طبيعة أو مدة زائدة، لم يفصل فيه إلا المسلمون بتلاوة كتاب ربهم، وهكذا نرى من لم يتعلم التجويد إذا قرأ القرآن ورتله يكون إلى اللحن أقرب، إذ لا يعطيه حقه من المدات والتفخيم والترقيق، وبعض الشعوب العربية تنطق الثاء ساء، وتنطق الذال دالاً، وتنطق الظاء ضاداً، وتنطق الجيم قافاً، وهذا كله تغيير وتبديل.
سألني ذات مرة مصري فقال: لا أستطيع النطق بالجيم إلا قاف، فإذا تلوت القرآن ماذا أعمل؟ وهل هذه لغة عربية؟ فقلت له: عربية نعم، ولكنها ليست تلاوة القرآن، وتلاوة القرآن إما جيم خالصة، أو قاف خالصة، والمغاربة خاصة في مدينة مراج، لا ينطقون إلا بها، ولكن لا ينطقونها جيماً خالصة ولا قافاً خالصة، بل يجعلونها بين الكاف والقاف، وتميزها بكاف عليها ثلاث نقط أو قاف عليها ثلاث نقط، والمعنى: أنها قاف، وهكذا علم التجويد، فتلاوة كتاب الله لا ينبغي للمسلم أن ينقطع عنها ألبتة، والأكمل أن يتلوها بتدبر وتمعن وتفكر في معانيها، وهو بذلك مأجور، وكما أخبر عليه الصلاة والسلام أن له بكل حرف عشر حسنات، قال: (لا أقول: الم حرف، لكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) أي: أجر التالي لكتاب الله ويقول: (الم) ثلاثون حسنة.
والتلاوة في القرآن الكريم تحفظ البصر وتقويه، وتعين الحفاظ على قوة الإصرار، وهذه من خصائص التلاوة في المصحف، ويشهد المصحف يوم القيامة لتاليه أن فلان ابن فلان ابن فلانة كان يتلوني صباح مساء، وكان يقرؤني في كل الأوقات.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} [فاطر:29] وتمام التلاوة النطق مع العمل، أي: يتلو القرآن ناطقاً، ويعمل بما فيه، فإذا قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فليقم الصلاة في أول أوقاتها الخمسة كلها، وليأت من النوافل ما استطاع، وليحرص على ذلك، وإذا لعن القرآن الكاذبين والكافرين والمنافقين فليحرص على أن يبتعد عن ساحة هؤلاء الكافرين والكاذبين والمنافقين، إلى غير ذلك مما تخلل كتاب الله من حكمة وشريعة وقصص وعقيدة وأحكام، ومن حلال وحرام وآداب ورقائق.
وأعظم التلاوة هو العمل؛ ولذلك عندما يرد ذكر التلاوة في القرآن يقصد به ذكر اللسان وذكر القلب، والعمل بذلك بالأركان والجوارح، فكلمة تلاوة تشمل كل ذلك، ومن قام بكل ذلك قام بالمعنى الكامل التام.
فقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ)) أي: تلوه باللسان ولم يكتفوا بالقول، بل زكوا القول بالعمل، فيأتي بعد الشهادتين إقامة الصلاة، وإقامة الصلاة: الحفاظ عليها في أوقاتها بأركانها وواجباتها وسننها ومستحباتها، وليتم للمؤمن إيمانه لا بد أن يتم مع القول العمل.
فهؤلاء التالون لكتاب الله عبدوا الله وأطاعوه بالصلاة كما أمرهم وكما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم من قيام وقعود وركوع وسجود وتلاوة وذكر، وفي الأوقات المعهودة المعلومة لكل مسلم.
قوله: (وأنفقوا) هذه طاعة الله في خدمة عباده، وفي الإنفاق على الفقراء والمساكين والمحتاجين، وفي الإنفاق على السائل والمحروم، ومن تمام صفات المؤمن أنه يعطي السائل، قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]، وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (للسائل حق ولو جاء على فرس) وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أفلح المسئول إن صدق السائل) وكل يعطي بحسب ما عنده، ومن لم يعط من القليل لم يعط من الكثير.
قال تعالى: {سِرًّا وَعَلانِيَةً} أي: سراً بحيث لا تدري اليسرى بما تصنعه اليمنى، (وعلانية) ليكون قدوة لأولاده وتلاميذه وأنصاره، حتى يعلم الناس أنه لا يفعل ذلك إلا ليقتدي به الناس، فلا يكون عمله كله إعلاناً، ولا يكون كله سراً، ولا يستوي عنده السر والعلن، ففي العلن لا يرى في عمله إلا الله والدار الآخرة، وفي السر لا يعمل العمل إلا لله وللدار الآخرة.
والإعلان يفعله لكي يكون قدوة، ولكي لا يتهم؛ لأن الزكوات واجبة، وقديماً قالوا: لا شكر على واجب، فيجب أن تكون الزكوات علناً حتى لا يتهم بأنه لا يؤدي الزكاة، وزكاة الفطر كذلك يجب أن تعلن، وإلا وقف موقف المتهم، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف مواقف التهم) فمن لا ينفق إلا سراً ولا يعلم به من يعلم يوشك أن يقال عنه: يمنع حق الله والواجب من ماله، ويمنع الزكاة عن الفقراء والمساكين، وتلك كبيرة من الكبائر وعظيمة من العظائم.
أما عن السر فقد قال عليه الصلاة والسلام أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) مبالغة في أنه يفعل ما يفعل ولا يقصد به إلا الله والدار الآخرة، بحيث لا حاجة له إلى أن يعلم ذلك قريب ولا بعيد، وإن كانت اليسرى لا تعلم ما أنفقت اليمنى فمن باب أولى الزوجة والولد، هذا إن كان لذلك معنى من المعاني، أما إذا كان موضع الأسوة -وكل أب موضع الأسوة لأهله وأولاده ولأصدقائه المحبين- فلا بد أن يكون موضع الأسوة لغيره فيعلن ذلك.
فقوله: {سِرًّا وَعَلانِيَةً} [فاطر:29] سراً بحيث يخفى على الناس، وعلانية أي: جهراً بحيث يرى الناس ذلك.
قال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] أي: يفعلون ذلك لا لكي يقال، وإلا أصبحوا منافقين مرائين، إذاً: لا يفعلون ذلك إلا رجاء في رحمة الله، وفي التجارة الإلهية وفي الثواب والأجر من الله.
قوله: ((لَنْ تَبُورَ)) أي: لن تهلك ولن تفسد ولن تكسد، وهذه التجارة هي التجارة مع الله، فالله هو الذي يأجرك ويحسن إليك ويعطيك من الأجر ومن الثواب ومن الحسنات جزاء أعمالك، فالمؤمن لا يفعل الخير إلا لله رجاء رحمته ورجاء رضوانه وثوابه، فيأخذ أجره من الله، فتجارة هذا المؤمن لن تضيع ولن تكسد، بل صاحبها يبقى دائماً رابحاً.
قال تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر:30] أي: يفعلون ذلك فيتجرون مع الله رجاء ثوابه ومغفرته ورضوانه، ليعطيهم الله أجورهم بالوفاء، إذ إن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله، فقد يضاعف ذلك إلى سبعمائة فأزيد، كما قال عن الصيام: (وأنا أجزي به) أي: جزاء لا يقدر من الأجر والثواب، وما ذاك إلا الجنة والخلود فيها، جعلنا الله من أهلها وسكانها.
{لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر:30] أي: ليعطيهم أجورهم وافية كاملة تامة مضاعفة، (ويزيدهم) أي: عند الله الحسنى وزيادة، فيزيدهم من فضله زيادة لم يعملوا لها، وكسباً لم يسعوا إليه، ولكن من فضل الله وكرمه وجوده.
قال تعالى: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:30] أي: إنه هو الذي يغفر الذنوب، ويشكر العبد على عمله.(233/3)
تفسير سورة فاطر [31 - 37]
إن الله عز وجل أنعم على هذه الأمة بأن خصها بأكمل رسالاته وهي رسالة الإسلام، وبعث إليها خاتم رسله صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليها أفضل كتبه القرآن وجعله مهيمناً على كل الكتب السابقة وناسخاً لما فيها مما يخالفه، كما تعهد الله عز وجل بحفظه من أن تطاله يد التحريف والتبديل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(234/1)
تفسير قوله تعالى: (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه)
قال الله جل جلاله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر:31].
يقول جل وعلا مخاطباً نبينا: (والذي أوحينا إليك من الكتاب)، والخطاب له خطاب لكل المسلمين، (من الكتاب) (من): بيانية تفسيرية، والمعنى: ما أوحيناه إليك هو الكتاب، و (الكتاب) إذا أطلق فهو القرآن الكريم لا سواه.
وعند النحاة إذا أطلق (الكتاب) فهو كتاب سيبويه في علم النحو فهو مرجعهم.
{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} [فاطر:31]، ما أوحيناه إليك يا محمد من هذا القرآن الكريم هو الحق لا سواه، وكل ما سواه متغير باطل محرف مبدل، فما أنزل الله من قبل من كتب سماوية من زبور وتوراة وإنجيل، وإن كانت هي في الأصل حقاً، ولكنها بدلت وغيرت، وانتقلت من كتب توحيد إلى كتب وثنية، وطعن في أنبياء الله المعصومين المطهرين.
فأصحاب التوراة عبدوا العجل والعزير وذكروا ذلك في توراتهم، وأصحاب الإنجيل عبدوا عيسى ومريم، وذكروا ذلك في إنجيلهم، وكلهم قد قال: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18].
كذبوا وافتروا وحرفوا وبدلوا فالحق بين الكتب السماوية انفرد به الكتاب وانحصر في القرآن الكريم، فهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو الذي تعهد الله بحفظه إلى يوم القيامة، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر:31]، أي: حال كونه جاء مصدقاً لما سبقه من الكتب السابقة، وقد دعت إلى توحيد الله وعبادته، وإلى طاعة الأنبياء، وأخبرت أنهم رسل الله المكرمون المعصومون عن الخطايا والذنوب، ومن أجل ذلك كان لزاماً على المؤمن أن يؤمن برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤمن بمن سبقه من الأنبياء الأربعة والعشرين كما ذكرهم القرآن، ونؤمن بسوى ذلك مجملاً غير معين، فنحن نؤمن بعيسى عبداً ورسولاً، ونؤمن بموسى عبداً ورسولاً كذلك، فقد جاء القرآن يصدق ويؤيد ما أنزل من الكتب قبله، وما أرسل من رسول قبل الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، فالله يقول لنبيه: إن هذا القرآن المنزل عليك هو الحق من بين الكتب فلم يغير ولم يبدل، ولن يغير ولن يبدل، وقد جاء مصدقاً لما سبقه من الكتب، فما لم يكن في القرآن ووجد في الكتب الأخرى فهو باطل مفترى مزور، وما صدقه القرآن فهو الحق المبين الذي لا مين فيه ولا ريب، فالقرآن جاء مصدقاً ومهيمناً ومؤيداً لما دعت إليه الرسل من قبله من دعوة للتوحيد، ولعبادة الله الواحد.
(مصدقاً) بالكتب السابقة وأنها كتب الله حقاً مالم تبدل ومالم تغير.
{إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر:31].
فالله جل جلاله خبير بعباده، يعلم ما فعلوا وما صنعوا، ويعلم ما أضمروا وما أصروا وما أعلنوا، يعلم الصادق منهم من الكاذب، ويعلم المخلص من المنافق، فمن آمن بالله علم الله إيمانه، ومن نافق علم الله نفاقه، وذاك تهديد من الله لكل كافر ولكل آثم.
(بصير) أي: بعباده، يبصر ما عملوه، وينظر ما عملوه، فيحاسبهم عليه يوم القيامة، ويقضي من يصير إلى جنة ومن يصير إلى نار.(234/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)
قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32].
تكلم الله جل جلاله في هذه الآية على فئات المسلمين، وأنهم ثلاث فئات فقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32].
(أورثنا): أعطينا، أي: جعلناهم الورثة المالكين، وجعلناهم أهل الحق بين الناس أجمعين، واصطفاهم لعبادته، وللإيمان به، واصطفاهم من الكبيرات ومن الشرك، ومن الظلم ومن النفاق، والكتاب هو القرآن الكريم.
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32].
أورث الله الكتاب من اصطفاه واختاره من عباده من بين خلقه من بين الناس أجمعين، فكان هؤلاء المصطفين هم المؤمنون وهم أهل ذكر الله، وهم فئات ثلاثة فئة ظالمة لنفسها، وفئة مقتصدة في الظلم والآثام، وفئة سابقة بالخيرات بإذن الله {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32].
ولأن هؤلاء الفئات الثلاث بظالميهم وبمقتصديهم وبسابقيهم بالخيرات من الفئات المؤمنة فقد تفضل الله عليهم بفضل كبير: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر:33].
فكلهم من أهل الجنة، وكلهم يدخلون الجنة، وفي الخبر أن عمر رضي الله عنه خطب على المنبر النبوي يوم الجمعة فقال: إن العباد عباد الله المصطفين، منهم سابق بالخيرات، ومنهم مقتصد في الذنوب، ومنهم ظالم لنفسه، فالسابق سابق، والمقتصد ناج، والظالم مغفور له، وهذا الذي قاله عمر ورواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أن الظالم لنفسه في هذه الآية هو من المؤمنين المسلمين.
وروي ذلك كذلك عن أمير المؤمنين عثمان وعن عبد الله بن عباس وعن أبي الدرداء وعن جمهور من التابعين كذلك والأئمة، فالعامة من العلماء إلا قلة ذكروا أن الظالمين في هذه الآية هم فئة من فئات المسلمين مآلها الجنة بعد ذلك.
وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام تلا هذه الآية ثم قال: (الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، كلهم في الجنة).
فالسابق بالخيرات يدخل الجنة بلا حساب، والمقتصد يدخل الجنة بعد حساب يسير، والظالم لنفسه يحاسب حساباً يكون فيه من الغم والهم، ثم بعد ذلك يدخل الجنة.
وجاء في الأثر: (أن رجلاً رحل إلى دمشق فدخل المسجد فوجد أبا الدرداء فجلس حذاءه فقال: اللهم آنس وحشتي، وهيئ لي جليساً صالحاً، وإذا بـ أبي الدرداء يلتفت إليه سائلاً: من أنت؟ ومن أين جئت؟ قال: من المدينة، قال: ما الذي جاء بك؟ قال: سمعتك تروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لم تأت لتجارة ولا جاءت بك حاجة؟ قال: لا، قال: لم يأت بك إلا الدعوة والسعي في العلم؟ قال: نعم.
قال: أبشر فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع).
والحديث الذي سأله عنه هو هذا: (تلا رسول الله عليه الصلاة والسلام: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] قال: كلهم مسلمون، وكلهم إلى الجنة، السابق سابق، والمقتصد ناج، والظالم بعد حساب وبعد هم وحزن يدخل الجنة ويقول الجميع: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34]).
والظالم هنا: المرتكب للكبائر الموحد لله المؤمن برسول الله، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي).
والمقتصد: من عمل عملاً صالحاً وآخر سيئاً، عسى الله أن يغفر له، و (عسى) في القرآن للتحقيق، فمعناه: وأن المقتصد الخالط بين عمله الصالح والسيئ مغفور له بإذن الله، فهو الذي يقوم بالفرائض وقد يخل في السنن، يترك الكبائر وقد يرتكب الصغائر، فهو قد اقتصد في فعل السيئات وارتكابها، أي: لم يسرف على نفسه بارتكاب الكبائر، ومن لم يرتكب الكبائر يغفر الله له الصغائر بتركه الكبائر.
وهذا هو الذي قاله عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وأبو الدرداء وابن عباس، وروته كذلك أم المؤمنين والصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها، فقد جاء عنها: أن رجلاً سألها وهو أبو عثمان النهدي فقال: يا أم المؤمنين! ما معنى قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر:32] إلى آخر الآية؟ فقالت: يا بني! السابق بالخيرات: هم أصحاب رسول الله الأولون الذين ذهبوا أماماً وسبقوا إلى الآخرة ولم يبدلوا بعده ولم يغيروا.
والمقتصد: من جاء بعدهم فعمل عملهم ثم خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
أما الظالم لنفسه: فمثلي ومثلك.
وإنما جعلت نفسها من الظالمين لنفسها من تواضعها وهضهما لنفسها رضي الله عنها، وإلا فمرتبتها بين أمهات المؤمنين ومكانها بين الأصحاب في الذروة العلياء صحبة وعلماً وإخلاصاً وعبادة وطاعة، وأما ما حدث في موقعة الجمل فهي إنما صنعت شيئاً لم تكن تقصده، بل خرجت للإصلاح وإذا بهذا الإصلاح يتحول إلى معركة وحرب دامية، فكانت تستغفر الله من ذلك مدى حياتها، ومن أجل ذلك هضمت نفسها، ولم تجعل نفسها مع السابقين بالخيرات، ولا مع المقتصدين.
وهكذا هذه الآية تدع المؤمن ليرجو رحمة ربه، ويرجو مغفرة ذنبه، ويرجو من الله أن يكون مهما ارتكب من الذنوب وعاد إلى التوبة والإنابة وندم عما أسلفه أن يغفر له، وأن يتشفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم في من يشفع لهم من أهل الكبائر.
أما السابقون: فهم ثلث الأمة المحمدية، وهم الفئة الثالثة، ونعتوا في الآية بأنهم الذين سبقوا بالخيرات، وجعلوا في الذكر أخيراً، وهم في الرتبة والدرجة الأولون السابقون، وهذا كقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100].
كانوا هم السابقين للإيمان، والسابقين للطاعة، والسابقين لعبادة الله والقيام بما أمر، وترك ما نهى عنه، وهؤلاء هم من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم من المؤمنين ومن الأتباع إلى يوم القيامة، وهم من قال عنهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ما أنا عليه وأصحابي).
فمن كان كذلك كان من السابقين، ومن اقتصد فخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فهو كذلك من الناجين بفضل الله بعد حساب يسير، وأما الظالم لنفسه المرتكب للكبائر الذي مات على التوحيد فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله يوم القيامة يأتيه خلق من خلقه، وعبيد من عبيده تثقل ذنوبهم ومساوئهم الميزان، وترفع كفة الحسنات فيؤمر بهم إلى النار، فيقول الملائكة: يا ربنا إنهم أتوا إليك وهم يقولون: لا إله إلا الله وحده، لم يشركوا بك قط منذ عاشوا وإلى أن أتوك، فيقول الله: إذاً: أنا أغفر لهم).
وورد: (أن رجلاً كثرت ذنوبه حتى ملأت سجلاته وليس له حسنات فيؤمر به إلى النار، فعندما يذهب به الملائكة وإذا ببطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله، فوضعت في كفة والسجلات في كفة، فطاشت السجلات وأمر به إلى الجنة).
وكما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هنيئاً لأهل لا إله إلا الله حال حياتهم، هنيئاً لأهل لا إله إلا الله حال مجيئهم عند ربهم، وعرضهم عليه، فهم على كل حال مغفور لهم مهما طال عذابهم وحسابهم؛ ولأجل ذلك قال الله عنهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32].
وقد اختار الله الأمة المحمدية التي هي بين الأمم السابقة كما قال عليه الصلاة والسلام: (كالشعرة البيضاء في الثور الأسود) لكثرة الأمم السابقة ولقلة الأمة المحمدية ومع ذلك هم أكثر أهلها، فهم أكثر أبناء آدم وحواء دخولاً للجنة.
وكون الله اصطفاهم سواء منهم الظالم وغير الظالم المذنب وغير المذنب ما داموا جميعاً يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله فهم بخير، حتى إن عذب منهم من عذب، ودخل النار من دخل لن يخلدوا في النار وسيخرجون بعد ذلك مهما طال الزمان أو قصر، وقد يغفر الله لهم فلا يدخلونها.(234/3)
تفسير قوله تعالى: (جنات عدن يدخلونها)
قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر:33].
يدخلون الجنة من كل أصنافهم الثلاثة، ثم {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} [فاطر:33]، فيلبسون من أنواع الحرير ما كان حراماً عليهم في دار الدنيا، ويلبسون من أنواع الذهب ومن أنواع اللؤلؤ والجواهر والياقوت ما لو أن ياقوتة منها برزت في دار الدنيا لكانت أكثر ضياءً من الشمس، بل أكثر ضياء من البرق، تكاد تخطف أبصار الناس عند إضاءتها ورؤية نورها.
والتحلية: لباس الحلي في الجنة، (من أساور من ذهب) الأساور: جمع سوار.
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر:33].
ولذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لبس الحرير من رجال أمتي في الدنيا لا يلبسه في الآخرة).
وقد قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير الحرير: من لبس الحرير في الدنيا مصراً على لبسه لم يتب إلى أن مات لم يدخل الجنة.
قال عبد الله بن الزبير وهو قول أبي سعيد الخدري: يدخلون الجنة ولكن لا يلبسون حريرها؛ لأن الجنة هي مأوى كل موحد مات على الإيمان بالله، والإيمان برسول الله فلم يكن لبسه للحرير في الدنيا مانعاً له من دخول الجنة ولكنه مانع من لبس الحرير في الجنة.
وقد يكون ذلك وعيداً من الله وتهديداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليترك الرجال هذا التأنث والتشبه بالنساء، فقد قصر الله الحرير والذهب لباساً على النساء دون الرجال.
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر:33].
قال تعالى: (وقالوا) أي: هؤلاء الثلاثة الأصناف: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات عند دخول الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34].
وإنما قالت هذه الفئات الثلاث ذلك لأنهم دخلوا الجنة بعد هموم وأحزان، في الدنيا حال حياتهم، وفي العرض حال الحساب، وفي الموت، فهم بذلك يستريحون من هموم الدنيا وأحزانها؛ من هم المعيشة أو المرض، أو السعي، أو السن، ومن هموم الأولاد والنساء، وكذلك هموم يوم القيامة من هموم الحساب بالنسبة لمن سيحاسب، حيث يحاسب الظالم لنفسه حساباً عسيراً ويحاسب المقتصد حساباً يسيراً.
أما الذي سبق بالخيرات فلا حساب عليه، ولكن لن يكون ذلك إلا بعد العرض على الله، وبعد القيام من القبور، أما حين تنتفض رءوسهم وهم يقفون بين يدي الله فهم لا يعلمون هل هم إلى جنة أو إلى نار، وهل قبل الله أعمالهم في الحياة الدنيا، أم لم يقبلها، فهم عندما يدخلون الجنة يجدون الراحة والطمأنينة فيذكرون الله ويحمدونه، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34].
والحزن والهم والغم بمعنى واحد، فالمعنى: أزال الهموم والغموم وجعلنا على غاية ما نكون من الاطمئنان ومن اليقين والسعادة، ومن نضارة النعمة والسعادة والرحمة.
{إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34].
إن خالقنا وربنا المتفضل علينا غفور للزلات والخطيئات، عفو عن المخالفات، (شكور) وشكره لعباده المؤمنين أن يغفر ذنوبهم، وأن يكفر سيئاتهم، وأن يدخلهم الجنان مغفورة ذنوبهم، مرحومين من أي عذاب وأي بلاء وأي سوء.
(وقالوا): أي: كل هذه الفئات الثلاث: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:34 - 35].
حمدوا الله وشكروه واستغفروه، وحمدته كل حواسهم وخلايا أبدانهم على أن أحلهم دار المقامة، أي: دار الإقامة الدائمة التي لا موت فيها ولا رحيل ولا انتقال، وأحلنا الدار التي لا حزن فيها ولا هم ولا غم، بل أحلنا الدار التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، بلا غم ولا هم ولا تكليف من عبادة أو غيرها.
وهذه النعم الحالة علينا ما هي إلا {مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر:35] لا بعمل قدمناه، فهو الذي هيأنا للعمل الصالح، وألهمنا إياه، فالله إذا أراد أن يظهر فضله عليك خلق ونسب إليه، فهو الذي وفقنا لعبادته، ووفقنا لطاعته، وأدامنا على ذلك، ولذلك يشكره المؤمنون وقد دخلوا الجنان وذنوبهم مغفورة، لا حزن ولا هم ولا غم، يدخلون القصور مع الحور العين في كل ما اشتهته أنفسهم.
قوله: {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} [فاطر:35].
النصب: الشقاء والتعب والمشقة، واللغوب: الجزع والإعياء البسيط.
أما النصب: فهو التعب والمشقة الشديدة، فلا تعب في دار الجنة فهي دار النعيم المقيم الدائم، فليس فيها لا نصب، ولا تعب مشق متعب، ولا لغوب، ولا إعياء حتى ولو كان بسيطاً، فقد جعل الله الجنة دار النعيم الدائم والأفراح الدائمة لا نصب فيها ولا لغوب، ولا هم ولا أحزان، فهذه مراتب المؤمنين من المقتصدين في ذنوبهم والظالمين لأنفسهم والسابقين بالخيرات، ومآل الكل بعد كل هذا دخول الجنان، بلا غم ولا أحزان، ولا نصب ولا لغوب.(234/4)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا)
ثم عقب الله بعد ذلك بذكر حال الكافرين الذين ماتوا على الشرك بالله، والكفر بالأنبياء، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36].
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} [فاطر:36]، أي: كفروا بالله رباً، وبمحمد نبياً وخاتماً للرسل، وبالقرآن إماماً، وماتوا على ذلك لهم نار جهنم.
{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
قوله: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر:36]، أي: لا يسبق في قضاء الله عليهم يوم القيامة موت؛ لأن الموت يموت هو أيضاً في الآخرة، فأهل النعيم خالدون لا موت، وأهل الجحيم خالدون لا موت، والقضاء يكون بالموت كما قال تعالى عن موسى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15].
وكما قال في قصة سليمان: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ:14].
فلا يكون الموت قضاءً من الله عليهم عقوبة لهم، بل تكون الحياة مع التقلب بالعذاب دائماً سرمداً؛ لأن في الموت راحة لهم، ولذا يطلبون الموت ويفرحون به، ولكن هيهات لا موت، بل يجدد لهم العذاب وتجدد جلودهم وأجسامهم، فكلما احترقت وانتهت أعيد خلقها خلقاً جديداً ليبقى العذاب دائماً مستمراً جزاءً وفاقاً؛ لكفرهم بالله الخالق وبنعمه الظاهرة والباطنة.
{كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36]، أي: كذلك الجزاء نجزي الكافرين، وقول الله لذلك وهو يقص علينا قصص الكافرين السابقين ليكون موعظة وذكرى للمؤمنين، وتحذيراً للناس أن يتبعوا حال حياتهم الكافرين في كفرهم فيعاقبون عقابهم، ويجازون جزاءهم، وليس الجزاء خاصاً بالكافرين الأولين؛ ولكنه عام للأولين والحاضرين واللاحقين من المعاصرين في عصرنا ومن الآتين بعدنا إلى آخر إنسان في هذه الدنيا.
فمن مات كافراً له نار جهنم لن يموت ولن يخفف عنه من عذابها، وكل من مات موحداً له النعيم الدائم في الجنان خالداً فيها حتى يقول بعد دخولها: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:34 - 35].
وأما الكافرون فليسوا كذلك، فهم في جهنم خالدون لا يموتون، ولا يخفف عنهم عذابها، قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا} [فاطر:37] يدخلون النار حال كونهم يصطرخون، {أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، فيقول الله لهم موبخاً ومقرعاً: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37].
اصطرخ: افتعل؛ من الصراخ والصياح، أي: يرفعون أصواتهم، وشأن المعذب شأن الذي لا يملك جزأً من جسده ولا خلية من ذاته إلا وتعذب أشد أنواع العذاب، فيصرخ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} [فاطر:37] يقولون: يا ربنا، ولم يكونوا يعترفون بذلك في دار الدنيا، بل ما قالوا يوماً: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا يوم الدين، ولكنهم أخذوا يقولون ذلك بعد أن رأوا ما أنكروه في حال الدنيا من البعث والحياة بعد الموت، والعذاب الذي هددوا به من قبل أنبيائهم في الدنيا، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا} [فاطر:37] أي: يقولون في صراخهم، فالدعاء بيان صراخهم وإجابة ل
السؤال
بماذا يصيحون وبماذا يصرخون؟ يصطرخون يقولون: ربنا أخرجنا، أي: من النار ومن العذاب.
{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] أخرجنا من النار، وأعدنا إلى دار الدنيا نعمل أعمالاً صالحة غير الأعمال الطالحة التي فعلناها في حياتنا الأولى، وهيهات هيهات! لن ترجع عقارب الساعة إلى الوراء، فالدنيا فنيت ولن تعود، سواء كان وقتها يوماً، أو كان زمنها ساعة، وإذا بها ذهبت فمن سعد ففيها كانت السعادة، ومن شقي فمنها مقام الشقاوة.
أما الآخرة فهي دائمة، ولا عودة منها قط إلى دنيا؛ لأنها حينها قد أصبحت عهناً منفوشاً لا جبال ولا أراضي، ولا سماوات، الكل قد فني وأصبح ذراً بين الذر، وهباءً بين الهباء، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] فتجيبهم ملائكة الله عن أمر الله أو يجيبهم الله بنفسه فيقول الله لهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37].
ألم نحيكم في الدنيا، ونعمركم عمراً يمكنكم أن تتفكروا فيها لو شئتم، لقد طال هذا العمر بما يكفي أن يتذكر فيه الإنسان فهو سنوات، فما بالكم لم تتذكروا وقد جاءكم النذير ينذركم ويتهددكم ويتوعدكم.
وقد قال قوم في هذا العمر: هو سن البلوغ من الإنسان، وقال قوم وهم كثر: هي أربعون سنة، من بلغ في سنه أربعين سنة ولم يقل يوماً ربي الله، ولم يعد إلى الله مع هذه العشرات من السنين وبقي على حاله يوشك أن يبقى كذلك إلى الموت، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (من شب على شيء شاب عليه).
الإيمان والثبات على الدينية يكون في الشبوبية على الغالب، وقد يكون أحياناً في الكبر إذا سبقت عناية الله بالإنسان، ولكن جرت العادة على أن من نشأ على الكفر عاش على الكفر، ومن نشأ على الفسوق عاش على الفسوق، وأكد هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله: (من شب على شيء شاب عليه).
وقال أقوام: التعمير المراد بالآية هو: دون سنة، ورووا في ذلك أحاديث لم يصححها الحفاظ تصحيحاً كاملاً، وأن يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من عاش ستين سنة فقد أعذر الله إليه) أي: فقد جعل الله له العذر الكامل فيما إذا قصر خلال هذه الستين فيتوب ويئوب ويرجع إلى الله قبل الموت، واستشهدوا على ذلك بالحديث الثابت الصحيح الذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقليل منهم من يتجاوز ذلك).
وهذا نشاهده ونراه، ولم تكن الأمم السابقة تعيش هذا، بل كانت تعيش المئات، وقد قص الله علينا في كتابه بأن نوحاً لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو نبي، وقد عاش قبل ذلك قالوا: أربعين سنة، وقالوا: مائتين وقالوا: ثلاثمائة.
وفي التوراة والإنجيل عن أنبياء بني إسرائيل ومن سبقوهم ممن عاش ثلاثمائة سنة وأربعمائة سنة ما يؤكد ذلك، أما حياة نوح فهي كما ذكرها الله في كتابه، وأنه عاش ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولكن الشأن من الأمة الآخرة -أمة آخر الأنبياء- إذ لا أمة بعد أمة محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فقد قال: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يتجاوز ذلك).
وفي لفظ آخر: (معترك المنايا بين أمتي ما بين الستين والسبعين)، معترك أي: الموت يتعارك عندما يبلغ الإنسان بين الستين والسبعين فيحاول الموت أن يأخذ روح الإنسان وهو في هذه السن في الغالب، وإلا فالكثير من يموت قبل ذلك.
{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:37]، عمراً يكفي لأن يتذكر الإنسان فيه يوماً الرسالة التي أرسل الله بها نبي عصره، والكتاب المنزل على نبي عصره، والبشارة على لسان نبي عصره، والنذارة على لسان نبي عصره، وفي عصرنا منذ بدء الرسالة المحمدية -أي: منذ ألف وأربعمائة عام- وإلى آخر لحظة من الدنيا، فليس بعد محمد نبي آخر، فرسالته لمن في عصره، ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة.
قوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] قالوا: النذير: النبي، فهو النذير المنذر، وقالوا: القرآن، وهنا كذلك يتكلم الله عن الأعمار: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] فجمهور المفسرين قالوا: النذير: الشيب.
وفي الآثار قالت شعرة وقد ابيضت لجارتها: استعدي للموت فقد جاءك النذير.
وقالوا: النذير الحمى فهي الطريق إلى الموت، وليس دائماً، وقالوا: النذير موت الأحباب والأقارب، ومن ذلك موت الأقران والزملاء، فيرى الإنسان أخاه قد مات، وزميله في الدراسة وفي العمل وفي الجوار قد مات، وهو يقول: يأتي الدور علي غداً أو بعد غد، فعلى كل حال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
فالموت حق، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] ولكن النذير في الأعمار: أن يكون الرجل شاباً فينتقل إلى الشيخوخة ثم إلى ضعف البنية وإلى بياض الشعر ذلك نذير، ونحن لا نموت فجأة دفعة واحدة في الغالب، ولكن يموت الإنسان يوماً بعد يوم، ففي خلايا جسم كل إنسان ملايين الخلايا، والخلايا هذه تموت خلية بعد خلية، والعصب يضعف، والشرايين تضعف، شريان بعد شريان وهو موت بطيء، ولذلك من كان قوياً كأن يكون رياضياً في الشبوبية يحمل الأرطال ويحمل القنطار إذا شاب لن يستطيع حمل ما كان يحمله وهو ابن خمس سنوات، ومن كان إذا سابق سباقاً لنظرائه وقد يسبق بعض الدواب والحيوانات فإذا شاب فإنه حتى المشي العادي لا يستطيعه إذا لم يتكئ على آخر أو يعتمد على عكاز، وهكذا دواليك، فكما جئنا ضعافاً سنعود ضعافاً ونعود كما جئنا، جئنا من تراب وسنرجع إلى تراب، إلى أن يعيدنا الله جل جلاله إلى الآخرة، ونرجوه جل جلاله أن يجعلنا من أهل الجنة ومن أصحاب النعيم الدائم، وتبقى الدنيا برزخاً، وكما قال الحسن البصري: خلقنا للأبد وإنما هي نقلة من دار إلى دار كما ينتقل الحي من حي إلى حي، ومن دار إلى دار، ومن حالة إلى حالة كذلك الآخرة ليست إلا نقلة.
ولذلك الأرواح تبقى معلقة إلى أن تعود لأجسامه(234/5)
تفسير سورة فاطر [38 - 40]
إن الله وحده عالم غيب السماوات والأرض، وهو محيط بدقائق الأمور سبحانه وتعالى، فيعلم ما يعتمل في نفوس عباده وما تحيك صدورهم وضمائرهم، وما من أحد من خلقه يعلم شيئاً من غيبه تعالى إلا بإذنه فيطلع خلقاً من خلقه على بعض غيبه بقدر، ويحجبه عن آخرين حكمة منه وفضلاً.(235/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الله عالم غيب السموات والأرض)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [فاطر:38].
إن الله وحده عالم غيب السماوات السبع وما فيها، وغيب الأرض وما فيها، إذ الغيب لا يعلمه أحد؛ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ومن باب أولى لا كافر ولا ساحر ولا كاذب مفتر على الله دجال، ولكن من يرد الله أن يعلمه بعض غيبه يعلمه كما أعلم أنبياءه وكما أعلم رسله، وكما أعلم ملائكته، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27].
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال:38]، فحتى صدورنا وضمائرنا وما بين جوانحنا وما لا تسمعه منا أذن، ولا يكتبه قلم ولا نتحدث به، وما هو في صدورنا من آراء وخواطر يعلمها الله، فهو يعلم بما لا يعلمه الأب من ولده، ولا الولد من أبيه، ولا الزوج من زوجته، ولا الزوجة من زوجها، ولا أحد من أحد مطلقاً، فالله كما يعلم غيب السماوات والأرض يعلم ما في صدر كل إنسان مما هو غيب على كل الخلق من الخواطر والخطرات وحديث النفس.(235/2)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} [فاطر:39].
{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} [فاطر:39] خلائف: جمع خليفة، خلفنا من سبقنا من الآباء والأجداد والأجيال السابقة، وهكذا يذهب الجيل ويأتي الآخر، ومع ذلك فالجيل المتأخر لا يأخذ العبرة ولا الدرس ولا الحكمة من الجيل السابق، وكان عليه أن يتخذ العبرة ويتأمل ما هو الذي كسبه وربحه من كفره غير الخزي والذل والهوان، فإنه إن أدرك ذلك فلن يفعل فعله، ومن كان أبوه أو من يعلمه صالحاً فيجب أن يتخذه أسوة وقدوة، وهكذا.
فهذا توجيه رباني للاستفادة من تجارب من مضى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} [فاطر:39] ومعناه: خلفنا من سبقنا من الأفراد والجماعات، فأطفالنا خلفاؤنا، ونحن خلفاء آبائنا، وآباؤنا خلفاء آبائهم، فكل من جاء بعدك يعتبر خلفاً لك، وخليفة لك، ورثك في هذه الدنيا بالحياة، وقد يكون قريباً فيرث بيتك ويرث مالك، ويرث اسمك، ولربما شاركك في هذا الاسم في الحياة حيث يقال لك: آل فلان، فيقال عنهم كذلك: آل فلان، ومن ما يفيد الاستخلاف أيضاً: أنه جعلكم خلفاء الماضين، تمرون عليهم بالليل وبالنهار فترون آثارهم وتتساءلون: أين من بنى وشيد؟ أين من حكم الدنيا؟ أين من قال: أنا ربكم الأعلى؟ تلك بيوتهم خاوية تعوي فيها الذئاب وكأنهم لم يكونوا، لم يصحبهم إلا العمل الصالح، ومن لم يكن له عمل صالح صحبته اللعنة وصحبه الخزي، ولعذاب الله يوم العرض عليه أشد مما هو فيه، فنحن عندما نخلف من سبقنا من الأجيال السابقة والأمم السالفة يجب أن نعتبر بحالهم.
وهنا نلمس فائدة التاريخ وفي ذلك الإشارة إلى العناية بالتاريخ، ولذا قص الله علينا الكثير من تاريخ الأمم السابقة، والأنبياء السابقين، وما جرى لهم من خير أو شر، فتعلم ذلك يفيد الإنسان الخبرة والعبرة والموعظة، فإن كان خيراً اتبعه، وإن كان شراً تعوذ بالله منه وابتعد عنه، ولذلك عندما يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} [فاطر:39].
أي: هناك من سبقكم ممن قبلكم فلستم بدعاً ولم تنفردوا في الوجود، بل سبقتم في الحياة، فآمن من آمن وسعد في الدنيا وسعادته، في الآخرة أتم وأكمل وأشمل.
قوله: {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [فاطر:39]، أي: فالذي كفر فنتيجة كفره عليه، وعذاب الكفر عائد عليه لا على غيره، فكل محاسب بما صنع، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
{فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [فاطر:39]، عليه عقابه ومهانته وذله وهوانه، لن يعذب معه سواه، إلا إذا كان شريكاً لذلك السوى في عمل هذا الكفر والدعوة له.
{وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} [فاطر:39]، أي: كفر الكافر مهما طال، ومهما صمد عليه صاحبه وأصر عليه فلن يزيده ذلك عند ربه إلا الغضب والمقت والخزي واللعنة الدائمة.
فالكفر مهما طال، ومهما استطال، ومهما عاش عليه من عاش، فرداً كان أو أمة، لن يزيده كفره عند ربه إلا مقتاً، والمقت: أشد الخزي، وأكثره وأبلغه، ولن يلحق الخزي إلا به، فكفره لن يزيده إلا مقتاً ولعنة وغضباً.
{وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} [فاطر:39].
فمهما طال كفرهم زاد في خسرانهم، خسرانهم للجنات والنعيم والرحمة والشفاعة، وهكذا دواليك، ولذلك كما أن الجنة درجات، فإن النار دركات، فمنهم من هو على ضحضاح يغلي منه دماغه، ومنهم من هو في قعر جهنم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، أي: في آخر دركة، وهي دركات سحيقة، جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في بعد قعرها أنه قال: (إن أحدكم ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في قعر جهنم سبعين خريفاً)، أي: سبعين عاماً، وليس في العام إلا خريف واحد.
إن أحد المستهترين يقول وهو لا يدري ما يقول، وقد يقول كلمة يريد بها المزاح والدعابة وإذا به ارتد وكفر وخرج عن أمر الله ودين الله، فيهوي بها ويسقط، ويظل ساقطاً مدة سبعين عاماً إلى أن يصل إلى قعر النار، ولا يصل إلا عند تمام مرور سبعين عاماً، وهكذا هؤلاء لن يزيدهم كفرهم إلا خساراً، وقد يكون كفرهم لأول مرة، فيكونون به في ضحضاح من النار، ثم يزيد إلى أن يكونوا في قعر جهنم.(235/3)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله)
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر:40].
يقول الله لهؤلاء المشركين سكان النار الخالدين فيها أبداً، الذين يصيحون ويصطرخون يرجون الخروج وهيهات لات حين خروج، ولات حين مندم، يقول الله: قل يا محمد لهؤلاء: أروني الذين تدعون من دون الله، قل لهم يعلمونك، ذلك علم رؤية قلبية، أو رؤية عينية، قل لهؤلاء: أرأيتم هؤلاء الشركاء أطلعوني عليهم، أروني إياهم وأعلموني بمقامهم، يخاطب الذين جعلوا لله شركاء وزعموا أنهم خلقوا كخلقه وأنهم شاركوه في ملكه أو في رزقه، أو في خلقه: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} [فاطر:40]، اطلب منهم متحدياً أن يروك الجزء الموجود في الأرض وهم خلقوه؟ فإن قالوا: بنينا قصراً -وقد يقولون: خلقنا- فيقال لهم: هل أنتم الذين كونتم حجارته أو الماء والطين اللازم لبنائه؟ فيكون
الجواب
لا، وكذا إن قيل: نحن صنعنا الصواريخ، وصنعنا الطائرات وصنعنا وصنعنا فيسألون: هل هم الذي خلقوا ذلك الحديد الذي صنعوا منه الطائرة والصاروخ؟ بل غاية ما صنعتموه أنكم حولتم المادة التي خلقها الله من صورة إلى أخرى، فمثلاً: الله خلق القمح وبإمكاننا أن نجعله خبزاً، أو نجعله حلوى، أو نجعله طعاماً، فلا يقال أنا خلقناه؛ لأن الأصل هو تلك الحبة التي لم نخلقها، ولم يخلقها أحد، حتى العقول التي خبزت والأيدي التي زرعت وسقت وطحنت من الذي خلقها؟ الكل خلق الله، ومن ضاع عقله لا يستطيع عمل شيء، لا ذوقاً بلسانه، ولا عملاً بيديه إن هو إلا إنسان فقد العقل، والعقل لا يعطيه إلا الله، ومن فقده لن يشتريه بملء الأرض ذهباً.
ثم استرسل في سؤالهم فقال: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} [فاطر:40]، وإذا لم يخلقوا شيئاً في الأرض فهل هم شركاء الله في سماواته؟ كأن خلق الله ستاً وخلقوا واحدة أو خلق الله الملائكة وخلقوا الجن! هيهات هيهات، ما خلقوا شيئاً، {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73]، بل {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73].
قوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر:40].
أم أنزلنا عليهم كتاباً من السماء أمرناهم فيه بالكفر وبالشرك، وبأن يتخذوا لنا شركاء معاذ الله، إن الله لا يأمر بالفحشاء، والاستفهام هنا استفهام توبيخي تقريعي، أي: هذا لا يوجد، بل ما ادعوه، فلم يدعو رسالة ولا نبوة، ولا اتباع كتاب، وإن هم إلا حيوانات شاردة في الأرض، يقولون: إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع ولا يهلكهم إلا الدهر، هكذا يزعمون، وهم ما ذكروا في القرآن وفي الشريعة وفي لسان التاريخ الماضي، ومثل هذا القول قال الدهريون، وهم الذين يعبدون الدهر، وما الدهر؟ يقول النبي عليه الصلاة والسلام عن الله في الحديث القدسي: (تسبون الدهر وأنا الدهر)، أي: الدهر هو: الزمان، والله خالق الدهر، وخالق الزمان، وخالق الليل والنهار، فمن سب ذلك كأنه يسب الصانع والخالق، فيكون بذلك قد خرج عن الإيمان وهو لا يشعر، وهو من الكلمات التي قال عنها نبي الله عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً -يقولها دون أن يقصد معناها، ولا يفكر فيها- فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً).
ولذلك ينبغي على الإنسان أن يكون عقله وراء لسانه لا لسانه وراء عقله، وإلا لنطق بالكفر وهو لا يعلم ولا يفهم، ونحن لا نحاسب الناس إلا بما ظهر لنا منهم، فمن جاء وقد أعلن الكفر اعتبرناه مرتداً، فإذا جاء وقال بين يدي الحاكم والقاضي: لم أقصد، لا يقبل هذا منه، ولا يصدق به؛ لأن العبرة بما دل عليه الكلام، وكذلك من جاء وقال: أنا آمنت، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، اعتبر مسلماً، فإن عاد وخرج عنها، وقال: إنما هي كلمة قلتها اعتبر مرتداً، وألزم بالعودة إلى الإسلام، وإلا قتل بسيف الإسلام.
والمعنى: سل هؤلاء: الشركاء الذين دعوتموهم من دون الله وعبدتموهم من دون الله، ما الدليل على أنهم شركاء؟ أخلقوا شيئاً من الأرض؟ أطلعوني عليه وأعلموني علمه وخبره إن كان موجوداً، فإن لم يكن في الأرض فهل شاركوا الله في خلقه في السماوات؟ أم لهم سماء هم خلقوها وهم دبروها؟ وإذا لم يكن ذلك وهو غير كائن، فهل أنزل عليهم كتاب أمروا فيه بالشرك وبالكفر وبالجحود والعصيان؟ هيهات هيهات، لم يكن ذلك، فذلك استنكار توبيخي تقريعي يعود عليهم بالمذمة والهوان، ولذلك القرآن خاطب العقول -فمن لا عقل له لا فهم له ولا إدراك- وبعد ذلك جاءت الأدلة، فلم يقل الله في كتابه من بدايته إلى نهايته: تعالوا اسمعوا وأطيعوا بناءً على أمرهم، وإنما أمروا بذلك بعد أن أمروا: أن تفكروا أن تذكروا انظروا بأعينكم -الأعين الباصرة- تأملوا ببصائركم -البصائر المدركة.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ:46]، أي: لم أطالبكم إلا بخصلة واحدة: أن تقوموا مفكرين متذكرين دارسين مثنى مثنى، جماعات جماعات، فرادى كل واحد في نفسه، هل محمد مجنون؟ هل الكتاب الذي أنزل عليه صنعه بنفسه؟ وقطعاً لم يكن شيء من ذلك، بل كل ذلك خواطر أوحى بها الشيطان، فلما لم يستعملوا عقولهم ضلوا، ولذلك عندما تفكر أمثالهم أصبحوا السادة بعد الأنبياء عليهم رضوان الله، وعلى الأنبياء سلام الله.(235/4)
تفسير سورة فاطر [40 - 45]
كان العرب قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم يعيشون حياة وثنية، وإذا بهم يرون من حولهم من الشعوب ينتحلون أدياناً سماوية سواء كانت يهودية أو نصرانية، فأقسموا بالله أن لو بعث الله إليهم نبياً من أنفسهم ليكونن أهدى ممن سبقهم من الأمم، فلما جاءهم نبي منهم يعرفون نسبه وخلقه كفر به بعضهم وأبوا أن يتابعوه.(236/1)
تابع تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله)
قال الله جلت قدرته: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:40 - 41].
هذه الآية تحدثنا عنها شارحين ومبينين ومفسرين بما جاء عن الله من آية شبيهة، وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتممها.
{بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر:40].
يقول الله لنبيه وعبده صلى الله عليه وعلى آله: قل لهؤلاء الذين دعوا وعبدوا شركاء من دون الله زاعمين أنهم شركاء لله: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} [فاطر:40]، كيف ادعوا لهم هذه الألوهية وما دليلهم عليها؟ هل رأوا شيئاً قد خلقوه في الأرض أو صنعوه فيها؟ هل فعلوا فعلاً كفعل الله أو خلقوا كخلق الله؟ أم أنهم قد شاركوه في الخلق والتدبير؟ أم نزل عليهم منا كتاب يبين لهم عبادة الأوثان وعبادة الشركاء؟ كل هذا زعم خسيس لا واقع له، وإنما هي أضاليل وأكاذيب، والاستفهامات في الآية للتعجيز وللتقريع وللإذلال والهوان، وفضحهم بأنهم يقولون ما لا دليل عليه؟ بل غاية ما يفعلون أنهم يأتون للحقائق فيزيفونها بالأباطيل والأضاليل.
(بل) إضراب عن كل ما مضى من كون الله له شركاء، ومن كون هؤلاء الشركاء المزيفين خلقوا من الأرض جزءاً أو أشركوا الله فيما عنده في سماواته، ومن كونهم قد أتوا كتاباً يبين لهم ضلالهم ويأمرهم به، والله لا يأمر بالفحشاء، بل كل ذلك لا أصل له.
{بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر:40]، أي: ليس لهؤلاء الظالمين لأنفسهم، المشركين بربهم، المؤمنين بما لم ينزل به سلطاناً، ليس لهؤلاء دليل ولا برهان، إن هم إلا يضل بعضهم بعضاً، ويتبعون ما غرهم من أوهامهم وأكاذيبهم وجهالاتهم، فليس شيء من ذلك قائماً ولا موجوداً.(236/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41].
يذكر الله جل جلاله عباده بالآيات البينات الدالة على عظمته، فهذه السماوات التي تظلنا، وهذه الأرض التي تقلنا، أمسكهما الله وحده وهو الذي أوقفهما، وإلا فقد كادا يقعان.
وعدد الله أوجه عظمته وقدرته في السماء لاستنكار ما زعموه من نسبة الشركاء لله، ومن نسبة الولد له.
كادت أن تسقط السماوات على الأرض، ولكن الله تعالى هو الذي منع سقوطها، ومنع اضطرابها، ومنع أن تنطبق السماء على الأرض عقوبة لهؤلاء، واستفظاعاً لما قالوه عن رب العزة جل جلاله، وهو الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا معين ولا مساعد.
{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41].
فهو الذي أمسك السماوات والأرض بقدرته بقوله: (كن) هو الذي أمسكها بتقديره عن أن تقع على الأرض.
{أَنْ تَزُولا} [فاطر:41] أن تهتد أو تضطرب حتى تلتقي بالأرض وتطبق على هؤلاء المشركين.
{وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41].
وإن زالت السماوات وزالت الأرض فوقع بعضها على بعض استفظاعاً لما يشركون، لما وجدت غير الله يعيدها ويمسكها عن أن تسقط وعن أن تقع على الأرض، رحمة منه وحلماً بعباده ورجاء توبتهم وعودتهم إليه، فالله يغفر ذنوب من تاب وأناب، كما أنه يحلم بهم لعلهم يعودون إلى الدين يوماً، ويرجعون إلى الإيمان تاركين للشرك لما فيه من ضلالات وأباطيل، والله عندما يقول هذا يخبر عن الماضين ويظهر حالهم، ويضرب بهم الأمثال للحاضرين في العصر النبوي، ولمن جاء بعدهم وإلى عصرنا، ينذرنا يتوعدنا ويهدد الكافرين منا وممن جاء بعد ذلك وإلى يوم البعث والنشور بأن هذا الكفر وبأن هذا الشرك تكاد السماوات أن ينطبق بعضها على بعض غيظاً منه، وتكاد أن تقع على الأرض استفظاعاً واستعظاماً لما يقول هؤلاء الظالمون لأنفسهم المشركون بالله، ولكن الله لم يفعل {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41].
والحلم هنا بالنسبة للكافرين: أنه أرجأهم وأمهلهم ولم يهملهم لعل العمر يطول بهم يوماً فيعودون للتوحيد، ويعودون للإيمان، وما ذاك إلا من حلم الله ورحمته حتى بالكافر، والكافر إن آمن والمشرك إن عاد للإيمان والإسلام فالله يغفر الذنوب، فالإسلام يجب ما قبله، فهو الحليم بعباده، وهو الغفور لذنوب من آمن منهم وتاب وأناب.(236/3)
تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم)
قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [فاطر:42].
يقول ربنا جل جلاله: لقد كان هؤلاء قبل أن يرسل الله لهم عبده ونبيه وسيد الخلق محمداً صلى الله عليه وسلم يقسمون فيما بينهم الأيمان المحرجة المغلظة بكل جهدهم وكل طاقتهم على أنواع الأيمان، فيقسمون بالله وبجميع صفاته وبجميع أسمائه الحسنى على أنه إذا أرسل الله لهم رسولاً منذراً كما سبق أن أرسل لغيرهم من أهل الكتاب -كموسى وعيسى اللذين أرسلا إلى اليهود والنصارى- أنهم سيهتدون ويؤمنون، وقد أكدوا ذلك أشد تأكيد، ولذا حكى الله عنهم هذا التأكيد فقال: {لَيَكُونُنَّ} [فاطر:42] فهم يقسمون ويؤكدون القسم بالله بالنون المؤكدة لهذه اليمين -النون المشددة- إن أرسل الله لهم رسولاً {لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ} [فاطر:42] أي: فسيكونون أكثر هداية وإيماناً وصلاحاً من إحدى الأمم، ويعنون بالأمم اليهود والنصارى.
وهذا الإقسام بأنهم سيكونون إذا أرسل لهم رسول ينذرهم وأكثر هداية منهم قد ظهر منهم خلافه، إلا بعض من استجاب لله، وكان منهم موحدون كـ ورقة بن نوفل مثلاً الذي عندما جاء الوحي نبينا عليه الصلاة والسلام ذهبت به زوجته أم المؤمنين الأولى خديجة رضوان الله عليها إلى ورقة وقالت له: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقد كان ورقة موحداً، وكان من ضمن من يرجو أن يأتي الله بنبيه، ولكن ورقة عندما جاءه الرسول المبشر المنذر صلوات الله وسلامه عليه بادر وتمنى أن ينصره، وذلك قبل أن يدعو محمد عليه صلوات الله وسلامه عليه صاحبه وزوجته وابن عمه، وقبل أن يدعو عشيرته الأقربين، قال ورقة: ليتني كنت فيها جذعاً -شاباً صغيراً- عندما تدعوهم إلى عبادة الله وترك عبادة الأوثان فيخرجونك لكنت حينها معك أنافح عنك، وأقاتل في سبيلك وفي سبيل تحقيق هذا الدين.
ومن أجل ذلك ترجم لـ ورقة أنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ورقة نادرة من النوادر، ونبذة من النبذ بين قومه المشركين، إذ الباقون عندما جاءهم النذير منهم كما كانوا يتمنون، وكان من أنفسهم يعرفون حسبه ونسبه، فلقد عاش بينهم وعلموا نشأته وتربيته، وعلموا أمه وأباه وجده، وكان الحفيد لسيد العرب وكبيرهم عبد المطلب، ومع ذلك لما جاءهم ما زادهم النذير إلا نفوراً، فكفروا به، وخانوا العهد وحنثوا في الأيمان المجهدة المغلظة التي أقسموها.
فهؤلاء عندما أقسموا {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [فاطر:42] فبذلوا الجهد من أنفسهم مقسمين وحالفين بالأيمان بأسماء الله الحسنى وبأيمانهم إن أكرمهم الله بنبيه -ولم يسبق أن أرسل إليهم نذيراً من قبل في تاريخهم الطويل العريض- {لَيَكُونُنَّ} [فاطر:42]، يؤكدون أنهم سيكونون أهدى من إحدى الأمم التي أنزلت عليها كتب كاليهود والنصارى وممن سمعوا بهم في رحلتهم، وكان لهم رحلتان في الصيف والشتاء، فكانوا يرونهم في الشام وهي أرض النصارى إذ ذاك، ويرونهم في العراق ويسمعونهم وهم يقولون: أنزل علينا كتاب اسمه التوراة وكتاب اسمه الإنجيل، على أنبيائنا موسى وعيسى، فتمنوا وأقسموا لأنفسهم ومع بعضهم إن جاء العرب رسول مبشر ومنذر ليكونن أهدى منهم، أي: أكثر هداية وأكثر طاعة وأكثر إيماناً، فلما جاءهم النذير إذا بهم يكفرون به، ويتحدونه ويصدون عن سبيله، وبذلك كأنه ما زادهم إلا نفوراً عن الحق وعن النذير.(236/4)
تفسير قوله تعالى: (استكباراً في الأرض ومكر السيئ)
قال تعالى: {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ} [فاطر:43]، قوله: (استكباراً) بدل عن النفور، أي: أنهم فعلوا ذلك عندما جاءهم النذير فاستكبروا على رسول الله أن يؤمنوا به، واستكبروا على الله أن يكونوا عباداً له، فكانوا عبدة للشيطان ومع ذلك لم يخرجوا عن عبادة الله مكرهين أو راضين، ولكن المكره وهو عبد رغم أنفه له النار، وله العذاب وله الخزي من الله.
والعبد الراضي بعبوديته تكون عبوديته شرفاً له، وحرية له واستوجبت له الرحمة والرضا من الله ودخول الجنان.
قوله: {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} [فاطر:43].
المكر: التحايل في الباطل، والتحايل في الضلال وظهوره، أو التحايل في الفساد والإفساد والصد عن الله ودينه ورسله، قال ربنا: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43].
يحيق: يحيط، أي: لا يحيط مكر الماكر، ولا غدرة من يحاول أن يغدر وأن ينفر إلا بمن حاكه ودبره، فهم قد نكثوا العهد، وحنثوا في الأيمان، وتحايلوا بأن يشتموا النبي عليه الصلاة والسلام مكذبين جاحدين برسالته وبالكتاب المنزل إليه، فالله هددهم وأنذرهم وأخبر بحقيقة من الحقائق فأصبحت مثلاً بعد ذلك بين الناس.
{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، فمن حفر حفرة وقع فيها، ومن نصب لأخيه شبكة سقط فيها، وهكذا هؤلاء حين أرادوا أن يمكروا بالنبي عليه الصلاة والسلام، واجتمعوا في دار ندوتهم يتواطئون ويتآمرون أيخرجونه من مكة؟ أيقتلونه؟ أيسجنونه؟ وهم يمكرون، فكانت النتيجة أنهم مكروا بأنفسهم فمكر الله بهم.
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
فأوقعهم الله في يد من أرادوا أن يمكروا به، وسقطوا في اليد العادلة يد المصطفى صلى الله عليه وسلم، فانتصر عليهم نصراً عزيزاً مؤزراً ودخل مكة فاتحاً، فأخذهم إليه وجمعهم بين يديه كما يجمع الصائد صيده في شبكة، وأخذ يتهددهم ويقول: ماذا ترون يا معاشر قريش أني فاعل بكم؟ وذهب صلى الله عليه وسلم إلى الحرم ودخل الكعبة فوجد فيها ثلاثمائة وستين صنماً، وكان بيده قوس فأخذ يشير إلى كل صنم ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وهكذا بددت تلك الأصنام واختفت تحت الكعبة، ولعلهم في هذه الحفريات قد وجدوا بعض ذلك، وتمنى ضال من ضلال مصر المنسوبين للعلم وللأدب وللكتابة أن يحفر عن هذه الأصنام ليحتفظ بها على أنها من الآثار الضخمة.
فهي آثار بالنسبة للذين يحنون إلى ذكر الوثنية وذكر الأصنام وذكر عبادة الشركاء وهكذا أماني المشركين، وأماني الضالين، يحنون إلى الكفر القديم والشرك القديم ليحولوا الناس إليه ويحيطوا به، فكان عاقبة مكر هؤلاء أن أحاط بهم، وكانت الحفرة التي أرادوا حفرها لنبي الله عليه الصلاة والسلام هي الحفرة التي سقطوا فيها فأصبحت مكة دار الإسلام من ذلك اليوم، وصدر أمر الله جل جلاله الذي لا يرد بأن لا يدخلها كافر بعد ذلك اليوم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28].
فأخبر الله عن المشركين أنهم عين النجاسة، وكما أن النجاسة لا يليق بالمسلم المصلي أن تكون مكان سجوده، أو أن تكون على ثيابه، أو أن تكون على بدنه، فإن مكة حرم وهي أم القرى ومحل البيت الحرام، ومسقط رأس الرسول صلى الله عليه وسلم ومنزل الوحي الأول، فيها مناسك الحج الواجبة، فوجب على كل إنسان أن يحج إليها مرة في العمر، يأتي إليها منسلخاً عن المحيط والمخيط، لا فرق بين صعلوك ولا ملك، ولا غني ولا فقير بإحرام أشبه بالأكفان، حاسر الرأس في نعال كأنه حاف، وهو يدعو ويقول: لبيك اللهم لبيك، ومنذ ذلك اليوم ومكة معقل الإسلام، وإن أخذوا يحاولون أن يحاربوا رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى أن هاجموه في عقر داره بعد أن هاجر للمدينة المنورة فكانت معارك أحد، وكانت معارك الأحزاب، وقد خرج منها جميعها صلى الله عليه وسلم المظفر العزيز المنتصر.
ثم كانت القاضية وكانت الفاصلة غزوة بدر، كتب الله فيها لنبيه النصر العزيز المؤزر فقتل من زعمائهم ثلاثة وسبعين وأسر ثلاثة وسبعين، وما رفعوا رأساً بعد ذلك، وكما قال ربنا: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43].
وقد حاق بهم، وأحاط بهم، فأصبحوا بين شريد وطريد وميت هالك، ومنهم من جر إلى الجنة بالسلاسل، فآمن وأسلم بعد ذلك فحسن إسلامه فكان كمن جر إلى الجنة بالسلاسل، جر أسيراً ثم بعد ذلك اهتدى وحسن إسلامه وقال: لا إله إلا الله وكانت سبب توبته، والإسلام يجب ما قبله.
ثم قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].
يقول الله عنهم في استفهام إنكاري توبيخي تقريعي: (فهل ينظرون إلا سنة الأولين) أي: هل يصبرون على كفرهم وشركهم إلى أن يأخذهم الله إليه أخذ عزيز مقتدر.
فالأمم السابقة الذين أبوا إلا الكفر والشرك قد أحاطت بهم سيئاتهم، وحاق بهم مكرهم فذهبوا بين غريق، وبين ممسوخ، وبين مقتول، وبين من خسفت به الأرض، وبين من رجم من السماء بأنواع من الرجم ومن حجارة السماء، فهل هؤلاء ينتظرون مثل ذلك، فإن كان الأمر كذلك فلينتظروا فيما هم منتظرون، ولكل وقت ولكل عمل مدة وأجل مسمى.
قوله: {إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ} [فاطر:43]، أي: طريقة الأولين ممن سبقهم من الأمم والشعوب التي أبت إلا الكفر والجحود، وأبت إلى التمرد على أنبيائها، ثم أخبر سبحانه أن سنته لا تتبدل فقال: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [فاطر:43].
فسنة الله في المحسن والمسيء أن للمحسن الإحسان، وللمؤمن الجنة، وللمسيء النار وغضب الله، والخزي الدائم، فلن تجد لسنة الله تبديلاً، فسنة الله في خلقه -في المؤمنين والكافرين- لن تبدل ولن تغير، فلن يدخل كافر الجنة رحمة به، وقد حرم الله الجنة على الكافرين، ولن يخلد في النار مؤمن موحد، فسنة الله في الإحسان إلى المحسنين وعقوبة الكافرين كما فعل بالأولين من الشعوب والأمم السابقة كذلك، فهو الله الأول بلا بداية، الآخر بلا نهاية، فمن تبع سنة أولئك ومن فعل فعلهم ستكون سنة الله فيه البطش، والغضب واللعن، والتدمير كأولئك الكافرين السابقين، وقد أكد الله ثبات هذه السنن فقال: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، فلا يحول الله سنته بأن يحسن للكافرين ويسيء للمؤمنين، فالله جل جلاله خلق الدنيا دار عبور ومجاز للآخرة، وخلق في الآخرة جنة وناراً، فجعل الجنة للموحدين وجعل النار للكافرين المشركين.(236/5)
تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44].
يوجه الله هؤلاء الجاحدين المعاندين إلى الضرب في الأرض والسير فيها بالتنقل بين البراري والجبال، بين الأقاليم والقارات لينظروا إلى آثار الله في الأرض، من الإحسان للمحسنين، ومن العقوبة للمسيئين الكافرين، ولهذا فإن هذه الحفريات التي تكون بحثاً عن الآثار القديمة تزيد المؤمن إيماناً ويقيناً وتعلقاً بكتاب ربه وبطاعة نبيه؛ لأن كل ما قال ربنا في كتابه وبينه نبينا صلى الله عليه وسلم في حكمته وسنته موجود ظاهر يراه من ضرب في الأرض رأي العين، منذ قريب جاء أحد من بعض أقطار أوروبا ممن يمت إلي بصلة القربى فأخبر أنه وجد هناك ما أخبر الله به من حجارة، كانوا أناسي فمسخوا، حين جاءتهم الصرعة فظلوا على حالهم فبعضهم كان منحنياً، وبعضهم كان ممتداً، وبعضهم كان يستقي، وبعضهم كان يخدم، وبعضهم يحاول الركوب، وبعضهم كان يجري، فجاءتهم الصعقة فبقي كل واحد منهم على تلك الحالة، ومع الأيام ارتطمت عليهم جبال بزلزال من الأرض فجمدوا وأصبحوا حجارة، فلما نبشت الآثار عنهم وجدوا أنهم قد تجمدوا فأصبحوا حجارة فنقلوهم إلى متاحفهم، وقد أخبرنا الله تعالى عن قوم ثمود وقوم صالح وما حل بهم، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يسرع المشي عندما يمر في هذه الأرض، كما حدث في غزوة تبوك وقد مر جيشه على أرض أولئك وسقوا من هذه المياه فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فوجدهم قد خبزوا به، فأمرهم أن يرموا ذلك الخبز أو يطرحوه للدواب وقال: (من مر منكم على مثل هذه الأرض -أرض الهالكين أرض المشركين أرض المغضوب عليهم- فليتباكى، وليفر حتى لا يصيبه ما أصابهم).
وكان من الله التنبيه على الاعتبار بحال أولئك فقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [فاطر:44]، أي: أولم يرحلوا، أولم يسيحوا، والاستفهام هنا استفهام تحريض، أي: فليسيحوا وليضربوا في الأرض لينظروا رأي العين آثار من مضى قبلهم، وآثار من هلك قبلهم، مع أن أولئك كانوا أشد قوة من العرب، ومن عجم اليوم من سكان الأرض على كثرة دعواهم في أنهم أكثر سلطاناً، وأكثر حضارة وأكثر قوة، إلا أن ما يقولونه ما هو إلا كذب وإضلال واغترار بأنفسهم، ومن مر منا فرأى أهرامات مصر وموميات مصر، ورأى خرائب أرض بابل في العراق، لا شك أن الإنسان يقف مذهولاً أمام هذه الحجارة العملاقة التي بنيت بها الأهرامات، إذ يصل حجم الواحدة منها ما يمكن به أن يملأ غرفتين أو ثلاث، وكيف أنها قطعت من جبال الطور، فتحدث عنده التساؤلات: كيف اقتطعت على شكل واحد؟ ثم كيف جرت؟ وكيف حملت إلى موضع البناء؟ ما هي هذه القوة التي صنعت ذلك؟ لابد من وجود آلات لفعل ذلك، ولابد من أدوات لكنها إلى الآن ليست عند أحد.
ومن رأى موميات فرعون والفراعنة الذين معه، والأموات قبله وبعده وقد مضى عليهم آلاف السنين وهم بين العواصف والأمطار والشموس، وبين كر الليل والنهار، ولا تزال كما هي جلدة على عظم، لم تصبح رماداً، ولم تؤثر فيها عواصف ولا أمطار ولا شموس، من يرى هذه الحال لا شك أنه سيتساءل: ما هي المواد التي كانوا يصنعونها لتساعد في بقائهم هذه المدة من قرون، وكان زعماء الكفر في الفاتيكان يحتفظون بباواتهم في نواويس وصناديق من زجاج، وقد رأيت ذلك كما رأيت الأهرام وأبنية بابل، رأيت هذه النواويس في الفاتيكان تجد هذا البابا الضال ممدداً بلباسه وبشكله وبشعراته في لحيته، يقفل عليه في قطعة واحدة من الزجاج ويبقى على حاله قرنان أو ثلاثة أو أكثر، ولكن أحياناً ينكسر هذا الزجاج وإذا بهذه الجثة تصبح رماداً بمجرد ما يدخلها الهواء، فهم عاجزون عن أن يفعلوا ما فعله الأقدمون في مصر وأرض بابل.
حكم بابل هارون الرشيد فساح مرة في ضواحي بغداد فوقف على هذه الخرائب فقال للبرامكة من وزرائه: أريد قصراً على هذه الخرائب، فقال له جعفر ويحيى: يا أمير المؤمنين! لو حاولنا هدم المتبقي من هذه الخرائب لما استطعنا ذلك في سنين، فضحك منه هارون وقال: خربها وسوها بالأرض وابن قصراً فيها، فامتثل، وبقي سنتين أو ثلاث وهو يضرب في هذه الخرائب ما استطاع أن يزيل منها ويخرب أكثر من ذراع أو ذراعين، فيا ترى ما هي هذه المواد التي أدخلوها في هذه الرمال وهذه الأتربة وهذه الحجارة حتى أصبح القصر قطعة واحدة، فلو كان حجارة لانفجر، بعد ذلك يئس هارون واعترف بأنه لا يستطيع، وحاولوا بكل قريب وبعيد وبكل أنواع المواد أن يصنعوا مثل ذلك فعجزوا وعجز من جاء بعدهم إلى عصرنا، فذلك قول الله: {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فاطر:44]، فإنهم ليسوا أكثر قوة من العرب فقط، بل ومن العجم ومن أوربا وأمريكا وغيرها من البلاد أيضاً.
فالله حين أمرنا بقوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فاطر:44]، ذهبنا ونظرنا ونظر معاصرونا، ومن قبلنا فرجع الكل ذاهلاً متعجباً عاجزاً عن أن يصنع مثل ذلك، يقول الله لهؤلاء الكفرة المعاصرين للنبي عليه الصلاة والسلام ولمن سيأتي بعدهم: انظروا إلى أولئك الأقوياء الذين نحتوا الجبال قصوراً، وكان قد منح الله الإنسان منهم طولاً وعرضاً، فآدم كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام (في طول أطول نخلة سحول)، عرضه أمتار وطوله أمتار، وكانوا يعيشون الألف عام أو أكثر أو أقل، وتأكيد ذلك من كتاب الله عن نوح إذ لبث في قومه كما أخبر الله عنه: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14]، ذلك مع القوة في الأيدي والصحة، وكانوا يتزوجون المئات، وقصة سليمان التي في الصحاح: أنه طاف ليلة على مائة جارية وقال: لآتين منهن بمائة فارس، ولم يقل إن شاء الله، فلم تأته المائة كلها، ولم تأت بأكثر من مثل وليد، فكان ذلك من الله تأديباً لسليمان حيث عامله بنقيض القصد، وقال لنبينا ولنا ضمناً: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].
فالإنسان في كل شيء يريد أن يفعله بعد الزمن الذي هو فيه لا بد أن يقول: إن شاء الله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30].
فالمشيئة بيده والخلق بيده، والأمر بيده، ولسنا إلا آلة بيده في الرقعة الإلهية يرفعنا كما شاء ويضعنا كما شاء.
والله حين يحدثنا بأخبار من مضى أو حين يوجهنا إلى النظر في سيرهم كقوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فاطر:44].
يبين كيف صنع بهم مع ما كانوا عليه، وأنه أهلكهم وأغرقهم وزلزل بهم الأرض ورجمهم بحجارة من السماء فذهبوا كأمس الدابر وكأن لم يكونوا، أيعجزه هؤلاء الضعاف الذين لا يكادون يستطيعون دفع ضر عن أنفسهم، ولا جلب خير لهم إلا إذا أراد الله ذلك، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44].
فلا يعجز الله شيء، كيف وهو القادر على كل شيء، الذي قدر وخلق هذه السماوات العلى، وقدر فخلق هذه الأراضين السفلى، وخلق هذا الإنسان العجيب الغريب الذي ينظر بعينين، ويسمع بأذنين، ويبطش بيدين ويمشي على رجلين، ويفكر بذهن وقلب، من خلقه؟ من نفخ فيه من روحه؟ من قدر له قوته؟ من أحياه ومن ثم يميته؟ لا جواب عن كل ذلك إلا الله، فالله وحده القادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء سبحانه، قال عن نفسه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ} [فاطر:44].
إذا دخلت (من) على النكرة دلت على العموم، أي: ليس شيء من خلق الله في السماوات السبع وما فوقها وما تحتها، وفي الأرضين السبع وما عليها وما تحتها يعجز الله، فهو القادر على كل شيء، وكما أوجد هذا الكون بما فيه فإنه قادر على إفنائه والقضاء عليه، {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44].
كان عليماً بخلقه وما يصلحهم، وما يضرهم وما ينفعهم، فهو يعلم ما هو صلاحهم في مستقبل أيامهم، وما هو ضررهم في الحال وفي الاستقبال، غفور لمن استغفره وآمن به، وقال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82].(236/6)
تفسير قوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة)
قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر:45].
يقول ربنا جل جلاله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، الإنسان في هذا الكون مصدر السوء والذنب والعصيان والمخالفة، فلو عجل الله عقابه ومؤاخذته وعجل حسابه، {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل:61] الكناية على شيء غير مذكور وإنما سياق الكلام يدل عليه، أي: على الأرض، فالإنسان هو الذي على الأرض، فلو أن الله جل جلاله شاء أن يؤاخذ الناس بذنوبهم ومعاصيهم ومخالفاتهم، من شرك المشرك ومعصية المؤمن لما ترك على ظهرها دابة، أي: بسبب كسب الناس من ذنوب ومعاص وآثام لم يترك على ظهر الأرض دابة.
والدابة: ما يدب على وجه الأرض، فهي تشمل الإنسان وغير الإنسان، والكلام على الإنسان، وإذا أردنا أن نفهم العموم فالأمر واحد، ولو أراد الله هلاك الناس لأفاض عليهم البحار والمياه كما أفاضها على قوم نوح أو كما أفاضها على فرعون وهامان وقومهما، ولو أراد الله هلاك الناس لأمسك القطر فما نزل مطر ولا غيث، فماتت الدواب والأنعام والمواشي، ومات كل حي على وجه الأرض، ولكن الله تعالى رحمة منه ترك لذلك أجلاً مسمى، قال تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر:45]، الأجل المسمى إما إلى يوم القيامة أو إلى أجل مسمى في الدنيا، فقد تكون العقوبة في الدنيا إلا أنها تكون خاصة، وقد تكون عامة في شعب أو أمة، كأن يذلهم بعد عز، أو يسلط أذل خلقه عليهم فيستعمرهم بعد استقلال وسيادة، أو يصيبهم بالجوع والقحط وشح المطر، أو يصيبهم بأنواع من الأمراض والأوبئة وعذاب الله منوع أعاذنا الله وحمانا من كل ذلك بفضله وكرمه، فلو شاء الله ذلك لما وقفت قوة في السماء ولا في الأرض دون ما يريده ودون مشيئته جل جلاله، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فما من قوة في السماوات ولا في الأرض تحول بينه وبين ما يريد، قال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، ولكن لم يفعل ذلك فأخرهم حلماً منه ورحمة منه (إلى أجل مسمى)، أي: إلى زمن ووقت مسمى عنده، سواء في الدنيا أو في الآخرة، وآخر الآجال المسماة عنده يوم القيامة.
قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر:45].
لم يقل ربنا إذا جاء الأجل كان بعباده معذباً أو منتقماً، مع أنه لو شاء لعاقب المؤمن والكافر، فالمؤمن يعذب لبعض ذنوبه والكافر لشركه، ولكن كل ذلك أوقفه إلى أجل مسمى، فإذا جاء الأجل، ولم يقل إذا جاء الأجل أهلكهم وقضى عليهم؛ لأنه يعلم ويبصر أن بين هؤلاء موحد، وبينهم المشرك غير الموحد، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر:45].
فهو الذي يبصر أعمال عباده، فيغفر للمؤمن المستغفر، ويغفر للموحد وقد يغفر له الذنوب كاملة دون عذاب، وقد تقدم ذكر فئات الأمة المحمدية الثلاث: الظالم لنفسه وهو المرتكب للكبائر، والمقتصد المرتكب للصغائر، والسابق بالخيرات الذي لم يرتكب كبيرة، وإذا ارتكب صغيرة بادر إلى الاستغفار، وكلهم كما قال ربنا عنهم: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [الرعد:23].
ولذلك يقول ربنا هنا بعد أن أنذر وتوعد وهدد بأنه لولا حلمه وكرمه ورحمته بالمؤمن والكافر ما ترك على ظهر الدنيا من دابة.
قال تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر:45].
فهو ينظر إلى عمل عباده، فمن كان مؤمناً ومات على الإيمان غفر له، ولربما يكون من السابقين ولم يدخل النار قط، وإن كان من المسرفين فقد يغفر الله له دون حساب ولا عقاب رحمة منه، وقد يحاسبه، ومع ذلك يعذب من شاء الله له أن يعذب، ومآله إلى الجنة، ولن يخلد مؤمن في جهنم أبداً، فجهنم هي في الأصل دار المشركين الكافرين، والجنة محرمة عليهم، والجنة هي في الأصل دار الموحدين، فمن دخلها من أول يوم فهي داره التي تنتظره، ومن تأخر عنها من عصاة المسلمين فمآله إليها لا محيد عنها، فالله قد جعلها الدار الثانية الدائمة ذات النعيم المقيم لكل من مات على التوحيد.(236/7)
تفسير سورة يس [1 - 5]
لكل شيء قلب، وقلب القرآن يس، ومن قرأها فكأنما قرأ القرآن كله، وهي لما قرئت له كماء زمزم، وفي مستهلها يقسم الله تعالى أن محمداً صلى الله عليه وسلم من المرسلين، وأن القرآن العظيم منزل عليه من قبل العزيز الرحيم.(237/1)
فضل سورة يس
سورة يس سورة مكية، وقد اشتملت على ثلاث وثمانين آية، ونزلت كلها في المدينة إلا جزءاً من آية قيل نزلت في المدينة، وستأتي ونبينها بإذن الله، ولكن الإجماع على أن كل آياتها نزلت في مكة.
وقد ورد في فضلها وخصائصها ومزاياها أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الجماهير من الصحابة.
فعن أبي بكر وأنس وأبي هريرة وأم الدرداء وأبي قتادة الأنصاري رضي الله عنهم جميعاً كما عند أصحاب السنن والحاكم في المستدرك وقال: صحيح ولم يخرجاه، قال عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا يس على موتاكم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ يس ليلة غفر له ما تقدم من ذنوبه، ومن قرأ يس مساء بات في مسرة وفرح إلى أن يصبح، ومن قرأ يس صباحاً ظل نهاره في مسرة وفرح إلى أن يمسي).
قال ابن عطية الأندلسي وغيره من المفسرين: جربنا هذا فصحّ، وصدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (اقرءوا يس على موتاكم؛ فإنها تخفف من عذابهم، تخفف من سكراتهم).
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: من ذهب يوم الجمعة إلى زيارة أبويه أو أحدهما فقرأ عليه أو عليهما يس كان ذلك مغفرة لهما أو له.
وقراءة يس تعدل بقراءة جميع كتاب الله، جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يس لما قرئت له كزمزم)، فمن قرأ يس بنية الفرج فرج الله عنه، ومن قرأها بنية الشفاء شفاه الله، ومن قرأها بنية الغنى أغناه الله، ومن قرأها على امرأته إذا عسرت ولادتها يسر الله عليها ذلك، ومن قرأها بنية التوبة تاب الله عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لكل شيء قلب، وقلب القرآن يس).
وما كانت يس قلب القرآن إلا لأنها مشتملة على التوحيد، والأوامر والنواهي، وقصص المؤمنين وقصص الكافرين، ومع قصر آياتها وقلة صفحات كتابتها فقد شملت كل معاني القرآن من قصص، ومن عقائد، ومن أحكام، ومن آداب ورقائق، ومن كلام على الدنيا والآخرة، ومن حديث عن سكان جهنم وسكان الجنة، وما سيلقى الكافر من عذاب يوم القيامة، وما سيلقى المؤمن من رضاً ورحمة يوم القيامة.(237/2)
تفسير قوله تعالى: (يس)
يس هما حرفان ياء وسين، وكثير من المفسرين يحلو لهم أن يأتوا إلى بعض المفردات فيقولون: هي حبشية أو رومية، وذلك كلام لا معنى له ولا وجود له، فالقرآن بكل مفرداته عربي مبين، قال ذلك ربنا في قوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف:2].
وورد ذلك في العشرات من الآيات والسور، وقد تحمس لهذا المعنى الإمام الشافعي إمام المجتهدين واللغويين، فقد كان الشافعي إماماً في اللغة وفي الأدب وفي النحو وفي البلاغة والبيان والبديع، وأعلم بذلك من غيره من الأئمة، فذكر في كتابه الرسالة وهي مطبوعة أكثر من مرة -وأكملها وأصحها مع تخريج الأحاديث الطبعة التي طبعها آخر محدثي مصر: أحمد شاكر رحمه الله-: أنه ليس في القرآن كلمة ليست بعربية، وقد قال: كل ما ذكر الناس من العلماء أو المفسرين فإنما هو كلام من كلامهم، وقولاً من أقاويلهم، وليس على ذلك دليل لا من لغة ولا من حق ولا من تاريخ.
ويس قالوا عنها كذلك، وليس قولهم بصحيح، فياء إحدى حروف الهجاء العربية، وسين حرف من حروف الهجاء العربية كذلك، فأين الحبشية والرومية؟ وقد اختلفوا في يس ما معناها؟ فقالوا: من الحروف المقطعة كالمر والم وكهيعص.
واختلفوا في معناها إن لم تكن كذلك، فقال قوم: إن يس اسم من أسماء الله، قال ذلك مالك وأكده، فحرم على الإنسان أن يسمى بيس، قال: لأننا لا نعلم ما معناها، وقد تكون من بعض المعاني التي اختص الله بها، كما أن اسم الجلالة (الله) لا يجوز لمخلوق أن يسمى به، كذلك يس لا نعلم معناها، فإن سمينا بها يوشك أن يكون معناها مختصاً بالله، فلا يجوز لأحد أن يسمى بها، وإن كان الإنسان قد يسمى ببعض أسماء الله كمالك ومريد وقادر، وهي أسماء نسبية، والله هو القادر المطلق، فهو مالك الملك وملك الملوك، وهو الذي يفعل ما يريد، ولكن إن سمي بذلك أحد الناس فهي أشياء نسبية كما أقول: رزقت أهلي وأولادي، ورزقت المساكين، فهو اسم نسبي، وإلا فالله هو الرازق الذي رزقني ورزقهم، وليس ما أعطيتهم إلا من مال الله، قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33].
وقال بعضهم: (يس) معناها: يا إنسان! وقال بعضهم: معناها: أيها السيد! وقال بعضهم: معناها: يا سيد البشر! وفي هذه الحالة تكون اسماً من أسماء رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال بعضهم: معناها: هي اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورووا في ذلك حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (أنا عند الله وفي كتابه اسمي محمد وأحمد وطه ويس).
وهكذا اختلف في معناها بين أن تكون اسماً لله أو اسماً لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو يا إنسان! أو يا رجل! أو يا سيد! أو يا سيد البشر! أو يا محمد! وليس في هذا شيء يمكن أن يصار إليه؛ لأن هذا يحتاج إلى دليل، والحديث الذي رووه ليس صحيحاً حتى يعتمد دليلاً، ولو صح لأجمعوا عليه، ولما ذكروا لـ (يس) معنىً آخر.
وقال الجمهور: هي كلمتان من كلمات الحروف الهجائية العربية كالم وطه، وهذه المعاني التي لا نستطيع أن نجزم بمعناها.
وعلى كل فهي آية من آيات الله، وإن كانت اسماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول كثيرون فهي منقبة كبيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان معناها: يا سيد البشر! فتكون أعظم وأكمل وأكرم، وليس سيد البشر إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فهو الذي قال الله عنه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253].
قال المفسرون: الذي رفع درجات عن بقية الأنبياء هو محمد العربي سيد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وهو الذي أكرمه الله باليوم الموعود وباليوم العظيم، يوم الشفاعة العظمى، وهو الذي قال عن نفسه: (أنا سيد ولد آدم) عليه الصلاة والسلام، وهو الذي صلى بالأنبياء والمرسلين في المسجد الأقصى ليلة الإسراء أعاده الله للإسلام، وسحق اليهود وطردهم بفضله وكرمه فقد صلى بهم إماماً؛ دلالة على أنه إمامهم وكبيرهم وسيدهم، وهذا موضع إجماع المسلمين لا يختلفون فيه.
وقد حاول الزمخشري في تفسيره أن يفضل جبريل على نبينا عليه الصلاة والسلام، فرد عليه المفسرون عن قوس واحدة ووبخوه ولاموه، وقالوا: قد أتى بما لا دليل عليه، فلم يرد في جبريل لا في كتاب الله ولا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته ما يشير إلى أفضليته لا من قريب ولا من بعيد، ولكنها زلة من زلات العلماء.(237/3)
تفسير قوله تعالى: (والقرآن الحكيم)
قال تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1 - 2].
يقسم الله جل جلاله بالقرآن المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم ويصفه بالحكيم، والحكيم مشتق من الحكمة، والحكمة هي الصواب، والحكيم هو: من يضع الأمور مواضعها قولاً أو فعلاً، ولا يتجاوز الصواب قط لا متكلماً ولا فاعلاً.
والقرآن الكريم كله حق وصواب، وكله من عند الله الحق، وهو الحق.
قال تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:1 - 3].
ما أقسم الله على نبي من أنبيائه بأنه نبي إلا على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فهو يقول للناس ممن عصوا النبي صلى الله عليه وسلم في وقته ومن جاء بعده ويقسم لهم جل جلاله وهو الصادق المصدق بلا يمين، ولكن شاء الله ذلك؛ لنزداد إيماناً ويقيناً، فيقسم لنا بكتابه الحق وبوحيه القديم الحكيم: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:3].
وهذا يؤكد بأن (يس) خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الخطاب له، والكلام لا يزال جارياً فيه، فقوله: {يس} [يس:2]، أي: يا سيد البشر! وهي أعظم، {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:2 - 3].
فقد أقسم الله بذاته العلية وبجلاله وبكتابه المعظم، وكتابه هو الصواب الحق الحكيم، فهو يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام، وهو خطاب لنا تبعاً له: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:3]، أي: إنك يا محمد! لمن المرسلين الذين أرسلناهم للناس، فقد أرسله برسالة وبكتاب مذكراً ومبشراً ونذيراً إلى خلقه بسيرته العطرة؛ ليكون للناس قدوة وأسوة وإماماً، فهو المثل الأعلى، والإنسان الكامل بين جميع خلق الله، فهو أسوة في أقواله وأفعاله وتقريراته.
وهذا هو تعريف السنة النبوية، فقول النبي عليه الصلاة والسلام وشرعه سنة، فشرعه من شرع الله.
فالسنة ما كان قولاً أو فعلاً أو إقراراً من رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:1 - 3]، أكد الله القسم بإن المشددة.
ولام الابتداء الموطئة للقسم، وهي أيمان بعضها تابع لبعض في سلك واحد، وكل ذلك لاطمئنان قلب المؤمن والمسلم ودعوة للكافر لأن يرجع عن ضلاله وشركه وتكذيبه، فيؤمن بالله رباً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، ولا نبي بعده ولا رسول.
وهذا تأكيد كما طلب إبراهيم عليه السلام من ربه وهو النبي الصادق المعصوم أن يريه كيف يحيي الموتى، {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ونحن مؤمنون، ونشكر الله على أن هدانا للإيمان، ونرجو أن يثبتنا على ذلك إلى أن يحشرنا مع نبينا سيد الخلق والبشر صلى الله عليه وسلم في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله.
وهذه الأيمان نزداد بها إيماناً ويقيناً، وندعو لها الخلق بدورنا، مؤمنهم وكافرهم أن يفهموا ذلك، وأن يعوه، وأن يستمسكوا به، وأن محمداً هو الرسول وحده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلا فيلسوف ولا زعيم ولا داعية ولا هاد يمكن أن يرشد البشر ويعلمهم ويدعوهم إلى الله وإلى الطريق المستقيم، ولن يوجد أحد بعد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا هو، أو من كان خليفة له من خلفائه الراشدين، ومن كانوا على سننهم الطيب من العلماء ورثة الأنبياء، وهم في الحقيقة مؤكدون للرسالة المحمدية ودعاة لها ومبينون لحقائقها، ومزيلون لما علق بها، ويحيونها للخلق وللبشر، ولذلك استحقوا أن يكونوا خلفاء وورثة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:1 - 3].
فأكد ربنا بأنه من الرسل الذين أرسلهم ربنا لكل الخلق، ولجميع العوالم عرباً وعجماً، مشارق ومغارب، من عاصروه ومن جاء بعده إلى يوم القيامة، وسبحان الذي نزل على عبده الفرقان ليكون للعالمين نذيراً، من عوالم العصر، والعوالم التي أتت بعد، وعوالم الإنس والجن، بل قالوا: وعوالم الملائكة، وإن كانوا معصومين فهو نبي لهم تشريفاً وتكريماً له صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(237/4)
تفسير قوله تعالى: (على صراط مستقيم)
قال تعالى: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:4].
أي: إنك يا محمد! من المرسلين الذين أرسلهم ربنا، فأنت الرسول والنبي والصادق فيما بلغت قومك ونقلت إليهم من كتاب الله المنزل عليك.
وقد أقسم ربه به على أنه من المرسلين، ثم هو على صراط مستقيم، فهي رسالة صادقة، وطريق ومنهاج وسنن مستقيم لا اعوجاج فيه ولا تشعب طرق، فهو منهج قائم بالحق، وهو منهج رسول الله وصراطه، ومنهج الإسلام وطريقه.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يضل عنها إلا هالك).
وخط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً، ثم خط خطوطاً متعرجة، فقال: هذا الخط هو خط الإسلام، وهذه المتعرجات هي طرق الدعاة المبتدعين الضالين الصادين عن طريق الحق، فهم يقفون في الجنبات وفي مفترق الطرق يدعون الناس إلى الشهوات والنزوات، ويغرونهم بالنساء وبالمال وبالجاه، وهو غرور لا يدوم ولا يبقى، فلا يبقى إلا نعيم الله الخالق، الذي فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
ثم قال تعالى: {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس:5]، وهذا تأكيد أيضاً للصراط المستقيم، وهو القرآن والسنة والوحي، وهو كل التقارير والأقوال والأعمال.
قال تعالى: {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس:5].
(تنزيل) منصوب على المفعولية المطلقة، أي: نزله الله تنزيلاً، فهو تنزيل الله العزيز الذي لا يغالب، فمن تمسك بهذا الكتاب عز، ومن عز بغيره ذل، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
وهو الرحيم بعباده، ومن رحمته جل جلاله أن أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الخلق؛ ليهديهم إلى الله، ويدعوهم ويرشدهم إلى دين الله الحق، ويدعوهم إلى عبادة الله الواحد وترك الأصنام والأوثان، وترك غير الله من كل ضال مضل، وترك كل الأديان والمذاهب الضالة القديمة والمحدثة، فليس إلا صراط واحد هو صراط محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو القرآن الكريم والرسالة المحمدية والسنة النبوية المطهرة.
فقوله: {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس:5] أنزله الله رحمة لعباده وخلقه المؤمن منهم والكافر، ليزداد المؤمن إيماناً، على أنه عندما أنزل لم يكن هناك مؤمن، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام أول المؤمنين بمكة برسالته، وهو رسول من رب العالمين، وكان بعده خديجة السيدة الأولى من المسلمين، ثم خليفته الأول أبو بكر رضي الله عنه، ثم علي رضي الله عنه، ثم تتابع الناس فكان ذلك رحمة من الله بعباده؛ ليؤمنوا، ورحمة بهم ليعبدوه، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].(237/5)
تفسير سورة يس [1 - 12]
أرسل الله سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم لينذر قومه الذين ما أرسل إليهم رسول قبله، ولكن بعض الجاحدين قد حق عليهم العذاب من الله، وهو سبحانه وتعالى يحصى ما قدم الناس من عمل وما تركوا من أثر في كتاب محفوظ عنده.(238/1)
تفسير قوله تعالى: (يس)
قال الله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس:1 - 6].
قوله تعالى: (يس)، قال مالك: هو اسم من أسماء الله تعالى.
وقال غيره: معناه: يا إنسان! وقال غيره: معناه: يا رجل! وقال غيره: معناه: يا سيد البشر! وقال غيره: معناه: يا محمد! وقالوا: هو من الأحرف المقطعة: ياء وسين، كألف لام ميم، ولا يمكن البت بمعنى من هذه المعاني؛ لأنها ليس لها مرجع من كتاب ولا سنة، وعلى أي اعتبار فهي آية كريمة لكل حرف منها عشر حسنات.
قال تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:2 - 3].
يقسم الله جل جلاله بكتابه القرآن الحكيم، والحكيم: الصواب، أي: الموضوع والمنزل في مكانه قولاً وعملاً، فليس فيه إلا صواب وحق، وقد نزل منازله.
يقسم الله في كتابه على أن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ممن أرسله سبحانه ليبلغ عنه، فقد أنزل عليه كتابه، وجعله النبي الرسول الخاتم، وجعل شريعته للأبد، وأرسله للمشارق والمغارب والعوالم كلها.
قوله تعالى: ((إِنَّكَ)) الكاف كاف الخطاب، وفيه دليل يستأنس به على أن (يس) معناها: يا محمد! يا سيد البشر! لأنها ذكرت في هذه الآية الكريمة ثم أعقبت بكاف الخطاب، فكأنه يقول: يا محمد! {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:2 - 3]، لا كما يقول الكافرون الجاحدون المنكرون لرسالتك، والمنكرون لنبوءتك، فالله يؤكد نبوءته مقسماً عليها.
ثم قال: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:4]، أي: وإنك على الصراط الصواب، وعلى الصراط الحق، وأنك على طريق لا اعوجاج فيها، وأن ما جئت به هو الحق المبين من الحق جل جلاله.
قال تعالى: {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي: نزلنا هذا الكتاب تنزيلاً، فتنزيل: مفعول مطلق، أي: تنزيل الله الجليل العظيم، العزيز الذي لا يغالب، بل من اعتز به عز، وإنما العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.(238/2)
تفسير قوله تعالى: (لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم)
قال تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس:6].
أي: أنزلنا إليك هذا القرآن الكريم، وهذه الرسالة الخاتمة لتكون منذراً، ولتكون رسولاً داعياً إلى الله قوماً لم يسبق أن أتاهم نذير قبلك، فلأول مرة يرسل إليهم، فأنت الرسول الخاتم إلى هؤلاء، والإشارة إلى العرب، فالعرب لم يرسل لهم أحد قبل رسول الله عليه الصلاة والسلام، ونبينا ليس رسولاً للعرب فقط، ولكن الرسالة في بداية الدعوة كانت للعرب ثم عمت، فقد قال الله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].
أمر بأن ينذر عشيرته، ولذلك عندما أرسل إليهم وقف صلى الله عليه وسلم على الصفا والمروة، وقال: (يا بني عبد مناف! يا بني عبد المطلب! يا آل فلان! يا آل فلان! يا فاطمة بنت محمد!)، فتجمع عليه العرب من كل جانب، وتجمع عليه أكابر قريش: أبو جهل وأبو لهب وعقبة بن أبي معيط وأمثالهم فقال لهم: (لو حدثتكم أن عدواً وراء هذه الجبال يقصدكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: إني نذير من الله إليكم بين يدي عذاب شديد، فالتفت إليه عمه أبو لهب وقال: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ فنزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] السورة).
فأخزى الله أبا لهب، فلقد كان مخزياً لكفره ومات على كفره، وأصبحت هذه الآيات في هذه السورة الكريمة وحياً يتلى، فمن تلاها فله بكل حرف من حروفها عشر حسنات، فقوله: ((تَبَّتْ)) مثلاً له فيها أربعون حسنة، في التاء عشر حسنات وفي الباء المشددة عشرون حسنة.
وفي التاء عشر حسنات فمن تلاها على أنه يتلو كتاب الله من هذه السورة، فله في تلاوتها أربعون حسنة، وهكذا أرسل صلى الله عليه وسلم إلى عشيرته أولاً، ثم قال الله له: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، فقد أرسل عليه الصلاة والسلام بعد ذلك إلى جميع الخلق مشارق الأرض ومغاربها، إلى العجم والعرب، إلى من عاصره ومن سيأتي بعده، فكان الرسول الخاتم، إذ لا نبي بعده ولا رسول، ولكنه بالنسبة للعرب كان أول رسول وآخر رسول.
قال تعالى: ((لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)) أرسلناك بهذا الكتاب الحكيم، وبهذا الصراط المستقيم، وبهذه الرسالة الخالدة، إلى قوم لم يسبق أن أرسل إليهم رسول قبلك، وآباؤهم لم يرسل إليهم من قبل، فكانوا على فترة من الرسل؛ ولذلك تمنوا أن يكون لهم رسول كما أن لغيرهم رسولاً، وأقسموا بالله إن جاءهم ليكونن أهدى من إحدى الأمم، ولكنه جاءهم فكفر بعضهم، وأصر بعضهم على الجحود، فكان ما كان من غلبته والقضاء عليهم إلى أن أصبحت جزيرة العرب كلها مسلمة، وحرم الله على غير المسلمين أن يدخلوها، وكان يوصي عليه الصلاة والسلام في آخر أيامه وهو على فراش الموت فيقول: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، إذ لا يصلح دينان في أرض واحدة، ولا قبلتان على أرض واحدة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لقد يئس الشيطان أن يعبد في هذه الأرض بعد اليوم، ولكنه رضي بالتحريش)، أي: يحرش بين الناس وينشر بدعاً وفتناً وأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان، أما أن يرتد العرب ويكفروا فهذا لن يكون بعد إسلامهم.
وما كان بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي خلافة أبي بكر لا يزال امتداداً للفكر القديم في الجاهلية الأولى، فلما ردعهم أبو بكر فمات من مات وشرد من شرد، وعاد للإسلام من عاد، منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا وجزيرة العرب كلها موحدة ومسلمة، وكلها تشهد لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة، وقد قال الله عن هؤلاء: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وبهذه الآية نعلم أن كل ما ورد منسوباً لرسول الله عليه الصلاة والسلام إما أن تكون أحاديث لا أصل لها ولا سند، أو أحاديث وَهِمَ أحد رواتها، فروى وهماً لم ينزل الله به من سلطان، كالحديث الذي يروونه، وهو في مسند أحمد بأن امرأ القيس يأتي يوم القيامة يقدم الشعراء إلى النار ويجر قصبه، أي: يجر أمعاءه، فهذا الحديث في مسند أحمد لم يصح سنداً ولا متناً، فالسند منقطع وفيه مجاهيل، وما كان على ذلك فإنه لا يمكن أن يعارض به كتاب الله.
فالله يقول: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))، والعرب لم يرسل إليهم رسول قبل محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا ما تؤكده هذه الآية الكريمة من سورة يس: ((لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)) أي: كانوا غافلين عن الحق بعداء عنه، كانوا كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا).
فلم يكن لهم كتاب، ولم يكونوا يعرفون الحساب، وإنما كانت عندهم العقلية السديدة، واللسان البليغ شعراً وخطابةً ومحاورة، فكانوا ذوي رأي سديد، وكانوا في منتهى الشجاعة والغيرة، وهذا هو السر في أن العرب لم تجمعهم دولة ولا حاكم موحد، وإنما اجتمعوا على النبي عليه الصلاة والسلام، فكان عظيمهم وزعيمهم ونبيهم ورسولهم، وكان قائد دولتهم وكبير جيشهم وقاضي قضاتهم، والمولي والعازل للحاكم وغير الحاكم من رجال الدولة ورجال الأمة.
ولهذا فإن الإسلام عقيدةً ونظاماً ودولةً جاء بالإيمان بالله وكتبه ورسله وبيوم البعث والنشور، فهو عقيدة من خرج عنها ليس بمؤمن، ومن قال: إن الإسلام ليس دولة وإنما هو في القلب كدين النصارى؛ أو قال: الدين لله والوطن للجميع، ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، تلك شعارات كافرة يهودية ضالة، فالكل لله سواء الوطن والمواطن والدين، قيصر ورعاياه، الدول وشعوبها.
ومن هنا كان الدين هو الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
فالعرب كانوا غافلين عن الديانة والمعرفة، ومن هنا وصفوا بالجهالة، فقيل عنهم: أهل الجاهلية، ووصفوا بالضلالة، ولكن جاء الإسلام فزالت الجهالة بتعلم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وزالت الضلالة بهداية الهادي البشير النذير محمد سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فأصبح العرب بعد ذلك سادة الناس وأئمتهم لمدة ألف عام وهم مستمسكون بالإسلام، فعندما بدا لهم أن يتراجعوا عنه، وارتد منهم من ارتد، وعيروا الإسلام ونبيه وخلفاءه الراشدين بأسماء قذرة ومذاهب باطلة، عاقب الله المسلمين وسلط عليهم أنواعاً من الاستعمار من قبل النصارى واليهود إخوان القردة والخنازير لعنهم الله، ولن يعود الله عليهم بعزه ما لم يعودوا لدينه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
قوله تعالى: ((لِتُنذِرَ قَوْمًا)) أي: ليكون نذيراً إلى قوم لم ينذروا قبله، وكانت هذه البداية لنبينا صلى الله عليه وسلم، وكما قال الله له: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52]، وقال: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] أي: وجدك لا تعرف الطريق ولا تعرف الكتاب، ولكن ستره الله سبحانه.
فقد رأى صلى الله عليه وسلم في قومه عبادة الأوثان والأصنام ولم تطمئن نفسه لذلك، ولم يستمع لذلك، ففي أخريات أيامه ألهم بأن يذهب إلى غار حراء ويعتزل الناس ويتحنث، فأخذ يفكر: من خلقني؟ من أوجدني؟ من أوجد هذه الجبال؟ أهذه الأصنام حق؟ وهكذا هيأ نفسه لقبول الرسالة، ولقبول الحمل الثقيل، لقبول نزول جبريل، ففجأه جبريل وهو في الغار: (وقال له: {اقْرَأْ} [العلق:1]، فكررها وقال: ما أنا بقارئ، فضمه إليه ضمة كادت تدخل ضلوعه بعضها في بعض، وهكذا ثلاثاً).
ومن هنا يقول ابن تيمية وما أروع هذه الكلمة وما أوقعها على الحقيقة والصدق: كانت العرب أرضاً خصبة تفتقد الزرع والزارع، فجاء الزرع وكان الإسلام، وجاء الزارع وكان محمداً عليه الصلاة والسلام، وإذا بهذه الأرض الخصبة أعطتهم خيراتها ومعاركها وسياستها، وأدَّبت من كفر بالإسلام خلال خمسين سنة من الصين شرقاً إلى جبال برنيه في عمق أوروبا وما بينهما.
ودعك من محمد صلى الله عليه وسلم، فإنك ستقول: هو مؤيد بالوحي وبالرسالة، ولكن أبا بكر وعمر والخلفاء الراشدين وأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما أنار الله بصائرهم بالإسلام أعطوا الكون والعالم ما لم يعطه أحد قبلهم، فقد كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق بعد النبي عليه الصلاة والسلام والأنبياء، وصدق قول ابن تيمية: كانت العرب أرضاً خصبة، فقدت الزارع فكان محمداً عليه الصلاة والسلام، وفقدت الزرع فكان الإسلام، وهكذا عندما جاء الزرع والزارع أعطت هذه الأرض من خيراتها وثمراتها وعلومها وقياداتها، فأصبح المسلمون هم القادة الموجهون والحاكمون، ماداموا مستمسكين بهذا الدين الكريم لمدة ألف عام، حتى إذا غيروا وبدلوا غير الله عليهم خيره وعزه.(238/3)
تفسير قوله تعالى: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون)
قال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7].
يقول ربنا جل جلاله: ((لقد حَقَّ الْقَوْلُ)) والقول هنا: العذاب.
فهؤلاء عندما أنذرهم رسول الله وخوفهم العاقبة، وكان وعيده بأن من لم يؤمن بالله فليس له مصير إلا النار وغضب الله، كفروا ولم يؤمنوا، وهكذا فإن هؤلاء القدامى في السنوات الأولى من الحياة النبوية أصروا على الكفر فمات من مات على الكفر، وشرد من شرد على الكفر وأسر من أسر على الكفر، ثم جاء الأجيال بعدهم مؤمنين موحدين وانقرض عصر أولئك، ولكن كما قال عليه الصلاة والسلام: (كما دخل الناس في دين الله أفواجاً سيخرجون أفواجاً).
وهذا ما نراه اليوم، إذ تركوا كتاب الله وسنته عليه الصلاة والسلام، واتبعوا كل مارد شيطان، اتبعوا هذه المذاهب الوافدة بفسوقها وفجورها وانحلالها وقوانينها الكافرة، فكان ذلك ردة وكفراً ولعنة من الله عليهم.
فحق عليهم العذاب؛ لأن الله علم فساد قلوبهم، قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70]، فأصروا على الكفر والعصيان والخروج عن أمر الله، فلم يؤمن أكثرهم؛ ولذلك قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
فالهداة الصالحون قلة في كل عصر، وأكثر ما يقولون عنا إننا بلغنا من العدد ملياراً -أي: ألف مليون- ولكن غيرنا من النصارى والمجوس وعباد الحشرات وعباد البشر والفروج والخارجين عن أمر الله يعدونهم ثلاثة مليار.
ولو كان من هذا المليار من المسلمين مليون رجل مستمسك بدين الله حقاً، لما رأيت المسلمين على ما هم عليه اليوم في الأرض، فقد كان المسلمون الأول عندما فتحوا العالم ونشروا دين الله ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم أقل من هذا بكثير، كانوا بضعة آلاف من المسلمين، انتشروا في مشارق الأرض ومغاربها، وما هي إلا خمسون سنة حتى كان المسلمون حكام الأرض من أقصى الشرق في الصين إلى أقصى الغرب إلى جبال البرنيه في عمق أوروبا وما بينهما، واستمروا ألف عام على ذلك لم تهزم لهم راية.
صحيح أنهم هزموا في معارك، ولكن مع ذلك بقيت لا إله إلا الله وبقي الحكم بيد المسلمين إلى أن قصروا وابتعدوا عن دين الله، فسلط الله عليهم أبناء القردة والخنازير وعبدة الطاغوت من اليهود.
فقوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7]، أي: حقت كلمة الله وأمر الله السابق وإرادته، فالكثير من هؤلاء قد خرج عن دين الله، وقابل الحق بقلب مريض وفاسد، والقلب المريض الفاسد لا يقبل هداية ولا رسالة ولا نبوءة، فكان أكثرهم لم يؤمن، ومن لم يؤمن فهو في النار مع الكفرة من اليهود والنصارى والمنافقين.(238/4)
تفسير قوله تعالى: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً)
قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8].
هؤلاء عندما أصروا على الكفر خالطت الظلمات شرايين أجسامهم وخلايا ذواتهم، فكانوا بذلك كالمغلولة يده إلى عنقه، لا يستطيع تحريكها ولا رفعها، فلا يستطيعون إيماناً، ولا إسلاماً ولا طاعة.
والأغلال: جمع غل، وهو الحديد الذي يكون في العنق.
وقوله: ((إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ))، أي: إلى مكان اللحية أو الذقن، فكانت أيديهم مربوطة إلى هناك ورءوسهم مرتفعة، لأن المقمح رافع الرأس، لكونه لا يستطيع أن يحني رأسه؛ لأنه قد ربطت يداه في غله مع عنقه، فأصبح لا يستطيع تحريكاً، فلا يضع رأسه وينظر إلى الأرض، ولا تنزل يده فيتحرك، فأصبح مغلول اليد والعنق، ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29].
فالإشارة في جعل الأغلال إلى العنق، أي أن اليد ربطت بالأغلال إلى العنق والذقن فأصبح رأسه مرتفعاً لا يستطيع حراكاً ولا يستطيع أن ينظر إلى الأرض؛ لأن اليدين ربطتا إلى العنق بسلاسل، فهو لا يستطيع حراكاً، فحال هذا كمن غلت إرادته، وغل قلبه عن أن يهتدي ويؤمن بالله أو أن يقول كلمة التوحيد، كما يغل الأسير بيديه إلى عنقه فلا يستطيع حراكاً.(238/5)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سداً)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9].
وجعل بينهم سداً بكفرهم ومرض قلوبهم وفساد ضمائرهم، كمن جعل بينه وبين الهداية ورؤية النور سد أمامه وسد خلفه.
والسد: الحاجز يمنعه عن الحراك أماماً أو الحراك خلفاً، فهو كيفما تحرك يجد نفسه بين سدين، وقرئ: (سُداً)، وهي قراءة نافع؛ فإنه قرأها: (وجعلنا من بين أيديهم سُداً ومن خلفهم سُداً).
وقوله: (فأغشيناهم) أي: جعل عليهم غشاوة، فهم لا يبصرون ولا ينظرون ولا يستطيعون تصرفاً، فعميت منهم الأبصار وغلت منهم الأيدي إلى الأعناق، وجعل بينهم وبين الحقائق، وبينهم وبين التوحيد والإيمان سدوداً، سُداً من أمام وسُداً من خلف، ثم غشيتهم الظلمة لفساد قلوبهم وعظم جرمهم.
قوله: ((فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)) كقوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198]، فإذا لم تعم الأبصار فقد عميت البصائر، وكما قال ربنا كذلك: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، فأخذتهم غشاوة، ونشرت الظلمة فلم يعيشوا إلا في ظلام الشرك والكفر والمخالفة للنبي صلى الله عليه وسلم، والمخالفة لله فأقروا على ذلك، فكانوا في كفرهم وضلالتهم، كذاك الذي غلت يداه إلى عنقه، فلا يستطيع لرأسه تحريكاً، كذلك الذي جعل بينه وبين الأنام سدود فلا يستطيع أن يتقدم، ولا يستطيع أن يتأخر، ثم غشي عليه بالظلام وأخذه ظلام ظلله وغطاه وغشاه، فهو إذاً: في ظلام وسدود وأغلال من فوق ومن تحت ومن أمام ومن خلف.
قال تعالى: ((فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)) أي: لا يبصرون النور ولا يبصرون الحق، ولا يؤمنون بالله واحداً ولا بمحمد نبياً خاتماً صلى الله عليه وسلم، ولا بالقرآن إماماً، ولا بالنور نوراً، فهم يرون النور ظلاماً، ويرون الظلام نوراً، انقلبت في أعينهم الحقائق وأصبحوا لا يبصرون.(238/6)
تفسير قوله تعالى: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)
قال تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:10].
فهؤلاء قد أصبحوا في كفر وضلال وظلمات، فلم يعد ينفعهم إنذار، إن أنذرتهم بالنار استهزءوا وتضاحكوا، وإن أخبرتهم بالجنة استهزءوا وضحكوا، وإن قلت لهم: الله أكرمكم بنبي جمع فيه من الخلال ما لم يجمعه في أحد قبله تضاحكوا كذلك واستهزءوا، وسواء هددتهم بالعذاب أو لم تهددهم، دعوتهم للحق أو لم تدعهم؛ لا يؤمنون، فالضلال والهداية والنار والجنة والنبوءة والشعوذة في أعينهم سواء، أي: لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه ولا بدينه.
قال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11].
يقول تعالى: إنما نذارتك ووعيدك يفيد الذين آمنوا، تفتحت قلوبهم للسمع والوحي والإدراك، فإذا قلت لهم: قال ربنا، أرعوا سمعهم وأخذوا ينصتون إليك متمعنين مفكرين، وإذا شرحت لهم آية أو زدتهم بياناً فيها، تجدهم كلهم آذاناً مصغية، وتجدهم كلهم على غاية ما يكونون من الاهتمام بها؛ لأن قلوبهم ليست بمريضة؛ لأنهم لا يقارعون الحق ولا يحاربونه، بل كانوا ينتظرون هذا منذ زمن، ينتظرون هادياً من الله ونذيراً، ينتظرون رسولاً يأتيهم فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويرفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
فهؤلاء تفتحوا للحق وتفتحت آذانهم لسماعه ونفوسهم لقبوله، فهؤلاء وحدهم هم الذين يقبلون ويدركون والذين تفيد فيهم النذارة.
فقوله تعالى: ((وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)) أي: فهم على حالهم من الكفر ودوامه.
قوله تعالى: ((إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ))، أي: من اتبع القرآن واتبع محمداً عليه الصلاة والسلام، فالذكر: القرآن، والذكر: محمد عليه الصلاة والسلام، والذكر: السنة المطهرة.
قوله: ((وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ)) أي: خاف الله وهو في عتمة وغيب لا يراه أحد ولا يرى أحداً، فتراه يخشى الله ولا يرتكب كبيرة ولا يعصي ربه؛ لأنه يعلم أن الله يعلم ما في السر والعلن، والسر والعلن عنده سواء، فمن كانت علانيته كسره لا يعصي الله في خلوة، فتراه يؤمن بالغيب، ويؤمن بالله وهو لم يره، ويؤمن بالجنة والنار وهو لم يرهما، وآمن بأن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، وأنه ما قال إلا الحق، وأنه أتى على ذلك بالدلائل والبراهين القاطعة من المعجزات البينة التي لا ينكرها إلا أعمى البصيرة.
قوله: (وخشي) أي: خاف الله في الغيب كما خافه في العلن، وخاف الله ولم يره، وهو حاضر معه ناظر: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فتراه في آثاره: سمائه وأرضه، وكل ذلك أثر من آثار الله وخلق من خلق الله، فإن لم نر ذاته جل جلاله فقد رأينا آثاره في خلقه للسماوات وخلقه للأرضين وخلقه لأنفسنا.
قال تعالى: ((فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ)) هذا الذي خشي الرحمن واتبع الذكر، وقبل نذارتك ونبوءتك وهدايتك انتقل معه من النذارة والتهديد والوعيد إلى البشارة، قال تعالى: ((فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ)) أي: بشره بأن الله غفر له ما قبل الإسلام من وثنية وكفر، وبشره بما فعل في حال الإسلام عندما تاب إلى الله وأناب بأن الله يتوب على من تاب، فبشره بمغفرة ذنوبه وبأجر كريم.
والأجر الكريم: هو رضا الله ودخول الجنة ودوامها إلى الأبد.(238/7)
تفسير قوله تعالى: (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم)
قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12].
يقول ربنا: ((إِنَّا نَحْنُ نُحْييِ الْمَوْتَى)) الموتى قد يكون المراد بها الموت الحسي، أي: الموت بعد الحياة، ولكن سياق الآية يدل على أن الموت هنا هو موت الكفر.
((إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى)) بمعنى: نهدي الضالين إلى الصلاح، ونهدي الموتى عن الحق إلى الحياة للحق، كما يحيي جل جلاله الموتى حقاً، فإحياء الموتى بذواتهم وأجسامهم لا يستطيعه أحد إلا الله، ولا يستطيع ذلك من ادعيت له الألوهية، ولا من كان نبياً أو ملكاً أو رسولاً، فكل خلق الله أعجز من أن يخلقوا ذبابة، ولكن الله وحده انفرد بالخلق والتدبير والأمر جل جلاله، وما الرسل إلا مبلغون عنه، وما الملائكة إلا جنده ورسله.
قال تعالى: ((وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا)) أي: هؤلاء الذين ماتوا نكتب ما قدموا ونسجل عليهم، أي: يكتب الملكان المكلفان بهم ما قدموا في حياتهم من كفر أو إيمان، ومن صلاح أو فساد، ومن تقى أو مخالفة، ومن طاعة أو معصية، كل ذلك محصىً في كتاب يجده العبد يوم القيامة عند البعث والنشور، فهذا كتابه بيمينه فهو من أهل اليمين وأهل الجنة، وهذا كتابه بشماله فهو من أهل النار وغضب الله.
كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، فلن تخفى على الله خافية، بل يحصي كل شيء سبحانه.
قال تعالى: ((وَآثَارَهُمْ)) أي: نكتب آثارهم.
والآثار: جمع أثر.
وفسروا الآثار هنا بمعنيين: المعنى الأول: أن يموت الميت ويترك أثره فيكتب له، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
فالولد الصالح إن ربيته صالحاً يكون صالحاً، فتجده يدعو لأبيه ويقول: دعاني إلى التوحيد فاستجبت، وذلك أثر من آثار الميت، كذلك نشر العلم، فهذا العلم الذي ننشره ونشره أسلافنا من قبل ورويناه عنهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلى جبريل إلى رب العزة، توارثته البشرية أباً عن جد، فكل علم تعلمه إنسان يرجع أثره لشيخه، ومن شيخ إلى شيخ إلى المعلم الأول صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام لـ علي رضي الله عنه: (يا علي! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
فالإنسان من علّمه؟ ومن هداه؟ لقد هداه الله وعلمه بأثر من آثار من قبله، فتكون حسناته في صحائفه، ويكون ذلك أثراً من أثره، إذ يسجله الله -كما يقول هنا- لهذا الميت، فكما يكتب ما قدم من عمل يكتب ما ترك من أثر في الولد والعلم والمال الجاري في الوقف مثلاً يوقفه على العلماء والفقراء والمحتاجين والأقارب، فما من نفع يحصل من هذا المال إلا ويكتب ذلك في أثر هذا الميت حسنة من حسناته، يقول عليه الصلاة والسلام: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئاً)، فهو كذلك سنة من سنته، ومن هنا يقول الله لنبينا عليه الصلاة والسلام: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4].
فكل ثانية تمضي من الزمن يكتب في آثار رسول الله عليه الصلاة والسلام فيها إيمان المؤمنين من أتباعه، ودعوة الدعاة من خلفائه ووراثه، فمن يقول: لا إله إلا الله ويدعو إليها الخلق هو أثر من آثار النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه هو الداعي الأول، وهو البشير النذير، وقد تلقى عنه الخلفاء والصحابة رضوان الله عليهم، وعن الصحابة تلقى التابعون رحمهم الله وتابعو التابعين إلى عصرنا، وإلى يوم البعث والنشور.
المعنى الثاني: أن الأثر هو الخطى إلى المساجد: وقالوا: هذه الآية من هذه السورة مدنية، قالوا: وسبب نزولها أن عشيرة بني سلمة كانوا يسكنون في ضاحية المدينة بعيدين عن المسجد النبوي فقالوا: (يا رسول الله! نريد أن نسكن بجوارك لنكون أقرب إلى مسجدك، قال: لا تفعلوا ولا تعروا المدينة -أي: لا تتركوا ضواحيها- فكثرة الخطى إلى المسجد تكتب في آثار المصلي).
ونقول: هذا صحيح، ولكن ليس هذا هو التفسير فقط، فهذا يشمل من سن سنة حسنة، ومن ترك ولداً صالحاً وعلماً نافعاً، ومن ترك مؤلفات ينتفع بها، وترك طلاباً ينشرون العلم، ويهتدون به في أنفسهم، ومن ترك مؤمنين سمعوا قولته، واهتدوا بهديه، وساروا على ما دعاهم إليه، ومن ترك مالاً للفقراء والمحتاجين وقفاً، كل ذلك أثر من آثاره يكتبه الله في صحيفته.
فقوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} [يس:12] أي: ما قدموا من أعمال، إن خيراً فخير وإن شراً فشر مدة حياتهم.
قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]، أي: في اللوح المحفوظ، كل شيء من الخلق جناً وإنساً، وجميع ما في الكون من أحياء قد كتبه الله وسجله ودونه قبل خلق الخلق بألفي عام، فقد سبق أن قلت بياناً لكلام الله: إن اللوح لوحان: لوح لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولوح يمحو الله ما يشاء فيه ويثبت.
أما اللوح الذي من قبل الله، ولا يراه إلا هو جل جلاله؛ فهذا لا يبدل القول فيه كما قال ربنا.
وأما الذي من قبل الملائكة ينظرون إلى الأوامر والنواهي فينفذونها، فذاك يمحو الله فيه ما يشاء ويثبت، كأن تكون دعوة صالحة من أب في ظهر الغيب، أو دعوة صالحة من أخ مسلم في ظهر الغيب، أو صدقة يقبلها الله، أو دعاء استجيب، فهذا يغير ما قدر في الأزل، ولكن اللوح الذي من قبل الملائكة يمحو الله فيه الشقاء ويثبت بدلاً عنه السعادة، ويمحو الفقر ويثبت بدلاً عنه الغنى، ويمحو العز ويثبت بدلاً عنه الذل أو العكس، فذاك في اللوح الذي يمحو الله فيه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
فكل شيء أحصاه الله إحصاءً كاملاً، لا يشذ عنه شيء، لا شاذة ولا فاذة، ولا دقيقة من الأشياء ولا جليلة إلا وحصلت وكتبت في هذا الكتاب، فالإمام: الكتاب المحفوظ من قبل الله، ويسمى أم الكتاب.(238/8)
تفسير سورة يس [13 - 19]
لا يزال الله ينذر الأمم ويرسل إليها الرسل تباعاً لعلهم يذكرون، ومن ذلك أنه أرسل إلى قرية أنطاكية ثلاثة من الرسل يدعونهم إلى الله، فكذبوهم واطيروا بهم وهددوهم بالرجم والقتل.(239/1)
تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية)
قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس:13 - 16].
يقول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: اضرب لقومك مثلاً، واذكر لهم قصة ما أشبه وقائعها بهم، وما أشبه كفرها بكفرهم، وما أشبه تحديها لأنبيائها بتحدي عشيرتك لك.
قوله: ((أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ))، بدل من (مَثَلاً)، أي: اضرب لهم مثلاً أصحاب القرية ((إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ))، وهي قرية من القرى، أرسل الله لها من الرسل اثنين أولاً فكذبوهما، فقواهما الله بنبي ثالث، فأصبحوا ثلاثة أنبياء إلى قرية واحدة، ولم تفد رسالتهم الثلاثية شيئاً.
قال تعالى: ((فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ))، أي: قال المرسلون الثلاثة لأهل هذه القرية: ((إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ))، أي: أرسلنا الله لننذركم وندعوكم إلى عبادته وترك عبادة الأصنام.
قال أهل القرية: ((مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)) وهذه دندنة عرفت من الشعوب الماضية كلها ولا تزال.
فهم يتصورون أن النبي لا يكون إلا ملكاً، أو يكون خلقاً غير خلق البشر، كأن يكون إنساناً له رأسان، وله أربع أعين وعشرة أرجل، على شكل غير الشكل، ونحن نعرف بدواً أعراباً يسمعون بالملك، ولم يقدر أن رأوه إلا على كبر، فعندما رأوه صاحوا: أهذا الملك؟ لنا يد كيده، وعينان كعينيه، ويضحك كما نضحك، ويبتسم كما نبتسم، فقالوا: ليس هذا بملك؛ إذ إن تصورهم للملك أن يكون جثة بين السماء والأرض، إن كان للإنسان عينان فله عشر وهكذا، فهكذا قال هؤلاء: ((مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)) أي: لستم إلا بشراً مثلنا، لستم أنبياء ولا مرسلين.
وقالوا: ((وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ))، أي: ربنا لم ينزل شيئاً: ((إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ)).
فأجابهم الرسل: ((قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ))، يؤكدون بـ (إن) المشددة واللام الموطئة للقسم، أي: أرسلنا لكم خاصة لا لغيركم، والمعنى: بلى نحن مرسلون إليكم، أرسلنا الله لبشارتكم إن آمنتم، وبنذارتكم إن بقيتم على الكفر.
يكاد يجمع المفسرون أن القرية هي أنطاكية الموجودة الآن في أرض سوريا، ثم اختلفوا بعد ذلك، هل هؤلاء المرسلون رسل من قبل الله مباشرة أم هم رسل من قبل عيسى؟ وإنما قالوا ذلك بناءً على أن عيسى ما أرسل رسله وحوارييه إلا بأمر من الله، فمن قال: أنطاكية، وقال: هم رسل ثلاثة، قالوا: اسم الأول صادق، والثاني صدوق والثالث المعزز به اسمه شلوم، ومن قال هم رسل من عيسى قالوا: هم شمعون، ويوحنا، وأتوا بأسماء أخرى.
فهؤلاء الرسل جاءوا للقرية، جاء الرسولان الأولان وتخللا الشوارع والأزقة واختلطا بالناس وكان لها حاكم وثني وكلهم يعبدون الأوثان والأصنام، فذهب هذان النبيان الرسولان يدعوان إلى عبادة الله، والإيمان به، فأخذوهما ورموهما في السجن بعد ضربهما وإيذائهما فعززوا بثالث، فقبضوا على الثالث وفعلوا به مثلما فعلوا بصاحبيه؛ ضربوه ورموه في السجن.
ولكن ابن كثير يرجح أن القرية ليست أنطاكية المعروفة، فقد قال نقلاً عن كتب تاريخية: إن أنطاكية أسلمت أيام عيسى جميعاً، ولم يتخلف منهم أحد، وهذه القرية التي يذكرها الله كانت وثنية كافرة، ويخبر الله عنها: أنه دمرها في صيحة واحدة وأنهاها؛ لأنها قتلت هؤلاء الرسل الثلاثة، وقتلت من جاء يؤمن بهم.
والذين قالوا إنهم رسل ثلاثة من قبل الله مباشرة أو من قبل عيسى مراجعهم في الأخبار مراجع إسرائيلية، منقولة عن كعب الأحبار، وعن وهب بن منبه وابن عباس، فـ ابن عباس عرف بالسماع لـ كعب، وبالرواية عنه، والمحدثون يقولون: إذا عرف عن أحد من الصحابة أنه يسمع لهؤلاء وينقل من قولهم لا يعتبر قوله مما يقول عنه المحدثون: هذا القول لا مجال فيه للرأي، فيكون مرفوعاً، فاستثنوا من هذا من يروي عن الإسرائيليين، وكعب كان يهودياً وقالوا: إنه أسلم، وكذلك وهب بن منبه، والرواية في مراجعها جميعاً ترجع لهذين، وكعب كذبه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وكذبته عائشة رضي الله عنها، وكذبه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وكذبه معاوية بن أبي سفيان، وكذبه عمر، وقال عمر عنه: إنك ضاهيت اليهودية، وقال عنه ابن مسعود: إنه عاد لليهودية، وكذبه.
وما أسلم كعب إلا وهو ابن أربعين سنة بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام في سنته، وجاء أيام عمر فقال له العباس: أنت قد كمل عقلك وأنت رجل كهل ولست شاباً، وتسكن في اليمن قريباً منا، وقد جاءت وفود كثيرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فلماذا لم تأت والنبي حي يسمع منك وتروي عنه؟ وهكذا شكك فيه.
فعلى هذا فإن مرجع جميع هذه الروايات إسرائيلية، إذ لا حديث يثبتها ولا آية تؤكدها، وعلى ذلك فإن هذا القول نعتبره قولاً لا دليل عليه، فالآية تدل على أنهم مرسلون من الله لا بواسطة عيسى ولا بغيره، أما أسماؤهم فقد قال هؤلاء أيضاً: لم يصح عندنا في ذلك شيء عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
والله عندما يذكر قصة في القرآن لا يذكرها للحكاية والرواية، ولكن يذكرها لأخذ العبرة والحكمة منها، ولذلك فإن الأسماء لا شأن لها في القصة، وإنما يكفي أن يعلم أنه كان قبل نبي الله عليه الصلاة والسلام، وعلى ذلك فالقصة نرويها كما قصها القرآن، وأنها قرية قد تكون أنطاكية وغير أنطاكية، وقال ابن كثير: إن أنطاكية جاءها عيسى وأسلمت كلها، والآية لم تخبر أن هذا كان قبل عيسى أو بعده، بل إن عيسى لم يأت بعده نبي، إلا نبينا عليه الصلاة والسلام، بعد رفعه للسماء منذ 669 عاماً، فهؤلاء الرسل كانوا قبل عيسى، فلم يرسل عيسى شيئاً، فهم مرسلون من عند الله، والكلام كله عن الله، وهكذا نؤكد أنها قرية ولا نعلم اسمها، إذ لم يسمها رسول الله، ولم يسمها من أثبت ذلك عن الصحابة، والجمهور لم يرووا الإسرائيليات ولم يعتدوا بها.(239/2)
تفسير قوله تعالى: (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما)
قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} [يس:13 - 14].
أي: جاءهم المرسلون الثلاثة، وابتدأ الله الإرسال برسولين: ((فَكَذَّبُوهُمَا))، قالوا: أنتما لستما نبيين، بل أنتما تكذبان، فعزز الاثنين بثالث مؤازرة لهما، وقال الثلاثة: ((إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ))، أي: أرسلنا الله إليكم، ومن هنا تعلم أنهم مرسلون من الله، ولا شك أنهم كانوا قبل عيسى، فبعد عيسى لم يرسل نبي ولا رسول إلا نبينا عليه الصلاة والسلام.
فقوله: ((فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ))، أي: فقواهما وأيدهما وساندهما ربنا بثالث من الأنبياء، ولم يخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن أسمائهم، ولذلك فمن العقيدة أن نؤمن بالأنبياء الذين سماهم الله في القرآن بأعيانهم، وأن نؤمن بسوى ذلك إجمالاً، فنقول: لله أنبياء وهم فلان وفلان، ولله أنبياء لم يذكروا، فنحن نؤمن بهم إجمالاً كما ذكرهم القرآن، ولا نتزيد عن ربنا، ولا نتزيد عن رسولنا صلى الله عليه وسلم.
قال الرسل الثلاثة: ((إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ))، أي: قالوا لأهل القرية: أرسلنا إليكم لندعوكم إلى الله؛ لتتركوا الأوثان وعبادتها ولتتقوا الله وتتوبوا إليه، فأجاب هؤلاء وقالوا: ((مَا أَنْتُمْ))، أي: لستم أنتم: ((إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا))، أي: ليس لكم أي ميزة علينا ((وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ))، وهكذا كذبوا الثلاثة دفعة واحدة، ولم يؤمن بهم أحد إلا واحد، سيأتي الكلام عليه في نص الآية.
قال تعالى: {قَالُوا} [يس:16] أي: قال الرسل، {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس:16] أي: هو الذي أرسلنا، وأكدوا ذلك مقسمين، ولذلك فإن اللام يقال عنها: موطئة للقسم، فكأنهم قالوا: نقسم بالله إننا لرسل الله إليكم، وهو الذي أرسلنا لا سواه.
وقالوا أيضاً: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس:17]، أي: ليس علينا هدايتكم، والهداية ليست وظيفة للأنبياء، إنما وظيفة الأنبياء التبليغ، فقد بلغناكم، وهكذا أمروهم بعبادة الله وبترك عبادة الأوثان، فإذا بهم يسجنونهم، ويعذبونهم، ويمكرون بهم، وطال هذا سنوات ولم يؤمن أحد منهم.
فقوله: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس:17].
أي: الواضح البين، وقد بينوه ووضحوه.(239/3)
تفسير قوله تعالى: (قالوا إنا تطيرنا بكم)
فعندما عجزوا عن الحجة، وعن الدليل على تكذيبهم: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس:18].
أي: قالوا: تشاءمنا بكم، كنتم شؤماً وكنتم سوءاً، وكان ذلك زيادة في الابتلاء والاختبار، فقد أصيبوا بالقحط منذ أن جاءوهم، وحبست السماء خيرها، وحبست الأرض خيرها، وأصابتهم سنوات شداد، فقالوا لهؤلاء: جئتمونا مشئومين.
فقوله: ((إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ))، أي: تشاءمنا بكم، فلم تأتونا بخير، ولم نر خيراً في وجوهكم وسبيلكم.
قوله: ((لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا)) أيضاً اللام موطئة للقسم، فهم يقسمون: إن لم تنتهوا عن دعوتكم لنا، وحرصكم على إيماننا، وحرصكم على ترك الأوثان التي نعبدها: ((لَنَرْجُمَنَّكُمْ))، أي: يضربونهم بالحجارة حتى الموت، ويقتلونهم بأشد العذاب.
قوله: ((وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)) يقسمون أيضاً باللام الموطئة للقسم، (ليمسنكم)، أي: سيصيبونهم بأنواع من العذاب الأليم؛ رجماً وضرباً وإيذاء وجراً، وكل هذا قد ذكر، فأجابهم الرسل الثلاثة: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:19].
أي: شؤمكم معكم، فكفركم وعبادتكم للأصنام هو الشؤم، فبلاؤكم جاء منكم وليس منا، فنحن جئناكم بالإيمان والسعادة ورضا الله والجنة، والذي تعيشون فيه من عبادة الأوثان والكفر بالله والإشراك به؛ هو الذي كان شؤماً عليكم، فهو أعظم الشؤم الذي حبس عنكم المطر من السماء، وحبس الإنبات من الأرض.
((أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ)) أي: أتهددوننا بالرجم والقتل والعذاب الأليم بسبب أننا وعظناكم، فذكرناكم بالله، ودعوناكم إلى عبادته، فكل هذا اعتبرتموه مصيبة وجريمة، حتى الدعوة إلى الله لم تقبلوا سماعها، ولم تستجيبوا لها، فهذه عادتكم، أما أن تعاقبونا بالرجم والعذاب الأليم فهذا شيء عظيم.
فقوله: ((أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ)) أي: أتفعلون هذا لمجرد أنكم ذكرتم بالله، ووعظتم بدين الله، ودعيتم إلى عبادة الله الواحد، وترك الأصنام والأوثان؟! قال تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:19].
بل: إضراب عن القول الماضي، أي: لا تطير ولا طيرة، ولكنكم مسرفون؛ مسرفون في الشرك والظلم والجرائم والإيذاء لرسل الله وعباده المكرمين.(239/4)
تفسير سورة يس [20 - 30]
ولما كذب أهل أنطاكية رسل الله الثلاثة وسجنوهم، جاءهم من أقصى المدينة رجل يحثهم على الإيمان برسل الله ويحذرهم من تكذيبهم، فقتلوه وهو لهم ناصح، فعاقبهم الله، فأخذتهم الصحية جزاءً وفاقاً.(240/1)
تفسير قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى)
قال الله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21].
أرسل الله إلى أصحاب القرية رسولين فكذبوهما، فعززهم بثالث فكذبوا الكل وقالوا: لستم مرسلين، إن أنتم إلا بشر مثلنا.
وقد اختلف المفسرون: هل كانوا رسل الله أصالة، أو كانوا رسل عيسى إلى أصحاب هذه القرية، وهي قرية أنطاكية، فجاءوهم وقالوا لهم: آمنوا بالله، وأخلصوا له العبادة، واتركوا عبادة الأوثان، فبلغ ملك أنطاكية خبرهم فدعاهم وقال لهم: ما دليل نبوءتكم؟ وما معجزاتكم؟ وما الذي ستفعلونه لنا لنقبل ذلك؟ فقالوا: نحيي الموتى ونشفي المرضى.
فكان له ولد قد مات منذ أيام، فأحيوه بإذن الله، وكان له مريض فيه مرض مزمن قد طال عليه سنوات، وإذا بهم يشفونه بإذن الله وأمره، ومع ذلك ما زادت هذه المعجزات والدلائل هذه القرية وأهلها إلا جحوداً وكفراناً، وأخذوا يضربونهم ويؤذونهم، ويهددونهم بالرجم وبالقتل إن لم يتركوا دعوتهم لهم إلى الله وإلى ترك الأصنام.
وفي أثناء هذه المحاورة والأخذ والعطاء إذا برجل يأتي من أقصى المدينة وضواحيها، وكان رجلاً يعبد الله في الغار على طريقته، ولم يرسل له رسول، ولا يعرف كيف بعبد الله، وكان مريضاً بالجذام، وقد أهلكه، فجاء إلى هؤلاء الرسل فسألهم: من الذي أرسلكم؟ قالوا: الله جل جلاله، قال: وما علامة رسالتكم ونبوءتكم، قالوا: نحن نشفي المرضى، فقال: أنا مريض فادعوا الله لي بالشفاء، فدعوا الله له فعاد كيوم ولدته أمه، وزال كل مرضه، وأثره، وعاد كما لم يكن مريضاً قط، والتفت إلى هؤلاء وهم يؤذونهم ويضربونهم ويهددونهم وينذرونهم بأنهم إن لم يتركوا هذا فسيرجمونهم وينالون منهم بالعذاب الأليم.
قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20].
أي: فجاء مهرولاً مجهداً نفسه حتى وقف عليهم وحاورهم وأعلن إيمانه وإسلامه بهم.
قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20].
أي: التفت إليهم وقال لهم: يا قومي! ويا عشيرتي! اقبلوا ما دعوكم إليه من عبادة الله وحده وترك الأوثان والشركاء من دون الله.
{اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:21].
أي: هؤلاء الأنبياء الثلاثة جاءوكم وما طلبوا منكم أجراًَ ولا ثمناً على دعوتهم لكم وعلى رسالتهم إليكم، وقد جاءوا وهم مهتدون، أي: حال كونهم قد هداهم الله إلى الطريق السوي الحق، وإلى عبادة الله الواحد، وبيان أن ما عداه كله أضاليل وأباطيل، لا تضر نفسها ولا تنفعها، فكيف تضر وتنفع غيرها؟ فسألوه: أأنت مؤمن بهم؟ وهل تركت عبادة قومك وآلهة عشيرتك وآمنت بهم؟ فكان جوابه: نعم قد آمنت، ثم قال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ} [يس:22] وهذا استفهام إنكاري تقريعي توبيخي، ومعناه: أنه يوبخهم ويقرعهم بأنه عبد الله الخالق الرازق الواحد، وترك الأوثان والشركاء، فقال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس:22]، أي: خلقني على غير مثال سابق، والمعنى فما لي لا أعبد الخالق الذي خلقني وإياكم على غير مثال سابق، ونحن جميعاً إليه راجعون؟ فسنموت ثم نحيا ثم سنبعث يوم القيامة إلى الحشر والنشر والعرض على الله، فيحاسبنا على أعمالنا إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فمن يعمل خيراً يلقه، ومن يعمل سوءاً يلقه.(240/2)
تفسير قوله تعالى: (أأتخذ من دونه آلهة)
قال تعالى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23].
أي: أتريدون مني أن أتخذ مع الله آلهة لا تضر ولا تنفع، وهي آلهة مخلوقة جماد لا تحس ولا تشعر ولا تسمع شيئاً.
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} [يس:23].
أي: فإن عذبني الله وعاقبني فلا تستطيع آلهتكم هذه أن تنقذني من ذلك، ولا أن تكون نصيراً وولياً لي، فهي آلهة مزيفة باطلة لا تضر ولا تنفع، فأنا قد تركتها، واستجبت لدعوة هؤلاء المرسلين.
قال تعالى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23]، فلا تنقذني ولا تناصرني، ولا تدافع عني ولا أثر لها.
فالله جل جلاله يرحم المؤمنين الموحدين ويدخلهم الجنة، ويعذب الكافرين المشركين ويدخلهم النار، فإن أصابني ضر من الله على اتباعي للآلهة إن بقيت على عبادتها وإشراكها مع الله فهي لا تنقذني من عذاب الله، والله يعذب المشرك والجاحد كما يعذب كل كافر، وقد حرم الله جسده على الجنة.
قال تعالى: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23]، أي: لا يستطيعون الشفاعة ولا يدركون ذلك؛ لأن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله، وسواء كان المعبود جماداً وهو من الأصل لا يضر ولا ينفع، أو كان ملكاً كما كانت طوائف من الناس تعبد الملائكة، أو كان نبياً كما يعبد النصارى عيسى ومريم، أو كان جنياً كما يعبده الكثيرون، وحتى هؤلاء الملائكة أو الجن أو الأنبياء أو البشر كلهم لن يستطيعوا الشفاعة لكافر، بل ولن يستطيعوا الشفاعة حتى لمؤمن إلا إذا أذن الله، والله لا يأذن بالشفاعة للكافر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116].
فهذا العابد الصابر اسمه حبيب النجار، وعرف في التاريخ وفي السير بأنه حبيب صاحب آل ياسين، أي: صاحب سورة ياسين، لأنه كان المؤمن الوحيد الذي آمن بهؤلاء الرسل، وقال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23]، أي: لن يستطيعوا نفعي بشيء، ولن يستطيعوا إنقاذي من عذاب الله ومن ناره ومن غضبه.
قال تعالى: {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:24]، أي: إن أنا فعلت ذلك وأشركت واتبعت دينكم، وتركت الإيمان بالله وبما جاء به هؤلاء الرسل {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:24] أي: في خطأ وفي عماية وفي جهالة بينة ظاهرة لا تحتاج إلى دليل.
فأنا لا أعبد إلا الخالق الرزاق، وأترك عبادة الأشياء التي لا تضر ولا تنفع ولا تدفع من أحد، سواء كانت من الأحياء أو من الأموات والجمادات، فالأمر كله بيد الله، ولا يعبد إلا الله.
وهذا الذي قاله هؤلاء الأنبياء الثلاثة أنا معهم عليه، فأنا قد آمنت وتركت الشرك والأوثان ورجوت من الله المغفرة، وإن عدت إلى دينكم فأنا في خطأ وضلال ظاهر بين، ثم زاد وصرح وأعلن كما هو شأن المؤمن الثابت.(240/3)
تفسير قوله تعالى: (إني آمنت بربكم فاسمعون)
قوله: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:25]، فهو ليس ربي فقط، وإنما هو ربي وربكم، وقد آمنت به إلهاً واحداً وخالقاً رازقاً، بيده الخير كله، والشر كله، خلق الجنة والنار، خلقنا في الدنيا التي هي برزخ للآخرة، وخلق الآخرة للدوام، إما إلى جنة وإما إلى نار، فالنار للمشركين وعصاة المسلمين، من شاء الله أن يعذبه وشاء أن لا يغفر له، والنار للكافرين أبداً دواماً، فهؤلاء للأبد وهؤلاء للأبد فلا موت.
قوله: {فَاسْمَعُونِ} [يس:25].
أي: فاسمعوا هذا الكلام وافهموه، فأنا قد آمنت.
وقال هذا لما قالوا له: أأنت مؤمن بهؤلاء ومقر برسالتهم؟ وهل تركت دين قومك؟ فقال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22] إلى أن قال: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:25].
وفي هذه الساعة نفذ صبرهم، وانتصروا لشركهم وآلهتهم المزيفة الباطلة، فقاموا إليه ورجموه بالحجارة حتى الموت.
وقال الحسن البصري: ربطوه في حنجرته بعد أن أدخلوا فيها حديداً ورموه بالحجارة وعلقوه مصلوباً، كما قتلوا الأنبياء الثلاثة على ما ظهر منهم من بينات ومعجزات وعلامات على صدق رسالتهم ونبوتهم من إحياء الموتى وشفاء المرضى، ولم يخطر على بال أحد منهم أن يقول: إن هؤلاء ليسوا سحرة، فالساحر لا يحيي الموتى، ولا يشفي المرضى، وخاصة المريض المزمن، والذي يصاب بالجنون أو بالجذام، نسأل الله اللطف والسلامة.
فعندما مات قال له ربه: ادخل الجنة، وقال له الملائكة: ادخل الجنة، منعماً بلا حساب ولا عقاب؛ لأنه مات شهيداً في الدعوة إلى الله، وقد كان واقفاً بين هؤلاء غير عابئ بعصيانهم ولا بوعيدهم ولا بتهديدهم، وهذا مما أقرته شريعتنا ودعت إليه، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره فنهاه فقتله)، أي: الشهيد الثاني بعد حمزة من قام إلى سلطان أو حاكم جائر فدعاه إلى الله فأخذته العزة بالإثم فقام فقتله.(240/4)
تفسير قوله تعالى: (قيل ادخل الجنة)
قال تعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27].
فقد كان هذا الشهيد داعياً إلى الله في حياته وبعد موته، وقد كان يقول وهم يعذبونه ويمكرون به: (اللهم اهد قومي، اللهم أصلح قومي)، فعندما أفضى إلى ما قدم قيل له: ادخل الجنة، قيل: إنه انفصلت روحه عن جسده، فأصبح في الجنة مع {الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، فعندما دخل الجنة وتمنى أن يعلموا حقيقة ما ظنوا فيه السوء، فقال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} [يس:26 - 27]، أي: من الذنوب السابقة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الإسلام يجب ما قبله).
فقوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} [يس:26 - 27] أي: بالذي غفر لي ربي معه لتوحيده، وللإيمان بأنبيائه، فلا أشك بما أتوا به.
قوله: {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:27].
أي: أكرمني بالمغفرة، وأكرمني بدخول الجنة بلا حساب ولا عقاب، ولكن قومه لم يعلموا ذلك، ولو علموا لكان سبباً لهم في مسيرة خلودهم، وفي دخلوهم إلى الجنات.
وقال ابن عباس: لقد كان حبيب النجار يسكن خارج القرية، فلما سمع بالأنبياء جاء إلى أهل القرية ودعاهم إلى توحيد الله وعبادته.
فقوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس:13]، ضربه الله مثلاً للذين يدعون قومهم وعشيرتهم، وعلى رأسهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو مثال لكل داعية، فقد كان صلى الله عليه وسلم، يدعو الناس إلى الإيمان بالله، والإيمان بكتبه، والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر، والله ضرب هذا مثلاً للدعاة إلى الله.(240/5)
تفسير قوله تعالى: (وما أنزلنا على قومه من بعده)
قال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:28 - 29].
قال ابن جرير في تفسيره لهذه الآية: وما أنزلنا على قوم هذا المؤمن الذي قتله قومه لدعائه إياهم إلى الله ونصيحته لهم (من بعده) يعني: من بعده مهلكه، {مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} [يس:28].
أي: من بعد دخوله الجنة ما أنزلنا على قومه جنداً من السماء ولا ملائكة من السماء، (وما كنا منزلين) أي: وما كنا لننزلهم ونأمرهم بضربهم والقضاء عليهم، فقد كانوا أقل من ذلك.
(إن كانت إلا صحية واحدة) فقد أمر جبريل الروح الأمين أن يصيح بهم، فتزلزل بهم الأرض وماتوا.
فقوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:29]، أي: لم تكن هناك إلا صحية واحدة، فقد أمر الله جبريل أن يصيح أهل القرية، (فإذا هم خامدون)، أي: ماتوا جميعاً البتة ومضوا، وهدأت أنفاسهم وحركاتهم، فلم يبق منهم شخص قائماً.
وقد ضرب الله هذه القصة مثلاً لكل عشيرة وقبيلة وفرد إذا أصروا وفعلوا مثل هؤلاء المشركين، فإن الله سيفعل بهم مثل ذلك، ومثل ما فعل بالسابقين الأولين.(240/6)
تفسير قوله تعالى: (يا حسرة على العباد)
قال تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} [يس:30 - 31].
هؤلاء ضربت لهم الأمثال والأشباه لعلهم يتعظون ويعون ويرجعون يوماً إلى أنفسهم ما دامت الحياة تجري في عروقهم، فيؤمنون بالله، ويقولون: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
فهؤلاء ألم يسمعوا ويبلغهم ما جرى على الأمم السابقة الذين مزقهم الله ودمرهم في الدنيا قبل الآخرة، وذهبوا بين غريق ومرجوم من السماء ومصاب بالصرعة وبالصيحة ومن خسفت به الأرض، وسويت به.
وكل أولئك قد قص الله علينا قصصهم من قوم نوح إلى عاد إلى ثمود إلى مدين إلى فرعون وهامان إلى قوم لوط، فقد قص الله علينا كل ذلك، لنتخذ منهم عبرة، لا لنسمع قصة ونسمر عليها، ولذلك القصص لا تذكر الأسماء ولا التواريخ؛ لأن العبرة ليست بذلك، وإنما ذكرت لأخذ العبرة منها، ولذلك لم يذكر هنا أسماء الأنبياء الثلاثة، وكون المفسرين ذكروا لهم أسماء مثل: صادق وصدوق، وشمعون ويوحنا، إلى أسماء أخرى، فهذا لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما نقلوا هذه الأسماء عن كعب الأحبار ووهب بن منبه، وهم في الأصل كانوا أهل كتاب، فذكروا ذلك من كتب بني إسرائيل التي جمعت الغث والباطل والشرك وعبادة عزير، وعبادة العجل، وأنهم جميعاً أبناء الله، كما ذكروا ذلك في الإنجيل وفي التوراة، وجعلوا من التوراة والإنجيل كتابي شرك، وذكروا أنهم أبناء الله، وأن عيسى ابن الله، وأن مريم صاحبة الله، وأن العزير ابن الله، وأن العجل إلههم، وذلك من ضلالاتهم، فضلت أجيالهم من قبل؛ بما زادوا وأدخلوا عليها.
وأما حين جاء الإسلام فلا دين إلا الإسلام، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، ولم يقبل الله سواه، وهكذا بالنسبة لكل العالم من الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعده وإلى يوم النفخ في الصور، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، فهو النذير البشير، وهو الرسول المرسل من الله جل جلاله، لينذر ويبشر كل هذه العوالم منذ ظهر فيها في الأرض المقدسة، وقال له الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
فهذه القصص ذكرت لأمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ممن عاصره ومن أتى بعده وإلى يوم القيامة حتى لا يصنعوا مثل الأمم السابقة من تكذيب الأنبياء، وتكذيب كتب الله المنزلة عليهم، وتكذيب ما جاء به رسل الله الكرام.
قال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} [يس:28].
فلم نحتج لذلك، ولم نحتج في القضاء عليهم لإنزال جيش من الملائكة، وإنما أمرنا جبريل فصاح فيهم صحية فإذا هم خامدون هالكون ميتون، فلا حياة ولا حركة.
ثم قال تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [يس:30]، في قواعد لغة العرب ونظمها أن (يا حسرتي) كلمة تعجب، من الندم والحسرة، وهي نكرة، أي: يا ما أشد حسرتهم، وما أشد ندمهم، وما أشد عقوبتهم وأنكاها عليهم عندما يبعثون ويجدون أنفسهم قد تأكدوا أنهم كانوا في الدنيا ظالمين، فلم ينتهزوا حياتهم قبل موتهم، ولا شبابهم قبل شيخوختهم، ولا فراغهم قبل شغلهم، ولا صحتهم قبل سقمهم، حتى هلكوا وماتوا على الشرك وعلى الظلم.
قال تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس:30] أي: الذين أشركوا وماتوا مشركين في جميع الأمم، من أمة آدم وذريته، إلى أمة إدريس، إلى نوح فمن بعده.
والحسرة أشد الندم، فهم يندمون ويتفجعون على ما فات ولا يعود.(240/7)
ميزان الحق الاتباع وليس الأكثرية
قال تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ} [يس:30]، أي: لا يأتيهم رسول {إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر:11]، أي: يسخرون ويكفرون ويجحدون ولا يهزأ بنبي إلا كافر، فيستهزئون معناها: أنهم أشركوا بالله وكفروا برسل الله، وهذا كفر بالله.
أو ما جاءهم رسول من الله إلا استهزءوا به، وهكذا كل الأنبياء.
ولذلك يقول ربنا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
فأكثر أهل الأرض مشركون كافرون، ومن هنا علمنا أن نظام الأكثرية والأقلية في البرلمانات نظام يهودي، فهم يأتون إلى الأكثرية الجاهلية الظالمة الحمقى التي لا عقل لها، ويشترونها تارة بالمال وتارة بالنفود والسلطان وشهوات الدنيا ونزواتها؛ ليكونوا في صفهم وعلى رأيهم، والحق واحد لا يتعدد، ولو كان القائم به واحداً، ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام له أحكامه بين الخليقة كلها، وكان هو الجماعة، وهو الحق، ثم آمن به امرأة ورجل، وإلى بعد تسع سنوات لم يؤمن به أكثر من أربعين شخصاً، وكانت هذه القلة المؤمنة هي الحق، وهي الجماعة المأمورون نحن باتباعها.
فليس الحق بكثرة العدد ولا بكثرة الأصوات، ولكن الحق بالدليل والبرهان من الله، وأما هذه الندوات المزيفة والبرلمانات الكاذبة فهي نظم يهودية في أكثرها، يجتمع فيها الغث والجاهل والمأجور، ويقال لهم: ماذا ترون أنعود لشريعة الله فنحكم القرآن والسنة النبوية؟ فتقول الأكثرية: لا.
فيلغون الحكم بهما، وهذا شرع، فالمجلس التشريعي شرع أن القرآن والسنة لم يعودا صالحين للحكم، والله قد قال عن الهادين الصالحين: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14].
فليس الحق إلا مع من معه نص من قول الله أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الكثرة فهي على الضلال.
وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن أمتي بين الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود).
فهي قلة قليلة، ومع ذلك فأكثر سكان الجنة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمم السابقة كانت أديانهم قومية، ورسالات أنبيائهم قومية، فكان الأتباع قلة.
أما نبينا عليه الصلاة والسلام فكان رسول الكل، ونبي الخلائق من مشارق الأرض ومغاربها، أبيضها وأسودها، من عاصره ومن أتى بعده وإلى يوم القيامة، فلا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، فكانت أمته أكثر الأمم، وكان المؤمنون به أكثر من المؤمنين بغيره من الأنبياء من آدم فمن بعده إلى آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى عليه السلام.
وهكذا أمرنا صلى الله عليه وسلم أن ندور مع الحق حيث دار، لا مع الكثرة، فالكثرة في أغلب الأحيان تكون على الباطل والضلال، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].(240/8)
تفسير سورة يس [31 - 38]
يخاطب الله الكافرين الجاحدين لينظروا في عواقب أمرهم، وأن الله قد أهلك قبلهم من القرون كثيراً فلم يعودوا إلى الدنيا، ولكنهم سيبعثون يوم القيامة ويعرضون على الله للجزاء، ومن كان مكذبا بالبعث فلينظر في آيات الله وأنه يحيي الأرض بعد موتها، فكذلك يحييهم بعد موتهم.(241/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون)
قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} [يس:31].
أي: ألم تر قريش والعرب والناس في مشارق الأرض ومغاربها أنهم ليسوا بخالدين ولا دائمين، وأنهم لا محالة ميتون؟ فلم يتساءلوا يوماً لم خرجنا إلى هذا الوجود؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين النهاية؟ وماذا بعد النهاية؟ وقد أجاب الله عن ذلك في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
فما خلقنا هذه الدنيا التي هي مزرعة للآخرة وقنطرة إلى الآخرة، وبرزخ لها إلا لعبادة الله، وكما كنا أطفالاً في المدارس ننجح ونفشل، فهكذا الدنيا مدرسة، فمن نجح يوم القيامة أخذ كتابه بيمينه، وكان من الناجحين، وعند الامتحان يعز المرء أو يهان، ومن لم ينجح وكان راسباً أخذ كتابه بشماله، فكان أهل اليمين في الجنة، وكان أهل اليسار في النار.
ومن غريب ما يتلفظ به اليوم أن هل الضلال والباطل والإلحاد والكفر يقولون عن أنفسهم: إنهم يساريون، ويقولون عن المؤمنين الذين يؤمنون بالله وبرسل الله وبدعوة الله: إنهم يمينيون.
ونرجو أن نكون من أهل اليمين، وأن يكرمنا الله يوم القيامة بالجنة مع أهل اليمين، وأن نأخذ كتابنا باليمين، وأن يجنبنا أهل اليسار في الدنيا والآخرة، فكان قول هؤلاء إرهاصاً لما يستقبل من أعمالهم، إلا من تاب وأناب.
قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} [يس:31].
أي: من الأمم، ويطلق القرن على الزمن وعلى أهل الزمن، والقرن قيل: مائة سنة، وقيل: أربعون سنة، وأصبح الاصطلاح الجاري أنه مائة سنة، فنقول مثلاً: مضى على الهجرة النبوية 14 قرناً، فالقرن مائة سنة.
ومعنى الآية: ألم تروا كم أهلكنا من القرون، فأين الأمم والشعوب الماضية؟ لقد هلكوا مع من هلك، وماتوا وانتهوا وذهب بكفارهم إلى النار، وكان المؤمنون منهم قلة، وهم أهل الجنة، كما قال تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14].
فقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا} [يس:31] أي: ألم ير هؤلاء الكفار، {كَمْ أَهْلَكْنَا} [يس:31]، أي: أهلكنا كثيراً {مِنَ الْقُرُونِ} [يس:31]، أي: من العصور ومن الأجيال ومن الأمم.
{أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} [يس:31].
وهذا ينفي ما ادعاه أهل التناسخ من أنه في الدنيا تنتقل الروح من جسد إلى جسد، وأنهم يخرجون من الدنيا، فإن كانوا صلاحاً عادوا لجسد صالح، وإن كانوا فساقاً عادوا لجسد فاسق، أو بعثوا في شكل قرد أو كلب، وتلك عقائد الوثنيين وعقائد المجوس ممن يقولون بتناسخ الأرواح، والحق أنه لن يرجع إلى الدنيا أحد ممن مات فيها إلى أن يرجع الكل يوم القيامة، يوم العرض على الله، يوم البعث والنشور.(241/2)
تفسير قوله تعالى: (وإن كل لما جميع لدينا محضرون)
قال تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:32].
يقول ربنا: {وَإِنْ كُلٌّ} [يس:32].
أي: كل الخلق من البشر والجن والملائكة والمخلوقات.
{لَمَّا جَمِيعٌ} [يس:32].
(لما) بمعنى إلا، أي: ليس كل الناس إلا يوم القيامة محضرون بين يدينا، وعائدون إلى قضاء الله والفصل بين الخلق، فللظالم جزاؤه، وللعادل جزاؤه، فهذا إلى الجنة وهذا إلى النار.
وذكر الله عن هؤلاء الذين هلكوا في القرون الغابرة أنهم ستتبعهم قرون، ثم الكل ممن مضى قبل ومن لا يزال في عصرنا ومن سيأتي بعدنا كلهم محضرون، وكلهم ستحضرهم الملائكة بين يدي الله يوم القيامة للحساب والقضاء والفصل بينهم في أنفسهم بالنسبة لمن مات مؤمناً ومن مات كافراً، وبينهم وبين غيرهم بالنسبة لمن ظلم ولمن جار وسفك الدماء وهتك الأعراض وأكل الأموال بالباطل.
قال تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:32] أي: وليس كل هؤلاء إلا محضرون جميعاً بين يدينا، وسيبعثون ويعيشون بعد الموت، ويأتون يوم القيامة راضين أو كارهين للحساب، ليوم كان مقدراه ألف سنة مما تعدون.(241/3)
تفسير قوله تعالى: (وآية لهم الأرض الميتة)
قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس:33].
يقول ربنا: هؤلاء الذين أنكروا البعث والحياة بعد الموت، أفلم تكن لهم آية وعلامة ودليل وبرهان قاطع ما يرونه بأعينهم ويحسونه بأجسامهم من إحياء الأرض الميتة.
قال تعالى: ((وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ))، وقرئ الميّتة، وهما بمعنى واحد، أي: أفلم تكن لهم آية في الأرض؛ فأيام الشتاء تيبس أشجارها ويتحات ورقها وتصبح الأرض وكأنها لم تنبت يوماً، فإذا جاء فصل الربيع أخذت الأشجار في التلقيح، والأرض في الإنبات، ويرسل الله المطر والغيث، وإذا بها حية بعد الموت تهتز وتنبت وتربو وتصعد، فتنبت شجرها الذي يبس، وتنبت ما كان فيها من حب، ثم يصبح سنابل، ثم ثمر، ثم يصبح حباً وفواكه من كل نوع زوجان.
قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [يس:33] بالماء والمطر والغيث، {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس:33]، بعد أن أحياها بالمطر أخرج منها حباً من القمح والشعير وما إلى ذلك، فنأكل منه نحن ودوابنا ومواشينا، فنحيا بذلك ونعيش عليه، وهذا الحب والقمح أنبته وخلقه الله جل جلاله، ولا تستطيع قوة في الأرض أن تخلقه أو تخلق مثله، بل لو اجتمعوا على أن يخلقوا ذباباً لما استطاعوا، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب.
قوله تعالى: {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس:33] أي: منه يأكل الجاحدون والمؤمنون، ومنه تأكل دوابهم ومواشيهم وجميع الأحياء.(241/4)
تفسير قوله تعالى: وجعلنا فيها جنات من نخيل)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:34 - 35].
يذكر ربنا أنه جعل لنا من الأرض جنات وبساتين، فيها من الأشجار من كل نوع من الحب والفواكه والخضروات والثمار وكل ما يرجوه الإنسان ويشتهيه في الأرض، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [يس:34].
وذكر النخيل والأعناب لأنها ثمارها سيدة الفواكه، فالتمر طعام وفاكهة لنا ولدوابنا، وقد أثنى عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما سأل يوماً في المجلس: (أي الشجر هو كالإنسان لا فُضل فيه؟)، أو كما عليه الصلاة والسلام، وكان في المجلس عبد الله بن عمر وهو أصغرهم، فأخذ الحاضرون يقعون في شجر البوادي وكانوا من كبار القوم، كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الرعيل الأول يذكرون أنواع الشجر إلا النخلة لم يذكروها، إلى أن قال لهم عليه الصلاة والسلام: (هي عمتكم النخلة)، فقال عبد الله لأبيه عمر: والله يا أبي! لقد خطرت ببالي، ولكنني استحييت أن أقولها، قال: لو قلتها لكان أحب إلي من حمر النعم.
فقد أراد عمر أن يقول ولده هذه الكلمة؛ لتدل على ذكائه ونبوغه.
وقوله: (عمتكم النخلة) قالوا: لأن أبانا آدم خلق من تراب، وما بقي من صنعه وخلقه خلقت منه النخلة، فكانت أختاً لأبينا آدم.
والنخلة كلها: شجرها وجمارها وسعفها ينتفع منه، فالتمر يؤكل فاكهة لذيذة وحلوى، وما سوى ذلك يتخذ حطباً، والنوى تعلف به الإبل فتسمن منه وتقوى، وليس في التمرة ولا النخلة فضول أو زائد.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [يس:34]، فذكر النخلة لرفعتها والأعناب تأتي بعدها، ((وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ))، أي: ومن باقي الثمرات والفواكه كلها.
قال تعالى: {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} [يس:34].
فجر الله الأرض عيوناً؛ لتسقي هذه الثمرات، وليعيش بها الإنسان، ويتقوى عليها إلى أن يموت كما يموت كل حي.
قوله تعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} [يس:35].
خلق الله هذه البساتين والجنات والحبوب؛ ليأكل الناس من ثمرها -والثمر جمع ثمرة- ومن فواكهها ومن نتائجها ومما تنبت وتعطي، كما قال تعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس:35].
فهم لم يصنعوا ذلك بأيديهم وإنما الله هو الذي خلق التمر والثمر وكل نوع، والماء الذي نسقي به هو الذي خلقه، والتراب الذي ينبت هو الذي خلقه، واليد التي تحرثه وتستنبته هو الذي خلقها، والعقل الذي يفكر ويدبر ويخطط هو الذي خلقه، فالكل إذاً خلق الله، وليس لنا من ذلك شيء.
وإذا أراد الله أن يظهر فضله عليك خلق ونسبه إليك، كما قال تعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:35].
أي: قل لهؤلاء: إن هذه الثمار والجمال والسماء والأرض وما في أنفسكم وما رزقتم به؛ كل هذا من خلقه وصنعه، وإذا كان كذلك ولا يستطيعون جحوداً لذلك ولا إنكاراً أفلا يشكرون؟ وهو استفهام تقريري، أي: ينبغي أن يشكروه، والشكر يكون بالعمل وبالقول، ومن القول: لا إله إلا الله، وهي أعظم الشكر، والحمد لله، والشكر لله، ويكون بالعمل، مثل: الصلاة والصيام والزكاة والحج، وجميع الأعمال الصالحة التي هي عبادة لله، وكذلك ما كان خدمة لعباد الله وسعياً لمصالحهم.(241/5)
تفسير قوله تعالى: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها)
قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس:36].
يقول تعالى: (سبحان) يسبح نفسه وينزهها عن قول الكافرين والجاحدين، أو يتعجب، والعربي إذا أراد العجب قال: يا سبحان الله! أو سبحان الله! فإذا كانت بمعنى العجب فهي صحيحة، وإذا كانت للتسبيح والتمجيد فهي صحيحة.
فينزه الله نفسه ويتعجب: أمع كل هذا الذي تراه العين وتسمعه الأذن ويحسه البدن لا يزال هؤلاء على الكفر والجحود والفرار عن دين الله ودين رسوله صلى الله عليه وسلم وكتاب الله المنزل ورسوله المرسل صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟! يا عجباً لهؤلاء! أو أن الله يعظم نفسه، ويعلمنا أن نسبحه جل جلاله، ونصفه بكل كمال وننزهه عن كل نقص، وهو ربنا جل جلاله لا يشبه أحداً من خلقه ولا يشبهه أحد من خلقه، فليس كمثله شيء، ولم يكن له كفواً أحد.
والأزواج هنا: الأصناف والأنواع.
فالله خلق من كل صنف من مخلوقاته زوجين، مثل صنف البشر، وصنف الجن، وصنف الدواب، وصنف الحيوانات، وصنف الطير، وصنف الحشرات، وصنف الجمادات جبالاً ووهاداً وبراراً وبحاراً وسماءً وأرضاً، وخلق أول ما خلق الماء، وكان عرشه على الماء، ثم خلق بعد ذلك الأرض، وخلق من الأرض الكل، فأنبت من الأرض الإنسان والحيوان والنبات والثمر، وخلق أبانا آدم من تراب، وأمنا حواء من ضلع من أضلاعه، ثم بعد ذلك خلقنا نحن من نطفة، وخلقنا ذكراً وأنثى، وهكذا خلق كل الخلق، كما قال ربنا: {مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} [يس:36].
وخلق السماء وكانت جزءاً من الأرض.
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، وهؤلاء الضالون من أوروبا وأمريكا صعدوا إلى القمر، وأنزلوا بعض ترابه وحللوه فوجدوا أن التراب هي مادة القمر.
وقد أخبرنا الله منذ ألف وأربعمائة سنة وعلمنا أن السماء والأرض كانتا رتقاً، أي: قطعة واحدة وجزءاً واحداً، ففتقهما، أي: خلق منها السماء، وخلق السماء الثانية من الأولى، والثالثة من الثانية، وهكذا، والكل من الأرض من التراب.
قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} [يس:36].
وكذلك الله تعالى خلق منا نحن أزواجاً، فخلق من أبينا آدم زوجته حواء، ثم خلق منهما بواسطة النطفة ذرياتهما وأولادهما، وتزاوج الذكور والإناث، وهكذا دواليك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
قوله: {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس:36].
أي: خلق الله في الأرض خلقاً بعضه في قعر البحار، وبعضها في السموات مما لا نعلمه، ولم يره الآباء والأجداد ولم يحدثونا عنه البتة؛ إذ الدخول إلى قعر البحار إن تيسر في جهة لم يتيسر في الباقي، وإذا تيسر في الجهة التي ليست شديدة العمق فإنه يكون في لحظات لا تتجاوز وقتاً قصيراً، فما في البحار من خلق لا يعلمه إلا الله.
وقد قال ربنا: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} [الشورى:29]، أي: ما أودع في السموات وفي الأرض من دابة، والدابة ما يدب على وجه الأرض، ومعناه: أن في الأفلاك والسموات العلا خلقاً من خلق الله تدب على الأرض، وليست هذه صفة الملائكة، إذ الملائكة ذوو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وما شاء الله بعد، ولا تطلق الدابة إلا على من دب على وجه الأرض، على اثنتين أو على أربع أو على أكثر من ذلك.
قال تعالى: {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس:36] فقد خلق من الخلق ما لا نعلمه نحن ولا آباؤنا ولا أجدادنا، وإن عرف ذلك البعض فلا يعلمه البعض الآخر، ولا شك أن الكثير من خلق الله لا يعلمه جميع الخلق، والله يلفت أنظارنا لنعلم ذلك، ونزداد لله تسبيحاً وعبادة وإيماناًً بقدرته، وأنه القادر على كل شيء، فهذه الأزواج والأصناف من أنواع المخلوقات الذي خلقها ورزقها ودبرها الله جل جلاله، ولم يخلقها رئيس ولا شريف.(241/6)
تفسير قوله تعالى: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار)
قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37].
أي: ومن آيات الله على قدرته وعلى إرادته وعلى وحدانيته، الليل وسلخ النهار منه.
وقوله: {اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37].
أي: نكشف وننزع ونأخذ ونزيل، فالآية لهؤلاء الكافرين الجاحدين أننا نأتي إلى الليل والظلام الدامس فننزع عنه نوره وضياءه، فإذا الناس مظلمون، أي: في ظلام.
يقال: أظلم إذا دخل في الظلام، وأظهر إذا دخل في وقت الظهر، وأمسى إذا دخل في وقت المساء، وأصبح إذا دخل في وقت الصباح، قال تعالى: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37]، أي: إذا هم يعيشون في ظلام، إذا أخرج الرجل يده لم يكد يراها، ومع ذلك أولج الله الليل في النهار والنهار في الليل، وذكر الليل، وأن الله نزع منه ضياءه ونوره.
فقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37].
أي: ننتزع ونستخرج ونأخذ، فهو يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، فيأخذ النهار والضياء والنور وينزعه عن الليل فيصبح ظلاماً، ويصبح الناس في ظلام، وهذا لا يفعله إلا الله، ولا يستطيع أحد من الخلق أن يفعله.(241/7)
تفسير قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها)
قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38].
وهذه الشمس التي تجري ليلاً ونهاراً إذا غربت عن المشرق أشرقت في المغرب، وإذا غربت عن المغرب أشرقت في المشرق، وهكذا دواليك.
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام في مسجده النبوي وقد غربت الشمس، فدخل عليه أبو ذر الغفاري فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي ذر: (أين ذهبت الشمس؟ فقال أبو ذر: الله ورسوله أعلم؟ قال: ذهبت الشمس حيث قرارها، إلى تحت العرش تسجد، ثم تلا عليه الصلاة والسلام هذه الآية: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]).
فالشمس تجري إلى أن تغرب، فتذهب إلى تحت العرش، فيكون مستقرها، ثم تعود فتشرق، وهكذا يدور الليل والنهار، وقرارها تحت العرش.
وهكذا فسروا هذه الآية، وقال قوم: ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق، فهو لا يقول إلا الحق، ولكن الشمس مع ذلك هي دائماً تدور وتجري، ولا تكاد تشرق في أرض إلا وتغرب في أرض، فهي تجري دائماً، ومستقرها تحت العرش -كما قال عليه الصلاة والسلام- يوم القيامة عند نهايتها، عند فناء الأرض بأقمارها وبشموسها وبسمائها، وبكل من عليها.
وفي قراءة شاذة لـ ابن مسعود ولـ ابن عباس: (والشمس تجري لا قرار لها)، أي: تجري باستمرار وعلى الدوام ليس لها مستقر، واستقرارها يوم تفنى الدنيا في نهايتها، وهذا هو الذي فسروا به حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (تحت العرش تسجد) أي: عندما تنتهي الدنيا وتفنى، وفي الحديث الآخر في صحيح مسلم: (إن الشمس تجري لمستقرها تحت العرش فتسجد، فتستأذن الله في الطلوع فيأذن لها، إلى أن يأتيها يوم فتسجد، فتصلي وتغرب، فتستأذن في الشروق فلا يأذن لها، وإذا بها تشرق من مغربها، ثم تلا عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]) أي: عندما تشرق من مغربها.
وهي علامة من علامات الساعة الكبرى، وعندما تشرق من مغربها تتغير طبيعة الأرض، ويكون ذلك سبباً لانتهاء الدنيا وفنائها والقضاء عليها، وتصبح كلها كالعهن المنفوش، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
ومعنى قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]: وآية لهم أن الشمس تجري إلى قرارها وإلى نهايتها، وهي تجري أبداً وباستمرار منذ خلقها الله وإلى يوم القيامة، وتلك آية من آيات ربنا، وعلامة من علامات توحيد الله وقدرته وألوهيته، فأين هؤلاء الجحدة الكفار؟ وأين عقولهم وفهمهم ومداركهم؟ وكيف غاب عنهم ذلك؟ ولذلك فالله تعالى في كتابه يلفت أنظارنا ويأمرنا بأن نعمل عقولنا وفكرنا ووعينا لنفهم عن الله، وقد خاطب الله في كتابه العقل قبل أن يخاطب أي شيء، ونحن نستطيع بما تلاه الله علينا وأنزله على نبينا صلى الله عليه وسلم أن نأتي بالأدلة القاطعة التي لا ينكرها عقل على قدرة الله ووحدانيته.
وهنا خاطب الله نبينا صلى الله عليه وسلم، والخطاب له خطاب لنا، فمن أنكر ذلك فقبل أن نصفه بكفر أو شرك نصفه كما وصفه الله بقوله: {هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44].
وقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179].
قوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38] أي: جريانها إلى قرارها ومستقرها تقدير من الله جل جلاله، حيث جعل لها وقتاً وزمناً وقدراً لا تتقدم عنه ولا تتأخر، فإن حدث فذلك يوم القيامة، فهي تشرق وتغرب في زمن لا يتقدم ثانية ولا يتأخر، إلا ما كان من إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل، فيطول هذا ويأخذ من هذا، فيطول النهار ويأخذ من الليل، ويطول الليل ويأخذ من النهار، ويستويان بعد ذلك في زمن معروف معدود، وذلك علامة وآية على قدرة الله ووحدانيته.
فهذه مسلسل من الآي الكريمات، فالله جل جلاله يعلم بني آدم؛ ليروا أن الله جل جلاله خالق الكون ومدبره، وهو خالق الإنسان بما فيه من عجائب، وخالق السماء بما فيها من كواكب، وخالق الأرض بما فيها من جبال راسيات وبحار، وما عليها وعلى السماوات من خلق، تلك آيات من آيات الله، وتلك علامات على قدرة الله، لم يستطع ذلك أحد غير الله تعالى، فهذه المعبودات لا تضر نفسها ولا تنفعها فضلاً عن غيرها.
قال تعالى: ((ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)) والعزيز الذي من اعتز به عز، ومن اعتز بغيره ذل، وهو القادر على كل شيء بعزته وقدرته، والعليم هو العالم بكل شيء ظهر أو خفي، وما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.(241/8)
تفسير سورة يس [39 - 46]
يتابع الله ذكر الآيات والدلائل على قدرته ووحدانيته، ومنها تقدير منازل القمر طوال الشهر حتى يعود كالعرجون، ومنها أنه حملنا في أصلاب آبائنا المؤمنين في سفينة نوح عليه السلام، ولذلك يجب على المرء أن يؤمن وألا يعرض كما أعرض من قبله فدمرهم الله.(242/1)
تفسير قوله تعالى: (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم)
قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39].
وقرئ: ((وَالْقَمَرُ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ)) بالرفع.
منازل أي: مراحل ودرجات وأزمان، فالقمر يتنقل في منازل تعد ثمانية وعشرين منزلاً، هذا القمر يبتدئ هلالاً ثم يكبر إلى أن يُصبح قمراً في الليالي الأضحيانية في اليوم الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، ثم يتراجع بعد ذلك حتى يصبح كما كان، فقال الله تعالى: وكذلك جعلنا لهم القمر من المعجزات والبينات على قدرة الله وإرادته، وأنه القادر على كل شيء، والمقدر لكل شيء والعليم به.
فقوله تعالى: ((وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ)) أي: جعل له قدراً ووقتاً وزمناً لا يتخطاه ولا ينقص ولا يزداد، إلى أن ينتهي وينتهي معه العالم كله.
قوله: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}.
أي: كما كان يعود، كان هلالاً فسيعود هلالاً، ثم يختفي، ثم يعود، وهكذا.
والعرجون: عنقود التمر الذي فيه الشماريخ، ذلك العود الأصفر الذي يحمل العذق والعنقود من التمر إذا بلي وأصبح قديماً تجده قد انتهى، وأصبح على شكل الهلال، والله شبّه به القمر، والقرآن نزل بلغة العرب، فتشابيهه واستعاراته حسب قواعد لغة العرب.
وذلك العود الذي هو أصل العذق والعنقود من التمر الذي يكون فيه تلك الشماريخ عندما يُقطع من نخلته ويُترك حولاً تجده قد التوى واستدار، وأصبح كهيئة الهلال.
فقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] أي: فمن صنع ذلك؟ من خلقه؟ أليس ذلك علامة ودلالة على قدرة الله المنفرد بها، القادر على كل شيء جل جلاله وعز مقامه؟(242/2)
تفسير قوله تعالى: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر)
قال تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40].
الشمس أي: النهار، لن يدرك القمر ولن يدخل فيه، ولن تكون شمس وليل، ولا ليل وشمس، فإذا حصل ذلك فمعناه أن الدنيا قد آلت إلى البوار والفناء، وأنهى الله طبيعتها ونظمها فستصبح كالعهن المنفوش، فلا جبال ولا سماء، ولا أرض ولا وهاد، ولا شيء يتحرك، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
قوله: ((لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا)).
أي: لا ينبغي لها ولا يليق، وليس ذلك من قدرتها وإرادتها، وما أُمرت به وسخّرت له: أن تكون الشمس للنهار، وأن تكون الظلمة لليل، فلا هذا يسبق هذا، ولا هذا يسبق هذا، فإذا كانت الشمس فلا يكون الليل، وإذا كان الليل فلا تكون الشمس، فلا يسبق هذا هذا حتى يتداخلان ويصبح الليل نهاراً، لن يكون ذلك أبداً ولن يختلط.
ولذلك فإن كل ما في الكون خلقه الله على نظام دقيق بالثواني لا تزيد ثانية ولا تنقص، إلى أن يقدّر الله فناء العالم، وقد مضت دهور وعصور قبل أن يكون الدهر والعصر، وكان الله ولا شيء معه، وسيبقى ولا شيء معه، ثم خلق العرش، ثم خلق الماء، وكان العرش على الماء، وخلق الأرض والسماوات في ستة أيام، فما خلقه فهو على نظام كبير دقيق، وسيبقى كذلك إلى أن يشاء الله جل جلاله فناء العالم والكون.
((لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ)) أي: لن يدخل أحد في حساب أحد، ولن يكون ليل ونهار في آن وزمن واحد، فالليل بنظام، والنهار بنظام، وهما يجريان متتابعين أبداً وسرمداً، ويتسابقان ويبقى أحدهما سابقاً للآخر، ينتهي الليل فتشرق الشمس، وتغرب الشمس فيكون الليل.
فالمعنى: وآية أيضاً وعلامة ودلالة على قدرة الله هذه الشمس وهذا الليل اللذان لا يتداخلان، واللذان لا يخرب نظامهما، ولا يدخل أحدهما في الآخر، بحيث يصبح الليل نهاراً والعكس، ولن يكون ذلك أبداً، فإن كان فهي نهاية العالم عندما تُشرق الشمس من مغربها.
قوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40].
(وكل) أي: الشمس والقمر كلاهما، فالتنوين تنوين عوض.
(فلك): قال عبد الله بن عباس: فلك كفلك الرحى، أو كفلك المغزل وهو المحور.
فهذه الشمس وهذا القمر يجريان خلف بعض ما دامت الدنيا لم تفن، ولم يدمرها الله، ولم يقض بنهايتها، فهي هكذا باستمرار، القمر على حدة، والشمس على حدة، والقمر وما فيه يدور ويسبح في الفضاء، كما أن الشمس تسبح في الفضاء، لا يتداخلان ولا يخرب نظامهما ما لم يرد الله فناء العالم، وهكذا دواليك أبداً إلى أن يُنهي الله الكون ويفنيه: ((لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ)) أي: الشمس والقمر ((فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)) أي: في محور وفي مغزل، هذا خلف هذا، وهذا خلف هذا.(242/3)
تفسير قوله تعالى: (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون)
قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41].
يقول جل جلاله: ومن آيات الله وقدرته: ((أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ)) وقرئ: ((ذُرِّيَّاتِهِمْ)) وهي قراءة نافع وورش.
قوله: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41].
الفلك: جمع سفينة، ولا مفرد له من لفظه، فإذا أردنا المفرد نقول: سفينة، وإذا أردنا الجمع نقول: فلك وسفن.
والذرية تُطلق على الآباء والأجداد وتُطلق على الأبناء والأحفاد، وكل منا هو ذرية لأبيه، فأنا ذرية لأبي كما أن ولدي ذرية لي، وهكذا دواليك، والذرية من الذرأ أي: ذرأ الله الآباء والأجداد من آبائهم، وذرأ أولادهم وأحفادهم وأسباطهم منهم، ومعنى الآية: وآية لهم أنا حملنا آباءهم وأجدادهم الذين ذرأهم الله منهم في الفلك المشحون، وأل للعهد، أي: المعهود، وهو الفلك الذي حمل فيه نوح من آمن به وحمل نفسه، فالله جل جلاله يخبر أنه عندما عاقب قوم نوح بأن أغرقهم وأفاض عليهم الدنيا حتى غرقوا، وأنقذ نوحاً ومن آمن معه، وكما قال ربنا: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] فكان من آمن به قلة، قيل: اثنا عشر، وأكثر ما قيل: سبعون.
فنحن قد حُملنا في أصلاب آبائنا وأجدادنا عندما ركبوا مع نوح في السفينة، وعندما أغرق الله قومه الذين طغوا.
ومع طول المدة التي دعا فيها نوح قومه لم يستجيبوا، حيث لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم، إلى أن ضجر فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27] فاستجاب الله دعاءه، وصعد السفينة، ولم يصعدها أحد أولاده ممن لم يؤمن به، وغرق فيمن غرق، وهلك فيمن هلك، فنحن أبناء نوح ومن حُمل معه في هذه السفينة، فمن آيات الله أننا لم نفن قبل أن نوجد، ولو فني آباؤنا وغرقوا، ولم يحمل نوح من حُمل معه لما وجدنا نحن، لكن الله حملنا في سفينة نوح، وكنا نسماً وذراً في أصلاب الآباء والأجداد إلى أن تناقل ذلك وتسلسل إلى أبينا المباشر وأمنا.
وهكذا الله يلفت أنظارنا بهذا المعنى الدقيق، ويقول: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41].
(في الفلك) أي: في السفينة.
(المشحون) أي: المليئة العامرة بمن عمرها نوح، حيث عمرها بمن آمن معه، ومن كل خلق زوجين من الدواب والمواشي، ومن الطير والهوام، فكانت مشحونة مليئة عامرة، فنحن من ذرية وسلالة أولئك.(242/4)
تفسير قوله تعالى: (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون)
قال تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:42].
كانت سفينة نوح أول سفينة صُنعت في الأرض، حيث ألهم الله نوحاً لينجو عليها هو ومن معه من المؤمنين، وحمل من كل شيء زوجين؛ ليجدد الله الحياة على الأرض كما خلق آدم وجعل منه الأصلاب والذرية، فغرق من غرق، وجدد الله الحياة في هذه الأرض بما حملته سفينة نوح.
ومن هنا عندما نتكلم ونقول بأن النبي عليه الصلاة والسلام جعل لنا الحج وما فيه من المناسك إنما هي ذكرى لوجود إسماعيل وذكرى لولادته وخروجه، فإسماعيل جاء به أبوه مع أمه وتركه رضيعاً إلى أن كاد يموت عطشاً، فلم يجد ماء ليشربه، فذهبت أمه وهي تسعى بين الصفا والمروة لتبحث عن ماء، إلى أن رأت طيراً يُحلّق فوق الوليد فقالت: لا يكون الطير إلا حيث الماء، فجاءت تجري فوجدت ماء، فلو مات إسماعيل لما كان محمد، فإسماعيل هو الجد العالي بعد إبراهيم لنبينا عليه الصلاة والسلام، فكان السعي بين الصفا والمروة سبعاً نُسكاً من مناسك الحج وذكرى لذلك؛ لأن الله تعالى لو أمات إسماعيل لما كان محمد.
ورأى إبراهيم أنه يذبح ولده، قال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] فلو ذُبح إسماعيل لما كان محمد، وكان هذا في منى فأصبح رمي الجمرات في منى ذكريات، كلما رمينا وسعينا نذكر أنه لو ذهبت حياة إسماعيل لما وجد محمد، ولو مات إسماعيل في المرتين لما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وهذا من ذاك، فلولا أن الله أبقى آباءنا الذين آمنوا وأسلموا مع نوح وحُملوا في السفينة لما وجدنا نحن، فنحن حُملنا مع آبائنا ذراً في أصلابهم، إلى أن جاء هذا الوقت فخُلقنا وخرجنا إلى هذا الوجود.
ومن هذا قول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:219] فلا يزال الله تعالى يقلبه -كما قال النبي عليه الصلاة والسلام- من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة حتى خرج مصفى صلى الله عليه وسلم، وهذا كذلك من ذاك، حيث بقيت ذرية نبينا من أبيه إلى عدنان إلى إسماعيل إلى إبراهيم إلى نوح؛ وهذه الأصلاب تتناقل نسمته، إلى أن خرج صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوجود، سيد الأنبياء والرسل وخاتمهم عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:42].
أي: وخلق لنا بعد ذلك السفن على مثال سفينة نوح، فأصبحنا نقطع بها البحار والقارات ضرباً في الأرض للتجارة وطلب الرزق وطلب العلم، ولمعرفة آلاء الله في الأرض، ولمعرفة ما تبقى من الأولين وما قطع ممن خرّبهم الله وعاقبهم ودمّرهم؛ مما يزيد المؤمن توحيداً وإيقاناً؛ وهكذا السفن أداة لذلك.
وفُسِّرت كذلك {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:42] أي: خلق الإبل، والعرب تقول للإبل قديماً: سفن الصحراء، أي: ما تفعله السفن في البحار كانت تفعله الإبل في البراري.
ولكن الله قد قال لنا بعد ذلك -وهذا من المعجزات القرآنية التي أدركناها نحن ولم يدركها آباؤنا، وما أكثرها- حيث قال تعالى: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4] والعشار: الإبل الحوامل، وكان مفسرونا السابقون يفسرون هذه الفقرة من الآية الكريمة أنها ستنتهي الإبل، وبانتهائها ينتهي كل حي؛ إذ معنى ذلك أنه لا تبقى رحلة، ولا يبقى سفر، ولا يبقى من يضرب في الأرض! وليس الأمر كما ظنوا، فنحن نعيش اليوم والعشار قد عُطّلت، والدنيا لم تنته، نحن نعيش في بلد النوق والإبل والجمال؛ لكن من منا ركبها؟ من منا تنقّل عليها؟ آباؤنا كانوا يقطعون ما بين مكة والمدينة في عشرة أيام أو تزيد، ونحن نقطع المسافة الآن في نصف ساعة، ونحن طائرون في الجو، والعشار عُطّلت؛ فلم تجد إلا ما كان من بعض الجبال التي لم تصلها السيارات بعد، ولم تُصلح طرقها في أرض الإبل والنوق من مثل المغرب.
وقد أشار الله إلى ذلك في آية أخرى، عندما تعطل الإبل وينتهي عملها، فذكر لنا أنواع المركوبات فقال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] فقد قال حبر القرآن ابن عباس رضي الله عنه: ما عطف الله {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} على أنواع المركوبات حتى كان من جنسها.
قال هذا فهماً ووعياً، وقد صح هذا بعد ألف وأربعمائة عام أو قريب من ذلك، فنحن الآن نركب الخيل والحمير والطائرة والصاروخ والباخرة وجميع أنواع المركوبات مما كان بعضه لا يعلم عند أجدادنا، ومع ذلك نبقى نقول: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8].
ومن أنواع المركوبات ما نعرفه اليوم مما لم يكن يخطر ببال أحد من آبائنا قبل، وإن كان النبي أيضاً قد أشار إلى ذلك عليه الصلاة والسلام، وأن عيسى عندما ينزل إلى الأرض في آخر الزمان سينزل على دين محمد صلى الله عليه وعلى آله، فيأتم بإمام المسلمين، ويحج حج المسلمين، وأخبر أنه سيأتي مكة على غير الغلف، والغلف جمع غلوف وهي: الإبل الرواحل، وكونه لا يحج على الغلف معناه أنه يحج على الطائرات، وقد تكون الطائرات في وقته نوعاً آخر أسرع من هذه الموجودة الآن.(242/5)
تفسير قوله تعالى: (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون)
قال تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:43].
يخبر تعالى أنه عندما تكون هذه السفن في البحار إن يشأ يغرقها بهم، ويجعلها مواجهة لبلاء إلى أن تغرق بين أمواج البحار.
((فَلا صَرِيخَ لَهُمْ)).
أي: لا من يصرخ لهم ولا من ينقذهم وينجيهم من قدرتنا وإرادتنا.
{وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:43].
إذا لم يُنقذهم الله ولم يخرجهم من البحر فلن يخرجهم أحد، وكما أجاب عمرو بن العاص عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عندما سأله عن البحر؟ قال: يا أمير المؤمنين! هو دود على عود (على السفن) من دخله مفقود، ومن خرج منه مولود، قال: والله لن أُركب جندي ولا جيوشي البحار ما دمت حياً.
فخاف أن ينكبهم البحر، فيكونوا دوداً على عود، وأكثر ما فتح من العالم في أيام عمر، فهو الذي فتح الشام والعراق، وهو الذي فتح فارس، وهو الذي فتح المغرب ومصر، حيث كان البر متصلاً فلم يحتج إلى البحر، ولم يكن البحر وركوبه إلا بعد ذلك.
ولو تذكر عمر رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحاح: (ستخاض البحار بذكر الله وبلا إله إلا الله) لما منع ركوبه، فقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الإسلام سينتشر براري وبحاراً، جبالاً وتلالاً، وهاداً وسهولاً، صحاري وغيرها، عن طريق البحر، وقد كان ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام، وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.(242/6)
تفسير قوله تعالى: (إلا رحمة منا ومتاعاً إلى حين)
قال تعالى: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس:44].
أي: إلا إذا رحمناهم وأنقذناهم ولم نغرقهم.
قوله: ((وَمَتَاعًا)) أي: نفعل ذلك متاعاً نمتعهم به ((إِلَى حِينٍ)) أي: إلى اليوم الموعود وهو الموت.
فيمتعهم الله بالحياة وبما في الأرض من شهوات، وبما يكرم الله عباده من عبادة وصلة، ولكن كل ذلك لم يكن أبداً في دار الدنيا، ولن يكون إلا إلى أجل مسمى عنده لا يعلمه إلا هو؛ فهو جل جلاله يظهر امتنانه على عبده؛ ليشكر وليحمد، ويزداد إيماناً بالله أن هذه البحار سخرها الله لنا لنركبها على هذه الأخشاب وهذه الحدائد على أي شكل كان نوعها.
فنحن قد ركبنا البحار منذ ثلاثين عاماً إلى أن كثر الطيران بأنواعه فاستغنينا عن ذلك، فكنا نركب -وخاصة المحيط- وإذا بالموجة تكون كأنها الجبل، وترى السفينة تمر بين جبلين، ثم تتلاطم الأمواج وإذا بالسفينة كريشة في مهب الرياح، وقد مضت علينا أيام نرى أنفسنا فيها في حكم الموتى.
على أن هذا يكون كذلك في الطائرات، فكم تلاعبت بنا الرياح في الطائرات! وكم قضت بنا بين السحب والغمام! ولكن الله تعالى هو المنجي (ونعم الحادث الأجل) كما يقول المثل؛ فما دام الأجل لم ينته بعد، وساعة الموت لم تحن، فالمرء محروس بحراسة الله سواء ركب الأجواء أو ركب البحار أو ركب الصحاري أو أي شيء كان.
أما إذا جاء الأجل فقد يموت بغير سبب، وقد يموت بسكتة، وقد يموت بسقوط من أعلى.(242/7)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم)
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس:45].
أين جواب (إذا)؟
الجواب
أعرضوا عنه، وهو مفهوم من الآية الثانية.
((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ)).
أي: قيل لهؤلاء الكافرين الجاحدين، والمعنى: إذا قالت الملائكة، أو قالت أنبياؤهم، أو علماؤهم، أو قال الدعاة إلى الله لهم: {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} [يس:45] أي: اجعلوا وقاية من طاعة الله فيما بين أيديكم، وفيما سبق من معصية العصاة وطغيان الطغاة وكفر الكافرين، وقد أخذتم من تواريخهم وقصصهم عبرة، فأطيعوا الله واعبدوه، ولا تفعلوا المعاصي، ولا تخالفوا الله في كتابه، ولا النبي صلى الله عليه وسلم في سنته: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس:45] أي: إن أنتم فعلتم ذلك.
والجواب المفهوم من الآية أنهم عصوا وأعرضوا كما سيأتي في الآية التالية.(242/8)
تفسير قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم)
قال تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [يس:46].
أي: كما أعرضوا عندما أمروا من أنبيائهم ومن كتب ربهم، ومن دعوة علمائهم أن يتقو الله ويبتعدوا عما مضى في حياتهم من السوء، فأعرضوا عندما أتتهم آيات ربهم.
وفسّرت الآية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} [يس:45] أي: ما يستقبل من أيامكم.
(وما خلفكم) أي: ما سبق في الأيام الماضية أيام الكفر أو أيام المعصية، وعلى كل اعتبار فالمؤدى واحد، وهو أن الله أمر هؤلاء بأن يتوبوا لله عما مضى من ذنوب وفيما سيأتي منها، وأن يوحدوا الله كل حياتهم، وأن يكفروا بالأوثان والأصنام، وأن يخصوا الله وحده بالعبادة، فإن فعلوا ذلك حببهم الله إلى ذلك وحثهم عليه إن فعلوه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس:45].
و (لعل) في القرآن للتحقيق، على خلاف المعهود في لغة العرب: أنها للترجي، ولكن الله أكرم من أن يرّجي أحداً ولا يفعل، ولكن الآية في القرآن معلقة ومقيدة فيما إذا اتقى الإنسان الذنوب والمعاصي، وجعل بينه وبينها وقاية، ففعل الواجبات وترك المنكرات جميعها؛ لعل الله تعالى فيما مضى وفيما هو باق من حياته يرحمه إن فعل ذلك.
فقوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [يس:46] أي: على كثرة ما أتاهم ويأتيهم من آيات ومعجزات، ودلائل قاطعة على صدق أنبيائه وعلى قدرة الله وإرادته في كل شيء، فهو القادر على الخلق والإماتة، وقد رأينا ذلك في النبات والمطر، ورأينا ذلك في أنفسنا: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد(242/9)
تفسير سورة يس [47 - 54]
المال مال الله والخلق خلقه والرزق من إفضاله، وهو يمتحن الناس بالمال ثم يأمرهم بالإنفاق، لكن الكافرين يرفضون ويقولون: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه، وهم بذلك يكونون كفاراً جاحدين، وستأتيهم الصعقة فتأخذهم حتى يحشرون إلى ربهم فيعذبون.(243/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله)
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:47].
أي: وإذا قيل للأغنياء من هؤلاء كافرين أو منافقين أو بخلاء من المسلمين {أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [يس:47] أي: أنفقوا من مال الله الذي آتاكم، فالمال مال الله، والخلق خلق الله، وإنما نُعطي مما أعطانا الله، فلقد خرجنا إلى الدنيا عراة لا نملك ثوباً ولا مالاً، ولا نملك عقلاً ولا إرادة، ولكن بعد ذلك رزقنا الله العقل والقوة والمال والعلم، فلِمَ نبخل على خلق الله وعباد الله بما أعطانا الله؟! قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [يس:47].
أي: قال المشركون الذين جحدوا نعمة الله من البخلاء والعصاة، {أَنُطْعِمُ} [يس:47] أي: أنرزق {مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] أي: من لو يشاء الله رزقه، فنحن رزقنا الله، ولو شاء لهؤلاء الفقراء لرزقهم، فهل سنكون أكثر حناناً ورحمة عليهم من ربهم؟! وهذا كلام جاهل لم يعلم حقاً لنفسه ولا حقاً لربه، فالله قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [يس:47] فالرزق رزق الله، وقد جعل الله في المال الذي أعطاني حقوقاً أنا أمين عليها وكفيل بها، فهناك حقوق واجبة وفرض كنفقتي على زوجتي وأولادي، وكنفقتي على أبويّ إن كانا محتاجين إلي، وكالنفقة على الأقارب من الأخ والأخت، والخالة والعمة، والعم والخال، وهكذا الأقرب فالأقرب، فهذا المال جعل الله فيه حقاً واجباً هو رزق لأولئك، قال ربنا: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60] قال العلماء والمفسرون: هذه اللام لام التمليك، أي: جعل الله في مالي سهماً وجزءاً هو حق لأولئك، فعلي أن أُعطيها، فإن لم أفعل فللحاكم أن يأخذها بالقوة، وأكثر من ذلك إذا منع الفقراء عن أخذ حقوقهم وأموالهم التي مُنحوها.
قال فقهاؤنا الأربعة أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد والجماهير من علماء الصحابة فمن بعدهم: إذا تواطأ قوم على منع إعطاء حقوق الفقراء والمساكين، فللفقراء الحق أن يحاربوا الأغنياء ويأخذوا المال بالقوة، فمن مات من الممتنع فقد قتله سيف الإسلام فإلى سقر، وإن مات أحد من المطالبين بالحق فيُقتل قاتله.
وأول حرب أهلية في الإسلام كانت حرب أبي بكر رضي الله عنه مع مانعي الزكاة، وكان هذا بعد خلاف لم يتفهموه ولم يعوه كما وعاه أبو بكر، وقد قال عمر لـ أبي بكر: كيف نقاتل قوماً يقولون لا إله إلا الله والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟) فقال له أبو بكر: يا ابن الخطاب! أخوار في الإسلام جبار في الجاهلية؟! أليس من حق لا إله إلا الله أداء الزكاة؟ والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليها ما استمسك السيف في يدي.
إن الله قرن بين الصلاة والزكاة فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فالصلاة حق الله، والزكاة حق الفقراء والمساكين، فلا تصح صلاة بلا زكاة، ولا تصح زكاة بلا صلاة، فكل ذلك حق واجب، وكما أن الصلاة من تركها يُقتل فإن الزكاة من لا يؤديها تؤخذ منه جبراً، فإن تكتلوا وامتنعوا جميعاً يُقاتلون قتال البغاة.
قولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:47]: (إن) نافية، والمعنى: لستم إلا في خطأ بيّن ظاهر! هكذا يزعمون! وكما قيل: رمتني بدائها وانسلت، على أن المال الذي رُزقوه هو رزق الله ومال الله؛ ولذلك يقول الله {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33].
عن علي رضي الله عنه قال: إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء حقوق الفقراء في أموالهم، فحق على الله أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه.
والإسلام صارم في هذا، وليس هناك تردد، فإما الفعل وإما القتل أو القتال، وما الشيوعية في هذا العصر ومصادرة الأملاك إلا عقوبة إلهية لهؤلاء الأغنياء الذين اكتنزوا الأموال، ومنعوا الفقراء حقوقهم؛ فسلّط الله عليهم كافراً لا يرحمهم، وفاسقاً يأخذ أموالهم ويتهمهم بأنهم يسرقون ويزنون، وهكذا يصير حالهم إلى فقر وكأنهم ما ملكوا، ومع ذلك يهانون ويُذلون.
وليست الشيوعية ببعيدة عن أحد ما دام الأغنياء يمنعون الفقراء حقوقهم، ويمسكون عليهم أرزاقهم، ويقولون ما قال هؤلاء الكفار: (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه)، فالله قد شاء ذلك في مالك، وأمرك بذلك، وجعل حقوقهم عندك، ولو أدى الأغنياء الحقوق من أموالهم للفقراء لما وجد في المجتمع المسلم فقير ولا محتاج، هذا إذا أعطوا الحقوق الواجبة فقط، فكيف والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن في المال لحقاً سوى الزكاة)، فيجب أن يعطى الفقراء والمساكين من أموال الأغنياء دولة ومجتمعاً وشعباً، بما يسترهم من سكن عن أعين الناس وعن المارة وعن الشمس وعن القر والقيض، وبما يشبع جوعتهم، ويستر عورتهم، ويعالجون به مريضهم، ويعلمون به أولادهم، وهكذا إلى أن يهيئ الله للأصحاء منهم والقادرين عملاً، فإن لم يجدوا لهم عملاً فعليهم أن ينفقوا عليهم إلى أن يجدوا العمل أو يموتوا، ذاك حق من حقوق الله جعله للفقراء والمساكين ولبقية الناس.
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:47] زعموا زعمهم وكان هذا الزعم من الشيطان ومن فهمه، فقد ضلّوا ضلالاً واضحاً بيناً.(243/2)
تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)
قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يس:48].
أي: مع جدالهم في حق الله وحقوق الفقراء والمساكين تراهم قد عادوا إلى إنكار البعث، وإلى إنكار النشر والعرض على الله والحياة الثانية، ويقولون هازئين متضاحكين: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يس:48].
أي: الوعد بالقيامة وبالحياة الثانية، فمن أتى خيراً فله الخير، ومن أتى بالشر فله الشر.(243/3)
تفسير قوله تعالى: (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون)
قال تعالى: {مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس:49].
فهم لا ينتظرون أن يؤمنوا وأن يستجيبوا ((إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً)) وهذه الصيحة {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس:49].
والصيحات ثلاث، وإسرافيل هو الملك المكلف بهذه الصيحات الثلاث، فصيحة اسمها صيحة الفزع، والصيحة الثانية: صيحة الصعق، والصيحة الثالثة: صيحة الحياة بعد الموت.
وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن إسرافيل قد حنى رأسه على القرن والبوق الذي سينفخ فيه ينتظر أمر الله بذلك.
ونبينا هو أول علامة من علامات الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت والساعة كهاتين: وأشار بالسبابة والوسطى)، فينفخ إسرافيل النفخة الأولى وتسمى نفخة الفزع، أي: أنه يفزع لها كل حي في الأرض، فتجدهم فزعين ذاهلين، وإذ ذاك لا تقوم الساعة إلا على أناس لا يقولون: ربنا الله، ولا تقوم إلا على لكع بن لكع.
فهم يفزعون وتأخذهم أوهام وظنون: لعل هذا الذي بلغنا عن الآباء القدامى أن هناك نفخة وهناك وهناك! فقوله: ((مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً)) تكون من إسرافيل بواسطة القرن، وهو قرن الله أعلم بقدره، أما صوته فيزلزل الأرض حتى يكاد يقتلعها من مكانها.
{وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس:49] وقرئ: ((يَخَصَّمُونَ)) وهي قراءة ورش، ومعناها: يختصمون، أي: يتجادلون ويكونون في بيع وشراء، وأخذ وعطاء، وما يفعله الحي في مكتبه أو في سوقه أو في زراعته أو في داره أو في أي مكان، تأتي الصيحة وهو على هذا الحال؛ فتدعه مذهولاً واجماً لا يدري ماذا بعدها؟! {مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس:49] تأتيهم فجأة، والساعة لا تأتي إلا بغتة.(243/4)
تفسير قوله تعالى: (فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون)
قال تعالى: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:50].
وهنا تكون الصيحة الثانية صيحة الموت، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن الرجل تأتيه الصعقة وهو يحمل اللقمة إلى فيه فلا يكاد يضعها في فيه إلا ويموت، وتأتي الرجل وهو يبيع ويشتري وينشر الثوب وإذا به تبقى يده على الثوب واليد الأخرى على المال.
وهكذا يأتي الموت أحدهم في البيت قائماً، والثاني قاعداً، والثالث يمد يده، والآخر يذرع؛ وهكذا تفجؤهم الساعة وهم في شئون الحياة وإذا بهم قد صعقوا، قال الله عنهم: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:50].
فلا يستطيعون أن يوصوا بحقوق ومعاملات كما يوصي الميت عندما يموت، لم يبق هناك وقت ولا زمن، قد أُعجلوا عن ذلك.
{وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:50].
أي: ولا أن يرجعوا إلى عيالهم وأولادهم ليوصوا أو يموتوا بينهم، تأتي الوفاة هكذا ويأتي الموت.
تكون نفخة الصعق (الموت) فلا وقت للتوصية، ولا وقت للعودة إلى البيت والرجوع {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:50].(243/5)
تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون)
قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] وهذه النفخة الثالثة، وهي نفخة الحياة، ونفخة البعث بعد الموت، فينفخ إسرافيل وإذا الكل قيام ينظرون.
فقوله: (ينسلون) أي: يجرون، وجاء في الحديث أن ضعيفاً شكا لرسول الله عليه الصلاة والسلام ضعفه وما يصنع؟ قال: (عليك بالنسل) ومعنى النسل: الجري، أي: المشي بسرعة والهرولة، ويظهر أنه كان ضعيفاً لعدم التريض وعدم الحركة، فأمره بأن يتحرك ويمشي مسرعاً لعل أعضاءه تتحرك فيشفى ويعود إلى صحته.
((يَنسِلُونَ)) أي: يجرون بسرعة، ومنه النسل، فالأبناء للآباء يعتبرون نسلاً، وإذا بالولد تراه صغيراً فيغيب زمناً فتأتي إليه وتجده قد أصبح رجلاً وأباً، وهو قد جرى من الطفولة إلى الأبوة، ثم تغيب عنه قليلاً وإذا به تجده قد أصبح شيخاً ذا أسباط وأحفاد؛ وهكذا الحياة تجري وتسرع.
قوله: ((فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ)).
الأجداث: جمع جدث وهو القبر، أي: وإذا بهم يقومون من قبورهم يُتبعون إلى حيث العرض، وقد وردت أحاديث أن المحشر والمنشر سيكون في أرض الشام، فمن كان قريباً منها سيكون وصوله بقرب، ومن كان بعيداً منها سيتعب، ومع ذلك لا بد من الوصول طال الزمن أو قصر، وهناك يوم طويل كألف سنة مما تعدون، لو مشى من الألف سنتين مسرعاً على قدميه فسيصل لا محالة، وكم أتى من أناس للحج على أرجلهم من مشرق الأرض ومن مغربها وقد وصلوا ولا شيء عليهم.
قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51].
أي: إذا هم يجرون إلى ربهم وإلى العرض عليه والقضاء إلى أخذ الظالم بظلمه، وإلى مكافأة المحسن برحمته وجنته إلى أن يقفوا بين يدي الله، واليوم شديد قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] يشتد عرق الواقفين المعروضين على الله يعرقون عرقاً حتى يغرق بعضهم في غرقه إلى ركبته، والبعض إلى سرته، والبعض إلى جميع ترقوته ويبقى غارقاً ولن يموت؛ لأنه انتهى الموت، ولكن يبقى يعذّب، وتكون هناك منقبة وفضيلة في هذا اليوم، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون يوم القيامة أطول الناس أعناقاً)، فمن لم يفهم الحديث يقول: وما فضيلة طول العنق؟ أهو شيء جميل؟ وفضل هذا هو عندما يعرق الناس يوم العرض على الله تجد هذا مهما غرق في عرقه تبقى عيناه ومنافذ وجهه بعيدة عن الغرق، وذلك ببركة ما كان يدعو به بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح، ذاك يوم المؤذنين، ومن قبل الله منهم طاعتهم وعبادتهم.(243/6)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا)
قال تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52].
أي: يقوم هؤلاء الكافرون الذين كانوا ينكرون البعث وهم يرون أنهم قد عاشوا بعد الموت ما كانوا ينكرونه، ثم عادوا وعاشوا في واقعه، فينادون إذ ذاك بالويل والثبور: يا ويلهم! يا ويلهم! أي: ما ينتظرهم من عذاب، والويل: هو مناداة، وهو نهر من القيح والصديد في النار؛ فكأنهم يستعجلون ذلك بغير قصد، فتجد الإنسان إذا تعجب أو خاف من عذاب أو ويل وهو في مستقبل أيامه تجده ينادي: يا ويلاه يا ويلاه يا مصيبتاه! قوله: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52].
أي: من أقامنا؟ من أحيانا؟ من بعثنا وأعادنا للحياة ونحن رقود في هذه الدهور والأزمان المتطاولة.
قوله: ((مِنْ مَرْقَدِنَا)).
المرقد معناه: أنه كان ممداً امتداد الراقد والنائم؛ وهذا ينافي ما هو معلوم من الدين بالضرورة عند من يفهم هكذا، فإن الكافر والعاصي يبقى في قبره يعذّب في روحه إلى أن يُبعث مرة أخرى، ويعذّب جسداً وروحاً، فكيف يهرب من الرقود؟ معناه كان مرتاحاً.
وقد فسّروا الآية بتفسيرين: فـ ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري والجمهور قالوا: المعنى أن هذا الرقود كان يعتبر عذاباً بالنسبة إلى حالهم في الدنيا، أما العذاب المقبل -عذاب النار- الذي وصفه: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] فهذا الرقود وهذا العذاب في القبر يعتبر راحة بالنسبة لذلك العذاب.
وقال البعض: وردت آثار في أن ما بين كل نفخة ونفخة أربعون عاماً، فالنفخة الأولى للصعق إلى البعث تبقى أربعين سنة، وفي هذه الحالة يرتفع عنهم العذاب، فيرقدون في راحة لم يروها منذ ماتوا، وإذا بهم عندما يبعثون ويعود النفخ مرة ثانية يتمنون أن لو بقوا رقوداً، وهم قد رأوا البعث والحياة الثانية وكانوا ينكرونها، وقد علموا ما ينتظرهم من عذاب وغضب: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] أي: من موتنا.
وإذا بهم بعضهم يجيب بعض: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52].
اعترفوا بعد فوات الأوان، وندموا ولات حين مندم، فلا ينفعهم بعد ذلك إيمان، ولا ينفع الإنسان إيمانه إلا إذا كان حياً وقبل أن تصل الروح إلى الحلقوم؛ أما في يوم القيامة فلا ينفع الإيمان بالآخرة وهو يراها، ويعيش بحضورها، هيهات هيهات أن يكون ذلك.
وقوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52].
أي: هذا وعد الله قد ظهر وتم من الحياة الثانية، ومن البعث والنشور بعد الموت، فها نحن قد بُعثنا وقمنا من قبورنا.
قوله: ((وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)) أي: صدق الأنبياء الذين أرسلهم الله بهذا، وأن هناك حياة ثانية دائمة لا موت فيها، فمن كان في النار فإلى أبد الآباد، ومن كان في الجنة فإلى أبد الآباد، هذا الذي وعد الرحمن ووعد الله جل جلاله.
فقوله: ((وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)) أي: الذين جاءونا بهذا وبلغونا إياه.(243/7)
تفسير قوله تعالى: (إن كانت إلا صيحة واحدة)
قال تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:53].
هذه هي الصيحة الثالثة، ((إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً)) أي: ليست إلا صيحة واحدة في بوق أو في قرن إسرافيل المكلف بذلك، {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:53].
(فإذا) فيها معنى المفاجأة وهي بمعنى: الاستمرار، ومضى معناها غير مرة في الكثير من الآيات.
قوله: ((فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ)).
أي: فإذا جميع الخلق من آدم وحواء إلى آخرهم في الأرض.
قوله: ((مُحْضَرُونَ)) أي: كلهم يحضرون بين يدي الله ويعرضون على الله للحساب إما إلى جنة وإما إلى نار، إما أن الملائكة قد ساقوهم أو ألهموا ذلك؛ فكان الله هو الذي أخبرهم وأبلغهم جل جلاله بما ألهمهم في ذلك، وإن كان المعنى الأظهر بأن الملائكة قد أخذوا يسوقونهم من العرض على الله إلى الحساب والقضاء والحكم بين العباد.(243/8)
تفسير قوله تعالى: (فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون)
قال تعالى: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54].
هذا هو الفصل والقضاء، ((فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا)) أي: لا ظلم اليوم، والله قد حرّم الظلم على نفسه وحرمه على عباده، ففي الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، ويقول جل جلاله مع هذا الوعيد والتهديد يوم البعث كما وعد أنه لن يظلم أحداً: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
ويبقى فضل الله بالنسبة لمن مات على التوحيد، والموحد الذي مات على التوحيد لن يخاف طال زمانه أو قصر، وقد يغفر الله له ذنوبه، وقد يدخل النار زمناً ثم يعود فيدخل الجنة؛ أما الكافر فقد حرّم الله عليه الجنة، ولا توبة له، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48].
((فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا)) والشيء: كلمة تطلق على كل موجود حتى الذرة، كما قال الله في آية أخرى: ((فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) فمن أتى بالخير فله الخير، وله الرضا والجنة، ومن جاء كافراً وقد أصر على الكفر إلى أن هلك فله النار والجحيم، فمن في النار مخلد فيها أبد الآباد، ومن في الجنة مخلد فيها أبد الآباد، والموت يذبح فلا موت بعد ذلك.(243/9)
تفسير قوله تعالى: (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون)
قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:55 - 56].
نحن الآن نتكلم وندخل في الكلام على من أنعم الله عليهم، وعلى من مات على الدين والتوحيد، والكفر بالأوثان والأصنام، وهذا صنيع الله دوماً وسنته التي ما تغيرت في كتابه، حيث يكون الكلام على الكافرين مع الكلام على المؤمنين؛ لكي يعيش المؤمن ولا يغتر، ولا يأمن مكر الله؛ ولكي يعيش الكافر ولا ييئس فيرجو رحمة الله، وكما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو علم الكافر ما عند الله من رحمة لطمع في رحمته وجنته، ولو يعلم المؤمن ما عند الله من نقمة وعذاب لشاب وخاف ألا يدخل الجنة)، ولذلك يعيش الإنسان دائماً بين خوف ورجاء، وبين طمع وخوف.
قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس:55].
يقول ربنا: أما أهل الجنة فهم اليوم في نعيم، والذي يعذب هم أولئك الذين يدخلون النار أبداً وسرمداً، وأهل الجنة هم أصحابها الذين ماتوا على الإيمان مطيعين له في حياته مؤمنين بأنبيائه مطيعين لهم.(243/10)
تفسير سورة يس [55 - 67]
بعد أن ذكر الله حال الجاحدين الكافرين يوم القيامة أتبع بذكر أهل الجنة وأنهم في شغل فاكهون، وأن من خالف فاتبع الشيطان وعبده، فإنه يكون من أهل جهنم، والله تعالى قد رفع عن هذه الأمة الخسف والعذاب العام، ولكن الجزاء يوم القيامة للجميع.(244/1)
تفسير قوله تعالى: (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون)
قال الله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس:55 - 57].
الله جل جلاله كما يقرن المؤمن بالكافر، يقرن الكافر بالمؤمن في الكلام، فيبشر المؤمنين بما أعد لهم في الجنات، وينذر الكافرين بما أعد لهم في النيران والجحيم.
ومضى الكلام على أولئك الجاهلين الكافرين، والآن نتكلم في بيان حال أهل الجنة، فقال ربنا جل جلاله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس:55].
أي: إن سكانها وأهلها المقيمين فيها هم في شُغُل.
وقرئ: (شُغْل فاكهون)، أي: مسرورون ومشغولون بالنعيم المقيم الدائم مما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم تشته نفس، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وفيها من كل فاكهة زوجان، وهم فيها أبد الآباد ودهر الداهرين لا يملون.
وأما الكفار الجاحدون الذين كانوا في دار الدنيا يستهزئون بالمؤمنين، وكانوا يشركون بربهم، فها هم اليوم في العذاب المقيم.
وقوله: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ).
أي: هؤلاء المؤمنون يسكنون الجنة هم وأزواجهم ممن كن على طريقتهم ديناً وإسلاماً وطاعة وإيماناً.
وقوله: (فِي ظِلالٍ).
الظلال: جمع ظلة، ويوم القيامة لا شمس ولا حر ولا قر، والظلال هناك أشبه بالصباح قبل أن تشرق الشمس، وأشبه بالعشي حينما تصير الشمس على رءوس الجبال والتلال، هكذا وصف الجنة، لا حر ولا قر، ليس فيها شمس، وإنما هم في الظلال الدائم المستمر.
وقوله: (عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ).
الأرائك: جمع أريكة، والأريكة السرير إذا كان عليه ظلته وحجلته، تلك التي ترى في السرير من فوق، فهم على الأرائك والسرر في غاية ما يكونون من النعيم، وفي غاية ما يكونون من اللذة والتمتع مع الحور العين، وهناك ولدان يخدمونهم كأنهم اللؤلؤ المكنون، وهم دائمون في هذا النعيم.
وقوله: (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ) أي: لهم فيها من أنواع الفواكه مما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان، فيها من جميع ما تشتهيه النفس، وتلذ العين مما أكرمهم الله به.
والأمر كما قال عبد الله بن عباس: كل ما ذكر في الآخرة من النعيم ليس منه في الدنيا إلا الأسماء، وما عدا ذلك الله أعلم بحقيقته، ولكنه مع ذلك فيه لذة تتمتع بها جميع حواس الإنسان جسداً وروحاً، ولكن تلك اللذائذ وتلك المتع وذلك النعيم المقيم ليس مما في الدنيا شيء يشبهه.
وأتم النعم وأتم اللذائذ رؤية وجه الله الكريم جل جلاله، فهم على السرر متكئون، لهم مساند يستندون عليها من الحرير والديباج الذي يكون في الجنة لمن لم يلبس الحرير في الدنيا، هم متكئون على سرر، وهم في نعيم دائم، وهم في ظلال لا حر فيها ولا قر، ولم يتفرغوا لمكالمة أهل النار ولجوابهم لما هم فيه.
وقوله: (وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ) أي: لهم فيها ما يدعونه وما يطلبونه مما يخطر ببالهم، فهو يحضر في الحين، ولا يرد لهم طلب، حتى إن الشجرة المثمرة المثقلة بأنواع الفواكه، إذا اشتهاها ساكن الجنة إذا بها تتدلى إليه، يأخذ منها بغيته وغايته ورغبته، وإذا اشتهى أكل الطير تجده يقع بين يديه مطبوخاً مشوياً على الطريقة التي يريد، وهكذا بقية اللحوم، وكذلك الفواكه وبقية اللذائذ مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.(244/2)
تفسير قوله تعالى: (سلام قولاً من رب رحيم)
قال الله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58].
أي: يسلم عليهم الله جل جلاله، وفي الحديث النبوي الثابت في مسلم: (أن الله يتجلى على سكان الجنة بنور يكاد يخطف الأبصار، فيقول لهم: هل تريدون شيئاً؟ هل تطلبون شيئاً؟ هل أزيدكم؟ فيقولون: يا رب قد رضيت علينا وأعطيتنا من كل ما نتمناه، ومن كل ما يخطر في بالنا، فماذا عسى أن نزداد؟ قال: أريكم وجهي، وإذا بالله الكريم يتجلى لهم فيرونه، فيكون ألذ شيء لهم في الآخرة).
فرؤية الله ألذ من الطعام والشراب واللباس والحور العين وكل ما في الجنة، وتلك هي اللذة الروحية التي إذا حصلت لهم داموا في لذتها وداموا في نعيمها، وعندما أخبر عليه الصلاة والسلام أصحابه أنهم سيرون ربهم، قالوا له: (يا رسول الله! كيف نرى ربنا وهو واحد ونحن كثير؟ قال: كما ترون القمر لا تضاهون فيه)، القمر نراه واحداً، ونحن نعد بملايين، بل نعد بالمليارات مع كونه واحداً ونراه جميعاً ولله المثل الأعلى.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تضارون في ذلك) وقد قال ربنا جل جلاله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وجوه ترى عليها نضرة النعيم والعافية والنعمة والسرور والبهجة، وفي هذه الحال هي إلى ربها ناظرة، تنظره بأبصارها، وكيفية هذا النظر لا يعلمه إلا الله، وكل ما يخطر ببال فربنا مخالف لذلك، لا يشبهه أحد من خلقه، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، وما قال ربنا كائن لا محالة، وما أخبر به نبينا كائن لا محالة؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
وقد قال قوم من شراح الآية: تقول الملائكة وهي تستقبل أهل الجنة عند الدخول: سلام عليكم من ربكم، وليس هناك تعارض ولا تناقض، فالله جل جلاله يسلم عليهم إكراماً لهم ورضاً عنهم، ومع ذلك فالملائكة يسلمون عليهم من ربهم، ويبشرونهم بأنه طابت حياتهم.
فقوله: (سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) أي: ربنا الخالق الرازق الرحيم بعباده، من استرحمه رحمه، ومن استغفره غفر له، وهكذا أهل الجنة يكونون في رحمات من الله متتالية متتابعة، وفي رضاً من الله دائماً أبدياً.
هذه صفة أهل الجنة.(244/3)
تفسير قوله تعالى: (وامتازوا اليوم أيها المجرمون)
قال الله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59].
خاطب أهل الجنة بالرحمة والرضا من الله وملائكته، وهنا أهل النار خوطبوا باللعنة والغضب والسخط الدائم.
فقوله: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59]، أي: ليمتز شريركم من خيركم وليبتعد عنه، أي: تميزوا أيها المجرمون عن المسلمين وابتعدوا عنهم، وافترقوا عن أهل الجنة؛ لأنه لا صلة لكم بهم ولا صلة لهم بكم.
ويوم القيامة يتفرقون ويتصدعون، وتصبح الخلائق فرقتين: فرقة أهل الجنة، وفرقة أهل النار، لا يليق إذ ذاك بالكافر الجاحد المجرم أن يقف مع المسلمين أهل الرضا وأهل الجنة؛ لأن أهل الجنة أشرف من ذلك، وأهل النار أقل وأحقر من ذلك، فيأمرهم الله أن يتميزوا عن المسلمين، أن يتميزوا عن أهل الجنة، ويبتعدوا حتى يساقوا من قبل ملائكة النار، ويسبحون على وجوههم إلى النار خالدين أذلاء ملعونين، ولا يكون ذلك إلا إذا تميزوا عن المحسنين، وأصبح المسلمون في جانب والكافرون في جانب.
وقوله: (أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي: الذين أجرموا في حياتهم بخلافهم لأنبيائهم، وبعصيانهم لربهم، وبخروجهم عن طاعة الله ورسله.
فقد آن الأوان بأن يعاقبوا.(244/4)
تفسير قوله تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان)
قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60].
أي: ألم آمركم وأنزل كتباً عليكم بواسطة أنبيائكم، فقد كانوا يأمرونكم بعبادة الله وتقواه، ويأمرونكم باتخاذ الشيطان عدواً، فهو لكم عدو، ويأمرونكم بأن تعبدوا الله وحده، وكانوا ينهونكم عن عبادة الشيطان وطاعته واتباعه في الكفر، والخروج عن أمر الله وأمر الأنبياء وطاعتهم.
فقوله: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) استفهام توبيخي تقريعي، أي: قد كان ذلك، فقد آن الأوان لأن يقرعوا ويوبخوا ويعاقبوا، وذلك بأن يسحبوا إلى النار.
فالله جل جلاله يعيد عليهم ما أنزله على أنبيائهم، وما أمرهم به أنبياؤهم.
وقوله: (يَا بَنِي آدَمَ) كلنا بنو آدم منذ آدم وإلى آخر إنسان في الوجود.
وقوله: (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) وعبادة الشيطان طاعته، وكل كافر وعاص وخارج عن أمر الله وعن دين الله الحق وعن أوامر نبيه هو عبد للشيطان؛ لأنه أطاعه فتعبده، وأصبح من حزبه ومن أنصاره.
وقوله: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي: إنه لعدو لبني آدم، وعداوته بينة ظاهرة، من يوم أن أخرج أبويهم من الجنة، ومن يوم أبى أن يسجد لآدم، وقد خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم استكبر وقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، تعاظم بأصله، وتوهم أن النار أفضل وأعظم من النور.
وهكذا يتعالى الناقصون المجرمون بأحسابهم وأنسابهم، وقد تكون تلك الأنساب وتلك الأحساب آباء مجرمين، وأجداداً مجرمين من الكفار أو من الجاحدين، أو من أنصاف المسلمين في أقل تقدير.(244/5)
تفسير قوله تعالى: (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم)
قال تعالى: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:61].
قوله: (وَأَنِ اعْبُدُونِي).
أي: أن اعبدوا الله وخصوه بالعبادة، وأطيعوه كما أمركم، والأمر الإلهي بالنسبة للمؤمن المسلم من شيعة النبي وأتباعه عليه الصلاة والسلام، أن نصلي لله خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن نصوم شهراً من العام، وأن نزكي عن أموالنا، وأن نحج مرة في العمر، وأن نقصد بيت الله الحرام حاجين طائفين ساعين، واقفين في عرفات، رامين للجمرات، ونحن نقول: لبيك اللهم لبيك!، وأن نترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن نأتي من الأوامر ما نستطيع أن نطيقه، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا).
وقوله: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ).
أي: هذا الدين الذي أمر به نبيه، وأرسله به إلى الناس كافة هو الطريق المستقيم، وهو الطريق السوي الذي لا عوج فيه، وليس فيه بنيات للطريق، وجاء في الحديث: (أن النبي عليه الصلاة والسلام خط خطاً، ثم جعل في جوانبه خطوطاً منعرجة، وقال: هذا الخط المستقيم هو الإسلام، وتلك الخطوط هي بنيات الطرق التي يدعو الشيطان فيها أولياءه وأنصاره وعابديه).
وقد قال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (لقد تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).
فالطريق المستقيم هو الإسلام، وهو ما نداوم عليه في كل ركعة من الفرائض والنوافل في الصلاة، فنقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7].
والذين أنعم الله عليهم هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم على ذلك من المؤمنين والمسلمين.
وقوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) أي: ليس طريق اليهود ولا صراطهم.
وقوله: (وَلا الضَّالِّينَ) أي: ولا صراط النصارى الذين ضلوا الطريق كذلك.(244/6)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62].
أي: قد أضل الشيطان الذي عبدتموه منكم خلقاً كثيراً.
وقرئ: (جِبِلًّا) و (جُبُلًّا) في القراءات السبع.
وقرئ: (جُبْلا).
وفيها روايات.
والجبل: الخلق الكثير، كيف وقد أكد ذلك بالكثير، والمقصود أنه أضل خلقاً كثيراً.
فأضلهم الشيطان عن الصراط السوي، وعن الإسلام البين الواضح، وعن طاعة الله وأوامره في كتابه، وعن طاعة رسوله في سنته وحكمته، وأضل الكثير على مدى الدهر، منذ آدم إلى نبينا وإلى عصرنا وسيبقى كذلك، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، أي: أكثر الأمم وأكثر الناس قد ضلوا الطريق، وعبدوا الشيطان، وتركوا عبادة الله.
وقوله: (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ).
هذا استفهام توبيخي تقريعي، أي: ألم تكن لكم عقول؟ كيف تطيعون من عاداكم، ومن أخرج أبويكم من الجنة، ومن ألزم نفسه أن يفرغ حياته ووجوده وسلالته لإضلالكم وإفسادكم؟! هو يريد أن يخرجكم من الجنة إلى النار، إلى أن تصبحوا معه في النار خالدين أبداً، أليس لكم عقول؟ لقد أنذركم الله وأنبياؤه من الشيطان، وأنه عدوكم، فلا تحققوا ظنه فيكم عندما قال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} [النساء:119]، وقد ألزم نفسه بما ألزم، وطلب من ربه أن ينظره وأن يؤجل موته إلى يوم الدين، وقد استجاب الله له؛ ليكون ذلك فتنة للناس، وليعلم الله المؤمن من الكافر، والصادق من الكاذب، وهو ابتلاء واختبار.
والمعنى: أليس لكم عقول تميزون بها بين الصديق والعدو، بين المحب والكاره؟ فهذا نبيكم دعاكم إلى الله، وهو الحريص على إيمانكم، وهو الذي قال الله له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8].
فالنبي عليه الصلاة والسلام تألم لنا، وتوجع من أجل أتباعه ممن لم يؤمن منهم، أو عصى ممن آمن، وما هذا إلا لأنه رحمة ومحب، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
لقد تركتم الحبيب صلى الله عليه وسلم، واتبعتم الشيطان الذي أضلكم وأركسكم وأوقعكم فيما أوقعكم فيه.(244/7)
تفسير قوله تعالى: (هذه جهنم التي كنتم توعدون)
قال تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [يس:63].
أي: هذه جهنم التي طالما أنكرتموها، وطالما سخرتم عندما أنذركم بها أنبياؤكم، فأنتم الآن فيها نتيجة كفركم وعصيانكم لأنبياكم، ونتيجة طاعتكم لعدوكم.
قال تعالى: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس:64]، أي: هذه جهنم قد احتوتكم وسحبتم إليها سحباً، فقد أصبحوا فيها في العذاب الخالد الدائم السرمدي، كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.
والذي صنع بكم هذا هو عدوكم الذي عبدتموه وأطعتموه وعصيتم خالقكم وأنبياءكم، فادخلوها واصلوا نارها، واحترقوا بلهيبها، وتعذبوا بما فيها من أنواع العذاب الدائم السرمدي.
وقوله: (بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ).
أي: بسبب كفركم، وبسبب جحودكم، وبسبب خروجكم عن ربكم وعن أنبيائكم، هذا جزاء الذي ترك السبيل واتبع العدو، وجزاء من ترك أمر الله الخالق الرازق، وأبى إلا أن يعبد الشيطان العدو المضل، فالشيطان قد أضلكم الضلال الذي أوصلكم إلى ما أوصلكم إليه.(244/8)
تفسير قوله تعالى: (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم)
قال الله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
فقوله: (الْيَوْمَ) أي: يوم القيامة، يوم العرض على الله.
جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، فقال لأصحابه: أتدرون لم ضحكت؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: من أناس يجادلون ربهم، فقد حل عليهم القول) هؤلاء جادلوا ربهم عندما حوسبوا، وعندما عرضوا عليه، وقيل لهم: كفرتم وأشركتم وآذيتم وأفسدتم وصنعتم وصنعتم؛ فأخذوا يقسمون: عشنا مطيعين، عشنا مؤمنين، لم نشرك قط، وأخذوا يقولون: إنك يا ربنا حرمت الظلم، فقال لهم: من تريدون أن يشهد عليكم؟ فأشهد عليهم أنفسهم، فقد ختم على أفواههم، واستشهد الأيدي والأرجل والجلود والأفخاذ، وقال لها: ما صنع صاحبكن؟ فيقلن: كذب وافترى، وأشرك وكفر وعصى وزنى وسرق وفعل وفعل، وهو لا يجيب، ثم يطلق الله لسانه، فيقول ليديه ولرجليه: بئست شهادتكن أشهدتن علي، وما كنت أنافح إلا عنكن؟ فقلن: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء.
وهكذا يقول ربنا هنا: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ).
أي: يختم على أفواههم فتغلق، فلا يستطيعون الكلام بعد أن شهدوا زوراً على أنفسهم، وكذبوا الملائكة الذين كتبوا عنهم ما كتبوا، وكفى بالكرام الكاتبين عليكم شهوداً، وكفى بأنفسكم عليكم اليوم شهيداً، وإذا بالأيدي والأرجل تتكلم، وإذا بالجلود تتكلم، والله يعيد لهذا المجرم كلامه ولسانه، فيذهب يخاصم نفسه بنفسه، كالمجنون عندما يضرب خده وجسده وأعضاءه بيديه ورجليه، لم شهدتن علي وعنكن كنت أناضل؟! وقوله: (أَفْوَاهِهِمْ) مفرد فم، والكلمة لا تكون إلا بالإضافة.
أي: إلا باتصالها بالهاء مثل: فوه، وفاه.
وقوله: (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ) أي: بالشهادة عليهم وتكذيبهم.
وقوله: (وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) أول ما يشهد من ذلك الفخذ اليسرى كما في صحيح مسلم، لأن هذه الأفخاذ تكتب للسوء وتكبت للفاحشة، فتكون أول شاهد على صاحبها.
وقوله: (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) أي: بما كسبوا حال حياتهم، وبما ارتكبوا من موبقات وإجرام، وبما استحقوا أن يقال عنهم: إنهم المجرمون كما خاطبهم الله أو خاطبتهم ملائكة الرحمن بذلك.(244/9)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا)
سألني فاضل من الحضور عن معنى قوله تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52].
فقوله: (قَالُوا) أي: قال هؤلاء الكافرون عندما بعثوا وكانوا ينكرون البعث: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) أي: من أيقظنا ومن أعادنا؟ ومن أوجدنا وأحيانا؟ وهم كانوا ينكرون أن تكون هناك عودة ورجعة وحياة بعد الدنيا، وبعد موتهم.
وقوله: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ): قال الجمهور: أي: أخذ بعضهم يجيب بعضاً وهم يتساءلون ويقول بعضهم لبعض: يا ولينا من بعثنا وأحيانا بعد هذا الرقود الطويل والموت الطويل، فيجيب بعضهم بعضاً: هذا ما وعد الرحمن! فهم تذكروا أن أنبياءهم نزلت بكتب من الله جل جلاله، وأن الإيمان باليوم الآخر والإيمان بالبعث عقيدة من العقائد، فمن أنكرها أنكر الإسلام وأنكر الدين وأنكر الأنبياء والكتب.
وقوله: (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) اعترفوا حينئذٍ ولن يفيدهم اعترافهم، كما قال ربنا: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، فهم اعترفوا بعد فوات الأوان.
وقال بعض المفسرين: الذي قال ذلك هم المؤمنون، قالوا لهم مقرعين موبخين: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ) أي: هذا الذي كان يتلى عليكم حال الحياة في الكتب المنزلة على أنبيائكم، وكنتم تنكرون ذلك.
وقيل: قالت ذلك الملائكة زيادة في الحسرة والألم والإيجاع؛ قالوا لهم: هذا ما أنكرتموه ووعدكم الرحمن به، وصدق المرسلون الذين نطقوا بهذا عن الله.
ولكن الجمهور من مفسري الآية قالوا: هم قالوا ذلك؛ لأنهم عندما بعثوا، رجعت لهم ذكراهم وعقولهم، وأن هذا الذي كانوا ينكرونه سبق أن وعدوا به في حال الحياة، وقال لهم الأنبياء منذ آدم إلى نبينا: إن الإيمان بالبعث والنشور حق، وإن من لم يؤمن بذلك كان كافراً لا محالة، فهم كانوا يتساءون: كيف نعيش بعد أن نصير رمماً وتراباً وبعد أن نفنى؟ كيف نعود للحياة ثانية، وتعود إلينا أجسادنا وعقولنا؟ فهم ماتوا على الإنكار ثم بعثوا، فعندما بعثوا تذكروا أن هذا هو الذي كانوا ينكرونه، فأخذ يقول بعضهم لبعض زيادة في الحسرة والألم والندم: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ).
إذ ذاك تحققوا من وعد الرحمن، وأنه كائن لا محالة، وتأكدوا من صدق المرسلين، ولكن هذا الاعتراف لن يفيد، بل الروح ما دامت في الجسد قبل أن تصل الغرغرة تفيدها التوبة إلى الله، أما إذا وصلت الروح إلى الحلقوم، ورأى ملائكة الموت، لم ينفعه ذلك.(244/10)
تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم)
قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} [يس:66].
أي: لو شاء ربنا وهو القادر على كل شيء، الفعال لما يريد، والخالق لما يريد جل جلاله، لو شاء لطمس أعين هؤلاء وهم لا يزالون في دار الدنيا، ولو شاء لجعلها مطموسة فلا يعميها فقط، بل يجعل مكان العين كالجبهة، فيطمس مكانها ألبتة بحيث لا يبقى لها وجود فتصبح هناك جبهة وأنف وفم، وأما العيون فلا أثر لها.
قوله: (فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ) أي: أخذوا يتسابقون في الطريق، ولكن كيف يبصرونه ولا بصر لهم؟ ولا يفيدهم هنا علاج ولا طبيب، إذ لا عين يعالجها، فالطبيب لا يخلق العضو، ولكن الطبيب كالكهربائي إذا انقطعت الأسلاك ربطها بعضها ببعض، وإذا احترقت تلك الأسلاك جددها، وأما أن يأتي بالعضو الذي انتهى فيجعل له عضواً آخر فهيهات هيهات، ليس ذلك في قدرة أحد، إنما ذلك في قدرة الواحد وحده جل جلاله.
وقوله: (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي: كيف يبصرون؟ وبم يبصرون؟ وأما البصائر فقد كانت عمياء من قبل، وحتى الأبصار لو شاء الله لأذهبها، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].(244/11)
تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم)
قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} [يس:67].
قوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ) أي: غيروا خلقاً غير الخلق، وشوهوا من صورة بشرية إنسانية سليمة كبقية الناس إلى جمادات أو إلى قردة وخنازير، كل هذا فعله الله وعاقب به بعض الأمم السابقة، ولكن أرسل بعد ذلك نبينا محمداً خاتم الأنبياء وجعله رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (إنما أنا رحمة مهداة)، فلم يعد هذا الذي كان يصنعه الله بالأمم السابقة يصنعه بالأمة المحمدية؛ تكرمة لمحمد صلى الله عليه وعلى آله، وإرجاءً لهذا الكافر الجاحد عسى أن يعود يوماً فيقول: ربي الله، ونبيي محمد رسول الله، فإذا مات ولم يفعل، فإنه يعاقب، لا فرق بين أمة سابقة ولا بين أمة لاحقة.
ولو شاء الله لمسخهم قردة وخنازير، ولو شاء الله لجعلهم مشوهين أو جعلهم جمادات لا تتحرك ولا تمشي، ولا تتقدم ولا تتأخر.
وقوله: (عَلَى مَكَانَتِهِمْ) أي: على حالهم من قيام أو قعود أو نوم أو يقظة.
وقوله: (فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ): أي: لا يستطيعون أن يمضوا متقدمين في المشي ولا رجوعاً، ولو فعلوا ذلك إن كانوا جمادات فلا يستطيعون، وإن كانوا قردة وخنازير فماذا عسى أن يفعلوه.
وقوله: (لو) هو حرف امتناع لامتناع، وهو لم يفعل جل جلاله ليزيدهم حجة، فلو كانوا عمياً لا يبصرون، أو كانوا حجارة أو قردة أو حيوانات لم يكلفوا، ومع ذلك لو كانوا حيوانات لكانوا يذكرون الله على أي حال، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
فالإنسان الكافر أقبح من الحيوان ومن الجماد، فالجماد يذكر الله، والحيوان يذكر الله بلغته التي لا يفهمها إلا خالقه، وقد أفهمها لسليمان ولمن يشاء، وأفهمها لنبينا عليه الصلاة والسلام عندما كلمه الجمل واشتكى إليه، وعندما صوت الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم، فصوّت وحنّ حنين الشوق والأسف على أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلوه ويصعد ويخطب عليه، فحرم منه عندما صنع له منبر جديد.(244/12)
تفسير سورة يس [68 - 70]
الكافر إذا عمر في الدنيا لم يزدد إلا شقاء بخلاف المؤمن التقي، والرسول صلى الله عليه وسلم كان أفصح الخلق وأبلغهم وأخطبهم، لكنه ما كان يقول الشعر ولا يحسنه وما كان الذي أنزل عليه إلا قرآن كريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.(245/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون)
قال الله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68].
بعض الناس يعمر وينكس في الخلقة الذاتية الشخصية، والبعض يمسخ في عقله ويمسخ في دينه، فأولئك الكافرون ما زادهم التعمير وطول السنين والأيام إلا كفراً وإصراراً على الكفر، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (من شب على شيء شاب عليه).
قوله: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ): أي: نطل عمره، أي: فإنه طال عمره وعاش في الدنيا كثيراً، وهذا شيء مشاهد يلفت الله أنظارنا إليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وقليل من يتجاوز ذلك)، وكان من قبلنا يعمرون المئات من السنين، وكانوا أطول قامات وأعرض أكتافاً، فكان أبونا آدم في طول النخلة الشاهقة الطول، وكان عرضه أمتاراً، وعاش نوح في الدعوة إلى الله في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفي الإنجيل والتوراة الكلام كثير على أنبياء بني إسرائيل، فهم من عمر ثلاثمائة سنة، ومنهم أربعمائة، ومنهم خمسمائة وأقل، ولكن أعمار الأمة المحمدية بين الستين والسبعين، كما قال عليه الصلاة والسلام، والقليل من يتجاوز السبعين والثمانين والتسعين، وتجد أقرانه قد ذهبوا وسبقوه، وبقي هو في أناس هم في رتبة الأولاد والأحفاد والأسباط وغير ذلك.
وقوله: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس:68]، أي: في الخلقة التي عاش عليها، كما قال ربنا: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54].
فخلقنا ضعاف الأبدان عند ولادتنا، فلو جاءت قطة لافترستنا ولا نستطيع حراكاً، ولو ضربت المدافع لما أدركنا ماذا يعني ذلك، ثم نكبر بالأجسام والأذهان، كما نكبر في الفهم، فمن الرضاع، إلى الطفولة، إلى اليفوعة، إلى الشبيبة، إلى الكهولة، إلى الشيخوخة، إلى السنين الفانية، إلى أرذل العمر، وأرذل العمر يختلف باختلاف الناس، فقد يكون أرذل العمر بين الخمسين والستين، وقد يتجاوز من أكرمه الله بحواسه التسعين والمائة، ويبقى على غاية ما يكون فهماً وإدراكاً ووعياً، ولكن الجسم يبلى وقد يشتد ضعفه.
فقوله: (نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) أي: كما خلق من ضعف فسيعود للضعف، وقد ينكس ليس في ضعف البدن وحده، بل وفي ضعف البصر والحواس جميعها، والعقل كذلك والإدراك، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من أرذل العمر، ومن أن يعيش الإنسان حتى يحتاج إلى آخر؛ لأنه سيصبح ثقيلاً على أهله، وربما يصبح ثقيلاً على نفسه.
نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله أن يمتعنا بحواسنا ما أحيانا، وأن يحيينا ما كانت الحياة خيراً لنا، لا نسأله موتاً ولا طول عمر، ولكن نسأله العافية مدى العمر، فإذا سألتم الله فاسألوه العافية.
وقوله: (أَفَلا يَعْقِلُونَ) هؤلاء على كثرة ما طالت أعمارهم، وامتدت سنوات حياتهم نكسوا، وازدادوا كفراً وشركاً، ولذلك تجد المسنين من الكفار على غاية ما يكونون من الشرك، وتصبح تلك العقائد ثابتة في أنفسهم لا يحيدون عنها ولا يقبلون قولاً غيرها مع فسادها، إلا من هدى الله وقليل ما هم.
وأما الشيبة المسلم فإنه كلما ازداد عمراً فببركة الطاعة وببركة التلاوة، وببركة الوقوف بين يدي ربه تهجداً في الليل والناس نيام، فالله جل جلاله يبارك له في صحته، ويبارك له في حواسه، إلى أن يلقى الله تعالى راضياً مرضياً.(245/2)
تفسير قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له)
قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69].
لقد ذهل كفار قريش من فصاحة القرآن وبلاغته، وما أتى به من معان، والعرب كانوا أفصح الناس وأبلغ الناس شعراً ونثراً وفهماً وإدراكاً، فكان كفار قريش يأتون ليلاً يدورون ويحيطون ببيت النبي عليه الصلاة والسلام وهو يتهجد ليلاً بالقرآن، فينصتون ويسمعون وهو لا يدري.
وفي يوم من الأيام فكر في هذا أبو جهل، وفكر في هذا عتبة بن ربيعة، وفكر فيه أبي بن خلف وغيرهم من صناديد قريش، وإذا بهم يجتمعون اتفاقاً كل جاء لينصت، فعندما كشف بعضهم البعض قالوا: لنقل الحق، قد سمعنا جميعاً ما يقول هذا، فاجتمعوا عند الكعبة، وذلك كان مكان اجتماعهم، فقالوا: ماذا رأيتم فيما يقول محمد ويكرره ويعيده؟ فقال بعضهم: هذا شعر، وقال آخر: لا والله ما هو بشعر، لقد قرأت الشعر وقلته ورويته بجميع أنواعه، فما هو به.
وقال آخر: هو النثر المقفى.
وقال آخر: لا والله ما هو به، لقد نثرت وقفيت وحفظت الخطب وسمعت الخطباء والبلغاء، فما هو بذلك.
فقال آخر: هو كهانة.
فقال غيره: الكهانة تكون قولاً في أغلبه لا معنى له، وهذا ليس مقفىً دائماً، وليس مطلقاً دائماً، وليس شعراً، وما أراه بالكهانة.
وقال آخر: هو سحر، وبعد ذلك أوحى لهم الشيطان أن يتفقوا على أنه كهانة، وكان قد قال منهم من قال: والله إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وبقي الكثيرون يقولون: هذا شاعر، فقال الله لهم مكذباً: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) أي: لم نعلم محمداً الشعر، وإنما علمناه البلاغة والفصاحة والفهم والإدراك، وقصصنا عليه خبر من سبقه من الأمم السابقة، من أطاع ومن عصى، من آمن ومن كفر، وبماذا قابلهم الله، وقصصنا عليه علم الأنبياء السابقين، أما الشعر فلم نعلمه إياه.
وقد علم الله نبيه صلى الله عليه وسلم جميع العلوم والمعارف وحياً وإلهاماً، ولكن الشعر لم يعلمه، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يريد أحياناً أن يستشهد ببيت من الشعر فيقوله مكسراً، لا يقوله كما هو، فيكون أبو بكر بجانبه أو عمر أو أحد الأصحاب، فيقول له: يا رسول الله! ما هكذا قال الشاعر، فيقول عليه الصلاة والسلام: المعنى واحد، كما يقول الشاعر: كفى بالشيب والإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: كفى بالإسلام والشيب، فيقوله له أبو بكر: بل قل: كفى بالشيب، أي: كفى به نذيراً، فيقول عليه الصلاة والسلام: المعنى واحد، لست بشاعر.
ومع ذلك كان يخرج منه أحياناً قول ليس شعراً، ولم يقصد به أن يكون شعراً، ولكن تجده على قياس البحور وموازينها، وقد يوجد هذا أحياناً في القرآن وليس هو بشعر، ففي القرآن: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1 - 4].
وعندما كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، وظن الناس أنه قتل، وأشاع أعداؤه أنه قتل، ولكنه كان في اللأمة لا تظهر منه إلا عيناه، فرفع صوته صلى الله عليه وسلم يدعو الذين فروا: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) فانتسب إلى عبد المطلب، وهي نسبة صحيحة؛ لأنه كان أشهر من أبيه الذي مات شاباً صغيراً.
وقال مرة وقد جرحت إصبعه عليه الصلاة والسلام: (هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت).
ولم يكن ذلك شعراً ولم يقصده، وكان إذا تمثل ببيت أو بشطر بيت من الشعر، كان يقوله وكأنه نثر، ويقول: ما أنا بشاعر.
فقوله: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ): أي: لا يليق به؛ لأن الشعر قد أذله الشعراء؛ لأنهم صاروا يشحذون ويتسولون به، وصاروا يهجون به، ويتغزلون به في الأعراض، ويكشفون فيه عن المخدرات ذوات الحجاب، فكان الشاعر يأتي إلى القبيلة فينذر كبيرها، فإما أن يعطيه ويهب له وإما أن يهجوه، وهكذا أصبح الشعر كالصحافة اليوم، فالصحفي إن لم تساعده وترضه هاجمك وتنقصك، وقال عنك ما ليس فيك، فصحافيو اليوم هم شعراء الأمس، وهذا لا يليق بسيد الخلق عليه الصلاة والسلام، ولو لم يمدح مع المداحين، ولو لم يتغزل مع المتغزلين، وحاشاه من كل ذلك عليه الصلاة والسلام.
والشعر كذلك لا يليق بالعلماء، فقد كان الإمام الشافعي أعلم الأئمة الأربعة لغة وأبلغهم لساناً، وأفصحهم، وانفرد من بينهم؛ لأنه كتب كتبه ومؤلفاته، بينما غيره لهم رسائل لا تكاد تذكر، أما الإمام الشافعي فقد كتب كتابه المسمى (الأم) في سبع مجلدات، وطبع أكثر من مرة، وهو قطعة من الأدب الرفيع، زيادة على ما فيه من حلال وحرام وآداب ورقائق، وأدلة تؤكد ذلك من قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يقول أحياناً بيتاً وبيتين، وكان يقول: ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد إذاً: الشعر يزري بالعلماء وينقص من مقامهم ورتبتهم، خاصة إذا بادروا إلى مديح من لا يستحق المدح، وأما ما سوى ذلك كمدح الإسلام والإشادة به ومدح الأخلاق والدعوة إلى الجهاد، وهجو الكفار وأعداء الإسلام، فقد كان له عليه الصلاة والسلام شعراء مختصون به، كان له كعب بن مالك وحسان بن ثابت وغيرهما من الشعراء جماعات بين مقل ومكثر، وكان منهم كعب بن زهير الذي مدح الرسول صلى الله عليه وسلم في قصيدته المشهورة.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا أثني عليه ومدح يعجبه ذلك، ويشجع عليه، ويجازي عليه بالهدايا الكبيرة التي يعطيها عطاء من لا يخشى الفقر، وكان ينصب لـ حسان بن ثابت منبراً في المسجد النبوي، ويحرضه على الكفار، ويقول له: (اهجهم فداك أبي وأمي، فإن روح القدس معك).
وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة).
وقال: (كاد الشعر أن يكون سحراً).
لكن النبي عليه الصلاة والسلام لا يليق به أن يقول الشعر ولا ينبغي له، فهو أعلى مقاماً وأسمى رتبة، وكذلك لا يليق بخلفائه من العلماء والدعاة إلى الله، إلا أن يكون من هؤلاء دعوة إلى الله وهجواً وتمثيلاً بأعداء الله.
ولذلك الشعر الذي كان مذموماً والذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً، خير له من أن يمتلئ شعراً) هو شعر الغزل وهتك الأعراض ومدح الكذابين والضالين والفاجرين، الشعر الذي لا يتفق مع الحقائق.
أما الشعر في وحدانية الله جل جلاله، والذي في الدعوة إلى الله وعبادته، وفي التحمس للجهاد وبذل الأرواح رخيصة في سبيل الله، فذاك من الكلام الذي حض عليه عليه الصلاة والسلام، كما فعل ذلك كعب بن زهير عندما قال في قصيدته الشهيرة: بانت سعاد: إن الرسول لسيف يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول فقام عليه الصلاة والسلام من مجلسه وأهداه رداءه، واشتراه معاوية بعد ذلك من أولاد كعب بن زهير في زمن خلافته فجعله رداء خلافة، فكان يلبسه للزينة أيام الأعياد، وأيام استقبال الوفود وكبار القوم، وتوارثه بعده ملوك بني أمية، وخلفاء بني عباس، وملوك بني عثمان، ولا يزال ذلك محفوظاً في متاحف آثار إسطنبول في أرض تركيا، والثوب قد أخذ في أن ينتهي، لكن كانوا كل مرة يلبسونه بثوب ثم يهترئ، ثم يلبسونه ثوباً، إلى أن أصبح هكذا وكأنه فراش، ولكن أصله محفوظ ضمن ذلك، وقد أكد صحة ذلك ابن حزم في القرن الخامس، وأكده في عصرنا أحمد زكي الذي كتب في الآثار النبوية كتاباً على صغره يعتبر من أوثق الكتب ومن أسماها، ومن أكثرها حقائق مستقصاة فيه.(245/3)
مكانة القرآن ووجوب التحاكم إليه
قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69].
أي: أن الذي ينطق به محمد صلى الله عليه وعلى آله ذكر وتذكير للناس، ليذكروا الله، ويذكروا المقصود من وجودهم، وإلى أين هم ذاهبون؟ وماذا بعد الموت؟ ليعودوا إلى الله مؤمنين موحدين، ويعلموا بأن الله قد قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وأن الدنيا قنطرة الآخرة، فمن نجح هنا هناك ينجح، ومن رسب هنا سيكون رسوبه هناك، فمن آمن وبقي على إيمانه إلى لقاء الله، كانت الدنيا له دار سعادة، ومن عاش كافراً إلى أن يلقى الله كانت الدنيا له دار شقاء.
وقوله: (وقرآن مبين): أي: أن الذي دعا إليه الناس هو القرآن، وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد جاء صلى الله عليه وسلم منذراً ومبشراً وداعياً بهذا القرآن، وهو دستور المسلمين ودستور الكون، فمن آمن به فنفسه خدم، وإياها أحسن، ومن خرج عنه فنفسه أضر، وعلى نفسها تكون قد جنت براقش.
وقوله: (مُبِينٌ) أي: بينٌ ظاهرٌ مفهوم معلوم، فيه الحلال والحرام، وفيه قصص الأولين والآخرين، وفيه أنباء الأنبياء والأمم قبلنا، وفيه خلقة الإنسان وخلق الدنيا وأين المآل، وصفة الجنة والنار، والآداب والرقائق، والحدود والأحكام.
هو كتاب الإسلام، هو عقيدة، هو نظام، هو دولة، دعا للتثبت في العقائد والرسوخ عليها، دعا لقيام نظم الإسلام في الدولة، وفي المعارك، وفي المعاملات، وفي المحاكم، بينك وبين الخصم، بينك وبين أحبابك، بينك وبين أعدائك وقت السلام ووقت الحرب.
هو دولة يدعو إلى قيام الدولة؛ ليكون الإسلام ديناً ودنيا، فالأحكام والحدود التي وردت فيه، والأوامر والنواهي من سيقوم بها؟ فإذا ذهب من يقوم بها سيقوم من الضالين المضلين ممن يتحكمون بمصير رقابنا، فيقول كما يقول أهل الكفر: الدين لله والوطن للجميع، وما لقيصر لقيصر وما لله لله، ويكون بذلك قد خرج عن الإسلام، فإذا قال: لا نقبل قرآناً في الدولة، والإسلام يجب أن يبقى في المسجد، وما عدا ذلك لا وجود له، فمن قال ذلك ودعا إليه يكون كافراً حلال الدم، مرتداً خارجاً عن الإسلام، مهما كان ذكره، ومهما كان اسمه، ومهما كان مكانه.(245/4)
تفسير قوله تعالى: (لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين)
قال الله تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70].
وقرئ في السبع وهي قراءة نافع: (لِتُنْذِرَ من كان حياً).
الكلام هنا للنبي عليه الصلاة والسلام، فقد أنزل الله عليه القرآن ولم يعلمه الشعر؛ ليكون بالقرآن نذيراً ومبشراً، ليتوعد الذين لم يؤمنوا بالله بالنار والغضب والتدمير، وأنهم لا يستحقون كرامة ولا اعتباراً.
ومعنى قوله: (لِيُنْذِرَ) أي: لينذر القرآن، وسواء أنذر القرآن أو أنذر نبي الله، فهو أنذر بالقرآن ودعا بالقرآن، فقد أنزل الله عليه القرآن لينذر به، وليدعو الناس إلى العمل بما فيه، فمن قبل فذاك وإلا فالسيف، وكما يقول عثمان بن عفان: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).
وليس كل الناس يقبلون القرآن والسنة، خاصة منهم من كان فارغ القلب وتعلم على يد اليهود والنصارى، وعاش في البيئات والأوساط الفاسدة، فهذا يكون قد دخل الكفر قلبه وتمكن منه، فتقول له: قال الله، فيقول لك: لا تستدل علي بآية قرآنية، وتقول له: قال رسول الله، فيقول: انظر ماذا يقول الفلاسفة، ماذا يقول علماء اليوم ومعاصروه، فهذا كأن على أذنه الآنك (الرصاص)، فهو لا يسمع ولا يعقل ولا يبصر ولا يدرك، فهذا إذا لم يقومه القرآن قومه السيف.
ولا بد من السيف، فالإسلام قلم وسيف، والإسلام دعوة وجهاد، فمن قال: هو دعوة فقط قال غير الحقائق، ومن قال: هو سيف فقط قال غير الحقائق، فالنبي عليه الصلاة والسلام عاش في مكة ثلاثة عشر عاماً وهو يدعو إلى الله بلا سيف، وكان يمر على أصحابه وهم يعذبون وقتل منهم من قتل، فلا يقول لهم إلا: صبراً صبراً، ومر على أب وأم ووليدهما، مر على عمار ووالديه ياسر وأمه فقال لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) وطعنت أم عمار بن ياسر طعنها البغيض اللعين أبو جهل بحربة في قبلها إلى أن خرجت من ظهرها، وهو يدعوها إلى الكفر بالله والعودة عن الإيمان، وهي تأبى إلا الإيمان، فكانت أول شهيد في الإسلام، والنبي لا يزيد على أن يقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
فقوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70] أي: من كان حي القلب، حي الفهم متفتحاً ذاكراً واعياً، لم يكن بليد الطبع، ولا ميت القلب.
فقد جاء الإسلام بحياة القلوب، فمن كان قلبه من الأصل ميتاً لا تؤثر فيه موعظة، ولا بشارة، ولا نذارة، ولا قول الله، ولا قول رسول الله، فهذا إلى الحيوان أقرب منه إلى الإنسان، بل الحيوان أشرف وأكرم منه، كما قال القرآن فيه: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].
وقوله: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70] أي: يحق الغضب والعذاب على الكافرين، فيعاقبهم الله تعالى بسبب كفرهم بكتابه وبرسوله صلى الله عليه وسلم.(245/5)
تفسير سورة يس [71 - 81]
يضرب الله الأمثال للناس حتى يتفكروا ويعتبروا، وينظروا فيما أنعم الله عليهم من أنعام جعل لهم منها مآكل ومشارب، وأن الأوثان التي يعبدونها لا تنفعهم بل هم عندها يحرسونها، والله تعالى هو القادر على الإحياء بعد الموت فهو الذي سيبعثهم يوم القيامة.(246/1)
تفسير قوله تعالى: (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون)
قال الله جل جلاله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:71 - 73].
يقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} [يس:71]: الاستفهام هنا استفهام إنكاري تقريعي توبيخي، أي: أولم ير هؤلاء المنكرون المكذبون بالبعث والنشور، واليوم الآخر، الكافرون بالله ورسله وكتبه، {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس:71]؟! أليس لهم أبصار تنظر؟! أليس لهم بصائر يعلمون بها أن هذه الأنعام التي يرونها في الأرض من إبل وبقر وغنم خلقناها لهم بأيدينا؟! فهل لشركائهم شرك في ذلك؟! وهل أعانوا الله على هذا؟! تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً؛ فهو المتصف بالخلق، وهو القادر على كل شيء، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
والأنعام جمع الجمع، فهو جمع نعم، والنعم يشمل الإبل والبقر والأغنام، والمفرد يختلف فهو في البقر بقرة وفي الإبل جمل أو بعير أو ناقة، وفي الغنم معز أو ضأن.
يقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71].
أي: خلقنا ذلك بقدرتنا وإرادتنا من غير معين يعين، ولا شريك، ولن يكون ذلك أبداً، فخلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون، فهم لهذه الأنعام مالكون قاهرون، ويتصرفون فيها كما شاءوا، فإنك ترى الطفل الصغير يسوق الإبل في الحيطان وكذلك البقر، فلا تكاد تتحرك أمامه، ولو هاج واحد منها لداسه برجليه وكأنه لم يكن.
فقوله تعالى: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] أي: قاهرون متصرفون فيها بيعاً وشراءً كما يريدون.(246/2)
تفسير قوله تعالى: (وذللناها لهم)
يقول تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72].
قوله: (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ): أي: سخرناها لهم، يتصرفون فيها كما شاءوا، {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72] أي: فمن هذه الأنعام ركوبهم، والركوب: المركوب.
ولم يكن من المركوب في الزمن الأول غير الإبل والخيل ونحوهما، وقد خلق الله لنا في هذا الزمن الركوب على الحديد براً وبحراً وجواً، وأشار تعالى إلى ذلك في قوله: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8].
فيخلق ما لا يُعلم من أنواع المركوبات، فقدر جل جلاله أنه في عصر من العصور وزمن من الأزمنة -وهو الذي نعيش فيه- سيكون هناك أنواع من المركوبات من غير الدواب، وقد قال ابن عباس هذا، وكان الأمر كذلك، فنحن الآن نقول: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] كالخيل والبغال والحمير والسيارة والطيارة والقطار والصاروخ والبواخر، وما إلى ذلك.
ولم يخبر النبي عليه الصلاة والسلام الناس بذلك؛ لأنه كان يعلمنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم، فلو قال للناس: سيُركب الحديد وسيطار عليه في الأجواء، وسيقطع ما يقطع سنة في بضع ساعات، لقال الناس عن نبي الله: إنه مجنون، ولو أن أجدادنا الذين لم يدركوا هذا عاشوا ورأوا الحديد يطير لما صدقوا، وأما نحن فعشنا حتى رأينا ذلك وعرفنا حقيقته، فلم نعد نستغرب، وإلا فذلك يدعو إلى الغرابة، إن هذه الطائرة تحمل خلقاً وسلعاً وتخترق الآفاق في قليل من الزمن، فكيف حصل ذلك؟! لقد حصل ذلك بقدرة الله، كما أن الأرض والسماء محمولتان على غير عمد.
فالطائرة تسبح في الفضاء كما تسبح جميع النجوم الكواكب، فالله جل جلاله أعطى الإنسان من العقل ومن الوعي ومن الإدراك ما أخذ يصنع به ذلك.
وهناك رجل من الأندلس اسمه عباس بن فرناس فهو الذي اخترع الطيران، فقد اخترع شيئاً لم يصل إليه أحد قبله، حيث اخترع لنفسه جناحين، فطار بهما في الأجواء، ولكنه حال طيرانه علم أنه قلد الطائر في جميع خصائصه سوى الذيل، فأخطأ ونسي، حيث كان يظن أن ذيل الطائر لا فائدة منه، ولا علاقة له بالطيران، وليس الأمر كذلك، فبقي يطير إلى أن تعب، وإذا به يسقط بغير تدريج فيصاب في مقاتله، وذكر هذا لمن حضر موته، ولذلك نرى الطائرات اليوم لها في مؤخرتها ما يشبه الذيل يساعدها على النزول، يساعدها جناحاها على الارتفاع، فتناطح السحاب علواً.
يقول تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72].
أي: منها المركوب، فالركوب: المركوب، كما تقول: شاة حلوب، أي: محلوبة، وبقرة حلوب، أي: محلوبة، فالله تعالى جعل من هذه الأنعام ما يركب، وجعل منها ما يؤكل.(246/3)
تفسير قوله تعالى: (ولهم فيها منافع ومشارب)
قال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} [يس:73].
فينتفعون بأوبارها وشعورها، ويصنعون بذلك الألبسة والفرش والخيام وما هم في حاجة إليه، فقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [يس:73] جمع منفعة، (ومشارب) جمع مشرب، فنحن نشرب من ألبانها، وننتفع بشعورها وأوبارها، وننتفع بها ركوباً بين البراري والقفار.
يقول تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:73].
أي: أفلا يشكرون الله على هذه النعم المتواترة المستفيضة؟! فلولاها لما رحل الإنسان ولما استقر إلا بعذاب.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (السفر قطعة من العذاب)، فالسفر هو العذاب نفسه، وقد يظن ظان اليوم أن السفر على الطائرات والبواخر وعلى السيارات غير عذاب، وذلك ظن في غير محله، فنحن نركب البواخر، وعندما تأخذ الباخرة في السير فتتلاعب بها الرياح وتتلاعب بها العواصف يشعر الإنسان بأنه ميت، ولا منقذ له إلا الله تعالى، فترى البحر كما وصفه عمرو بن العاص، حيث قال: داخله مفقود، والخارج منه مولود، والفلك في البحر دود على عود.
بل السيارات كذلك، فنحن نرى ما يحصل فيها من حوادث، فهل هناك عذاب أكبر من الخوف ومن الغرق ومن السقوط والحوادث؟! وجواب قوله ربنا: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:73] أن نقول: بلى -يا ربنا- نشكرك بكل حواسنا وخلايا جسومنا، فلك الحمد وحدك، فأنت المتفضل، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت نفسك.(246/4)
تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون)
قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ} [يس:74 - 75].
فمع هذه النعم المتوالية، ومع هذا الذي تفضل به الله على عباده من هذه النعم العظيمة نجد الكافر بالله والكافر بنعم الله لا يشكر الله على نعمه، بل لا يزيده ذلك إلا جحوداً وكفراناً.
يقول تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} [يس:74].
أي: يظنون أن هذه الآلهة التي لا تضر ولا تنفع ستنصرهم، سواء أكانت ملائكة أم جناً، أم بشراً، ومن باب أولى إن كانت جمادات، فكل أولئك لا ينفعون ولا يضرون، بل لا ينفعون أنفسهم ولا يضرونها، فالله هو الخالق والرازق لها، ولكن هؤلاء عميت بصائرهم، وضاعت عقولهم، فأصبحوا يعبدون ما لا يضر ولا ينفع، فعبدوا الأوثان ظانين أنها ستنصرهم في الدنيا، وستكون لهم شافعة يوم القيامة، وهيهات هيهات!(246/5)
تفسير قوله تعالى: (لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون)
يقول ربنا: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ} [يس:75].
فلا يستطيعون أن ينصروهم، فهم أعجز من ذلك وأقل من ذلك؛ إن كانوا لا ينفعون أنفسهم ولا يضرونها، فكيف ينفعون غيرهم أو يضرونه؟! والنافع هو الله، والله جل جلاله بيده الأمر كله، فمن هداه فقد وفقه للخير، ومن علم فساده هداه للشر.
فهؤلاء الشركاء لا يستطيعون نصر المشركين، ولا ينقذونهم من عذاب الله ومن أليم نقمته.
قال تعالى: {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ} [يس:75].
فهؤلاء المشركون يكونون جنداً حاضرين في نصرة أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم، وهم في ذلك واهمون كذبة، فقد توهموا أنهم سينصرونهم، وهم أعجز من ذلك.
وفسر الحسن البصري قوله تعالى: {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ} [يس:75] بأنه في يوم القيامة تحضر هذه الآلهة معهم، فيكون ذلك أبلغ في تعجيزهم، لأنهم ما عبدوا إلا الباطل، وما تعلقوا إلا بآلهة لا تضر ولا تنفع، فيتبرأ هؤلاء كلهم منهم ومن عبادتهم ويقولون: لم نأمرهم بأن يعبدونا، فيقول عيسى: إنما دعوتهم لعبادة الله الواحد كما أمر الله، والملائكة يقولون: كانوا يعبدون الجن، والجن تتبرأ منهم، ويقولون لهم: لم نأمركم بذلك، وإنما هو كلام سمعتموه فاتبعتموه فعبدتم بأهوائكم ونوازعكم ونزغات العقول منكم، والكل يومئذ يتبرأ منهم، فحضور تلك المعبودات للبراءة منهم زيادة في حجة الله البالغة عليهم.
وأما الجمادات فإن حضورها لأجل أن يشعر هؤلاء إذ ذاك بضلالهم ويندمون، ولات حين مندم، فيعلمون أنه ليس بيدها شيء، وأنها لا تنطق ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع.
ورجح هذا الرأي الثاني الإمام ابن جرير شيخ المفسرين والمؤرخين.(246/6)
تفسير قوله تعالى: (فلا يحزنك قولهم)
قال تعالى يخاطب نبينا عليه الصلاة والسلام: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس:76].
أي: فلا يحزنك -يا رسول الله- قول هؤلاء عنك: إنك كاذب، وإنك مجنون.
وإنما يحزن النبي عليه الصلاة والسلام ذلك ويؤلمه من أجلهم، كما قال ربنا له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3].
فلعلك مهلكها وضارها لأنهم لم يؤمنوا، ولم يهتدوا ليدخلوا الجنة، فهو حريص على هدايتنا، وحريص على إيماننا، يؤذيه عدم إيماننا رحمة بنا وشفقة بنا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام هو الرحمة المهداة من الله للبشر، وهو الذي بعثه الله رحمة للعالمين، فكان حريصاً على هداية الناس، فإذا لم يؤمنوا أحزنه ذلك صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وجزاه الله عنا أحسن الجزاء.
يقول تعالى: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يس:76].
أي: لا تحزن لذلك، ولا تتألم لأقاويلهم الكافرة الجاحدة.
{إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس:76].
أي: نعلم ما يسرون من تكذيبك، ونعلم ما يعلنون ويجاهرون به من عبادة الأصنام والآلهة التي اتخذوها من دون الله، ومعنى ذلك أنه تعالى يتوعدهم بأنه سيجازيهم على أعمالهم بالعذاب الدائم المقيم، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].(246/7)
تفسير قوله تعالى: (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:77 - 78].
يقول جل جلاله: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ} [يس:77] و (أل) هنا للجنس، أي: جنس الإنسان، وليس المراد إنساناً بعينه، بل المراد كل إنسان من بني آدم وحواء، المؤمن منهم والكافر.
يقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} [يس:77].
فالله قد خلقنا من نطفة، وخلق أبانا آدم من تراب، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه، كما قال الله في كتابه: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]، ثم خلقنا بعد ذلك من نطفة تكونت من صلب الرجل ومن المرأة كذلك، فنحن أبناء نطفة تكونت من ذكر وأنثى، وهكذا كل من ولد وكل من خلق من آبائنا وأجدادنا بعد آدم وحواء، إلا عيسى عليه السلام، فقد خلقه الله من أم بلا أب، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59].
يقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ} [يس:77].
هذا الإنسان الذي طغى وتكبر، وذهب يقهر البشر، وذهب يأكل أموال الناس بالباطل، وذهب يكفر بخالقه ورازقه، فلم يتذكر خلقه الأول، فقد خلق من تراب، ثم خلق من نطفة مهينة، والنطفة هي القطرة من الماء، وهي من الإنسان قطرة خاصة هي البذرة البشرية بعد ذلك، فتخرج من الصلب، ثم تكون في رحم المرأة في قرار مكين إلى أجل معلوم.
ولذلك يقول الله جل جلاله: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] فإذا بهذا المخلوق من نطفة ينسى أصله، فيخاصمنا ويجادلنا ويقول: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] يقول ذلك زوراً وباطلاً، ويقول ذلك كفراً وشركاً، ويخاطب به أنبياءه ويجادلهم بكلام باطل، ولو تذكر نفسه وكيف خرجت، ولو رأى غيره مثله لما قال هذا ولما خطر له على بال.
يقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] أي: شديد الخصومة، يتألى على الله ويقول: أنا ربكم الأعلى.(246/8)
تفسير قوله تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه)
قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78].
جاء هذا المخاصم المجادل في الله يضرب الأمثال ويقول: كيف نبعث وقد أصبحنا عظاماً نخرة فانية؟! فكيف يجمع الله خلقنا؟! ليس هذا بواقع هكذا يزعم الكفرة الجاحدون.
يقول ربنا عن هذا: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] نسي كيف خلق، وذلك أعظم من إعادته، إذ الإعادة أهون من الابتداء، والكل هين على الله جل جلاله، فهو القادر على كل شيء، فهذا الإنسان نسي كيف خلق، وهو يعلم أنه لم يكن شيئاً مذكوراً، ثم بعد ذلك تكون في رحم أمه، ثم بعد ذلك خرج وليداً ضعيفاً، لا يكاد يعي ولا يدرك ولا يعرف، ثم تدرج إلى يافع ثم إلى شاب ثم إلى كهل ثم إلى شيخ هرم، ثم يرد إلى أرذل العمر، ثم يعود إلى التراب كما جاء من تراب.
والقادر على خلق الإنسان أولاً قادر على إعادته.
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بأن كل شيء من ابن آدم سيفنى وسيصبح تراباً إلا عجب الذنب، وعجب الذنب هو فقرة في آخر العمود الفقري، فهذه الفقرة لا تفنى، وهي بذرة بشرية، فعند النفخ في الصور النفخة الأخيرة يسقي الله الأرض مطراً، وإذا بهذا الإنسان يصبح بشراً سوياً كما كان، ويصبح ناظراً إلى آخرته، ويذهب إلى العرض على الله وإلى الحساب، فإما إلى جنة وإما إلى نار.
يقول تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] أي: رميمة، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] أي: ما كانت بغية.
وسبب نزول هذه الآية هو أن العاص بن وائل -والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب- جاء إلى رسول الله ومعه عظم، فأخذ يفته ويذروه في الهواء، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتزعم أن ربك يحيي هذا العظم وهو رميم؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (سيميتك ثم يبعثك ثم يدخلك النار)، ومات مشركاً، فمصيره إلى جهنم وبئس المصير.
قال تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79].
قل -يا رسولنا- لهؤلاء الجاحدين: يحيي هذه العظام الذي أنشأها أول مرة.
وهذا ضرب من القياس، حيث قاس الله خلقنا مرة ثانية على خلقنا أولاً، ففي البداية أنشأ خلقنا على غير مثال سابق قبل أن يكون، ولم يكن شيئاً مذكوراً.
فهؤلاء الملاحدة قالوا: كيف نحيا بعد أن نكون رمماً، وهل سيعود آباؤنا؟ فكان الجواب لهم ما علمنا الله أن نقول، وهو جواب بمنطق العقل، ومنطق الوعي والإدراك: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] أي: بعد أن لم تكن، فإذا كان الله قد خلقنا على غير مثال سابق، فهو جل جلاله أقدر على أن يحيينا مرة ثانية.
قال تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] فهو العليم بجميع خلقه؛ لأنه خالقهم، والكل خلق الله، والكل سيفنى، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].(246/9)
تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً)
قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:80].
وهذه الحجة حجة أخرى قاطعة، فهذا المنظر يراه كل إنسان، فالأرض ييبس ورقها، وإذا بفصل الربيع يأتي، فتعود الحياة إلى الشجر، ومن هذه الأشجار نأخذ حطباً نطبخ عليه الأكل، فصارت هذه الأخشاب بعد الخضرة مادة للنار بعد أن كان فيها الماء، فالله تعالى هو الذي خلق من الماء والشجر، وخلق من الشجر ناراً، ولولا هذه النار لكنا في غاية ما تكون المشقة، فجعل الله لنا من هذا الشجر الأخضر ناراً ننضج بها اللحم، وننضج بها الخبز.
فالله جل جلاله يعلمنا كيف نتكلم وكيف ندعو إلى الله، فنخاطبهم بلغة العقل بما يعجزهم عن الجواب وعن الرد ويدحض شركهم، فضرب تعالى لنا الأمثال في خلق الإنسان من نطفة إلى جسد شريف، ومن الشجر الأخضر الذي يصير إلى نار موقدة.(246/10)
تفسير قوله تعالى: (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم)
قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81].
بلى يا ربنا، فأنت القادر الذي خلق السموات، ونحن نراها مرفوعة، وخلق الأرض وما عليها من جبال وبحار وبشر.
فهذا الذي خلق ذلك أليس بقادر على أن يخلق مثل هؤلاء المضلين؟! أليس خلْق السموات والأرض أعظم من خلق الناس؟! فأين نحن من عظمة السموات والأرضين وما فيهما وما عليهما؟! فالناس لا يخلقون ذبابة ولو اجتمعوا على خلقها، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب.
يقول تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس:81].
أي: أليس من خلق هذه السموات والأرضين قادراً على أن يخلق مثل هؤلاء البشر؟! بلى يا ربنا، فأنت القادر على كل شيء، ونؤمن بذلك بكل حواسنا وخلايا أجسامنا.
فالله تعالى يعلمنا الجواب لهؤلاء الكافرين، فهو الذي خلق السموات العلى، وهو الذي خلق الأرض، وهو الذي خلق ما بينهما، ولم يخلق ذلك معه شريك ولا معين ولا وزير، فجل جلاله وعز مقامه.
قال تعالى: {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81].
الخلاق: صيغة مبالغة، فهو الخالق لكل شيء، وهو العليم بكل شيء، لأنه خالقه ومدبره.(246/11)
تفسير سورة ص [1 - 4]
أنزل الله القرآن الكريم بحروف عربية هي من جنس كلام العرب، لكنهم لا يستطيعون الإتيان بمثله ولا بسورة منه، ولذا فهم مطالبون بالإيمان به والتصديق بما فيه وإلا هلكوا كما هلك من قبلهم من المكذبين.(247/1)
تفسير قوله تعالى: (ص والقرآن ذي الذكر)
قال تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1].
قوله: (ص): هو حرف من الحروف المقطعة التي ابتدأ الله بها بعض السور، وقد قيل عن هذه الأحرف: هي أسماء للسور، فالحرف (ص) في سورة (ص) هو اسم علم، كمحمد وأحمد وعلي وخالد.
وقال أقوام: هو اسم من أسماء الله.
وقال أقوام: هو حرف لأسماء خاصة، (ص) أي: صمد وهو اسم من أسماء الله، أي: خالق واحد وهو الله جل جلاله.
وقال قوم: (ص) أي: صدق الله.
وقال قوم: (ص) أي: صدق محمد، وغيرها من الأقوال.
وهنا يمكن أن نفسر (ص) بمعنى أن محمداً قد صدق.
والقرآن قد تحدى البشر والخلق، إذ نزل في مكة على نبينا سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فتحداهم بأن يأتوا بآية مثله أو بسورة مثله، فعجز البشر، وهذا التعجيز لا يزال قائماً إلى اليوم، وحاول أناس كـ مسيلمة الكذاب، وكما ذكروا عن أبي العلاء المعري وغيرهما، فـ مسيلمة كان يدعي أنه رسول جاء لمشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته، فهرف بكلام وهذى تضحك منه الثكلى والمجنون الذي لا يعي ولا يفهم.
وأبو العلاء أتى بكلام غث، إن كان يقصد ذلك فيما زعموه عنه.
وهو معجز في لفظه لكل من يتكلم العربية ويفهمها، ومعجز في المعنى وفي جميع ما فيه من حقائق السماء والأرض، وخلق الإنسان، وخلق الكون فيما أكده الواقع، وأكدته العلوم الحديثة قبل عصرنا وفي عصرنا.
وهناك رجل فرنسي زار المملكة فاجتمع بالعلماء وتذاكر معهم، وإذا به يؤلف كتاباً عمل فيه مقارنة بين القرآن والتوراة والإنجيل.
فقال: كل ما ذكرته التوراة وذكره الإنجيل مخالف للعقل والمنطق وحقائق العلوم، ومن هنا أكد أن التوراة غيرت وبدلت وحرفت، وأن الإنجيل قد بدل وحرف وغير كما أخبر بذلك القرآن الكريم، وأنهم نقلوا الكتابين من كتابي توحيد إلى كتابي وثنية، وذهب يتكلم عن خلق السماوات وما يقوله العلم الحديث، فقال: إن القرآن قد قال هذا منذ ألف وأربعمائة عام عن النجوم وعددها ودورانها وأجسامها، وعن الليل والنهار، وعن البحار والجبال والوهاد والأشجار والإنسان، فقال: كل ما ذكره القرآن من علم الطبيعة كخلق السماء والأرض وخلق الإنسان، أكده العلم الحديث الذي يتباهى به الناس في هذا العصر، ويقولون: هو عصر العلم، وعصر النور، فقال بعد مقارنة كاملة: إن ما ذكره القرآن قبل ألف وأربعمائة عام سبق كل الموجودين في الأرض.
وعندما كان هؤلاء أقرب إلى الدواب فهماً ودراسة وعلماً، وأبعد عن فهم أي شيء، وكان المسلمون مؤمنين بنبيهم وبرسالته، وبالكتاب المنزل إليه، فإنهم يعرفون ما لم نعرفه إلا في هذا العصر، عرفوا ذلك قبلنا بألف وأربعمائة عام، ونحن نقول هذا جواباً للمتشككين ولأمثال هذا، وإلا فنحن على يقين في كلام ربنا، وإعجازه وصدقه وجميع حقائقه.
وما دام القرآن معجزاً لفظاً ومعنىً، ونزل بلغة العرب، فإن العرب مشهورين وهم أفصح الناس على الإطلاق وأبلغهم، ووهبوا بياناً وفصاحة وخطابة وشعراً ومحاضرةً وحديثاً، فكيف عجزوا؟ فسألوا: من أي شيء صنع القرآن؟ فقيل: من حروف الهجاء، وهي اللبنات التي عليها قامت هذه اللغة من أولها إلى آخرها.
فرأى العربي في ألفاظه جمالاً وبهاء فعجز، فقال: أنا أستطيع أن أصنع مثل ذلك، فصنع من تراب والتراب موجود، وصنع من حجارة موجودة، وصنع من حديد والحديد موجود، فقيل له: اذهب فابن، فذهب فبنى برادة ثم بنى خيمة، فكان بينها وبين ذلك البناء ما بين السماء والأرض، وهكذا مم صنع القرآن؟
الجواب
كان كلامه ونطقه من (أ، ب، ت، ث) حروف الهجاء العربية.
(ألم) (كهيعص) (ألر) (ص) فمن هذه الحروف صنع القرآن، ومن هذه الحروف تكلم الله عز وجل فهذه الحروف بين أيديهم، فهل استطاعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن؟! لا زال التعجيز قائماً منذ نزول هذا الوحي الكريم بألف وأربعمائة عام، وإلى يوم النفخ في الصور، ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر بأن معجزته الخالدة والتالدة التي رآها من عاصرها وقت الوحي من الأصحاب، والتي جاراها من يأتي بعده عليه الصلاة والسلام وإلى عصرنا وإلى يوم القيامة هي القرآن الكريم.
ونحن أدركنا هذا وآمنا به جميعاً، فهو المعجزة العظمى لنا بكوننا آمنا به عن دليل وبرهان ويقين، لا مجرد تقليد للآباء والأجداد، هذا كتاب من الله آمنا به وصدقنا، فإن قيل: والإنجيل من الله والتوراة من الله فلم بدلتا، ولم حرفتا، ولم غيرتا؟
الجواب
لأن الله تعالى عهد بحفظ التوراة والإنجيل إلى علماء بني إسرائيل فعجزوا عن ذلك، فبدلت وغيرت، أما القرآن فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فهو الذي تعهد بحفظه وبدوامه، وبعدم تغييره ولا تبديله، وها نحن قد جئنا بعد محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام بألف وأربعمائة عام، في عصر الضلال واليهود وعصر التبرج والفواحش والظلمات، وأعداء القرآن وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أكثر أهل الأرض، بل ومن أعداء القرآن الكثير من المسلمين أنفسهم، ولقد حاولوا غير مرة وفي كثير من العصور أن يحرفوه أو يبدلوه وهيهات هيهات.
فلا زال القرآن الذي نتلوه هو القرآن الذي كان يتلوه محمد سيد البشر عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة، وفي المدينة المنورة، وهو الذي كان يتلوه الصحابة والتابعون كما نتلوه نحن، ليس فيه كلمة زائدة ولا كلمة ناقصة.
فمعنى هذا: أن الله الذي تعهد بحفظه قد أنجز ذلك، الله وصف القرآن بالإعجاز، وتحدى به الخلق أن يأتوا بآية مثله أو بسورة، وهيهات هيهات، لا زال الإعجاز قائماً.
فقد أدركنا أعظم كاتب في الأرض، وربما لم يكن منذ ألف عام من يشبهه، وهو مصطفى صادق الرافعي رحمه الله، فمع بلاغته وفصاحته وحسن بيانه هيهات أن يشبه كلام الله، أو يقارب شيئاً من القرآن، فسيبقى الفرق بين الخالق والمخلوق، وبين كلام الله وكلام المخلوق.
وقد جمع مصطفى صادق الرافعي كتاباً سماه وحي القلم، وهو بحق وحي القلم، وسيد البشر عليه الصلاة والسلام الذي أعطي جوامع الكلم، وكان سيد العرب فصاحة وبلاغة خطيباً ومتكلماً ومحاوراً، فهذا كلامه بين أيدينا في الصحاح الست وغيرها، بين كلامه وبين كلام الله ما بين محمد والله، ما بين الخالق والمخلوق، لأن هذا كلام الله، وذاك كلام البشر المخلوقين.
فهذه المعجزة كانت البينة القاطعة لنا لإيماننا، والتسليم على أن القرآن كلام الله، دعك من فصاحته، ودعك من حلاوته وطلاوته، نقرأ الكتاب مرة فنقول: ما أفصحه، وما أفصحها، ما أبلغه وما أبلغها، فإذا قرأناه مرة ثانية فقد يضعف في النفس مع التكرار ومرة ثالثة ومرة رابعة ثم نمل، ونقول: دعنا من هذا الكلام المكرر المعاد.
ونقرأ كتاب ربنا صباحاً ومساءً في هذه الجمعة، والجمعة الثانية مدة حياتنا، ومنذ كنا أطفالاً وإلى عصرنا قد تجاوزنا الستين، فنجده في كل مرة أحلى من الأول وأبلغ وأفصح فلا نمل ولا نكل.
وفي كل مرة نفهم معنىً جديداً، وننتبه لشيء جديد، فلن نجد هذا في كلام أحد من الخلق قط، حتى في كلام سيد البشر خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه.
فقوله تعالى: {ص} [ص:1] أي: صدق محمد، ولهذا غيرنا العادة؛ لأن هذا قسم، فلم نجد المقسم عليه، إلا ما قاله بعض المفسرين: إن (ص) معناها: صدق محمد، {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] المقسم عليه، فكأننا نقول: حقاً والله سافروا، حقاً والله حضروا، فهذا كثير في كلام العرب، فإذا قلنا: صدق محمد، {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] يبقى معناه: والقرآن ذي الذكر إن محمداً لصادق؛ لأنه سبق أن كذبوه، فيكرر الله هذا بطريق أخرى وأسلوب آخر، وبمناسبة جديدة بأن محمداً صادق، ورسول حق، أرسله ربنا ينطق بالقرآن حقاً، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
قوله: (والقرآن) الواو: واو القسم، كأننا قلنا: بالله وتالله، والواو أداة قسم.
قال: {ذِي الذِّكْرِ} [ص:1]، ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44]، (وإنه) أي: القرآن شرف لك يا محمد! وشرف للعرب والمسلمين، شرف للعرب لأنه نزل بلغتهم، وشرف للمسلمين لأنهم آمنوا به، واهتدوا بهدايته، وساروا على طريقته.
وخص الذكر بالأحكام من الحلال والحرام، خصه من البيان والتعريف ونشر الحقائق، وكل ذلك في القرآن.
{وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] أي: ذي الشرف الذي شرف به كل مؤمن بتلاوته وبالحلال والحرام وبالعلم وبالأخلاق وبالنور، كل هذه المعاني يشملها ذلك.
والقرآن كتاب الله المبتدأ بالحمد لله رب العالمين فالله يقسم به، والقسم بالقرآن شرع، فالقسم يكون بالله أو بصفة من صفاته أو بكلامه أو بنعت من نعوته، كل ذلك يدخل في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).(247/2)
تفسير قوله تعالى: (بل الذين كفروا في عزة وشقاق)
قال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص:2].
بل: حرف إضراب، وهو صرف الكلام الماضي واعتماد كلام آت، أي: دعك من كفر الكافرين وشرك المشركين، وكوننا أقسمنا على صدق نبينا فهذا حق لا مرية فيه، ولكن مع هذا {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص:2] فالكفار هؤلاء الذي أوحى لهم بهذا الوحي الشيطاني في تكذيب الرسالة المحمدية والكتاب المنزل عليه هو كفرهم وشركهم ووثنيتهم وما هم عليه من عزة، والعزة هنا: تكبرهم، واعتزازهم بأنفسهم، وتعاظمهم على الله ورسوله.
(وشقاق) أي: شاقوا الرسول وعصوه وخالفوه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في شق، إذ انشقوا عليه، وخرجوا عن طريق المؤمنين إلى طريق الكافرين، فخرجوا عن طريق المصدقين إلى طريق المكذبين، بل علة هؤلاء كفرهم وتكبرهم وعصيانهم ومخالفتهم، وشقاقهم على رسول الله ورسالته، فليس الأمر أمر دليل أو برهان، أو وحي أو كتاب، ولكنهم في أنفسهم لم يعجبهم إلا الكفر، ولم يؤمنوا إلا بسلطانه، فابتعدوا عن حزب الله، وكانوا من أحزاب الشيطان.(247/3)
تفسير قوله تعالى: (كم أهلكنا من قبلهم من قرن)
وقال تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3].
هؤلاء الذين تعاظموا واعتزوا بأنفسهم، وكذبوا كتاب الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ألم يفكروا كم مضت قبلهم من قرون وأجيال؟ و (كم) هنا للتكثير، أي: ما أكثر أولئك من القرون الماضية والأجيال السابقة ممن كانوا أعظم منهم حضارةً وقوة، وأعظم منهم إرادة وحكماً وسلطاناً أين هم؟ قال تعالى: {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3] عندما حل عليهم عذاب الله، وبلغت الروح الحلقوم، وأصبحوا تحت العذاب في الآخرة نادوا وتضرعوا ودعوا ربهم -وهيهات هيهات- قال تعالى: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3] أي: وليس الزمن زمن فرار، بل زمن ابتعاد عن عذاب الله وعقابه، وليس الوقت وقت إيمان، فقد سبق وقت الإيمان، وطولبوا بالإيمان وهم أحياء؛ ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يحثنا على أن ننتهز حياتنا قبل موتنا، وشبابنا قبل شيخوختنا، وصحتنا قبل مرضنا، وفراغنا قبل شغلنا، ومن لم ينتهز ذلك ولم يستفد منه كان كمن حارب السيف فغلبه، فالوقت كالسيف من لم يقطعه قطعه، فعندما أصبحوا في النيران وفي غضب الله أخذوا ينادون ويضرعون: يا مالك! ادع لنا ربك، ولكن هيهات هيهات، ألم تأتكم رسل الله بحدود الله، ألم يأمروكم بأمر الله؟ قالوا: بلى، وما دعاء الظالمين إلا في ضلال، وهكذا دواليك، ضلوا وأضلوا، ولم ينفعهم ذلك، فليس الوقت وقت دعاء ولا وقت ضراعة، لقد فات الوقت، وانتهت الحياة، وبقي حساب الله وعقابه جل جلاله.
قال ابن عباس رضي الله عنه: منذ مدة وأنا أحاول تفسير قوله تعالى: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3] ما معنى: مناص؟ إلى أن تعلمتها من طفل بدوي من الذين لا يزالون يتكلمون على الفطرة بطبيعة لغتهم وهي العربية الفصحى، فوجد طفلاً يلعب عند جحر النمل، ويسور هذا الجحر، يرفع عليه سوراً من رمل، فتريد النملة أن تخرج فيرفع السور من الرمل أكثر، ويقول للنمل: لا مناص لا مناص، أي: لا مفر لا مفر، فقلت: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3] أي: ولات حين مفر، فكان ابن عباس يذكر هذا ويقول: تعلمت هذا عن طفل بدوي أعرابي.
والأمر كما قال عليه الصلاة والسلام: (الحكمة ضالة المؤمن فأنى وجدها فهو أحق بها)، وقيل: (تعلموا العلم ولو في الصين) كتبت كتاباً في حياة مالك، وصدر منذ سنوات، وقلت فيه: إن أبا حنيفة قد روى عن مالك، فإذا بكاتب في صحيفة ومجلة سعودية مشهورة كتب مقالاً وأقام الدنيا ولم يقعدها وقال: كيف يقول فلان بأن أبا حنيفة وهو أسن من مالك قد روى عن مالك، وظن أن هذه مصيبة وبلية أصابت المسلمين، وكادت تسقط السماء وتخسف الأرض.
وقديماً قالوا: لا ينبل الرجل حتى يروي عمن هو فوقه ومن هو دونه ومن هو مثله، فكون أبي حنيفة روى عن مالك هذا لا ينقص مالكاً في شيء، ويبقى مكانه محفوظاً، وباب كبير في مصطلح الحديث عنوانه: باب رواية الأكابر عن الأصاغر، أي: الأكابر سناً وأحياناً الأكابر مقاماً، والنبي صلى الله عليه وسلم روى عن تميم الداري وهو على المنبر، وأين رسول الله من تميم؟! وقف على المنبر وقال: حدثني تميم بقصة الجساسة وهي قصة طويلة، وقال تميم وقال تميم، ولذلك علماؤنا ومحدثونا يبتدئون الأمثلة برواية الأكابر عن الأصاغر، وبرواية رسول الله عليه الصلاة والسلام عن تميم.
عندما رأيت الأمر وصل لهذا قلت: سيكون هناك شغب ولا فائدة، سيكون الجواب لا جواب، فلم أجب عليه، ولكن لم أفرغ في مناسبة لتصفح الكتاب مرة أخرى، فقد طبع ثلاث مرات.
فقوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3] أي: كم أهلك ربنا قبلهم، وكم للتكثير، فما أكثر من أهلك، وهم أعظم من قريش وأعظم من العرب قوة وملكاً وسلطاناً وغنىً وحضارة، ذهبوا وماتوا، ونتذكر أمثلة قد ملئ القرآن منها بالكثير الكثير، فهل ظن هؤلاء أنهم سيعجزوننا أن نؤدبهم أو أن ننتقم منهم ونعاقبهم.
وكونهم دعوا إلى الله وغرغروا بالموت فهيهات هيهات أن ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت، إذ لا مناص ولا مفر من عذاب الله وعقوبته، وليس الوقت وقت إيمان، قد فات وقته.(247/4)
تفسير قوله تعالى: (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم)
قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4].
وقالوا: هذا المنذر الذي أنذرهم وتوعدهم هو واحد منهم ومن بينهم، ليس بأكبرهم سناً، ولا بأغناهم مالاً، كما قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا} [الزخرف:31] على أحد من العظماء كما يتصورونه {مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أي: من الطائف أو مكة، جاء محمد صلى الله عليه وسلم الوحي ولم يتجاوز أربعين سنة، وهم أبناء السبعين أو تجاوزوها، فاستكثروا على واحد منهم ليس بأسنهم ولا أغناهم.(247/5)
تفسير سورة ص [12 - 17]
يذكر الله أخبار المكذبين من السابقين، وهم قوم نوح وعاد وثمود وفرعون وقوم لوط، وأنه أهلكهم رغم ما كانوا فيه من قوة وجبروت، وما آتاهم الله من الجاه والسلطان، فكذلك المكذبون من هذه الأمة إذا لم يؤمنوا أهلكوا.(248/1)
تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد)
قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص:12 - 14].
هؤلاء الذين كذبوا وكذّبوا، وكفروا ونشروا الكفر وجحدوا وأصروا على الجحود، وآبوا إلى من سبقهم من أئمة الكفر، فكفروا كفرهم، ونشروا ضلالهم، وكانوا عوناً على الأنبياء للكافرين، هؤلاء يقول الله عنهم منذراً ومهدداً: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص:12 - 14].
يقول جل جلاله معلماً ومبلغاً رسوله صلى الله عليه وسلم: لقد كفر وكذب الذين من قبلكم، وكانوا أقوى منكم سلطاناً، وأكثر جنداً، وأغنى مالاً، وأطول حياة، وأعظم حضارة، فكذب قبلهم قوم نوح الذين عاشوا ألف سنة أو ألفين، واستمر نوح يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك أبى الله جل جلاله بعدما أملى لهم وأمهلهم إلا نهايتهم وإغراقهم بالطوفان، فلم يبق منهم إلا من آمن، وما آمن مع نوح إلا قليل.
فقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} [ص:12] أي: قبل هؤلاء الأحزاب من كفار الناس عرباً وعجماً الذين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله وإلى الإيمان به، ولكنهم أصروا على الكفر والجحود.
قوله: {قَوْمُ نُوحٍ} [ص:12].
كلمة (قوم) مذكرة، وكذبت: مؤنثة، وروعي فيها المعنى، أي: عشيرة نوح أو قبيلة نوح أو طائفة نوح، وما كان كذلك يذكر ويؤنث فيقال: كذب قوم نوح وكذبت قوم نوح.
قال تعالى: {وَعَادٌ} [ص:12].
ومعلوم حال عاد، فقبائل عاد كانوا أقوياء الأقدام طوال الأجسام وكانوا عمالقة، ولا يزال بعض ذلك يوجد في مأرب، ويوجد حفائر في بلاد العرب والجزيرة، بل ومثل ذلك في جميع بقاع الأرض تركه الله أثراً من آثار أولئك، ومنذراً لمن فعل فعلهم أن يعاقب عقوبتهم وأن يدمر دمارهم، وأن يهلك هلاكهم.
قال تعالى: {وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ} [ص:12].
فرعون الذي قال يوماً: أنا ربكم الأعلى، ومن غريب أمر الفراعنة أن فرعون يدعي الألوهية، وفرعون آخر يذل لليهود فيبيع دينه وكرامته وشرفه ووطنه وقومه، وشأن فرعون أن يدعي الألوهية لا أن يكون عبداً لليهود الذين صاروا قروناً عبيداً لآبائه وأجداده، وفرعونية هذا العصر فرعونية ذل وهوان، ليست دعوى ألوهية ولكن دعوى اليهودية والذل والهوان، والكل يلقى عقابه ويلقى جزاءه، ولجزاء الله أشد وأنكى.
ففرعون موسى قال: أنا ربكم الأعلى، وقال: ما علمت لكم من إله غيري، وكان له أوتاد ينصبها يعذب بها الناس، فيربط الأيدي والأرجل، ويعذب هذا الذي يريد أن يعذبه ولا يؤمن بألوهيته وتسلط عليه العقارب والحيات والهوام، وهو يتضاحك بعذابه، يربطه بالأوتاد إلى أن تنفصل أعضاؤه بعضها عن بعض، تقول العرب: فلان ذو أوتاد أي: ثابت وقوي وذو سلطان وذو بهاء، وذو طغيان وجبروت، وكل ذلك يمكن أن يطلق ويفسر به الآية الكريمة، فلقد كان فرعون -وحدث عن بني إسرائيل ولا حرج- من الظلم والأذى والطغيان والجبروت على الخلق حتى أذله الله وأهانه وأغرقه، وبقي جسده عبرة لمن يعتبر إلى عصرنا هذا.
قال تعالى: {وَثَمُودُ} [ص:13].
أي: وثمود قوم صالح كانوا أصحاب طغيان وحضارة وغنىً، فازدادوا كفراً بذلك ولم يشكروا النعمة، ولم يحمدوا ربهم فعاقبهم الله بما عاقبهم.
قال تعالى: {وَقَوْمُ لُوطٍ} [ص:13].
عندما نشروا الفاحشة التي لم يسبقوا لمثلها من الاستغناء بالذكران عن النساء، وحاولوا بكل فسوق أن يلوطوا بالملائكة عندما تشكلوا إنساً، فما كان من الملائكة إلا أن أشاروا إليهم فصرفت أبصارهم عنهم، وجاء عذاب الله من فوقهم ومن تحتهم، وقذفوا بحجارة من نار، ورفعوا إلى أن سمعت الملائكة في السماء صياح ديكتهم ونهيق حميرهم، ثم قلب جبريل أرضهم أرض سدوم عاليها سافلها، ولا تزال آثارها إلى اليوم وهو ما يسمى بالبحر الميت، وهذا تصديق لما نزل على نبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} [ص:13].
الأيكة: الغابة الكثيفة، وهم قوم شعيب، وقيل: كانوا مستقيمين ثم كفروا وكذبوا نبيهم شعيباً فانتقم الله منهم.
فهذه الأقوام كلها قال الله عنها: ((أولئك الأحزاب))، أي: أولئك هم الأحزاب في طغيانهم وقوتهم وشدة بأسهم، لا هؤلاء الذين ما حكمهم حاكم يوماً ولا اجتمعت لهم كلمة، ولا نصبت لهم أمة، ومع ذلك أبوا إلا الكفر بسيد الأنبياء وإمام الخلق صلى الله عليه وسلم، وما خافوا ولا هابوا عذاباً ولا عقوبة، فهؤلاء كانوا أفضل منهم جاهاً وسلطاناً وأعماراً وأبداناً، ومع ذلك لم يفلتوا من العذاب، وما عند الله أشد وأنكى.
قال تعالى: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص:14].
(إن) معناها: ليس أو ما، فإن: نافية أي: ما كل هؤلاء، قوله: {فَحَقَّ عِقَابِ} [ص:14] أي: وجب عقابهم ودمارهم وهلاكهم، ولقد فعل ربنا ذلك فمضت الأزمنة والأعمار وقصصهم لا تزال تذكر في كتاب الله عبرة للمعتبرين.
وكثيراً ما يتساءل بعض الجهلة الذين درسوا على أيدي اليهود والنصارى وفي جامعاتهم ويقولون: نحن نؤمن بإله واحد، ولكن لا نؤمن بالرسل، ولكن الله يخبر أنه عذب قوم نوح ومكر بهم وبقية من ذكر؛ لأنهم كذبوا رسلهم، كذبوا نوحاً وهوداً وصالحاً ولوطاً وشعيباً والأنبياء السابقين، فكانوا لتكذيبهم رسلهم استحقوا العذاب في الدنيا، وعذاب الله أشد يوم القيامة.
وعلى ذلك فلابد من الإيمان بالله واحداً وبالرسول المبعوث مرسلاً، فنبينا قد بعث للعرب والعجم فهو نبي الخلق جميعاً، وهو الرسول الخاتم الذي لا نبي بعده ولا رسول، كذلك الإيمان بالإله الواحد جل جلاله لا يكون إلا عن طريق الأنبياء؛ لأننا وجدنا من يدعي أنه يؤمن بالله فتراه يعبد حجراً أو يعبد ملكاً أو يعبد حيواناً.
فنحن عندما نؤمن بمحمد سيد البشر صلى الله عليه وسلم فعنه تعلمنا التوحيد؛ لأن ربنا جل جلاله لا يشبه أحداً من خلقه ولا يشبهه أحد من خلقه، فكل ما يخطر على بالك فربنا مخالف له، فهو الواحد صفةً وأفعالاً وذاتاً جل جلاله وعلا مقامه، وهكذا فإن الطرق مسدودة مغلقة إلى الإيمان بالله إلا عن طريق محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.(248/2)
تفسير قوله تعالى: (وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق)
قال الله تعالى: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص:15].
يقول الله تعالى: ما ينتظر هؤلاء الكافرون من العرب وممن كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من العجم إلا الصيحة، إذ إن الجميع معنيين بدعوته صلى الله عليه وسلم، {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، فهو عندما دعاهم لزمتهم دعوته والإيمان به، فمن لم يفعل فهو كافر مخلد في النار، وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).
وسينزل عيسى في آخر الزمان وهو على دين نبينا دين الإسلام، فيصلي صلاتنا، ويحج حجنا، ويشهد شهادتنا.
والأنبياء من قبل إنما هم أنبياء قوميون، نبوءتهم ورسالتهم موقوتة في زمن معين لأقوام معينين، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كان الأنبياء السابقين يبعثون إلى أقوامهم خاصة وبعثت إلى الناس كافة)، فعيسى عليه السلام عندما ينزل سينزل تابعاً لنبينا صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [ص:15].
والصيحة كما في الحديث الصحيح في الكتب الستة: أن إسرافيل فمه في البوق وجبهته منحنية ينتظر أمر الله جل جلاله لينفخ في الصور.
وهي نفخات ثلاث: نفخة الفزع التي يرعب فيها كل حي، ثم نفخة الموت فيموت الجميع ويبقى الله الواحد، فيقول: لمن الملك؟ فيجيب على نفسه: أنا الملك أين الملوك؟ وهانحن نرى من ادعى أنه ملك الملوك، كيف أذله الله وحقره حتى عجز عن أن يجد مكاناً ينام فيه، ورفضته أرض المسلمين وأرض النصارى وأرض اليهود، ويوشك أن يدخل باطن الأرض فيجد من عذاب الله ونكاله ما هو صالح لأمثاله؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن أذل الأسماء وأخنعها ملك الملوك).
ولذلك من تألى على الله ووصف نفسه بصفة هي من صفات الله كان حرياً أن يذل ويهان، ومن يتأله على الله يكذبه، ومن يجعل نفسه إلهاً يقصمه الله فيهينه ويذله ويحقره ويجعله عبرة للمعتبرين في حياته وبعد مماته.
فقوله تعالى: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [ص:15].
أي: لا ينتظرون بعنادهم وكفرهم إلا أن ينفخ إسرافيل في الصور، ويحشرون إلى الله للعرض عليه والحساب والعقاب، وإلى النار خالدين فيها مخلدين، فليكذبوا إن شاءوا، وهيهات هيهات أن ينكروا ما تشاهده عيونهم وتحسه أجسامهم، فهم في العذاب كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.
قال تعالى: {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص:15].
أي: ليس لها رجعة، فلا يمكن أن يعودوا مرة أخرى للدنيا فهذه النفخة لا تعاد مرة أخرى، فإذا كانت نفخة فزع أتت بعدها نفخة الموت، وإذا كانت نفخة موت أتى بعدها البعث والعرض على الله ليجازى المحسن والمسيء حسب عقيدته وصدقه.
يقال: (فواق) أي: رجعة وتردد، أي: ما لهذه النفخة رجعة ولا تردد ولا عودة.
ويقال (الفواق) بضم الفاء: وهي حلب الناقة مرة بعد مرة، إذ تحلب الناقة ثم تترك زمناً ليرضع منها فصيلها، وتترك حيناً ويعود إليها الحليب مرة أخرى، ثم تحلب مرة أخرى وهكذا.(248/3)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب)
قال الله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16].
قال هؤلاء الكفرة المستهزئون: يقول لنا محمد إن لنا نصيباً من الجنة إن آمنا، وإن لنا نصيباً من عذاب الآخرة إن بقينا على الكفر.
القط: الكتاب، والمقصود: الحظ، ومن المعلوم أن المؤمن يأخذ كتابه بيمينه والكافر يأخذه بيساره، فهم طلبوا أن يروا حظوظهم من الجنة إن آمنوا، وحظوظهم من النار إن كفروا فطلبوا تعجليها.
فقوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] أي: عجل لنا حظنا وما قدرته لنا في الآخرة نريده معجلاً عذاباً كان أو رحمة.
قوله تعالى: {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16].
أي: قبل الحساب الذي ذكره الله يوم القيامة، فيطلبون تعجيل كتابهم وهم لا يزالون أحياء، ويطلبون نصيبهم من الجنة إذا هم آمنوا، وأما الدنيا فمهما كانت فإن جنتها زائلة، ولكنهم قد يعيشون طيبين صالحين عابدين لو آمنوا، ولكنهم كفروا وأصروا على الكفر والجحود.(248/4)
تفسير قوله تعالى: (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود)
قال تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17].
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: لست وحدك المكذب من بين الأنبياء، فقد كذبوا قبلك نوحاً، وكذبوا قبلك لوطاً، وكذبوا هوداً، وكذبوا صالحاً، فـ {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ص:17].(248/5)
تفسير سورة ص [17 - 20]
في القرآن الكريم يذكر الله قصص كثير من النبيين للاتعاظ والاعتبار، ومن ذلك ما ذكره الله تعالى من قصة سيدنا داود عليه السلام في سورة (ص) وأنه كان أواباً حتى سخر الله معه الجبال والطير تسبح بالعشي والإشراق.(249/1)
تفسير قوله تعالى: (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود)
قال الله جل جلاله: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17].
لا نزال في سورة (ص) مع داود عليه السلام، ومع نبينا عليه الصلاة والسلام وهو يدعو قومه والناس أجمعين إلى عبادة الله الواحد، وترك الأصنام والأوثان والشركاء من غير الله، فقال الله له: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ص:17].
يسليه جل جلاله ويعزيه بعد أن قص علينا قصص أولئك الكافرين الجاحدين من تكذيبهم له، ومن صدهم لرسالته، وحربهم لدينه، ومقاومتهم لأتباعه، وكفرهم بالله صباح مساء، ولكن الله أنكر عليهم وهددهم بما صنع بالأمم السابقين، ثم وعد نبيه وصبره فقال: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ص:17] أي: اصبر يا محمد! فإن لك أجراً عندما تدعوهم إلى الله.
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ص:17] أي: من تكذيبك، وعدم الإيمان بك.
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17].
ثم أخذ يذكر له قصص الأنبياء من إخوانه السابقين وآبائه كقصة داود وسليمان وأبيه الأعلى إبراهيم وإسماعيل وبقية أنبياء بني إسرائيل، وما حصل لهم من المشركين الكافرين ممن لم يقبل رسالتهم ودعوتهم فقال له: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} [ص:17] أي: تذكر داود وما أُملي عليك فيه فيما سبق من سور وآي.
قوله: {عَبْدَنَا دَاوُدَ} [ص:17] ونسبة عبوديته إلى الله فيها تشريف لداود، وداود هو أبو سليمان، وهو أحد كبار الأنبياء من بني إسرائيل، وكبار قومه بما أعطاه الله من معجزات وكرامات، وهي مفصّلة في سورة الأنبياء، وهنا يذكر الله عنه قصة فيها عبرة.
قوله: {ذَا الأَيْدِ} [ص:17].
أي: صاحب الأيد، والأيد: القوة.
قوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17] أي: رجّاع لله، ورجّاع للحق.
و (آب) أي رجع، والأواب: كثير الرجوع، أي: كثير الرجوع إلى الله في عبادته وطاعته وأعماله، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح: (أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، فقد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه) أي: كان يوزّع أيامه يوماً للعبادة ويوماً للقضاء والفصل بين المتخاصمين، ويوماً لشئونه الخاصة ونسائه.(249/2)
تفسير قوله تعالى: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق)
قال الله عنه: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18]: أي: من معجزات داود أن الله هيأ له الجبال تسبّح وتذكر الله معه، وتوحّده معه حيث سار من الأرض.
{يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18].
في العشي: في المساء إلى الغروب، وفي الصباح منذ الإشراق إلى المساء.
وكون الجمادات توحّد وتسبّح هذا من المعلوم ضرورة في السرائر، وقد قال الله عن الأشياء كلها: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] (وإن من شيء) أي: جماداً كان أو متحركاً، حيواناً كان أو إنساناً، ملكاً كان أو جناً، كل ذلك يسبّح الله ويعبده ويوحّده، ولكننا لا نفهم تسبيحهم ولا لغتهم ولكن الله يفهم لغتهم وتسبيحهم لداود وولده سليمان عليهما وعلى نبينا السلام، كما أفهم ذلك لنبينا عليه الصلاة والسلام، فقد كلّمه الجذع والضب والجمل والجماد.
قال تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} [ص:18] ومن المعلوم أن لداود صوتاً كان إذا سمعه الطير والشجر والحجر حنَّ وأنّ إليه، وسبّح بتسبيحه، وذكر الله بذكره، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً على أبي موسى الأشعري وهو يقرأ القرآن، فوقف برهة ينصت إليه معجباً بصوته وتلاوته وبتدبّره للتلاوة والقراءة، فلما أصبح الصباح قال له عليه الصلاة والسلام: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) أوتي جمالاً وحلاوة في الصوت كأنه صوت ومزمار داود، وقد قال ربنا: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1] وقُرئ {يَزِيدُ فِي الْحَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1] هكذا كان داود، فإذا أخذ يتلو الزبور ويذكر ربه ويوحده ويسبحه أو يبكي على ذنبه أو زلّته فهو يتلو ويتغنى بتلاوة ما أُنزل عليه من كتاب الله الزبور، ومن تسبيحه وتحميده، كان يسبّح معه -حال تسبيحه- الطير والجماد، والشجر والحجر، وكل من في الأرض ممن يسمع صوته {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18] في العشي مساء، وفي الإشراق صباحاً.
قال عبد الله بن عباس: (ما كنت أدري ما صلاة إشراق حتى قالت لي أم هانئ: إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دخل عندها فاغتسل وصلى ثمان ركعات ضحى وإشراقاً، وقال لها: يا أم هانئ! هذه صلاة الإشراق).
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم ثلاث وصايا: قال: لا تنم إلا على وتر، وصم من كل شهر ثلاثة أيام، وصل ركعتي الضحى).
وصلاة الضحى: هي ثمان ركعات في الأكثر، وركعتان في الأقل، وهي سنة مستحبة عند جميع المذاهب، ووقتها عند شروق الشمس وصعودها في الأفق، وتعميمها على الأرض وهاداً وجبالاً، يقال لغة: شرقت الشمس أي: طلعت، وأشرقت الشمس: أي ابيضّت، وصعدت في الآفاق وأنارت الجبال والوهاد: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18].(249/3)
تفسير قوله تعالى: (والطير محشورة)
قال تعالى: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:19].
أي: كما سخّر الله له الجبال تُسبّح معه عشية وصباحاً سخّر له الطير، والألف واللام للجمع أي: جميع أنواع الطير، فكانت كذلك تحوم في الجو عندما تسمع داود يتغنى بذكر ربه، وبتوحيده وتسبيحه، وذاك معنى قوله تعالى: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} [ص:19] أي: محبوسة واقفة في الهواء تسبّح وتوحّد وتنزّه وتمجّد ربها مع داود نبي الله، وهو يسبّح، ويتلو الزبور بصوته الشجي، قوله: {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:19].
((كُلٌّ)) التنوين هنا تنوين العوض أي: كل الجبال والطير والحيوانات تجدها أوّابة ومطيعة.(249/4)
تفسير قوله تعالى: (وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة)
قال تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20].
جمع الله لداود بين الملك والنبوة، وشد ملكه وآزره وقوّاه، وجعل له من مظاهر العفّة والقوة والمال وكثرة الجند ما كان على بابه من الحرس والجند (33000) صباحاً و (33000) مساء، ولا يأتي الشخص الدور لحراسة داود إلا مرة في العام قالوا: لكثرة جيوشه وحرسه وجنده، وما أعد الله له وهيأ وذلّل من غنى ومال وسلطان وجاه في قيام ملكه، وقيام رسالته، فكان قوياً في ملكه ورسالته وعبادته، ذا أيد كما وصفه الله جل جلاله.
وقال بعض المفسّرين في تفسير {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [ص:20]: جاءه خصمان يشتكي أحدهما الآخر، وقال المشتكي: إن فلاناً غصبني بقري، فأرجأه إلى اليوم الثاني، وإذا بهما يأتيانه، فيأمر داود بقتل المدّعي الذي أُخذت بقره، فقال المشتكي: يا نبي الله! أنا المظلوم، وأنا الذي غصبت بقري، فكيف تأمر بقتلي؟! قال: فلقد أمرني الله بقتلك، فانظر ماذا صنعت؟ قال: إن كان ولا بد فهو لم يأمر بقتلي لهذه الشكوى، ولكنني سبق لي أن قتلت أبا هذا الذي غصب بقري، ولم يعلم بذلك إلا هو، فقد آن أوان القصاص والعقاب على فعلي هذا.
عند ذلك اشتد ملكه، وأصبح جميع رعيته وأتباعه يهابونه، ويخشون أن يكتموه ذنوبهم ومعاصيهم التي اكتشفها بوحي من الله، فأمر بقتل الجاني على جناية سبقت منه لا على الذي اشتكى منها وهو منها مظلوم.
وإن صحت هذه القصة فهي لا تتنافى مع عموم معنى الكلمة {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [ص:20] أي: شد ملكه بالجاه وبالجند وبالحكمة والسلطان، وبقوة المال والمعرفة للقضاء والأحكام.
{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] أي: أكرمناه بمعرفة الحكمة والصواب والرسالة والنبوة، وقد قال الله تعالى لأمهات المؤمنين: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب حديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم توقف؛ فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ما بالك لا تكتب؟ فقال: يا رسول الله! لقد قالت لي قريش: أتكتب عن رسول الله كل ما يقول وهو بشر ينطق بالرضا والغضب؟! فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: اكتب فوالله لا يخرج منه إلا الحق) وهو الحكيم صلى الله عليه وسلم، وقد أوتي جوامع الكلم.
قوله: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20].
فصل الخطاب: الفصل في القضاء ومعرفة الحكم، وتمييز الظالم من المظلوم، ومعرفة الحقوق، وأين ذهبت؟ ومن غصبها؟ ومن غُصبت منه؟ وهي علم قائم بنفسه.
وقد يكون الرجل عالماً كبيراً ويكون مغفلاً فلا ينتبه للظالم من المظلوم، وبالتالي لا يولى لأخذ الحقوق من الظلمة، وقد يكون الرجل قليل العلم ولكنه أُعطي معرفة الظالم من المظلوم حكمة وبداهة وفطرة، وهذا كثير في تاريخ القضاء والقضاة، وفي تاريخ المسلمين القديم والحديث، فكان داود قد أُعطي فصل الخطاب، وما هو فصل الخطاب؟ قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: هو الحكم بالبينة على المدّعي واليمين على من أنكر.
وقيل: فصل الخطاب: إرجاء الدعوى زمناً لعله يهتدي ويميّز الظالم من المظلوم، خاصة وقد يكون الظلمة لسنين فُصحاء بباطلهم، ويكون المظلوم عيي اللسان في بيان حقه وإظهاره، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (لعل أحدكم يكون أبين بحجته من أحد، فأحكم له بنحو ما أسمع، فمن حكمت له وليس بحق فإنما أقطع له قطعة من نار) أي: الحكم يكون حسب القول، وحسب ظاهر الكلام، فإذا عجز صاحب الحق عن أن يظهر حقه فحُكم له بمقتضى ذلك فإنما هي قطعة من النار، وليس المراد أن يحكم الحاكم بعد تبيين ذلك الحق له وهو يعلم بطلانه، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يصدر هذا عنه قط في حكم من الأحكام، ولا قضاء من الأقضية، ولكنه يقول ذلك مشرّعاً لأتباعه وأمته؛ حتى لا تغتر بالقول، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة).
من بعض البيان والفصاحة والبلاغة سحر يسحر به المتكلم سامعيه، فيموه الحقائق، ويظهر الحق باطلاً، والباطل حقاً، فيسحر الأسماع كما يسحر غيره الأعين.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] معناه: أعطى الله داود الصواب في القول والحكم والشكوى، بحيث يكون خطابه وحكمه فصلاً يرجع سامعوه إلى الصواب؛ لأنهم يرون فيه حقوقهم، ويرون فيه عودة ما ظلموا فيه، وزوال الظلم عنهم.(249/5)
تفسير سورة ص [21 - 29]
لقد أمر الله عباده بالحق وإقامة العدل ورفع التظالم فيما بينهم وشرع لذلك إقامة المحاكم ودور القضاء، وفي قصة الخصمين اللذين اختصما إلى نبي الله داود في نعاجهما عظة وعبرة لكل حاكم وما ينبغي أن يكون عليه.(250/1)
تفسير قوله تعالى: (وهل أتاك نبأ الخصم)
قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:21 - 23].
يقص الله علينا جل جلاله قضية حكم فيها داود، وكانت تعريضاً بفعله، يقول الله لنبيه: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص:21].
ومن أين يأتي نبأ هذا الخصم إلا من الله جل جلاله، فهو أُمي لم يقرأ في كتاب، وإنما علّمه الله بحكمته ووحيه، فكان أعلم أهل الأرض متقدمهم ومتأخرهم إلى يوم القيامة، وكما قال الله له: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113] كفاك بالعلم في أمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم فأعظم المعجزات أن يضعوك بين أمة جاهلية لا تعلم القراءة، ولا تدري ما الكتابة، فهو يعلم علم الأولين، ويعلم بينهم علم الآخرين.
قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص:21].
هذا استفهام تقريري يذكره الله تنبيهاً له ليسمع ما يوحى إليه، وما يذكر لأتباعه من المؤمنين، أي: هل وصلك يا محمد خبر الخصم؟ والخصم: كلمة تدل على المفرد والمثنى والجمع، وعلى المؤنث والمذكر، يُقال: هذا خصم، وهذان خصم، وهؤلاء خصم، ولذلك رجع الضمير إلى جماعة فقال: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا} [ص:21] أي: الخصوم إذ صعدوا إليه وتسلقوه.
وقد قسم داود عمله في حياته على ثلاثة أيام: يوم لعبادة الله، فيبقى في محراب بيته ومسجده للعبادة، وتدبر التوراة، وتلاوة الزبور، والتسبيح والتمجيد والتعظيم، ويوم للفصل والقضاء بين الناس، ويوم لمشاغله الخاصة ولنسائه أي: للدنيا.
{إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ} [ص:22].
جاء رجلان إلى الحرس على أبواب داود وطلبا من الحرس أن يدخلا على داود ليفصل بينهما في قضية، فقال الحرس: ليس هذا يوم القضاء وإنما هذا يوم عبادة داود.
وإذا بالرجلين يتسوران حائطاً ويصعدان فيه ويقفزان إلى داخل الدار فيدخلان على داود في محرابه، فعندما رآهما فزِع واستغرب: كيف دخل هذان عليّ في يوم عبادتي؟! وكيف لم يمنعهما الحرس؟ {قَالُوا لا تَخَفْ} [ص:22] لأنا لم نأتك سُرّاقاً ولا قتلة، وإنما أتينا خصوماً {قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص:22] إنما نحن شخصان تخاصما واختلفا على حق من حقوق الدنيا.
قوله: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص:22] أي: ظلم بعضنا بعضاً وطغى عليه وغصبه حقه.
{فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ} [ص:22] من الشطط وهو الابتعاد، أي: لا تبتعد بنا عن الحق، ولا تتجاوز الحق في الحكم بيننا، والمعنى: لا تكن ظالماً ولا تحكم لأحدنا على الآخر باطلاً، بل أد الحق لأهله، فنحن قد رضينا حكمك.
{وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص:22] أي: بيّن لنا وأنر لنا الصراط السوي والحق البيّن الذي لا شطط فيه ولا زيادة ولا نقصان اهدنا إليه وعلّمناه ووفقنا له فنحن راجعون إلى حكمك.(250/2)
تفسير قوله تعالى: (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة)
ثم ذكر الخصوم قال أحدهما وهو المدّعي: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23].
أي: هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، وأنا لي نعجة واحدة، فطلب مني أن يأخذها وينفق عليها ويرعاها ويقوم بها.
قوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23].
أي: تعالى وتعزز عليّ، فلم يقبل كلامي وترفع عليّ واحتقرني، وإذا بداود يحكم: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:24] حكم بظلم هذا الذي طلبه كفالة تلك النعجة إلى نعاجه فقال: إنه ظالم.
{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص:24] الخلطاء: الشركاء الذين يخلطون أرزاقهم وشركتهم بعضها ببعض.
قوله {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص:24] أي: ليظلم بعضهم بعضاً من البغي والظلم والاعتداء.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24] أي: إلا المؤمنين بالله، القائمين بالصالحات، وقد يكون هناك مؤمنون يبغي بعضهم على بعض، ويأكل بعضهم حق بعض {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24] وهؤلاء المؤمنون العاملون الصالحون قلة بين الشركاء في شركاتهم وأموالهم ومعاملاتهم.
وإذا بالشخصين والرجلين يتضاحكان ويقول أحدهما للآخر: لقد حكم الرجل على نفسه، وإذا به يفتقدهما وقد طارا، فلا يجد أحداً منهما، ما القصة؟ قال الله بعد ذلك: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24] عندما قالا ذلك انتبه أن هذه خصومة ليست كالخصومة، هذان رجلان غريبان أتيا ليقرّعانه ويؤدبّانه على شيء قد صدر منه هو فقال بعضهم لبعض: لقد حكم الرجل على نفسه، واعترف بأنه هو الذي سرق، وهو الذي طمع وأراد ضم واحدة إلى تسع وتسعين.
قوله: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص:24] الظن هنا بمعنى التحقق.
قوله: {فَتَنَّاهُ} [ص:24] أي اختبرناه وابتليناه.
يقول الله جل جلاله: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24] عندما قال أحدهما للآخر: لقد حكم الرجل على نفسه ثم طارا ولم يُريا بعد ذلك علم أنهما ملكان أتيا ليؤدباه بأمر الله على ما صدر منه {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} [ص:24] أي فأخذ يستغفر ربه من ذلك مسبّحاً وممجداً ومعظماً ومعه الجبال والطير والدواب.
{وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص:24] أي: خر ساجداً لله، يُقال: سجد وركع والمعنى واحد، والبعض فهمها على ظاهرها فقال: يكون السجود ركوعاً بمعنى: سجدة التلاوة يكفي فيها الركوع كما هو هنا، وهذه السجدة ليست بلازمة، وإنما هي مستحبة، فعلها صلى الله عليه وسلم وتركها، والسجود فيها إنما هو مذهب أبي حنيفة ومالك، وأصحاب المذاهب الأخرى على خلاف ذلك، فكان هذا سجوداً وركوعاً لله، وتوبة واستغفاراً مما صدر عن داود، وما الذي صدر؟ فسّرت الآية كما تدل عليها مدلولاتها، ولكن جميع قصص أنبياء بني إسرائيل (99) بالمائة منها إسرائيليات مروية من التوراة، ومن كتب بني إسرائيل، وما أكذبها وأكثر ضلالها وزيفها! وقد تسرّب بعض ذلك في دفاترنا عن يهود أسلموا أو تظاهروا بالإسلام كـ كعب الأحبار ووهب بن منبه وكان ابن عباس كثيراً ما يسمع عن كعب ويروي، فرويت أحاديث مرفوعة وموقوفة وأسانيدها ليست بالصحيحة؛ اعتلالاً في الطرق، وتجريحاً للرواة والرجال، ولكن داود قد صدر عنه شيء، فما هذا الشيء؟ على عادة بني إسرائيل فإنهم يجرّحون أنبياءهم، فيذمون سليمان ويتهمونه بالفواحش والمنكرات حتى بالمحارم، ومعاذ الله من ذلك، وإننا لنقدس ونجل أنبياءهم الذين ذكرهم الله في كتابه أكثر مما يجلّونهم هم، ونحن نقول بعصمة الأنبياء فلن يذنب نبي، ولا يصدر عن رسول ذنب يؤاخذ به إلا ما يمكن أن يكون ذنباً في شريعة وغير ذنب في شريعة أخرى، فذاك لا يُعد ذنباً.
والقصة كما يزعمون في الإسرائيليات وفي التفاسير، أما ابن كثير فألغى ذلك ولم يذكره، والقرطبي ألغى ذلك ولم يذكره، وذكره البغوي قبلهم وقال: بأن داود أشرف مرة من سطح بيته أو نافذة بيته فرأى امرأة على سطح تغتسل عُريانة، فعندما رآها فُتن بها، وانتبهت له فسترت نفسها بشعرها، فسترها الشعر في جميع جسدها فازداد بها فتنة، وسأل من هي؟ فقيل: هي زوجة أوريا أحد ضباط جيشه، وزعموا أنه أرسله إلى القتال، فرجع حياً، فأرسله مرة ثانية فرجع حياً، ثم عاد فأرسله فقُتل، فتزوجها.
وهذا لم يصدر عن نبي الله داود ولكن اليهود حسب إفسادهم ونفوسهم المريضة يتصورون أنبياءهم على شاكلتهم، وجعلوا من الفساد والإفساد ديناً، وهكذا التوراة مليئة بذلك: بقتل الأنبياء، وذكرهم بالفواحش والمنكرات، بل بالكلام في الله والكذب عليه جل جلاله وعز مقامه.
وقالت رواية: بل رآها وأرسل إلى أوريا وقال له: تنازل لي عن زوجتك، قال: يا نبي الله! لك تسع وتسعون زوجة ولي زوجة واحدة وتطمع فيها؟! قال: زوجنيها، فأجبره فتزوجها.
وقالت رواية عندنا: رأى شيئاً وحدّث نفسه، وحديث النفس ليس ذنباً، أما أنه أرسل أوريا للقتل أو طلب من أوريا أن يتنازل له عن هذه الزوجة فلا! فلم يصدر هذا عن نبي، ولا عن مؤمن تقي فكيف بالنبي؟! وإنما حدّث نفسه وشغل نفسه بذلك، وقبل أن يصدر ذلك عنه امتحنه الله واختبره بأن أرسل إليه ملكين يطلبان حكمه وقضاءه في اليوم الذي لا يخرج فيه عن معبده ومحرابه.
فعندما دخلا وقالا: {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص:22] والملائكة لا يبغي بعضها على بعض ولكنه ضرب مثال، وليس الأمر منهم واقعاً وإنما ضربوا مثالاً له؛ ليأخذ الحكمة من ذلك، ويتنبه ويتوب إلى الله، فعندما حكم قالوا: لقد حكم الرجل على نفسه؛ إذ هو الذي طلب، وهذا المعنى يؤكده سياق الآية: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص:22] إلى أن ذكر {إِنَّ هَذَا أَخِي} [ص:23] أخوه في الملائكية وفي الخلقة النورانية {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص:23] وهو بذلك لم يذكر المرأة، ولكن أراد أن يضرب المثل.
{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} [ص:23] معناه: أن داود خطر بباله أن يفعل، ولكنه لم يفعل، ولا يفعل ذلك رجل صالح فكيف بنبي معصوم؟ ولكن اليهود المفسدين يتصورون ذلك.
فعندما شعر داود بهذا ندم وتاب، وهي إنما كانت خواطر نفس، وتقول الحكمة عند أهل الآداب والرقائق: حسنات الأبرار سيئات المقربين، المقرب لله أكثر من المبعد، فلا يليق به حتى أن يحدث نفسه بهذا، فكيف يخطر له بالبال؟! والخواطر لا حكم فيها حتى في شريعتنا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل).
فمن حدّث نفسه بالسيئة ولم يفعلها كتبت له حسنة، فإذا فعلها كتبت له سيئة، فإذا تركها خوفاً من الله كُتبت له عشر حسنات، وأن الخوف من الله في حد ذاته عبادة وحسنة.
{وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} [ص:24] أي: أخذ يجأر بالاستغفار ويطلب من الله أن يغفر له خواطر نفسه، فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب، وقيل: بقي أربعين سنة ساجداً وهو يستغفر الله بمختلف أنواع وألفاظ الاستغفار ويبكي، حتى قيل: إنه نبت حوله حشيش من شدة بكائه، وطول سجوده، وبقي كذلك يبكي على خطيئته، ويستغفر ربه، ويخاف ألا يغفر له إلى أن مات.
وقد قالوا أكثر من ذلك، فقالت اليهود وزعموا: أنه قتل أوريا لأجل زوجته حينما استغفر ربه، قال له: إذا غفر لك أوريا، قال: وكيف سيغفر لي أوريا؟ قال: اذهب إلى قبره واستغفره فسأعيد له روحه، فذهب داود ونادى: يا أوريا! فأجاب، قال: من أنت؟ قال: أنا داود، قال: ما تريد يا نبي الله؟ قال: أن تستغفر لي، قال: غفر الله لك، فرجع فقال ذلك لربه، فقال: هل ذكرت قصتك مع زوجته؟ قال: لا، قال: ينبغي أن تذكر قصتك مع زوجته، فرجع إليه فقال: يا أوريا! هل استغفرت لي؟ قال: قد فعلت، قال: إنني كنت قد أرسلتك للمعركة أولاً وثانياً وثالثاً إلى أن مت وأخذت زوجتك، وما كنت أريد إلا ذلك فاستغفر لي؟ فسكت، فكرر، فسكت، فرجع يبكي إلى ربه قال: سأوعده يوم القيامة، وقد قالوا بعد ذلك: إن الله عوضه الجنان وحوراً عيناً وغيرها.
وهذه قصة إسرائيلية اختلط باطلها بكذبها ودسها، بما لا يعتبر إلا طعناً في الأنبياء ونقصاً لهم.(250/3)
تفسير قوله تعالى: (فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب)
ثم قال تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:25].
يذكر الله أن داود استغفره فغفر له ذلك الخاطر، ولا أقول: العمل، ولا يدل القرآن على العمل، ولا يدل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما صح عنه- على العمل، وإنما هي خواطر لم يفصح بها القرآن ولم يصرح بها، ولكن كان هناك ميل، فحوسب عليها فاستغفر ربه.
قال ربنا: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:25].
أي: وإن له عند ربه يوم القيامة ويوم العرض على الله لزلفى وقربى من الله، تقربه من رحمته ورضوانه وجنته، ولا يكون ذلك إلا لمن لم يفعل ما زعمه اليهود عن أنبيائهم، وإنما هي خواطر شيطانية، ولم يؤمن شيطان من شياطين الأنبياء إلا شيطان النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه آمن فلم يبق له خواطر على نفسه عليه الصلاة والسلام، ولكنها كانت للأنبياء قبله، لأن شياطينهم لم تؤمن، ولذلك تكون هذه الوسوسة، ولكن لم يكن العمل؛ لأن الله يعصمهم ويحفظهم ويكلؤهم ويكلأ رسالته.
((وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى)) أي: لقربى.
((وَحُسْنَ مَآبٍ)) أي: وحسن عودة ورجعة إلى الله يوم القيامة عندما يفصل بين الخلق إما بجنة أو بنار، فداود يعتبر من المقربين إلى الله، الممتعين برضوانه وجنته ومغفرته.(250/4)
تفسير قوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض)
قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26].
يخاطب ربنا داود بأنه جعله خليفته في الأرض، ولاشك أن الأنبياء جميعهم خلفاء الله في الأرض يأمرون بأمره، وينهون بنهيه، ولم يكن ذلك من أحد من البشر سواهم، وهذا أبو بكر كل من كان يناديه: يا خليفة الله يقول: لست خليفة الله، ذاك محمد، إنما أنا خليفة رسول الله، وأنا راض بذلك؛ لأن الخلافة عن الله لا تكون إلا في حق وبحق، ولم يكن ذلك إلا للأنبياء المعصومين ورسل الله المقربين، فهم يأمرون بأمر الله، وينهون كذلك، وكما قال ربنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] فكلام نبينا عليه الصلاة والسلام ككلام الأنبياء قبله، كله وحي من الله قولاً وفعلاً وإقراراً، {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26].
وقبل ذلك جعل الله آدم أبا البشر خليفته، قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
فكان آدم وكان الأنبياء من ذريته بعده: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:26] أي: قم بالحق وبالعدل الذي به قامت السماوات والأرض، لا تظلم الناس حقوقهم، ولا تدع البغي بينهم، أحسن للمحسن منهم، وعاقب المسيء منهم، خذ الحق من الظالم، وأعد للمظلوم حقه حتى يرضاه وتقر عينه، أدب الظالم حتى يرتدع أمثاله من الظلمة، وليكن حكمك بينهم بالحق الذي أوحاه الله لك.
{وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى}.
لا يكن ذلك في زيادة حق أو نقصانه، ولا تتبع هواك وغرضك، ولا تتبع قرابة قريب أو صداقة صديق، أو تتأثر بعداوة عدو، بل اطلب الحق لذاته وخذه من أبوابه، وأعده للمظلوم، واحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله.
والهوى: رغبة النفس وشهواتها ورغباتها الغير راجعة للحق أو البرهان، والغير راجعة للعقل، وإنما ما يسر هوى الإنسان وشهوته يتبعها ولو كان فيها ظلم أو بغي، فلذلك الهوى دائماً معه الشيطان، والإيمان معه الله جل جلاله.
قوله: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26] أي: لا تتبع هواك ونزواتك وشهواتك، وقراباتك أحسن الله إليك وعداواتك، فإن شغلك بذلك يكون سبباً للضلال والتيه عن الحق وعن أمر الله، فتنتقل من هاد إلى ضال.
قوله: {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] أي: عن الطريق الحق الموصل إلى رضا الله وطاعته، وإلى رحمته ورضاه في الدنيا والآخرة.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26].
أي: الذين يضلون بعيدون عن الحق، يتركون الطريق السوي، وينتقلون من الهدى إلى الضلالة.
قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26].
أي: لهم العذاب الشديد لنسيانهم يوم الحساب، والباء: باء السببية اتصلت بـ (ما) المصدرية، وسبكت معها، والتقدير: بنسيانهم يوم الحساب.
و (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)؛ لأنهم عندما ضلوا وحكموا بالهوى نسوا يوم عرضهم على الله، نسوا يوم الحساب يوم فصل الله بين الخلق.
وقال البعض: هنا مقدم ومؤخر، وتقدير الآية: (إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا).
والمؤدى واحد أي: بما نسوا يوم الحساب يوم القيامة يوم العرض على الله؛ لنسيانهم الحق، والهداية والعدل، وترك أخذ الحقوق من أصحابها، وردع الظالمين والباغين.(250/5)
تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً)
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27].
يقول ربنا: هؤلاء الكفرة الجاحدون الذين يقولون إنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكهم إلا الدهر، هؤلاء يظنون أن الحياة الدنيا كانت باطلة، فخلقت السماء باطلاً بلا معنى، ولا حكمة، وكذلك الأرض، وكذلك ما بين السماء والأرض من كواكب سيارات وثوابت، ومن خلق لله الله أعلم بحقيقته، الله لم يخلق الأرض باطلاً، ولم يخلقها بلا حكمة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: إلا ليعبدوا الله، وليعرفوا الله، ولتكون الدنيا البرزخ والسبب والطريق الموصل إلى الله يوم القيامة، إما إلى جنة، وإما إلى نار، فلم تخلق الدنيا هباءً ولا باطلاً، ولم تكن الدنيا لضلال ضال، وفساد فاسد، وإنما كانت دار فتنة وبلاء واختبار، كانت مدرسة إما أن ينجح من ينجح، وسعادته بيده، وإما أن يرسب من يرسب، ولا سعادة، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
أما أن يكونوا قد خلقوا وأوجدوا عبثاً وباطلاً؛ ليظلم من يظلم، ويتجبر من يتجبر، ويظلم الضعيف ويؤخذ حقه، ويذهب ذلك هدراً هيهات هيهات! أعدل العادلين جل جلاله الحكم العدل لا يقبل ذلك.
قال تعالى: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا) فالظلم قد حرمه الله جل جلاله على نفسه، فكيف يقبله من غيره؟! فكانت الدنيا اختباراً وابتلاءً، وكانت مدرسة ليعلم المطيع من المخالف، والمؤمن من الكافر؟ فللكافر النار، وللمؤمن الجنة.
قوله: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص:27] أي: الذين لا يزدادون إلا فساداً وظلماً وبغياً وطغياناً، وهم يظنون أنهم سيفلتون من عدالة الله وحكمه، وأن الدنيا لم تخلق إلا باطلاً هيهات هيهات ذلك ظنهم الذي أرداهم! ذلك ظن الذين كفروا بالله واحداً وخالقاً.
قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27].
أي: فيا ويل هؤلاء الكافرين الجاحدين المشركين من النار وعذابها! فهؤلاء لهم يوم يحاسبون فيه ويدقق حسابهم، ويدخلون النار خالدين مخلدين أبد الآباد.(250/6)
تفسير قوله تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض)
قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28].
(أم) استفهام إنكاري، أي: هل يظن هؤلاء الكفرة أن الكفار والمؤمنين سواء؟! هيهات هيهات! لم يكن المؤمن العامل للصالحات مثل الفاجر المفسد الظالم، بل كانت الدنيا باطلاً، وليست هي باطل، فكيف وأن الله ما خلقها إلا لعبادته وتسبيحه وتمجيده جل جلاله؟! قوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ} [ص:28].
أي: لم يكونوا سواءً يوماً، فليس المؤمنون في الأرض مع الكفرة المشركين الضالين المضلين سفاكي الدماء عبدة اليهود والنصارى سواء.(250/7)
تفسير قوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك)
قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29].
هذا الكتاب هو القرآن الكريم، فهو ليس من تأليف أحد، وإنما هو كتاب من الله أنزله إليك وحياً، فهو كلام الله وهدايته، وموضع الأوامر والنواهي، وهو الكتاب الذي ما استمسك به أحد إلا نجا، وهو الكتاب الذي جعله الله هداية للمهتدين، ولعنة للكافرين.
وقد ورد: (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه)، فهو قد يكون من الكاذبين، والقرآن يقول: لعنة الله على الكاذبين، وقد يقرأ القرآن وهو كافر، والقرآن يقول: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، فهو يرتكب الموبقات كالشرك والعصيان ويلعن بذلك.
(كتاب أنزلناه) أي: أنزله على قلب محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، بوساطة جبريل رسول الملائكة إلى البشر من الناس، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] على قلب محمد صلى الله عليه وعلى آله.
قوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص:29] أي: فيه البركة، والبركة في الطاعة.
والبركة: هي الزيادة والنماء، فالقرآن يزداد به المؤمن إيماناً، والمطيع طاعة، والمتقي تقوى، والصالح صلاحاً، وهو في ذات الوقت يزيد الكافر ظلمات فيعلو الران على قلبه ولا يستطيع أن يميز بين حق وباطل، وبين نور وظلمة.
هذا الكتاب الذي جعله الله تعالى هداية للناس كافة، ودستوراً وقانوناً منذ أنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الديار المقدسة -مكة والمدينة- ويوم قام في هذه البقاع المقدسة، يقول تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158].
وهو مبارك النور، ومبارك الطاعة، ومبارك الحقائق، فيه النماء والزيادة لكل من آمن به، وعمل بمقتضاه، وما تركه قوم إلا ضلوا وذلوا، وقد كان المؤمنون سادة الأرض، وأئمة الكون، وهداة العوالم، وما ذلوا لليهود والنصارى إلا مع تركهم لكتاب الله وراءهم ظهرياً، فأحلوا حرامه، وحرموا حلاله، وأنكروا حقائقه، واتبعوا الشيطان حيث وجدوه في الأرض، وتركوا القيادة المحمدية، وقيادة الخلفاء الراشدين إلى قيادة الشياطين وكل أفاك وكذاب دعي، فهؤلاء عندما تركوا الهدى واتبعوا سبل الباطل، وضاعت أيامهم، وذلت حكامهم، وضعفت دولهم، وأصبحوا شذر مذر رموا أنفسهم بين القردة والخنازير من اليهود أعداء الله الكفرة المجرمين، وبين النصارى الصليبيين الضالين المضلين، ولو عادوا إلى الله لأعاد لهم عزهم ومقامهم، ولكنهم أبوا إلا الباطل، ولكن الله جل جلاله يمهل ولا يهمل، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167].
فهذا الذي أزال الحواجز بين المؤمن واليهود يريد أن ينكر كتاب الله ويرتد، فهو قد ارتد فعلاً عندما قال: القرآن لا صلة له بالحكم، ولا سياسة في الإسلام، ولا إسلام في السياسة، أعلن ردته ويهوديته، وأعلن هوانه، وما هو بين الكافرين إلا ذباباً من المماسيخ.(250/8)
تفسير سورة ص [29 - 40]
كان سيدنا داود عليه السلام قد أُعطي الحكمة وفصل الخطاب، وقد وهبه الله تعالى ولداً مجتبى وهو سيدنا سليمان عليه السلام الذي آتاه الله الملك والحكمة وعلمه منطق الوحش والطير وسخر له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص.(251/1)
تفسير قوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)
قال الله جل جلاله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29].
يصف ربنا جل جلاله كتابه الذي أنزله على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وعلى آله بأنه كتاب مبارك، فيه خير الدنيا والآخرة، وفيه أحكام الناس حلالها وحرامها، وفيه ما ينفع الناس في دنياهم وأخراهم، وأنه كتاب الله المنزل على رسوله وليس كما زعم أعداء الله من المشركين والكافرين.
فقوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29].
البركة: هي النماء والزيادة، فالله تعالى يبارك للمؤمن في دراسة كتاب الله وفهمه وتعلمه وتعليمه.
وأنزل الله كتابه ليتدبره الناس وليتفكروا فيه، وليتعلموا أحكامه وقصصه وتوحيده وعقائده، وما فيه من أخبار الأولين والآخرين، وأمور الدنيا والآخرة، وليعملوا بما فيه.
يقول الحسن البصري: ليس تدبر القرآن حفظه وتعلم حروفه فقط، ولكن تدبره العمل به والقيام بما جاء فيه.
إذاً: الحفظ وحده لا يكفي، والمدارسة بلا عمل لا تكفي، بل لا بد من حفظه ورعايته وتعلم أحكامه، وما يمكن أن يقوم الناس به في دنياهم وأخراهم، فقوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29] أي: ليعملوا ما فيه من آيات كريمات تحمل معاني الخير في الدنيا والآخرة، وما فيه مما ينفع البشر في دنياهم ويعود عليهم في الآخرة بالفلاح والسعادة ورضا الله، والعمل بما أمر به.
وقوله: {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، أي: ليتذكر أولوا العقول، والألباب جمع لب، فهم الذين أكرمهم الله بعقول نيرة يتدبرون بها هذا القرآن، ويفكرون في معانيه وأحكامه وإعجازه؛ ليكون لهم ذكرى، ولم يفعل هذا إلا ذو لب وذو عقل وذو فهم وإدراك، بخلاف الذين فقدوا عقولهم قبل أن يفقدوا أديانهم، ولذلك العاقل هو من كان متديناً بما أمر الله به خلقه، أي: بهذا الكتاب الكريم والإيمان والإسلام الذي نزل به، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].(251/2)
تفسير قوله تعالى: (ووهبنا لداود سليمان)
لقد أعاد سبحانه ذكر قصص بعض أنبيائه ورسله تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام مما لقيه من عنت الكفار، وهو كذلك تسلية لخلفائه من أئمة العدل ومن العلماء والدعاة إلى الله، فقال ربنا: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30].
أي: أن ربنا جل جلاله، وهب لداود ولده سليمان عطية وكرامة ومنحة، وهو لم يهب له سليمان وحده، بل له أولاد كثيرون، ولكن سليمان كان نبي الله وكان رسول الله، وكان الوارث لهذه النبوة والرسالة من داود، ولم يكن أولاده الآخرون كذلك، ولذلك خص سليمان بالذكر والإشادة {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30] أي: كان سليمان عبداً لله صالحاً، وكان عبداً لله نبياً، وكان عبداً لله منذراً وبشيراً وداعياً إليه بإذنه، وكان يعود إلى الله إذا أخطأ وإذا صدر عنه ما لا يليق، فهو كثير الأوبة، وأواب صيغة مبالغة فعال، فهو كثير الرجوع إلى الله، وكثير التوبة فيما يصدر عنه.
وذكر الله لنا عن سليمان فيما استغفر فيه الله، أحدهما: كان ابتلاء واختباراً من الله، والثاني: ما ذكره ربنا سبحانه في قوله: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:31 - 33]، أي: اذكر يا محمد سليمان هذا العبد الصالح، هذا العبد الذي حسنت أخلاقه وحسن عمله، وحسنت دعوته، وقام للناس بما أمر الله به، اذكر قصته {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص:31]، أي: إذ استعرض سليمان الجياد، والجياد جمع جواد وهي الخيل الأصيلة السريعة القوية.
وقوله: (الصافنات) جمع صافنة، أي: الواقفة على ثلاث أرجل، والرابعة على جنب منها، أو القائمة مطلقاً.
فاذكر حالة سليمان إذ استعرض في عشية من العشايا وفي أمسية من الأمسيات خيله وجنده، وكانوا عشرين ألف جواد، فخرج يستعرض خيله فنسي حال استعراضه لها صلاة العشي، وهي الصلاة التي نسميها في شريعتنا بصلاة العصر، فسليمان نسي ولم يذكرها حتى غابت الشمس واختفت تحت الحجاب، وخرج وقت تلك الصلاة، فآلمه ذلك، فعاقب نفسه وذلك بأن طفق يضرب هذه الخيل بالسيف أعناقاً وسيقاناً، فقطع رقابها وعرقب سيقانها فقتلها؛ لأنها شغلته عن ذكر الله وعن عبادة الله وصلاته.
{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:31 - 32] أي: عندما وجد نفسه قد أغفل صلاة العشي حتى غابت الشمس وسترت عنه بالحجاب، قال: شغلت بحب الخيل، والخيل من الدنيا والمال، فآثرت حب الخيل وحب الملك وحب الجاه فشغلني ذلك عن ذكر ربي، وعن عبادة ربي في الصلاة.
{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32]، حتى حجبت عنه، {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:33] أي: قال لجنده: أعيدوا علي الخيل، أعرضوها علي، فأخذ يمسحها ويضربها بالسيف بالسوق والأعناق، والسوق جمع ساق، والأعناق: جمع عنق، وأمر من معه بمثل فعله حتى أتى على تلك الخيل كلها بأعدادها العشرين ألفاً فقطع رقابها وعرقب سيقانها؛ لأنها كانت سبباً في تركه للصلاة في وقتها، فاتهم نفسه بأن الدنيا وخيرها شغله عن ذكر الله وعبادته، فعاقب نفسه بأن أخسرها هذا المال وهذا الخير الجزيل.
وكان ذلك جائزاً في شريعته، وإلا ففي شريعة الإسلام ضياع المال وقتل الحيوان بغير مصلحة لا تجوز، وماذا صنعت الخيل لتعاقب بذلك؟! على أن ابن جرير وجمعاً من المفسرين قالوا: (طفق مسحاً) أي: مسح أعناقها ومسح سيقانها حباً لها، لأنه عليه السلام لم يكن ليعذب حيواناً بالعرقبة ويهلك مالاً من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها، ولكن هذا يخالفه ما ورد في الصحاح: من أن سليمان ترك صلاة العشي حتى غابت الشمس، وكذلك بما ورد في سنن أبي داود عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فوجدها تلعب يصور فيها خيل، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: ما هذه الخيل؟ قالت: هي من صنع يدي ومن عملي، قال: ما ذاك بجانبيها؟ قالت: أجنحة، فقال: فرس بجناح؟ قالت: له: ألم تسمع أن نبي الله سليمان كانت خيله ذوات أجنحة، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه).
ولذلك قالوا: بأن هذه الخيل كانت ذوات أجنحة، واستدلوا بهذا الحديث.
وأما غروب الشمس فقد كانت مرت على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ورأس رسول الله على فخذه وقد جاءه الوحي أثناء ذلك فاضطر علي للوقوف حتى انتهى الوحي ورفع رأسه صلى الله عليه وسلم وقد غربت الشمس وفاتته صلاة العصر فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (هل صليت العصير يا علي! قال: لا)، فروي في الكثير من السنن أن الله تعالى أمر بعودة الشمس حتى صلاها، صحح ذلك الإمام الطحاوي وأنكره ابن الجوزي ولكن الحافظ رد على ابن الجوزي وأكد بأن الشمس ردت لـ علي حتى صلى صلاة العصر في وقتها.
وتحدث النبي عليه الصلاة والسلام بأن هذا قد كان من سليمان، مما يؤكد معنى قوله: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32]، حتى غطاها في حجاب الليل وغابت.
((رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا)) أي: ضرباً بالسيف، و (مسحاً) مفعول مطلق اكتفي به عن ذكر الفعل.
فأخذ يضرب بالسيف على أعناقها وسوقها، وكان ذلك منه كفارة على عمله، ولكي لا يعود لذلك من بعد.(251/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص:34].
فقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} [ص:34] أي: اختبرناه وابتليناه، {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} [ص:34] أي: جعلنا على كرسيه شيطاناً يجلس عليه ويحكم منه.
(ثم أناب) أي: ثم تاب سليمان وعاد لربه ورجع، واستغفر ربه.
قالوا: بأن سليمان حارب ملكاً من ملوك جزائر البحار وأسر ابنته وأخذها جارية، وقالوا: إنها أبت أن تسلم، فصنعت لنفسها صنماً في بيت سليمان وأخذت تسجد له وتعبده.
وقال قوم: بل أسلمت -واسمها جرادة حسب زعمهم-، ولكن سليمان شغل بها زمناً وهو يراها حزينة ويريد منها أن تسر وتفرح، فتقول له: ذكرى أبي في نفسي تمنعني السرور والراحة، فأمر لي شياطين يصورون لي صورة أبي كما أعرفها ففعلوا، فألبست تلك الصورة الأردية والألبسة التي كانت تراها عليه، ومع الأيام أخذت تسجد له وتعبده، والمعنى واحد.
وفي يوم من الأيام جاء أحد الجن من المؤمنين -وزعموا أن اسمه صخر- فقال: يا سليمان! إني أرى في دارك أن الأوثان تعبد من دون الله، قال: أيكون ذلك؟ قال: سل فستجد هذا صحيحاً.
وقالوا: وكان لسليمان خاتم وبهذا الخاتم يأمر وينهى ويتصرف في الجن والإنس، وكان إذا دخل الخلاء أو مس نساءه ينزعه ويعطيه إحدى جواريه، فجاء صخر هذا وقد نزع خاتم سليمان وجاءها متلبساً بصورة سليمان، فقال: هاتي الخاتم فأعطته إياه وهي تعتقد أنه سليمان، فلبسه، وخرج سليمان، وجاء إلى الجارية فقال لها: أين الخاتم؟ قالت: أعطيته لسليمان، قال: أنا سليمان، قالت: أتكذب؟ وإذا بسليمان يهيم على وجهه، وأخذ يقول: أنا سليمان، وكل من قال له: أنا سليمان كان يضربه ويؤذيه ويقول له: أتكذب على نبي الله، وبقي على هذا أربعين يوماً، وإذا بهذا الشيطان الذي أخذ الخاتم جلس على كرسيه وأخذ يحكم ويأمر وينهى على أنه سليمان.
قالوا: هذا معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} [ص:34] أي: ذاتاً، وكان هذا الجسد هو هذا الشيطان، وإذا بهذا الشيطان يأمر وينهى بما لا يتفق مع التوحيد والإيمان، فأخذ بعض أتباعه من بني إسرائيل من تحت الكرسي كتابات تدل على سحر وكفر، فأخذوا يقولون: كفر سليمان، وكذبهم الله وقال: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] إلى أن قال: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، وتلك إشارة لهذا المعنى في هذه الآية.
وقالوا: ودعا يوماً ولم يجد طعاماً، وهو في هذه الحالة جاء فقراء المؤمنين من بني إسرائيل وفقراء المؤمنين من الجن، فقالوا: لقد أنكرنا على سليمان أشياء ما كان يفعلها قبل، فدخلوا على نسائه وسألوهن: أأنكرتن شيئاً من سليمان، والقصة من الكذب والافتراء، فقلن: نعم، أصبح لا يغتسل من جنابة ويأتينا ونحن حيض، ومعاذ الله وحاشا الله أن يكون هذا من نساء نبي صادق مصدق، ولكنها أكاذيب اليهود، ولولا أن هذا ذكر في كتب المسلمين نقلاً عن كعب الأحبار ووهب بن منبه، وأمثالهما، وعمن يروي عنهما من التابعين المسلمين، بل ومن بعض الصحابة كما صح أن يذكر هذا بما فيه من الطعن والتجريح لمقام النبوة والرسالة المعصومة التي لا يغفل عنها مثل هذا، ولا تهان عند الله بأن تمس نساء النبوة بمثل هذا قط.
وقالوا بعد ذلك: عندما جاع سليمان عرض نفسه على صياد قد اصطاد حوتاً، فأعطاه سمكة منتنة، فأخذها سليمان وذهب يغسلها في الماء وشق بطنها وإذا به يجد الخاتم في بطن السمكة؛ لأن صخراً كان قد قذفه في البحر، فلما وجده سليمان لبسه، وبمجرد أن لبسه إذا بالطير تقف وتسجد له، وإذا القوم يقفون عند رأسه جناً وإنساً ويقولون له: يا نبي الله! يا رسول الله! فعاد لكرسيه، وعاد لملكه وعاد لنبوته، واستغفر الله وأناب ورجع إليه تائباً مما صدر عنه.
وذاك معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص:34] أي: ثم عاد إلى الله تائباً منيباً إليه.
وفي وصف هذا الكرسي غرائب وعجائب فقد وصفه كعب الأحبار لـ معاوية وقال: هو كرسي من ذهب قوائمه من زمرد على غلال من أنواع الحرير، ومن أنواع اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، ويكون تارة على شكل الطواويس وتارة على شكل النسور وتارة على شكل الأسود.
وحكوا من الغرائب أن الطيور والحيوانات كان إذا جاء سليمان وصعد على الكرسي أنابت ثم حركت أجوافها وقذفت من العنبر ومن أنواع الطيب ما تنشره على سليمان وكرسيه والحاضرين.
وكل ذلك من مختلقات اليهود وأكاذيبهم، فاغتر بهم من حاول أن يفسر بعض الآي وخاصة قصص أنبيائهم، وسليمان وداود من أنبيائهم.
ولذلك محققو المفسرين عندما أتوا إلى هذه الإسرائيليات طرحوها ولم يلتفتوا إليها ألبتة، ولم يكذبوها ولم يصدقوها، ولكن البعض كان يذكرها ثم يعود فيطعن فيها، ولكنه ينقل بعضها عن الصحابة من مثل عبد الله بن عباس وهو ممن كان يجتمع بـ كعب ويروي عنه، وعن مثل أبي هريرة فقد كان يجتمع بـ كعب، وكعب هذا كان بلاء للمؤمنين، ابتلوا به أيام عمر رضي الله عنه، وقد حسم الرأي فيه بأن الصحابة شككوا في صدق إيمانه وهو من أصل يهودي، عايش رسول الله وهو رجل كبير، وما جاء إلا بعد أن ولي عمر الخلافة فسأله مرة العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا كعب في مثل علمك وعقلك ودينك لم لم تأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حال حياته، فقال كلاماً غير مقبول).
وقال عنه معاوية: (وإني لأبلو عنه الكذب) وكذبته عائشة.
وقال عنه عمر في قصة: لقد ضاهيت اليهودية يا كعب.
وقال عنه ابن مسعود: لقد أشبهت اليهود يا كعب.
إذاً: الذي نعتقده ونوقنه أن سليمان لم يصدر عنه شيء، وحتى قصة الخاتم التي أصبح الناس يقولون: خاتم سليمان، وهذا الخاتم لا يوجد له ذكر في صحيح الحديث وفي القرآن من باب أولى وأحرى.
ولكن الذي في الآية أن الله ابتلى سليمان واختبره فألقى على كرسيه شيطاناً، فأخذ هذا الشيطان يحكم بحكمه ويأمر بأمره، وفي هذه الحالة كان سليمان قد زالت هيبته وزال ما كان عليه من مظاهر النبوة والرسالة والملك، اختبر بذلك زمناً وصبر واعترف بذنبه وتاب إلى الله ودعاه واستجاب الله له، فقال الله عنه: (ثم أناب) أي: تاب وأناب وعاد إلى الله جل جلاله، بما فيه من طاعة ودين وتقوى.(251/4)
تفسير قوله تعالى: (قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي)
قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35].
أي: اغفر لي ما صدر عني مما ابتليتني به وعاقبتني عليه، ولم يكتف سليمان بطلب المغفرة بل طلب المزيد مما عنده سبحانه، {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35]، استغفر ربه مما صدر عنه وطلب منه أن يهبه ملكاً وسلطاناً لا ينبغي ولا يتم لأحد من الإنس والجن بعده.
(إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي: كثير الهبات والعطايا الذي لا يعجزه شيء سبحانه، فأنا أطلب كريماً عنده كل شيء.
وإذا بالله الكريم يستجيب له فيقول: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:36 - 39].
فاستجاب الله له وأعطاه ما لم يعط أحداً قبله ولا أحداً بعده، {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم يوماً اختلطت عليه بعض آيات في الصلاة وأخذ يتقدم ويتأخر ويمد يده، فعندما سلم قالوا له: يا رسول الله! رأيناك تصنع شيئاً لم يسبق أن صنعته قبل، قال: نعم، جاءني شيطان وأنا أصلي بشهاب من نار، يريد قذفه على وجهي، وأنا ألعنه بلعنة الله وأقول له: أعوذ بالله منك، وهو يأبى إلا الإصرار، فقبضته وشددت عليه، حتى وجدت برد ريقة في يدي، وكدت أربطه في سواري المسجد ليصبح صبيان المدينة فيتلاعبون به، ولكنني تذكرت قول سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] فتركته).
على أن نبينا فعل ذلك أدباً وإلا فقد تمكن من الجني وقبضه وكاد يقتله خنقاً، ثم تذكر طلب سليمان فتركه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون نبياً عبداً أو نبياً ملكاً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، وهو أفضل وأنبل وأكرم، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام مع تسخير الجن له آمنت به وأسلمت، وفي القرآن سورة اسمها سورة الجن، وفي مكة المكرمة مسجد اسمه مسجد الجن، قالوا: هو في المكان الذي أوحي إليه فيه بسورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:1].
فآمن من آمن منهم كالبشر، وكفر من كفر منهم كالبشر، وأعان الله نبيه على أن أسلم شيطانه، وكان لا يأمره إلا بخير، هذا الشيطان المكلف بكل نفس بشرية يوسوس لها.(251/5)
تفسير قوله تعالى: (فسخرنا له الريح تجري بأمره)
قال الله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36].
في الحديث النبوي: (أن بدوياً جاء إلى مكة فسمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) فسليمان جاء إلى هذه الخيل الصافنات فذبحها وعاقبها بأن قدم خير الدنيا على الصلاة في وقتها، فعندما فعل ذلك لله عوضه الله بما هو خير من الخيل، عوضه بالريح تجري بأمره رخاء لينة بغير واسطة، (حيث أصاب) أي: حيث أراد.
كان يضع البساط ويحمل على هذا البساط جنداً وبشراً وخلقاً فتذهب به الريح مسافة سنة، وشهر، وهذه الريح في الصباح والمساء كالطيران اليوم.
فقوله: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} [ص:36] أي: أصبحت الريح هي مركبه وجواده وعليها يتنقل ويرحل.
{تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} [ص:36] أي: بغير عواصف، وإلا لو كانت عاصفة لقلبته وقلبت جنده، وإنما كانت رخاء لينة بغير عواصف، فتذهب به حيث أراد وقصد من أرض الله.
يقول أحد كبار العارفين من أئمة المسلمين: لن تقوم الساعة حتى يصبح جميع ما ذكر في القرآن معجزة، يصبح شيئاً عادياً؛ لأنه لا حاجة للمعجزات بعد نبينا عليه الصلاة والسلام، وتبقى الكرامات، وهي لا يتحدى بها، كما يتحدى بالمعجزات.
وكان من صدق ما قال هذا العارف بالله لم يكن في عصره؛ لأنه كان في القرن السادس، ونحن الآن في أواخر القرن الرابع عشر، أي: منذ ثمانمائة عام، ولم يكن للطيران ذكر، فها نحن الآن نرى أن الريح الرخاء التي سخرت لسليمان أصبح يستعملها جميع خلق الله في الأرض، سخرت لهم الريح فحملوا عليها الطائرات بأنواعها وأشكالها، وهؤلاء الذين صنعوا ذلك ليسوا بمؤمنين ولا بموحدين، فلم يكن ذلك معجزة ولا كرامة، ولكنه سر من أسرار الطبيعة التي خلقها الله، اكتشفوها واطلعوا عليها، فسخروها لخدمة الإنسان، والمخترع الأول لذلك هو عربي أندلسي اسمه عباس بن فرناس، صنع لنفسه جناحين وطار بهما محلقاً زمناً، ولكنه نسي أن الطائر عند النزول يستعين بذيله، فلم يصنع لنفسه شيئاً يقوم مقام الذيل، فعندما أراد النزول عجز، فبقي يدور ويدور إلى أن كل ومل فسقط.
واليوم يبحثون ويسعون في أن يصنعوا الأجنحة للإنسان كما صنعوها للجماد، وليس نجاح ذلك ببعيد؛ فبساط سليمان الذي كان معجزة لسليمان الآن يصنعه الناس، ولو وقفت الريح سقطت الطائرة، فهي الريح قد سخرت لسليمان والآن حمل على الطائرات من الأثقال ما كان في عصر سليمان وزيادة، فنحن نرى اليوم وخاصة آخر طائرة صنعت حديثاً التي تسمى (الكونكورد) عبارة عن مدينة محلقة في الأجواء، فيها طبقات، وتحمل ما يزيد على ألف راكب، وتقطع ما بين المشرق والمغرب في أقل من ثلاث ساعات، والأمر لا يزال يزداد، كما قال ربنا جل جلاله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
تلك من معجزات كتاب الله، ومن أنباء وحي الله، ومما دل على صدق نبي الله وخاتم رسله سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله.
قال الله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:37].
أي: سخر له الشياطين، والشيطان الجني الكافر، وقد يكون الشيطان مؤمناً، كما قد يكون الجني كافراً، وهم مردة الجن وأكثرها عتواً وأكثرها قوة، وأكثرها طغياناً، فسخرها الله لسليمان، فقوله: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} [ص:36] (والشياطين) عطفت على الريح، {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ} [ص:37]، (بناء) صيغة مبالغة، فهم كانوا يبنون له من كل قصور وقدور راسيات ومن كل ما يريده سليمان من المعسكرات والمدن والقصور.
(وغواص) أي: كل شيطان شديد الغوص في البحر، فيأتيه من البحر بأنواع اللآلئ والزمرد وكنوز البحر، وفي البحر من الكنوز ما لا يكاد يخطر على بال إنسان.
والكثير من مواطن البحر من قعره لا يتم الوصول إليه إلا بعد مئات الكيلو مترات، والإنسان كلما غاص أكثر يحس بثقل الماء على ظهره وكأنه الحديد والفولاذ.
ولذلك الغواص الذي يغوص لالتقاط اللؤلؤ يكون دائماً عند مظهر الماء، لا يستطيع الغوص في أعماق البحار فيهلك.
قال تعالى: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص:38] أي: آخرين غير بنائين وغير غواصين من المردة العصاة لسليمان.
(مقرنين) أي: مسلسلين بالسلاسل والأكبال نتيجة خلافهم وعصيانهم لأوامر سليمان.
{فِي الأَصْفَادِ} [ص:38] جمع صفد، وهي السلاسل والأكبال والحديد، فيربطون بالأعناق والأيدي والأرجل.
إذاً: فربنا عندما طلب منه سليمان أن يهب له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده استجاب له، فوهب له من الشياطين البنائين والغواصين والمردة، وسخر له الريح تجري به حيث يشاء.
وقال الله لعبده سليمان: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:39] أي: هذا عطاء الله لسليمان أن يمنن ويتكرم وينعم على من يشاء من الخلق إنساً أو جناً، أو ليمسك، فله أن يعطي ما شاء لمن شاء، ويمنع من شاء مما شاء؛ لأن ذلك مما خصه الله به، وذاك مما استجاب لدعوته بأن يهبه ملكاً لا ينبغي ولا يليق لأحد من بعده.
قال الله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:40] أي: مهما أعطاه الله في الدنيا من الملك والنبوة والسلطان، ومن التصرف في الخلق جناً وإنساً، فهو مع ذلك له عند الله يوم القيامة زلفى وقربى منه سبحانه، {وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:40]، المآب الحسن: هو العودة الحسنة الطيبة لرحمة الله ودخول الجنان، وأنه سيعطيه في الجنة أكثر مما أعطاه في الدنيا.
{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا} [ص:40] أي: في الآخرة، (لزلفى) أي: لقربى، {وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:40] أي: عودة حسنة وطيبة.(251/6)
تفسير سورة ص [41 - 45]
كان سيدنا أيوب عليه السلام من أعظم الناس جاهاً وأوسعهم ثروة وأكثرهم حشماً، ثم ابتلاه الله فسلبه ذلك، وزاده فأصابه في بدنه حتى نفر منه الناس إلا زوجة له، لكنه ضرب أعظم الأمثلة في الصبر، حتى عاد الله عليه بعافيته في بدنه وماله وولده، وكذلك إسماعيل وإسحاق وذو الكفل كل من الصابرين.(252/1)
تفسير قوله تعالى: (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه)
قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41].
أيوب نبي من أنبياء بني إسرائيل، وزعم بعضهم أنه رومي وليس كذلك، ولم يؤمن به إلا ثلاثة أفراد، زوجته وصاحباه، وهو ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من أن الأمم تعرض عليه يوم القيامة، فيرى النبي ومعه الفئة الكثيرة، والنبي ومعه الجماعة، والنبي ومعه الرجل والرجلان، ومنهم أيوب.
قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41]، قصة أيوب قصة مؤلمة حزينة مبكية، نعوذ بالله من العذاب، ونسأله ألا يختبرنا جل جلاله.
لقد كان أيوب في ملك وغنىً وجاه عظيم، وكان عنده نساء بالعشرات، وأولاد كذلك، وحشم وخدم، ودور وقصور، ومزارع وجياد وخيول ودواب، وإذا بالله يبتليه ويختبره بشيء من المرض والنصب والمشقة والمحنة، والعذاب بأشد أنواعه، فماتت نساؤه، وفقد أولاده، وذهبت قصوره، ومرض في جسده، ولم يسلم من المرض إلا عيناه ولسانه وقلبه، ولم يبقَ في الجسم موضع ثقب إبرة إلا وفيه مرض لو كان في غيره لمات فجأة، وهو في كل ذلك صابر، إلى أن مضت عليه ثماني عشرة سنة، فكان لسانه مع كل هذه الحالة رطباً بذكر الله، وكان قلبه عامراً بذكر الله جل جلاله، وإذا عجز عن الركوع والسجود والقيام فلسانه لم يعجز عن ذكر الله، وإذا عجز عن العمل لله لا يعجز قلبه أن يعمره ويملأه بذكر الله.
وبقيت له امرأة واحدة من نسائه، فمله الناس ورموه خارج القرية ينتظرون موته صباحاً أو مساءً، وكانت هذه المرأة توضئه بأشنان، وكانت تخدمه مع خدمتها للناس، فتخدمه صباحاً ثم تذهب لتخدم الناس، وتأتي لتخدمه مساءً، فتطعمه وتغسله وتكسوه، إلى أن جاءت يوماً وكانت ذات ضفائر، وإذا بها قد قصت ضفائرها لأحد الخبازين أبى أن يطعم زوجها نبي الله خبزاً إلا إذا قطعت ضفيرتيها؛ لتستعملهما زوجته أو ابنته ففعلت، فآلم أيوب أن يصل حاله إلى أن يعيش ويأكل الخبز الحار بضفيرتي زوجته، فأقسم أن يضربها مائة ضربة، وهي كذلك صابرة محتسبة راضية بقضاء الله، وكانت شديدة الشفقة والحنو على أيوب طوال هذه السنوات الثماني عشرة.
وهناك رجلان ممن آمنا بأيوب قال أحدهما للآخر: يا فلان تعلم أن أيوب لابد وأنه أذنب ذنباً ما أذنبه أحد في الأرض، فابتلاه الله بما ابتلى، وأمرضه بما أمرضه، وسلط عليه أنواع البلاء ظاهرها وباطنها، ولم يغفر له.
وأيوب كل هذه السنوات الطوال ما دعا الله أن يرفع عنه البلاء، ولو دعا الله لاستجاب له، فهو صابر محتسب، فأحد هذين الرجلين جاء إلى أيوب وقال: يا نبي الله: إن فلاناً أخي قال عنك إنك أذنبت ذنباً لم يغفره الله لك خلال هذه السنوات الطوال، وإنك استغفرت فلم يغفر لك، ولم يرفع عنك البلاء، فحين وصل الحال بأيوب إلى هذا رفع صوته لله ضارعاً مستغيثاً: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41].
ومن أدب المؤمن أن ينسب لله كل خير، وأن ينسب للشيطان كل شر؛ لأنه إن كان ذلك ذنباً قد صنعه فهو من وسوسة الشيطان إليه، وكأن الشيطان هو الذي صنع به ذلك.
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ} [ص:41] أي: بمحنة وعذاب وبألم ومشقة، وقد ذهب المال والولد، وإذا بالله يستجيب له بمجرد دعائه، فقال له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص:42] أي: ادفع الأرض برجلك، {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42] فركل أيوب برجله الأرض وإذا بالعين تنبع، فيغتسل فيها، وكان ماء بارداً شافياً، فذهب هذا الماء الذي غسل به جسده بكل أمراضه وبكل قروحه، وبكل أوجاعه الظاهرة، وبعد ذلك أمر بأن يركض الأرض برجله مرة أخرى، فنبعت عين ثانية فأمره الله أن يشرب منها، فشرب وإذا بهذا الماء أخرج جميع ما في باطنه من أدواء وأمراض، فشفاه الله شفاء كاملاً في ظاهره وباطنه.
فقوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42] أي: هذه للاغتسال وهذه للشراب، فالعين الأولى ذهبت بالقاذورات وأمراضه الظاهرة التي في بدنه، والعين الثانية ذهبت بما كان في باطنه من الأدواء والأمراض.
فجاءت زوجته لتخدمه في مكانه، وإذا بأيوب يلقى زوجته في الطريق، فسألت: يا عبد الله ألم ترَ هذا النبي المبتلى؟ والله إنك لأشبه الناس به وقت صحته! قال: أنا أيوب، وإذا بزوجته تفاجأ فرحاً وبهجة وقرة عين.
إذاً: المؤمن يزداد يقيناً وإيماناً بأن الله يبتلي أهل طاعته، وأن من وقف على باب الله وطرق الباب يوشك أن يجاب، قال عز وجل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].(252/2)
تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا)
قال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:43].
أي: بعد أن أكرم أيوب بالعافية وبالصحة، أحيا الله جميع نسائه اللاتي متن، فعدن شابات أحسن مما كن.
وقوله: {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [ص:43] أي: زاده الله فوق أهله مثلهم، وكانوا بنو إسرائيل يتزوجون العشرات بل والمئات، ووهب له مثل ما كان معه من الخدم والحشم والجياد، والأرزاق، والله عنده الكثير جل جلاله.
وقوله: {رَحْمَةً مِنَّا} [ص:43] أي: رحمه الله بعد أن استجار واستغاث بربه.
وقوله: {وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:43] أي: ليتذكر هذا أولو العقول، ممن يبتليهم الله بالدنيا، حتى إذا ابتلاهم لا ييئسوا من رحمة الله، قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].
فإذا ابتلي إنسان في جسده أو ماله أو نفسه أو غير ذلك فليقف في باب الله ولا يكل ولا يمل، ولا يقل: دعوت فلم يستجب لي، فوقت الإجابة كائن لا محالة، وقد يدخر الله له ذلك في الآخرة، فذكر الله لنا هذه القصة، وهي تسلية لنبينا عليه الصلاة والسلام، وهي تسلية وعزاء لكل مؤمن، وهي رحمة لأيوب قصها علينا، وهي ذكرى لمن جاء بعده ولمن عاصره من ذوي العقول والألباب.(252/3)
تفسير قوله تعالى: (وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث)
قال الله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44].
إن أيوب أقسم ليضربن زوجته مائة ضربة؛ لأنها قصت ضفائرها ولم تقصها إلا لأجله، ولكنه في حالة غضبه أقسم، فأراد الله جل جلاله أن يجمع بين عدم حنث عبده أيوب، وعدم الإضرار بزوجته، فقال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص:44] أي: حفنة من الحشيش أو الشمراخ من شماريخ النخيل فيه مائة عود، {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] فأخذ بيده شمراخاً فيه مائة قضيب، فضربها به ضربة، وتلك العيدان رقيقة تشبه الغزل، فضربها مائة ضربة بضربة واحدة، وذلك مخرج من الله؛ لكي لا يحنث، والحنث عظيم في الأيمان بالله.
فقوله: (ولا تحنث) أي: بضربك هذا تكون غير حانث قد حققت يمينك.
قال علماؤنا: هل يكون في شريعتنا أو لا يكون؟ فقال الشافعي وأبو حنيفة: يكون، وهو من باب التحايل الشرعي لتنفيذ حكم أو حد من حدود الله، وليس من التلاعب في دين الله، ولا في أرزاق عباد الله، فأباح ذلك أبو حنيفة والشافعي، ونهى عنه مالك وقال: هذا كان شرعاً لأيوب ولم يكن شرعاً لنا، وقد قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48].
نقول: مثل هذا وقع في شريعتنا، فقد جاء في الأحاديث: (أن رجلاً مقعداً في البيت، فزارته جارية، وإذا به يراودها فمكنته من نفسها، فحملت منه، فرفع شأنه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقصوا عليه قصته، وقالوا: يا رسول الله! هو جلد على عظم ليس فيه لحم، ولو حملناه لتفتت ولتقطعت أركانه، فأمر أن يضرب بشمراخ فيه مائة عود)، كما أرشد الله تعالى أيوب نبيه، فضرب هذا المقعد بالشمراخ ضربة واحدة.
ومن هنا كان قول أبي حنيفة والشافعي مبنياً على دليل نبوي، لا على مجرد تقليد فعل أيوب عليه السلام، وإلا فالأمر كما قال مالك: شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، ما لم يفعله رسول الله عليه الصلاة والسلام أو يأمر به، فإن فعله صار شرعاً لنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، فنحن لم نؤمر بأن نتبع شريعة أحد غير شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول الله هذا ويؤكده: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] والدين هو دين بجميع أحكامه حلالها وحرامها، فمن حاول أن يأتي بشرائع غير شرائع نبينا على أنه من فعل أولئك يكون قد أتى بما لم يوافق عليه ولا يقبل منه، فأما قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] فنحن نهتدي بهدي الأنبياء في التوحيد والدعوة إلى الله، فكلهم جميعاً كانت دعوتهم واحدة، جاءوا إلى العباد وقالوا لهم: قولوا: لا إله إلا الله، فنحن نقتدي بهم؛ لأن رسالة الأنبياء في ذلك واحدة ولم تختلف، وإنما اختلفت الشرائع في الأحكام.
ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء ديننا واحد، أبونا واحد وأمهاتنا شتى) (ديننا واحد) أي: جميعاً ندعو إلى لا إله إلا الله، وندعو للتوحيد، و (أمهاتنا شتى) أي: شرائعنا مختلفة.
وقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] أي: نعم الصابر في هذا الابتلاء، وفي هذا المرض، وفي هذه المحنة، يضرب به المثل في الصبر، منذ كان إلى عصرنا، فيقال: صبر صبرِ أيوب، وهيهات أن يصبر أحد صبر أيوب، نسأل الله السلامة والعافية.
فابتلاه الله فصبر، ثم جازاه حسب صبره، ولذلك من يصبر ويعتمد على الله يجعل له فرجاً ومخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن توكل على الله كفاه، ولذلك المؤمن مهما ابتلي ومهما عوقب فليعد إلى الله، وليطلب من الله المغفرة والرضا، وسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً كما جعله لأيوب.
وقوله: (نعم العبد) كلمة تقال في الثناء والإشادة بعبد الله.
فالله يشيد بعبده أيوب ويقول: (نعم العبد) أي: ما أنعم أعماله وما أكمل ديانته وما أصلح حاله، ثم أكد فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص:44] فهو نعم العبد لصبره ولتحمله ولثباته على ذكر الله بلسانه وقلبه، ولأنه ما غير ولا بدل طوال هذه السنين، طوال ثمانية عشر عام.
وقوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] أي: كثير الرجوع إلى الله خلال سنوات الابتلاء الثماني عشرة.(252/4)
تفسير قوله تعالى: (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب)
قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45].
أي: اذكر يا محمد حال هؤلاء الأنبياء: إبراهيم وابنه إسحاق وابن إسحاق يعقوب، وما ابتلي به كل واحد منهم فصبروا وأنابوا، اذكر ما ابتلي به إبراهيم من قذفه في النار ثم أنجاه الله، وما ابتلي به إسحاق مما كان امتحاناً لأمثاله، وما ابتلي به يعقوب من فقده لولده يوسف حتى عميت عيناه، أربعون سنة وهو على حال من الشدة لفراقه لولده يوسف الذي رماه إخوته وقطعوا رحمه وقذفوه في البئر، وبعد كل ذلك الصبر كانت العاقبة له.
ونحن قد استوفينا ذلك في سورة الأنبياء فلا حاجة لتكراره، وإنما نأخذ العبرة من هذه القصص، حيث أعادها الله تبشيراً لنبينا وعزاء له وسلوى له على ما ابتلي به من تكذيب وشتم وهجران وحرب وقتال، فالله سبحانه ذكره بالفعل والابتلاء للأنبياء قبله وكيف صبروا.
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [ص:45] يعقوب: هو إسرائيل، ومنه أنبياء بني إسرائيل، وإبراهيم أبو الكل: أبو إسماعيل وإسحاق، وإسماعيل الجد العالي لنبينا عليه الصلاة والسلام، وإسحاق أخوه جد بني إسرائيل.
وقوله: {أُوْلِي الأَيْدِي} [ص:45] أي: أولي القوة في العبادة والطاعة والدعوة إلى الله.
وقال ابن النحاس اللغوي: الأيدي ليس معناها القوة، ولكن أيدي جمع اليد، واليد: النعمة فقوله: (أولي الأيدي) أي: أولي النعم التي أنعم الله بها عليهم، وأعلاها وأكملها وأسماها النبوة والرسالة.
ومن النعم ما أنعموا به على الناس من دعوتهم إلى الله، ومن هدايتهم للبشر، ومن تحذيرهم للناس من الشرك بالله، وأمرهم لهم بترك الأوثان والأصنام، وكل هذا صحيح.
والمفسرون فسروا الأيدي بالقوة، واللغويون فسروا الأيدي بالإنعام، فكان هؤلاء الأنبياء الثلاثة الكرام ذوي الإنعام والنعم، وقوتهم في العمل والعبادة.
وقوله: (والأبصار) أي ذوي البصيرة، فقد كانوا ذا بصر في دين الله، ومعرفة بالله، ومعرفة بالدعوة إلى دين الله وطاعته وعبادته.(252/5)
تفسير سورة ص [45 - 61]
أعد الله تعالى الجنة للمؤمنين، وهيأها لهم بأنواع النعيم، من المطاعم والمشارب والحور العين، كما أعد جهنم للكافرين، فهم فيها يلعن بعضهم بعضاً، ويصلون النار وما فيها من أنواع العذاب المتضاد، فشرابهم الحميم وطعامهم من سموم.(253/1)
تفسير قوله تعالى: (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب)
قال ربنا جل جلاله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [ص:45 - 47].
يذكر الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بأنبيائه ليكونوا له سلوى وعزاء مما لقيه من قومه من تكذيب وصد وكفران، ممن دعاهم إلى الله والإسلام، يقول ربنا: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [ص:45] أي: يا محمد! اجعل ذكرى عندك لهؤلاء الأنبياء العظام الكبار، فإبراهيم خليل الله، وقد جاء الأنبياء من بعده، فإسحاق ولده، ويعقوب حفيده، وقد لاقوا من قومهم صداً وكفراناً وبلاء وفتناً واختباراً، ومع ذلك صبروا صبر الجبال الرواسي.
وقوله: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45] أي: أصحاب القوة في العمل والعبادة، وأصحاب البصائر في فهم كتاب الله ودينه ورسالته إليهم.
وقوله: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46].
أي: اصطفيناهم، واخترناهم وأزلنا الشوائب عنهم، فكانوا لا يذكرون إلا الدار الآخرة، وما أعد الله فيها من نعيم لمن آمن به واتقى، وابتعد عن الكفر والوثنية والشرك والمشركين.
وقوله: (بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ)، وقراءة أخرى من القراءات السبع: (بخالصةِ ذكرى الدار) بالمضاف والمضاف إليه والمؤدى واحد، فالله خلصهم واصطفاهم بذكر الدار الآخرة، فلا يذكرون إلا هي، ولا يعملون إلا لها، ولم يشغلوا أنفسهم بالدنيا وزخرفها ونعيمها يوماً، ولم يلقوا لها بالاً؛ لأنها دار فانية غير باقية، وإنما شغلوا أنفسهم في اصطفائهم ودعوتهم إلى الدار الآخرة الخالدة الباقية، ودعوا إليها عباد الله ممن أرسلهم إليهم ربنا جل جلاله.
ثم قال ربنا عنهم: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [ص:47]، أي: وهم في الدنيا قد اختيروا وصفوا بعبادة الله وذكر الآخرة وترك الدنيا، وهم كذلك عند الله يوم القيامة من المختارين لجنته، ومن المصطفين لتقواه ورضاه.
والأخيار: جمع خير، بمعنى: المختار، أو بمعنى: الخير الصالح في نفسه، وكلا المعنيين قائمان في هؤلاء الأنبياء الكرام، فهم قد اختيروا عن الخلق أجمعين، واصطفوا لله أنبياء ومرسلين، وأزيل عنهم الشوائب من ذكر الدنيا وزخرفها ونعيمها.(253/2)
تفسير قوله تعالى: (واذكر إسماعيل واليسع)
قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ} [ص:48].
أي: يا محمد! اجعل في ذاكرتك وعملك وتأسيك بالأنبياء الآخرين: إسماعيل، وهو ابن إبراهيم، وقد كان نبياً رسولاً، ولم يكن إسحاق إلا نبياً ولم يكن رسولاً، والرسول أفضل من النبي؛ لأن كل رسول نبي وليس العكس، فكان إسماعيل وهو جد النبي صادق الوعد، وقائماً بما أمره الله به، وقد مضت تراجم بعض الأنبياء والمرسلين في سورة الأنبياء، وإنما نأخذ العبرة منها في هذه السورة بما ذكر الله عن فتنتهم وابتلائهم حيث اختبرهم فصبروا على ما اختبروا به، فكانوا مثالاً كاملاً للخلق أجمعين.
واليسع وذو الكفل هما من أنبياء بني إسرائيل، وقد أرسلا إلى قوميهما كما أرسل المرسلون قبل نبينا عليه الصلاة والسلام إلى أقوامهم خاصة، إلا نبينا صلوات الله وسلامه عليه فقد أرسل إلى الخلق عامة.
وقوله تعالى: {وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ} [ص:48].
أي: كل هؤلاء ممن ذكرهم ربنا كنوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وذي الكفل، قد اختارهم الله واصطفاهم لرسالته، ولدعوة عباده، وكانوا أخياراً مصطفين مقربين ذوي الزلفى عنده يوم القيامة.(253/3)
تفسير قوله تعالى: (هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب)
قال تعالى: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:49].
أي: سير الأنبياء واختبارهم، وما حدث لهم مما ذكر هو ذكر وشرف لهم في الدنيا وفي الآخرة، فقد شرفوا في الدنيا وخلدت أسماؤهم وحياتهم، وخلدوا في الآخرة في الجنان، ورضي الله عنهم يوم القيامة.
وهذا الكتاب ذكر للمؤمنين، أي: تفسير لهم ليعملوا بما جاء فيه، وليكونوا على سنن الأنبياء، وبهداهم يقتدون، وعلى سيرهم يسلكون ويخلصون.
فذكر هؤلاء الأنبياء والمرسلين شرف في الدنيا والآخرة، وتذكير للناس بسيرتهم الصالحة، وبالتقوى والطاعة والعبادة وفعل الخيرات، {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} [ص:49 - 50].
فمن عمل مثل عمل هؤلاء وجرى على طريقتهم، واهتدى بهديهم، واقتدى بسيرهم من المتقين والمؤمنين فلهم حسن المآب، فرجعتهم للآخرة ومآبهم حسن طيب، برضى الله، وبمغفرته، وبدخول الجنان.
وقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} [ص:50] بدل من حسن المآب، أي: حسن المآب أن يدخلوا الجنان، وتفتح لهم أبوابها، والألف واللام في قوله: {الأَبْوَابُ} [ص:50] بمعنى الإضافة أي: أبوابها، فالملائكة تستقبلهم وقد فتحت أبواب الجنة الثمانية، وتقول لهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر:73] أي: طابت أيامهم، ويسلمون عليهم، ويبشرونهم بالرضا والرحمة من الله، ولهذا فالمتقون مبتهجون فيها.(253/4)
تفسير قوله تعالى: (متكئين فيها)
قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} [ص:51].
أي: هم في راحة، وفي سلامة عيش، فليس لديهم هم وغم، ولا يعطشون، ولا يجوعون، ولا حر ولا قر، وتجدهم جالسين متربعين على أرائك الجنة وفرشها مع الحور العين، وعندهم مطاعم ومشارب مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
متكئين في جنات عدن، والعدن: الإقامة، أي: الجنات القائمة الدائمة التي لا موت فيها ولا فناء، فهم خالدون فيها خلود الدهور وأبد الآباد.
وقوله: {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} [ص:51]، أي: يطلبون وينادون الغلمان والولدان المبعثرين لخدمتهم كأنهم اللؤلؤ المكنون، ويطلبون منهم ما يشتهون من فاكهة كثيرة، ففيها من كل شكل زوجان، وفيها لحم طير مما يشتهون، ويطلبون من الشراب ما يريدون من خمر لا غول فيها ولا ينزفون، وعسل مصفى وماء الكوثر.(253/5)
تفسير قوله تعالى: (وعندهم قاصرات الطرف أتراب)
قال تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:52].
أي: عندهم زوجات لا ينظرن لغير أزواجهن ولا يخرجن من قصورهن.
والطرف بمعنى العين، قال تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72]، أي: لا يرفعن أبصارهن ونظرهن لغير أزواجهن.
وأتراب: جمع ترب، أي: في سن واحدة، وهو ثلاثة وثلاثون عاماً، وهن في مكتمل الشباب والقوة والجمال والأنوثة، وهن أخوات لا يغضب بعضهن من بعض، ولا ينازع بعضهن بعضاً، قال تعالى: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] أي: مع أزواجهم وضرائرهن.
وقوله: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [ص:52] وقاصرات الطرف، جمع: قاصرة، وهي التي تقصر طرفها وبصرها ونظرها على زوجها فقط.
وقوله: (أتراب) أي: ليس فيهن عجوز ولا مريضة ولا من تشتكي دهرها أو صحتها، فهن جميعاً في قوة واحدة، وسن واحدة.(253/6)
تفسير قوله تعالى: (هذا ما توعدون ليوم الحساب)
قال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:53].
قل لهم يا محمد! هذه الجنان، وهذه الحور المقصورات في الخيام، وهذه اللذائذ من مطاعم ومشارب، كل ذلك يوعدون به يوم القيامة عندما يأتون ربهم مؤمنين موحدين متقين صالحين، فالله وعدهم وبشرهم، وهيأ لهم، وأعد لهم ذلك، والآخرة تنتظرهم بما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.(253/7)
تفسير قوله تعالى: (إن هذا لرزقنا ما له من نفاد)
قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54].
وكذلك قل لهم يا محمد: هذا ما وعدناهم به يوم القيامة من جميع ما تلذ أعينهم وتشهيه أنفسهم، فتقول لهم الملائكة يوم القيامة: إن هذا لرزق ربنا ما له من نفاذ، فلا ينتهي ولا ينقطع ولا يندثر ولا ينقضي، عطاء غير مجذوذ، قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، فيتنعمون بالحور العين، وبالقصور، وبالفواكه والأطعمة والأشربة، وما يتمناه كل من دخل هذه الجنان، جعلنا الله وإياكم من أهلها.(253/8)
تفسير قوله تعالى: (هذا وإن للطاغين لشر مآب)
قال تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص:55].
ربنا جل جلاله يذكرنا مبشراً ومنذراً، يبشر المؤمنين بما سبق ذكره من الجنان والحور العين، وينذر الكافرين، ليغريهم بالإيمان، وبالتوبة وبالعودة إلى الله، وينذر المؤمنين إذا هم بدلوا أو غيروا، فإن الله يبدل عليهم خيره ورزقه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
فقال ربنا: {هَذَا} [ص:55] أي: هذا الذي ذكر للمؤمنين، وما سيذكر للكافرين والطاغين: جمع طاغية، وهو المتجبر العاصي الكافر، وقد يكون فقيراً، أو حقيراً، أو صعلوكاً، فكل من لم يؤمن بربه فيكون قد طغى وبغى وتمرد على الله، فأصبح طاغية في كفره وردته وظلمه لنفسه.
فالمؤمنون المتقون لهم حسن مآب، وهو الجنة، والكفرة الطغاة لهم شر مآب، وهو النار والعقاب فيها.
قال تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [ص:55 - 56].
شر المآب: هو المآب والمرجع الشر، والعودة التي لهم فيها لعنة الله وطردهم من الرحمة، وشر مآب: جنهم، فجهنم بدل من (شر مآب).
وقوله: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} [ص:56] أي: يدخلون إليها، ويحترقون فيها.
{فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [ص:56].
أي: فما أبأس وأقبح وأذل هذا الميراث والفراش والمنزل والمقام!(253/9)
تفسير قوله تعالى: (فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج)
قال تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:57 - 58].
تقول لهم ملائكة النار: ذوقوا ما فيها من الحميم وهو الماء الحار، الذي بلغ شدة حرارته منتهاها، فإذا عطشوا شربوا هذا الحميم، وإذا أرادوا أن يتنظفوا غرقوا في هذا الحميم.
والغساق: هو سيلان القيح من هؤلاء المعذبين المحترقين، ويكون بارداً برودة الزمهرير، فهم بين زمهرير قاتل ولا موت، وبين حميم قاتل ولا موت، يتنقلون في العذاب بين الحرارة الشديدة والبرودة الشديدة، وهم ينتقلون في ذلك من عذاب إلى عذاب.
ويزيدهم الله فيقول: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:58]، أي: أنواع أُخر من عذاب الله من مثل وشبه الحميم والبارد، و (أزواج) أنواع وأشكال.
فقوله: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:58] وآخر من عذاب الله من أشكال ذاك الأضداد التي هي حميم وبارد.(253/10)
تفسير قوله تعالى: (هذا فوج مقتحم)
قال تعالى: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} [ص:59 - 60].
تدخل أئمة الكفر النار فيؤتى بعدهم بفوج وجماعة وفئة وطائفة، فتقول لهم الملائكة: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} [ص:59] أي: هذه طائفة أخرى مقتحمة، واقتحمت أي: دفعت وطرحت، وقذفت وجرت على وجهها إلى النار، فأقحمت إقحاماً على غير رضاً ولا موافقة منهم، ويدخلون معهم النار، فيقول السابقون: {لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} [ص:59]، فلا يرحبون بهم، ولا يحسنون استقبالهم، قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] إذ جمعهم الكفر، والاستعلاء في الدنيا على أنبيائهم، وتكذيبهم، والكفر بربهم وبكتبه، ففي يوم القيامة ينالون الجزاء الأوفى الكامل، فيقتحم فوج خلف فوج فيسبق الأئمة والقادة لذلك، ثم يتبعون فوجاً فوجاً.
يقول الفوج الأول: لا مرحباً بهم، تقول العرب: مرحباً وأهلاً وسهلاً، فمعنى مرحباً أي: أتيت أرضاً ومنزلاً ومكاناً رحباً، أي: ذا سعة، يسعك علويه وسفليه، ومعنى أهلاً أي: أتيت أهلاً، ومعنى سهلاً: أي: أتيت مكاناً يسهل عليك عشرة أهله واستضافتهم لك.
فأصحاب الفوج الأول لا يرحبون بالفوج الثاني ولا يضيفونهم ولا يوسعون لهم؛ لأنهم يذكرونهم بجرائمهم، وبكفرهم، فيستقبلونهم باللعنة والسباب والشتائم.
وقوله: {إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} [ص:59].
أي: دخلوا النار، واحترقوا واصطلوا بها.
فيقول لهم الفوج الداخل: {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} [ص:60].
يقول فوج الأتباع لأئمتهم الذين سبقوهم إلى النار: {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} [ص:60]، أي: أنتم لا سعة عندكم ولا تكريم لكم: {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} [ص:60]، أي: أنتم الذين تسببتم في أن دخلنا النار، واصطلينا بها، وتعذبنا فيها؛ بأنهم الذين أضلوهم في الحياة الدنيا، فدعوهم للكفر والشرك، وزينوهما لهم، ودعوهم لتكذيب أنبيائهم وكتب ربهم، وزينوا لهم ذلك.
فالفوج الأول، والفئة الأولى من الأئمة والدعاة إلى النار كانوا هم المتسببين لهؤلاء الأتباع بدخول النار.
وقوله: {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} [ص:60] أي: فبئس جهنم قراراً ومنزلاً وموطناً ومستقراً لجميع الأفواج التي جمعتهم النار.(253/11)
تفسير قوله تعالى: (قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً)
ثم يعود الأتباع ويقولون لربهم: {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} [ص:61].
سيدعو الأتباع ربهم على الأئمة والأشياخ، ويقولون: بما أن هؤلاء الذين دعوا للكفر بك، وبأنبيائك وبكتبك، وكانوا متسببين في تقديم هذه النار إلينا، زدهم عذاباً في النار مضاعفاً عليهم، يقول الله تعالى: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]، أي: للأئمة المأمومين وللأتباع والتابعين عذاب مضاعف؛ لأن هؤلاء الأتباع عندما دعوا للكفر أين كانت عقولهم؟ فقد تركوا رسل الله الذين دعوهم لإيمانهم، فلم يستجيبوا لهم، وتركوا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي دعاهم للإيمان بالله وبه، فلم يستجيبوا له، واستجابوا لأهوائهم ونزواتهم، وهكذا يدعى على كل طاغية بالذل والهوان، وعندما لا نحمل الشعوب جرائم حكامهم، نكون قد خالفنا طريقة كتاب الله، فالله عامل الأتباع والأئمة معاملة واحدة؛ لأن أئمة النار كانوا أئمة على شعوبهم، فصاروا رؤساء وحكاماً ومسئولين.
وأتباعهم لو لم يرأسوهم ويتعصبوا لهم ويحموهم لما كانوا أذلاء حقراء بعيدين عن الله دنيا وآخرة، وقوله: {وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38] أي: لا عقل عندهم، ولا علم معهم، ولا فهم لمداركهم، فالإمام والمأموم أو التابع والمتبوع كلاهما مؤاخذان ومعاقبان؛ لأن الله خلق لنا عقولاً لنفهم بها ولنعي بها فليس العاقل يتبع كل ناعق وكل نافر، فالإنسان يفكر ويتدبر هل هذا كلام عقلي وكلام صواب يتبع؟ ولكنهم لهوانهم وذلتهم سعوا إليهم في الدنيا والآخرة.
وقوله: {فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} [ص:61]، أي: زده من العذاب أضعافاً وأنواعاً وأشكالاً.(253/12)
تفسير سورة ص [62 - 88]
يختصم الكفار في النار يوم القيامة، ويتساءلون عن المؤمنين الذين كانوا محل استهزائهم في الدنيا مالهم لا يرونهم في النار، حينئذ يعلمون أن القرآن الكريم هو النبأ العظيم وأنهم عائدون إلى الله ليحاسبهم جزاء اتباعهم للشياطين.(254/1)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً)
قال تعالى: {وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ * أَاتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:62 - 64].
دخل الأتباع والمتبعون النار فالتفتوا يميناً وشمالاً لعلهم يرون رجالاً كانوا يهزءون بهم في الدنيا فسألوا عنهم: {وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} [ص:62 - 63]، فقد كان الكفار يستهزئون بالمؤمنين الصالحين في دار الدنيا، ويسخرون منهم، ويحقرونهم فيقولون عنهم: رجعيون، متخلفون، فيقولون: أين هؤلاء؟ لِمَ لم نرهم؟ فقد كنا نهزأ بهم وبأحوالهم؟ ألم يوجدوا معنا أو وجدوا ولكن زاغت عنهم الأبصار؟ أي: مالت عنهم.
ولكن هؤلاء هم بدورهم في الجنة، يبحثون عنهم، ويقولون لهم: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف:44] وهكذا قيل لـ أبي جهل عندما دخل النار: أين بلال وصهيب؟ وأين من كان يهزأ بهم من مساكين الصحابة وفقرائهم؟ فإنهم في أعلى عليين مع محمد وصحبه صلى الله عليه وسلم، ورضي الله على أصحابه أجمعين، فكل كافر في النار كان في دنياه يهزأ بالصالحين، وعندما يدخل النار سيبحث عن أولئك الذين كان يهزأ بهم في دار الدنيا ولم يرهم في جهنم، فيقول لنفسه: هل زاغ بصري ومال عنهم.
وقوله تعالى: {كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ} [ص:62]، أي: كنا نعدهم شريرين ضالين مغرورين.
وقوله: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} [ص:63]، هل عندما كنا هزأنا بهم كنا ظالمين ضالين لا نعلم الحق من الباطل؟ أم زاغت أبصارنا ومالت عنهم فلم ترهم.
ويقول ربنا: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:64].
يخبرنا جل جلاله بأن خصومة أهل النار هي حق، فيلعن الإمام المؤتم، والصغير الكبير، والمتبوع التابع، والتابع المتبوع، فهم يتخاصمون ويتنازعون وهم مع ذلك في عذاب خالد دائم.(254/2)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا منذر)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص:65 - 66].
يقول الله لنبيه: قل لهؤلاء الكفرة بك، وبإلهك، وبالكتاب المنزل عليك، إنما أنا منذر، لست إلهاً ولا معبوداً فأنا بشر مثلكم، أرسلني الله إليكم لأنذركم، ولأخوفكم، ولأهددكم عقوبة يوم القيامة، ولست ساحراً أو كاهناً أو مجنوناً، ولكنكم قوم لا تعقلون، فأنا أبشر المؤمنين بالجنة، وأنذر الكافرين بالنار.
وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص:65]، أي: ليست هناك آلهة متعددة، وقد جئتكم بإله واحد، وجعلت الآلهة إلهاً واحداً، وأخذتم تتعجبون، وتقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، واعجباً في ذلك! والعجب في كفركم وفي قولكم، وفي بعدكم عن الله.
فما من إله إلا الله الواحد القهار، ولا إله معبود بحق إلا الله الخالق الرزاق الواحد القهار، الذي خلق الخلق، وقهرهم بالموت، وبالعرض عليه يوم القيامة لينالكم الجزاء: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
وهو القاهر فوق عباده، وما كل من ادع الألوهية والربوبية إلا خلق من خلق الله، لا يضر ولا ينفع، ملكاً كان أو إنساً، أو جناً ومن باب أولى إن كان جماداً.
وقوله: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [ص:66].
أي: ربها وخالقها ورازقها، فهو مدبر السماوات وما علاها، ومدبر الأرض وما فيها، وما قد خفي فيها، وما بين السماوات والأرض من نجوم وكواكب متنقلات مما لا يعلمه إلا الله، فكله خلق الله، وكله تحت قهره وتدبيره، يحيي من يشاء ويميت من يشاء، لا شبيه له لا في صفة ولا في ذات، لا في أفعال.
وقوله: {الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص:66].
العزيز هو الذي لا ينال، ولا يوصل إليه لعزته وقهره جل جلاله، وهو مع ذلك يغفر لمن أساء ثم أناب، فيغفر للمستغفرين وللتوابين ولمن رجع إليه، فالله يتوب على من تاب إليه إلا من أبى إلا البقاء على الشرك والاستمرار فيه ومات عليه، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، ومن مات على الشرك والكفر يستحق العذاب الدائم الذي لا مغفرة فيه ولا سماح.(254/3)
تفسير قوله تعالى: (قل هو نبأ عظيم)
قال تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص:67 - 68].
أي: قل لهؤلاء: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص:67]، وهو كقوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1 - 2].
والنبأ العظيم: الآخرة والقرآن الكريم، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبي الله ورسوله الخاتم، ورسالات الله كلها نبأ عظيم، ومع ذلك على عظمته، وعلى قوته، وعلى سعادة من علم وعمل به، وعلى شقاوة من أنكره ولم يعمل به، هو عظيم، لا يضعفه كفر الكافر ولا جحود الكافر، وهو عظيم على كل اعتبار.
{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص:67] أي: القرآن نبأ عظيم، فقد أوحى به إلى نبيه وخاتم الأنبياء، فمن آمن به سعد، ومن كفر به شقي.
وقوله: {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص:68] أي: هم قد أعرضوا عنه، وأدبروا عن الإيمان به، وأشركوا بما جاء فيه من حقائق، وقد تجد إنساناً وهو لا يزال حياً يرزق، وهو لا ينتهز فرصة حياته وقوته وشبابه للتوبة والإنابة والعبادة، والبعد عن الكفر والفجور، فستجدهم مع ذلك يتساءلون عن هذا النبأ العظيم: {أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53].
يقول لأتباعه وللعرب وللعجم ولكل الناس: خذوا المعجزة والصدق، إن كانت لكم عقول.(254/4)
تفسير قوله تعالى: (ما كان لي من علم)
قل: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص:69].
أي: ليس لي علم بالملأ الأعلى، وهم الملائكة في السماوات العلا، فلست أدري بذلك لا أنا ولا غيري من سكان الأرض.
{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص:69] أي: اختصام الملائكة، والملأ الأعلى هم الملائكة الأشراف والسادة.
وليس لأحد من الخلق علم بالملأ الأعلى، إذ إن ما بين السماء الدنيا والأرض خمسمائة عام، وبين كل سماء مع السماء التي فوقها ما بين السماء والأرض، ومع ذلك فقد أخبر نبينا بخبر الملائكة وبمحاورتهم، وبمذاكرتهم، فيما قصه الله علينا، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، فعندما أخبرهم الله بأنه سيخلق خليفة في الأرض وهو آدم ليعبده، وتعبده ذريته وأبناؤه، قال بعض الملائكة: كيف يكون ذلك يا ربنا! وهم يسفكون الدماء، ويظلمون ويفسدون في الأرض؟! فهذا معنى الاختصام.
وقد قال المفسرون هو خصام من حيث الأخذ والعطاء، وإلا فمن الذي يخاصم ربه ولكنها محاورة ذكرت بلفظ الخصام، فحاوروا ربهم وذاكروا ربهم عندما أخبرهم بأنه جاعل في الأرض خليفة، فقالوا له: (أتجعل فيها) وهذا استفهام ولم يكن إنكاراً، معاذ الله! فملائكة الله معصومون.
إنما هي خصومة من حيث القول، ومحاورة من حيث الواقع، فيقول نبينا ما علمه الله أن يقول: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص:69]، فلم يكن له علم بما حصل بين الله وملائكته، وبين الله وإبليس من مخالفة ومن خروج عن الحق واستعلاء وتكبر.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بما لا يفهم، فقد نزل عليه الكتاب الواضح البين وبينه ووضحه، وما سنته إلا بيان وشرح وتفسير لكتاب ربنا المنزل عليه، قال تعالى: {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [ص:70]، فالنبي عليه الصلاة والسلام عبد الله كواحد منكم، ولكن الله اختاره للنذارة وللرسالة وللنبوءة.(254/5)
تفسير قوله تعالى: (إذ قال ربك للملائكة)
قال بعد ذلك: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:71 - 72].
وهذا كان بين الله وملائكته في السماوات العلا عند خلق آدم في السماء، وبقي فيها إلى أن صدر منه تلك الهفوة فأنزله الله إلى الأرض؛ ليتم أمر الله في عباده وخلقه.
فقوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} [ص:71] أي: ملائكة الملأ الأعلى، والآية الماضية مقدمة لهذا والذي بعده.
وقوله: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص:71] أي: أصنعه وأخلقه وأجعله من طين؛ فخلق ربنا أبانا الأول آدم من صلصال من حمإ مسنون، ثم خلق أمنا حواء من ضلع آدم، وخلقنا من نفس واحدة وجعل منها زوجها، والنفس الواحدة هي آدم، وجعل من النفس الواحدة زوجها، وهو ما بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحاح من أن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن أنت أقمتها كسرتها، وإن تركتها تمتعت بها وبها عوج.
والنساء ناقصات عقل ودين، فإذا جئت بالأعوج وحاولت أن تقيمه كسرته، وإذا حاولت أن تتمتع به تمتعت به وبه عوج، لتكون أماً، ومعينة لك في عبادة ربك، ولتكون الأسرة بواسطتها، ولا بد من بذر ولا بد من أرض، فكان البذر مني الرجل، وكانت الأرض رحم المرأة.
وهكذا بعد أن خلق الله أبانا من تراب من طين، وخلق أمنا منه بعد ذلك، خلقنا من ماء مهين من نطفة، وجعل من النطفة ذكراً وأنثى، وهكذا دواليك، ولم تتغير هذه القاعدة إلا في عيسى، فقد خلقه الله من أم بلا أب.
وقوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} [ص:72] أي: صنعت صورته على الشكل المعروف، وانتقل من كونه جماداً تراباً إلى صورة لا حراك بها.
وقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص:72] أي: أصبح الإنسان متحركاً ذا روح، {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:72] فامتثل الملائكة الذين حاوروا ربهم: كيف تخلق خلقاً يسفكون الدماء، ويفسدون في الأرض، ولا شك أنهم ما قالوا ذلك إلا أنه كان خلق قبلنا قد سفكوا الدماء، وأفسدوا في الأرض، ثم اندثروا وانتهوا، فخاف الملائكة أن يعاد ذلك؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد أخذ علماؤنا والعارفون بالله هذا المعنى من هذه الآية.
وهذه القصة ذكرت في سورة البقرة وبيناها مفصلة، وفي سورة الأنعام، وسورة الكهف، وعديد من السور، وفي كل سورة تذكر لحكمة ولمعنى مع السياق ومع نظم الآي.
قال الله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [ص:72 - 74].
أمر الله الملائكة أن تسجد لآدم الذي صنعه بيده ونفخ فيه من روحه، فامتثلوا أمر الله، فسجد الملائكة كلهم إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين.
وإبليس لم يكن ملكاً، فقد قال الله عنه: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] ولكنه كان معهم وفي ملئهم، ويجتمع باجتماعهم، ويدين الله بدينهم طاعة وتقى، ولكن النفس الخبيثة تأبى إلا أن تعود لفطرتها وأصلها.
فقوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [ص:74] أي: تعاظم، وهو حد الكفر والشرك والتكبر.
وسمي إبليس من أبلس، أي: طرد من رحمة الله، فهو عندما عصى وخرج عن الطاعة والأمر، طرد من الرحمة ونزع منها كما نزع الثوب من الإنسان.(254/6)
تفسير قوله تعالى: (قال يا إبليس ما منعك)
قال تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص:75].
أي: يا إبليس لِمَ لم تسجد لهذا الذي خلقته بيدي، وقد أمرتك مع الملائكة بالسجود له، هل استكبرت وتعاليت في نفسك، وظننت لنفسك ميزة واعتباراً، أم وجدت نفسك أعلى مقاماً، وأرفع نسباً، وأفضل خلقاً؟ فيجيب إبليس بكل سفه مبيناً سبب استكباره واستعلائه: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76].
فأخطأ وزل مرتين، مرة في كبريائه وتعاظمه، ومرة في ظنه: أن النار خير من الطين، وهيهات هيهات! ولولا الطين ما زرع حب ولا نبت شجر ولما عاش مخلوق، أما النار فلا تقبل نباتاً ولا زرعاً ولا خيراً، وإن كانت لها مصالحها؛ ولكن مع ذلك فإن التراب والأرض والطين أكثر وأعم نفعاً.
قال تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [ص:77].
طرده الله من رحمته، وأخرجه من جنته وأبعده عن ملائكته، وقال له: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [ص:77] أي: مرجوم وملعون، {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:78]، فهو ملعون مطرود عن رحمة الله إلى يوم القيامة.
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص:79].
عندما لعنه الله لعنة دائمة مستمرة إلى يوم الدين، طمع أن يبقى حياً إلى ذلك اليوم فقال: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص:79].
أي: أرجعني وأخرني في موتي إلى يوم البعث والنشور.
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [ص:80 - 81].
فأنظره الله وأجله وأخره ليبتلي به من يبتليه، ويختبر به من يختبر، ليكون إيمان المؤمن عن ثبات ويقين بعد الابتلاء والفتنة قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، والفتنة تكون بالشيطان بإغوائه ووساوسه، وكذلك في البرزخ لامتحان إيمان المؤمن.
{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [ص:79 - 80] أي: المؤجلين، المؤخرين، {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [ص:81] أي: يوم القيامة يوم البعث يوم النشور يوم الحياة الثانية، فطمع الشيطان فقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83].
فإذا الشيطان زاد طغياناً وإغواء لبني آدم لأن آدم كان سبب شقائه وبلائه ولعنته وطرده من الجنة ومن رحمة الله، ورأى أن هذه المدة إلى يوم القيامة طويلة يستطيع فيها الإغواء والإفساد.
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ} [ص:82] طلب الله بعزته وجلاله وبمقامه، أي: أسألك وأتوسل إليك بعزتك {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] أي: لأدعو جميع البشر إلى الغواية والضلال والعصيان والمخالفة والشرك والكفر وفساد الطاعة وغير ذلك.
{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:83] إلا من أخلصوا لعبادتك، ممن أخلصتهم برحمتك وتوفيقك، وأبعدتهم عن وساوسي وإغوائي.(254/7)
تفسير قوله تعالى: (قال فالحق والحق أقول)
فيجيبه الله جل جلاله فيقول: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:84 - 85].
يقول الله جل جلاله: {قَالَ فَالْحَقُّ} [ص:84] أي: أنا الحق، فالحق أنا، وقرئ: (فالحق) وهو منصوب على حذف الفعل وتقديره: أقول الحق، فقد أقسم الله بجلاله وباسمه الحق أنه سيملأ جنهم من الشيطان وذريته وممن أغواهم.
والله يأمر الناس بواسطة رسله وكتبه أن يتركوا الشيطان وأن يتخذوه عدواً كما اتخذ الإنسان عدواً، وأخرج أباهم وأمهم من الجنة، بسبب إغوائه لآدم طرد من الجنة من أجله.
هذه القصة بتفاصيلها قد مضت من قبل، فالله تعالى يذكر نبينا الذي فضله على النوع البشري الذي اختصه الله بالخلق بيده، وبالنفخ فيه من روحه، وأكرمه بسجود الملائكة له، ومن كان كذلك فيجب أن يعنى بنفسه وبذاته، فلا يغويه الشيطان ولا يتبع وساوسه وإنما يطيع الله الذي شرفه وكرم أصله حيث صنعه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته.(254/8)
تفسير قوله تعالى: (قل ما أسألكم عليه من أجر)
قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86].
أي: يا محمد يا رسول الله! قل لهؤلاء الذين غووا وضلوا، وكذبوك وكفروا: لم آتكم بالرسالة أطلب مالاً أو جاهاً أو أجراً أو سلطاناً أو نساءً أو تاجاً، وقد أرادوا ذلك بواسطة أبي طالب والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر ما تركته حتى أهلك أو يقضي الله بيننا)، فقد عرض عليه كل ذلك وأبى، حتى أظهر الله دينه وكان سيد السادة وإمام المرسلين.
وكانت الجنود والأباطرة يتشرفون بقدومه وباتباع رسالته ابتداء من النجاشي عندما أسلم وآمن به، واتبع دينه، وقال: ما منعني من مجيئي إليك وأن أغسل عن قدمك إلا سؤدد هؤلاء، ولم يأمره النبي عليه الصلاة والسلام بأن يترك الحبشة ليحمي المهاجرين الذين هاجروا من مكة إليه بعد أن آذتهم قريش.
وقوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، الذين يتكلفون ما لا يعلمون، ويقولون ما لا يعلمون، أي: لولا أن الله أرسلني وأمرني لم أتكلف رسالة ولا علماً ولا أقحمت نفسي فيما لا أعلم.
قال عبد الله بن مسعود: من علم شيئاً فليعلم غيره، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم، فهذا نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يقول: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، أي: لا أكلف نفسي أن أقول ما لا علم لي، وإنما أقول ما علمني ربي، فأمرني أن أقول: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86].(254/9)
تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين)
قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [ص:87].
أي: إن القرآن والرسالة تذكير لعالم الإنس والجن، والعوالم كلها، منذ خرج وظهر في هذه البطاح المقدسة، وقال: (يا أيها الناس! إني رسول الله إليكم جميعاً)، وكلهم وجد علماً من علوم رسول الله، وكما قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).
فكتاب الله تعالى ذكر لهم فهو يذكرهم ويعلمهم، ويبين لهم الحقائق والعقائد والحلال والحرام، ويبين لهم كيف يعيشون مع أنفسهم ومع أسرهم، ومع أعدائهم، ومع أحزابهم، وفي داخل البلاد وفي خارجها.(254/10)
تفسير قوله تعالى: (ولتعلمن نبأه بعد حين)
قال الله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88].
اللام هنا هي اللام الموطئة للقسم، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقسم بما علمه الله وأكد ذلك بنون التوكيد الثقيلة، أي: لتعلمن نبأ هذا الذكر وهذا القرآن وهذه الرسالة وهذا النبأ العظيم، {بَعْدَ حِينٍ} [ص:88] أي: حين يعلمكم الله ذلك، وتظهر لكم الحقائق من المعجزات التي أتى بها القرآن، والتي نطق بها رسول الله عليه الصلاة والسلام، والتي ستظهر في الكون في آخر الزمان مما أخبر به الله، ونبأ عنه رسول الله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
وكذلك عند موتكم، فالإنسان إذا مات أتاه اليقين، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، أي: اعبد الله ما دمت حياً حتى ينتقل ما آمنت به غيباً فيكون إيمانك به يقيناً ومشاهدة، ويكون ذلك بالموت.
وفي يوم القيامة سيفصل الله بين العباد: بين اليهود والنصارى، وبين المسلمين مع اليهود والنصارى، وبين طوائف المسلمين الذين افترقوا إلى ثلاث وسبعين فرقة كما أخبر الصادق المصدوق.
هذه الفرق تزعم كل منها أنها وحدها على الحق وسواها على الباطل، ومن هداه الله ابتلاه في دنياه، ومن ضل فإنه يبقى ضالاً إلى يوم القيامة إلا أن يدركه الله برحمته وبنعمته، ونرجو من الله أن يجعلنا من هذا القبيل ممن يعلمهم الله ويرشدهم ويلهمهم ما يعود عليهم بخير في الدنيا والآخرة، وهذه الآية الكريمة على قلة ألفاظها هي من جوامع كلم القرآن، وقد كتب كاتب فرنسي نصراني كتاباً يتكلم فيه عن القرآن الكريم موازناً له بالتوراة والإنجيل، وأن كل العلوم والحقائق الكونية سماء وأرضاً مما ذكر القرآن يؤكدها العلم الحديث، وتؤكدها الحقائق، وليس فيها تغيير ولا تبديل، ولا قلب للحقائق، وهذا بخلاف التوراة والإنجيل، فالتوراة قد بدلت، والإنجيل قد غيرت، ودخلها الكذب والتحريف والتبديل، فظهر فيها فساد المفسدين، وهذا من معجزات القرآن، وقد قال الله عن القرآن الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقد مضى عليه أربعة عشر قرناً ولم يستطع أحد أن يغير ما فيه أو يبدله أو يحرفه زيادة أو نقصا ًفي حرف أو حركة أو سكون على كثرة أعداء الإسلام، وأعداء القرآن، وأعداء محمد النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
فالقرآن الذي نزل على محمد عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة والمدينة المنورة هو هذا القرآن الذي نقرؤه اليوم بلا تبديل ولا تغيير، بالوقفات والحركات والسكنات، والتقديم والتأخير والنظم، أليس هذا الوحي هو معجزة المعجزات؟ وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن كل معجزات الأنبياء السابقين قد أدت مهمتها وانتهت، وأما القرآن فهو المعجزة التالدة الخالدة التي يدرك إعجازها لفظاً ومعنى كل إنسان يأتي بعد نبينا عليه الصلاة والسلام.
فالأصحاب آمنوا بهذه المعجزة علماً وتصديقاً، وأما نحن فآمنا بها وقوعاً ومشاهدة، وبهذا نكون حققنا ما أخبر به النبي عن كتاب الله.(254/11)
تفسير سورة الصافات [1 - 6]
سورة الصافات مستهلة بالأيمان الإلهية، حيث يقسم تعالى بملائكته الصافات الزاجرات التاليات على أنه الإله الواحد المستحق للعبادة، رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق.(255/1)
تفسير قوله تعالى: (والصافات صفاً)
يقول تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:1 - 5].
سورة الصافات سورة مكية، أي: نزل بها الروح الأمين على قلب نبينا الشافع الأمين صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، وآياتها اثنتان وثمانون آية، وسميت الصافات لأول السورة.
والصافات: هي الملائكة التي اصطفت بأجنحتها في الهواء تنتظر أمر الله، وقد كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يصلي بها في صلاة الصبح يقرؤها في ركعة واحدة.
يقول تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:1] هذا قسم من الله، والصافات: جمع صافة، أي: الملائكة مرصوصة مصطفة بأجنحتها في الهواء لتنتظر أمر الله، وهي المصطفة لعبادة الله، وقد جاءت الأحاديث بهذا المعنى.
قال عليه الصلاة والسلام: (فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجداً كلها، وبأن جعل لنا ترابها طاهراً إذا لم نجد الماء).
وقال عليه الصلاة والسلام -والحديث في مسلم وفي السنن- (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، فقال قائل: يا رسول الله! فكيف تصف الملائكة؟ قال: يتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصون في الصفوف)، أي: لا يصفون في الصفوف الخلفية إلا بعد أن تتم الصفوف المتقدمة، وتكون الصفوف متراصة الكتف إلى الكتف والكعب إلى الكعب.
{فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} [الصافات:2].
الزجر: هو المنع والردع، والزاجرات هي الملائكة التي تزجر الإنسان في أعماله، وعلى كل واحد منا ملك عن يمينه وشماله، وهي تزجر الكافر عن الشرك والمؤمن عن المعاصي.
وقيل: (والزاجرات) أي تزجر السحب لأنها لو بقيت في السماء لحالت بين الأرض وضوء الشمس، والأرض بحاجة إلى ضوء الشمس والحياة محتاجة للشمس، فهي تزجر السحاب وتصرفه، {فَالزَّاجِرَاتِ} [الصافات:2] الرادعات المانعات من الشرك ومن المعصية.
{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات:3].
أي: التي تتلو ذكر ربها، والتي توحد ربها، والتي لا تنقطع عن عبادة ربها.
فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا هي الملائكة كذلك، والواو واو القسم، فقد أقسم الله بالملائكة تنوينها بفضلها وعظيم خلقها؛ لأن الله لا يقسم إلا بعظيم، وقد قال لنا نبي الله صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما من موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد).
وذكر الملائكة هو كالنفس في البشر، وكما أن الإنسان إذا انقطع نفسه انقطعت حياته، فالملك إذا انقطعت عبادته وذكره مات، وهو سيموت يوماً، وسيبلى كل شيء، ويفنى كل شيء، ولن يبقى إلا وجه ربنا ذي الجلال والإكرام.
قال تعالى: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات:3 - 4].
يقسم الله بملائكته أن إلهنا واحد، وكان هذا جواباً منه جل جلاله لنبينا عليه الصلاة والسلام للكفار عندما قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]؛ لأن النبي دعاهم إلى توحيد الله جل جلاله، وأن الآلهة التي ادعوها ما هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، أي: من دليل ولا برهان، بل هي أكاذيب وأضاليل وأباطيل لا واقع لها في الحياة.
وقال قوم: لله أن يقسم بما شاء من خلقه، فقد أقسم بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأقسم جل جلاله بالليالي العشر، والشفع والوتر، أقسم بالتين والزيتون، أقسم بالملائكة، ولكن قال قائلون: هو قسم بالله لا بهؤلاء؛ لأنه رب الزاجرات زجراً، ورب التاليات ذكراً، وهذا قالوه انطلاقاً من أن الحلف لا يكون إلا بالله، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، ولكن ذلك أمر لنا.
والجمهور: على أن الله قد أقسم بالكثير من مخلوقاته وذلك للفت النظر إلى مقامها، ولذلك لفت الأنظار إلى مقام الملائكة، وإلى عظيم عبادتهم وإلى طاعة ربهم فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ثم قال تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:5].
ربنا جل جلاله وإلهنا وخالقنا هو رب السماوات والأرض، رب السموات السبع، مدبرها وخالقها ورازقها والقائم عليها جل جلاله، وهو المدبر للأرضين وخالقها، والرازق لها، والقائم بشأنها جل جلاله، لا ثاني له، ولا ند له، وكل ما سوى الله إنما هو من ضلال الضالين، وإبطال المبطلين: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، فلو فكر الإنسان في نفسه: كيف أتحرك؟ كيف أتذوق؟ كيف أسبح؟ كيف أمشي؟ كيف أجلس؟ من الذي أعطاني هذا؟ وعندما نموت فأين سنذهب؟ والروح التي بين جنبي ما حقيقتها وما كنهها؟ قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، قالوا: الروح هي الذهاب والحركة، قلنا: هذا أثرها وليست هي، الروح قدرة الله، الروح أمر الله، الروح روح الله جل جلاله، بها تحركنا، وبها عقلنا وأدركنا، فقد استأثر الله بمعرفة حقيقة الروح وماهيتها، وطالما تساءل الناس في الجاهلية وما قبلها عن مآلهم فلا يستطيعون فهماً ولا يستطيعون إدراكاً.
إن السماء والأرض خلق من خلق الله، هذه الكواكب التي زين بها الأرض، هذه النجوم التي لا يحصي عددها إلا الله، هؤلاء الخلق المخلوقون من السماء والأرض من ملائكة الله، من خلق الله، ومما لا يعلمه إلا الله بين السماوات والأرض، فإن بينهما خلقاً لا ندري حقيقته، ولكنه خلق عاقل، خلق مدرك، وقد قال ربنا جل جلاله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29].
يقول تعالى من آيات قدرته، من آيات قوته: خلقه السماوات والأرض، وما خلق فيهما من دابة، والدابة: ما يدب على وجه الأرض، وليست الدابة ملكاً؛ لأن الملك له أجنحة مثنى وثلاث ورباع، فلا يدب على الأرض، ولا يمشي على الأرض، بل إن الملائكة تطير في الأجواء تسبح وتعبد الله.
ولقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام جبريل في الأجواء وله ستمائة جناح قد سد الأفق، رآه مرتين على خلقته التي خلقه الله عليها، وأكثر ما كان يرى على صورة البشر؛ لأن من خصائص الملائكة: أنها تتكيف وتتشكل كما تريد.
وعندما نزل على نبينا في غراء حراء نزل في صورة إنسان فقال: (اقرأ) فكرر ذلك ثلاثاً، وكان يراه أكثر ما يراه في صورة دحية الكلبي الصحابي الأنصاري الجميل، فرآه مرة في صورة بدوي نظيف معطر، دخل المسجد وأصحاب النبي حوله.
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29].
وقد قلنا: إن (إذا) إذا دخلت على الماضي حولته مضارعاً، وإذا دخلت على المضارع حولته ماضياً، وهو على جمعهم إذا يشاء: يدل على الحال والاستقبال، فلما دخلت (إذا) حولته للماضي: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:5]، ولا يكون مشرق إلا ومعه مغرب أي: رب المشارق والمغارب، وقد ذكرت الآية على التثنية: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17]، وعلى الجمع: {ِرَبِّ الْمَشَارِقِ} [المعارج:40]، وعلى الإفراد: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الشعراء:28].
قالوا: إن للشمس ثلاثمائة وستين كوة -أي: تشرق وتغرب كل يوم من كوة فكل كوة تشرق منها فهي مشرق، وكل كوة تغرب فيها فهي مغرب، ومجموع الكوى ثلاثمائة وستون مشارق عند الشروق، ومغارب عند الغروب.
{ِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:40]، لا يكون شروق إلا وبعده غروب.(255/2)
تفسير قوله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب)
قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6].
يقول تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6]، وقال في سورة الملك: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5]، فيذكر ربنا أنه زين السماء الدنيا القريبة منا، أي: هذه الأجواء التي تعلونا، أي: السماء الأولى زينها بزينة الكواكب والنجوم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما بين كل سماء وسماء كما بين السماء والأرض) وقال: (إن بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام)، ولا نعلم هل هي من أعوام الأرض أم لا؟ وقد قال الله في اليوم الواحد عنده: {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، وقد ذكر في القرآن معراج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
قال: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الملك:5]، زينها بمصابيح كما قال في سورة الملك، وجعلها كالمواقيت للناس يعرفون بها مواقيت الصيام والحج والزكاة، وكان العرب قبل الإسلام من أبرع الناس ولا يزالون من أعرف الناس بالطرق عن طريق النجوم، قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الملك:5] أي: السماء الدانية القريبة بزينة الكواكب والنجوم.(255/3)
تفسير سورة الصافات [6 - 21]
الله تعالى هو الخالق الرازق الموجد لكل شيء بقول (كن)، لكن الإنسان مخلوق عجيب يتعالى على الله ويتعجب من عظمة الله تعالى ويتشكك في البعث بعد الموت، والله تعالى لا يزال يبين له الآيات ويثبت له بالحجج القاطعات أنه مبعوث محاسب.(256/1)
تفسير قوله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب)
قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:6 - 9].
نحن الآن في سورة الصافات، أي: سورة الملائكة.
يقول الله جل جلاله: (إنا زينا السماء الدنيا بزينةِ الكواكب)، وقرئ (بزينةٍ الكواكب) بالتنوين، والمعنى متقارب، فالله جل جلاله يذكر هؤلاء الكفرة الجاحدين ليعودوا للإيمان بالله، والإيمان برسل الله، وكتبه، ويلفت أنظارهم إلى هذا الكون وما فيه من نظام دقيق في السماوات والأرض، وخلْق الإنسان، وتسيير الشمس والقمر، وما مضى وما لا يزال يذكر بذلك.
ومن ذلك: أن الله جل جلاله زين السماء الدنيا وجملها، وأحسنها، والسماء الدنيا الأولى القريبة من الأرض التي نراها على شدة ارتفاعها وعلوها، زينها بالكواكب، فكانت زينتها ضياء الكواكب، فهذه الأنجم التي نراها والتي لا يحصي عددها إلا الله هي تزين السماء، كما قال في سورة الملك: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5]، فهي جعلت لإضائتها ونورها كهذه المصابيح التي نراها في السقوف وفي أعالي الدور والبناء، فكانت هذه الكواكب -جمع كوكب- وهذه النجوم التي لا يحصي عددها إلا الله زينة للسماء، وكانت ضياءً لها في الليل البهيم.
من خلق ذلك؟ من زين ذلك؟ من رفعه؟ من أعلى سمك تلك السماء؟ {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:6 - 7] أي: وحفظ بها حفظاً.
فـ (حفظاً): مفعول مطلق، أي: حفظ السماء وحفظ الكواكب من كل شيطان مارد من نسل إبليس من الشياطين، والألف واللام للجنس، بل حفظ الله سماواته من أن تتصنت إليها الشياطين، فالمردة على الله، والكافرون بالله، والجاحدون له ولأنبيائه ورسله حفظت منهم.
قال تعالى: (وحفظاً من كل شيطان مارد) أي: من كل متمرد على الله، ومن كل من جاء يريد الإنصات إلى ما يقوله الملائكة، وما يتلقونه من وحي، وما يخرج به أمر الله من أمر أو نهي.
قال تعالى: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا} [الصافات:8 - 9].
(لا يسمعون) حذفت التاء تخفيفاً وأدغمت السين أي: لا يستمعون، وهذا للشيطان وجنسه؛ ولذلك عاد الضمير على الجماعة، (لا يسمعون) لا يتسمع هؤلاء الشياطين، وقرئ: (لا يستمعون) وقرئ: (لا يسمعون)، وهي كلها قراءات تبعية.
(لا يسمعون إلى الملأ الأعلى) والملأ الأعلى: الجماعة العليا، وهم سكان السماوات من ملائكة الله وجنده الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وقد حفظ الله السماوات بهذه الشهب الثاقبة (وحفظاً من كل شيطان مارد * لا يسمعون) أي: كي لا يسمعوا.
(ويقذفون من كل جانب)، يقذفون من كل جهات السماوات ومن كل أقطارها ومن كل جوانبها، وهذا إذا حاولوا التصنت على الملائكة وما يقولون وما يوحى إليهم.
(ويقذفون) أي: يطردون ويقذفون من كل جانب (دحوراً) أي: ويدحرون دحوراً، أي: يطردون عن السماء، ويبعدون عن السمع وعن الإنصات.
قال: (دحوراً ولهم عذاب واصب)، يطردون من الإنصات طرداً ويبعدون إبعاداً كي لا يسمعون ما يقوله الملائكة، كي لا ينصتوا لما تتحدث به الملائكة، وما يوحى إليهم من علم الغيب، ومن أوامر الله ونواهيه جل وعلا.
(ولهم عذاب واصب) عذاب دائم، ويكون لهؤلاء الشياطين العذاب في الدنيا بهذا القذف، وعذاب الله يوم القيامة لكفرهم ولشركهم ولإنصاتهم على ما يحاولون.
{وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:8 - 10].
هم يبعدون عند الإنصات، فإن تجرأ أحدهم ولربما يفعلون ذلك أحياناً يقذفون، وهذه الشهب التي نراها أحياناً يتطاير ضياؤها، وتتساقط بعض أجزائها تكون رجماً للشياطين في شهاب ثاقب يثقب الجني ويحرقه، ينفذ فيه من جانب إلى جانب ومع ذلك يحاولون أن يفعلوا، ويركب بعضهم بعضاً ليصل لذلك.
وهذا استثناء من قول الله تعالى (ويقذفون) لأن هذه النجوم وهذه الشهب حفظت بها السماء: (وحفظاً من كل شيطان مارد)، حفظ الله السماء وحفظ وحيه وحفظ الملائكة جنده ورسله إلى الناس في الأوامر والنواهي وتلقي الوحي في الخلق والأمر، حفظها من أن ينصت إليها هؤلاء الشياطين.(256/2)
تفسير قوله تعالى: (إلا من خطف الخطفة)
{وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:7 - 10].
إلا من حاول أن يخطف خطفة وينصت إلى كلمة.
{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10].
فيتبعه الله ويلحقه بهذا الشهاب الذي يسقط عليه فيحرقه وينفذ في بدنه من جانب إلى جانب فيهلك.
و (شهاب): قطعة من نار جزء من هذا الذي يقذف به من الأنجم، وهو نار محرقة تدخل في بدنه وتثقبه فتحرقه.
وبين ذلك عليه الصلاة والسلام وشرحه وفسره فقال -كما روى البخاري ومسلم في الصحيحين وأصحاب السنن- قال: (إن الشياطين)، أي: كفرة الجن يحاولون أن ينصتوا إلى الوحي الذي يوحى به إلى جند الله وملائكته، وكانوا قبل النبوة المحمدية، وقبل إرسال خاتم الأنبياء، يفعلون ذلك كثيراً.
ولكن عندما جاء الله بنبيه وجاء بدين الإسلام، حفظ سماءه منهم، فرماهم بهذه الشهب، فأحرقتهم وأبعدتهم، وقد كانت الكهانة منتشرة في بلاد العرب وبلاد العجم والدنيا، والكهانة: من التكهن، فهم يحاولون أن يستنبئوا الغيب ويحسبون أنهم يسمعون ما عند الملائكة من وحي، وما عندهم من أوامر الله، فيذهبون ينصتون.
وكانوا أحياناً يسقط أحدهم وهو يحترق فيلقي بكلمة، فيسمعها معه شياطين، فيزيد على الكلمة الواحدة التي يلقيها تسعة وتسعين كلمة أخرى، كلها كذب ودجل وشعوذة، فيذهب هذا الكاهن الذي يتلقى عن الشيطان وساوسه، ويتلقى عنه كفره، ويتلقى عنه زعمه الاطلاع على الغيب، فيذهب ويلقي مع هذه الكلمة تسعاً وتسعين، كلها كذب وبهتان لا حقيقة لها، يخترعها اختراعاً ليضل الخلق، وليكفر الخلق؛ لأنه عدو لله وعدو للإنسان.
ولقد حذر الله بني آدم من عداوته: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه:117] كما خاطب آدم عليه السلام، وهو عدو للمؤمنين، وعدو لكل الخلق، فيتكهنون ويفسدون، إلى أن تعبدهم بعض من أضلوه، وعبادتهم: طاعتهم، وعبادتهم بأن يبعدوهم عن التوحيد وعن الإيمان.
فيذهبون فيزيدون على الكلمة الواحدة تسعاً وتسعين كلمة، ولكن الله جل جلاله حفظ دينه عن هذا وحفظ وحي كتابه عن هذا، والكهنة من صدقهم بما يقولون لا تكاد تقبل له صلاة أربعين يوماً، كما ورد عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وعلى آله، إن هي إلا كهانات وتنبؤات في الباطل لا حقيقة لها في واقع الأمر، ولا يصدق منها شيء؛ لأنها كذب وزعم للاطلاع على الغيب وهم لا يطلعون.(256/3)
تفسير قوله تعالى: (فاستفتهم أهم أشد خلقاً)
يقول تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11] يقول ربنا: (استفتهم) أي: يا محمد! استفت هؤلاء الكافرين من أدركوا حياة النبي عليه الصلاة والسلام، ومن جاءوا بعده إلى يوم الدين، فالقرآن يخاطبهم دوماً، والسنة تبين ذلك وتخاطبهم دوماً كذلك، اسألهم: (أهم أشد خلقاً أم من خلقنا) أي: أهم أشد خلقاً من الأمم السابقة، من الأمم التي كان لها من السلطان ومن القوة ومن الحضارة ومن شديد البأس، ومن شديد السلطان.
ومع ذلك عندما كفروا بالله عاقبهم أشد عقاب، بين غريق ومصعوق ومرجوم من السماء، وبين ممسوخ قرداً أو خنزيراً، وبين ممسوخ حجارة أو جماداً، وهكذا شرد أقواماً وعذبهم ونكل بهم، يقول لهؤلاء الكافرين: أنتم أتظنون أنفسكم أعظم خلقاً وأقوى سلطاناً وأشد بأساً ممن مضى.
فالله ينذرهم ويتوعدهم إن لم يعودوا إلى الإيمان، فالإيمان بالله وبرسوله خاتم الأنبياء أنه يصنع بهم ما صنعه بالأمم السابقة وقد فعل، من آمن فالإسلام يجب ما قبله، ومن لم يؤمن ذهب بين قتيل وشريد ومأسور وهكذا وإلى أبد الآباد ما دامت الدنيا وإلى يوم النفخ في الصور.
كل هؤلاء الذين كفروا بربهم أين هم؟ أين فارس؟ أين الروم؟ وقل كذلك عن أمم سابقة فستلحقها الأمم اللاحقة أمريكا وروسيا وأمثالهما من دول الكفر ودول الشرك على كفرهم بالله ووثنيتهم بعبادة من دون الله، من عبد مريم، ومن عبد العزير، ومن عبد السماء والطبيعة، ومن عبد الإنسان وشخصه.
فكلهم كانوا مردة خارجين عن أمر الله وعن طاعة رسول الله، كلهم كفروا بكتاب الله، فالقرآن ينذر الأولين وينذر الحاضرين، وينذر اللاحقين: أن من فعل ما فعله الكفار الذين كفروا من قبل فسيعاقبون بمثل عقابهم، وهذا معنى هذه الآية الكريمة.
فاستفتهم يا محمد! خذ فتواهم، خذ رأيهم، سلهم: أأمنوا مكر الله؟ أأمنوا عذاب الله؟ فالله يمهل ولا يهمل.
وفسرت الآية: (فاستفتهم أهم أشد خلقنا) أي: أم من خلقنا من السماوات والأرض)، فإن السماوات أعظم كياناً، أعظم جرماً، أعظم بما فيها من أنجم وكواكب لا يحصيها إلا الله، من سماوات وما فوق السماء، بين كل سماء وسماء كما بين الأرض والسماء، والأرض كذلك، فهل هم أعظم جرماً من تلك أو أقوى طبيعة منها؟ ومع ذلك فسيأتي اليوم الذي لا تبقى فيه سماء ولا أرض، ولا يبقى حي على وجه الأرض: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11] أي: لاصق يعلق باليد إذا أمسكته، قيل: هذه طينة لا تكاد تمسها يد إلا وعلقت بها، أو علقت بثوبه، فالله خلق هذا الإنسان المتعالي بنفسه، المتكبر على الله، الذي يأبى الإسلام ويأبى الخضوع.(256/4)
تفسير قوله تعالى: (بل عجبت ويسخرون)
يقول تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصافات:12 - 15].
قوله: (بل عجبت ويسخرون) قرئ (عجبتَ) وقرئ (عجبتُ) بالضم.
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: بل أنت قد عجبت من هؤلاء كيف أدخل عليهم الوحي، وأرسل إليهم نبياً من بينهم يعلمون أباه وأهله وعشيرته، ونشأ بينهم أربعين عاماً، ومن لم يدركه ومن لم يعاصره قرأ من سيرته العطرة وعلم من معجزاته الواضحات البينات، ثم بعد ذلك يكذبونك يا محمد؟! فكان يعجب النبي عليه الصلاة والسلام كيف لم يؤمنوا مع هذه الأدلة الباهرة والمعجزات الكاشفة؟! فقيل له: (بل عجبت ويسخرون) أي: فأنت تعجب وهم يسخرون من تعجبك؛ كيف تعجب من هذا وأنت تريدهم أن يتركوا آلهتهم إلى إلهك، وأن يتركوا دينهم إلى دينك؟! ومعنى كونها بالضم، (بل عجبتُ) أن الله جل جلاله يعجب، كما قال تعالى في آية أخرى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد:5] فالله تعالى تعجب من قولهم، ومعنى ذلك: أن عجب الله جل جلاله يكون مرة من خير ويكون مرة من شر، وعجبه: إنكاره، وعجبه: غضبه، فهو قد شارك النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول الإمام الجنيد إمام أهل الآداب والرقائق، يقول: إن الله لا يعجب من شيء، ولكنه جل جلاله تابع نبيه فعجب لعجبه، أي: أنكر ما أنكره النبي عليه الصلاة والسلام من هؤلاء المشركين ومن كفرهم.
ويكون العجب بمعنى: الرحمة والرضا، كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (عجب ربنا من شاب لا صبوة له)، فالعجب هنا من الله أي: الرضا عنه والرحمة له، وذلك لكونه مع شبيبته ومع قوته ومع قدرته على أنواع الفواحش والذنوب والمعاصي، ومع ذلك حفظ شبابه عن المعصية وعن السوء، ومن هنا كانت رتبة هذا مع السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)، فكبت نفسه، وعظم عليه أن يعصي ربه خوفاً منه.
قوله: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} [الصافات:13] فقد غطى على قلوبهم الران، وأشربت بالكفر والشرك فهم (إذا ذكروا لا يذكرون) وشأن المؤمن أن يتذكر إذا ذكر {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
فإذا تلوت القرآن على المنافق الكافر الذي أبى إلا الجحود والعصيان، إذا أنت ذكرته بالله، تلوت عليه كلام الله، حدثته بكلام رسول الله، رققت قلبه بالآداب والرقائق وقصص الأولين، وأن من عصى كان له النار وأن من أطاع له الرحمة والرضا، فهو لا يذكر ولا يخشع ولا يقبل ولا يعظم ربه، لا يذكر سيئته فيتركها ويعود إلى ربه، فهؤلاء هم المصرون المعاندون.
قال: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات:13 - 14] إذا اطلعوا على آية من آياته، معجزة من معجزاته يسخرون، و (يستخسرون) أي: يطلبون من غيرهم السخرية معهم، كما يفعل الكافرون في كل وقت، هم الآن كذلك، وهم قبل كذلك، وسيبقون كذلك؛ لأن الران واللعنة قد غطت على قلوبهم، فلا يمكن أن يذكر الله ويعود إليه، قال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198]، إذا رأوا آية عميت عنها بصائرهم قبل أن تعمى الأبصار، وإذا رأوا قدرة من قدرات الله، معجزةً من معجزات رسول الله، لا يستطيع مثلها أحد، إذا بهم (يستسخرون) يبدءون بالسخرية والهزء، بل يقولون: هذا سحر مبين.(256/5)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا إن هذا إلا سحر مبين)
قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصافات:15].
أي: ظاهر بين، هكذا يدعي الكافر ليجد مع نفسه ومع هواه ومع نزواته جواباً على كفره وتبريراً لكفره، وما هي إلا اللعنة واستيلاء الشيطان على قلبه وعلى عقله، وعلى مكان الموعظة من قلبه، فهو لا يزداد في الله إلا كفراً.
ومن هنا قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
لقد أرسل نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الخلق ليؤمنوا بالدليل العقلي، وبالبرهان الفطري، وبالفهم والتفهم الذي يعود على الإنسان بالخير ويعقل عقله، ولكن ترى أقواماً لا تفيد فيهم موعظة، تقول: قال الله، فيهزءوا، تقول: قال رسول الله فيعرضوا، هؤلاء لا ينفع فيهم إلا السلطان والسيف.
ومن هنا نزلت الحدود، ونزل الجهاد، فللسارق قطع يده، وللزاني الجلد أو الرجم، وللكافرين السيف إذا رفضوا الإسلام ودفع الجزية وهكذا.
فلذلك جاء الإسلام بالقلم، جاء بالعلم والوحي والمعرفة كما أنه جاء بالسيف، وكان أول ما نزل على نبينا عليه الصلاة والسلام: العلم بالقلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:1 - 4].
وقد أقسم الله بالقلم فقال: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]، ولكن أقواماً لا تفيد فيهم موعظة، صعد الران على قلوبهم، فهؤلاء لهم السيف؛ لأنهم إذا لم يؤدبوا، إذا لم يعاقبوا، إذا لم يجاهدوا فسينشروا الفساد والفواحش في الأرض، فلا يردع هؤلاء إلا القوة؛ ولذلك الإسلام جاء بالعلم وبالمعرفة لأهل القلوب التي تقبل الموعظة، كما جاء بالسيف الغليظة للقلوب المغلقة التي صعد عليها الران، التي لا تقبل موعظة من قوله تعالى، ولا من قول رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث الصحيح الوارد عن جماعة من الصحابة في الصحاح والسنن: (والذي نفس محمد بيده! لا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين مبلغ النجم)، وفي رواية: (حتى يبلغ هذا الدين مبلغ الليل والنهار حتى لا يبقى بيت مدر ولا حجر إلا دخله؛ بعز عزيز، أو بذل ذليل)، إما أن يسلموا فيعزوا، أو يذلهم فيؤدون الجزية له عن يد وهم صاغرون، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
والنجم موجود في الأرض كلها، وحيث يبلغ الليل، والليل يظلم على الأرض كلها، والإسلام لن تقوم الساعة حتى يعم الأرض مشارقها ومغاربها، وجميع قاراتها، وهذا آت لا محالة؛ لأن ربنا قد قال ذلك، وكرره في آية كررت ثلاث مرات في سورة التوبة، وسورة الفجر، وسورة ص، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]، ليكون غالباً، ليكون قاهراً، ليرتفع بهداية الله وحده دون جميع الأديان السابقة، فيظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً ولو كره المشركون.(256/6)
تفسير قوله تعالى: (أئذا متنا وكنا تراباً)
قال تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} [الصافات:15 - 19].
من خصائص الكافر: أنه لا يؤمن بيوم البعث، ولا بالحياة الثانية، فهم يستفهمون على سبيل الإنكار: كيف سيبعثنا الله وقد صرنا عظاماً ورفاتاً وعادت عظامنا رمماً؟! وعندما قالوا كما في سورة (يس): {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] قال الله لهم: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79].
أي: فمن الذي أنشأها على غير مثال سابق؟ ولقد خرجنا إلى الوجود من العدم، فالذي خلقنا من عدم أيعجز أن يعيدنا بعد وجود سابق وهو على الله أهون، والكل عليه هين، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول: كن، فيكون.
جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام العاص بن وائل وأبي بن خلف من زعماء الكفار في مكة، وقالوا له -وقد أخذ أبي عظم إنسان وذراه في الهواء- وهو يسأل النبي سؤال الساخر: يا محمد! (أسنعود مرة أخرى؟ قال: نعم، إنك ستبعث، وستدخل النار)، وكان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فقد مات العاص بن وائل على الكفر، ومات أبي بن خلف على الكفر، وسيبعثان إلى النار، كما أخبر الله عن أبي لهب بأنه سيصلى ناراً ذات لهب، فهذا من المعجزات.
قال تعالى: (قل نعم) أي: أجب هؤلاء وقل: نعم ستبعثون بعد أن تصيروا تراباً، وبعد أن تصيروا عظاماً نخرة، أنتم وآباؤكم الأولون ومن جاء بعدهم، وتعرضون على الله للحساب، فإما إلى جنة وإما إلى نار.
(وأنتم داخرون) وأنتم صاغرون ذليلون، راغمون غير راضين.(256/7)
تفسير قوله تعالى: (فإنما هي زجرة واحدة)
قال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [الصافات:19].
الزجرة ليست إلا صيحة، وهي صيحة البعث، والزجرات ثلاث: زجرة للفزع، فينفخ إسرافيل في البوق فإذا بكل من على الأرض من حي يفزع ويقف ذاهلاً مبهوتاً، ويدرك أن هذا أوان الساعة، فتمضي أربعون سنة وهم في هذا الذهول.
ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية -وهي نفخة الصعق- فيصعقون ويموتون، فمنهم من يموت وهو يحلب، ومنهم من يموت وهو يحاول وضع اللقمة في فمه، ومنهم من يخرج الثوب ليبيع ويشتري فلا يفعل، فيصعقون على حالهم.
وبعد أربعين سنة ينفخ إسرافيل -وهو المكلف بالبوق- النفخة الثالثة وهي نفخة البعث، يقول تعالى: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
وقوله: (فإنما هي زجرة واحدة) أي: لا تحتاج إلى ثانية، {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} [الصافات:19] أحياء ينظر بعضهم إلى بعض عراة حفاة غرلاً، بل إنهم يفنون في النفخة الثانية ويدفنون بلا قلنسوة وبلا حذاء، وعائشة لما سمعت النبي يقول هذا عليه الصلاة والسلام قالت: (أنقف عراةً يرى بعضنا بعضاً؟! فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: الأمر أكبر وأشد من ذلك) أي: لا يفكر أحد في أحد؛ إذ الناس في ذهول، {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
وقال: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
فلن يفكر أحد في أحد، وكل يقول: نفسي نفسي! حتى الأنبياء تتجمع عليهم الخلائق والأمم ليشفعوا فيهم، وإذا بهم يقولون: نفسي نفسي! ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم -وهو صاحب الشفاعة العظمى- عندما يأتونه جميعهم من أمة نوح إلى أمته يقول: أنا لها! أنا لها! ويقف صلى الله عليه وسلم ويخر تحت العرش، ويسجد ما شاء الله أن يسجد، ويدعو الله بدعوات، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا أعلمها الآن)، فيقول الله له جل جلاله: (ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع)، اللهم اجعلنا من أهل شفاعته ومن أهل كرمه.
قال: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} [الصافات:19] عراة ينظرون بأبصارهم وقد عادت إليهم أجسامهم.
وإذا بهم يقولون في رعب آخر وفزع: {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات:20] قاموا وشعروا بأنهم عادوا بعد أن ماتوا، وأخذوا يصيحون وينادون بالويل والثبور وعظائم الأمور، يقولون: يا ويلكم! يتداعون بالويل، وهو نهر من القيح والصديد في قعر جهنم: (هذا يوم الدين) أي: يوم القيامة، يوم الدين الحق الذي ليس فيه إلا دين واحد وهو الاعتراف بالله، والإيمان بالله، وبما قاله الله، ولكن الإيمان ممن مات على الكفر لن ينفعه، ولات ساعة مندم، {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].
قال تعالى: {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات:20] أي: هذا يوم القيامة، هذا يوم الفصل في الدين، فمن كان موحداً فيا سعادته! ومن كان كافراً فيا خسارته! ثم تقول لهم الملائكة: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات:21] أي: هذا يوم القضاء بين الخلائق.(256/8)
تفسير سورة الصافات [22 - 35]
يكذب المجرمون بيوم الدين، وبالبعث بعد الموت، ويوم القيامة يأمر الله الملائكة أن يحشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون إلى الجحيم، فإذا بهم يتساءلون مختصمين، فيتهم الأتباع متبوعيهم أنهم هم الذين أضلوهم، لكنهم يتبرءون منهم.(257/1)
تفسير قوله تعالى: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم)
تقول الملائكة عن أمر الله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:22 - 24].
يأمر ربنا جل جلاله الملائكة ويقول: احشروهم كما تحشر الدواب، واجمعوهم هم وأشكالهم ومن كان على مثل حالهم.
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الصافات:22] ظلم الكفر والشرك، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، ولذلك كان الشرك أعظم أنواع الظلم، فظلموا الحق في النفس، وظلموا ما كان يجب ألا يظلموا أنفسهم فيه، فأنكروا خالقهم وقدرته وإرادته، وأنكروا كونه جل جلاله لا يحتاج إلى معين ولا وزير ولا مساعد ولا شريك له ولا ند، لا في ذات ولا في صفات ولا في أفعال.
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22]، من أزواجهم؟ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الأزواج: الأمثال والأشباه والنظائر، احشروا الزانية مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، والكافر مع الكافر، والفاسق مع الفاسق، وبهذا المعنى فسره جماهير المفسرين، أي: مأخوذ من المزاوجة والمشاكلة، تقول: وزاوج الرجل المرأة فأصبحت نداً وشريكاً له في حياته، وكذلك هؤلاء في ظلمهم وفي كفرهم وفي شركهم.
وانفرد الحسن البصري فقال: أزواجهم نساؤهم وزوجاتهم المشركات اللاتي متن على الشرك، ليزداد عذاب البعض بالبعض.
وعلى كل فلا حاجة لهذا التفسير، سواء كانت زوجة أو غير زوجة، فإن كانت مشركة فهي من أمثاله، وهي من أشكاله، اجتمعت به أو لم تجتمع، فهم سيحشرون في مكان واحد، ويفصلون عن المسلمين.
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات:22] ما كانوا يعبدون: من إبليس، ومن شيطان، ومن حيوان، ومن جمادات، لتكون حجة الله البالغة عليهم، فهؤلاء الذين كنتم تعبدون سيتبرءون منكم ومن عبادتكم، فإن كانوا يعبدون الملائكة أو رسلاً أو صالحين، فإنهم أيضاً يقفون معهم، وكما قال الله لعيسى: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116].
فيحشر معهم للبراءة منهم، حتى الصالحون لا يحشرون معهم إلى النار، ولكن يقفون معهم، ليتبرءوا منهم وليدركوا إذ ذاك ولات حين إيمان أنهم عاشوا على ضلال، عاشوا على باطل، ولكن اعترافهم فاته الزمن، وفاته الوقت، وكما يقولون: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك، لقد قطعوا بالوفاة وبالموت: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22 - 23]، بعد أن يحشروا ويكبلوا في السلاسل يقول الله لملائكته والأمر له: (فاهدوهم): أي: دلوهم، قال: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:23] إلى الطريق البين الواضح الذي يوصل إلى جهنم، وقد تكون جهنم بعيدة عليهم، فتأتي الملائكة تحشرهم وتسحبهم زحفاً على وجوههم إلى أن يدخلوا النار وبئس المصير.
قال: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:23 - 24]، يمرون على الصراط ولا بد من المرور عليه لكل كبير أو صغير، من نبي مرسل، أو رجل صالح، وللكافر والمنافق سواء، وقفوهم: تكون متعدية ولازمة، قفوهم أو أوقفوهم، قال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، سيسألون ويحاسبون، سيفتح حسابهم ويكون شديداً، يكون عسيراً، يكون يوماً عظيماً عليهم، فزيادة على الكفر سيسألون حتى عن الفروض، وسيسألون عن ظلم من ظلموا، وأكل من أكلوا، وفساد من أفسدوا، وما صنعوا في حياتهم، ثم يؤمر بهم فيقذفون في النار.
قال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، تسألهم الملائكة، يسألهم الله جل جلاله، يفصل بينهم، يقضي قضاءه فيهم، يأمر بهم إلى النار، بعد الحساب الشديد العسير.
قال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:24 - 25]، عندما يقذف بهم إلى النار، وعندما يشدد حسابهم تقول لهم الملائكة زيادة في العذاب النفسي وزيادة في الحسرة والألم: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:25] أي: ما كنتم تفعلون في دار الدنيا؟ ما لكم؟ لم لا تتناصرون؟ لم لا ينصر بعضكم بعضاً؟ و (تناصر) فيه مفاعلة، أي: كما كانوا يفعلون في الدنيا، عندما ينصر يهودي نصرانياً، ونصراني يهودياً، عندما يخدع منافق من أقرانه أو يهودي أو لكليهما يمكر بعضهم لبعض ويترك إخوانه المسلمين، ويبتعد عنهم، ولا يناصرون إلا أمثالهم من المنافقين، من اليهود والنصارى: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:25].
{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:26]، ويقال لهؤلاء الذين بكتوهم، والذين حقروهم: ما لكم لا تناصرون، فيجيب آخرون: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:26]، يائسون من النصرة، يائسون من أحد يدفع عنهم، هم بين يدي الله، قد استسلموا كما لم يستسلموا في الدنيا قط، استسلموا للذل وللهوان، وللعنة المتلاحقة، وللعذاب الدائم عذاب السعير: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:26].(257/2)
تفسير قوله تعالى: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون)
قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27]، أخذوا يتخاصمون فيما بينهم فيتساءلون في خصام، يقول الأتباع للمتبوعين وهم يسائلونهم وأولئك يجيبونهم، ويبرأ بعضهم من بعض، ويكفر بعضهم ببعض، وأقبل بعضهم على بعض، أي: لجئوا إلى بعضهم إقبالاً: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28]، يقول الأتباع للمتبوعين، يقول الشهم كما يعبر عنه اليوم باللغة الوثنية الجديدة، يكفرون بالله ويقولون الشهم، ينشرون الفسق ويقولون الشهم، يفعلون ما شاءوا ويقولون الشهم، وما هي إلا صيغة يهودية، ودعوة يهودية، الإسلام لا يقول هذا، الإسلام يقول الحق، من كان معه الدليل ومعه الحق فهو الجماعة وهو الكثرة، وهو الأمة، وهو الشعب.
أما الأكثرية الضالة فقال الله عنها: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
قال تعالى: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28]، قال الأتباع للمتبوعين، قال الرعاع للأئمة والزعماء والرؤساء والموجهين من الكفار والمشركين: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28]، فسروا اليمين هنا بعدة تفاسير، قالوا: أي: كنتم تأتوننا عن القوة، تستغلون قوتكم علينا، سلطانكم المالي، سلطانكم الحكمي، سلطانكم الجماهيري، وتضغطون علينا وتقهرونا على الكفر، وفسروا اليمين بالقوة، وفسروه: بالدين الحق، وفسروه: بالحق، قالوا: أي: كنتم توهموننا أن ما تدعوننا إليه هو الحق، وهو الدين الصحيح، وهو الصواب، إلى أن دفعتمونا للشرك دفعاً، للكفر بالله، وبرسول الله، وبدين الله سبحانه.
وقال الحسن البصري: أي: كنتم تأتوننا عن الأيمان واليمين، أي: تأتوننا عن يميننا، وعن شمائلنا، ومن أمامنا، ومن خلفنا، وتحيطون بنا في سجل الأوقات والأزمنة مدة حياتنا وحياتكم، وأنتم تنشرون بيننا الكفر والشرك والضلال، تقولون في الصباح: اشتراكية، وفي الليل اشتراكية، وتقولون: إن الدين لا علاقة له بالدولة، فليذهب صاحبه في المسجد، نحن دولة متحضرة، نحن شعب متحضر، أرادوا أن يبرروا بذلك الاستسلام لليهود، والخضوع لليهود، والكفر بالله، وبرسول الله، وبالدين الحق الإسلام، وهيهات هيهات! فهؤلاء يرون كل وقت إذا لم يتعظوا بالماضي ففي الحاضر، يرون بجلاء من تأله على الله، ولقب نفسه: بملك الملوك، كيف كانت عاقبته، وكيف كانت نهايته، فرسول الله القائل صلى الله عليه وسلم: (أخنع الأسماء وأذلها: ملك الملوك)، هذا الذي يتأله على الله، وملك الملوك هو الله، الذي يزعم لنفسه حقاً ليس له، يألم ويتغوط ويجوع ويعرى ويستر نفسه ثم يزعم أنه ملك الملوك، ذهبت الأملاك وذهب الإثم وذهب الوجود، وهكذا كل كافر بالله في الزمان الغابر، وفي العصر الحاضر، ولكن الناس عن الله غافلون، وعن الحق مبتعدون.
قال تعالى: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28]، تأتوننا عن يميننا وعن شمائلنا، ومن أمامنا ومن خلفنا، ومن فوقنا ومن تحتنا، من أعالي القصور، يا أيها الناس! نحن ندعوكم إلى الحضارة، دعكم من الدين، يقول هذا اللعين الكافر: يريد فلان أن يعيدنا إلى أربعة عشر قرناً، وهو يقصد بذلك: قرن النبي عليه الصلاة والسلام، يزعم أنه ينصر الناس من الحياة النبوية، ومن العصر النبوي، وهاهو ذا يرى مآله ونهايته، وهو مثال لكل من يريد أن يتبع أثره، ويسلك سلوكه، وما ذلك على الله بعزيز، فطالما أهلك الجبابرة والطغاة، وكل من تأله على الله، وقال: أنا ربكم الأعلى، ولكن الله يمهل ولا يهمل جل وعلا، كما أخبرنا بذلك رسول الله وخاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات:29]، بل أنتم لم يكن فيكم استعداد للإيمان بالله، ولا برسل الله، ولا بكتب الله، فأنتم الذين كفرتم بنا، ولسنا نحن من كفرنا بكم: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات:29]، أي: لم نجدكم مؤمنين فأرجعناكم عن الإيمان، فهم يتخاصمون بهذا وهم في النار: {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [الصافات:30]، ليس لنا عليكم قهر ولا قوة أن نلزمكم قلباً وعقيدة وضميراً بأن تشركوا بالله غيره، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً: {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} [الصافات:30]، طغيتم على ذلتكم وحقارتكم، وكان لكم طغيان في الكفر، ورغبة في الكفر، وحرص على الكفر، وعمل بالكفر، لستم أقل منا فلم نجبركم، ولم يكن لنا دليل على الكفر، ولا على الفساد ولكنكم كنتم مهيئين لذلك، ولو لم تفعلوا هذا معنا لفعلتموه مع غيرنا، وقد كنتم قوماً طاغين، يقول الرؤساء: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات:31]، وجب علينا قول ربنا لمن عصاه وخرج عن أمره: {إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات:31] أي: ذائقوا العذاب والنار، ذائقوا لعنة الله وغضبه وعقوبته.
قال تعالى: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} [الصافات:32]، أضللناكم وكنا ضالين، ولكن هذا الضلال كنتم على استعداد له، فلم تكونوا مؤمنين من قبل حقاً، فالمؤمن الحق لو نشر بالمناشير ما ارتد عن دينه، لو أغري بتيجان الدنيا وعروشها لما غير دينه، ولكنكم في الأصل كنتم مهيئين للكفر، كنتم مهيئين لعدم الإيمان، طمعتم في قليل من الدنيا، مال أو منصب، فنحن وأنتم الآن سواء، أنتم غاوون، ونحن غاوون، أنتم ضالون ونحن ضالون، وإذا بالله يقول: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات:33].
سواء قادة أو مقودين، أما أن يقول إنسان: المسئولية على إمامنا، على قادتنا، على حكوماتنا فليس كذلك، فقد خرجنا من بطون أمهاتنا كل واحد بنفسه، وسندخل قبورنا فرادى، وسيأتي الملكان يسألان كل إنسان مع نفسه، فلم يكن معه أب ولا ابن ولا زوجة، ولا جيش ولا دولة، ولذلك فكل إنسان على نفسه بصيرة، فكل إنسان يجب أن يفكر عندما سيسأل: ما دينك؟ من ربك؟ من نبيك؟ هل صليت؟ هل زكيت؟ ماذا صنعت؟ يكفر ما يجيب به على هذه الأسئلة.(257/3)
تفسير قوله تعالى: (فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون)
قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:33 - 34].
أي: كما قصصنا عليكم ما فعلنا بالأمم السابقة، وبالكفار السابقين، وقصصنا عليكم أن أرواحهم الآن تعذب في قبورهم، ويوم القيامة تعذب الأشباح مع الأرواح، فكذلك نفعل بكل من يأتي بعد هؤلاء ممن عصوا النبي عليه الصلاة والسلام.
{كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:34]، أي: من فعل فعل المشركين المعاصرين لنبينا عليه الصلاة والسلام، سواء كانوا من مشركي العرب، أو مشركي العجم، أو مشركي اليهود أو مشركي النصارى، فكل دين ما خلا الإسلام باطل، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، فكان هؤلاء المشركون يحادون الله، ويكفرون بالإسلام كلمة وراء كلمة، فيقولون لك: لا تكن متعصباً، كن متسامحاً، كالحملة الموجودة في العالم على الإسلام والمسلمين، أن الإسلام غير متسامح، وما معنى التسامح؟ معناه: أن الدعاة إلى الإسلام لم يسمحوا بالخمر، ولم يسمحوا بالخليلة، ولم يسمحوا بالزنا، والمتسامح عندهم هو الذي يشارك الزاني في زناه، والكافر في كفره، والفاسد في فساده، والمشرك في شركه.
كذلك هؤلاء أخذوا يقولون: اتركوا التعصب والتزمت إلى أن وصلوا إلى قولهم: لم محمد نبي وحده؟ ما بال موسى وعيسى؟ وقد قال كافر ممن يتزعم شعباً: محمد صلى الله عليه وسلم لم يرسل إلى النصارى واليهود، وإنما أرسل للوثنيين، ثم قال: أزيلوا من القرآن (قل) ثم وضع كتاباً سماه: الأخضر، سيحترق عليه ويحترق به إن شاء الله تعالى.
وهكذا ابتلي المسلمون اليوم بكفرة ضالين مضلين، يقول: الاستعمار الكبير، الاستعمار الكبير هم هؤلاء وأمثالهم، فلم نستقل بعد.
قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، يستكبرون على الله، هذا النطفة القذرة، هذا الماء المهين، هذا الذي خلقه الله ورزقه وأعطاه أخذ يتجرأ على الله ويتعالى عليه، يقول: أنا أقول: لا إله إلا الله، بل إنه يقول عن نفسه: أنا ربكم الأعلى.(257/4)
تفسير سورة الصافات [35 - 49]
يصف الله المجرمين وما أعد لهم من العذاب بسبب استكبارهم على الحق وإعراضهم عنه، كما يصف المؤمنين وما أعد لهم من النعيم والماء المعين والحور العين، ترغيباً للمسلم ليسارع في الصالحات.(258/1)
تفسير قوله تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله)
قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:35 - 37].
يذكر ربنا جل جلاله كفر هؤلاء الكفار المشركين، الضالين المضلين، الذين جازاهم وكافأهم بالعذاب الدائم المقيم، وأن ذلك كان لاستكبارهم وتعاظمهم على الله، وأنهم كانوا إذا قيل لهم: قولوا لا إله إلا الله، يستكبرون على خالقهم أن يقولوا: لا إله إلا الله، ولا ثاني معه في ذات أو سلطات أو فعال، وفي تفسير ابن أبي حاتم المسند بالرواية: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني دمه وماله إلا بحق الإسلام وحسابه على الله).
وما جاء الأنبياء والمرسلون منذ آدم أبينا إلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم إلا بقول: لا إله إلا الله، ولقد قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه: (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله)، أي: لا إله حق، ولا إله موجود، ولا إله معبود إلا الله جل جلاله، فإن كل ما يدعي المدعون، ويشرك المشركون، ويجعلونهم لله أنداداً وشركاء لا وجود لهم، بل هي أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان.
فهؤلاء الظالمون لأنفسهم المشركون بالله جل جلاله كان إذا خالفهم أنبياؤهم وقالوا: لا إله إلا الله تكبروا وتعاظموا، وطلبوا من غيرهم أن يقول مثل قولهم من الشرك والكفر وعبادة الأوثان والأصنام، هذا في القديم، ولا يزال الأمر كذلك إذا أنت خاطبت ظالماً لنفسه كافراً بربه، وقلت له: قل: لا إله إلا الله، أخذ يسخر ويقول: نحن في حضارة وفي عصر منور مثقف، ومع ذلك لا نزال نعود لهذه الرجعيات القديمة، فهؤلاء ذهب الله ببصائرهم قبل أن يذهب بأبصارهم، وذهب الله بنورهم فتركهم في ظلمات يتخبطون فيها، إذا أخرج أحدهم يده لم يكد يراها.
ولم يكتفوا بذلك بل زادوا فقالوا: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36]، يعنون -عليهم لعنات الله- نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وسيد البشر، كان إذا قال لهم: قولوا لا إله إلا الله أخذوا يسخرون ويقولون: أجعلت الآلهة إلهاً واحداً، أتريد أن نترك مجموع هذه الآلهة لنعبد إلهك وحدك، فلذلك قالوا عن وحيه، وعن الكتاب المنزل عليه: هو شعر، وقالوا عن دعوته ورسالته: هي جنون، ولذلك وصفوه بالشاعر المجنون، وما هو بشاعر: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69]، فما هو إلا وحي يوحى، إن هو إلا ذكر يتلى، إن هو إلا رسول أرسله الله ليدعو الخلق إلى عبادة الله، إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، فالله جل جلاله حكى عنهم هذا ثم سفه عقولهم، ثم أغفل كلامهم وقال: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37].
جاء نبينا عليه الصلاة والسلام بالحق والصدق، جاء بالحق المبين، جاء بكتاب يدعو إلى الهدى والفلاح والصلاح، جاء بالصدق الذي لاشك فيه ولا ريب، جاء بالرسالة الحقة، جاء بكتاب الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
(وصدق المرسلين) صدق من جاء قبله من رسل الله؛ لأنهم أتوا بما أتى به، قالوا لأممهم، ولعشائرهم، ولشعوبهم: نحن مرسلون إليكم من الله، قولوا: لا إله إلا الله، وما كانت الرسالات في أصلها وفي دعوتها إلا رسالة واحدة، كل الأنبياء جاءوا بالتوحيد وعبادة الله الواحد، فإن رأينا النصارى تعبد مريم وعيسى، واليهود تعبد العجل، وغيرهم يعبد ويعبد، فلنعلم أنها أضاليل وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان، إن هو إلا إفك تواطئوا عليه، وائتمروا به، وما جاءوا بشيء يقبله عقل ولا منطق، ولا معه كتاب من الله وسلطان مبين، بل أضرب الله عن قولهم بأنه شاعر، بأنه مجنون، وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك، بل جاء بالحق من الحق، فرسالته حق، والكتاب المنزل عليه حق، والدعوة التي يدعو إليها حق، وصدق الحق الثابت من الأنبياء السابقين: (بل جاء بالحق وصدق المرسلين).(258/2)
تفسير قوله تعالى: (إنكم لذائقو العذاب الأليم)
قال تعالى: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات:38 - 39]، جزاءً وفاقاً في شركهم وكفرهم، وسفههم على رسول الله، وجحودهم الله ووحدانيته وقدرته جل جلاله، يقول الله لهم: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ} [الصافات:38]، يذوقونه، يعذبون العذاب الأليم في نار جهنم، تسعر عليهم تسعيراً، لا يموتون فيستريحون، ولا يعيشون فيطمئنون، فهم في عذاب دائم مقيم، كلما نجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب، دائمون في العذاب، في اللعنة والغضب والسخط: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا} [الصافات:38] أي: ممسوسون، محترقون، داخلون إلى جهنم، إلى العذاب المهين، إلى العذاب الأليم.
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات:39]، أي: وما كان العذاب الأليم وما كانت اللعنة الدائمة إلا جزاءً وفاقاً لأعمالهم السيئة، لشركهم، لكفرهم بالله، لتكذيبهم الأنبياء، كذلك جزاء كل كافر، كل من قل الأدب مع النبوات والرسالات، وكل من يقول ما لا يقال في الذات العلية جل جلاله وعلا مقامه: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:38 - 40]، جعلنا الله من هؤلاء الذين لا يعذبون، ولا يجزون على الشرك؛ لأنهم موحدون، هؤلاء العباد المخلصون، قرئ: المخلصون، والمخلصون، فقد أخلصهم الله لعبادته وطاعته، وأزال عنهم شوائب الشرك وشوائب الذنوب والمعاصي، فأخلصوا له، مخلصون: أي أخلصوا عبادتهم لله ولم يشركوا معه أحداً، ولم يراءوا ولم يسمعوا، بل كانت عبادتهم لله الواحد، خالصة له، لا يطلبون جزاء من إنسان أو دنيا، بل من الله في الدنيا والآخرة.
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:40]، من هم هؤلاء المخلصون؟ أخذ الله جل جلاله يصفهم لنا، لكي لا تضيع المعاني بين الناس، ولكي لا يقول كل إنسان ما بدا له محرفاً للكلم عن مواضعه، من هم هؤلاء المخلصون؟(258/3)
تفسير قوله تعالى: (أولئك لهم رزق معلوم)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:41 - 47].
يصف الله هؤلاء المخلصين بأنهم عباد الله المكرمون، فيقول عنهم: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:41]، أي: أولئك المخلصون في عبادتهم لله: {لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:41]، صباحاً ومساءً، فلهم رزقهم متى اشتهوا ذلك، لهم من الأرزاق والخيرات في الجنان ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ} [الصافات:41 - 42]، هذا الرزق هو فواكه متنوعة مما يريدون ويلذ لهم، وفيها من كل فاكهة زوجان، كما قال ابن عباس: وليس في الآخرة مما في الدنيا في الجنة إلا الأسماء فقط.
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الصافات:41 - 43]، يكرمهم الله جل جلاله في الجنات وليست جنة واحدة، بل هي جنان، يحكى عن هارون الرشيد في سفرة من السفرات قالت له إحدى جواريه: إنك لن تدخل الجنة لظلمك وأذيتك، وهي تتدلل عليه، فقال: بلى سأدخل الجنة وليست جنة واحدة، فسأدخل جنتين بل جنات، وأقسم على ذلك بأغلظ الأيمان، وإذا به بعد اليمين يرتعب أن يكون قد أقسم يميناً باطلة غموساً، فأرسل في نفس الليلة إلى أبي يوسف القاضي، صاحب أبي حنيفة وخليفته من بعده، فقال: يا أبا يوسف! حصل معي كذا وكذا فما الحل؟ هل قلت حقاً أم قلت باطلاً؟ قال: إني سائلك يا أمير المؤمنين! أتخاف الله؟ قال: نعم، والله إني لأخافه، قال: فأبشر فقد قال الله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وقال الله تعالى: {وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الصافات:42 - 43]، فإن كنت تخاف الله فلمن خاف مقام ربه جنتان، وليست جنة واحدة، وإذا كان مؤمناً حقاً فسيكرم بجنات لا بجنة واحدة: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الصافات:43].
والجنات: البساتين، الجنات بما فيها من أرزاق، وبما فيها من خيرات، وبما فيها من فواكه، ومن النعيم الذي يتنعمون به: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] وبهاء النعيم، جعلنا الله من أهلها وسكانها.
قال تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات:44]، في الجنة لا يرى أحد قفا أحد، بمعنى: لا خصومة ولا عداوة ولا أحقاد، لن يدبر أحد عن أحد ويوليه ظهره، بل يتقابلون الوجه بالوجه، شأن الإخوان في الله، شأن الأحباب والأشقاء، فقد جمعهم نعيم الله، وجنان الله، ورضا الله، فهم على ذلك إخواناً على سرر متقابلين، وهنا يقول ربنا: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات:43 - 44]، والسرر: جمع سرير، وهو الأريكة والفرش وأسرة النوم، فهم إذا جلسوا، إذا تناجوا، إذا تحاوروا لم يدبر أحد عن أحد، ولم يحقد أحد على أحد، ولم يبغض أحد أحداً، ولا يضمر له سوءاً، بل تجد في قلبه لكل إخوانه من أهل الجنة مودة وأخوة ومحبة، كما وصفهم الله بقوله: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات:44]، يقابل هذا هذا، ولا يدبر هذا عن هذا، ولا يوليه قفاه.(258/4)
تفسير قوله تعالى: (يطاف عليهم بكأس من معين)
قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات:45 - 46].
تقول العرب: كأس وإناء، ولا تقول: كأس إلا إذا كانت عامرة بشراب أي شراب كان ماءً أو خمراً، فإذا كانت فارغة فهي إناء لا كأس، كما يقال لمائدة الطعام إن كانت فارغة: الخوان، فإن كانت عامرة فهي: المائدة.
فيطوف غلمان كأنهم لؤلؤ مكنون من الخدم والحشم والحاشية التي تقف على خدمتهم وهؤلاء يخلقهم الله في الجنة كما يخلق حور العين، وللمؤمن في الجنة من زوجات الدنيا زوجتان، ومن الحور العين سبعون حورية.
قال: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الصافات:45]، معين: أي من الأنهار ذات الخمر الجارية جريان الماء المعين، من معين أي: ماء جار، أي: خمر جارية، وهو الحوض الذي بشر الله به نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:1 - 2]، فالله جل جلاله تفضل على نبيه وأعطاه الكوثر.
والكوثر: هو الحوض، وصفه نبي الله عليه الصلاة والسلام أنه فيه من الأكواب عدد نجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ بعده أبداً، فالمؤمن يتناول من هذا الحوض خمراً كما وصفها الله في كتابه: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات:46 - 47]، أي: ليس فيها ما يضر ويؤذي، وخمر الجنة أبيض من الحليب صفاءًَ، وألذ من العسل المصفى طعماً، ليس فيها غول، والغول: هو ما يغتال النفوس خفية، كما نقول: فلان قتل غيلة أي: قتل خفية، أي: غدراً، فالغيلة معناها في الأصل: الخفاء.
فقوله: {لا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات:47]، أي: ليس فيها من الأضرار الخفية المعروفة في الخمر، أنها تذهب بالعقول، أنها تصدع الرءوس وتوجعها، أنها توجع الأمعاء، أنها تكثر البول بشكل غير اعتيادي، وما حرمها الله تعالى إلا لما فيها من الأضرار.
{وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:47]، أي: لا يسكرون، لا تغلب عقولهم، يقال: فلان نزف فهو نزيف أي: سكر فهو غائب عن عقله، وهو ضائع عن الحس والشعور، وكلمة (غول) هنا! هي الكلمة التي انتقلت في اللغات الأجنبية في الأرض، يقولون عن شراب: فيه (كول)، أو ليس فيه (كول)، وعن بعض العطور كذلك، فـ (كول) هي كلمة (غول) حرفت، ولذلك لا اشتقاق لها، وهي من الكلمات العربية التي تسربت في لغاتهم وما أكثرها، ولـ عباس العقاد وهو من الأدباء الكبار كتاب عن الكلمات التي شاعت في جميع لغات الأرض وهي من العربية في أصالتها، وهي كثيرة جداً، وهذه منها.
{وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:47]، لا يصيبهم بها الصرع والإغماء وضياع العقل، بل هي شراب لذيذ للشارب، أبيض كبياض الحليب، لا غول فيها ولا أذى ولا مرض، يشربها سكان الجنة، أكرمنا الله بنعيمها، وجعلنا الله منهم.(258/5)
تفسير قوله تعالى: (وعندهم قاصرات الطرف عين)
ثم قال تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:48 - 49].
ومع هذا النعيم الدائم والأرزاق في الجنة المعلومة، والفواكه المتنوعة، وشراب الخمر الذي لا غول فيه ولا أذى، ولا ضرر ولا سكر، مع ذلك: {عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} قاصرات: جمع قاصرة.
والطرف: العين والنظر والبصر.
عين: جمع عيناء، يقال: فلان أعين إذا كان واسع العين، شديد بياضها، وشديد سوادها.
ويقال: امرأة عيناء إذا كانت واسعة العين، سوداء شعرها، فالحور العين عندهن من جمال الأعين ما لا تكاد تصل إليه عين، أو يصل إليه متمن أو راج في دار الدنيا، فجمالهن في الآخرة لا يكاد يوصف ولا يوصل إليه من جمال النساء في الدنيا شيء.
وعند هؤلاء المكرمين المنعمين في الجنة، نساء يقصرن طرفهن على أزواجهن، فلا تنظر أعينهن لغير الزوج، وإذا رأين رجلاً لم يرفعن إليه طرفاً؛ عفة وطهارة وإخلاصاً للزوج، فهن قاصرات على الزوج في نظرهن ومقامهن، وكما وصفن في آية أخرى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] أي: لا يتركن خيامهن، ولا يخرجن من دورهن، فلا يبصرن غير أزواجهن عشقاً ومحبة وتعلقاً بالأزواج، وهذا مما يزيدهن جمالاً، ويزيدهن أثراً ومقاماً عند أزواجهن.
{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:48 - 49].
كانت العرب إذا وصفت جمالاً تقول: فلان أبيض، والبياض هنا المشوب بصفرة أو بحمرة قليلاً، ولقد كان كذلك بياض رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أعطي الحسن كله، ولم يعط يوسف إلا شطره، فكانوا في الجمال كبيض النعام، وإذا وصف لون المرأة في لغة العرب فيقال: كأنها بيضة نعام، وهذا من ذاك، وكتاب ربنا نزل على لغة العرب ولهجة قريش: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:49]، أي: كأنهن بيض النعام، وأجمل ما وصفت به المرأة في شعر العرب: أنها بيضاء مشوبة بصفرة أو حمرة وكذلك الحور العين {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:49]، في جمال أوصافهن، في جمال ألوانهن.
مكنون: مصون محفوظ، لا يرى ولا يرى، فهن مقصورات على أزواجهن في النظر، مقصورات على أزواجهن في المقام، وفي القصور وفي السكنى.(258/6)
تفسير سورة الصافات [50 - 70]
عندما يفوز أهل الجنة بنعيم الجنة يقبل بعضهم على بعض فيتساءلون عن قرنائهم في الدنيا والذين كانوا يشككونهم في البعث والجزاء، ثم يطلعون من غرف الجنة فيرونهم في جهنم، فينادي المؤمن قرينه الجهنمي: تالله إن كدت لتردين.(259/1)
تفسير قوله تعالى: (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون)
قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50].
كما يتساءل أهل النار وهم في حسرة وآلام وأوجاع متتابعة على ما فات منهم، وكيف عاشوا دهراً طويلاً وهم لم يقولوا يوماً: لا إله إلا الله، أما أهل الجنة فيقبل بعضهم على بعض، ويواجه بعضهم بعضاً، ويذكرون ذكريات الدنيا، وهم في غاية ما يكونون من السرور والبهجة والرضا بما أعطاهم الله وأكرمهم به، ويتساءلون فيما بينهم، فيقول بعضهم: ما تركت الصلاة، ويقول الآخر: تبت إلى الله فتاب علي.
قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:50 - 51]، أجمل الله هنا ثم فصل فقال: {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:52 - 53].
يقول ذلك وهو فرح مسرور أن قرين السوء لم يضحك عليه، ولم يذهب بعقله، قال قائل من هؤلاء: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] أي: في دار الدنيا.
قرين: صديق وشريك، إنسان يعاملني وأعامله، يعرفني وأعرفه، ولكنه لم يكن مؤمناً بالله موحداً كان يقول لي فيما يقول: {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:52]، يقول هذا الذي في الجنة: أأنت تصدقه؟ ويقول: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] أي: هل تصدق هذا القول: أننا إذا متنا وأصبحنا تراباً وعظاماً نخرة لا تكاد تختلف عن التراب وعن بقية الحجارة في الأرض: {أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53]، وفي القول العربي: دان فلان فلاناً إذا جازاه، وإذا آخذه، وإذا حمله المسئولية أي: أئنا محاسبون ومجزيون ومعاقبون على أقوالنا وأعمالنا.
كما يقولون الآن: أنت رجعي تؤمن أننا سنحيا بعد الموت، إن هي إلا حياتنا الدنيا، كما وصف الله آباءهم وأجدادهم بقولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، وهؤلاء الذين يسمون: الدهريين، وهؤلاء الذين يقولون: إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، ولا يهلكنا إلا الدهر، يقولون هذا وهم غافلون عن الله، وعن رسالات الله، وعن ما جاء به أنبياء الله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
ثم يقول تعالى عن هذا المتسائل: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54]، يقول هذا السائل: أتريدون أن تطلعوا على النار، لعلنا نلقى هذا الذي كان يحاول ضلالي في دار الدنيا، وكيف يطلعون؟ قال ابن عباس: إن في الجنة نوافذ يمكن أن يرى منها أهل النار وما هم عليه إن شاء ذلك أهل الجنة.
ولذلك قال: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54] أي: قال هذا المتسائل {فَاطَّلَعَ} [الصافات:55] أشرف على النافذة ونظر إلى أن رآه، {َفِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55]، أي: وسط الجحيم، ولماذا يقال للوسط سواء؟؛ لأنه مستو مع جميع الأطراف.
يقص علينا ربنا ماذا يكون في الآخرة بين أهل النار وأهل النعيم، بين سكان الجنة وسكان جهنم، بين من مات على التوحيد ومن مات على الشرك والكفر بالله، {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55].(259/2)
تفسير قوله تعالى: (قال تالله إن كدت لتردين)
وإذا به يقول له متسائلاً: {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:56 - 57].
يقال عند القسم: تالله وبالله ووالله، وكلها بمعنى، يقول هذا الشاب لذاك القرين الدائم: والله يا فلان! لقد كدت تردين، وكاد: من أفعال المقاربة عند العرب، أي: قاربت أن تضلني، وقاربت أن أصدقك.
(لتردين): من الردى وهو: الهلاك أي: كدت تهلكني بالشرك والكفر وعدم الإيمان، ولو طاوعه وتابعه لكان معه في قعر جهنم وفي وسطها، ولكنه يقول له ذلك وهو مرتبط بحاله، يحمد الله على أنه دام على الإيمان حتى لقي الله فكان من أهل النعيم.
قوله: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي} [الصافات:57] أي: لولا أن الله أنعم علي، وثبت قدمي على الإسلام، وثبتني على لا إله إلا الله، {لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] أي: لكنت من المحضرين معك في النار، ولا يقال: فلان أحضر إلا لسوء؛ لأن كلمة أحضر معناها جر عنوة، ويقال: حضر للخير.
قال تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:58 - 59]، هذا يقوله أهل الجنة وهم على غاية ما يكونون من الفرح، والخواطر تخطر ببالهم أنهم سيموتون وينقطع هذه النعم، وهذه اللذائذ وهذا الرضا، فيتساءلون مع الملائكة: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:58 - 59].
يا ملائكة الله! يا جند الله! هل نحن متنا موتة واحدة هي التي كانت، وليس وراء ذلك موت آخر، فنحن الآن في نعيم ولا ينتظر عذاب آخر، فيقول لهم الملائكة: نعم لا موت، الجنة حياة ولا موت، والنار حياة ولا موت.
وفي الأحاديث الصحيحة عند البخاري ومسلم: (يؤتى بالموت على صورة كبش فيذبح، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ثم يقال لأهل النار: خلود فلا موت).
قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات:60].
أي: اهنئوا بهذا الفوز وهذا الرضا، اهنئوا بهذه الحياة المنعمة الدائمة.
{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] أي: لمثل هذا الذي جزيتم عنه في الجنة، جزيتم عنه بالنعيم المقيم الدائم، فكان ينبغي أن يعمل لهذا النعيم العاملون، وهذا الكلام إما أن يقوله أهل الجنة أو تقوله الملائكة، أو يقولوه كلهم، فلا مانع من ذلك لأن الآية عامة في هذا وهذا.(259/3)
تفسير قوله تعالى: (أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم)
قال تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:62 - 63].
على العادة في كتاب الله وسنة ربنا -ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً- يذكر في القرآن حال أهل النعيم ثم يتبع ذلك بذكر حال أهل العذاب المخلدين في النار، فيقدم هؤلاء مرة وهؤلاء مرة، ويعكس أحياناً، فيبقى العبد في دار الدنيا بين الرجاء والخوف، يرجو ربه ورحمته، ويخاف عذابه، فإذا خاف ربه تاب ورجع عن معصيته وعما يفعله العصاة والمشركون، فإذا عاد سعى في العمل الصالح بما يقربه إلى الله عبادة وطاعة، وذلك بامتثال أوامر الله تعالى، وأوامر نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:62].
ولاشك لكل عاقل ومدرك أن الفرق عظيم ظاهر بين أهل النعيم وأهل الجحيم، فقد رضي الله عن المؤمنين وسخط على الكافرين، يقول تعالى مقرراً هذا المعنى على طريقة الاستفهام الذي معناه التقرير {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:62].
أي: أهذا الذي قص الله علينا من الجنة وصفاتها: من خمرها الذي هو أبيض لذيذ للشاربين، والحور المقصورات في الخيام، القاصرات الطرف على أزواجهن: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:62].
وشجرة الزقوم شعار النار، أي: أهذا الخير الذي ذكره الله عن نعيم أهل الجنة من الأرزاق المعلومة والحور العين، خير أم النار؟! قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا} [الصافات:62] أي: منزلة.
ثم أخذ الله يصف هذه الشجرة فقال عنها: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:63].
وشجرة الزقوم هذه عندما سمع عنها أبو جهل، وسمعها صناديد الكفار من قريش أخذوا في السخرية من ذلك وقالوا: كيف تنبت شجرة في النار؟! وجاءهم بربري من أرض البربر وقال: شجرة الزقوم عندنا تعني: الزبد والعسل، فلما سمع بذلك أبو جهل دخل بيته وقال: يا جارية! تعالي زقمينا! فأتتهم بالتمر والزبد والعسل، وليس الأمر كذلك، وقد اختلف أهل العلم في شجرة الزقوم؛ هل توجد في الأرض أم هي شجرة مختصة بجهنم؟ والحقيقة: أنها من شجر الدنيا، وفي جزيرة العرب ما يسمى بشجرة الزقوم، وهي شجرة مر طعمها، مر طعم فاكهتها، لا تكاد تنبت لها فروع.
قال تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65].
فهي قبيحة المنظر، مرة المذاق، أما وضعها في النار فكما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:63]؛ وذلك لأنهم قالوا: اسمعوا ماذا يقول محمد: شجرة تنبت في النار، وهل الشجر الأخضر يثبت مع وجود النار؟! قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:63]، فقد اختبر بها الكافرين والمشركين، وإلا فالله الذي خلق الشجر أخضره ويابسه كما خلق الخلق أجمعين، فخلق قوماً لا يعيشون إلا في البراري، وقوماً لا يعيشون إلا في الماء، وقوماً لا يعيشون إلا في النار فإذا أخرجوا منها ماتوا، وهذا كله قبل الآخرة، ونحن وأمثالنا لا نعيش إلا خارج الماء ولو دخلنا الماء لاختنقنا، لا نعيش في نار الدنيا ولو دخلها أحد منا لاحترق، وأحياء البحر خلق من خلق الله بكل الأنواع والأجناس لو خرجت من البحر لاختنقت، فلا تعيش إلا بهذا الماء، وذكروا أن هناك طائراً يعيش في البراكين وهذا الطائر أبيض عندما يذهب للبحث عن رزقه يرجع مليئاً بالأوساخ، فإذا جاء ودخل البركان ذهبت كل تلك الأوساخ وعاد أبيض ناصعاً كما كان.
فالله الذي جعل هذا في دار الدنيا ما الذي يمنعه من أن يجعله في الآخرة؟! وقد أخبرنا: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:63]، والفتنة: هي البلاء، أي: جعلها فتنة للمشركين ليصدقوا أو يكذبوا، على أن كل أمور الآخرة في الدنيا لا تكاد تصدق إلا بتصديق الله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاءت به كتب الله، وهذا من ناحية العقل لا يعتقد سواه؛ لأننا عندما نفكر في أنفسنا وذواتنا ونسأل أنفسنا: كيف خلقنا؟ فإننا نعتقد أن من خلقنا قادر على أن يخلق كل شيء، هذا الذي خلقنا ما الذي يمنعه من أن يخلق في النار شجرة تنبت فيها، وهذا الكلام في أهل النار، أما نار الدنيا فلا يكون هذا، وقد وصف الله لنا: جلود أهل النار عندما تحترق يعيدها ويجددها ليبقوا في عذاب دائم، ونحن نتجدد في سلالاتنا وأولادنا، وما أولادنا إلا حياة تبعية لنا، وقد جعلهم الله امتداداً لنا إلى أن يوقفهم بالقضاء على الدنيا وبفنائها، ولا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
والمؤمن يؤمن بكل هذا دون الحاجة إلى التأويل، فما قاله الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم هو الحق الصراح؛ فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
أما الذهاب إلى التأويل فهو شأن الملاحدة الذين يزعمون الإسلام، والملاحدة كفار في الأصل، أتوا إلى القرآن فحاولوا أن يؤولوا الأحكام التي فيه، حتى إنهم قالوا في الصلاة: إنها بمعنى: الرياضة، والصلاة معناها: الدعاء فلا حاجة إلى هذا التأويل الباطل.
قالوا: الصيام: ليس الإمساك عن الأكل والشرب، ولكنه الإمساك عن السيئات فقط، فكذبوا على الله ونافقوا وألحدوا في دين الله، وقد كان هؤلاء في الماضي ولا يزالون معنا، وسيبقون إلى يوم القيامة.
قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].(259/4)
تفسير قوله تعالى: (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم)
قال تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:64 - 65].
الطلع: هو الثمرة التي تطلع من الشجرة: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65].
وقد فسرت هذه الآية بعدة تفاسير منها: أن العرب تطلق لفظ الشيطان على ما تستبشعه، وتطلق لفظ الملك على الشيء المستحسن كما قالت النسوة لما رأين يوسف وقد أدخلته زليخة عليهن: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31].
ولا يعنين أنه ملك نزل من السماء، ولكن جماله وهيئته لا يوجدان إلا عند الملائكة، وهو أسلوب عربي موجود إلا الآن.
قال تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65]، ولك أن تتصور الشيطان في أبشع صورة في ذهنك، بشع الوجه والمنظر ذو شعور سائبة كشعور هؤلاء الذين ابتلينا بهم في عصرنا الحاضر.
يذكرون عن الجاحظ أنه كان مشوه الوجه، بشع الأطراف، على علمه وأدبه وكتابته وكثرة مؤلفاته، جاءت امرأة ذات مرة إلى الصائغ وقالت له: أريد أن أشتري خاتماً فيه صورة شيطان، فقال لها: كيف ذلك وأنت لا تعرفين صورة الشيطان؟! فقالت: سآتيك بصورته، فذهبت وهي تعرف الجاحظ فطافت في الشوارع فوجدته فقالت له: أرجو أن تذهب معي إلى الصائغ، فقال: لم؟ قالت: تذهب معي ولا أكلفك أكثر من هذا، وقد كان يقول: ضحكت علي النساء مرتين وذكر هذه منها، فجاءت بـ الجاحظ من مكان بعيد، وقالت للصائغ: كهذا الوجه، أي: أن صورة الشيطان تنطبق على صورة الجاحظ، وليس الجاحظ بشيطان وإن كان قد اتهم بالكفر، ولم أر هذا في كتبه التي قرأتها، ولا يستبعد ذلك فقد ذكروا عنه أشياء كثيرة.
وقالوا أيضاً: هي شجرة في جزيرة العرب يقال لها: الزقوم، ويقال لثمرتها: رءوس الشياطين.
وأغلب الظن أنه أسلوب عربي استخدمته العرب لتدلل على بشاعة المنظر والصورة.(259/5)
تفسير قوله تعالى: (فإنهم لآكلون منها)
ثم قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:66 - 67].
أقسم الله تعالى بأنهم آكلون من هذه الشجرة؛ لأن اللام موطئة للقسم، فسيأكلون منها مجبرين على ذلك، ثم بين الله نوع الماء الذي يشربونه فقال: {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:66 - 67].
أي: يشربون على هذا الزقوم الماء الحار شديد الغليان، فلا يكادون يشربونه حتى تسقط أمعاؤهم، ويخرج ما في بطونهم، ثم يعاد ذلك وهكذا دواليك.
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:67] أي: لخلطاً ومزجاً، يعني: أن هذا الزقوم يمتزج في بطونهم بالماء المغلي وهو الحميم، ويقال لعيون الماء الحارة: حُمة أو حَمة، ويقال للمرض: حمة لما فيه من شدة الحرارة.(259/6)
تفسير قوله تعالى: (ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم)
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:68].
معنى ذلك: أن هذا الحميم الذي يشربونه هو في حواف النار، في حواف جهنم، فيخرجون للشرب كما تخرج الدواب إلى مراعيها فترد الماء لتشرب ثم تعود للرعي، فيخرج هؤلاء من النار بعد أن يكملوا أكلهم من هذه الشجرة التي في قعر جهنم وفي أصل الجحيم، والتي قد أجبروا على الأكل منها، فيأكلون منها كما يأكل الجائع، والجائع يأكل أي شيء أمامه.
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:68] أي: ثم يعودون بعد ذلك إلى جهنم، وثم تقتضي العطف مع الترتيب، أي: ثم مرجعهم بعد أن يشربوا الماء الحار الذي مزق أمعاءهم إلى النار والجحيم والعياذ بالله.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:69 - 70].
يخبر ربنا عن هؤلاء أن كفرهم بالله لم يكن عن دليل أو حجة أو بمنطق عقل وإنما هو التقليد الأعمى كما تفعل القردة والببغاوات عندما تقلد أي حركة وهي لا تعي ما تفعل.
قال تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:69 - 70].
أي: على طريقتهم يسرعون، فالله يصفهم بالإعراض عنه والإصرار على الشرك، ومن هنا كان التقليد مصيبة؛ لأن التقليد في الأصل سبب في دخول الإنسان النار، ولذلك لا يكفي المرء منا أن يكون مسلماً فحسب، بل عليه أن يفكر في نفسه، وأن يتفكر في كتاب الله وفي سنة رسول الله، وبما يقرره القرآن الكريم، فيسأل نفسه: من خلق السماوات والأرض؟ من خلقني؟ من جعل هذا النظام الدقيق في الكون؟ فتجده يقول مع نفسه: إنه الله، فيكون إيمانه عن فهم ووعي وإدراك لا مجرد تقليد وعادة فقط، وإذا لم يستطع فهم مسألة معينة سأل أهل العلم بها لأن الله سبحانه يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وهذا لا يعد تقليداً، بل هو من باب سؤال الجاهل للعالم، وليس كل الناس علماء، وليس كل العلماء مجتهدين، فعلى الجاهل أن يسأل أهل العلم المختصين حتى يكون طعامه وشرابه ولباسه حلالاً لا شبهة فيه ولا حيلة، والعالم قد لا يعلم بعض الجزئيات، وقد لا يحيط بجميع المسائل، ومن هنا جاءت المذاهب، وجاء سؤال أهل العلم، وفوق كل ذي علم عليم.(259/7)
تفسير سورة الصافات [69 - 82]
أكثر الكفار إنما يكفرون بالله تقليداً للآباء والأجداد، فيعرضون عن بينات الرسل ودعواتهم عناداً وتعصباً، ومن هؤلاء قوم سيدنا نوح عليه السلام الذين لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، ثم دعا عليهم فأغرقهم الله تعالى بسبب كفرهم وجحودهم.(260/1)
تفسير قوله تعالى: (إنهم ألفوا آباءهم ضالين)
قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ * وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:69 - 74].
لا نزال في الكلام في سورة الصافات عن المؤمنين، وعن الكافرين بأصلهم، والكافرين بأنبيائهم، فقد ذكر الله لنا ما قاله عنهم، وما حل بهم من العذاب، وعن سوء مصيرهم؛ لأنهم حتى في كفرهم هم قردة ضالون، وببغاوات لا يعقلون، فكفرهم لم يكن عن دليل ولا نقاش، ولا فهم ولا إدراك، لكن كل ما صنعوه أنهم ألفوا -أي: وجدوا آباءهم قبلهم- قد ضلوا الطريق، وابتعدوا عن التوحيد، وأشركوا بالله، فكفروا برسله، وكفروا بكتبه، فاتبعوهم على ضلالهم دون دليل ولا برهان من الله، ولا من العقل والمنطق.
(فهم على آثرهم يهرعون): فهؤلاء الضالون التافهون إنما هرعوا وأسرعوا وهرولوا مجدين في الكفر تقليداً منهم لآبائهم، فعل الببغاوات والقردة، فلا دليل لديهم ولا برهان من عقل أو شرع، ولا من دليل ثابت عن نبي أو عالم.
{فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:70] أي: يهرولون، فهم مسرعون في اتباع آثارهم وأجيالهم وكفرهم وضلالهم، وآثار: جمع أثر، وهو ما وجدوا من كفر عن الآباء والأجداد دون دليل من الله ولا برهان.(260/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين)
قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:71 - 74].
يقول جل جلاله: بأن هؤلاء الذين كفروا وجحدوا من الأولين قد ضل أكثرهم، وجحد أكثرهم، وخرج عن الدين والحق أكثرهم، فكفروا بالله، وبرسل الله، وبكتب الله إلا قليلاً من هؤلاء، ويقول الله جل جلاله: وهؤلاء ضلوا مع ما أرسلنا إليهم من رسل منذرين مهددين متوعدين: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ} [الصافات:72] أي: إن هؤلاء هم أكثر الأمم السابقة والشعوب القديمة كانوا على الكفر والضلال والشرك، وهؤلاء اتبعوا الأكثرية التي هي على باطل، والتي حاول الناس اليوم دفاعاً عن اليهود والنصارى أن يقولوا: نحن نتبع الأكثرية، ونعتمد على الأكثرية، ونعقد برلمانات وندوات فيقال لهم: أتريدون أن تحكم الدولة بالشريعة الإسلامية؟ فيقولون: إذا قالت الأكثرية من هؤلاء الرعاع في البرلمانات: لا، فلا، فيتركون دينهم وشريعتهم وإيمانهم، ويتبعون الأكثرية الضالة المضلة، والتي قال الله عنها جل جلاله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:71].
وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، فليست على ذلك بينة من الحق، ولا برهان ولا دليل، وإنما هي نظم يهودية؛ لأنهم الأقلية في الأرض، فأرادوا بها أن يتسلطوا بإضلال الناس، وبتكفير الناس، فاتخذوا لهم مساند من الشيوعية، والماسونية والراديكالية، والوجودية، والبهائية وما إلى ذلك من أنواع الكفر والضلال، وأحزاب الشيطان، فهم يكذبون على الناس ويقولون: أنتم مع الأكثرية، مع أنهم ضالون عن الطريق كافرون بالله كما يقول الله جل جلاله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:71]، فكما ضل الأولون تبعهم هؤلاء تقليداً للآباء بلا دليل من الله، ولا سلطان، ولا منطق من عقل، ولا نص أبداً.
قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ} [الصافات:71 - 72].
يقول ربنا جل جلاله: قد ضل هؤلاء مع أنه أرسل إليهم أنبياء تأمرهم بطاعة الله وتوحيده، والإيمان بالبعث يوم القيامة، وبالحساب والعقاب، وبالجنة والنار، وبرسل الله وكتب الله وما جاء عن الله، وتوعدوهم وتهددوهم، ومع ذلك أبوا إلا الضلال والكفران، فعاشوا كافرين، وهلكوا كافرين، واتبعوا أكثر الناس ضلالاً.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:72 - 73].
فانظر يا محمد! وأتباعك ممن آمن بك! كيف كانت عاقبة هذه الأكثرية، فقد قص علينا ما صنع بقوم نوح من الغرق والذهاب والطوفان الذي طاف عليهم وأغرقهم، فلم ينج منهم إلا قليل، وكأن القليل هؤلاء هم الذين آمنوا بنوح عليه السلام، وما صنع بقوم لوط عندما رجمهم من السماء، وما صنع بقوم صالح عندما عصوه وخرجوا عن أمره، وقتلوا الناقة التي صلبوها وكانت معجزة نبيه، كيف صعقهم الله بصيحة تركتهم جمادات لا تنطق، وكيف أغرق فرعون وهامان ومن معهما من الذين كفروا بالنبيين الكريمين موسى وهارون، وما صنع بالماضي من الغرق ومن الحرق، ومن الصرع ومن الرجم ومن عذاب الله لهم، هذا في دنياهم ولعذاب الله يوم القيامة أشد وأنكى.
فالله يشهر بذلك، ويلفت أنظارنا له لنتخذ من ذلك عبرة كي لا نعمل بعملهم ولا نعاقب بعقوبتهم بعد ذلك.
{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:73].
كانت وبالاً، كانت دماراً، كانت هلاكاً، كانت لعنة وغضباً من الله، يقول ربنا: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:40].
إلا العباد الذين أخلصهم الله لطاعته وعبادته، وصفاهم من الشرك والمخالفة والكفر والعصيان، وقرئ: (مخلصين) الذين أخلصوا دينهم لله، فعبدوا الله وحده، ووحدوه ولم يشركوا به، وآمنوا بالله، وكتاب الله، ورسول الله، واليوم الآخر، والعرض على الله إلى جنة أو إلى نار، هؤلاء استثناهم من غضبه، واستثناهم من لعنته، واستثناهم مما صنع بالآخرين، وهكذا عندما أرسل الطوفان على قوم نوح أنجى في السفينة الذين آمنوا مع نوح، وما آمن معه إلا قليل.(260/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون)
وهكذا صنع الله بالمخلصين في جميع الأمم السابقة، وهكذا فعل بهم في قصة نوح، وطالما ذكرت في الماضي لتكون عبرة للمعتبر، ودرساً يأخذ منه المؤمن ما يثبت إيمانه، والكافر ما ينذره من أن يكون مثلهم، فيجري عليه ما جرى عليهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75].
{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات:76 - 79].
يقول ربنا جل جلاله: إن نوحاً ناداه واتجه إليه، واستغاث به بما صنع به قومه، وقد دعاهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، فما زادتهم هذه القرون إلى كفراً وإصراراً على الكفر، وبقاءً على الشرك إلى أن نفذ صبره، ومل بينهم وملوه، عند ذلك جأر إلى الله، ورفع يديه داعياً الله جل جلاله يقول: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27].
وهكذا استغاث به فأغاثه، فقال ربنا عنه: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75].
استغاث نوح، ودعا ربه ونادى ربه: قد طغى علي هؤلاء فلم تفدهم دعوتي إليك صباحاً ومساءً سراً وعلناً وجهاراً، فما زادهم ذلك إلا كل كفر وجحود، فأنقذني منهم، وعليك بهم أهلكهم ولا تدع منهم كبيراً ولا صغيراً، فإنهم إن ولدوا يلدوا الكفار، وإن أحفدوا يحفدوا الكفار، فقال ربنا في ذلك ليكون مثلاً للمسلمين وللداعين إلى الله، ولمن يدعو ربه لرفع كربه، ورفع بلائه، وما نراه في عصرنا هذا كذلك من نشر الكفر، ونشر البلاء، ونشر المعصية بين المسلمين قبل غيرهم، ومن قادتهم ومن موجهيهم، ومن قبل عامة الناس، وهكذا ربنا ذكر لنا قصة نوح لتكون مثالاً لنا، ولتكون عبرة للكافرين بالله.
قال: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75]، يثني الله على جلاله، وعلى قدره وعلى مقامه، يعلمنا كيف نوحده، وكيف ننزهه، وكيف نسبحه جل جلاله، قد استجاب لدعوة نوح ولندائه، وأنعم عليه بما طلبه، ولذلك قال: فلنعم المجيبون، أي: لنوح عليه السلام.
ثم قال ربنا جل جلاله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:76]، استجبنا لندائه، ولضراعته ودعائه، فأنجيناه وأهله، أي: من كانوا على دينه من أهل وغير أهل، وأما أهله الذين لم يؤمنوا كولده، فكان مع المغرقين، أما أهله الذين آمنوا به، ودانوا بدينه، وكانوا قليلاً لم يتجاوزوا في العد ثلاثة عشر مسلماً عند البعض، وسبعين رجلاً في الأكثر عند الآخرين، فيهم الرجال والنساء والأطفال، هؤلاء الذين آمنوا به فقط بعد هذا الدهر الطويل، وهذه القرون الكثيرة المتتابعة المتوالية، هؤلاء أنجاهم الله من هذا الكرب، أنجاهم من بلائهم ومن محنتهم.
قال: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:76]، الكرب الشديد الذي لا يكاد يصبر عليه، ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعوهم إلى الله سراً وجهاراً ليلاً ونهاراً، حضراً وسفراً وهم لا يزيدونه إلا كفراً، وهزءاً وسخرية.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77].
أي: وجعلنا سلالته وأولاده ومن كانوا ذراً في صلبه، ثم انتقلوا بعد ذلك من صلبه إلى رحم زوجه، هم الباقين وإلى عصرنا، والمعنى: أن كل من جاء بعد نوح فهم من ذريته وسلالته أي: نحن وآباؤنا منتسبون إلى نوح، ومن سيأتي بعدنا إلى يوم القيامة، وآدم هو الأب الأول، ثم انقرضت سلالته إلا نوحاً وسلالته، فكان من جاء بعد نوح من ذريته وسلالته، هكذا في الآية، ولكن مضى معنا أنه قبل: أن الله نادى جل جلاله فقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3].
كانت هناك ذرية من نوح، وممن حمل مع نوح، وأن الباقين بعد نوح هم سلالة نوح كما هم سلالة من كان معه من المؤمنين، وحملوا معه على السفينة، ولذلك اختلفوا وليس هذا تضارباً في الآية، بل هي آيتان في كتاب الله أن الناس الذين جاءوا بعد نوح من ذريته وذرية من معه، ولكن الأكثرية كانت من سلالة نوح، فهو قد تزوج بعد ذلك الكثرة من أولئك، فكانت أزواجه بالعشرات، فكانت ذريته أكثر وأشمل وأعم حتى إنهم قالوا: كل من في الأرض يرجعون إلى أولاد نوح الثلاثة: سام ويافث وحام.
فقالوا عن حام: هو أبو الزنوج والأحباش، وقالوا عن يافث هو أبو الروم ومن إليهم، وقالوا: عن سام: هو أبو العرب وأبو بني إسرائيل، وأبو طوائف من البشر، ولكن قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3]، يدل على أن هناك ذرية لم تكن من سلالته، ولكن من سلالة من حمل معه في السفينة، فيكون معنى الآية: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77] أي: أكثر من في الأرض بعد نوح كانوا من ذرية نوح، ولا ينفي هذا أن تكون هناك أقلية هي من ذرية من حمل مع نوح على السفينة.
قال تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات:78]، أي: تركنا عليه ذكراً وثناءً، وإشادة وتعلقاً وإيماناً، والأمر كما قال ربنا فجميع الأديان السماوية وإلى عصرنا وحتى المجوس، وقد قيل: إنهم أهل كتاب، ولكن الكتاب ضيعوه فذهب مع الذاهبين، جميعاً يثنون على نوح، ويؤمنون بنوح، ويشيدون به، ويرفعون من ذكره.
قال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات:78 - 79].
ربنا جل جلاله كذلك أشاد به، وسلم عليه وذكر السلام له، فهو آمن عند موته وآمن في آخرته من أن يغضب الله عليه، آمن في جنته، بنعم الله، ورحمة الله، ورضا الله، آمن من أن يذكر بسوء بعد ذلك في الأعصار الآتية والشعوب الأخيرة: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات:78 - 79]، فجميع العوالم المحمدية والأمم الأخرى أمم أهل الكتاب والمجوس وغيرهم تجله، وتحترمه وتشيد به، وتذكره بالسلام والصلاة كبقية الأنبياء عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
ونوح صلى الله عليه وعلى نبينا لم يسبقه من الأنبياء إلا أبوه آدم، ثم إدريس ثم نوح بعد ذلك، وهو الأب الثاني للبشر.(260/4)
تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين)
قال تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:80].
أي: من أحسن وأطاع، ومن دعا إلى الله، ومن صبر صبر نوح في الدعوة إلى الله، فإن الله يحسن إليه ويجازيه بأن يرفع اسمه، ويعلي ذكره، وتبقى الناس تترحم عليه، وتذكره في الصالحين، وكذلك كما فعلنا بنوح ونصرناه أخيراً على أعدائه، وأعداء الله كذلك من دعا إلى الله ننصره على أعدائه، فنجعل النصر له والعاقبة الخيرة له، ونجعله في عليين، ونجعل أعداءه في الأسفلين كما فعل بنوح مع قومه: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:80].
والإحسان: هو الإيمان بالله قلباً وقالباً، لساناً وجناناً، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فيكون مؤمناً في نفسه داعياً للخلق إلى عبادة الله، ويحسن عبادته بأن تكون خالصة لله بلا شرك خفي، بأن تكون عبادته لا يراد بها إلا الله خالصة لوجه الله، يؤديها بفرائضها أركاناً وواجبات، وسنناً ومستحبات، وأن يحسن لعباد الله الصالحين المؤمنين.
قل تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:81]، يشير الله بذكره ويقول: إنه من عباده المؤمنين الذين آمنوا بإخلاص، والذين آمنوا بطاعة، والذين آمنوا كما أمرهم ربهم، فهو كان مؤمناً من الصالحين، مؤمناً صادقاً بين المرسلين، فجازاه الله على إيمانه، وعلى إسلامه فنصره على قومه وأغرقهم فقال: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الصافات:81 - 82].
أغرق قومه الآخرين ممن كانوا معه في عصره، وخرجوا عن دينه، وخرجوا عن طاعته، وأبوا إلا الكفر والعصيان والجحود، فأغرقهم الله حتى لم يبق منهم أنيس ولا ذاكر، والقصة ذهبت ومضت في السور الماضية كسورة الأنبياء بتفاصيلها وبكلياتها وجزئياتها، ونقتدي بما ذكر هنا على ما مضى لكي لا يعاد الشيء أكثر مما مضى.(260/5)
تفسير سورة الصافات [83 - 100]
كان سيدنا إبراهيم عليه السلام من أولي العزم الخمسة، وقد عانى من قومه وكفرهم ما عانى، فلم تقنعهم حجة ولا دليل، ثم تآمروا عليه ليحرقوه فأنجاه الله ونصره عليهم.(261/1)
تفسير قوله تعالى: (وإن من شيعته لإبراهيم)
قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:83 - 87].
وإن من شيعته: أي ممن هو على دينه، وعلى منهاجه، وعلى طريقته، ومن أنصاره، وقرنائه وأمثاله، والقائلين بقوله، والذين هم على مبدئه وهدفه وغايته، وأنبياء الله كلهم كذلك، فكلهم أمروا بتوحيد الله، كلهم أمروا بأن يأمروا الخلق بطاعة الله، والإيمان بما أنزل الله، والإيمان بيوم البعث والنشور، يوم العرض على الله، وبالجنة والنار.
فجاء إبراهيم مجدداً، جاء نبياً رسولاً، ففعل ما فعله نوح من حيث التوحيد والدعوة إلى وحدانية الله وعبادته، فكذلك كان إبراهيم من شيعته، ممن هو على منهاجه، ممن هو على طريقته في الدعوة إلى الله والتحمل والصبر، وكما تحمل نوح من قومه البلاء العظيم والكرب الشديد، ثم نصره الله وأزال كربه، كذلك إبراهيم سيحارب وسيعارض، وسيقذف به في نار لو قذف فيها غابة لاحترقت وصارت رماداً، ولكن الله يأبى إلا أن ينصر رسله، وأن ينصر أنبياءه، وأن تكون العاقبة لهم على أعدائهم.
قال: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات:83].
بين إبراهيم ونوح ألفا سنة وستمائة وأربعون عاماً فيما زعم الكثيرون، ولا يقين في ذلك، إذ الأخبار لا تتم إلا بنص من الله أو حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يوجد، وكان ما بين نوح وإبراهيم من الأنبياء هود وصالح، وقد أرسل إبراهيم في أرضه في العراق، وكل أنبياء الله الذين جاءوا بعده ينحدرون من سلالته، فقد ولد ولدين كليهما نبي كريم: إسماعيل ثم إسحاق، فكانت سلالة أنبياء بني إسرائيل من إسحاق، وكان من سلالة إسماعيل سيد البشر على الإطلاق، وإمام الأنبياء، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم محمد العربي الهاشمي المكي المدني نبينا صلى الله وعليه وعلى آله.
قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:83 - 84].
أتى إلى الله داعياً بقلبه، أتى بإخلاصه، أتى بيقينه منذ نبئ وأرسل، كان أول المؤمنين من قومه، وأول الدعاة إلى الله من قومه، أخلص العبادة، وأخلص اليقين، وأخلص جميع حياته ليلها ونهارها في السفر والحضر لله، وجاء ربه بقلب سليم من الشرك، سليم من الضغينة ومن الرياء والسمعة، فهو طاهر القلب وسيد الموحدين في عصره، وهو أحد الخمسة من أولي العزم، ولا يعلوه في المقام إلا حفيده محمد صلى الله وعليه وعلى آله.
وقد سئل محمد بن سيرين عن قول الله: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84] ما سليم؟ فقال: جاء ربه سليماً من الشرك، سليماً من المخالفة، سليماً من الضغينة، فهو سليم القلب من كل أنواع السوء شركاً وعصياناً ومخالفة، جاء ربه وهو داع إليه، خاضع لجلاله، قائم بين يديه، في كل ما أمره به، جل جلاله وعلا مقامه.
قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات:85].
قال لقومه: ماذا تعبدون؟! وكانوا يعبدون الأحجار، ويعبدون الأوثان، ويعبدون الأصنام، كأكثر الأولين إلا قلة بينهم، أما أبوه فقد سماه الله في القرآن: آزر، ومضى لنا ببيان وتفصيل: أن آزر عمه والعم أب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (العم صنو الأب) أي: جزء وشقيق له أي: قسم منه أي: فكما أن هذا أب فهذا أب، وفي لغة العرب كذلك تنادي العم: أباً، وهي لغة مشهورة، وللإمام السيوطي رحمه الله كتاب مستقل أن آزر عم إبراهيم وليس أباه، وقد ذكر في القرآن بأنه أب.
من المعلوم أن إبراهيم عندما دعا عمه إلى الله استنكر ذلك منه: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ} [مريم:46]، ثم أخيراً قال له: اهجرني ملياً، قال إبراهيم: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، وبعد ذلك استغفر له، فقال عنه جل جلاله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114].
أي: عندما تبين له أنه كافر ومات على الكفر والضلال تبرأ منه، والذي يتبرأ منه لا يدعى له، ولا يستغفر له، وإنما استغفر له بموعدة وعدها إياها، فقد وعده بأنه سيستغفر له، فلما تبين له أنه مات على الكفر، ومات على الضلال تبرأ منه وترك الاستغفار، لأنه لا فائدة في الاستغفار لمن مات مشركاً: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، سواء دعا له نبي مرسل، أو ملك مقرب، كل ذلك سواء من مات على الشرك فلا ينتظر له إلا العذاب، ولا استغفار له ولا توبة، وقد كان إبراهيم عندما دعا أباه لا يزال في شبابه في سن الأربعين عندما أرسل ونبئ، وعندما جاء إلى أرض الكعبة ومعه ابنه إسماعيل، وقد أتى به طفلاً رضيعاً مع أمه إلى هذه البقاع المقدسة، فعندما أتم البناء حمد الله وشكره وقال: رب اغفر لي ولوالدي.
وهذا في كتاب الله، فقوله: (رب اغفر لي ولوالدي) استغفار لوالديه وما والداه إلا أبوه وأمه، فلو كان الذي ذكره الله أباً حقيقياً لما استغفر له، ومن هنا علمنا بنص الآية أن ذاك ليس أباً؛ لأن الأب قال الله عنه: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114]، ونبي الله أكرم من أن يتبين له أن أباه ضال مضل، وأنه مات على الضلال والكفر من أن يستغفر له، وقد تبرأ منه، والمتبرأ منه لا يدعى له، ولا يستغفر له، فإذا وجدناه في أخريات أيامه وعند قرب موته يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28]، فهذا يعني: أن آزر لم يكن أباً بل كان عماً، وقد ثبت أن هذا العم قال -لما أنجى الله إبراهيم من نار نمرود قال له هذا العم: لو لم أكن أنا لما أنجيت، وإذا بالشرار من النار يصيب هذا العم فيحترق؛ لأنه ترفع على الله وادعى مقاماً ليس له، وقال عن ابن أخيه إبراهيم: بأنه شارك في وثنية هذا، أو شارك في شركه أنقذ من النار، وإذا بالله الكريم يحرقه بشرارة فضلاً عن كل تلك النار، وبهذا يتأكد أن آزر ليس الأب وإنما هو العم.
قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات:85 - 86].
الإفك: أقبح أنواع الكذب، أي: أتريدون آلهة غير الله كذباً وزوراً ظاهراً، أي: أتريدون الإفك والكذب، أتريدون آلهة من الأوثان والأصنام والأحجار تتخذونها آلهة دون الله، أهذه إرادة عاقل؟ أهذه إرادة مفكر؟ أهذه إرادة إنسان يعلم أن الموت آتيه يوماً لا محالة.
قال تعالى: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:87]، أي: فماذا تظنون بعد أن تقبلوا على الله؟ وبعد أن تبعثوا يوم القيامة؟ كيف سيكون جزاؤكم مع الله وقد جئتم إليه وأنتم تعبدون غيره، وتشركون به سواه؟ وهذا استفهام للتقرير والتوبيخ، أي: أيمكن أن يخطر ببالكم أن يقابلكم الله بخير أو رحمة وأنتم قد استنكرتم قوته وعبدتم سواه ممن لم يخلقكم، ولم يرزقكم ولم يعاقبكم، ولم يعطكم؛ أهذا فعل العقلاء؟ قال تعالى: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:86 - 87].
فما ظنكم بالرب الذي خلقني وخلق عالمي وعالمكم، عالم عصرنا والعالم الذي مضى، والعوالم الآتية، عندما تقبلون عليه، وتعيشون بعد الموت؟ فما الظن الذي يخطر ببالكم؟ والمعنى: أنهم سيلقون اللعن والغضب والجحيم.(261/2)
تفسير قوله تعالى: (فنظر نظرة في النجوم)
ثم قال تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89].
في هذه الحالة جاءه قومه وكان لهم عيد، وقالوا: يا إبراهيم! اخرج معنا لهذا العيد حتى ولو لم ترد عبادة آلهتنا، لكن شاركنا وتفرج علينا، فلما دعوه رفع بصره إلى السماء وقال: إني سقيم؛ ولذلك لا أستطيع الذهاب معكم.
قالوا: إنه قال: مريض بالطاعون؛ لأن عدواه تنتشر بسرعة.
{فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:90] خافوا العدوى، فما عادوا يقربونه، ولا يلحون على خروجه، فأعطوه قفاهم مدبرين، فذهبوا فارين مهرولين مسرعين حتى لا تنالهم العدوى.
وقد فسر المفسرون ذلك بمعان كثيرة منها: قال بعضهم: كان علم النجوم علماً نبوياً، وكان يؤخذ من النجوم.
ولكن الحروف المكتوبة هي دلالة ورموز على تلك المعاني، فلا غيب هناك ولا تكهن، قالوا: وعلم النجوم في أصله كذلك، فعندما يرون إلى النجم الفلاني والنجم الفلاني ولقاء هذا بهذا، فكأنما يقرأ في كتاب، فهذا يدل على كذا وكذا، فهو نظر في النجوم على عادة الأنبياء فيما زعموه، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89].
ولم يكن سقيماً إذ ذاك، فظاهره القوة والعافية، ولكن معنى الكلام: سقيم: سأسقم، وسقيم اسم فاعل واسم الفاعل كالفعل المضارع يدل على الحال والاستقبال، يعني: إن لم أكن مريضاً الآن فأنا مريض مستقبلاً، ومن ثم نسخ هذا العلم وبطل، وكل من يشتغل به يشتغل بالكهانة والضلالة، فلم يعد له أصل مطلقاً.
وقال قوم: ليس المعنى أنه نظر نظرة في النجوم المعروفة، وإنما المراد بقوله: (نظر نظرة): فكر فكرة أي: أخذ يفكر بماذا يجيبهم، وماذا يقول لهم، فنظر نظرة في النجوم، يقال: نجم كذا، وينجم كذا: إذا ظهر وبرز.
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} [الصافات:88]، أي: في الحوادث الآتية، ويفكر ماذا سيعمل، وما ينتظر من جواب الآخرين، وهو يتمنى هذه الخلوة منذ زمن؛ ليفعل فعله بأصنامهم، فما أراد الخروج وما أراد أن يضيع هذه الفرصة من عمره.
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} [الصافات:88] أي: فكر تفكيراً في الأحداث الناجمة الآتية عن عدم ذهابه، فهل سيجبرونه ويفسدون عليه عمله، أم سيتركونه؟ وخوفهم وأنذرهم بأنه مريض بالطاعون، وهم يخافون من مرض الطاعون ومن عدواه ومن انتشاره، فكانت النتيجة أن مضى الأمر ونجح ما تحايل به عليهم، وأتى بالنتيجة المطلوبة.
{فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:90] أي: أعرضوا عنه حال كونهم مدبرين، وذهبوا مسرعين إلى عيدهم، وإلى تجمعاتهم، وإلى أباطيلهم وأضاليلهم، وذلك ما كان يريد.(261/3)
تفسير قوله تعالى: (فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون)
{فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:91 - 93].
عندما أدبروا وتولوا ذهب وأسرع ومشى إلى آلهتهم، فوجد كل إله منهم بجانبه طعام، وكان في أعيادهم يطرحون طعاماً لكل صنم من هذه الأصنام، فعندما يعودون من نزهتهم ومن عيدهم تكون بركة الآلهة المزيفة فيه، وما يصنعونه في العيد مما لا يليق يغفر لهم ببركة الآلهة، ويأكلون طعاماً قد باركته الآلهة، فعندما دخل للمعبد وجد هذه الآلهة، ووجد عند كل إله طعاماً، {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:91] أي: ناداهم ألا تأكلون؟! ما وضع هذا الطعام إلا للأكل، فلم يجيبوه بطبيعة الحال فهي أحجار وجمادات، فقال: {مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} [الصافات:92] لأنها آلهة عاجزة عن الوعي والكلام والفهم: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:93]، والضرب باليمين أقوى من الضرب باليسار، وكان قد أخذ فأساً معه، فجاء إلى جميع الآلهة وكسرها، وجعلها جذاذاً إلا كبيراً لهم، حتى لا تكاد تعرف أنها من أصل الحجارة أو الصخور، ووضع الفأس في عنق الإله الكبير في زعمهم.(261/4)
تفسير قوله تعالى: (فأقبلوا إليه يزفون)
قال تعالى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} [الصافات:94].
وكانوا قد تساءلوا: من فعل هذا بآلهتنا؟ وإذا بأحد يقول لهم: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60] كما في سورة الأنبياء، أي: يذكرهم بسوء، فذهبوا إلى إبراهيم وأقبلوا إليه يزفون أي: يسرعون، ومنه الزفاف: الإسراع في زفاف البنت إلى الزوج، فأقبلوا إليه يسرعون، أقبلوا إليه مهرولين، وهم ذاهبون عقلاً؛ لأن آلهتهم أهينت وهم يعبدونها.
وقرئ: (يُزِفُّون) والمعنى واحد من الزفاف: وهي السرعة والهرولة: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95 - 96].
فلما أخذوا معه في الكلام، قال: كيف تعبدون شيئاً صنعتموه بأيديكم، نحتموه من الأخشاب، ومن الحديد، ومن الحجارة، فتأتون إلى أخشاب صنعتموها بيدكم، وإلى حديد ذريتموه بأيديكم، وإلى طين فتتخذوه إلهاً، فكيف تعبدون ما خلقته أيديكم؟! {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] فالكل خلق الله، وتتركون الخالق وتعبدون المخلوق، أهذا فعل العقلاء؟! فقال لهم: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات:95] من النحت، والنحت: النقل والبري والصنعة، أتعبدون ما تنحتون، أي: هذه الآلهة، بل أنتم صنعتموها ونحتموها من الأخشاب، ومن الحجارة، ومن الحديد، وليس الخشب لكم، ولا الحديد من خلقكم، بل الكل خلق الله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].
خلقكم، وخلق هذه الأخشاب، وهذا الحديد، وهذه الحجارة، فكيف تأتون إلى شيء خلقه الله، فهو مخلوق، وأنتم مخلوقون، فتتركون الخالق الذي خلقكم، وتذهبون إلى عبادة المخلوق، أهذا منطق العقل.
وكل هؤلاء العابدين ممن لا يزالون إلى الآن، تدخل كنائسهم تجد هناك صوراً وتماثيل يصرفون لها هذه العبادة، ثم يقولون عن فلان: فيلسوف، وعن فلان كذا، وما هم إلا أنعام ضالون، كيف يأتون إلى هذه الأحجار، وإلى هذه الأخشاب، وإلى هذه الحدائد يصنعونها بأيديهم، ينحتونها بأيديهم، ثم يسمونها آلهة، فيركعون لها ويسجدون لها، ويعبدونها دون الخالق؟! والخالق هو الذي خلقهم وخلق أعمالهم: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].(261/5)
تفسير قوله تعالى: (قالوا ابنوا له بنياناً)
وإذا بهم كعادة الكفار حينما يعجزون عن الدليل والبرهان، وهذا فعل السفهاء قديماً، وفعل السفهاء حديثاً، وهؤلاء الآن يسمون أنفسهم: التقدميين والتجديديين، وهم في الحقيقة رجعيون متأخرون، يرجعون لما قاله آباؤهم وأسلافهم من المشركين، يقولون نفس قولهم، نفس دليلهم، نفس برهانهم، عندما يعجزون عن الجواب، وعن الدليل والبرهان، يذهبون إلى البطر وإلى الإخضاع وهيهات هيهات! فالحقائق هي الحقائق، وهؤلاء أصحاب أباطيل وأضاليل ما أنزل الله بها من سلطان.
فكان جوابهم عن هذه الأدلة: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97]، وقد سماه الله جحيماً لهوله قال ربنا: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:98]، ذهبوا يهيجون له ناراً لمدة أشهر، وبنوا بهذه النار بنياناً عارماً يصل إلى عشرات الأمتار، ثم أخذوا كل أخشاب غاباتهم، وزادوا عليها أحجارهم إلى أن أخذ يأكل بعضها بعضاً، ثم وضعوه في المنجنيق وألقوه فيها، ولقد كان الطير إذا حلق من فوقها يحترق من شدة لهيبها ونارها، فأخذوه من البعد؛ لأن القرب منها سيحرقهم، وألقوه كما تلقى الحجارة وقذفوه قذفاً.
{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:97 - 98]، جعلهم الأسفل والأخسر والأذل، جعلهم ينهزمون، بقيت النار مشتعلة عدة أسابيع إلى أن انطفأت، وإذا بإبراهيم يوجد جالساً وهو يقول لا إله إلا الله.
ويقال في الأثر: لما ألقي في النار جاءه جبريل فقال: يا نبي الله! هل لك من حاجة؟ هل لك من طلب؟ قال: علمه حالي يغنيني عن سؤالي، ماذا يطلب؟ الله يرى هذا، وإذا بالله يقول لها: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، ولو قال برداً فقط لكان برداً زمهريراً، ولقتله البرد من شدته، ولكنه قال برداً وسلاماً، بحيث لا تقتله.
فعندما حصل هذا وانتهى سلط الله على نمرود ناموسة دخلت في خياشيمه إلى أن وصلت إلى دماغه فأخذ يضرب رأسه لعل الناموسة تخرج، وإذا بالناموسة لا تخرج، فأخذ يضرب رأسه بالحجارة بالحيطان، وهكذا بقي يضرب رأسه إلى أن تفتت مخه وانفجر، وانتثر على الأرض والناس تراه، بعد أن ادعى الألوهية، وادعى الطغيان، وهذا كما صنع الله جل جلاله مع نبينا وكان إرهاصاً له، عندما أرادت الحبشة أن تضرب الكعبة، فجاءت بفيلها، وجاءت بقوتها، وجاءت بجيوشها، فدخلوا مكة إلى أن احتلوها، وقبل أن يصلوا للكعبة جاء عبد المطلب جد النبي عليه الصلاة والسلام إلى أبرهة ملك الحبشة يطلب إبله، وقد أخذها جنده وكانت مائة، فلما دخل وطلب الإبل عجب أبرهة منه؛ وذلك لحسن منطقه ودهائه ومع ذلك يطلب إبلاً ولا يدافع عن الكعبة، فقال لـ أبرهة: أنا رب إبلي وللبيت رب يحميه، وكان إهلاك أبرهة وأصحابه إرهاصاً لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإرهاصة: هي المعجزة قبل الظهور.
وبهذا نزل في الكعبة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1]، سلط الله عليهم طيراً تحمل حجارة من سجيل تقذفها على رءوس هؤلاء الطغاة فتدخل من رأسه وتخرج من دبره، فأصبحوا كالعصف المأكول، كالحشيش عندما يخرج بعراً بعد أن تأكله الدواب.
وهكذا عندما يعجز المسلمون، ويظن أعداؤهم أنهم قضوا عليهم، عندها قضت إرادة الله الغالبة أن للبيت رباً يحميه، ويحمي عباده المؤمنين المستضعفين بما لا يخطر على بال ظالم، أو على بال عدو، فهؤلاء الأمم والدول الكبرى التي طالما عصت أمر الله، وطغت واحتقرت المسلمين، وأراقت دماءهم، وجعلتهم أقل من كلب، فالكلب إذا قتل قامت الدنيا، وعشرات المسلمين بل آلاف المسلمين يذبحون ويحتلون في كل ركن في الأرض، ولا صوت يرتفع، فهذا تأديب من الله، ولكن النتيجة: إن للبيت رباً يحميه.
يقول تعالى عن هؤلاء وقد حمى نبيه وأكرمه: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:97 - 98].
بعد ذلك وجبت الهجرة من الأرض التي يسكنها الكفار والمنافقون، ويمنع المؤمن من إظهار دينه، ومن قبول دعوته إلى الله، كما فعل بعد ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام عندما ضاقت به مكة فانتقل منها إلى المدينة، وفي الهجرة وهو في الجحفة ينزل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]، فأنت ستذهب للمدينة ولكنك ستعود إلى مكة ظافراً منتصراً سيداً متحكماً في أعدائك، وهكذا كان.(261/6)
تفسير قوله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين)
فترك إبراهيم بعد ذلك البلدة وهاجر منها: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] أي: سأذهب مهاجراً إلى الله في أرض لا أقاتل فيها، ولا يحضر على الإنسان أن يدعو فيها إلى الله، وهكذا ترك العراق وذهب إلى أرض الشام إلى حران واتخذها مهجراً ومقاماً، فدعا إلى الله ما شاء، فآمن به من كتب لهم العز والنصر والعاقبة الطيبة، ومن كفر به ألحقه الله بالأولين من الضالين.
{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، ذهب فوجد نفسه غريباً، لا قريب ولا تابع ولا بعيد، لا زوجة ولا ولد، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100].
فدعا الله أن يهب له ولداً، وأن يكون من الصالحين؛ ليأنس به، وليجدد به سلالته، قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100].(261/7)
تفسير سورة الصافات [99 - 116]
لما نجى الله سيدنا إبراهيم عليه السلام من كيد النمرود وقومه الوثنيين هاجر عليه السلام إلى أرض حران، ودعا ربه أن يهبه من الصالحين، فبشره بالذبيح إسماعيل عليه السلام وحصل لهما من الابتلاء ما حصل، ثم بشره بإسحاق وبارك في ذريتهما.(262/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين)
قال الله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:99 - 101].
لا نزال مع إبراهيم خليل الله والجد الأعلى لنبينا عليه الصلاة والسلام بعد أن نصره الله على أعدائه عندما قذفوه في النار، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، جعلهم الأسفلين، ورد مكرهم في نحرهم، عند ذلك رأى أن البلاد ليست صالحة للمؤمن، وليست صالحة لداعية إلى الله وقد أصروا على قتال وحرب وتهديد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترك البلاد وهاجر إلى الله، وكان أصل الهجرة ومشروعيتها ما فعله إبراهيم خليل الله، وقصه علينا ربنا جل جلاله.
{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات:99] أي: إني مهاجر كما ذكر في آيات أخر، فهجر الكفر وبلاد الكافرين وهاجر إلى ربه حيث يجد متسعاً من الأرض بلا ضيق ولا مقاومة ولا صد عن دعوة الله، فذهب مهاجراً.
وقوله: {سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، أي: سيهدني الطريق المستقيم، وسيهديني للذهاب إلى البلاد التي أدعو فيها إلى ربي دون أن أجد معارضاً ولا صادا، ً وقد قلنا: بأنه ذهب إلى أرض حران، فبعد أن وجد نفسه غريباً ترك موطنه، وترك عشيرته، ونادى ربه متضرعاً: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100] أي: هب لي ولداً صالحاً يكون منهم، ويكون بينهم يصلح في دينه، ويصلح في دنياه، ويصلح لي باراً مطيعاً، ويصلح لعباد الله الصالحين، فأجابه الله واستجاب دعوته وقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101].
ومعنى ذلك: أن زوجته حملت، وأنها بعد الحمل ولدت، فبشره الله به قبل أن يكون، فكان بعد ذلك، وولد بعد ذلك فبشره به غلاماً مولوداً صغيراً رضيعاً، وبشره بأنه سيصبح رجلاً حليماً، والحلم: هو التوؤدة والتأني وعدم التسرع، وهو العقل فيما يهديه ويصلحه في دينه ودنياه، وهو الذي لا يتأثر بكلمة عابرة، ولا يغضب لأي سبب، فهو إذا أوذي حلم، وهو إذا أوذي قابل السيئة بالحسنة لا يغضب، فجعله الله غلاماً حليماً، وسيبشره بعد ذلك بالنبوة والرسالة الخالدة الساندة في سلالته إلى يوم القيامة.
قال ربنا: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات:102]، ومعنى ذلك: أنه استجيب دعاؤه وولد له ولد، وتمت البشارة التي بشره بها ربه، والبشرى تكون بخير في أغلب الكلام وأغلب الأحيان، وقد تكون البشرى بشر، ولكنها تكون إلى الهزل والسخرية أقرب.
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
ولد الولد الذي بشر به، وكبر حتى بلغ مبلغ الرجال الذين يسعون مع آبائهم في معاشهم، يسعون لخدمة دارهم وأهاليهم وأبيهم وأمهم: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات:102]، والسعي في الخدمة وفي الاستزادة منه، والصلاح، قالوا: ولقد كان سنه ثلاثة عشر عاماً، وقال بعضهم: كانت سنه تسعة أعوام، وقال ابن عباس: بلغ أن يصلي ويصوم، أي: قد بلغ، فأصبح مكلفاً كما يكلف الرجال، ونحن في الصحاري في الأرض الحارة وهو هنا نشأ، وهناك نبئ، وهناك حدث ما حدث فيما يقصه الله علينا في هذه البلدة المقدسة الطاهرة عند زمزم والكعبة المشرفة، زادها الله تشريفاً وتكريماً، وبلوغ النساء في البلاد الحارة يكون بين التاسعة والعاشرة، وبلوغ الرجال يكون في العادة بين العاشرة والثانية عشرة، وقد حكى التاريخ عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان بين أبيه وبينه اثنا عشر عاماً، وتزوج صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة أم المؤمنين ودخل بها وهي ابنة تسع فكانت بالغة، تصلي وتصوم، وهذا يدفع الكلام من الكثير من أعداء الله وأعداء رسول الله والمسلمين بأنه تزوج طفلة ليست مطيقة بعد، وليس الأمر كذلك، وهؤلاء يقيسون ذلك على أنفسهم وهم يعيشون في أرض باردة لا يكاد الشاب يبلغ إلا بعد أن يصل ثماني عشرة سنة، ولا تكاد تبلغ البنت حتى تتجاوز السادسة عشرة.
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات:102] لما بلغ سن الثالثة عشرة، وكان يصلي ويصوم، وقد بلغ مبلغ الرجال، رأى إبراهيم رؤيا في منامه، ورؤيا الأنبياء وحي، لأن الشيطان لا أثر له على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولذلك عندما رأى إبراهيم الرؤيا قصها على ولده، وقد بلغ معه السعي، {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102].
فكر معي ما هو رأيك؟ ماذا ترى؟ هل توافق على هذا؟ ومعنى ذلك: أن ولده هذا كان يعلم أن رؤيا الأنبياء حق، فهو يسأل ولده وهو يعلم معنى هذا الكلام، فأنا قد رأيت فماذا ترى؟ وإبراهيم خليل الله الرحمن لا يريد أن ينفذ الأمر بناءً على مشورة ولده، ولكنه يريد أن يطيب خاطره، ويسمع موافقته، وإلا فرؤياه التي هي أمر إلهي لن يتراجع عنها أبداً.
{فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] والرؤية هنا ليست نظر البصر، ولكن نظر الفكر والرأي والبصيرة.
{قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102]؛ لأن هذا الوليد اعتبر ذلك أمراً إلهياً مما يدل على فهمه، وعلى إدراكه، وعلى وعيه في مبتدأ العمر.
{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
قال له: افعل ما تؤمر، اذبح فهذا أمر وأنا أطيق ذلك، وأومن به، وعلق ذلك على المشيئة الإلهية لأنه بلاء عظيم، وهو مصيبة شديدة، ومع ذلك خاف أن يعجز عند التنفيذ وعند الذبح ألا يصبر، فقال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
فبمشيئة الله، وبعون الله ستجدني صابراً على تنفيذ هذا الأمر الإلهي.(262/2)
الأدلة على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق
فمن هذا الوليد؟ ما اسمه؟ فقد كان لإبراهيم ولدان كلاهما نبي كريم: إسماعيل وإسحاق، فمن هو هذا الذي لم يسمه الله في هذه الآية؟ قالت جمهرة من العلماء: إن الذبيح هو إسحاق بن سارة، وهو كلام تلقف من اليهود، وأخذ من كعب الأحبار ولا أصل له، والقرآن محتو على تفسير آياته لمن تمعن وتفكر، والذي يتفكر يجزم أن الذبيح هو إسماعيل، وممن قال هذا القول: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وروي عن ابن عباس خلاف في هذا القول، فروي عنه أنه إسحاق، وروي عنه أنه إسماعيل، وهو رأي جماعة من التابعين كذلك، والأدلة القاطعة على هذا: أولاً: إسماعيل هو الذي كان هنا في مكة، والذبح وقع في منى عند المنحر، وكان ذلك أيضاً وقت الحج عندما ذهب الشيطان في صورة إنسان إلى أمه هاجر، فقال لها: يا هاجر! أين ذهب إبراهيم بابنه إسماعيل؟ قالت: ذهب لحاجته، قال لها: لم يذهب لحاجته وإنما ذهب ليذبحه قالت: لم يذبحه؟ قال: يزعم بأن ربه أمره بذلك فقالت: إن كان ربه أمره فأمر الله لابد أن يطاع وصبر جميل.
فأيس منها فذهب إلى إبراهيم فقال: يا إبراهيم! أين تذهب بولدك؟ قال: لحاجة، قال: بل تريد أن تذبحه، قال: كيف عرفت ذلك؟ قال: أدركت بأنك زعمت أنك رأيت رؤيا بقتله، قال: إن كان ربي أمرني فسأنفذ أمر ربي.
فذهب إلى الوليد فقال: يا إسماعيل! -وكان خلف أبيه- أين أنت ذاهب مع أبيك؟ قال: لحاجتنا.
قال: لا، يريد أن يذبحك قال: لم يذبحني؟ قال: لأنه زعم أنه رأى رؤيا قال: إذا رأى رؤيا وربه أمره فأمر ربنا مطاع.
فذهب إلى أصل الرجم الذي لا نزال نرجمه بالخذف في ذلك الموضع إلى يومنا، فجاء الشيطان وظهر لإبراهيم عند جمرة العقبة، فعندما رآه إبراهيم وإسماعيل قذفاه بسبع حصيات، فذهب إلى الجمرة الوسطى فرمياه وقذفاه بسبع حصيات، فذهب إلى الجمرة الكبرى، فقذفاه ورمياه بسبع حصيات، وكان هذا أصل الرمي، وبقي رمزاً على أن الحاج عندما يأتي عابداً ربه هذه العبادة التي لا تكون واجبة إلا مرة في العمر، فإنه يفعل فيها ما سبق أن فعله إبراهيم الذي بنى الكعبة ومعه ابنه إسماعيل، وهو الذي شرع بأمر ربه الحج ومناسكه، ولكن خزاعة وقريشاً بعد ذلك غيروا وبدلوا، فبقي الحج مغيراً مبدلاً إلى أن أعاده النبي عليه الصلاة والسلام إلى ما كان عليه أيام إبراهيم إلا فيما أمره ربه به من شرائع جديدة فيه.
فكان من ذلك أن الحاج عندما يصل إلى منى، وعندما يصل إلى الجمرات يرمي الجمرات، والرمي: أن يقذف الشيطان بحصوات الخذف، ويرميه كذلك من نفسه، وينبذ وساوسه، ومعنى ذلك: أنه يستعين بالله وهو يرمي بهذه الحجرات، وينوي بما يقذفه من الحصيات أنه لن يطيع الشيطان بعد اليوم في شيء، ولن يخضع لوساوسه، ولن يخضع لفتنته، ولن يخضع لبلواه قط.
وبقي ذلك شرعاً إلى يوم القيامة عندما جاء نبينا عليه الصلاة والسلام فأكد ذلك، وجعله من المناسك.
وفي نفس هذه الآيات سيأتي قول الله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات:112]، فكانت هناك بشرى بولادة الغلام الحليم الذي لم يسم، ثم كانت بشرى بولد آخر وهو إسحاق، وهذه البشرى كانت في الأصل لامرأة إبراهيم سارة، كما في سورة هود في قصة قوم لوط عندما جاءت الملائكة إبراهيم تخبره بما أمرها ربها به بأن تجعل أرض قوم لوط عاليها سافلها عند البحيرة المنتنة من أرض فلسطين، وكانت سارة ترى الملائكة في صورة شباب ذوي نور، فأتاهم بعجل حنيذ مشوي فلم يأكلوا، فنكرهم وبعد ذلك علم أنهم رسل ربه إليه ليخبروه بما أمره به الله من عذاب قوم لوط وجعل أرضهم عاليها سافلها، وامرأته واقفة فضحكت، قال ربنا: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:71 - 73] فهذه البشرى كانت لـ سارة من طريق الملائكة.
وأما إسماعيل فكان بشرى لإبراهيم وليس هو ولد سارة، والبشرى بإسحاق كانت لـ سارة.
{فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71].
أي: أن إسحاق سيلد يعقوب عليهما السلام، إذاً: مع ذلك يؤمر إبراهيم بذبحه فلو ذبح وهو غلام قد بلغ السعي -كما قال ربنا في الآية- فمعنى ذلك: أن ما وعد الله به من أنه سيكون له ولد اسمه يعقوب أن هذا الوعد لا يمكن أن ينفذ، ولا يكون.
قال ربنا جل جلاله عن إسماعيل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54]، وليس لإسحاق وعد، ولكن الوعد كان من إسماعيل عندما قال له أبوه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102]، فوعد أباه بأنه خاضع ومستسلم لقضاء الله وهو يرجو الله أن يصبره.
واستسلم لقضاء الله، وبهذا استحق في هذه الآية أن يشيد الله به، وأن يرفع ذكره وأن يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام مما أصبح وحياً يتلى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54]، ثم إن إسحاق لم يكن إلا نبياً وكان إسماعيل نبياً رسولاً معاً.
كذلك قال الله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:85].
فوصفه الله في هذه الآية بأنه من الصابرين، وهو الذي صبر على الذبح وعلى الاستسلام لقضاء الله، وعلى رؤيا والده، ولم يذكر لإسحاق شيئاً يصبر عليه، ولم يذكر لإسحاق وعداً ينفذه، كل هذا يدل الدلالة القاطعة في نفس القرآن الكريم، وخاصة وقد ذكر الله في الآيات المتتابعة ذكَر الغلام الذي لم يسم وذكر بعده الغلام الثاني واسمه إسحاق وأنه بشِّر به.
وأيضاً: يقول الله هنا: بأن هذا الدعاء من إبراهيم كان عندما أنقذ الله إبراهيم من النمرود وعاد مكره عليه فكان الأحقر، وكان الأذل والأخزى، وأنجى الله إبراهيم فترك البلاد وهو لا يزال يذكر بأنه شاب فتىً عندما جاءوا بالابن ووجدوا أن الأصنام قد كسرت، وأن الفأس وضعت في عنق كبيرهم أخذوا يتساءلون من فعل هذا؟ فقال قائلون: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60] وصفوه بأنه فتى، وبمجرد ما وقع بينه وبينهم محاورة وأخذ وعطاء كما مضى تفصيل ذلك ذهبوا إلى التعصب لآلهتهم بعد أن عجزوا عن الدليل والبرهان: فأرادوا به مكراً يقول ربنا: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70].
فكانوا الذين خسروا، وكانوا الذين جعلوا في الأسفل والأذل والأحقر، وكان إبراهيم الأعلى، بعد هذا مباشرة سلط الله على نمرود ناموسة صغيرة دخلت في أنفه فأخذت تدخل إلى مخه إلى أن أخذ يضرب رأسه بالحجارة إلى أن انفجر رأسه، وتفتت مخه، وذهب إلى نار الجحيم، ثم لم تطل المدة إلى أن ترك البلاد إبراهيم ولا يزال فتى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99].
إذاً: فاليقين أن الذبيح هو إسماعيل كما قطع بهذا ابن كثير وكما قطع بهذا البغوي، وكما قطع به الكثير من المفسرين، وكما قطع به ابن السبكي في رسالته القاطعة يقول: لا يمكن أن يكون حسب سياق القرآن أن الذبيح إلا إسماعيل والأمر هكذا.
أسلم يهودي وحسن إسلامه أيام عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فجلس مرة عند عمر فسأله عمر؟ من الذبيح عندكم: أإسماعيل أو إسحاق؟ قال: يا أمير المؤمنين! أما اليهود فتقول: إسحاق، ولكنها كاذبة حسدت العرب أن يكون جدها هو الذبيح المنوه به في كتاب الله، فغيروا وبدلوا ذلك سواء في التوراة أو الإنجيل وقالوا: إسحاق.
وهذا بسند صحيح إلى عمر بن عبد العزيز، وهذا الذي أشاع بين الصحابة وبين التابعين وبين الكفرة: أن الذبيح إسحاق هو كعب الأحبار ووهب بن منبه، ونوف البكالي وكلهم من أصول يهودية، وبعضهم مشتبه في صدق إسلامه، بل إن كثيراً يروون عن كتبهم أشياء لم تذكر ألبتة، وكعب شكك في صدقه جماعة من كبار الصحابة كـ العباس بن عبد المطلب عم النبي عليه الصلاة والسلام وعمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين وعبد الله بن مسعود ومعاوية بن أبي سفيان.
إذا علمنا هذا والأمر كذلك فالحديث لا يصح سنده وإن كان معناه صحيحاً، وهو أن أحدهم جاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقال: (يا ابن الذبيحين!) فاستجاب له النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه، ولم يستنكر ذلك، وورد عنه أنه قال: (أنا ابن الذبيحين) فهو ابن إسماعيل ابن إبراهيم، والذبيح الثاني: هو أبوه عبد الله بن عبد المطلب.
قالوا: إن عبد المطلب لم يلد له ولد في الأولى فجعل عهداً بينه وبين ربه: أنه إذا ولد له عشرة أولاد أن يذبح أحدهم قرباناً إلى الله، فولد له عشرة أولاد وكان من العشرة: عبد الله والد النبي عليه الصلاة والسلام، فأراد ذبح واحد منهم، فجعل بينهم قرعة، فخرجت القرعة على عبد الله وكان عبد الله أحب أولاده إليه، فأعاد القرعة ففي كل مرة تخرج القرعة على عبد الله، وإذا بـ عبد المطلب يقول له عقلاء من قريش: اد(262/3)
تفسير قوله تعالى: (فلما أسلما وتله للجبين)
قال الله جل جلاله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:103 - 105].
أخذ الولد وقد اتفقا على أن يخضع الولد والوالد للذبح، فلما استسلما لقضاء الله، ناداه الله أن قد صدقت الرؤيا.
قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] أي: أسلما نفسيهما واستسلما لقضاء الله، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] أي: طرحه على جبينه، وكبه على وجهه لكي لا يرى وجهه وعينه عند الذبح فيرحمه، فأراد ذبحه من قفاه، وقد قالوا: إن الولد أخذ يقول له: يا أبت! أخف عينيك وارمني على جبهتي لكي لا ترحمني، ولكي لا أفر، فقال الله جل جلاله: {وَنَادَيْنَاهُ) [الصافات:104]، قالوا: الواو هنا مقحمة صلة، أي: ناديناه في حال أخذه السكين ليذبحه: ((أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105]، قد امتثلت لأمر ربك، وذبحت ولدك، ولكننا لم نفعل، فلا يراد من هذا إلا ابتلاؤك واختبار ولدك.
قالوا: فعندما أخذ السكين ليذبحه إذا بالسكين تذبح عنقاً من نحاس أو حديد، وأخذت السكين تنطوي في يده لم تؤثر ولم تذبح.
ومن هنا يقول علماؤنا: إن السكين لا تذبح إلا بإرادة الله وليس بأثر منها، ولا بطبيعة فيها، وإنما عندها لا بها، وإلا فالحياة بيد الله والممات بيد الله، وإن شاء الله حياة الإنسان فمهما جرى عليه فلن يموت، ونعم الحارس الأجل، فهذه السكين بعد أن براها، وبعد أن جعلها كأنها سيف مهند، وضعها على رقبة ولده، فكأنه يضعها على نحاس أو حديد أو صخر، فلم تذبح ولم تؤثر، وإذا به يناديه ربه: {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105] فأنت ذبحت ولكننا لا نريد ذبحه، ولا نريد موته؛ لأن إسماعيل سيكون من سلالته بعد ذلك محمد سيد البشر وخاتم الأنبياء، ولو ذبح إسماعيل لما كان محمد، ولذلك جعل الله جل جلاله لإسماعيل من المعجزات والآيات الباهرات ما كانت معجزات له، وكانت إرهاصات لما يحمله في صلبه من سيد البشر محمد صلى الله عليه وعلى آله.
قوله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:105] يقال: رؤيا، ورؤية، الرؤية: بالتاء المربوطة رؤية البصر، والرؤيا هكذا بالألف المقصورة تكون للرؤيا المنامية، وكانت الحادثة عند المنحر في منى، ولذلك شرع لنا أن تكون الهدايا والمنحورات هناك، وأن تكون المذبوحات عند منى.
قال تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105] أي: كما أنجينا إبراهيم من ذبحه لولده، وأنجينا إسماعيل، وفرجنا عنهما همهما وكربهما، حيث استسلما لله الواحد الأحد فرضيا بقضاء الله مستسلمين، فكذلك العبد الصالح إذا استسلم لقضاء الله وأمره أنقذه الله في آخر لحظة وفي آخر ساعة، ومن يتق ويصبر فالله جل جلاله يفرج غمه، ويكشف كربه، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وينقذه من عدوه مهما كان، وهذا ما حدث كثيراً للماضين والحاضرين، فقد يأتي البلاء ويحيط بالإنسان فينادي يا رب! فيفرج الله عنه، وكما حصل لأحد الوزراء الطيبين من حكومتنا هنا عندما اختطفت الطائرة وكانوا في مؤتمر بسوريا، وأرادوا ذبحه وقتله، يقول: وقد أعلن ذلك على الملأ، ففكرت وأنا أتلو القرآن ما جرى للنبي الصابر عندما قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين قال: عندما تذكر ذلك وأنه عندما دعا الله وتضرع إليه فرج همه، يقول: ما وجدت أقرب إلى نفسي من هذا، وهو من أدعية تفريج الكروب وزوال الهموم، فما دعا به مكروب إلا وأذهب الله بلاءه واستجاب له ونصره، قال: فأخذت أردد في نفسي: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وعدوه الذي اختطف الطائرة أخذ يحدثه: كيف سأقتلك؟ وكيف سأذبحك؟ وماذا سأصنع بك؟ وإذا بالله ينقذه من حيث لا يحتسب، وهكذا يقول ربنا كذلك: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:104 - 105].
أي: كل من فعل فِعل إبراهيم، وفعل فِعل إسماعيل، فاستسلم لقضاء الله وأمر الله، فإن الله جل جلاله يكشف كربه ويزيل همه، ويرزقه من حيث لا يحتسب، يرزقه النصر ويرزقه النجاة.(262/4)
تفسير قوله تعالى: (إن هذا لهو البلاء المبين)
يقول الله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:106 - 107].
أي: إن هذا لهو البلاء الظاهر، والاختبار البين، فبلاء عظيم أن يؤمر أب بذبح ابنه، ولكن إبراهيم وإسماعيل استسلما لهذا البلاء، فسلم إسماعيل عنقه، وسلم إبراهيم ولده، وذهبا لتنفيذ قضاء الله، ولا يسع المسلم سوى ذلك، فالله جل جلاله يبتلي ويعافي، فقد ابتلى هذين النبيين واختبرهما وبعد أن اختبرهما وجدهما صادقين ومطيعين، فإذا بالسكين لم تؤثر ولم تذبح.
قال ربنا: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107].
ذبح أي: مذبوح، فداه الله بكبش عظيم، قالوا: هذا الكبش هو الذي كان قدمه أحد ابني آدم قرباناً فتقبل منه ولم يتقبل من أخيه في قصة قابيل وهابيل، وإذا بالله الكريم يحييه في الجنة فيرتع في خيراتها وثمارها وفواكهها، فأمر جبريل أن يأتي به من الجنة، ووضعه عند إبراهيم عند جبل كبير، فجرى إليه وأتى به وكان هذا الكبش أبيض أعين ذا قرنين، وهكذا جرت سنة الضحايا، فقد (ضحى رسول الله عليه الصلاة والسلام بكبشين أقرنين أعينين، يأكلان في سواد، وينظران في سواد، ويمشيان في سواد).
(يأكل في سواد) أي: ثغره أسود الشعر، (وينظر في سواد) أي: كان الشعر المحيط بعينيه أسود، (ويمشي في سواد) أي: كانت أرجل هذين الكبشين سوداء الشعر، وأصبحت هذه الصفة في ضحايا العيد أفضلها وأكرمها.
فقد كان هذا الكبش عظيماً سميناً؛ لأنه عاش في الجنة دهراً، وتقبل قرباناً من أحد ابني آدم.
قال تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات:78] يقول ابن عباس: لقد جاء الإسلام وإني لأرى رأس هذا الكبش معلقاً عند ميزاب الكعبة قد يبس ووحش.
ويقول الشعبي: أدركت أنا هذا.
وبقي إلى أن احترقت الكعبة فاحترق الرأس معها.
وجاء الأصمعي إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو! أي الذبيحين في ابني إبراهيم: أإسماعيل أو إسحاق؟ قال: يا أصيمع! أين ذهب عقلك؟ أين كان إسحاق؟ إسحاق لم يأت الحجاز قط، إسحاق كان في أرض كنعان أرض الشام، كان مع أمه، والذي كان في الحجاز، والذي بنى مع أبيه الكعبة، والذي انفرد بذلك وكان أبا العرب بعد ذلك هو إسماعيل.
فإسماعيل هو الذي أريد ذبحه عند منى، ورؤياه كانت هناك، ولذلك بقي هذا الكبش معلقاً في الكعبة مدة هذه القرون إلى أن رآه ابن عباس في صدر الإسلام، وبقي إلى أيام الشعبي وكان في القرن الثالث ورآه، فأين إسحاق من كل هذا؟ إذاً: فالذبيح بالقطع واليقين كما يعبر كثير من الأعلام كـ ابن كثير والبغوي والسدي وآخرون، هو إسماعيل.
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات:78] أي: ترك الذكر الطيب لإبراهيم في الآخرين، وإبراهيم كذلك ممن تؤمن به جميع الأديان وتذكره جميع الأديان -اليهودية والنصرانية والإسلام- بالرضا والسلام، ويصونونه بالاحترام والتقدير، وأكد هذا القرآن فرفع ذكره وأعلى اسمه، حتى إن المجوس تجد أشرافهم وكبارهم بالنسبة لهم يسمونهم: البراهمة؛ نسبة إلى إبراهيم.(262/5)
تفسير قوله تعالى: (سلام على إبراهيم)
قال تعالى: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ} [الصافات:109 - 112]، يسلم الله على إبراهيم، ونحن نسلم مع ربنا، نقول: السلام والصلاة على إبراهيم وولد إبراهيم محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليهم جميعاً وسلم.
قال تعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:110]، الجزاء الأول جزاء المحسنين بإنقاذهم من البلاء ومن الغم ومن الهم، فقد أنقذه الله من الذبح في آخر ساعة، كذلك الذي أحسن الطاعة لربه عبادة وإيماناً به وإيماناً بنبيه، يرفع الله ذكره في الصالحين، ويذكر بالخيرات، كصحابة رسول الله وأئمة شريعتنا، فنحن إذا ذكرنا الصحابة قلنا: رضي الله عنهم، فهذا ذكرهم العالي، وإذا قلنا الإمام مالك أو الإمام الشافعي أو الإمام أبو حنيفة أو الإمام أحمد وأمثالهم قلنا: رحمهم الله، وهم كذلك رفع الله ذكرهم، وكانوا كذلك ممن أحسنوا دينهم، ونشروا الدعوة لربهم، ونشروا شريعة نبيهم صلى الله عليه وعلى آله، فجوزوا جزاء الأولين بالرحمة والرضا، والذكر بالصالحات والطيبات.
قال تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:111]، إن إبراهيم من عباد الله الصادقين الإيمان، الصادقين الإسلام، الذين آمنوا بربهم وآمنوا بأنبيائهم السابقين، وآمن بنفسه نبياً ورسولاً وخليلاً لربه، فالله أشاد به كما أشاد بالأنبياء.
{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112] كان هذا بعد أن بشر بالغلام الحليم الذي هو الذبيح إسماعيل، وكانت البشرى الأولى بطلب إبراهيم عندما دعا ربه، قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]، وكانت البشرى بإسحاق بلا طلب.
جاءت ملائكة الرحمن لتبلغ إبراهيم خليل الله بما سيفعلونه بقوم لوط، وكانت المرأة واقفة فضحكت، وفسروا الضحك هنا بالحيض، ولا حاجة لذلك، بل ضحكت وابتسمت وإذا بالملائكة يتبسمون إليها ويبشرونها، فهي لم تطلب ذلك ولم تدع له، ولم يطلبه إبراهيم قبلها، بدليل أنها تعجبت ولم تكن حينها فيمن يلد، ولم يكن زوجها فيمن ولدوا، فضحكت: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:71 - 72]، فكانت البشرى منحة وكرامة، فقد بشرت سارة لصبرها مع إبراهيم، وما لقيت مع إبراهيم، وكانت قد أسنت وعجزت وكبر زوجها وشاخ، ومع ذلك تفضل الله عليها وأرسل الملائكة تبشرها بإسحاق.
قالوا: وإسحاق ولد بعد أن تجاوز إبراهيم المائة، والقرآن قال: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:72]، والشيخوخة في ذلك العصر تكون أحياناً في المائتين، فقد كانوا يعمرون كثيراً، يعيشون الثلاثة والأربعة من القرون، ونجد هذا لا يزال في التوراة، ولا يزال في الإنجيل، ويؤكد ذلك ويصدقه القرآن، عندما يقص عن نوح: أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فمعنى ذلك بلغ من السنين ما لا يكاد يصل إليه أحد من الأمة المحمدية؛ لأن الأمة المحمدية يقول عنها عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وقليل من يتجاوز ذلك).
{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112] بشره الله بولادته ثم بكبره إلى أن يصبح نبياً، وإلى أن يكون من الصالحين، فإسماعيل أفضل منه، لأنه كان نبياً فقط، أما إسماعيل فكان نبياً رسولاً، والنبي هو عبد لله أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، كذلك كان إسحاق، والرسول هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه.
قال: (مِنَ الصَّالِحِينَ) وكل نبي صالح وكل رسول صالح، ولكن إشادة الله به في كتابه، وإعلاء ذكره، والتنويه به يدل على أنه كان في رفقة من الصالحين.(262/6)
تفسير قوله تعالى: (وباركنا عليه وعلى إسحاق)
قال تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113].
أي: بارك على إبراهيم فجعل جميع الأنبياء بعده من سلالته، وبارك في إسحاق بأن جعل بني إسرائيل من بني إسحاق، ويعقوب هو إسرائيل، وقيل: بل هو إسحاق، كذلك قال ابن مسعود، وهذا مفروغ منه.
وكلهم ينتسبون إلى إبراهيم، ففي الأحاديث الصحيحة المتواترة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب نفسه على المنبر فقال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إلى أن رفع نسبه إلى عدنان، ثم قال فيما بعد عدنان: (كذب النسابون)، وقد ذكر نسب عدنان إلى إبراهيم إلى نوح إلى آدم، ولكن النبي لم يصدقهم، ولكن عاد فقال: (وعدنان هو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، فأنا ابن إسماعيل بن إبراهيم) ولذلك لما أسري به في السماء ليلة المعراج، رأى جده إبراهيم فالنبي ناداه: يا أبت! وإبراهيم قال للنبي: يا بني! وهذا أيضاً من الأحاديث المتواترة الصحيحة، وهذا ليس موضع نزاع.
قوله: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ) على إبراهيم، والبركة: النماء والزيادة، فكان من النماء والزيادة أن إبراهيم كان نبياً رسولاً خليلاً، وكان أحد ولديه نبياً رسولاً، والثاني كان نبياً، ومن سلالتهما كان أنبياء الله جميعاً، أنبياء بني إسرائيل، وسيد الأنبياء رسولنا ونبينا عليه الصلاة والسلام.
(وَعَلَى إِسْحَاقَ) وكذلك إسحاق، فالنماء والبركة في سلالته ذلك.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا) ذرية إسحاق منه إلى عيسى عليه السلام، وذرية إبراهيم إلى إسماعيل، وإلى إسحاق وذريتهما إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال ربنا: (مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) أي: سيكون في سلالة هؤلاء أولاد، لكن منهم محسن، أي: موحد ومؤمن، ومنهم ظالم لنفسه أي: مشرك ظاهر الكفر، فنعوذ بالله من الخذلان، أي: فكما يكون هذا في بني إسرائيل فهو أيضاً في العرب، ولقد أرسل نبينا عليه الصلاة والسلام بجزيرة العرب ثم للعالم كله، وكانوا وثنيين، وكان العالم كذلك، وأهل الكتاب كانوا قد بدلوا وغيروا، وانحرفوا كذلك إلى الكفر والشرك.(262/7)
تفسير قوله تعالى: (ولقد مننا على موسى وهارون)
قال تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الصافات:114 - 118].
امتن جل جلاله وتكرم وتنعم على موسى وهارون، كانت هذه المنة بأن جعل موسى نبياً رسولاً، وبأن جعل هارون نبياً رسولاً، وكان هارون رسولاً نبياً بطلب من أخيه، قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29 - 32]، ولذلك قالوا: لا يوجد أخ في الدنيا قدم لأخيه كما فعله موسى لهارون، طلب له النبوءة والرسالة فاستجاب الله له.
قال: (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) نجاهما الله كما نجى قومهما، وأنقذهم ونصرهم وأذل أعداءهم.
والكرب العظيم: ما عاشه بنو إسرائيل تحت فرعون وهامان من الذل ومن الاستعباد، ومن الاستخدام في أرذل الأعمال، مع الهوان والتحقير والإيذاء والبطش، ومع قتل شبابهم وسبي نسائهم، ولذلك سمى الله ذلك: الكرب العظيم، أي: البلاء والشدة والمصيبة العظيمة، وتنوع العذاب من الخدمة إلى الاستعباد إلى القتل إلى كل ما لا يرضى به إنسان، فهو قد امتن أولاً بالرسالة والنبوة.
ثم قال: (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) نجاهم من فرعون، ونجاهم من هامان، ونجاهم من الأقباط حيث كانوا يظلمون بني إسرائيل، وأنجى قومهما من بني إسرائيل، فأخرج بني إسرائيل من مصر وأخرج معهم جميع أموالهم، ومع ذلك بعد أن أنجاهم الله وأنقذهم أبوا إلا الكفر، فذهبوا يعبدون عجلاً صنعوه من ذهب، وخرجوا على هارون وكادوا يقتلونه، فبقوا في التيه أربعين عاماً.
{وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الصافات:116].
نصر الله موسى وهارون، ونصر قومهما فكانوا هم الغالبين، والمعركة كانت شديدة وكانت حامية بين بني إسرائيل والأقباط، فأذلوا من أذلوا، وقتلوا من قتلوا، وتملكوا من تملكوا، وأخذوا مال من أخذوا، إلى أن أنقذهم الله بنبيين منهم: موسى وهارون، وأنقذ موسى وهارون كذلك من بلاء القبط وفرعون وهامان، إلى أن انتصروا عليهم، وخرجوا من بلادهم وأخذوا أموالهم، وغرق فرعون وجنده أذلاء مقهورين مغلوبين على أمرهم.
ولم يقدر ذلك بنو إسرائيل، بل بعد أشهر ارتد منهم من ارتد، وجاء السامري فجعل لهم عجلاً جسداً له خوار، وقال لبني إسرائيل: هذا إلهكم وإله موسى، وجعل فيه حيلة، فقد ثقب من دبره إلى فيه، ثم وضعه في مجرى الريح والهواء، فصار الهواء كلما دخل من فمه أحدث صوتاً، وحدث هذا لما ذهب موسى للقاء ربه في جبل الطور، وهكذا أصبحوا وثنيين مرة أخرى، فعوقبوا بأن تاهوا في الصحاري أربعين سنة.(262/8)
تفسير سورة الصافات [114 - 132]
من أنواع العلوم التي اشتمل عليها القرآن قصص الأولين مع أنبيائهم، وما فيها من العظة والاعتبار، حيث يقيم الله تعالى الحجة على خلقه بإرسال الرسل، فيصبرون على أقوامهم وما يواجهونهم به من أذى ثم تكون العاقبة لأنبياء الله ومن تبعهم من المؤمنين.(263/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد مننا على موسى وهارون)
قال ربنا جل جلاله: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الصافات:114 - 118].
بعد أن تكلمنا شارحين لقصص الأنبياء السابقين: نوح وإبراهيم عليهما السلام، فالآن ننتقل لقصة موسى وهارون، وقد مضى ذلك في سورة الأنبياء مفصلاً، والله جل جلاله أعاد ذكرها هنا مختصرة وملخصه؛ ذكرى للمؤمنين، وجزاء لمن صنع كما صنع هؤلاء الأقوام في المكر ومحاربة أوليائه.
قال تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات:114].
يذكر الله جل جلاله إفضاله ومنته وتكرمه على موسى وهارون النبيين الكريمين من أنبياء بني إسرائيل حين بعثهما لفرعون وقومه ليدعواهم إلى عبادة الله الواحد، وترك عبادة الأصنام، وإلى ترك قوم موسى وهارون بأن يرسلهم معهما فيخرجوا من ذل وهوان فرعون وقومه، ويذكر الله هذا ممتناً به على هذين النبيين الكريمين، وعلى قومهما كذلك، فيقول: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:114 - 115].
فقد كان من الإفضال والتكريم أن نجى الله موسى وأنقذه، ونجى هارون وأنقذه، ونجى قومهما بني إسرائيل، ونجى الجميع من ذل فرعون وقومه: من استعبادهم، وقتل شبابهم وترك نسائهم، بما لا تكاد تطيقه الجبال من هوانهم عليهم وإذلالهم لهم، فأنجاهم الله وأنقذ النبيين الكريمين وأنقذ قومهما كذلك ونصرهما ونصر قومهما النصر العزيز المؤزر.
فقال ربنا جل جلاله: {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الصافات:116] أي: نصر النبيين الكريمين ونصر قومهما من بني إسرائيل، فاستطاعوا بغلبة الله ونصره ومنه أن ينقذوا من ظلم فرعون وقومه، فأنقذوهم مما كانوا فيه من العبودية، ومن الذل والهوان.
وقد قطع بنو إسرائيل بقيادة موسى وهارون أرض مصر إلى سيناء، إلى ما كانوا يرغبون من الوصول إليه، وتبعهم فرعون وجنده فكانوا من المغرقين، والقصة بتمامها مضت ولكن العبرة فيما ذكر الله في هذه الآيات بأن هذا ليس خاصاً بهم، بل هو عام في من عبد الله ووحده ودعاه جل جلاله بأن ينقذه من ذل وقهر القاهرين، وغلبة الغالبين.
وهكذا نصر الله بني إسرائيل بأن تركوا مصر، وأغرق عدوهم فرعون، وورث بنو إسرائيل جميع أمواله، ولكن مع ذلك فإن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل في تاريخهم القديم والحديث، فما كادوا ينقذون من فرعون حتى عادوا للوثنية فعبدوا العجل واتبعوا السامري، وكان موسى غائباً لميعاد ربه، وقد جعل لهم السامري عجلاً جسداً له خوار من الحلية والذهب، وجعل من دبره إلى فيه فارغاً ونصبه في مجرى الرياح، فكانت إذا جرت الرياح صوّت، فكان يقول لهم: هذا صوت إلهكم، وهذا إلهكم وإله موسى فنسي، فعوقبوا على ذلك بأن تاهوا في أرض سيناء أربعين عاماً، حتى إن موسى لم يصل إلى القدس، بل مات وهو لا يزال في ضواحيها، وقد رآه النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء أن روحه تصلي في قبره، عند الكثيب الأحمر يقول: (لو كنت حاضراً لأريتكم ذلك).
قال تعالى: (وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ) ثم بعد ذلك أنزل الله عليهما كتابه التوراة المستبين الظاهر النير الواضح في معانيه، البين فيما فيه من عقائد التوحيد ومن أحكام الحلال والحرام، ولكنهم مع ذلك أبوا إلا التبديل والتغيير والتحريف، فغيروا كتاب الله المنزل عليهم، غيره الأتباع المؤمنون الذين نافقوا وكذبوا، فجعلوا من أنفسهم من يعبد العجل، وجعلوا من أنفسهم أبناءً لله، كما قال ربنا جل جلاله حاكياً عنهم بعد أن حرفوا وبدلوا وغيروا، قال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فقد كذبوا وفجروا بذلك؛ ولذلك قال الله لنبينا: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18] أي: لو كنتم أحباب الله وأبناءه فلم عذبكم؟ ولم خلدكم في النار؟ وكما قال ربنا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فالشرك لا يغفر والكفر لا يغفر، والردة والجحود والخروج عن توحيد الله وعن الإيمان بأنبياء الله ورسله لا يغفر، ولا يغفر لمشرك قط، ولما كانوا كذلك فهم في النار خالدون وحرم الله الجنة على الكافرين.
فقوله: (وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ) أي: التوراة البين الواضح النير.
قوله: (وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي: هدى موسى وهارون للصراط المستقيم، للطريق الذي لا عوج فيه ولا أمت، هداهم بالأقوال كما هداهم بالأفعال، وهداهم ليدعوا غيرهما لذلك، فقد دعا موسى وهارون قومهما للإيمان بالله الواحد وترك عبادة الأوثان، وترك عبادة الأصنام وكانوا في ذلك من الهادين المهديين ومن الدعاة إلى الله قولاً وعملاً وذلك ما امتن الله به عليهما، ويحرض الله المؤمنين بأن يعملوا بعملهما وأن يدعوا دعوتهما؛ ليجازيهم الله بما جازى به هذين النبيين من نصرهما، ومن إنقاذهما من عدوهما، ومن هدايتها إلى الصراط المستقيم.(263/2)
تفسير قوله تعالى: (وتركنا عليهما في الآخرين)
قال تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:119 - 122] أي: ترك على هذين النبيين ذكراً حسناً، وثناءً عطراً في كتاب الله، فموضع موسى وهارون عند النصارى وعند المسلمين موضع تكريم وثناء وإجلال، وبقي تكريمهما في الكتابين على ما فيهما من تغيير وتبديل، وثبت تكريمهما وإجلالهما في القرآن العظيم المهيمن على ما سبقه من كتب الله.
فقوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ) أي: ترك عليهما في الأجيال اللاحقة بعدهما ذكراً حسناً وثناءً عطراً، وأنهما النبيان الكريمان الصالحان المصلحان، الداعيان إلى الله الهاديان المهديان.
فقوله: (فِي الآخِرِينَ) أي: الذين يأتون بعدهم.
قال تعالى: {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات:120].
فالله جل جلاله سلم على موسى وهارون، وسلام الله رحمته ورضاه ومغفرته تأمين من العذاب والغضب وتأمين من اللعنة والبعد عن الله، فكانا من الآمنين السابقين المرضيين، وكانا من الخالدين في الجنان إلى ما لا نهاية.
وذلك أيضاً أدب لنا، أننا إذا ذكرنا أنبياء الله أن نسلم عليهم وأن نصلي، قال تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59]، فنسلم على نبينا بالدرجة الأولى، ونسلم على إخوانه من أنبياء الله السابقين، ونؤمن بهم أنهم عباد الله المكرمون، وأنهم عباد الله المعصومون، وأنهم أنبياء إلى أقوامهم، نصدقهم في ذلك؛ لأن القرآن أسرد ذلك وهيمن عليه وصدقه.
قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:121].
هذا هو المغزى من العبرة والقصة، أن الله جل وعلا يخبر أنه كما أنقذ موسى وهارون وقومهما عندما عبدا وأطاعا ودعوا قومهما إلى الله ولأن يكونوا مطيعين عابدين مستقيمين صالحين مطيعين، كذلك من آمن إيمانهم واستسلم استسلامهم، وصبر صبرهم يجازيه الله بالنصر وبالتأييد على الأعداء، وبالعاقبة له دون أعدائه.
إنا كذلك كما نصرنا موسى وهارون وقومهما على فرعون وقومه ونجيناهم من عذابهم ومن الكرب العظيم والبلاء والغم الذي كانوا فيه، كذلك من فعل فعلهم وآمن إيمانهم، واهتدى هدايتهم ننقذه وننجيه وننصره، وكذلك تكون العاقبة له.
قوله: {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:122].
أي: إن موسى وهارون كانا من عباد الله المؤمنين بالله رباً، والمؤمنين بأنهما نبيان كريمان، والمؤمنين بالدار الآخرة وبيوم البعث والنشور، إما إلى جنة وإما إلى نار، ولذلك ذكر من القصة جزءاً منها لهذا المعنى.
فكذلك من صنع صنيعهما وآمن إيمانهما، واعتمد على الله اعتمادهما ننجيه وننقذه وننصره، ونخلد اسمه في الخالدين، فيترحم عليه إلى يوم البعث والنشور.(263/3)
تفسير قوله تعالى: (وإن إلياس لمن المرسلين)
ثم عاد ربنا جل جلاله يقص علينا قصة إلياس مختصرة لما يوجد فيها من العبرة، وغالب هذه القصص مطولة وردت في سورة الأنبياء.
قال تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:123 - 126].
يقول الله لنا: كما أن نوحاً وإبراهيم وموسى وهارون أنبياء لله مكرمون، كانوا صادقين عندما جاءوا أقوامهم يدعونهم إلى الله ويقولون لهم: إنا أرسلنا من ربنا إليكم ندعوكم لعبادته وترك الشركاء معه، كذلك إلياس من المرسلين.
يقول الله تعالى: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي: إن إلياس كذلك من رسل الله الذين أرسلهم الله إلى أقوامهم، فقد أرسل الله إلياس إلى قومه طائفة من الناس، قالوا: أرسله إلى قرية بعلبك، ولا تزال آثار هذه القرية وأجزاء منها إلى اليوم، مع أنه قطعت أقطار المسلمين وجزئت أحزاباً وشيعاً وسميت لبنان، وليس كل ذلك إلا أرض الشام، فلبنان وسوريا وفلسطين والأردن والجزء الآخر الذي يحتله إخوة القردة والخنازير كل ذلك أرض الشام، فالاسم سوريا وضع من قبل الأقليات الكافرة بالاتفاق مع المستعمرين، وإلا فسوريا هو اسم روماني، سماها بهذه التسمية هرقل، وذلك حين طرده عمر والصحابة رضوان الله عليهم عندما دخلوا الشام فاتحين، فخرج هرقل ووقف على أبواب الشام وقال: سلام يا سوريا! سلام الأبد، سلام مودع، ومنذ ذلك اليوم أصبحت تسمى بأرض الشام، كما كانت تسمى عند العرب القدامى.
وما لبنان إلا اسم من جبل، وكذلك الأسماء التي وزعت على شيع وأحزاب، كل ذلك جزء من أرض الشام، وجزء من أرض الإسلام، والإسلام لا يعترف إلا بأمة واحدة ودين واحد ونبي واحد ورب واحد، وإنما هذه الأجزاء جاءت بسبب الظالمين السابقين وأعداء الله المستعمرين، وبعلبك وصفوها بأنها قرية في غرب الشام، قالوا: إن إلياس أرسل إليهم، وأكثر الأخبار عن الأنبياء هي أخبار عن بني إسرائيل، لكن لم تصدقه آية قرآنية، فيبقى ذلك كلاماً يقال ولا يعتمد عليه.
وقد كان قوم إلياس يعبدون صنماً اسمه بعل، وقيل: إنه اسم امرأة، وقيل: اسم رجل.
قال إلياس: يا قومنا ألا تخافون الله؟! ألا تتقونه؟! ألا تجعلون وقاية بينكم وبين غضبه وعقابه وعذابه، بأن توحدوا الله، وتؤمنوا به، وتتركوا أوثانكم وأصنامكم، فاتركوها وانبذوها فإنها لا تضر ولا تنفع؛ ولذلك قال لهم: (أَلا تَتَّقُونَ).
وقوله: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا) أي: أتعبدون بعلاً، والدعاء هو العبادة؛ ولذلك ورد في الحديث النبوي: (الدعاء مخ العبادة).
فقوله: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا) أي: أتعبدون هذا الصنم المسمى (بعل)، والبعل في لغة العرب: الزوج.
قال تعالى: (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) أي: وتتركون عبادة أحسن الخالقين، وأحسن هنا بمعنى: حسن، وليست على باب التفضيل الذي يقتضي المشاركة والزيادة، فالبعل صنم لا يضر ولا ينفع ولا يوازن، لا في زيادة ولا في أفضلية، ولكن التعابير العربية كذلك، وبلغة العرب نزل القرآن الكريم وبلهجة قريش خاصة.
فقوله: (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) أي: أتدعون الخالق الحسن الحق، أتتركون الخالق لكم وللبعل، ولكل ما يوجد في الكون، فالكل خلق الله، والكل عبد الله، والكل آت لله عبداً.
قال تعالى: (اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ).
فبأحسن الخالقين هو الله جل جلاله، بل هو القابض المنفرد بالحسن والخلق، والقدرة، والوحدانية، وكل ما يذكر في الأصنام من ضر ونفع إنما هي كذب وزور وأسماء سماها هؤلاء وأخذوها واخترعوها، ما أنزل الله بها من سلطان، فهو يدعوهم إلى ربهم ورب آبائهم الأولين السابقين من آباء وأجداد وأمهات وآباء، فهو ربنا ورب آبائنا وهو رب الخلق كلهم، ورب من في السماوات ومن في الأرض وما بينهما.(263/4)
تفسير قوله تعالى: (فكذبوه فإنهم لمحضرون)
قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:127]: كذبوه ولم يؤمنوا به.
فقوله: (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي: محضرون للعذاب، سيحيون مرة ثانية يوم البعث، ويحاسبون على ما قدمت أيديهم، ويطال حسابهم، ويعذبون في ذلك، ثم يساقون على وجوههم إلى النار وبئس المصير.
قيل: إن إلياس أرسل إلى عشيرته، فآمنوا زمناً وآمن ملكهم، ثم ارتد الملك وارتدت العشيرة، ففر منهم وغاب لمدة أربعين يوماً، ثم عادوا فآمنوا فعاد إليهم ثم ارتدوا، ثم دعا الله أن يخلصه منهم، وأن ينقذه منهم، فقيل له: اركب أي شيء تجده ولا تتهيب، فزعموا أنه رأى فرساً من نار فركبه، فطار به فتحول إنساناً بأجنحة كالملائكة وذهب به إلى السماء، فكان جندياً ملكياً أرضياً سماوياً، وعوض عن يديه بأجنحة من الملائكة، وأنه طال خلوده وتطول حياته إلى ما قبل البعث عندما يفنى الجميع، وزعموا أنه هو والخضر يعيشان في البراري والفيافي، وزعموا أنهما يجتمعان مرة في رمضان في المسجد الحرام، فيشربان من ماء زمزم شربة واحدة تكفيهما لسائر العام، ويلتقيان في موسم الحج عند عرفة.
وزعموا كما زعموا عن الخضر بأن إلياس اجتمع بنبينا عليه الصلاة والسلام، فسلم عليه وعانقه، وأكثر هذه الأخبار إسرائيليات لا تصدق، على أن بعض ذلك تسرب عند أبي عبد الله الحاكم في المستدرك على الصحيحين، وفي سنن البيهقي الكبرى، ولكن الحفاظ قالوا: إن الأسانيد في ذلك غير صحيحة بل هي موضوعة، فلم يصححوا منها شيئاً أبداً.
مع أن الخضر هو نبي من الأنبياء كما هو الصحيح وطالت حياته، واختلفوا في الخضر: هل لا يزال حياً أو قد مات؟ فأكثر المحدثين أنه مات، وأكثر أصحاب الرقائق والآداب أنه حي ولا يزال، وهناك كثير ممن ذكر أنه رآه وأنه اجتمع به، والمحدثون يعتمدون على قول النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال لأصحابه وهو بينهم: (كل من على الأرض إلى مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهرها أحد) قالوا: فكان آخر ذلك هو أبو الطفيل عامر بن واثلة، كان وقت قول النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث ابن عام، ومات في بداية القرن الثاني عند خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
ومن قال: إنه لا يزال حياً، قالوا: إن النبي يتكلم على من يراه الناس ويراهم، وإلا لأدخلنا الملائكة كذلك على أنهم لا يبقون بعد مائة عام، ولأدخلنا الجن وهم يعمرون كذلك، ونحن لا نجزم أننا اجتمعنا بـ الخضر ولا رأيناه، وإن كان بعض مجالسينا ذكروا أنه ذهب من هنا وجاء من هنا، ولكننا نحن لم نره، فعلم ذلك عند ربي في كتاب.
كذلك إلياس ورد أنه أصبح ملكياً إنسياً ذا أجنحة كالملائكة أرضياً سماوياً، وأكثر هذه الروايات عن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه، وعن نوف البكالي وهؤلاء من أصول يهودية، فعندما أسلموا -وبعضهم شك في إسلامهم- ملئوا الكتب شروحاً وتفاسير، بل بعضهم نسب للتوراة ما ليس فيه، واتخذ ذلك سلماً للاختراع والكذب، وقد حرص ابن كثير على أن يترك الإسرائيليات ولا يرويها، فإذا أشار إليها لشهرتها ليكذبها، ومع ذلك جاء من يذكر الإسرائيليات، وهي لا تضر القرآن بشيء؛ لأن تلك الدروس يزعمونها لأنفسهم ولا علاقة للقرآن الكريم بها، والتفاسير مهما كانت مدونة أو منصوصة هي في عهدة أصحابها، إن أصابوا فمن الله، وإن أخطئوا فمن أنفسهم، أقول هذا عن نفسي وأقوله عن أشياخي وعمن سبقهم.
فهي علوم يعلمها الله لمن شاء، فيصيب من يصيب ويخطئ من يخطئ، ولا يتأكد الصواب إلا بوحي أو بإجماع.
فإلياس كان نبياً من الأنبياء عد من الصالحين ورسولاً كريماً، أدى رسالته كما أمر، ثم مات كما مات البشر، أما كونه بقي فتلك روايات إسرائيلية تسللت إلى كتب الحديث، ولكن الحديث أيضاً له أسانيد يروى بها، فأقاويل رسول الله عليه الصلاة والسلام حفظت -ولله الحمد- حفظاً قطعياً يقينياً، فنحن نروي ونقول: حدثنا فلان عن فلان، وقديماً قالوا: من ألف فقد استهدف، فمن أصبح راوياً تؤخذ ترجمته وتحلل عند الأقدمين في حياته: أصادق هو أو كاذب، أمجهول أو معروف، أعالم أو جاهل، أصائب أم يكثر خطؤه وأوهامه، فإن كان شيء من ذلك ينبذ هو وتنبذ جميع رواياته، حتى إن صح شيء منها؛ لاختلاطها بما لا يصح، ويصدر في كتاب كميزان الاعتدال للإمام الذهبي، ولسان الميزان للإمام الحافظ وغيرها ولكن هذين أشهرها، ولسان الميزان في ست مجلدات، وإن كان البعض أدخل لمجرد الكلام فيه، والمحدثون والحفاظ أكدوا وقطعوا بأن هذا الذي قيل في هذا الإمام زور وبهتان ولا حقيقة له ولا برهان عليه، فيكون إنما ذكر ليدافع عما قيل عنه.
والكتاب مفروغ منه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فالله قد تعهد بكتابه، ولم يتعهد بالتوراة الإنجيل، ولكن تعهد بحفظ القرآن، وهذه من المعجزات التي أدركناها وقد جئنا بعد الوحي بألف وأربعمائة عام، فكان ما نتلوه هو ما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون والصالحون من المؤمنين، بغير زيادة ولا نقص، لا في حركات ولا في مدود ولا في وقفات ولا في ترتيب سور ولا في حصر آيات، ولا نقول هذا لوحدنا، وإنما يقوله معنا الكفار كذلك يهوداً ونصارى مؤولين ومعطلين، ولو وجدوا شيئاً ينقص من قدره لقالوه، فكل ما قاله الكفار ورجعوا إليه أنه أعانه عليه قوم آخرون وذلك كذب وبهتان، وإلى الآن لم يقل أحد منهم: إنه زيد أو نقص أو بدل أو غير، أو إن القرآن الذي يتلوه الهنود غير الذي يتلوه المغاربة، وغير الذي يتلوه من في جزيرة العرب، لم يقل هذا لا مؤمن ولا كافر.
فقوله تعالى: (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي: كذبه عشيرته وقومه، ولم يؤمنوا برسالته، فهددهم الله وأنذرهم بأنهم لمحضرون، أي: سيحضرون ويساقون سوقاً إلى عذاب الجحيم وبئس المصير، وستكون عاقبتهم عاقبة الكافرين قبلهم.
قال تعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:128]، أي: إلا من آمن به على قلتهم، هؤلاء الذين أخلصهم الله لعبادته، وزالت شوائب الشرك والنفاق عنهم.
أو عباد الله (المخلصِين) الذين أخلصوا العبادة والتوحيد لله، بغير نفاق ولا مراءاة ولا تسميع.
وقوله: (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع.(263/5)
تفسير قوله تعالى: (وتركنا عليه في الآخرين)
قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات:129 - 130] أي: ترك عليه الذكر الحسن، فقد مضت آلاف السنين ولا يزال إلياس يذكر الذكر الحسن وينوه به، ويصلى عليه ويسلم، كما يصلى على أنبياء الله المكرمين ورسله الصادقين.
قال تعالى: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات:130].
(إِلْ يَاسِينَ) معناها: سلام على ياسين، والعرب تدخل أحياناً الألف واللام على الأعلام، مثل: عباس فتقول: العباس، وأحمد تقول: الأحمد، بشير تقول: البشير، وإلى اليوم يدخل المغاربة على الأعلام الألف واللام، ويقال عليها في النحو العربي: إنها للمح الأصل، فمن سمي ابنه علياً لا يزال يلمح أصلاً، رجاء أن يكون ولده على دين علي شجاعةً وإيماناً وصلاحاً وتقوىً وفصاحةً وبلاغةً، وهكذا يصنعون في الأعلام، وهي لهجة من لهجات العرب قديماً وحديثاً، ونطق بها القرآن، وبعضهم قال هكذا، والعرب كما تقول: (ياسين) تقول: (الياسين) و (إلياسين)، وكما تقول: (إسماعيل) تقول: (إسماعيلن) وتختم الكلمة بالنون، و (ميكائيل): (ميكائيلن) و (إدريس): (إدريسن) أما القراءة التي فيها (آل ياسين)، فالبعض قال: (آل ياسين) أي: من آمن به وأصبح من أهله وأتباعه وشيعته وأنصاره.
فقوله: ((سَلامٌ عَلَى آِلْ يَاسِينَ)) أي: سلام على ياسين وأتباعه وأنصاره من المؤمنين.
وقال القرطبي وابن كثير والبغوي والسيوطي: معنى (آل ياسين): آل النبي عليه الصلاة والسلام، وذهبوا إلى أن ياسين اسم من أسماء رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسبق أن قلنا هذا في تفسير سورة ياسين، فقد قيل عنها الكثير في تفسيرها، وكان مما قيل: إن ياسين اسم من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن ياسين معناها: يا سيد البشر! وليس هناك سيد للبشر إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، فهو سيد الأولين والآخرين، وهو الذي قال عن نفسه كما في الصحيح: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) فإذا كان هو سيد ولد آدم يوم القيامة فهو سيد ولده في الدنيا من باب أولى وأحرى.
فقوله تعالى: (سَلامٌ عَلَى آِل يَاسِينَ) أي: سلام على آل بيت النبوءة رضي الله عنهم، وصلى الله على جدهم وسلم.
وإن كان البغوي قد قال: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من هذه الآيات، ولكن الآخرين قالوا: هذا الكلام خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو مذكور من البداية والنهاية، فمعه الخطاب وإليه يوجه الكلام من الله جل جلاله.(263/6)
تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين)
قال تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:131 - 132].
أي: كما قال ربنا عن الأنبياء السابقين قال عن إلياس، ومن فعل فعله، وصبر صبره، ودعا دعوته، وأطاع طاعته جازاه الله بما جازى به إلياس؛ بخلود ذكره مع الخالدين والثناء عليه مع المؤمنين، وبقاء ذكره في الأجيال الآتية إلى يوم القيامة، والثناء الحسن والإشادة الطيبة.
وكذلك يفعل الله، وقد رأينا هذا، فهؤلاء الأئمة مالك والشافعي والشعبي وسفيان الثوري وغيرهم من المجتهدين ليسوا رسلاً ولا أنبياء، ولكنهم كانوا خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبيه، فدعوا الخلق والبشر إلى نشر العلم والتعلم والطاعة والتمسك بالإيمان، وكانوا من المسلمين المؤمنين، فجوزوا بما جازى الله به الأنبياء السابقين، فترك لهم ذكراً في الصالحين، فخلدوا مع الخالدين، فكلما ذكر واحد منهم يذكر بالثناء والإشادة والترحم، ومن هنا يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
فهؤلاء الأئمة نشروا العلم وتنقل هذا العلم من تلاميذهم إلى تلاميذهم، ومن مؤلفاتهم إلى القارئين لها والدارسين فيها، وخلدوا بخلود ذلك، فكانوا من المحسنين الذين ترك الله لهم ذكراً في العالمين.
وكما ينص ربنا هنا عن كل نبي من هؤلاء الأنبياء فإنه قال: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي: كذلك إلياس كان من عباد الله المؤمنين بربهم، والمؤمنين برسله وكتبه، والأنبياء يرسلون إلى أنفسهم قبل أن يرسلوا إلى قومهم.
يخبر الله سبحانه نبينا عليه الصلاة والسلام، ويخبرنا معه أن نعطي كل ذي حق حقه، فإذا ذكرنا أنبياء الله احترمناهم وقدسناهم وصلينا عليهم، ولن نترك أحداً يذكرهم بسوء، بل نجعلهم القدوة والأسوة، قال تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وما ذكرهم الله جل جلاله إلا ليكونوا منا مكان الأسوة والقدوة والإمامة، وقد ذكرهم سبحانه تنويهاً بهم، وإشادة لهم؛ وليصلى عليهم، وليدعى لهم في الآخرين، ولا يزال هذا منذ حياتهم إلى عصرنا وإلى ما بعد عصرنا إلى يوم القيامة.
وقد قيل: إن إلياس من بني إسرائيل، وليس ذلك مؤكداً، ولوط ليس من أنبياء بني إسرائيل؛ لأن إسرائيل هو يعقوب، ولوط ابن أخي إبراهيم، وكان في حياته وآمن به، ثم أرسل إلى قبائل سدوم -قبائل في فلسطين- فكان نبياً في حياة عمه إبراهيم ورسولاً.
قال تعالى: (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي: من المرسلين إلى أقوامهم، وكل الأنبياء السابقين إنما بعثوا إلى عشائر من أقوامهم فقط، فليس منهم نبي عالمي إلا نبينا خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.
ولذلك فديننا هو الوحيد الذي يوصف بأنه دين العالمين، وأما الأديان الأخرى فهي أديان قومية، وكل ما وصف به في هذا العصر بأن اليهودية ديانة عالمية، والنصرانية كذلك فهو كذب وبهتان، فنكذبه ويكذبه التوراة والإنجيل قبل القرآن ويكذبه النبي عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (كان الأنبياء قبلي يبعثون إلى أقوامهم خاصة، وبعثت إلى الناس كافة).
وفي الإنجيل يقول عيسى: أرسلت إلى خراف بني إسرائيل، الخراف الضالة، والقرآن يؤكد هذا: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف:6]، فعيسى ليس رسولاً إلا إلى بني إسرائيل، ومن آمن به من غير اليهود فقد آمنوا بشيء لم يطلب منهم، ولم يؤمروا به.
وهؤلاء القوم أمر الله نبيه لوطاً بأن يعظهم ويخوفهم وينذرهم، فما زادوا إلا عتواً، حتى بلغ بهم الأمر أن جاء إليه ملائكة على صورة شباب مرد يخبرونه عن أمر الله بأن يترك البلدة، وأنه سيصيبهم جميعاً الخسف من الأرض، والرجم من السماء، وأن يتركهم من الآن فيخرج مع أهله، إلا امرأته فإنها كانت تبلغ قومه عندما يأتيه أحد من هؤلاء الشباب، وكانت كافرة ومجرمة كقومها، فعاقبها الله بعقابهم.(263/7)
تفسير سورة الصافات [133 - 144]
من رسل الله المكرمين سيدنا لوط عليه السلام، وقد دعا قومه إلى ترك الفاحشة فكذبوه وأرادوا إخراجه، فأنجاه الله ومن آمن معه ثم دمر الكافرين.(264/1)
تفسير قوله تعالى: (وإن لوطاً لمن المرسلين)
قال تعالى: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} [الصافات:133 - 134].
أي: أهله وأتباعه من المؤمنين الذين آمنوا به، وأما امرأته فهي التي استثنى الله في قوله: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الصافات:135] أي: فيمن غبر ممن هلك من قومه، وممن لم يؤمن به من عشيرته ممن حق عليه كلمة العذاب.
وعندما أرسل الله جبريل حمل الأرض بما عليها فصعد بها إلى أن سمع أصوات نهيق الحمر ونباح الكلاب في السماء الأولى، ثم جعل عاليها سافلها فتدهدهت، ثم أرسل عليهم حجارة من سجين، فلم يبق فيها حي يتحرك، ولا نفس يتردد؛ ولذلك يمتن الله عليه وعلى عباده المؤمنين، لما أنقذهم من ذلك العذاب فقال تعالى: ((إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ)) أي: جميع من آمن به، وجميع أهله الذين أطاعوه وآمنوا به كذلك.
قال تعالى: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الصافات:135] أي: إلا امرأة عجوزاً كانت تجسس على ضيوفه وتبلغ قومها بذلك، فهذه غبرت في الهالكين، ورجمت مع المرجومين، ولعنت مع الملعونين؛ لأنه ليس هناك تقوى، وليس هناك صلاح، وهذا ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام في بداية دعوته، حيث قال: يا آل فلان! يا آل فلان! يا فاطمة إني لا أغني عنك من الله شيئاً، ثم حذرهم أن يأتي الناس بالدين وبالصلاة وهم يأتون بالأحساب والأنساب! أما المؤمن الصالح من أهل البيت فالحسنة بحسنتين وأما الظالم الفاجر فالسيئة بسيئتين، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30]، {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32] ثم جعل الله الحسنة بالحسنتين لمن انقاد له وأطاعه.
قال تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} [الصافات:136]، أي: هؤلاء الكافرون والمفسدون من أهل هذه الفاحشة دمرهم الله جميعاً، وأهلكهم بأشد أنواع الهلاك، والتدمير: هو الإهلاك المفني، والقضاء المبرم.
قوله: ((ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ)) أي: الآخرين من غير المؤمنين، والآخرين من أهله الذين لم يؤمنوا به، ومنهم هذه العجوز التي هلكت في الغابرين.(264/2)
تفسير قوله تعالى: (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين)
ثم يقول ربنا جل جلاله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} [الصافات:137].
فأنتم ترونهم رأي العين، وأرضهم هي البحر الميت في الأردن وفلسطين، وهذه هي الأرض الميتة في ذلك الوقت إلى الآن، فلا يعيش فيها شيء، وليس فيها حياة لا أسماك ولا هوام، ورائحتها منتنة قذرة من ذلك الوقت، فقد أصابها من السماء من عذاب الله ما جعل ماءها عقيماً ميتاً لا يصلح للحياة، فالماء لا يصلح لشيء: لا يشرب منه الإنسان ولا الدواب، تلك البقعة هي التي سلط الله عليها ما سلط، ولا تزال تسمى: البحيرة الميتة والبحر الميت، والبحيرة المنتنة والبحر المنتن القذر ذو الروائح الكريهة، وكان ذلك في أرض سدوم وقبائلهم.
وقد زعم ملاحدة كفار ممن لا يؤمنون بالله أن الأولين عرفوا القنبلة الذرية، فجاءوا إلى هذه البقعة وأخذوا منها تراباً وأحجاراً وحللوها كيميائياً، فوجدوا فيها مادة الذرة، قالوا: وهذا دليل على أن الذرة قد عرفت عند الأولين، فالذي خلق الذرة في عصرنا هو الذي خلقها في الأول، فالله هو الذي عنده أنواع التدمير والإهلاك لمن كفر وأشرك به جل جلاله، وعنده أنواع النعيم لمن آمن به واتقى.
قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ} [الصافات:137 - 138] والخطاب للعرب، حيث كانوا يمرون للتجارة في تلك الأوقات من الليل والنهار.
وهذه الديار مقصودة في الحج، فيأتيها المسلم مرة في العمر، ويستحب أن يحج مرة في كل خمس سنوات، فالأغلب من هؤلاء الحجاج أنهم يمرون على أرض الأردن، وكل من يمر من هناك إلى اليوم يرى هذه البحيرة الميتة التي لا حياة فيها، ولا هوام فيها، ولا يستفاد منها بشيء، والعرب كانت لهم رحلتان، فكانوا يمرون عليها صباحاً ومساءً، فيرون آثار هذا التدمير السابق، ولعل اليوم في عصرنا الحديث إذا أرادوا أن يحفروا حفريات ويبحثوا عن الآثار يجدون من آثار حضارة هؤلاء بعض أوانيهم وألبستهم وعظامهم النخرة، وبعض الأشياء التي كانوا يعيشون عليها.
وهنا يخاطبهم الله بما ترى أعينهم، فقال: ((وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ)) أي: على مكان هؤلاء القوم، وصدق ربنا جل جلاله {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137 - 138].
والخطاب للمشركين، فهل لهم من عقل يفكرون به؟ وهل لهم من عقل يتدبرون به أن الذي أصابهم هو من خلقهم، ورفع السماوات، وبسط الأرض، وأنبت ما أنبت، فمن أتى بهذا الماء؟ من خلقني؟ من أحياني؟ من جعل لي حياة وروحاً أتحرك بها، لابد أن يشغلوا عقولهم ليفكروا ساعة أفلا يعقلون؟ ولو كانوا يعقلون لما أشركوا، ولذلك فالمشركون كلهم سواء حتى من ادعى العلم أو الفلسفة أو المعرفة، فماداموا مشركين بالله فهم كما وصفهم القرآن كالأنعام بل هم أضل، فالدواب نستفيد من بطونها ولحومها، ونستفيد من ظهورها، ونستفيد من بعضها شرباً وحليباً، وتحملنا إلى أقاصي الدنيا، أما هؤلاء المشركون الذين هم أضل لا فائدة من حياتهم، لا نستفيد منهم إلا الضرر، والجناية ونشر الكفر، فوجودهم في باطن الأرض خير من وجودهم في ظاهرها، ولا ينشأ عنهم إلا الضرر.(264/3)
قصة يونس عليه السلام
قال تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:139 - 142].
هذه قصة يونس بن متى، وقد مضى بعضها في سورة الأنبياء وسورة يونس، وقال عليه الصلاة والسلام عن يونس: (لا تفضلوني على يونس بن متى) كما في الصحيح.
وبعضهم ذكر بأن متى أبوه والبعض ذكروا أن متى أمه، ولا قطع في ذلك.
ولم قال: لا تفضلوني على يونس بن متى؟ إن نبينا عليه الصلاة والسلام لما عرج به إلى سدرة المنتهى، وتجاوز السماوات السبع، حيث وقف جبريل وتقدم محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وهناك ذكر الله ووحده، وما زاغ البصر وما طغى، وأتى بفريضة الصلاة، فمحمد عليه الصلاة والسلام ذكر الله في أعلى عليين، ويونس ذكره في أسفل السافلين في عمق البحار.
ولكن ذكر الله هو ذكر الله سواء كان في الأعالي أو كان في الأسافل، قدرة الله جل جلاله وإرادته وأمره ونهيه عم الكون كله، وكما قال ربنا: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، وما أحلى كون يونس بن متى ذكر الله في قعر البحار وكون النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في سدرة المنتهى الذكر ذكر النبوة، والرسالة الرسالة، والنبي محمد هو أفضل الخلق أنبياء ومرسلين، ملائكة وجناً وآدميين، وقد قال تعالى في هذا المعنى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253]، مثل موسى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]، وأجمعوا على أن الذي رفعه الدرجات هو محمد صلى الله عليه وعلى آله، وهو ما أكده النبي وأكده القرآن بذكر حديث الشفاعة في اليوم المشهود العظيم، يوم يطلب من الأنبياء كلهم من آدم إلى عيسى الشفاعة، ويقول كل واحد منهم: نفسي نفسي! اذهبوا إلى عيسى اذهبوا إلى محمد، فيأتون إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله، فيقول: أنا لها أنا لها.
قال تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:139 - 140].
يونس كذلك زعموا بأنه من أنبياء بني إسرائيل من سلالة هارون، ولا تأكيد على ذلك من آية ولا من حديث، هو نبي من أنبياء الله، أرسله الله لأهل نينوى في أرض العراق، أرسله كما سيقول: {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ} [الصافات:147] فيزيدون ببضع آلاف، فكان يونس نبيهم ورسولهم.
قال تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:139 - 140].
أي: إذ فر وأبق عن ربه، ويقال: آبق للعبد عندما يفر عن سيده، وقد فر يونس عن سيده وربه جل جلاله.
قوله: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي: لاذ مسرعاً إلى الفلك أي: السفينة.
قال تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141].
ركب السفينة، وإذا بالسفينة تتلاعب بها الأمواج، وكادت أن تغرق، فقال ربان السفينة: السفينة تحمل أكثر من قدرها، وأكثر مما ينبغي أن تحمل، لابد أن نرمي بعضكم في البحر لينجو البقية، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، فأخذوا يقرعون بينهم، فتخرج القرعة على يونس بن متى.
يقول الله جل جلاله في الآيات السابقة: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:98].
يونس أرسل إلى مائة ألف من سكان نينوى كفروا به، وجحدوا دينه، ورفضوا رسالته، فأنذرهم ثلاثة أيام إن لم يؤمنوا سيدمر الله عليهم الأرض، ويفعل بهم كما فعل بقوم لوط، فصبر اليوم الأول، واليوم الثاني، وبداية اليوم الثالث قبل تمامه تركهم وذهب، فإذا به يسمع أن قومه لم يهلكوا ولم يدمروا، فغضب وذهب فاراً إلى السفينة، ليترك البلاد، والسبب في رفع العذاب عنهم أنهم اجتمعوا جميعاً في اليوم الثالث وجمعوا حيواناتهم، وفصلوا الأولاد عن الأمهات، وصغار الدواب عن كبارها، فخرجوا إلى الصحراء، ورفعوا أيديهم يدعون الله، يا ألله! نحن نازلون بك، كافر بكل شريك سواك، لا نؤمن إلا بك، عدنا عن كفرنا، ورجعنا إليك تائبين مستغفرين، فاغفر لنا ذنوبنا، فالله عفا عنهم وتاب عليهم وعاشوا بعد ذلك.
وإذا بيونس لما سمع الخبر أنهم نجوا، ولم يسمع أنهم دعوا ولا أنهم تابوا، فقال: قد كذبني ربي، وأخجلني أمام قبيلتي، أمام قوم ضلوا وأضلوا وأشركوا، ففر هارباً من الله إلى أين؟ هل هناك فرار من الله؟ فوجد سفينة على البحر فركبها، فإذا بالعقوبة تأتيه في البحر، السفينة دخلت داخل البحر وتلاطمت الأمواج، وكادت أن تغرق، وإذا بربان السفينة يقول: السفينة مثقلة بأكثر مما يلزم، لابد من أن يرمى أحدكم في البحر أو جماعة، قالوا: إذاً نعمل قرعة، قال تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] أي: قارع.
والقرعة أن تأتي بسهام فتقول: هذه لفلان وهذه على فلان، فمن خرج سهمه فإما أن يكون من الهالكين أو يكون من الباقين في السفينة، فهم جعلوا قرعة، فمن وقعت عليه القرعة يرمى في البحر، فعندما ساهموا خرجت القرعة على يونس، فقام ربان السفينة وركابهم، وقالوا: لا يرمى يونس، فأعادوها ثانية، فخرجت القرعة عليه، قالوا: لا يرمى يونس، فخرجت الثالثة، فقذف يونس نفسه في البحر، وينتظر أن ينقذوه، وإذا بالله يأمر حوتاً كبيراً من حوت البحر، فيقف إلى جانب السفينة؛ فلما رمى نفسه إذا بالحوت يلتقمه.
وقال الله في الحوت: جعلتك مسكناً له، لا تهشم له عظماً، ولا تأكل له لحماً، فذهب به إلى قعر البحار.
قال تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:139 - 140]، هرب من ربه إلى السفينة فساهم، ولبلاغة القرآن وفصاحته يحذف الكلام المقدر، فلم يقل: فتساهموا وتنازعوا وقال الربان، ولكن يفهم من الكلام ذلك، أن السفينة كانت موقرة ومشحونة بأكثر من اللازم (فساهم) أي: كانت بالسهام والقرعة، والقرعة لا تزال في شريعتنا المحمدية، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً جعل قرعة بين نسائه من التي تخرج معه، ومرة أوصى رجل بعتق عبيده الستة ولم يكن يملك سواهم، والوصية لا تجوز بأكثر من الثلث، فأقرع النبي صلى الله عليه وسلم بين الستة، فاسترق أربعة، وأعتق اثنين، وقد استعمل القرعة مرات عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: ((فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)) أي: من الذين قهروا وغلبوا، فقذف نفسه في البحر، فتلقاه هذا الحوت.
قال الله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144].
أي فلولا أن يونس عندما شعر بالحياة بعد أن ظن أنه مات، وإذا به يحرك يده فوجدها تتحرك، ويحرك رجله وإذا بها تتحرك، فقال: إذاً أنا حي- صار يضرع إلى الله ويناجي ربه، وذلك ما قاله الله في آيات سابقة: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88] شعر بأنه حي في داخل الحوت، فنادى في الظلمات، وما هي الظلمات؟ ظلمات الليل، وظلمات بطن الحوت، وظلمات قعر البحر، فهي ظلمات ثلاث، عندما شعر بالحياة نادى وضرع إلى الله.(264/4)
تفسير سورة الصافات [139 - 148]
من الرسل الذين تؤخذ من قصصهم العبرة سيدنا يونس بن متى عليه السلام فإن في قصته مع قومه وخروجه عنهم مغاضباً والتقام الحوت له عبراً تفيد الداعية إلى الله.(265/1)
تفسير قوله تعالى: (وإن يونس لمن المرسلين)
قال الله جل جلاله: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:139 - 144].
يقول ربنا في قصة يونس: وإن يونس كذلك من المرسلين، فيؤكد ذلك بلام الابتداء للتأكيد، وقد أرسل إلى قرية نينوى في أرض العراق، إلى مائة ألف أو يزيدون كما يقول ربنا، وقد آمنت به هذه العشائر بعد أن تركها مغضباً، ولم يشعر بذلك حتى ذهب إلى السفينة ليتركهم ويغيب عنهم.
قال تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:139 - 140] أي: إذ فر من قومه إلى الفلك المشحون، والفلك: سفينة البحر، وهي لفظة تدل على المفرد وعلى المثنى وعلى الجمع، تقول عن السفن: فلك، وعن السفينة الواحدة: فلك، وعن السفينتين: فلك، فإذا أردت أن تميز مفرداً عن جماعة فتغير اللفظ وتقول: سفينة وسفينتان وسفن.
قال تعالى: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء:87] أي: إذ فر من قومه، ولم فر من قومه؟ لقد بقي بينهم شهراً وهو يدعوهم إلى الإسلام وهم يأبون إلا الكفر، ويأبون إلا الشرك، فأنذرهم وتهددهم أنهم بعد ثلاثة أيام سيهلكون لا محالة، فانتظر اليوم الأول وانتظر اليوم الثاني وانتظر الثالث في بدايته، وقبل تمام اليوم الثالث ذهب غاضباً عليهم فاراً منهم، فذهب إلى شاطئ البحر الأخضر -كما قالوا- فوجد سفينة فركبها.
قال تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:139 - 140] أي: المثقل الذي يحمل أكثر مما يجب، الذي أثقل بالراكبين وبسلعهم.
{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] فركب السفينة فلما كانت في عرض البحار وبين الأمواج تتلاطم صاح ربانها بأنها توشك على الغرق، وأنها تحمل أكثر مما يلزم، ولابد أن يلقي ببعض الركاب وإلا ضاع الكل وغرقت السفينة بهم، فقال الربان: لابد من المساهمة ومن القرعة.
فأتوا بالسهام: وهي جمع سهم.
والقرعة: أن يؤتى بهذه السهام فتكتب عليها الأسماء، فيحمل كل واحد منهم سهماً، فمن خرج اسمه وجبت عليه القرعة، فقالوا: لابد من إغراق واحد.
فضربوا السهام، وإذا بالسهم يخرج ليونس، فرفض الربان وأهل السفينة أن يلقوه في البحر؛ فهم يعرفونه وكان مشهوراً بينهم، فأعادوا القرعة فخرجت عليه ثانية فامتنعوا، وفي الثالثة لم ينتظر حتى يمتنعوا وإنما حمل نفسه ورمى بها في البحر، وإذا بالله الكريم يأمر نوناً كبيراً أي: حوتاً فيلتقطه ويلتقمه فيبتلعه في بطنه، ويأمر الحوت بأنه ليس له طعام، ولكنه مقيم إلى حين، وأمره بألا يكسر له عظماً وبألا يمضغ له لحماً، والحوت عبد الله فاستجاب لأمر الله.
قال تعالى: ((فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ))، وكان ربان السفينة يقول قبل ذلك: إن في السفينة لآبقاً، إن فيها لفاراً من مولاه وسيده، وإذا بيونس يقول: أنا الفار من ربه، أنا الهارب منه، فيقولون له: لا يا نبي الله! أنت النبي الصالح الصديق، ومع ذلك خرجت القرعة عليه أولاً وثانياً وثالثاً، فقذف نفسه في البحر، فالتقمه الحوت وبقي في بطنه زمناً.
قال تعالى: ((فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ)) أخذه بلقمة واحدة، وكان الحوت كبيراً جداً، وذهب يطوف به في البحار، وإذا بيونس يشعر بأن يده تحركت، وأن رجله تحركت، فقال: أأنا حي؟ وإذا به يجد نفسه حياً، فاستغرب من ذلك.
قال تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}، أي: ارتكب ما يلام عليه، وهو أنه غضب على قومه فما كان ينبغي له ذلك، بل كان ينبغي أن ينتظر تمام الثلاثة أيام، وبعد ذلك ينظر في أمره وأمرهم، ولكنه غضب وفر، فما تركه الله جل جلاله إلا بعد أن أدبه، فأغرقه في البحر نتيجة قرعة ومساهمة، والقرعة كذلك مشروعة في ديننا الإسلامي، ولكن ليس على هذه الطريقة، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزاة وأراد أن تخرج معه بعض نسائه من أمهات المؤمنين يقارع بينهن، ومن خرج عليها السهم أخذها معه، وأوصى مرة رجل بجميع ماله بعد موته، وكان ماله بعد أن مات ستة أعبد فأخبر بذلك عليه الصلاة والسلام، فأقرع بينهم وأعتق اثنين.
ولا تكون القرعة في إلقاء الإنسان في البحر، وإنما كانت جائزة في دين يونس، فلعل هذا شيئاً كان خاصاً بيونس تأديباً من الله جل جلاله وتربية له؛ لكي يصبر على دعوة قومه ولا يقنط ولا يكل ولا يمل.
قال تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:142 - 144].
فالله هو الذي يعاقب ويغفر، يعفو ويصفح، يعطي ويمنع، يقول: لولا أنه سبح الله ومجد الله ونزه الله وهو في بطن الحوت لبقي إلى يوم البعث، ولجعل له قبراً أبد الآبدين، ولبعث من بطنه، ولكن يونس ما إن شعر بأنه حي حتى أخذ يسبح الله، ويستغفر الله، ويتوب إلى الله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} أي: قبل أن يقذف في البحر، وقبل أن يلتقمه الحوت، فهو كان في حياته عابداً لله مصلياً مسبحاً ممجداً معظماً، فهذا من باب قول النبي عليه الصلاة والسلام: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
فالمؤمن العابد ينبغي أن يكون مع الله في الرخاء كما يكون في الشدة، أما أن يكون عند الراحة تاركاً للعبادة وللصلاة وللصيام وللتسبيح والتمجيد حتى إذا ابتلي بالشدة ذكر ربه وأخذ يقول: يا رب! فهذا متلاعب مخادع.
وقالوا: إن الملائكة سمعت صوتاً بعيداً من أرض غريبة، فقالوا: يا ربنا! إننا نسمع صوتاً بعيداً من أرض غريبة، فمن هو يا ربنا! قال: ألا تعرفونه؟ قالوا: لا، قال: هو عبدي يونس، قد غرق والتقمه الحوت، قالوا: يا ربنا! إننا نشفع فيه، فطالما وصلك من عبادته ومن تسبيحه ومن ذكره ومن عبادته في ساعة الرخاء فاقبل دعاءه واقبل تسبيحه وهو في هذه الشدة فقبل الله شفاعة ملائكته فيه.
وهناك آية فسرت هذا التسبيح وبينته ووضحته، قال ربنا جل جلاله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
والنون، اسم يطلق على الحيتان، فبعدما ازدرده الحوت أخذ ينادي في الظلمات ويتضرع إلى الله وينادي ربه، وكانت الظلمات ثلاثاً: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت: ((فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) لا إله سواك يا رب! ((سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) يسبحه وينزهه ويمجده، أنت الموصوف بكل كمال، والمنزه عن كل نقص، أعترف بجرمي وظلمي، يقول الله: ((فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)) أي: أجبنا دعوته وأزلنا غمه، وأخرجناه من باطن الحوت، ونبذناه من اليم إلى البر.
قال ربنا: ((وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ))، وليس هذا خاصاً بيونس، وهذه هي ثمرة القصص القرآنية: لتتخذ أسوة وقدوة وليعمل الإنسان بعمله، حتى إذا فعلوا ما يلامون عليه فينبغي لهم أن يستغفروا الله كما استغفر يونس عليه السلام، ليكرمهم الله وينقذهم مما هم فيه من الكرب والمحن، ولذلك قال: ((وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)).
وهذا الذي قاله يونس وهو في بطن الحوت ورد عن غير واحد من الصحابة في الصحيحين والسنن: أن من دعا الله تعالى بهذا الدعاء -دعاء يونس- في قعر البحر في باطن الحوت لا ترد له دعوة، وأن هذا هو اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب.
ومن مثيلات هذه القصة: قصة أولئك الثلاثة أيضاً الذين قص رسول الله صلى الله عليه وسلم قصتهم علينا فقال: (كان فيمن مضى قبلكم ثلاثة من الناس نزلت بهم أمطار فلجئوا إلى غار في جبل، فانحدرت عليهم صخرة فأطبقت الغار، فاجتمع الثلاثة وقالوا: ما بقي لنا الآن إلا الرجوع إلى الله، فدعا كل واحد منهم بأخلص عمل عمله تجاه ربه، وفي كل دعاء تنزاح الصخرة قليلاً حتى انفرجت وخرجوا يمشون).(265/2)
تفسير قوله تعالى: (فنبذناه بالعراء وهو سقيم)
يقول ربنا: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات:145].
أي: عندما استجاب الله له وأنجاه من هذا الكرب طرحه على شاطئ البحر في العراء، أي: في الأرض الخالية العارية عن السكان، نبذه في الصحراء، أو في هذه الشواطئ الرملية أو الصخرية.
قال: ((وَهُوَ سَقِيمٌ)) أي: مريض، وقد قالوا: كان هش اللحم والعظام كالفرخ لا شعر فيه ولا ريش، وكان كالشيخ الهرم الذي تجاوز المائة من السنين، وكانت الثياب قد ذهبت، وقد حدد بعضهم مدة مقامه في بطن الحوت بثلاث ليال، وبعضهم قال: من الصباح إلى المساء، وقال البعض: سبعة أيام، وكل هذه أقاويل، وما أظن إلا أنه أقام زمناً طويلاً؛ لأن الله قال: ((فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ)) ولا يمرض ولا يسقم ولا يهش لحمه وعظمه إلا من مكث في بطن الحوت زمناً طويلاً بمنطق العقل، فهو مريض لا يستطيع أن يتحرك، ولا أن يخدم نفسه، ولا أن ينفعها بشيء، ولا أن يتكلم، ولربما لو فطنت له الهوام لأهلكته.
قال تعالى: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات:146].
هنا أخذ الله يرحمه ويرعاه، فأنبت عليه كما أنبت على نبينا في غار ثور، فقد أنبت على نبينا عليه الصلاة والسلام خيط العنكبوت الذي ظلل عنه، وبنى عشاً للطير هناك، قالوا: وكذلك نبتت شجرة من اليقطين وهو الدباء بإجماع المفسرين، والدباء كان عزيزاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أنس كما في الصحيحين: (كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يتتبع الدباء في جنبات القصعة)، والدباء صالحة للمعدة صالحة للتغذية، فالذباب لا يقف عليها، والحشرات لا تقطنها، وتؤكل نيئة وتؤكل مطبوخة، وتؤكل صغيرة وتؤكل كبيرة، وتسمى في المغرب: القرع الشريفة؛ لأنها شرفت بحب رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ}، وشجر اليقطين أوراقه واسعة رطبة، فستر بها عورته واستظل تحتها، قالوا: وسخر الله له معزة برية، فكانت تأتيه صباحاً مساء تفتح رجليها وهي مملوءة حليباً فيرضع كفايته، ثم تعود إليه مساء فيرضع كفايته، وهكذا إلى أن قوي واشتد لحمه وقوي عظمه، وعندها يبست شجرة اليقطين فبكى، فقال الله: أتبكي على شجرة أمرها يسير، ولا تبكي على مائة ألف آمنوا بك وأردت أن تهلكهم في ساعة.(265/3)
تفسير قوله تعالى: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون)
قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، أي: بعثه نبياً رسولاً إلى مائة ألف إنسان من الذكور والإناث: ((أَوْ يَزِيدُونَ))، و (أو) هنا بمعنى: بل، أي: بل يزيدون، قالوا: عشرة آلاف، وقيل: بل عشرون ألفاً.
وهنا اختلف المفسرون: هل أرسل في هؤلاء إلا بعد أن خرج من قعر البحر أم قبل ذلك؟ قال البعض: بعد ذلك، وقال البعض: قبل ذلك، وقال البعض: أرسل إلى عشيرتين وقبيلتين، بعض أولئك كان قبل أن يلقى في البحر، وبعضهم كان بعد خروجه، أما من يقول: لم يكن رسولاً إلا بعد خروجه من بطن الحوت فكلام الله يرده؛ لأن الله قال عنه: ((أَبَقَ)) أي: فر، وقال عنه: ((وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا)) فهو كان رسولاً قبل أن يلتقمه الحوت حسب السياق القرآني.
وقال تعالى في آية أخرى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:98].
أي: فلولا كانت قرية ممن أرسل إليهم الرسل آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس آمنوا جميعهم ولم يتأخر منهم أحد، وإن كانوا في آخر ساعة، بعد أن هددهم نبيهم أن العذاب محيط بهم وبوجودهم، فهددهم وأنذرهم ثلاثة أيام، فمضى اليوم الأول، وأخذت الناس غشية، وفي اليوم الثاني زاد، وفي بداية الثالث أخذت تصيب الناس آلام وأوجاع، وإذا بهم يجتمعون، ويخرجون إلى صحراء بلدتهم بنسائهم وأطفالهم ودوابهم، ففرقوا الأولاد عن الأمهات سواء من الإنس أو من الحيوان، فكانت تصيح، وأخذوا هم يصيحون فاستجاب الله لهم، وهذا الذي لم يعرفه يونس إلا بعد أن أنقذ من الغم ومن الكرب، وبعد أن خرج من البحر ذهب إلى قومه وإذا بهم جميعاً مسلمون، وقالوا: بينا هو في الطريق إليهم وهو يفكر: ماذا سأقول لهم؟ وقد شعرت عندهم أني كذاب مع دعواي النبوءة ودعواي الرسالة، وأنكم ستبتلون بعد ثلاثة أيام ولم يحصل شيء، وإذا بغلام وقف عند رأسه فنظر إليه وصوب النظر، قال: أنت يونس؟ فقال: أنا يونس، فقال: اذهب إلى ملك قومك وقل لهم: رأيت يونس فإن كذبوك، فقل لهم كذا وكذا وأعطاه أمارة، فوجدهم مؤمنين، قال تعالى: {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:148] أي: آمنوا جميعاً بالله رباً، فمتعهم الله بالحياة وبالعافية إلى حين، أي: إلى حين آجالهم، إلى حين موتهم، كما يموت كل حي.(265/4)
تفسير سورة الصافات [149 - 173]
يتفنن الكفار في كفرهم حسب اختلاف عقولهم، فاليهود يقولون عزير ابن الله والنصارى قالوا عيسى ابن الله، وجاء المشركون فقالوا الملائكة بنات الله، وجعلوا بين ربهم وبين الجنة نسباً، ففند الله دعواهم ونزه نفسه عن ذلك.(266/1)
تفسير قوله تعالى: (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون)
ثم قال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات:149 - 150].
الله يقول: سل يا محمد! من يعبد الجن والملائكة ويقول: هم بنات الله، لماذا اختاروا الأولاد وتركوا البنات لربهم؟ {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59].
كان الواحد منهم إذا بشر بالأنثى اختفى واستحيا من الناس، وهم في هذه الحالة يفضلون أن يخفوها عن الناس أو يدفنوها حية، وقد كانوا يفعلون ذلك، وليسوا وحدهم بل العالم كله إلى عصرنا، ففي كل يوم تنشر الجرائد عن أوروبا وعن أمريكا وعن اليابان وعن جميع بلاد الكفر: أن النساء يقتلن أطفالهن لتبقى البنت أو لتبقى الشابة في نظرها خفيفة نشيطة لا تترهل بطنها، حتى إن نظام تلك الدول يسمح بالإجهاض وهكذا دواليك، وهذا هو فعل أسلافهم من الكفار والمشركين.
قوله: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات:150] أي: أم أنهم كانوا حاضرين عندما خلقنا الملائكة؟! فهذا استفهام استنكاري، فهم حتى في شركهم كذابون غشاشون.(266/2)
تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم من إفكهم ليقولون)
يقول الله عنهم: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات:151 - 152].
الإفك: هو أشد الكذب، فيقولون لكذبهم وإفكهم: {وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، فالله هو الخالق وليس بالوالد، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]، وأكرم من ذلك، وأشرف من ذلك، فيرث عباده ولا يرثونه، وهو يخلق الوالد والولد، لكن هؤلاء يهرفون بما لا يعرفون، ويكذبون على أنفسهم وعلى الله.(266/3)
تفسير قوله تعالى: (أصطفى البنات على البنين)
{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الصافات:153 - 155].
((أَصْطَفَى)) أي: أأصطفى، حذفت إحدى الهمزتين للتخفيف، أي: أأصطفى البنات على البنين، والاصطفاء بمعنى: الاختيار.
{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:154] أليست لكم عقول؟! أليست لكم أذهان؟! أليس لكم إدراك ووعي؟ من أين لكم هذا؟ ومن الذي أخبركم به؟ كيف تحكمون بأن البنات لله سبحانه، وأن الأولاد لكم؟ سبحان الله عما يقولون! {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الصافات:155] استفهام تقريري، أي: ينبغي لكم عندما يخطر هذا ببالكم أو تسمعونه من كافر لا يؤمن بالله أن تتفكروا في أنفسكم: من أين للقائل بهذا ما قاله؟ هل له سلطان من دليل أو حجة أو عقل أو نقل؟ بل هو الكذب والكفر والعياذ بالله.
وزعمهم أن الملائكة بنات الله وهم لم يروا ملكاً، ولكن هذا الكلام سمعوه عن أب أو عن جد فاجر فاستمسكوا به، وأشركوا مع الله ملائكته، وقالوا: هم بنات الله، فكذبوا على الله فقالوا: له بنات، وقالوا: له ولد، وكلهم قال: له صاحبة، وبعضهم قال: من الجن، وبعضهم قال: من الإنس، والكذب كثير والعقول السخيفة الضائعة الضالة أكثر.
{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:156 - 157] أي: فائتوا بهذا الكتاب الذي تزعمون أنه منزل على نبي لكم، وهذا أمر تعجيزي تقريعي توبيخي، أي: لا شيء من ذلك.
والنتيجة: أن كل هذا كذب وهراء، وكله لا أصل له ولا حقيقة، فمن يؤمن به إنما يؤمن بالأكاذيب والأضاليل، وإنما يضل عن الهدى أيصبح من المشركين عن جهل وغواية وتقليد لآباء جاهلين ضالين مضلين.(266/4)
تفسير قوله تعالى: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً)
يقول تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:158 - 160].
(وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً) هذه طائفة أخرى من الكذبة، فقد سُئلوا عندما قالوا: إن الملائكة بنات الله، فقيل لهم: ومن أمهم؟ قالوا: أخذ من بنات كبار الجن، فالجن أصهاره، وهذا معنى قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات:158] والجنة: جمع الجن.
وزعم أقوام أن معنى قوله: (الجنة) أي: الملائكة؛ لأن الجن من الاجتنان، وهو التستر، فهم لا يظهرون على البشر، وهم لا يعرفون إلا بالسماع والرواية، فهم جن بالنسبة للبشر، أي: مستورون.
وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه بعض الضالين، وقال لهم: إن كان لله بنات وهم الملائكة، فمن أمهم؟ قالوا: أخذ من سيدات الجن، تعالى الله عما قالوا علوا كبيراً، ولولا أن الله ذكر هذا في كتابه لما أعدناه ولما نطقنا به، ولكن القرآن لقوة دليله وقوة برهانه، وفرضيته على الخلق بالمنطق والبرهان فإنه يقول ويذكر كل ما قاله الكافرون.
والنصارى جعلت عيسى ابن الله، ومريم صاحبة الله، واليهود: جعلوا العزير ابن الله، وعبدوا العجل شريكاً مع الله، وآخرون وآخرون من مشارق الأرض ومغاربها فالبراهمة والمجوس وغيرهم.
قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، فالشيء الذي خلقه الله للإنسان وشرفه على الخليقة وملكه به على الأرض هو ملكه لعقله ولقلبه ولوعيه ولبصره ولسمعه، فإن كان هذا البصر لا يبصر، وهذا القلب لا يفقه، وهذه الأذن لا تسمع فهم دواب، بل هم أقبح أنواع الدواب، بل قد تكون الدواب أشرف منهم.
ولذلك من سوى الإنسان المسلم حيوان أعجمي حتى وإن وصف بأعظم الصفات من ملك وعلم، ورئاسة وقوة وفلسفة وما إلى ذلك من الهراء والباطل؛ لأن الذي ينكر موجد نفسه وموجد هذا الخلق يكون إنساناً لا عقل له، ويكون دابة تمشي على رجلين، وعوضاً عن أن يحمل اسم دابة حمل اسم إنسان خطأً.
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158]، يقول الله عن هؤلاء: إن كفرهم أصبح من كفر الجن ومن كفر إبليس؛ لأن إبليس وجنده من الجن يعلمون: أن الله قد أنذر إبليس اليوم الأول عندما تكبر على الله وامتنع من أن يسجد لآدم.
{إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158] أي: محضرون إلى العذاب، وإلى جنهم، يسحبون إليها على وجوههم، وعلى جباههم.
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:159]، يسبح الله نفسه، ويمجد نفسه، وقد سبح نفسه بعد ذكر انتقاص الكافرين له بأن قالوا: إن بينه وبين الجنة نسباً، أي: سبحان الله، ننزه الله عن هذا، ونمجده عن هذا، ونخذل ونلعن قائليه ونجعلهم من الكفرة الذين هم خالدون في النار أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
قال ربنا: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:160]، هذا استثناء من المحضرين إلى النار.
فـ {سُبْحَانَ اللَّهِ} [الصافات:159] جملة اعتراضية ذكرت للتعظيم وللتمجيد، وهي كلمة ذكرت فرادى.
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:160] إلا عباد الله من الجن فإن فيهم مؤمناً وفيهم كافراً أيضاً، وسورة الجن في القرآن معلومة، ومسجد الجن في هذه البلدة المقدسة معلوم، وفيه كان الوحي، وفيه نزلت السورة: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] فآمنوا وعاشوا مؤمنين، كالإنس.
قال ربنا جل جلاله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فخلق الجن للعبادة، وخلق الإنس للعبادة، فكلاهما عابدون وموحدون ومؤمنون، فالله قال عن الجن: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158]، يعلمون أنهم محضرون إلى النار، وأنهم يساقون إليها قهراً وجبراً إلا المؤمن منهم، وكما قال: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:160] أي: المخلصين لله، الذين أزال شوائب الكفر منهم.
وقرئ في الروايات السبع (مخلصين) أي أخلصوا عبادتهم ودينهم وطاعتهم لله.(266/5)
تفسير قوله تعالى: (فإنكم وما تعبدون)
قال تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:161 - 163].
يقول ربنا لهؤلاء وأمثالهم من المشركين ومن عبد حجراً، ومن عبد ملكاً ومن عبد جناً، ومن عبد إنساناً، يقول الله لهم: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:161 - 163].
أي: أنتم وما تعبدون سواء كان جناً، أو كان ملكاً أو كان إنساناً، ما أنتم على ضلالتكم وعلى كفركم بفاتنين أي: بضالين ومضلين، {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:163]، إلا من سبق في علم الله أن مصيره ومآله الجحيم وأن يحترق بها، وأن يصلاها، وأن يحترق في جميع أجزاء بدنه وخلاياه، أي: لن يضلوا إلا من كان مؤهلاً للضلالة، ومن كان قلبه فاسداً مريضاً، فهو يحتاج إلى من يذكره وإلى من يعيذه من كفره، فهو لا يكاد يسمع كلمة الكفر إلا ويتعلق ويتشبث بها، ويصبح من الدعاة لها.
{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:161 - 163].
أي: أنتم وما تعبدون لن تضلوا ولن تفتنوا لا أنتم ولا معبودوكم أحداً إلا من كان على استعداد للضلال، وكانت قلوبهم فاسدة وكان مهيئاً ومعداً للكفر، وقد سبق في علم الله أنه صال الجحيم وأنه محترق فيها وداخل فيها.(266/6)
تفسير قوله تعالى: (وما منا إلا له مقام معلوم)
قال تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:164 - 166].
يقول هذا ملائكة الله متبرئين من عبدتهم المشركين الذين قالوا إنهم بنات لله، وحاشا الله من ذلك، وحاشا الملائكة كذلك من مثل هذا الكفر، فالملائكة متبرئون من كفر الكافرين.
{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164] أي: لا يوجد أحد منا معاشر الملائكة إلا وله ومقام ورتبة من العبادة لله: بين قائم وساجد وذاكر وعابد، ومكلف بالموتى، ومكلف بزرع الحياة، ومكلف بأهل الجحيم، ومكلف بأهل النار، وهم جند لله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
فجبريل كبير الملائكة ورسول الله إلى رسل الله من البشر، وإسرافيل المكلف بالنفخ في الصور، وعزرائيل المكلف بقبض الأرواح، وكما أن البشر لهم رتب في الحياة بين مالك وعابد ورسول ونبي فكذلك الملائكة، على أنهم جميعاً لا يأكلون ولا يشربون ومعصومون من الذنوب والخطايا، والعبادة عندهم كالنفس للبشر، فالإنسان إذا انقطع نفسه مات، والملك إذا انقطع عن الذكر مات، فهو لا يحيا إلا بالذكر.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:165 - 166].
أي: صافون للعبادة، فهم يصطفون في السماء الدنيا وفي السماوات وحيث كانوا من كون الله أرضاً أو سماءً يصطفون للصلاة والعبادة بين قائم وراكع، وبين ساجد وتالٍ، وبين ذاكر ومنفذ للأمر، يسبحون الله، ويذكرون الله، ويقولون: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وكل يسبح الله بذكر من أذكاره جلاله.
وعن نبي الله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون: أطت السماء وحق لها تئط)، أي: صوتت بما تحمل من ثقل من الملائكة، وكما يصوت السقف المصنوع من خشب، تجد له صوتاً وحركة لثقل ما عليه: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (صفوا كما تصف الملائكة -أي: في الصلاة- فقالوا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة؟ قال: يتقدمون إلى الصفوف المتقدمة -أو يتمون الصفوف المتقدمة- ويتراصون في الصف) بمعنى: أن الملائكة يصطفوا صفاً واحداً، ثم الثاني ثم الثالث، فمن كان في الثاني والثالث ورأى فرجة فعليه أن يملأها ويتقدم إليها إلى أن تتم، وإذا اصطفوا يقفون متراصين، الكتف إلى الكتف، والكعب إلى الكعب.
وأما المصلون بالمسجد الحرام فحكمهم آخر؛ لأن القبلة فيه مكعبة، فتجد المصلين يحيطون بالكعبة من جميع الاتجاهات ومع ذلك يمكن للناس أن يصفوا محيطين بالكعبة صفاً فصفاً.(266/7)
تفسير قوله تعالى: (وإن كانوا ليقولون)
{وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الصافات:167 - 170].
كان العرب يقولون: لو أنزل علينا نبي لكنا عابدين مخلصين مطيعين، وقال الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن عندنا ذكراً من الأولين، ولو نزل علينا ذكر، ولو نزل علينا رسول، أو كتاب يأتينا بأخبار الأولين، أو بما كان عليه الأولون أقوام نوح وعاد وصالح وأنبياء بني إسرائيل.
{لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:169]، أي: لعبدنا الله عبادة خالصة، ولأخلصنا العبادة له، ولوحدناه ولتركنا الشركاء والأعوان وما وجدنا عليه آباءنا.
فيقول الله مكذباً لهم: {فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الصافات:170].
أي: فكفروا بالذكر لما جاءهم، والذكر هو: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم، فقد جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به، وكذبوا ما كانوا يزعمونه قبل، وأنزل عليهم الكتاب وهو القرآن الكريم، ومع ذلك كذبوا به، وقالوا عنه: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103]، وقالوا عنه كذباً: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان:4]، وهم يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم عاش بينهم أربعين عاماً لم يقرأ في كتاب، ولم يخط بقلم، وكان صادقاً مصدقاً، وكان الأمين المؤتمن، فلم يعلموا عليه كذباً وتبعات، وبعد أن بلغ الأربعين ودخل في سن الرجولة، بل بداية الكهولة تقريباً وهو لم يكذب على الناس كذبة واحدة، أيكذب على الله؟! ولكنها عقول ذاهبة ضائعة، فزالت منهم عقولهم قبل أن تذهب أديانهم.
فعندما جاءهم ما كانوا يتمنون وما كانوا يرجعون إذا بهم بعد هذا يكذبونه ويكذبون بالذكر لما جاءهم.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الصافات:170] فتهددهم الله وأنذرهم بأنهم سيعلمون نتيجة كذبهم، وسيعلمون عاقبة أمرهم، جزاء وفاقاً لتكذيبهم لكتاب الله، ولرسول الله، ولإصرارهم على الشرك والكفر.
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
كلمة الله هي: أمره ونهيه، فإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، وكان الكون من الله قوله.
وهو الذي كتبه وقدره وسبق في علمه وفي قضائه وفي اللوح المحفوظ: أن الأنبياء والرسل هم المنصورون، فينصرهم الله على أعدائهم، ويذل الله أعداءهم، تكون العاقبة لهم.
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:171]، فمهما عارضوهم أو غالطوهم ومهما اغتم الصالحون وكربوا من أجلهم، فإن العاقبة والنصر في النهاية لهم، وقد قال الحسن البصري سيد التابعين: ما قتل رسول قط.
وقد قتل أنبياء -قتلهم اليهود- لم يذكر الله أسماءهم، ولكن عيسى الرسول لم يقتلوه، وقد زعموا ذلك ولكن الله كذبهم بقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157].
فسبق في علم الله وفي اللوح المحفوظ: أن أنبياءه ورسله هم المنصورون مهما حوربوا ومهما قوتلوا، فإنهم في النهاية سيكون النصر لهم.
ونحن نرى هذا في السيرة النبوية العطرة، فطالما لقي منهم النبي صلى الله عليه وسلم الشدائد، وقالوا عنه ما قالوا، وقاطعوه هجروا قوله وبيعته ومعاملته، وأذلوا قومه، وقتلوا من قتلوا، ولكن النهاية كانت له، فانتصر عليهم نصراً عزيزاً مؤزراً، فخرج من مكة عن غير رضا منه ثم عاد إليها وهو العزيز المظفر المنتصر، عاد إليها وهو يقول: (الحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، فهو يرجع كل شيء لربه، وهكذا كانت حال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو داخل مكة بعد سنوات من الهجران والمقاطعة من الكفار، ومن المعرضين عنه.(266/8)
تفسير سورة الصافات [171 - 182]
أرسل الله الرسل حجة على خلقه مبشرين ومنذرين، فمن آمن فلنفسه، ومن كفر فعليها، وقد لاقى رسل الله من المكذبين الجحود والاستكبار والاضطهاد والأذى، ولكن الله كتب أن رسله هم المنصورون وأن جنده هم الغالبون ولو بعد حين.(267/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين)
يقول تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ * وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الصافات:171 - 176].
يذكر جل جلاله بعد أن قص علينا ما عاقب به أولئك الجاحدين الكافرين المكذبين بالرسل وبرسالاتهم، وبالكتب المنزلة عليهم، يذكر ربنا: أنه سبق في علمه، وسبق في قضائه، وسبق في اللوح المحفوظ: أن عباده المرسلين هم المنصورون، {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:172 - 173].
وسبق في علم الله أن العاقبة للمتقين، والنصر للمرسلين، والهزيمة للكافرين.
(سبقت كلمتنا) كلمة الله: هي أمره وإرادته، وكان ذلك في قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] (كتب الله) أي: فرض الله، كتب في اللوح المحفوظ بأن المرسلين الذين يرسلهم من عباده الصالحين مهما قاومهم أعداؤهم ومهما قاومهم الكفرة الجاحدون، فالنصر في الأخير لهم، والكلمة الحقة لهم.
وهكذا عندما قص الله علينا عن قوم هود، وقوم نوح، وقوم ثمود، وقوم صالح، وجميع أولئك، كان النصر بعد ذلك لنوح، وكان لهود، وكان لصالح، وكان لموسى وهارون، وكان لإبراهيم.
وهنا سؤال مهم: يقول: الحسن البصري: ما سبق أن قتل رسول من رسل الله، تصديقاً لقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصافات:171 - 172].
السؤال
هل هناك تعارض بين هذا الكلام وبين مقتل يحيى وزكريا؟
الجواب
لا يوجد تعارض؛ فالله تعالى لم يقل: (الأنبياء) ولكن قال: (المرسلين) وهم الذين يحادهم أعداؤهم المرسلون إليهم، وهم الذين أمروا بأن يبلغوا رسالة الله بين قوم جاهلين، وبين قوم وثنيين، وهم الذين يكون بينهم وبينهم أخذ وعطاء، وحرب وقتال.
وأما الأنبياء فليسوا كذلك: فالنبي لم يؤمر برسالة يؤديها لغيره، وإنما هو عبد لله أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول: عبد أوحي إليه برسالة ليبينها للناس.
فالرسول من قبل الله برسالته وبدينه وبكتابه هو الذي يحتاج إلى كفاح وإلى أخذ وعطاء، وإلى حرب تكون تارة له وتارة عليه، وتكون الحرب سجال: فيوم له ويوم عليه، ولكن الغاية والنتيجة تكون للرسول، والنصر له لا لأولئك الأعداء.
قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصافات:172]، والنبي لا يحارب ولا يقاوم؛ لأنه لم يكلف بالبلاغ، لم يكلف برسالة، لم يكلف بكتاب، وعلى ذلك فليس هو في حرب، فإن قتلوا فذلك من الظلم، وهذا شأن اليهود أعداء الله في عصورهم السابقة واللاحقة، فقد حاولوا قتل عيسى، وحاولوا صلبه، ولكن الله أنقذه منهم: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، لكن النصارى واليهود في الأرض قبلوا هذا الكذب، وهذا الإفك، كما كذب من زعم صلبه وقتله.
وحاولوا قتل نبينا عليه الصلاة والسلام وسمموه، وبقي ثلاثة أعوام منذ غزوة خيبر وهو يقول: (لا تزال أكلة خيبر تعاودني حتى قطعت أبهري)، جاءته امرأة يهودية وقدمت له طعاماً وسممت الذراع لعلمها أنه يحبه عليه الصلاة والسلام، وكان معه صحابيان، فمات الصحابيان من حينهما، والنبي رفع يديه من اللقمة الأولى عليه الصلاة والسلام وقال: (لقد أخبرتني هذه الذراع بأنها مسمومة)، ولكن السم سرى في جنبه وبقي يتأثر به ثلاث سنوات متصلة؛ ولذلك كانت تقول السيدة عائشة: جمع الله لرسوله عليه الصلاة والسلام بين الشهادة والموت على فراشه.
ومرة وهو في حصن من حصونهم، حمل أحد اليهود صخرة وأراد أن يرميها على رأسه عليه الصلاة والسلام، ولكن مع ذلك نصره الله عليهم، كما نصر رسله السابقين، وهذا مصداق قوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصافات:172]، أي: على أعدائهم، منصورون بالدليل، ومنصورون بالبرهان، ومنصورون بالحجة، ومنصورون بالحرب والقتال، والعاقبة لهم، والعقاب المبين لأعدائهم: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:172 - 173].
والجند: المجاهدون في سبيله من المهتدين بكتاب الله، فهؤلاء هم الغالبون لأعدائهم، هم المفضلون في رسالاتهم، بالمعنى والحس، بدليل وبرهان وحجة، فالنهاية والعاقبة دائماً لهم مهما أوذوا وحوربوا.
وهكذا عندما نتتبع سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، في حربه معهم، سواء في مكة بلدته ومسقط رأسه الشريف، أو عندما انتقل إلى المدينة، وسواء عندما حاربهم وحاربوه، هاجمهم وهاجموه، بعض المعارك كانت على المسلمين، وبعضها كانت لهم، وكانت العاقبة في النهاية له، وكانت المعركة الفاصلة هي معركة بدر، حيث أذل أعداءه، وقتل زعماءهم، وأسر كفارهم، إلى أن دخل مكة منتصراً مظفراً، وهم يرتل نشيد الفتح: (الحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده).(267/2)
تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم حتى حين)
يقول الله له: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ * وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات:174 - 175].
أي: فأعرض عن هؤلاء الذين واجهوك وحاربوك، وقالوا عن رسالتك، وقالوا عن الكتاب الذي أنزل عليك ما قالوه من الكذب، ومن الإفك، ومن البهتان، أعرض عن هؤلاء، تولّ عنهم (حتى حين) أي: إلى زمن لاحق، إلى نصرك المؤزر عليهم كما حدث في غزوة بدر.
(إلى حين) أي: حين هلاكهم، وأسرهم، وموتهم، وإراحة الله لك منهم ومن وجودهم، وكان هذا قبل فرض القتال، ولا ننسى أن السورة مكية، والحرب والقتال لم يشرع بعد في مكة، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (صبراً آل ياسر! إن موعدكم الجنة)، فقد كانوا يربون على المقاومة، يلحون على الكفاح والمحاربة والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لهم: صبراً صبراً.
وهذا مما يؤكد أن الإسلام انتشر باللسان وانتشر بالدليل والبرهان، لا كما زعم الكفرة الجاحدون، ولا كما زعم الجهلة من أفراخهم وتلاميذهم، والدارسين عليهم، وكما قال زعيم من زعماء الكفر -والحق ما شهدت به الأعداء- وكان من المنصفين: من زعم بأن محمداً نشر إسلامه بالسيف فقد كذب.
فلم يخرج بين الأمم والشعوب والسيف بيده يقتل هذا ويؤدب هذا والناس مستسلمون له، ولم يكن هذا من طبيعة حياته، ولم يذكر هذا في سير الأنبياء، ولم يذكر هذا عن قادة الأفكار والآراء والرسالات، هذا كذب عقلاً وواقعاً، فقد عاش النبي عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاماً، لم يحمل سيفاً ولا عصاً، بل كان يقاوم ولا يقاوم، ويقاوم أصحابه ولا يقاومونه، هجروه وقاطعوه ثلاث سنوات متتالية، حتى كان أصحابه يأكلون ورق الشجر.
شتموا وسبوا، لعنوا وضربوا بالحجارة، كذبوا وتآمروا، قتلوا وعذبوا، حتى قتلوا سمية تحت السياط في شدة حر مكة، ومع ذلك يمرون على عمار وعلى أبيه ياسر، وعلى أمه سمية وهم يعذبون ليرتدوا عن دينهم، وتأبى أم عمار، ويمر على بلال وهو يعذب، يقولون له: أشرك بالله واكفر بمحمد، فلا يقول إلا: أحد أحد! وظفر مسيلمة برسول رسول الله فكان يقول له: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع، فيقول له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم، فقال له: تجيب عندما تسمع محمداً وتصم أذنك عن سماعي فقتله.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم والرسل أجمعون نشروا دينهم بالحجة والبيان قبل السيف والسنان.(267/3)
تفسير قوله تعالى: (وأبصرهم فسوف يبصرون)
قال تعالى: {وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات:175].
أي: أبصر عذابهم وترقب، فسينتقم الله لك وينصرك عليهم كما نصر إخوانك الأنبياء السابقين، فترقب عذابهم، وترقب بلاءهم، وستبصر ذلك بعينيك وسيبصرون كذلك ما ينكرونه، وسيرون العذاب محيطاً بهم، وسيرون أنفسهم مشردين أسرى، بين قتيل وجريح وطريح، إلى أن تفتح مكة وتعلن فيها كلمة الله كما كان ذلك أيام إسماعيل رسول الله، وأبيه إبراهيم رسول الله وخليله.
فقوله: {وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات:175]، السين وسوف: للمستقبل وللتربص، (السين): للتقريب، و (سوف): للانتظار البعيد، وقد رأوا ذلك بعد سنوات من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، ثم لم يقل رسول الله: بل الرفيق الأعلى حتى كان الإسلام قد وطد أركانه وثبت أوتاده، وعلمه الجاهل قبل أن يعلمه العالم.
وما كاد عليه الصلاة والسلام يذهب إلى الرفيق الأعلى حتى خرج الأصحاب في خلافة أبي بكر بداية، ثم في خلافة عمر نهاية، من الجزيرة ناشرين دين الله في مشارق الأرض ومغاربها، وما كادت تتم خمسون سنة من نزول الوحي حتى كان الإسلام قد عم المشارق والمغارب، ودخل أوروبا وفرنسا، وهو شيء لم يشهد نظيره التاريخ، وبقي الناس في عجب وإلى يومنا هذا كيف انتصر الإسلام بهذه السرعة مع وجود دولتين عظيمتين عاصرتا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكذلك عاصرتا أبا بكر وعمر، حتى أصبحتا ولاية إسلامية يحكمها المسلمون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا فارس بعد فارس، ولا كسرى بعد كسرى)، وكان ذلك من معجزات المصطفى صلى الله عليه وسلم وإخباره بالغيب.
بل طرد الروم من المشارق إلى أوروبا، إلى أن أخرجوا في القرن الثاني من القسطنطينية، وأصبحت تسمى: دار الإسلام أو (استانبول)، وبقيت على الإسلام إلى يومنا هذا، وقد حاول أن ينصرها من ينصرها من اليهود ومن الصليبيين، ولكن مع ذلك أبت إلا العودة إلى الإسلام.(267/4)
تفسير قوله تعالى: (أفبعذابنا يستعجلون)
قال تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الصافات:176].
أي: أنظرهم الله وإذا بهم يستعجلون العذاب فلم يريدوا انتظاره إلى زمن معين ووقت محدد، بل قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32].
استعجلوا العذاب واستعجلوا البلايا، ولكن الله لا يعجل بعجلة أحد، فجاء الوقت المحدد المسمى عند ربنا فأهلكوا، ودمروا وطردوا، وكان القضاء عليهم، وأصبحت جزيرة العرب كلها دار إسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لقد يئس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب بعد هذا اليوم).
ثم بشر عليه الصلاة والسلام بأنها ستفيض بحار الدعوة إلى الله في سبيل الله، وفي سبيل نشر الإسلام، فبشر بفتح المغرب وفارس، وبفتح الشام واليمن، وبفتح مصر والعراق، وما مضى خمسون عاماً من تاريخ الزمان حتى تحقق كل هذا، ودخل الناس في دين الله وعبادته، وفيمن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
يقول ربنا جل جلاله: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:177].
أي: إذا نزل عذابنا بساحتهم، بحضرتهم، بأقوامهم، يقال: ساح بفلان، ويراد قومه ونفسه وداره، وما يحيط به (فإذا نزل) أي: العذاب الذي استعجلوه: {بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:177]، أي: ما أسوأ صباحهم! وما أشد لعنتهم! وما أحقر نفوسهم عندما يحل العذاب بساحتهم! يروي أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين يقول: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ليؤدبهم حيث غدروا وخانوا في وقعة الأحزاب، فقد خانوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاولوا حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وذهبوا إلى مكة يؤلبون عليه عربها، وإلى نجد يؤلبون عليه غطفان فكان بعد أن انتصر عليه الصلاة والسلام في موقعة الأحزاب، ذهب إلى بني قريظة، ثم بعد ذلك إلى خيبر.
فعندما أصبح بخيبر قال أنس: نزل عليهم ليلاً وكان عليه الصلاة والسلام إذا نزل ليلاً لا يحارب إلا صباحاً، كي لا يفجعهم وهم نيام، بات صلى الله عليه وسلم ليله، قال أنس: فجاء الصباح وخرج الناس من خيبر، وخرج اليهود وبيدهم الفئوس للزراعة والحراثة، وإذا بهم يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعودون مرعوبين مفزوعين ذاهلين!! وهم يصيحون: محمد والخميس! أي: الجيش، حيث جاء محارباً مقاتلاً، فعندما سمع ذلك عليه الصلاة والسلام قال: (إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).
فكان صباحهم صباح ذل، وصباح هوان، وصباح غلبة، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يحاصرهم في حصونهم وقلاعهم إلى أن نزلوا على حكم رسول الله أذلاء خانعين عن كره أو عن رضا، فالكل سواء، فلم يسمح لهم إلا أن يخرجوا ما تحمله أيديهم ورواحلهم فقط.
وهكذا نصر الله خاتم رسله -كما نصر الأولين منهم- النصر العزيز المؤزر على الوثنيين من أهل الجزيرة، وعلى الكتابيين من أهل المدينة، وعلى الكتابيين الآخرين من أرض جيزان.(267/5)
تفسير قوله تعالى: (وتول عنهم حتى حين)
ثم أكد الله قوله الأول فقال: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات:178 - 179].
قال له مرة أخرى مؤكداً هذا النصر المنتظر، وهذا النصر العجيب الآتي: (تولّ عنهم) اصبر عليهم (حتى حين) إلى حين يؤمر بالقتال، إلى حين يذلون أو يهلكون أو يشردون وكل ذلك كان، فقد شرع القتال، وقتلوا وقهروا، وقتل من قتل وأسر من أسر، وهدى الله من سبق في علمه أنه سيهتدي ويموت على الإسلام.(267/6)
تفسير قوله تعالى: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون)
ثم قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].
بعد أن قص الله جل جلاله في هذه السورة الكريمة، سورة الصافات التي نزلت بمكة، قصص من عتا على أنبيائه كقوم نوح، وقوم عاد، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم إلياس، وقوم يونس، ثم جمعهم جميعاً، وقال: بأنهم مهزومون، مغلوبون، وبأن الرسل هم المنصورون الغالبون؛ لأن الله كتب ذلك في سابق علمه، وسبقت به كلمته، حيث قال جل جلاله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] قال: (سبحان ربك).
فأتم ذلك بالتسبيح والتعظيم والتمجيد، فنزه نفسه ومجدها، وهو سبحانه جل جلاله لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وهو يعلمنا كيف ننزهه ونعظمه ونمجده.
(سبحان ربك) أي: نزه خالقك عن كل نقص، ومجده بكل كمال، وقل: سبحان ربي خالقي ورزاقي ومدبري.
(سبحان ربك): ربك يا محمد! ورب كل الخلق.
(رب العزة): رب الغلبة والقهر، رب القوة والسلطان، رب العزة، فلا عزة لأحد، ولا غلبة لأحد إلا من عزه، وإلا من غلبه، فهؤلاء عندما يغلبون لا يكون ذلك منهم، ولكن من باب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83]، أو قد يكون ذلك بالنسبة للمسلم اختباراً وابتلاءً عسى أن يعود للحق، أن يعود للإيمان، أن يعود للطاعة.
قال: {عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180] عما وصفه به هؤلاء مما قصه الله علينا، بما وصفوه وقالوا: إن لله ولداً وسموه عيسى، إن لله بناتاً: هم الملائكة، إن لله شركاء من الجن، إن لله صاحبة وسموها مريم، إن لله شريكاً أو شركاء، وذهبوا يسمونها من أنواع الجمادات، ومن أنواع الإنس، ومن أنواع الجن، ومن أنواع الدواب، ومن أنواع الملائكة.
فالله جل جلاله يسبح وينزه نفسه عن كل ما وصفه هؤلاء في هذه السورة الماضية المنتهية بهذا الذكر، وهذا التسبيح، وهذا التمجيد، ثم هو ربنا جل جلاله منزه عن جميع ما لا يليق بجلاله، ولا يليق بكماله، عن وصف الكافر، ووصف الجاهل، ووصف الوثني، ووصف الكتابي، وكل ما قالوه وافتروه فيه على الله.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180] أي: عما يصفه هؤلاء الوثنيون، هؤلاء المشركون، هؤلاء الكافرون بالله، ممن ذكروا خلال هذه السورة.(267/7)
تفسير قوله تعالى: (وسلام على المرسلين)
قال تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:181].
الأمان والأمن في الدنيا والآخرة للمرسلين من رسل الله، من آدم إلى إدريس إلى نوح، ومن إبراهيم وولديه إسماعيل وإسحاق إلى الأنبياء من بني إسرائيل، إلى نبينا العربي المكي المدني خاتم الأنبياء وسيد الرسل، بل وسيد الخليقة كلها: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:181].
قال تعالى: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:182]، فالحمد لله أولاً، والحمد لله أخيراً، والحمد لله على أن هدانا للإسلام وأن نصر رسله، والحمد لله على أن كشف هؤلاء الكفرة وغلبهم، وقهرهم وأذلهم، وجعل مصيرهم إلى النار.
الحمد لله على أن هدانا للإيمان بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، فالحمد لله على هذه المعاني الصادقة كلها.
ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صليتم عليّ فصلوا على المرسلين، فأنا رسول من المرسلين)، وهذا صنيع ربنا في هذه السورة الكريمة، فهو قال: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:181]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليختم مجلسه بما ختم به الله هذه السورة: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182]).
روى ذلك الطبراني عن زيد بن أرقم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وروى ذلك علي بن أبي طالب موقوفاً من كلامه، ومرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، وفي رواية زيد: (من قرأ دبر كل صلاة: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182] ثلاث مرات فقد اكتال بالمكيال الأوفى يوم القيامة من الأجر).
وهذا يسمى: كفارة المجلس وخاتمته، وأنه يكون ذلك عقب كل مجلس، وعقب كل صلاة وفي دبرها.
وقد ورد حديث آخر في كفارة المجلس، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (من ختم مجلسه بقوله: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، كان ذلك كفارة له مما قد يقع في ذلك المجلس من لغو أو نميمة أو كلام لا يليق.
فمن الكفارات، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].
وبهذا نكون -ولله الحمد- قد ختمنا سورة الصافات، وسنشرع الآن في سورة (ص).(267/8)
تفسير سورة الزمر [1 - 5]
القرآن الكريم كتاب الله أنزله دستوراً للمسلمين، وبين لهم فيه أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، وأن هذا هو الواجب، وأن الذين اتخذوا من المخلوقات أصناماً يعبدونها لتقربهم إلى الله ما هم إلا مشركون، فإنها لا تخلق شيئاً ولا تضر ولا تنفع.(268/1)
تفسير قوله تعالى: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:1 - 2] سورة الزمر تشتمل على خمس وسبعين آية، نزلت في مكة المكرمة، إلا آية كما قال البعض، أو آيات كما قال آخرون.
وسميت بالزمر، وهي الجماعات؛ جمع زمرة، وأخذ ذلك من السورة الكريمة؛ لأن الكافرين يساقون إلى جهنم زمراً والمتقين يساقون إلى الجنة زمراً.
وأكثر سور القرآن الكريم سميت بما ذكر فيها كسورة البقرة لورود ذكر البقرة، وكسورة آل عمران سميت بذلك لذكر قصة آل عمران فيها وهكذا.
قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] مبتدأ وخبر، أي: تنزيل هذا الكتاب -وهو القرآن الكريم- من الله العزيز الحكيم، ليس كما ادعى الكفرة والكهنة من أنه قول محمد عليه الصلاة والسلام، أو أعانه عليه قوم آخرون، بل هو كلام الله المنزل على نبيه محمد سيد العرب والعجم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قوله: {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] أي: من الله العزيز الذي لا ينال جنابه، العزيز الذي لا يقاوم، العزيز الذي يعز على كل من سواه أن يناله أو يتأله عليه.
الحكيم في كل أقواله وأفعاله، الحكيم في قدره وأمره ونهيه، وهو اسم من أسماء الله جل وعلا كالعزيز.
قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [الزمر:2].
الألف واللام للعهد، فالكتاب هو القرآن المتكلم عنه، وإذا أطلق لفظ الكتاب بين العلم والكتب فلا ينصرف إلا إلى القرآن الكريم.
وإذا أطلق الكتاب عند النحاة فلا ينصرف إلا إلى كتاب سيبويه في النحو.
قال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [الزمر:2] هذا الكتاب لم ينزل بباطل، بل نزل بإحقاق الحق، وببيان الحقائق السابقة واللاحقة، نزل وفيه حقائق العقائد والأحكام والحلال والحرام، وكل ما يعود على الخلق من مصلحتهم ومنفعتهم في الدنيا والآخرة.
قال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] فأول حقيقة نطق بها القرآن وجاءت بها الأنبياء: أن اعبدوا الله مخلصين له الدين، فهو أمر لآدم ولنوح بعده ولسلالته من الأنبياء والمرسلين، إلى إبراهيم وولديه إسماعيل وإسحاق، وإلى سلالة إسحاق من أنبياء بني إسرائيل، وإلى إمام الأنبياء والمرسلين محمد عليه وعلى أبويه إسماعيل وإبراهيم الصلاة والسلام.
فالقرآن جاء بحقائق العبادة مخلصة لله، جاء بلا إله إلا الله.
فقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] أي: فاعبد الله يا محمد! وكذلك كل من سمع بهذا الكتاب وتبع هذا النبي الكريم.
قالوا: الإخلاص في الدين قول لا إله إلا الله، وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي لا إله إلا الله).
فهي كلمة الإخلاص والتمجيد والتعظيم، ومعناها: لا إله بحق، ولا معبود بحق، ولا خالق ولا رازق ولا محيي ولا مميت إلا الله الواحد القهار.
فيقول الله: يا محمد! لا تشرك في عبادتك مع الله أحداً، ولا تراء بها ولا تسمع بها، ولا تتخذ مع الله أنداداً وشركاء وآلهة، إنما هو إله واحد لا إله إلا هو.
فأخلص له العبادة، ولا تشرك معه شيئاً لا في عملك ولا في نيتك ولا في قولك، فكل ذلك اقصد به وجه الله واجعل دينك خالصاً له.
والله جل جلاله أبعد الناس عن قبول ما يشرك به فيه، وصلى الله على نبينا القائل: (إن الله غني عن الشركاء لا يقبل إلا ما كان خالصاً).
وهكذا يدعو الله جل جلاله عباده المؤمنين إلى إخلاص العبادة له وتخصيصها له، ولا يعبدون معه شركاء ولا يُسمِعون ولا يراءون، فلابد أن تكون عبادتهم لله خالصة، لا يرجون من ورائها جزاءً ولا شكوراً من أحد إلا من المعبود الواحد الأحد سبحانه.(268/2)
تفسير قوله تعالى: (ألا لله الدين الخالص)
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3].
قوله تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3].
يؤكد ربنا جل جلاله بأن دين الإسلام هو الدين الذي يدين به العبد ربه ويخلص فيه عبادته له، وما كان فيه شائبٌ من الشوائب، أو فيه نية سوء فتلك عبادة مضروب وجه صاحبها بها.
(جاء رجل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! إني أعمل العمل أريد به وجه الله وأريد أن يذكرني الناس بخير، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً).
وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
والدين ما كان خالصاً له سبحانه، فما شابته من شائبة أو نية سوء أو شرك أو غيره، فتلك عبادة مشركة مضروب بها وجه صاحبها، لا يقبلها الله منه، وعليه وزرها وإثمها.
فقوله: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] أي: لا يقبل الله إلا الدين الخالص من الناس؛ لأن الدين الذي أمروا به هو ما كان لله وحده لا شريك له فيه، وما لم يكن كذلك فليس ديناً ولا عبادة، وبالتالي لا يقبله الله.
فالله جل جلاله لا يقبل إلا ما كان خالص العبادة لوجهه الكريم.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الزمر:3] أي: الذين صنعوا من دون الله أولياء وآلهة، أشركوهم مع الله في العبادة.
قال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يقول هؤلاء الذين اتخذوا الشريك مع الله في عبادته: إنما نتقرب باتخاذ الأوثان والأصنام حجارةً كانت أو ملكاً أو إنساً أو جنياً، فهؤلاء الذين اتخذوا أولياء معبودين، يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
فهم يدعون أنهم يعبدون الله، وأن عبادتهم لهؤلاء ليست لذواتهم وإنما زلفى وقربى، والزلفى: القرب، أي: نعبدهم متقربين إلى الله بهم.
كان يقول المسلم للكافر: من خلقك؟ فيقول: الله، فيقول له: من خلق السماء والأرض؟ فيقول: الله، فيقول له: من المحيي المميت؟ فيقول: الله، فعندما يقال له: فلم إذاً تعبد الأوثان والشركاء؟ وما معنى عبادتك لها؟ يقول: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، أي: ليكونوا متقربين منهم يشفعون لهم، وهيهات هيهات أن يشفع أحد عنده إلا بإذن.
ولا يشفع الحجر ولا الكافر ولا المشرك؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث ولا باليوم الآخر، فهؤلاء عندما يزعمون هذا الزعم ويدعون هذه الدعوى يزدادون في الشرك إغراقاً وفي الوثنية ضياعاً، فالعبادة ما كانت خالصة لله وحده، فلا شريك ولا ند ولا نظير له.
قال تعالى في سورة النجم: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23].
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:3].
هؤلاء الذين أصروا على مخالفة وعصيان الأنبياء والدعاة إلى الله، {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الزمر:3] أي: يوم القيامة، {فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:3] إن الله تعالى يوم القيامة عندما يرى من كان يؤمن غيباً ويصبح وقد آمن شهوداً -يراه المؤمن وغير المؤمن- عند ذلك يحكم الله بين العباد فيحق الحق ويبطل الباطل.
قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17].
فالمزيفون المبطلون الوثنيون يؤخذون إلى النار ولا كرامة، والمؤمنون الصادقون المخلصون لله في عبادتهم له يدخلون الجنة زمراً أي: جماعات جماعات.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3] يهدي الله من طلب الهداية، وانشرح صدره.
أما المفتري الكاذب على الله اتخذ الآلهة التي هي أعجز من أن تنفع نفسها أو تضرها فضلاً عن أن تنفع غيرها أو تضرها، ما دام مصراً على الكذب والافتراء فإن الله لا يهديه.
قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70].
فهؤلاء لا خير في قلوبهم، وبالتالي لا هداية لهم، وأخيراً لا يصلحون لخير؛ لأن قلوبهم انطوت على الكذب والافتراء على الله، فما داموا كذلك فقد غطى الران قلوبهم، فأصبحوا عمي البصائر قبل أن تعمى منهم الأبصار.(268/3)
تفسير قوله تعالى: (لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه)
قال تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4].
لو: شرط، والشرط لا يلزم وقوعه، بل هو هنا مستحيل، فالولد مستحيل، والشريك مستحيل؛ لأن الله جل وعلا هو الخالق للولد وللصاحبة، وهو غني عنهما، ولا يليق ذلك بالخالق إنما يليق بالمخلوق.
فالله يقول لهؤلاء: لم تختارون لي عيسى وعزيراً، أو الملائكة أو الجن أو غيرهم؟ لو شئت لاخترت الولد مما أخلق حسب اختياري لا حسب رغبتكم واختياركم.
فالنصارى الذين يدعون أن عيسى ولد الله، واليهود الذين يدعون أن عزيراً ابن الله، وادعى اليهود والنصارى جميعاً أنهم أبناء الله، هم كذبة فجرة، فالله لا شريك لله له ولا ولد ولا صاحبة، قال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4] أي: لا كفء له ولا ند، ولا مثيل ولا نظير له.
وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
فما نسبوه إليه من ولد وصاحبة ما هي إلا أسماء وأكاذيب وأضاليل كذبوها وافتروها على الله الواحد زوراً وبهتاناً.
قوله تعالى: {لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر:4] أي: لاختار، وإذا اختار ذلك مما يخلق -على أن الشرط لا يلزم وقوعه- فيكون مخلوقاً، والمخلوق عبد، والعبد لن يكون ولداً ولن يكون شريكاً بحال من الأحوال، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] فكلنا عبيد له، وملائكة الله ورسله وجميع خلقه عبيد له.
قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ} [الزمر:4] ينزه نفسه جل جلاله، وقد ذكر هذا الشرط قمعاً لهؤلاء وتضييعاً وتزييفاً لزيفهم وباطلهم، فسبح نفسه ونزهها وعظمها وعلمنا كيف نصنع مثل ذلك، فنقول: سبحانه سبحانه، لم يكن له شريك، ولم يكن له أب ولا ولد، بل هو الله خالق كل شيء.
قوله: {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4] ليس له أب ولا ابن ولا صاحبة، وحاشاه من ذلك، إنما هو الذي لا أول لبدايته ولا خاتمة لنهايته، كان الله ولا شيء معه، وهو على ما كان عليه، وسيذهب الخلق ويبقى الخالق وحده سبحانه وتعالى.
هو الواحد في ذاته، والواحد في صفاته، والواحد في أفعاله، لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد ولا أب.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4] الذي قهر خلقه بالموت وبإرادته، يصنع ما شاء بمن شاء كيف شاء جل جلاله، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
فنحن مسئولون عن كل شيء يكون عنا، ولكن الله الواحد القهار يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل.(268/4)
تفسير قوله تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحق)
{خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر:5].
قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [الزمر:5] أي: أنزل الكتاب بالحق، وأمر العباد بأن يعبدوه بحق، وخلق السماوات والأرض بالحق، لم يخلقها باطلاً ولم يخلقها عبثاً.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
خلق السماوات ومن فيها ليعبدوه جل جلاله، وخلق الأرض ومن عليها ليعبدوه جل جلاله، وكما قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه: (أطت السماء وحق لها أن تئط - صوتت - ما من موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد وهو يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح).
وكذلك عباد الله المطيعون هم في عبادة دائمة، في صلاة وصيام وزكاة وحج وذكر وتلاوة.
والعبد المؤمن في عبادة مستمرة حتى في المباحات، يكون عابداً وهو نائم، ويكون عابداً وهو يأكل، وذلك إذا فعل المباحات بنية العبادة والعون عليها، وليتفرغ ويزداد نشاطاً للعبادة فيكون بذلك عابداً.
والنبي عليه الصلاة والسلام جعل في جماع الرجل لزوجه أجراً وثواباً، فقد قيل له: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أفرأيتم لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: كذلك إذا وضعها في حلال كان له فيه أجر).
فانتقاله من الحرام إلى الحلال هي عبادة في حد ذاتها؛ لأنه يتزوج ليحصن نفسه ويبتعد عن الإغراء وتزيين الشيطان، كذلك أكله وشرابه، وراحته ونومه وتنقله في أرض الله وبين خلق الله عبادة.
وعندما يفكر في خلق الله ويكثر من ذكر الله فهو في عبادة.
قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر:5].
يخبر ربنا معلماً أولئك الذين أشركوا به ومثبتاً لقلوب المؤمنين إلى يوم لقائه بأنه خلق السماوات والأرض بالحق.
قال تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5] أي يغشي الليل النهار ويغشي النهار الليل، ويزيد هذا وينقص هذا، يزيد النهار في الصيف وينقص في الشتاء، وأقل النقص تسع ساعات، وأكثر الزيادة خمس عشرة ساعة.
فقوله: {يُكَوِّرُ} [الزمر:5] من التكوير، عندما يكور الإنسان العمامة على رأسه، ومعنى ذلك: أن الأرض كروية، بمعنى: أن كل ذلك على شبه كرة يلف عليها الليل، ولف الليل أي: غيبوبة الشمس والدخول في الظلام.
وتكوير النهار أي: ظهور الضياء والنور وغيبوبة الليل.
ومما يؤكد هذا قول نبينا عليه الصلاة والسلام: (العرش فوق الكون وفوق السماوات هكذا، وأشار بيده كالقبة).
وهذا ما أجمع عليه المسلمون في عصر التابعين أخذاً بالنصوص القرآنية والنبوية، ونص على هذا التواتر أئمة في الحديث وأئمة في التفسير وأئمة في الفقه، منهم ابن حزم وابن تيمية والغزالي وآخرون لا يحصي عددهم إلا الله، قالوا ذلك قبل أن يخطر هذا المعنى ببال أحد.
وقال بذلك أحد العارفين بالله من علماء القرن الثاني فقال: الأرض الكروية مستطيلة بيضاوية، وهذا ما أكده الفقه والواقع، فهي كروية ولكنها مستطيلة على شكل بيضة.
وهذا هو المؤكد، فالشهيد الإدريسي المغربي من علماء القرن الرابع وضع مثالاً لجغرافية الأرض من فضة لجميع قاراتها وجعلها كذلك كروية، وكان إماماً كبيراً في الدين والعلم وفي المعرفة بالله كذلك.
قال تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الزمر:5] أي: ذللها لنفع عباده، فالحي لا يستغني عن ضياء الشمس ولا عن ضياء القمر.
فالنباتات إذا غاب عنها الشمس أو غاب عنها ضياء القمر ذبلت وضاعت، وبالتالي لا تخرج ثمراً، ولذلك يقول الأطباء: بيت لا تدخله الشمس مرضى أهله، وبيت تدخله الشمس أصحاء أهله.
وشتان بين أن تعيش حياتك صحيحاً، وبين أن تعيش مريضاً.
قال تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:5] الشمس والقمر والليل والنهار تجري جميعها وتدور مع الأرض لأجل مسمى عنده، فالأجل المسمى هو يوم يفنى كل شيء ويبقى الواحد القهار، يوم تتصدع السماوات والأرض، ويوم يصبح الكل هباء في هباء كما كانوا.
قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
قال تعالى: {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر:5] تنزيه مرة أخرى لله الذي جعلوا له شريكاً ولم يخلصوا العبادة له، واتخذوا معه أنداداً وقالوا عنها: إنما عبدوها لتقربهم إلى الله زلفى، وهيهات هيهات، بل تلك هي أباطيل وأسماء ما أنزلها الله، فليس في الكون إلا الله الواحد القهار العزيز الغفار، العزيز الذي لا ينال ولا يغالب، ومن يتأله على الله يكذبه، ومع عزته وقهره وجلاله وجبروته وسلطانه يغفر لمن استغفر، ويتوب على من تاب، والإسلام يجب ما قبله.
فيغفر الله الشرك والكفر، ويغفر جميع الآثام لمن قال يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، ولمن آمن بالله رباً وبمحمد نبياً وخاتماً للرسل وللأنبياء {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر:5].(268/5)
تفسير سورة الزمر [6 - 9]
الله تعالى خلق بني آدم من نفس واحدة حتى صاروا إلى هذه الكثرة، فهو المتفضل عليهم بالخلق، كما أنه المتفضل عليهم بالرزق، فقد خلق لهم من الأنعام ثمانية أزواج، وأنعم عليهم بنعمه التي لا تحصى، ومع هذا فالكثيرون يكفرون نعمة الله، والله تعالى غني عنهم لا يضره كفرهم، ولكن من رحمته أنه لا يرضى لهم الكفر، بل يحب أن يؤمنوا به وبرسله ويشكروه.(269/1)
تفسير قوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها)(269/2)
معنى قوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها)
قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6].
يشير الله سبحانه إلى قدرته، ويعلمنا كيف نوحده ونصفه ونعرفه، وأن هذه الصفات لن تكون لأحد سواه جل جلاله.
قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الزمر:6] خلقنا جميعاً من نفس واحدة هي: أبونا آدم، خلقه من تراب، خلقه بيده، وصوره بيده ثم نفخ فيه من روحه ثم أسجد له ملائكته.
فكل هؤلاء الخلق كانوا من نفس واحدة، ولذلك لا حاجة للتعاظم والتفاخر في الأنساب، فسواء كنا بيضاً أو سوداً أو صفراً أو سمراً فأبونا واحد، وأبونا من تراب، وليست الأفضلية إلا بالتقوى لا بأبيه ولا بأمه، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر:6] ثم خلق وصير من النفس الواحدة زوجة، خلقها وفرعها من النفس الأولى وهي أمنا حواء، خلقها من ضلع من أضلاعه كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (خلقت من ضلع أعوج، إن أنت أقمتها كسرتها، وإن أنت استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج).
فمن كان أصل خلقته عوجاء لا تقبل الاستقامة وإلا كسرت.
إذاً: فاقبلها على علاتها ما لم يصل ذلك العوج إلى الدين وإلى الخلق وإلى الفضائل، فعند ذلك لا يصبر على هذا.
قال الإمام مالك: إن ترضية الزوجة منسأة في العمر، مصحة في الحياة، تزيد في الأجل، بمعنى: أنه يستريح الإنسان ويصح، وإذا صح تمتع بحياته، وإلا فإن العمر لا يزيد ولا ينقص، لكنه يكون كمن عاش زمناً طويلاً.
فقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر:6] كما قال تعالى في أول سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1].
خلقنا من نفس واحد هو آدم، خلق منه أمنا حواء وهي الأم الأولى، ثم بث منهما نساء كثيراً ورجالاً كثيرين، حذفت الثانية لدلالة الأولى عليها وذاك من البلاغة والفصاحة.(269/3)
معنى قوله تعالى: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج)
قال تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6].
خلقكم وخلق معكم أرزاقكم وأمتعتكم باللحوم، كما قال في سورة الأنعام: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ * وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143 - 144].
فهي ثمانية: الضأن الذكر والأنثى، الماعز الذكر والأنثى، البقر البقرة والثور، الإبل الناقة والجمل، وبلا أنثى لا يكون ذكر، وبلا ذكر لا تكون أنثى، خلقنا الله من زوجين اثنين، وكل الخلق كذلك إلا الملائكة.
قال: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ} [الزمر:6] قالوا: أنزل المطر فارتوت الأرض واهتزت وأنبتت، ما عليها من مراعيها، فأكلت الأنعام وشربت، ولو لم ينزل المطر لما كان شيء من ذلك، وبالتالي لا تكون هناك أنعام ثمانية.
فقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6] هذه الثمانية من الضأن ومن المعز ومن البقر ومن الإبل.(269/4)
معنى قوله تعالى: (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق)
قال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6] قص علينا سبحانه قصة آدم وكيف خلقه من تراب، وكيف نفخ فيه من روحه وكيف أسجد له ملائكته، ثم هنا أكد لنا كيف خلق زوجته وأنها خلقت منه، ثم كيف خلقنا نحن.
فقوله: {يَخْلُقُكُمْ} [الزمر:6] أي: خلقنا من مني كما خلق جميع الخلق من البشر سوى آدم وحواء.
قوله: (خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) أي: في أطوار، خلقنا نطفة ثم علقة ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم خلق العظام ثم كساها اللحم، ثم نفخ فيها الروح ثم خرج الإنسان في هذا الوجود وليداً ضعيفاً.
واستمر الإنسان منتقلاً من طور إلى طور: الرضاع ثم الطفولة والتمييز، ثم الفتوة واليفوعة، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، ثم الموت.
فهو إلى قوة ثم إلى ضعف، أتى بنا من العدم وسننتهي بالعدم، وهو عدم مؤقت، إذ لا نسميه عدماً إلى الأبد، وإنما هي نقلة من دار إلى دار، فنحن كنا عدماً لا وجود لنا، وإن كنا في صلب أبينا آدم ولكننا لا ندري.
ولذلك نبينا عليه الصلاة والسلام عندما أسري به صعد السماء الأولى وقال له جبريل: هذا أبوك آدم، فسلم عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فوجد أبانا آدم إذا التفت يميناً ضحك، وإذا التفت يساراً بكى، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام قال: ما هذا؟ قال: إذا التفت يميناً رأى ذريته وأولاده المنعمين في الجنة فسره ذلك وأضحكه، فإذا التفت يساراً رأى المعذبين من أولاده وسلالته في النار فساءه ذلك وبكى.
فنحن كنا في أصلاب آبائنا الأولين وأمرنا بعبادته سبحانه ونحن في أصلابهم، فقال: ألست بربكم؟ فأجاب الجميع: بلى.
قالها من سيكون مؤمناً ومن سيكون كافراً، قالها المؤمن عن رضاً وقالها الكافر عن كراهية، ولكنه قهر على أن يقول: بلى.
فقوله: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [الزمر:6] خلقنا في البطون، وآدم خلق من التراب، وحواء خلقت من ضلع آدم، وعيسى خلق من بطن أمه ولكن بلا أب.
قوله: {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر:6] أي: أطواراً من نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، إلى إلى، إلى أن يكون الفرد منا بشراً سوياً في هذا الوجود ذكراً أو أنثى، شقياً أو سعيداً.
ما الرزق؟ ما الحياة؟ ما الأجل؟ كل ذلك يكون مسجلاً قبل خروج الجنين من رحم أمه.
قال تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6] أي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة.
والمشيمة هي تلك الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الجنين وهو في رحم أمه، فتلك ظلمات، وخرجنا من الظلمات إلى النور.
وكنا نجهل كل شيء ولا نعلم شيئاً.(269/5)
معنى قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم له الملك)
قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [الزمر:6].
(ذلكم): اسم الإشارة (ذا) و (كم) مضافة، وهي تكون بحسب المخاطب، فإذا خاطبت المفرد المذكر قلت: ذاك، وإذا خاطبت المفردة المؤنثة قلت: ذاك، وإذا خاطبت المثنى قلت: ذاكما، وإذا خاطبت جماعة الذكور قلت: ذاكم، وإذا خاطبت جماعة الإناث قلت: ذاكن.
والإشارة هنا إشارة بعيدة أي: ذلكم يا أيها السامعون! هذا الذي خلقنا من نفس واحدة وخلق أمنا من آدم ثم خلقنا جميعاً من أبينا وأمنا، وخلقنا أطواراً حتى خرجنا إلى هذا الوجود؛ ذلكم الذي فعل ذلك هو الله.
فقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [الزمر:6] أي: خالقنا ورازقنا ومنشئنا، القائم علينا جل جلاله بأمره وبنهيه.
قوله: {لَهُ الْمُلْكُ} [الزمر:6] له ملك السماوات والأرض وما بينهما، له الكون كله، وهو الدائم الذي لا يفنى، وكل ملك سواه فان، وفي الحقيقة إنما هي أسماء زمنية تنتهي بزمنها، لا نملك مع الله شيئاً لا ولداً ولا عقاراً، ولا رزقاً ولا مالاً، ولكن الله المالك لكل شيء، وإنما ذلك عارية في أيدينا في الحياة الدنيا.
قال تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:6] معنى ذلك: هل هذه الصفات، وأن الله هو الخالق الرازق تجعل الناس يصرفون العبادة إلى غيره؟ هل الأولياء الذين اتخذوا أوثاناً من دون الله يقدرون على ذلك؟
الجواب
الله وحده القادر على كل شيء، وهو الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص.
إذاً: الجواب دوماً: الله ربنا لا إله لنا غيره ولا إله للخلق كلهم غيره.
{فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:6] أي: إلى أين تصرف وجوهكم؟ ألا ترون أنكم تصرفون وتدفعون عن الإيمان بالله، وعن تصديق أنبيائكم، وعن عبادة ربكم مدة حياتكم إلى لقائه.
فقوله: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:6] أي: فكيف تصرفون عن عبادته ويلعب بكم أئمة الضلال والشرك والوثنية؟(269/6)
تفسير قوله تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم)(269/7)
معنى قوله تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم)
قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزمر:7].
الله جل جلاله يعلمنا ويهدينا ويرسل لنا رسله لنعرف كيف نؤمن به، وكيف نمجده ونعبده وندعوه، وكيف نقيم الدين في أنفسنا وندعو غيرنا إلى الإيمان به وعبادته.
ويقول مع ذلك: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7] أي: إنما هذا لخيركم وصلاحكم في الدنيا والآخرة، وإلا فكفركم لا يضر ملكي شيئاً.
وهذا معنى الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
فيا هؤلاء الوثنيون، ويا هؤلاء المشركون الكافرون بالله، يقول الله لكم: {إِنْ تَكْفُرُوا} [الزمر:7] أي: إن تجحدوا دين الله فإن الله غني عنكم، ليس بحاجة إلى عبادتكم.
وقال تعالى في سورة الحج: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] ما نقدمه صدقة وما نريق دماً في سبيل الله أيام منى وأيام المناسك، لم ينل الله من تلك الدماء ولا من تلك اللحوم شيء، ولكن ذلك ينفعنا نحن، ونكون به قد امتثلنا أمر ربنا، ويعود ذلك على فقرائنا ومساكيننا، وهذه هي العبادة، إن أحسن الإنسان أحسن لنفسه، وإن أساء فعليها.
فقال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] أي: الله غني عن إيماننا لا يضره كفرنا، ومع ذلك لا يرضى لعباده الكفر ولا يأمر به، فهو يكره الكفر والكافرين.
قال تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7].
أي: إن تذكروا الله وتقولوا: الحمد لله -ولا يقولها إلا مؤمن- {يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] أي: يرضى لنا الإيمان إن نحن آمنا بربنا وشكرنا نعمه وقلنا: الحمد لله، وكما كان الخلق في البداية بحمد الله رب العالمين، وفي النهاية كذلك: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10].
ولا يحمد ربه ويشكره إلا مؤمن، ولذلك من يشكر الله يرض الله منه ذلك ويجازه عليه.(269/8)
معنى قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)
قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر:7] من عدل الله جل جلاله وكرمه أنه لا يعاقب أحداً بذنب أحد، والوازرة: مرتكب الوزر، والوزر: الإثم نفسه.
فلا تؤخذ نفس بذنب غيرها، بل من أذنب فذنبه على نفسه، لا يذنب الولد بذنب أبيه ولا بذنب ابنه، ولا الصاحب بصاحبته، ولا الصاحبة بصاحبها، فكل مسئول عن نفسه، وهذه قاعدة عامة في دستور الإسلام.
فأولاد المشركين إيمانهم لهم، وكفرهم لهم، وكفر آبائهم وشرك آبائهم لا يضرهم.
وقد أمرنا الله بأن نربي أولادنا على الإيمان والتوحيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع).
فإذا مات الأبوان ولم يربيا وليدهما على الصلاة وهو ابن سبع، ولم يضرباه عليها وهو ابن عشر، ثم شبَّ على ترك الصلاة يكون الذنب عليه، إذ يعذب تارك الصلاة من الولد والبنت، ويعذب الأبوان، ولا يعذب الأبوان بذنب ولديهما ولكنهما أمرا أن يعلماه الصلاة ويضرباه عليها فلم يفعلا، وبذلك يكون قد جنيا على أنفسهما حيث تركا ما أمرهما الله بأن يفعلاه مع أولادهما.
وكذلك العلماء إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، سئلوا عن ذلك وحوسبوا، لا لأنهم يتحملون أوزار غيرهم ولكنهم أمروا بأن يفعلوا ذلك تهديداً للناس وتعليماً فلم يفعلوا.
وقد ذم الله اليهود من قبل فقال عنهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
جعل الله عدم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ذنباً في حد ذاته، فلعنهم بذلك وعاقبهم، فالله سبحانه يقص علينا قصص بني إسرائيل لنحذر أن نسير على منهجهم حتى لا نقع فيما وقعوا فيه.
فإذا وقعنا عوقبنا عقوبتهم، وهذا الذي حدث، إذ خرجنا عن أمر الله وخالفناه، وخرجنا عن طاعة الله وطاعة رسوله، فسلط الله علينا هؤلاء الأعداء عقوبة منه، لأننا تركنا الله وكتابه وتركنا نبيه وسنته، خاصة ونحن أخذنا ندعو بدعوة الفلاسفة واليهود والملاحدة أمثال ماركس ولينين، والبهائية والوجودية والاشتراكية، وجميع الفرق الضالة المضلة.
فنحن عندما نترك الاقتداء برسول الله وخلفائه الراشدين وأئمتنا الهادين المهديين، ونسعى لطاعة اليهود وللعمل على أديانهم ومذاهبهم نكون قد استحققنا العقوبة من الله، وتزداد العقوبة عندما يظهر بعضنا العبودية لهم والتعلق بهم والتفاخر باتباعهم والعمل على ألوهيتهم وعلى طاعتهم أكثر من طاعة الله ورسوله، وتلك لعنة لعن الله بها من فعلها وسعى لها ورضيها وعمل لها ودعا إليها.
فالراضي بالمنكر والساكت سواء، والساكت عن الحق شيطان.(269/9)
معنى قوله تعالى: (ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم)
قال تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر:7].
وبعد هذه الحياة وأوامر الله لنا ونواهيه، وأوامر رسول الله لنا ونواهيه؛ يكون الموت، وبعد الموت نعرض على الله فيحاسبنا وينبئنا بما عملت أيدينا، يوم تشهد على الإنسان يده وفخذه ولسانه، حتى إذا أنكر أو كذب شهدت عليه أعضاء الجسد بأنه فعل كذا وكذا.
فقوله: (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ)، أي: نرجع إلى ربنا يوم القيامة، يوم العرض على الله.
قوله: (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: فيخبرنا بأعمالنا، وقد كلف الله بنا ملكين: ملكاً عن اليمين يكتب الحسنات، وملكاً عن اليسار يكتب السيئات، ويعطى الإنسان كتابه، فأما الصالح فبيمينه، وأما الضال فبيساره، وفي تلك الساعة يعلم هل هو من أهل الجحيم أو من أهل الجنة.
قال تعالى: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي: عليم بما خفي من أعمالنا ونياتنا وأقوالنا وخواطر نفوسنا، فما تحدث به نفسك وما يخطر ببالك من خواطر ولم ينطق بها لسانك ولم يكتبها منك قلم، فالله عليم بها.
فما في صدورنا مما انطوت عليه وأخفته، من الخواطر والضمائر والأسرار يعلمها الله، يعلم من أضمر خيراً ومن أضمر شراً، ولكن الله جل جلاله لا يعاقب الإنسان إلا بما صنع وقال، إلا أن يكون منافقاً يظهر الكفر ولا ينطق بالإيمان، فإن نفاق العقيدة هو الشرك، بل هو أقبح من الشرك، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145].(269/10)
تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه)
قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8].
يقول الله جل جلاله: ومنكم أيها الناس من يدعو الله قائماً إذا أصابه الضر أو البلاء من فقر ومرض وغيره، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} [يونس:12].
فمن الناس من إذا أصابه ضر في نفس أو روح أو ما يتعلق به أخذ في الدعاء والضراعة إلى الله، حتى إذا استجاب الله له إذا به يغير ويبدل.
قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر:8].
أي: إذا جعل الله له ما يتخوله ويتملكه ويتصرف فيه بأن أكرمه وعافاه؛ بادر بالكفر والجحود والعصيان، ونسي ما كان يقوله من قبل من دعاء وضراعة.
وهذا المعنى يقول عنه عليه الصلاة والسلام مفسراً: (اعرف الله تعالى في الرخاء يعرفك في الشدة).
من عرف الله في الرخاء أي: عبده ودعاه وخافه ورجاه وهو في رخاء وعافية، وهذا الذي تعرف إلى الله في الرخاء يعرفه الله في الشدة، أي: إذا أصابته شدة من ضر أو حادث أو مرض فإن الله يتعرف إليه عندما يقول: رب أزل ما بي، لا باب إلا بابك ولا رب إلا أنت، ولا كاشف للداء إلا أنت يا رب، هذا الذي تعرف إلى الله في الرخاء كان حقاً على الله أن يتعرف إليه في الشدة.
فقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر:8] أي: حتى إذا خوله وملكه وأنعم عليه بنعمة نسي دعاءه الأول ورجاءه الأول وضراعته الأولى، وهذا عمل المنافق الكاذب الذي يؤمن على حرف.
فإذا هو رزق قال: أنا مؤمن، وإذا هو امتحن نسي الله ودعاءه والعبادة له، وما أكثر الناس في هذا.
في هذه الآيات أسباب نزول ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد حدث هذا من أشخاص ونزلت الآيات بسببهم؛ ولكنها عامة في لفظها.
ولذلك من أراد أن يستجيب الله دعاءه ويكشف ما به من ضر، فليذكر الله وهو صحيح البدن، حتى إذا ابتلي وفتن بقي على دعائه وضراعته فيوشك أن يقبل الله دعاءه، ويوشك أن يستجيب الله لضراعته ورجائه.
قال تعالى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر:8] هذا قد اتخذ مع الله أنداداً، والأنداد: جمع ند، أي: شركاء، وهم عنده في رتبة الله ومنزلته، وهو تمام الشرك وقبيح الوثنية.
ويقول الله لهذا المشرك: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8].
فهؤلاء وهم في حال الضر والمرض يدعون ويرجون، حتى إذا كشف عنهم الغم والهم نسوا الضراعة والعبادة واتخذوا مع الله أنداداً وشركاء.
يقول الله: قل له يا محمد: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} [الزمر:8] وماذا عساك أن تعيش؟ فقد عاش نوح مئات السنين وجاء بعده آلاف السنين، ومع ذلك كأنه لم يعش ساعة.
قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} [الزمر:8] فالحياة الدنيا كلها متاع قليل.
قال تعالى: {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8] ولو لم يمت بعد ولم يدخلها، ولكن المتوقع كالواقع، أليس الصبح بقريب؟ بلى، قريب.
وهكذا يقال لهذا الكافر: مهما كفرت وأصررت على الكفر، فأنت من أصحاب النار ولم تتمتع بالحياة إلا قليلاً، وهيهات هيهات أن ينفعك هذا القليل، فهو في مرض متصل وذل متسلسل وبعد ذلك النار، فهو يمشي على رجليه في دار الدنيا، ومع ذلك هو محسوب من أهل النار.(269/11)
جزاء القانتين لله في الآخرة
يضرب الله الأمثال فيقول: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
يقول تعالى: {أَمَّنْ} [الزمر:9] وهي قراءة حفص وقراءة ورش: (أَمَنْ).
آناء الليل: جمع آن، أي: ساعات الليل من أوله ومن وسطه ومن آخره.
فقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9] أي: أمن هو مطيع لله خاشع له، متهجد في وقت النوم والراحة، والناس نيام وهو بين سجود وقيام، وبين ذكر وتلاوة وتكبير وتهليل، يفعل ذلك خوفاً من عذاب الله، يرجو رحمة ربه، أهذا خير وأفضل أم ذاك الذي يكون ساجداً ولا قائماً؟(269/12)
تفسير سورة الزمر [9 - 12]
من يعبد الله وينيب إليه ويقضي ليله قانتاً ساجداً بين يدي ربه لا يستوى هو ومن لا يفعل ذلك، ولا يستوي العالم بالله العارف به مع من لا يعلم بالله ولا يقدره حق قدره، وإذا ضاقت بالمؤمن بلدة فلم يقدر على إظهار دينه فليهاجر منها، فإن أرض الله واسعة.(270/1)
تفسير قوله تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً)
قال الله جل جلاله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
الله جل جلاله يعرض علينا حالتين: حالة إنسان بُلي في جسده، وغر في عمله، فدعا ربه مدة ضرره وبلائه، حتى إذا رفع عنه ضره وبلاءه {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر:8] أي: نسي ما خوله ربه، وترك ما كان يدعو إليه من قبل، هل هذا الذي هذه على هذا الحال خير {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].
هاتان حالتان: حالة الجاحد بنعم الله، إيمانه على حرف، إذا رزق شكر، ثم إذا ضر دعا حتى إذا شفاه الله وعافاه كفر بالنعمة، وترك الشكر والعبادة والتوحيد وعاد إلى اتخاذ الأنداد من دون الله فهذا قيل له: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8].
والحالة الثانية: حالة المطيع القانت، والقنوت: الطاعة في كل الأوقات حال المسرة وحال المضرة، وعلى كل الأحوال ليلاً ونهاراً.
قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9] آناء: جمع آن، أي: في جميع ساعات الليل، أي: يصلي لله ويعبده، وعبادته تشتمل على السجود والقيام والقعود وعلى التلاوة والذكر.
والجواب مشتمل في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] يعني: هل هم سواء؟ العلماء العارفون بالله، الذين إذا علموا شيئاً عملوا به، والذين عندما آمنوا وأسلموا عبدوا ربهم وقاموا بأركان الإسلام: مصلين، صائمين، حاجين، مزكين، تاركين الفواحش ما ظهر منها وما بطن، يسعون في عبادة الله وطاعته ورضاه.
فهل هذا الذي هو على هذه الحالة خير أم ذاك المشرك الكافر بالله الذي لا يعبد ولا يطيع، وهو مرتكب لجميع أنواع البلايا والمعاصي، فهذا يقال له: أنت من أهل النار.
ويقال له: مهما عشت ومهما دامت حياتك وطالت ولو كانت كعمر نوح فإن المآل إلى النار.
فقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] أي: قل يا محمد! لهؤلاء الجهلة: هل الذين يعلمون الإسلام والتوحيد في مستوى واحد مع الذي لا يعلم؟ والعلم هنا المعرفة، ولا عبادة إلا بعلم ومعرفة، ومن عبد الله بغير علم يوشك أن يضل، ويوشك أن يعبده بما لا يعبد به جل جلاله وعلا مقامه.
فإذا كانت الصلاة ركعتين فركعتان، وإن كانت أربعاً فأربع، فمن حاول أن يزيد الصبح ثلاثاً والظهر خمساً يكون قد ضل ولم يطع ولم يقنت.
فلا علم إلا بعمل، ولا عمل إلا بعلم، وهذه المرتبة لأهل العلم العاملين بعلمهم العارفين بربهم، ولذلك جعل الله علماء أمته خلفاء نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (العلماء ورثة الأنبياء).
فنبينا صلى الله عليه وسلم لم يورث مالاً (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) فهو مال عام لعموم المسلمين، ولكن بقي منه ما ينفق على أمهات المؤمنين وعلى أحفاده وعلى من كان ينفق عليهم من أرامل بني هاشم ويتاماهم.
فالأنبياء لا يورثون ولكنهم يورثون العلم، إذ يرث العلماء علمهم، فيكونون بذلك خلفاء رسول الله في الدعوة إلى الله وإلى دينه، وإلى العلوم التي أتى بها المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.
فالمعنى في الآية: قل يا محمد: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟
و
الجواب
لا.
وكثيراً ما يستغنى بالسؤال عن الجواب، إذ لا يعقل أن يكون الجواب بلا سؤال، ولا يقول هذا من له عقل، فذاك الذي دعا ربه عندما مسه ضر وبلاء ثم فرج الله عنه وخوله وملكه نعمة، فإذا به يشرك بالله ويجعل له أنداداً، فهل هذا عالم وعارف؟ وهل يستوي هذا والذي يضل ليله قائماً وساجداً وراكعاً وتالياً، يضرع إلى الله أن يستجيب دعاءه؟ وهذه الآية تكذب من زعم بأن عبادة الله خوفاً من ناره ورجاء رحمته ليست عبادة، كما أن العبادة من غير رجاء جنته ولا خوف ناره هي رتبة عالية، ولكننا لم نطالب بها.
يقول الصحابة: (إنا إذا كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم رأينا من أنفسنا ما نحب، فإذا رجعنا إلى أهالينا فخالطناهم أنكرنا أنفسنا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لو تدومون على ما تكونون عندي في الحال لصافحتكم الملائكة حتى تظلكم بأجنحتها).
ولكن الحال لن يدوم كذلك، إذ إن الإنسان بين خوف ورجاء، وبين ذنب وتوبة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام عقب الحديث: (لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيغفر لهم).
لأن من أسماء: الله الغفار والغافر، ولا بد أن تأخذ الأسماء معانيها ومسمياتها، أما الغافر بلا مغفرة فلا يكون.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (المؤمن واه راقع، وخيركم من مات على رقعه) أي: يعبد ثم يذنب إلى أن تتقطع تلك الحسنات في الذنوب، ثم يرقعها بالتوبة والمغفرة كما يكون الثوب جديداً، فيهي ثم يتقطع ويتمزق ثم يرقعه.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (المؤمن واه راقع) من الوهي وهو البلى (وخيركم من مات على رقعه) مات وقد رقع ثوبه، وقد تاب من ذنبه.
وعبادة الله مبنية على الخوف والرجاء، كما أثنى الله على هؤلاء الذين يطيعون ربهم ويتهجدون ليلهم ساعة بعد ساعة، ينامون زمناً ويتهجدون زمناً، يبدءون بأشغالهم زمناً ويتفرغون لعبادة الله زمناً آخر، يفعلون ذلك وهم يحذرون الآخرة، يخشون ويخافون ما يكون فيها من عذاب.
ويرجون الآخرة: يرجون ما يكون فيها من رحمة الله ورضوانه ودخول الجنان، وقد قال الرازي هذا في تفسيره.
فقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]
الجواب
لا، وهذا مفهوم من سياق الكلام وتفهمه عقول السامعين من البشر.
وهي درجة ورتبة أشاد الله فيها بالعلماء ليزدادوا علماً وليزدادوا عملاً بالإرث النبوي من نشر دينه والدعوة إليه، ومجاهدة الكافرين والمنافقين، والحب في الله والبغض في الله.
يقول ربنا: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9] أي: إنما يعي هذه الحقائق وهذه المعارف أصحاب العقول.
والألباب: جمع لب وهو العقل.
ولذلك فإن الكافر والمنافق لا عقل له، فلو كان له عقل لعمل لآخرته ولسعى لنجاته، فلو علم أن في أرض الصين ربحاً مادياً، لسعى إليها بحراً أو جواً وكيفما استطاع.
كما أنه يعلم أن بعد الحياة موت ولم ير بعينه، ولكنه يسأل نفسه: أين آباؤه؟ وأين أجداده؟ أين كبراؤه، والصغار يبدءون في النمو، والذي يكبر يذهب إلى الفناء، وهكذا دواليك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فمن يعلم هذا ويوقن به ولا يعمل له فهو مجنون ليس بعاقل، هو بعيد عن مصلحته لنفسه، ولذلك يخاطب الله ذوي الألباب ليعبدوه ويطيعوه؛ وليكون جزءاً من الذكر الإلزامي.
فقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9] أي: لا يتذكر هذا ولا يعيه ولا يعقله ولا يفكر فيه إلا ذوو العقول، فهم الوعاة المفكرون، وهم العقلاء بين الناس، أما سواهم من غير المؤمنين فلا.(270/2)
تفسير قوله تعالى: (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم)
قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
أي: قل يا محمد! لعبادي الذين آمنوا أن يزيدوا مع الإيمان تقوىً وصلاحاً، وعملاً وإيقاناً.
والإيمان: التصديق في القلب بما يدوم عليه الإنسان، ولكن الإيمان يحتاج إلى عمل وإلى تقوى.
والتقوى: أن تتقي الله في محارمه، وأن تتخذ وقاية تحول بينك وبين غضب ربك، بأن تطيع أوامره، وأن تجتنب نواهيه وتتركها.
قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [الزمر:10].
الدنيا برزخ الآخرة والطريق إليها، وللذين أحسنوا حال حياتهم فيها حسنة، أحسنوا بالإيمان والتقوى، والطاعة وترك المعاصي، وأطلقت الحسنة في الآية، فأي حسنة في الدنيا هي حسنة في الآخرة، فهم في الدنيا يعيشون عيشاً كريماً من قبل الله جل وعلا يكرمهم ويعزهم ويعطيهم ويعافيهم، حتى إذا ابتلاهم كان ذلك رفعاً للدرجات، يوشك إن قالوا: يا رب ارفع مقتك وغضبك أن يستجيب دعاءهم، فيكون ذلك أجراً لهم وثواباً.
وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما من شوكة يشاكها المؤمن إلا كتب له بها أجر، وحط عنه بها سيئة، ورفع له بها درجة).
وما عسى أن تكون هذه الشوكة، ما من شوكة تصيب مؤمناً إلا وكانت له رفعاً للدرجات وحطاً للسيئات.
وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (المؤمن على خير، إن أصيب صبر، وإن أنعم عليه شكر) فهو بين صبر وشكر في عبادة دائمة.
قال تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر:10] معناه: هؤلاء الذين يعتذرون ويقولون: لا يمكن الهجرة في أرض الله لعبادة الله كما أمر؛ لأنهم يمنعوننا من ذلك، ومن الدعوة إليها، لا عذر لهم لأن أرض الله واسعة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فموالاة اليهود يهودية، وموالاة النصارى نصرانية، وموالاة النفاق نفاق، وإذا لم يستطع أن يقول: هذا حرام، فليهجره وليتركه.
وقال تعالى في سورة النساء: {قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء:97] أي: أين عبادتكم؟ أين اجتهادكم؟ أين طاعتكم؟ فعندما تسألهم الملائكة: أين كنتم؟ قالوا: كان حكامنا يستضعفوننا، ويمنعوننا من ذلك ومن إعلانه، فقالوا لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97].
فليست جميع الأرض أرض كفر ونفاق ومعصية، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه المتواتر: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وهم على ذلك إلى يوم القيامة، لا يضرهم من خذلهم).
وهذا مؤكد من خبر رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، فإذا كثرت المعاصي ومنع من الإيمان بربه وإعلان ذلك فليخرج للناس وليترك ذلك البلد.
قال: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر:10] وهذا جواب لمن بقي في مكة مستضعفاً، وقد هاجر المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وهاجر معه المهاجرون من مكة، وبقيت فئة.
هذا سبب النزول ولا عبرة بالسبب، فالعبرة بعموم اللفظ، واللفظ: أن يقال لمؤمن في كل عصر عندما يأمر بنصرة الدين وبالعمل له من غير أن يأتي كافراً ولا منافقاً، حتى إذا اعتذر بأنه مستضعف وبأنه يمنع يقال له: أرض الله واسعة، فمن الذي ألزمك بالمقام هنا؟ فأرض الله ما جعلها الله إلا لعباده، يقول الإمام مالك: حيثما وجدت قلبك فخيم.
أي: حيثما وجدت قلبك متفتحاً لدينك لعبادتك لطاعة ربك فأقم هناك، أما أن تساكن الكفار عن رغبة منك فذلك البلاء، وقد حرم ذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام وقال: (أنا بريء من كل مسلم يساكن الكفار، لا تتراءى ناراهما).
فلا يجوز له أن يسكن الأرض بحيث يرى نار الكافر ويرى ناره، فإن هذا حرام في شريعة الإسلام، فحينما ينتشر في بلاد المسلمين فيدخل فيها المفسدون ويصبح حكامها كفاراً أو منافقين، فيجب أن يتركها.
أما أن يسكن بنفسه عن طواعية منه ورضاً، ليس أسيراً ولا سجيناً في بلاد الكافرين يهوداً كانوا أو نصارى أو منافقين فذلك ما حرمه الله.
ومن هنا كانت الهجرة واجبة، ومن هنا أمر الله نبيه وهو في أرض مكة المكرمة أن يهجرها إلى حيث يجد حرية العبادة وحرية نشر الإسلام والدعوة إليه.
ولذلك أرسل قبل ذلك بزمن جماعة من أصحابه برئاسة جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة، ثم أمر أن يهاجر أصحابه إلى المدينة المنورة ثم لحقهم، ولم يفعل على أنه ترك أرضه للكافرين، بل خرج من بلده ليضع رجله في أرض تتحمله، فيعد للقتال وللتحرير، ولنشر الإسلام رغم أنوف أولئك الكافرين.
وهكذا صنع المصطفى عليه الصلاة والسلام، إذْ هاجر من مكة إلى المدينة وأعد عدته وجمع جموعه، ثم جاء زاحفاً صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنصره الله نصراً عزيزاً مؤزراً، وانضمت مكة إلى دار الإسلام حيث طرد الله الكافرين إلى الأبد.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] ومضى على هذا ألف وأربعمائة عام وزيادة؛ لأن جسم الكافر لا تطهره البحار، ولذلك لا يجوز أن يدخل مكة والمدينة فينجسها بكلامه وببدنه، وإذا مات ودفن في مكة والناس لا يعلمون وجب أن تنبش جيفته وتخرج خارج الحرم.
قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
يخبر الله سبحانه أن الصابرين على طاعة الله وعلى بلائه، وفي الجهاد في سبيله، الباذلين أموالهم وأولادهم وكل عزيز عليهم ليعز دين الله، ليعز المسلمون، هؤلاء يوفيهم الله أجرهم يوم القيامة بلا حساب، كما قال الحسن البصري وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري في تفسير هذه الآية: إذا كيل للعابدين بالكيل أجراً أو بالموازين ثواباً فهؤلاء الصابرون يحثى لهم حثواً بلا حساب، فلا تنظر سيئاتهم، ولا ينظر لحسناتهم، بل يعطون من أول مرة وكأن السيئة غير موجودة، لأنها تغفر من غير أن ترى.
وكأن الحسنات لا عداد لها أيضاً، فهو يعطى أجره بغير حساب، يعطى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لأنه صبر على طاعة ربه، وعلى بلائه، فلم يستنكف عن صلاة ولا عن صيام ما دام قادراً، يصلي صلواته الخمس ويؤدي زكاة ماله، يؤدب أولاده أدب الإسلام، أخلاقاً وعبادةً ومعاملةً.
قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] أي: العطاء الوافي بزيادة، فيوفيهم الله أجورهم بلا حساب وبلا وزن وبلا كيل، سواء من صبر على البلاء وهو يدعو إلى الله أو صبر على الطاعة، ومن باب أولى إذا صبر على كل ذلك.(270/3)
تفسير قوله تعالى: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين)
قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:11 - 12].
يقول النبي عليه الصلاة والسلام عن نفسه: إنه أمر بأن يخلص دينه وعبادته لله.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يعبد الله، وقد أخلص صلى الله عليه وسلم له دينه وطاعته، وأزال عنها الشوائب، وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم عن الشوائب.
فالأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم عن الخطيئة والسيئة، فإذا كان المعصوم الذي لا يسيء ولا يذنب قد أمر بالطاعة وبالإخلاص فيها، فكيف بغيره؟! قوله: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:12] أي: أول المسلمين من أمته، فهو نبي من نفسه ورسول من نفسه، وما من أمرٍ أمر به أحداً إلا وأمر به نفسه أولاً، وما من نهي نهى عنه أحداً إلا ونهى نفسه عنه أولاً.
ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:12] أي: أول المطيعين المستجيبين، وأول الفاعلين لحلاله والتاركين لحرامه.(270/4)
تفسير سورة الزمر [13 - 20]
المشركون لسخافة عقولهم وغلظ قلوبهم لا يزالون يتمنون لو استطاعوا أن يجروا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كفرهم، لكن هيهات فإنه يرد عليهم بأنه يخاف من الله إن أشرك به كشركهم لأن جزاء المشركين عذاب عظيم خالد.
ثم يبين الله لهم ما أعده لمن حقت عليهم كلمة العذاب من ظلل النار من تحتهم ومن فوقهم، وما يبشر به الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت.(271/1)
تفسير قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت)
قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:13 - 14].
عندما دعاه قومه إلى دينهم ودين آبائهم من عبادة الأوثان والأصنام، قال الله له: قل لهم يا محمد: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} [الزمر:13] أي: إن خرجت عن أمره، وعن أن أكون أول المسلمين، وعن أن أخلص الطاعة لله لا شريك له، لا في ذاته ولا في صفته، فإن أنا عصيت ربي في أوامره أخاف عذاب يوم عظيم.
واليوم العظيم: يوم القيامة الذي يعامل الإنسان فيه حسب عمله في دنياه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
هو أمر لرسول الله، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام معصوم، فهو أمر لجميع الخلق جناً وإنساً، لأن من لم يخش الله ولم يطعه، ومن عصى الله في أوامره فلم يفعلها وفي نواهيه فارتكبها، فعليه أن يخاف عذاب ربه وغضبه يوم القيامة.
قال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14].
أي: لا أعبد سوى الله، ولا أشرك مع الله أحداً، إنما أعبد الله.
وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر كما تقول القواعد في لغة العرب التي بها نزل كتاب الله الكريم.
{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ} [الزمر:14] الله: لفظ الجلالة منصوب على المفعولية والمفعول مقدم، والفعل والفاعل (أعبد) مع ضميره المستتر، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر، أي: لا أعبد إلا الله، ولا أطيع إلا الله، ولا أخشى إلا الله.
فقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14] أي: أخلص لله العبادة ولا أشرك معه أحداً، فلا أرائي في عبادتي ولا أسمع بها، ولا أخلط بها شركاً خفياً بأن يسمع فلان، وأن يثني عليَّ فلان، وأن يهتم بي فلان، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فمن فعل ذلك ضرب بعبادته على وجهه، وكان إلى الشرك أقرب منه إلى الإيمان.
قال تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:15] هذا تهديد ووعيد، يقول: أما أنا فلا أعبد إلا الله، وأما أنتم أيها المشركون الوثنيون الضالون من اليهود والنصارى وسواهم! فاعبدوا ما شئتم، قد علمتم أن من يأتي يوم القيامة وقد أشرك مع الله غير ما سيلقى من عذاب ومن طرد عن رحمة الله ما الله به عليم.(271/2)
تفسير قوله تعالى: (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15].
أي: اعبدوا ما شئتم من دونه، ولكن اعلموا أن الخاسر والضائع والطريد من رحمة الله حقيقة هو الذي يخسر نفسه وأهله يوم القيامة ويأتي يوم القيامة وقد دخل النار، خسر أهله وفارقهم وفارقوه، إن كانت زوجته في الجنة فقد فارقته، وإن كانت معه في النار فليسوا معاً في مكان واحد، وهيهات أن يضاحكها وأن تضاحكه.
فالخاسرون الذين خسروا أنفسهم فلم يدخلوا الجنة، خسروا أولادهم وزوجاتهم وأموالهم، وخسروا خدمهم وحشمهم وسلطانهم وجاههم في دار الدنيا، وجاءوا الآخرة على أن ينالوا منازلهم من الجنة ومراتبهم من عبادة الله، ولكنهم جاءوا مشركين غير موحدين فلم يلقوا إلا العذاب والطرد من رحمة الله ومن جنته.
قال تعالى: {أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] فخسران النفس وخسران الأهل هو الخسران المبين، أي: الخسارة الواضحة والخسران البين الذي يدركه الصغير والكبير، الرجل والمرأة.(271/3)
تفسير قوله تعالى: (لهم من فوقهم ظلل)
قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16].
ظلل: جمع ظلة، أي: فوقهم النار وتحتهم النار، والظلل: طبقة فوق طبقة.
وهي على رءوسهم كالظلة، نار من فوق ونار من تحت، وليست ناراً بل هي نيران، ولا ظلة بل ظلل، والظلة التي فوقه هي ظلمة؛ لأنها أظلته بنارها وغضبها.
والظلل التي تحته هي ظلل بالنسبة لمن تحتها؛ لأن النار طبق على طبق، والنار أيضاً دركات، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، كما أن الجنان درجات ما بين الدرجة والدرجة كما بين الأرض والسماء، والأنبياء والرسل مساكنهم الفردوس الأعلى، وهو أعلى درجات الجنان.
فالخاسرون بين أطباق من النار، نار فوقهم بل نيران، ونيران تحتهم.
قال تعالى: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر:16] أي: ينذرهم ويخوفهم في الدنيا رحمةً بهم، لعلهم يرعبون ويتوبون من الذنوب ومن الآثام والشرك.
فذلك الذي قاله الله عن الظلل من فوق من النار وعن الظلل من تحت من النار، قاله في الدنيا عسى أن يتوبوا ويعودوا للآخرة وقد آمنوا بربهم، وتابوا من ذنوبهم.
قال تعالى: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16].
ينادي الله عباده المؤمن منهم والكافر: اتقوا الله، وافعلوا ما أمركم به، كل على حسب قدرته وحسب طاقته، واتركوا جميع ما نهى الله عنه، وضابط ذلك ورابطه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).
فلا تزن، ولا تسرق، ولا تراب، ولا تمن، ولا توالِ كافراً، فهذا كله من الإيمان ولا يحتاج إلا إلى إرادة وإلى إيمان قوي، أما ما كان عملاً فهو مبني على الاستطاعة، فالقدرة البشرية محدودة، ولذلك أمرنا الله في الصلاة بطهارة الماء وباستقبال القبلة وبالقيام والركوع والسجود حتى إذا عجزنا أو فقدنا الماء أو فقدنا القبلة أو جهلناها صلينا على أي جهة كانت، ولجأنا إلى التيمم بالصعيد الطاهر، وإلى الجلوس إن عجزنا عن القيام.
ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) كذلك الصيام والحج، بل الحج لا يجب إلا مع الصحة ومع الزاد والقدرة، والصيام كذلك لا يجب إلا مع الصحة والقدرة.
فإن كان شيخاً هرماً فأفطر أو مات قبل أن يتاح له ذلك فهو معفو عنه؛ لأنه لم يؤمر بما يتجاوز قدرته ويتجاوز طاقته، وهكذا في جميع الأوامر.(271/4)
تفسير قوله تعالى: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18].
الطاغوت معناه: الشيطان، ومعناه: الوثن، والطاغوت إذا أطلق يشمل جميع الطواغيت، أي: جميع الأصنام والتماثيل وكل ما عبد من غير الله.
والذين اجتنبوها أي: تركوها وابتعدوا عنها فلم يعبدوها ولم يؤمنوا بها.
وقوله: {أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر:17] أي: اجتنبوا عبادتها.
وهو بشرى كذلك بالتوبة في الحياة الدنيا، وبالتوفيق على العبادة، وبالعمل على الطاعة، وبالرزق الكثير، وبالبعد عن الفواحش قدر طاقته وقدر توفيقه.
ثم عاد فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18].
يقول جل جلاله: أولئك الذين تركوا الطواغيت تركوا عبادتها، ورجعوا إلى الله منيبين، تائبين مستغفرين، {لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر:17] يبشرهم الله برحمته وبجنته، ويبشرهم بالهداية والصلاح في دنياهم.
قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18] يقول الله جل جلاله لنبيه: بشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أي: يسمعون القول، أو يسمعون الكلام، أو يسمعون شعراً، أو فلسفة، أو مذهباً، ويتبعون أحسنه، وما أحسن القول إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فهؤلاء الذين وفقوا إلى أن يميزوا بين الحق والباطل، وبين الحسن والأحسن، بين الأصل والفرع، بأن أدركوا وآمنوا أنه لا كلام يعلو كلام الله، ولا كلام بعد كلام الله يعلو كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله.
وفسروا القول بالقرآن، (يتبعون أحسنه) أي: أحسن ما في القرآن على أن القرآن كله حسن، ولكن فسروا بأن القرآن فيه جزاء، وفيه أن الظالم يقتص منه، كما قال تعالى في سورة الشورى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} [الشورى:40] بمعنى: لك الحق أن تنتقم ممن ظلمك وممن آذاك، ولكنك إن عفوت فهو أحسن من الانتقام.
الله جل جلاله ذكر في كتابه العزيمة والرخصة، ولكن العزيمة أحسن من الرخصة، هكذا قالوا، لكن المصطفى عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه).
فقد أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام بالقصر في السفر فعلينا أن نقصر، بل إن الحنفية وغيرهم أوجبوا ذلك، أي: أوجبوا إتيان الرخصة وترك العزيمة في السفر.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة الفتح، وكان النبي عليه الصلاة والسلام صائماً، وكان ذلك في رمضان بعد صلاة العصر وهو على ناقته، فشرب لبناً وتبعه الكثير، فلم يفطر البعض، فقيل له: فلان وفلان، وفلان وفلان بقوا صائمين، فقال عنهم: (أولئك العصاة، أولئك العصاة).
وسماهم عصاة حيث تركوا الرخصة وبقوا على العزيمة، ولذلك كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه).
وقد أذن الله تعالى بأن يقتل القاتل، ولكن مع ذلك جعل في العفو المغفرة والثواب، ولا شك أن المغفرة والثواب أفضل، وقد تدخل الجامعة فتجد أقوالاً فهذا سموه فيلسوفاً، وذاك سموه زعيماً، وذاك قالوا عنه: علامة كبير، وإذا اتفقوا على مسألة ما تجد أن الله يقول في نفس المعنى ما يخالف ذلك، ويقول رسول الله عليه الصلاة والسلام في نفس المعنى ما يخالف ذلك.
فإياك إياك، أن يخطر ببالك أن تقدم كلام أحد على الكتاب والسنة حتى ولو كان القائل صحابياً، ومن باب أولى إذا كان عالماً كبيراً أو فليسوفاً أو زعيماً أو غير ذلك، فكلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ورسوله المعصوم صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ونحن نسمع الكثير ونقرأ الكثير، ولكن اجعل ميزانك بيدك دائماً، وهو أن ما قاله الله هو الحق، وما قاله رسول الله هو الحق، وما سوى ذلك باطل، فإن كان متخذاً من كتاب الله أو مستنبطاً من حديث رسول الله فذاك ويكون بذلك تبعاً لكتاب الله ولسنة رسوله.
وفي هذا العصر تجد خلافاً وتضارباً بين قول الله وقول أولئك الفلاسفة، فيقولون: لا تقطع يد ولا يرجم إنسان ولا تجلد بشرة، نحن تطورنا وتقدمنا، وهذه أشياء تجعل التخلف قائماً؛ لأنه قارن قول المخلوق بكلام الخالق بل وفضله، فتبع إبليس، وتبع الكفرة من اليهود والنصارى والمنافقين.
فهؤلاء الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه قال الله عنهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} [الزمر:18].
فإذا وجدت قولاً لشخص ما سواءٌ كان صحابياً أو إماماً ووجدت آية صريحة تخالف ذلك القول، أو وجدت حديثاً صريحاً يخالف ذلك القول، فلا تقل: أنا لا أعلم الآية، ولكن الإمام قال: كذا! إياك ثم إياك أن تقول ذلك.
فأنت عندما تسأل في القبر لا يقال لك: من إمامك؟ ولكن يقال لك: من نبيك؟ من ربك؟ ما دينك؟ فإذا قلت عن نبيك كلاماً يقوله الناس، ولا يدرى أحق هو أم باطل، فهنا المصيبة، فالظالم يلقى في قبره العذاب الأليم، فمنكر ونكير يضربونه بمرازب حتى يدخل في قعر الأرض السابعة، ثم يجتذبونه ويقتلعونه قلعاً، وهكذا تعذب روحه إلى يوم القيامة.
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18] أي: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك المهديون الراشدون الصالحون المحقون.
وأولئك هم ذوو العقول والوعي والفهم والإدراك.(271/5)
تفسير قوله تعالى: (أفمن حق عليه كلمة العذاب)
قال تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19].
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر:19] قد رآه الله ورآه قومه وهو يحرص على إيمان قومه وعلى إيمان من دعاهم إلى الله، ولكن الأمر بيد الله لا بيد أحد سواه، لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، وقد كان عليه الصلاة والسلام حريصاً على إيمان فلان وفلان من أقاربه، ولكن الله له الإرادة والأمر، فقال الله لنبيه عن هداية قومه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] أي: لعلك مهلكها ألماً وحسرة أن لم يؤمنوا بي، فلا تفعل.
فقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272] أي: ليست وظائف الرسل الهداية، ولكن وظيفتهم التبليغ، فعليك أن تبلغهم كلام الله، وأن تتلو عليهم كلام الله، وأن تبين ذلك بالسنة.
أما هدايتهم فلن تسأل عن ذلك لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يقال لك يوماً: إن فلاناً لم يهتد، ولكن يقال لك: هل بلغت؟ ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع قام خطيباً في قومه في عرفات عند جبل الرحمة، وكان يقول: (ألا هل بلغت، ألا هل بلغت؟) يسألهم، والله قد أمره بالبلاغ.
فكانوا يقولون له: اللهم نعم، قد بلغت وأحسنت، ويشير بيده عليه الصلاة والسلام إلى السماء، إلى حيث العرش ثم ينكتها ويقول: (اللهم اشهد)، يشير إلى السماء ثم إليهم، أي: اشهد على هؤلاء.
وكانوا مائة وعشرين ألف حاج.
أي: اشهد عليهم في أني بلغت أمرك ورسالتك، ولم أتوان في ليل ولا نهار ولا في صحة ولا مرض، ولا في سفر ولا حضر؛ لأن وظيفة النبوءات والرسالة التبليغ لا الهداية.
فهنا يقول: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر:19] أي: وجبت عليه كلمة العذاب، وقال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي، قال تعالى: {هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30].
فالله قضى على نفسه أن النار ستمتلئ، وأن الجنة سوف تمتلئ، فهؤلاء يا محمد! الذين هم من أهل النار أتظن أنك ستنقذهم من النار؟ هيهات هيهات، ليس ذلك لك ولا لأحد غيرك إنما هو لله الواحد القهار.
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272].
وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56].
فقوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر:19] أي: أفمن وجب في حقه، في شركه وكفره؛ (كَلِمَةُ الْعَذَابِ) وهي الكلمة التي أنذر بها العبد إذا لم يؤمن ومات على الكفر والشرك أن النار داره ومقامه ومأواه إلى أبد الآباد.
قوله: {أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19] أي: هل تستطيع يا محمد! أن تنقذ هؤلاء الذين سبقت عليهم كلمة العذاب: إن الله حرم الجنة على الكافرين.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فإبراهيم دعا أباه آزر ووعده بأن يستغفر له، فلما مات على الشرك والكفر أخبر الله عن إبراهيم أنه لم يستغفر له، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114].
فلم يعد يطلب له المغفرة، لأن المغفرة للكافر لن تكون، ولن يغفر لمن مات على الشرك.(271/6)
تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم)
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:20].
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الزمر:20] لكن: ليست للاستدراك كما تكون في الغالب، ولكنها كلمة لصرف قصة عن قصة.
قال: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} [الزمر:20] أي: ماتوا على التوحيد، أولئك هم أتباع الأنبياء وأولئك هم أهل الجنان.
قوله: {اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} [الزمر:20] خافوه وأطاعوا أوامره واجتنبوا نواهيه، وآمنوا بكتابه وبرسله، عاشوا على ذلك وماتوا على ذلك.
قال تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر:20] لهم غرف يعيشون فيها في الجنان، وهذه الغرف قصور شامخة يرى باطنها من ظاهرها.
روى أحمد في المسند والنسائي في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمنون في الجنة في غرف يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها.
فكان بدوي حاضراً فقال: يا رسول الله، لمن هي؟ قال: هي لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام) وصف المؤمن بأنه لين الكلام طيب القول، ليس بصخاب ولا فاحش ولا سباب ولا طعان ولا لعان، ووصفه بأنه يطعم الطعام ويتابع قيام الفرض وقيام النافلة، فكان يصلي ويتهجد لله والناس نيام.
وروى علي وأبو موسى الأشعري وأبو مالك الأشعري كما في صحيح البخاري ومسلم والسنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غرف الجنان ما بين الغرفة والغرفة كما بين السماء والأرض، يتراءون فيها كما يرى الكوكب الدري من الأرض، فقال قائلون: تلك منازل الأنبياء يا رسول الله لا يدخلها سواهم؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بلى والذي نفس محمد بيده، هي لمن آمن بالله وصدق المرسلين).(271/7)
تفسير سورة الزمر [20 - 22]
الله تعالى يذكر في كتابه الأنواع المتضاده والأشكال المتشابهة، فيذكر تعالى أصحاب الجحيم الذين يكون لهم ظلل من النار من فوقهم ومن تحتهم، ثم يذكر المتقين وما أعد لهم من الغرف التي تجري من تحتها الأنهار، وذلك أن من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ليس كالذين قست قلوبهم من ذكر الله.(272/1)
تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف)
قال الله جل جلاله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:20].
بعد أن ذكر الله حال الكافرين وأن من عذابهم، وعقوبتهم أن يكونوا في النار من فوقهم ظلل ومن تحتهم ظلل، ذكر المؤمنين وجزاؤهم من الله أن يكونوا في غرف من فوقها غرف.
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} [الزمر:20] لكن هنا ليست استدراكاً كما تكون في الغالب، ولكنها كلمة لصرف قصة عن قصة وكلام عن كلام.
قص الله علينا حال الكفار والمشركين وهم يعذبون في النار، ثم انتقل من كلام إلى كلام، وهو أن أهل الجنة وأهل التقوى يسكنون غرفاً في الجنة من فوقها غرف مبنية.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الغرف فقال: (هي غرف يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها، فسأله بدوي كان حاضراً فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: هي لمن ألان الكلام وتابع الصيام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام).
وقد ورد كذلك في الصحيحين أنها غرف تتراءى كما يتراءى الناس الكوكب الدري الغابر في أعلى السماء، وأن الجنة منازل، وأنها مقامات حيث الأنبياء والرسل فيها في الفردوس الأعلى.
فقوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} [الزمر:20] أي: جعلوا وقاية من الطاعة والإيمان ومن عمل الصالحات بينهم وبين ناره، فجعلوا وقاية بينهم وبين غضبه، فكان جزاؤهم أن يسكنهم الجنان في هذه القصور المشيدة والبيوت الشامخة وهي طبقة على طبق، ومنزلة على منزلة، ومكان فوق مكان.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الزمر:20] وهذه القصور والدور تتخللها المياه الدافقة والجداول، مما يزيد القصور جمالاً وبهاءً، ويزيد الشوق لها من المكرمين بدخولها.
قال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:20] أي: هذا ما وعد الله به، وهو لا يخلف الميعاد، وحاشا الله أن يخلف وعده للمتقين، فقد وعدهم بالجنة وبالغرف المبنية وبالرضا وبالرحمة يوم القيامة، يستحقون ذلك بتوحيدهم وبدينهم وبتقواهم، ذلك وعد وعده الله المؤمنين والله لا يخلف الميعاد، قال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111].(272/2)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء)
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [الزمر:21].
كثيراً ما يضرب ربنا الأمثال في الخلق والمعاد، بالممات والحياة، وبالأرض حيث نراها ونعيش على ظهرها، فقال ربنا جل جلاله: ألم تر يا محمد -صلى الله عليه وسلم- {أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الزمر:21] أي: أنزل من الغمام والسحب ماءً {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ} [البقرة:164] أي: أغاثها بعد جدب وأنبت خيراتها وخضرتها، وأنبت ما فيها من فواكه ومآكل ومشارب، لمن خلقهم الله من عباده من رجال ونساء ومخلوقات أخرى.
قال تعالى: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} [الزمر:21] أي: جعله ينابيع؛ جمع ينبوع، وهي الجداول، جعل لها مسالك تحت الأرض، وتحتفظ به الأرض في باطنها، ثم بعد ذلك تتفجر عيوناً وآباراً وأنهراً جارية.
فيسقى به جذور النبات فيحيا النبات بما يحيا به الإنسان والحيوان.
قال تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [الزمر:21] ثم يخرج بهذا الماء الذي سلكه وأدخله في بطن الأرض آباراً وينابيع وجداول فأنبت به جميع أنواع الزروع منها ما يطول سنوات ودهراً، ومنها ما يعيش فصلاً دون آخر، واختلفت ألوان هذه الأشجار، والنباتات، فالماء واحد والزهر أنواع، فنجد هذا النبت بين أحمر وأخضر وأصفر كل ذلك بقدرة الله جل جلاله.
فقوله: {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ} [الزمر:21] أي: بالماء الذي أنزل من السماء.
{زَرْعًا} [الزمر:21] أي: ما يزرع في الأرض من كل أنواع المزروعات.
{مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [الزمر:21]، ألوان: جمع لون.
اختلفت الألوان بين حلو وحامض ومر، وبين أحمر وأصفر وأسود وما بين ذلك، أخرج هذه الألوان وهذه الطعوم المختلفة والألوان المختلفة بماء واحد أنزله من السماء فسلكه ينابيع في الأرض.
قال تعالى: {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} [الزمر:21] هذا الزرع المختلف ألوانه، تراه بعد زمن قد يبس وأخذ يتحات، وأخذ يتغير لون خضرته ولون حمرته ولون زرقته إلى اصفرار، أي: إلى شيخوخة النبات ونهايته كما قال تعالى بعد ذلك: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} [الزمر:21].
يجعله يتناثر فيصير حطاماً كأنه لم يكن هذا الذي حدث، فمن الذي خلقه؟ ومن الذي أحدثه؟ هو الله جل جلاله.
وهكذا الإنسان نراه طفلاً، فنغيب عنه سنوات وإذا به أصبح شاباً، فنغيب عنه زمناً وإذا به أصبح كهلاً، ثم نغيب عنه سنوات وإذا به أصبح شيخاً، ثم نغيب سنوات وإذا به قد ذهب إلى ربه.
فجاء من الفناء وذهب إلى الفناء، وضرب الله المثل بهذا النبات، نمر على الأرض أيام الشتاء وإذا بها أراض بلقع، لا ترى فيها نبتاً يتحرك، فيأتي الربيع وإذا بالأرض تهتز بأنواع من النباتات: أزرق وأخضر وأحمر، وإذا بها تثمر وتصير بين حلو وحامض، وإذا بها بعد زمن تصفر، ثم نراها قد أخذت تيبس وتميل وتنتهي، وإذا بعد مدة تجدها تتساقط وتتناثر وتصبح حطاماً وكأنها لم تكن.
وهكذا يضرب الله هذا المثل للكافر، وقد ضربه في غير ما سورة وآية، والمعنى: فيا من تنكر المعاد والبعث والنشور ألا ترى هذا في الأرض الذي أنت على ظهرها، والذي منها خرجت، والذي إليها تعود؟! ألم ترها يوماً وليس عليها نبت، ثم جئت فوجدتها قد أنبتت ثم أثمرت ثم أخذت تصفر ثم تحطمت؟ وهكذا الإنسان، أين آباؤنا وأجدادنا وقد كانوا مثلنا أحياء يأكلون ويشربون، يضحكون ويبكون، يسرون ويألمون وإذا بهم لم يبقوا، وكذلك نحن.
وهذا البيت الحرام كم مضى عليه؟ كم داسته من أقدام؟ كم صلى إلى كعبته من الخلق؟ يتجاوزون مئات الملايين فأين هم؟ جاءوا من التراب وذهبوا إلى التراب، ولذلك قال الشاعر الحكيم: خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد يا من تتعاظم وتتكبر على الله، والذي كأني بك وأنت تمشي على الأرض رأسك في السماء ورجلك في الأرض السابعة، ألا تدري على من تتكبر؟ ألا تدري هذه القدم التي ترفعها وتضعها بعنف وتعال وكبرياء تضعها على رمم آبائك وعلى جثث أجدادك؟ فيجري عليك يوماً من الأيام ما جرى لهم، وكما تفعل يفعل بك.
فإذا أنت تواضعت لخلق الله، وتأدبت بآداب الإنسان فضلاً عن آداب الإسلام، لن يكون الأمر كذلك، ولا شك أن هذا الذي ضربه الله مثلاً للإنسان واقع تراه العين وتسمعه الأذن وتحسه البشرة، ولا ينكره إلا أعمى البصيرة قبل أن يكون أعمى البصر.
ها نحن كذلك من طفولة إلى شباب إلى كهولة إلى شيخوخة، ثم كما يقول ربنا: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
وما ضرب الله الأرض والنبات والمياه مثلاً للإنسان إلا لأنه يرى الحياة ويرى القيامة ويرى الموت، في هذه الأرض التي يمشي على ظهرها من مشارق الأرض ومغاربها.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [الزمر:21] إن في الذي قصه الله علينا من نزول الماء من السماء ومن إنبات الأرض، وجعل ذلك أشكالاً وألواناً وأنواعاً، ثم تصير بعد ذلك يابسة متغيرة ثم تتحطم وتتناثر، هذا الذي يحدث ونراه كل عام سواءً كنا في مشرق الأرض أو في مغربها، فيه ذكرى للإنسان؛ ليفكر في ذلك ساعة من زمن، ويوماً من الأيام، كيف حصل هذا؟ من الذي صنعه؟ وبيد من؟ قد يقول الكافر: الطبيعة، وما الطبيعة؟ إن كان الماء فالله خلقه، وإن كانت الشمس فالله خلقها، إن كان الليل والنهار فالله قد خلقهما، فما الطبيعة إذاً؟ فمن قال: الطبيعة كمن جعل لله شريكاً من خلقه، فلا جواب إلا أن تقول: الله الذي خلق هذا الذي نراه كما خلقنا.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} [الزمر:21] أي: لتذكيراً وعبرة لكل مفكر وعاقل من ذوي العقول السليمة، والألباب: جمع لب وهي العقول.
فمن كان عاقلاً ومفكراً واعياً يجب عليه أن يتفكر، وكل إنسان كذلك إلا من نزع الله عنه عقله، فإذ ذاك أخذ ما وهب فأسقط ما أوجب، ولكن هذا بالنسبة للخلق من أقل القليل وأندر النادر، فقد حفظ الله علينا عقولنا وديننا.(272/3)
تفسير قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام)
قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22].
هذا السلسلة من الآي هي أسئلة تقريرية فيها لفت نظر أولي الألباب والعقول، ودعوا الجواب للسامع العاقل كما مضى من بداية السورة إلى هنا.
فقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22] سؤال تقريري.
قال: (أَفَمَنْ شَرَحَ) أي: هل من شرح الله صدره وفتحه للإسلام وأنار به بصيرته وتفتحت له سريرته كمن أغلق قلبه عن الإسلام وكفر به ولم ينشرح له ولم يستنر قلبه له، بل كان في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج الرجل يده لم يكد يراها؟ معناه: هل الذي شرح الله صدره للإسلام ووسعه فصار مؤمناً عاقلاً واعياً خير، أم هذا الذي أخذته ظلمات فأغلق قلبه عن الإيمان وصعد الران على قلبه فكان مشركاً كافراً؟ ولن يتردد العاقل ولا المؤمن أن يقول: من شرح الله صدره للإيمان خير وأفضل وأكرم، وهو الإنسان الذي يجب أن يقتدى به.
عندما نزلت هذه الآية سأل العباس بن عبد المطلب رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم -وروايته عزيزة- فقال: (يا رسول الله! ما معنى شرح الله صدري للإسلام؟ قال: يفتحه، قال: وما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن الدنيا، والإعداد للموت قبل الموت) فعلامة انشراح صدر الإنسان وتوسيعه وتفتحه أن تراه مع نفسه يفكر: ما العاقبة يوم نقبل على الله؟ هل سنبقى مؤمنين إلى أن نلقاه؟ نرجو الله ذلك حتى يتقبلنا الله برحمته ورضاه.
ولذلك فهو يفكر باستمرار أنه ما عاش إلا ليموت، والعقلاء يعجبون من إنسان حكم الله بموته وهو مع ذلك يلهو ويلعب، وكلنا نعلم وكل حي على وجه الأرض يعلم أنه ميت لا محالة، وهو حكم صدر عن الله جل جلاله.
ونحن إذا رأينا إنساناً حكم عليه بالموت فكيف ينبغي أن يكون؟ ينبغي أن تجده في ذكر واستغفار فلا يكاد يبتسم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً).
ولكننا مع ذلك ونحن محكوم علينا بالموت تجدنا نتناسى ونتغافل ونلهو ونلعب، والقليل القليل منا من يقوم بواجباته، من يقوم بصلواته وصيامه.
القليل في الدنيا من يوحد الله ويقول: لا إله إلا الله، ومع ذلك نجد الناس يموتون يومياً صباحاً، ويموتون ظهراً، ويموتون ليلاً، ونحن نعلم أن يوماً من الأيام سيقال: كان فلان رحمه الله، إن فعل خيراً لله وإلا فقد يقولون: لا رده الله، لقد كان بلاءً على الناس.
وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من شهدتم له بخير فهو في الجنة) ولذلك قال للمؤمنين من أصحابه عندما أثنوا على جنازة مضت: (وجبت، ثم مضت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً فقال: وجبت، فسئل المصطفى عليه الصلاة والسلام: ما وجبت الأولى وما وجبت الثانية؟ قال: عندما أثنيتم على الجنازة الأولى بالصلاح وبالخير قلت: وجبت، أي: وجبت له الجنة، وعندما أثنيتم شراً على الجنازة الثانية قلت: وجبت، أي: وجبت له النار، أنتم شهداء الله على خلقه).
فقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22] أي: مستنير بدينه وبأدلته على يقين تام أنه على الحق وغيره على الباطل، فهو مؤمن عن دليل ويقين وانشراح قلب وخاطر.
قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الزمر:22] فالذين لم تنشرح صدورهم للإيمان هم قساة القلوب، وقد قال مالك بن دينار: أشد بلاء يبتلى به الإنسان على وجه الأرض أن يعاقب بقسوة القلب.
وقاسي القلب لا يفتح صدره للإسلام ولا لموعظة من كتاب أو سنة أو عارف من العارفين، فتجده قد صعد الران على قلبه، فلا يتأثر بآية ولا بحديث ولا يتأثر بموت، فهو من القسوة كالحجارة، بل إن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، فهو أقسى من الحجارة، كما وصف الله اليهود لعنات الله عليهم تترى.
فقوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] أي: يا ويل قساة القلوب الذين قلوبهم لم تنشرح للإسلام ولا لموعظة ولا لآية ولا لحديث ولا لحكمة يسمعونها.
والويل: وادٍ في جهنم.
يا ويلهم يوم يدخلون إليه يشربون من حميمه فتتساقط أمعاؤهم من شربة واحدة، ثم تعاد ليعاد عذابهم.
قال: {مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] أي: عن ذكر الله، وحروف الجر ينوب بعضها عن بعض.
هؤلاء القاسية قلوبهم إذا ذكر الله لا تنفتح قلوبهم ولا تنشرح، فلا يتأثرون، ولا يتعظون ولا يعون.
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] أي: هؤلاء القساة قلوبهم التي صعد الران عليها، ولم تنشرح صدورهم لذكر لله، وللإسلام، هم في ضلال واضح بين يراه من يعلم ومن لا يعلم.(272/4)
تفسير سورة الزمر [23 - 29]
كلام الله خير الكلام وأبلغه وأفصحه، فهو كتاب يشبه بعضه بعضاً في البلاغة والفصاحة، وقد ضرب الله فيه الأمثال الكثيرة للمؤمنين والكافرين، وبين فيه جزاء كل فريق.(273/1)
تفسير قوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث)(273/2)
معنى قوله تعالى: (كتاباً متشابهاً مثاني)
قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
في هذه الآية يبين الله لنا ما هو أحسن الحديث قال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا} [الزمر:23] أي: أحسن الحديث على الإطلاق القرآن الكريم، الذي هو آخر الكتب الموحى بها إلى الأنبياء، هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الحكم بين الناس، وهو دستور المسلمين وقانوهم، والشرف الذي إذا دانوا له وعملوا به كانوا سادة الأمم.
وعندما كان هذا الكتاب إمامهم يرجعون إليه في الأحكام وفي الحلال والحرام، في الدولة والشارع والمعسكر، وفي الأحوال كلها الداخلية منها والخارجية، عزوا وسادوا وما استكانوا، وما وضع اليهود أقدامهم عليهم إلا بعد أن تركوا كتاب الله وراءهم ظهرياً.
قال تعالى: {مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23] أي: يشبه بعضه بعضاً، فهو يتشابه في البلاغة والفصاحة والحقائق، ويشبه بعضه بعضاً في أن الجميع وحي من الله، وحق منه، إذ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وليس معنى المتشابه هنا كمعنى المتشابه في قوله تعالى: ((آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)) [آل عمران:7].
والله لا يشبه أحداً من خلقه, ولا يشبهه أحد من خلقه، فمتشابه هنا معناها: تشابهت الآيات في كتاب الله في كونها جميعاً كلاماً حسناً وبديعاً حقاً ووحياً من الله، وجميعها دعت إلى الحق والنور والفلاح والصلاح، وإلى سيادة المسلم وجعله سيد الأرض وإمامها وأستاذها ومعلمها وداعيها إلى الله.
فقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر:23].
أي: ذاك الذي دعانا الله إليه ووصف المؤمنين الصالحين بأنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه، هو كلام الله، ومنه كلام رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذ هو شرح وبيان وتفسير له ولا يستغنى عنه.
فمن ترك السنة ترك كتاب الله، ومن ألغى الحديث ألغى كلام الله؛ لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
فمن كلام الله طاعة رسولنا وامتثال أمره واجتناب نهيه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
قوله تعالى: (مَثَانِيَ): جمع مثنى، أي: هذه الآيات نزلت مثنى مثنى، يذكر النار وضدها الجنة، ويذكر الخير وضده الشر، ويذكر الإيمان وضده الكفر، يذكر الشيء وضده ليبين للناس الخير من الشر، ولكي تتميز الأشياء، فمن لم يعلم الشر لم يعلم الخير، ومن لم يعلم الكفر لم يعلم الإيمان.
ولذلك يجب على الإنسان أن يعرف الشر ليتجنبه ويبتعد عنه، يحمد الله على أن هداه ووفقه وألهمه للخير الذي هو الإسلام والقرآن، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك ذكرت قصص القرآن كقصة موسى مثلاً وكررت في أكثر من سورة، لتحفظ وتؤكد، وكما تقول أمثال العرب: الشيء إذا تكرر تقرر.
فإذا تكرر الشيء أصبح قراراً وإلزاماً، ومن هنا يفيد التكرار في زيادة البيان والوعي والعلم والفهم.(273/3)
معنى قوله تعالى: (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم)
قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] أي: تضطرب وتتغير وتصفر فيضطرب المؤمن خشية من الله وحينما يسمع القرآن تجده مضطرباً خوفاً من النار ورجاء الجنة، طمعاً في رحمة الله وخوفاً من عقابه وغضبه، وإذا سمع القرآن يكون على غاية من الاطمئنان والحضور الذهني بجميع حواسه ليسمع ما يلقى إليه.
قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] وذاك شأن المؤمن.
سمع عبد الله بن عمر عن إنسان من التابعين كان إذا سمع القرآن غشي عليه فقال: ليس هذا من الله ولكنه من الشيطان، لم يكن كذلك أصحاب محمد، كانوا يسمعون القرآن ويخشعون له وتدمع أعينهم ولكننا لا نغيب ولا يغمى علينا، بل نكون على غاية من الحضور ذهناً وإنصاتاً وسماعاً.
وقالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا القرآن خشعوا ودمعت عيونهم، فقيل لها: إن هناك ناساً يغمى عليهم، قالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
أي: لم يكن هذا في عهد الصحابة وهم أكثر تقوى ومعرفة بالله منكم.
قيل لـ عمر بن عبد العزيز: هناك إنسان إذا سمع القرآن أخذ يصيح؟ قال: بيننا وبين هذا أن نختبره، فنجعله على سور ونقرأ عليه القرآن، فإن اضطرب ووقع صدقناه، وإذا لم يضطرب ولم يقع كذبناه فهو شيء يصطنعه.
وكثير من الناس في بعض الأقطار العربية والإسلامية عندما يسمع القرآن يتلى تجده يضطرب ويتصايح ويغشى عليه، وليست الآيات تدعو إلى التقوى ولا إلى الطاعة والامتثال، فقد تجده يصيح من آيات كثيرة وهو لا يعي ولا يفهم معانيها.
وعندما تسأله: لماذا تبكي؟ يقول: أعجبتني هذه السورة، فهو لا يستمع لكتاب الله وما فيه من معان، وإنما للتغني به فقط، فهو لا يقرؤه مجوداً مرتلاً ولكن يقرؤه متغنياً به.
وقد قال علماؤنا في سابق الزمان عن القرآن: المغاربة حفظوه، وأهل الشام جودوه، والمصريون تغنوا به؛ ولذلك من الأدب مع القرآن أننا إذا سمعنا من يقرؤه ويتلوه أن نكون على غاية من الأدب والإنصات والسكون، والصياح والهيجان يخالف الإنصات ويلهي الحاضرين، ومثل هذا لم يفعله السلف الصالح.
جاء في الحديث عن العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إذا خشع القارئ واطمأنت أعضاؤه وهو يتلو كتاب الله تلك ساعة دعوة مستجابة فليدع الله، فقمن إذا دعا الله أن يستجاب له).
قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ} [الزمر:23] هذه القشعريرة إذا حصلت عند تلاوة القرآن، وعند سماع ذكر الله، عند التفكر في خلق الله وفي قدرته ووحدانيته فهي حالة ربانية للمؤمن الصادق فقد قالوا: في تلك الساعة إذا دعا الله بأي اسم من أسماء الله الحسنى استجاب الله له.
فقوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] الجلود: جمع جلد، أي: يقشعر جلد الإنسان حتى ترى صفرة وجهه، واهتزاز بدنه واضطراب حواسه.(273/4)
معنى قوله تعالى: (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله)
قال تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23].
ففي أول مرة تقشعر الجلود، وعندما يذكر الله بوحيه وبوحدانيته وقدرته تلين منهم الجلود وتتفتح، فتزول القشعريرة، وعندها تلين القلوب {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
فيجد اطمئناناً في قلبه وانشراحاً في صدره وليناً في بدنه وراحة، ولذلك يجب أن نختبر أنفسنا قبل أن نُخْتَبَر، فحينما نسمع القرآن يتلى: هل ننصت إليه؟ هل نفكر في معانيه؟ إذا تلوناه سواء كنا مصلين أو تالين فقط هل تخشع جلودنا له؟ هل تطمئن قلوبنا به؟ هل ينشرح صدورنا لتلاوته؟ إن كان ذلك كذلك فليحمد المسلم ربه على ذلك، لأن فيه صفة صالحة من صفات المسلمين الحقة.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن من سرته حسنته وساءته سيئته) فالمسلم إذا عمل عملاً صالحاً تجده يبتهج ويقول: أحمد الله على ما وفقني إليه.
وإذا ارتكب سيئة تجده يتألم على ارتكابه لها، ويندم على ما صدر عنه، إن كان كذلك فهو مسلم حق، يختبر نفسه ولا يختبره غيره.
فقوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] أي: تطمئن إليه وتنشرح به.
قال تعالى: (ذَلِكَ) أي: سماع أحسن القصص وسماع أحسن الحديث، أي: سماع تلاوة القرآن فتقشعر منه جلود من المسلمين الذاكرين، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، أولئك الذين وفقهم الله لهذا.
فقوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر:23] ذلك الذي سبق من الآية هو هدى الله الذي يهدي به من يشاء، ورحمته وتوفيقه وإلهامه، فهذه الهداية يهدي الله لها من شاء من خلقه ومن شاء من عباده الصالحين الطيبين.
قال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23] ومن كان غير ذلك كان قاسي القلب، إذا سمع القرآن لا ينشرح له ولا يتفتح صدره ولا يخشع لذكره ولا يلين قلبه عند تلاوته، هذا ممن أضله الله، ومن أضله الله فلا هادي له.
فهذا قد غير ما بقلبه، إذ كان قلبه منطوياً على غير ذكر الله وعلى غير اليقين في الله وفي دينه، قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70] أي: لم يكن في قلب هذا خير فلم يهده الله إلى خير ولم يوفقه له، لما علم من فساد قلبه ومن كذبه على الله.(273/5)
تفسير قوله تعالى: (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب)
قال تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر:24].
أي: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:24] خير أم الذي أتى آمناً من عذاب الله، مطمئناً لأنه جاء مؤمناً، فلا يخاف عذابه، واثقاً بوعد الله وبرحمته؟ فقوله: {أَفَمَنْ يَتَّقِي} [الزمر:24] استفهام تقريري، (بوجهه سوء العذاب)، يسحب على وجهه في النار، وعادة أن العذاب يتقى، يتقيه من في النار بوجهه حين يسحب، ويذهب الوجه بما فيه من حواس بارزة، فيكون ذلك أشد عذاباً وإيلاماً ومهانة.
{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:24] أي: يسحب على وجهه إلى النار، فهل هو خير، أم الذي يأتي آمناً من عذاب الله، مطمئناً على أنه قد جاء مؤمناً موحداً واثقاً بوعد الله في رحمته ودخول الجنان.
قال تعالى: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ} [الزمر:24] أي: تقول الملائكة للظالمين الكافرين، والكفر أشد أنواع الظلم، إذ يظلم نفسه في عدم الإيمان وعدم الإسلام، فيكون المتسبب لعذابها وهوانها، فيكون في ذلك هو الظالم لها.
قال تعالى: ((ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)) يقال: فلان ذاق طعاماً، ذاق شراباً، ذاق عذاباً، أي: مسه عذاب كما مسه طعام أو شراب وتذوقه، ذاك تذوق لذته، وهذا تذوق ألمه وبلاءه.(273/6)
تفسير قوله تعالى: (كذب الذين من قبلهم)
قال تعالى: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمْ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الزمر:25 - 26].
فهؤلاء الذين كفروا، ألم يفكروا فيمن سبقهم من الكافرين الجاحدين؟! فقوله: ((كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: كذب أقوام قبل هؤلاء الكفار الجدد الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبرسالته وبالكتاب المنزل عليه.
قال تعالى: ((فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ)) أي: نتيجة كذبهم وتكذيبهم أتاهم العذاب وأتتهم اللعنة والغضب من حيث لا يشعرون، أي: من حيث هم مكذبون جاحدون، مشركون، لم يشعروا بالعذاب إلا وقد ماتوا، وجاء الملكان اللذان يسألان الكافر في القبر: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ وإذا به لم يعلم جواباً، ولم يوفق للجواب؛ لأنه لم يكن في دنياه يعلم جواباً.
لأنه كان كافراً وكان غير مؤمن به ففوجئ به وذاق ذلك العذاب، وهو لم يشعر به وهو في حال الحياة، ولو شعر به لآمن واستغفر.
قال تعالى: {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الزمر:26].
أي: نتيجة كذبهم وكفرهم أذاقهم الله الخزي في الدنيا، بأن أُسروا وقتلوا وشردوا، طردوا من بلادهم، وتشتتوا في البلاد شذر مذر، مع الخزي واللعنة والحقارة من جميع المؤمنين.
قال تعالى: ((وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) أي: لعذاب الله يوم القيامة أكبر من خزيهم في الدنيا لو كانوا يعلمون ذلك، ولو علموه لما فعلوه إلى أن ماتوا عليه، ولو علموه لانتهزوا فرصة حياتهم ووجودهم فآمنوا وتابوا ورجعوا عن الكفر، ولكنهم لم يعلموا إلا بعد أن أصبحوا في العذاب الشديد، فكان عذاب الآخرة أكبر وأشمل وأشد إيلاماً وهواناً وخزياً.(273/7)
تفسير قوله تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل)
قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر:27 - 28].
يقول الله لنا ونحن لا نزال في الحياة لنستدرك ما فاتنا أو فات بعضنا ليزداد المؤمن إيماناً، وليعود المنافق والكافر عن كفره وعن نفاقه إلى الإيمان: ((وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)) كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].
فقد ضرب الله في كتابه الكريم أمثالاً للناس، والأمثال: التشابيه، ضرب لهم ما رأته أعينهم وسمعته آذانهم، ليأخذوا الغائب ويقيسوه على الحاضر، فيفهم الحقيقة كل حسب إيمانه وحسب وعيه وفهمه.
فقوله: ((وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)) أي: أتينا بالأمثال نشبه بها، ونظهر بها المعاني التي دعوناهم إليها من توحيد وإيمان وتصديق رسل وعبادة وطاعة مدة حياتهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} [الزمر:21] فذاك مثل للحياة ومثل للممات بما نراه ونعيشه مدة حياتنا.
وكذلك فعل النبي عليه الصلاة والسلام في بيانه وتفسيره وحكمته ودعوته، حتى إن بعض العلماء من السلف جمع لرسول الله عليه الصلاة والسلام ألف مثل في كتاب مستقل، وكما فسرت أمثال القرآن في كتاب مستقل من غير واحد من علماء التفسير.
قوله: ((لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)) أي: يتذكرون قرآناً عربياً غير ذي عوج.
أي: ((لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)) هذا القرآن ولا يدعوه منسياً وراء ظهورهم، بل يتفكرون في أخباره وعقائده وإعجازه وبيانه وفصاحته، وفيما قص الله علينا من خبر الأمم السابقة مع الأنبياء السابقين، كذلك الكتب المنزلة عليهم لنأخذ عبرة وعقيدة، وليزداد إيماننا وتقوانا وعبادتنا.
قوله: ((قُرآنًا عَرَبِيًّا)) أي: نزل بلغة العرب وفسر بلغة العرب، جاء على قواعدهم وبلغتهم وبلاغتهم، وجاء ببديع المعاني التي عرفت بها لغة العرب.
وكان ذلك من اختيار الله للغة العربية من بين اللغات التي نطق بها خلقه، فكانت أشرف اللغات لاختيار الله لها لأشرف أمة اختارها الله تعالى أن تكون أمة الهادي وخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، ولذلك نزل القرآن على سيد العرب بلغته وبلغة قومه، فلم يجدوا مشقة في فهمه؛ لأنه نزل باللغة التي يتحدثون بها، فهموا دواخله وبواطنه وظواهره، وفهموا أمثاله واستعاراته، فآمن من آمن، إلى أن تجمعوا مهاجرين وأنصاراً، ففهموا عن الله كتابه وعن رسول الله بيانه، وذهب المصطفى إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم، وكانت الجزيرة قد تم إيمانها وإسلامها واستسلامها لكتاب الله ولدينه.
فأصبح العرب بعد ذلك رسل رسول الله إلى الناس كافة، فخرجوا عن هذه الجزيرة يحملون بيد كتاب الله وباليد الأخرى السيف، فالكتاب لمن سمع ووعى وأدرك وتلقى حقائقه، والسيف لمن عارض دعوة الله.
ووقف في وجه الدعاة إلى الله، ابتداء من أبي بكر الخليفة الأول رضوان الله عليه، إلى أن ألقى الإسلام بجرانه أيام عمر، فتوفي أبو بكر يوم توفي وجيوشه على أبواب أرض الشام، وإذا بـ عمر يأتي فيضم إلى للإسلام بلاد الشام والعراق ومصر وأرض فارس والمغرب الأدنى.
وهكذا تتالت الفتوحات، وكان الدافع لذلك هم هؤلاء الذين نزل القرآن بلغتهم.
أما الترجمة اليوم التي يدعيها الكثير من الناس ويبذلون فيها مالاً ويظنون أنهم فعلوا خيراً فهي بدعة لا خير فيها، إذ خرج الإسلام بلغة العرب وبدعاة من العرب إلى البلاد الفارسية والرومية والقبطية والبربرية، وما إلى ذلك من بقية أجناس الأرض، فلم يدخل أحد منهم ينشر الإسلام بلغته، ولذلك ما مضى الجيل الأول حتى جاء الجيل الثاني وهو يتكلم لغة العرب كنطق العرب أنفسهم.
فكان من غير العرب من أتقن لغة العرب ونشرها وعلمها، كالإمام سيبويه سيد النحاة على الإطلاق وهو فارسي، وأكثر علماء الفقه والحديث والتفسير، والكثير الكثير من علماء اللغة.
خرج الصدر الأول ونشروا القرآن بلغته؛ لأن الله وصفه في غير ما آية: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف:2]، {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [طه:113] فالترجمة قبل أن نقول حلال أو حرام، هي غير معقولة بل مستحيلة، وطالما جربنا وجرب غيرنا، مثلاً: القرآن الآن مترجم إلى لغات إسلامية غير عربية وإلى لغات كافرة، ترجم للغة الفرنسية عدة مرات، وللتركية عدة مرات، وللأوردية عدة مرات، ولو جمعت هذه التراجم فإنك لا تجد ترجمة تشبه الترجمة الأخرى.
فإذا أخذ الإنسان يقول: أنا أقرأ القرآن بالتركية، وأقرأ القرآن بالفرنسية، فإنك تجد هذه الترجمة ترجع لفهم المترجم وحسب دينه وسعة علمه، فلذلك كثيراً ما يخطئ عن قصد أو عن غير قصد، نأخذ على سبيل المثال: قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] هذه في لغة العرب مفهومة، إذ تأتي الرياح فتهب على الأشجار فتصبح الأشجار ذات براعم، ثم تصبح البراعم أزهاراً، فتهز الرياح الأزهار، فيتنقل من شجرة لشجرة ومن برعم لبرعم، وتأتي النحلة فتقف على هذه الزهرة، ثم تنتقل إلى زهرة ثانية تحمل في أرجلها اللقاح، وهذا اللقاح يكون كاللقاح الذي يحدث من الذكر للأنثى، فكيف يترجم إلى لغة أخرى؟! فقوله: ((وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ))، أتكون هذه ترجمته؟ زوجنا الرياح بالشجر فتلقح، ولذلك فإن هذه التراجم عندما تقرؤها تجدها على غاية من الركاكة.
فأنت تجد كثيراً من الآيات قد فسرت بالعربية عن طريق أئمة كبار، ومع ذلك تجدهم يختلفون في الترجيح، لكن يبقى التفسير تفسيراً وكلام الله هو كلامه، فيقولون: إن أخطأنا فمن أنفسنا، وإن أصبنا فمن الله.
أما المترجم فيأتي بكلامه الذي ترجمه ويظن أن الله قد قال ذلك، وهذا كذب على الله وافتراء عليه، فتراه يحرف عن قصد أو عن غير قصد، ولذلك فإن الترجمة مستحيلة ولم يكن هذا عمل السلف، ولو صرف المال في تعليم اللغة العربية وبثها بين الناس لكان خيراً من الترجمة، وخاصة الشعوب الإسلامية التي لغة العرب في حقها واجبة؛ لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم.
وما لا يتأتى الواجب إلا به فهو واجب، وتعلم كتاب الله واجب، وتعلم سنة رسول الله واجب، وتعلم الفقه واجب، وتعلم لغة العرب التي لا يجيء فهم كتاب ولا سنة ولا فقه إلا بها واجب.
ومن هنا نجد الكثير من الزعماء الإسلاميين غير العرب ممن يجهلون العربية يخطئون أخطاء -فيما يزعمونه تفسيراً أو شرحاً للسنة- تخرجهم أحياناً عن الإسلام جهلاً وعدم فهم وهم لا يقصدون ذلك.
فنحن قد كرسنا اللغات الأخرى وضيقنا اللغة العربية ولم يكن هذا عمل السلف، فقد دخل الإسلام الشام ولم تكن عربية، كانت لغتهم رومية، ودخل الإسلام العراق وكانت لغتها فارسية واختفت اللغتان.
ودخل الإسلام مصر وكانت لغتها قبطية، ودخل الإسلام المغرب وكانت لغته بربرية، فهذه الأقطار منذ دخلها الإسلام ودخلها العرب الفاتحون الأول أصبحت أجزاء من أرض العرب والمسلمين.
وقال ابن بطوطة الرحالة المغربي: وكان لغة العرب في القرن الثامن لغة جميع سكان الأرض من المسلمين يتكلمون بها، وإن لم يتكلم بها البعض فهو لجهله.
فـ ابن بطوطة تجول في أرض المسلمين بالخصوص نحو ثلاثين عاماً، فسميت رحلته المشهورة برحلة ابن بطوطة، ولم يكن يعرف إلا العربية، وهو من صنجة من المغرب، فجال الأرض مشارقها ومغاربها ولم يكن محتاجاً إلى غير لغته التي يتكلم بها، فكانت مقروءة ومفهومة وبها يتفاهم مع غيره.
وتولى الإمارة والقضاء، وتولى أعلى المناصب في هذه الأقطار التي ذهب إليها، ولم يحتج إلى لغة أخرى غير لغته فقط.
فـ ابن بطوطة لا يتكلم إلا العربية ولم يحتج لسواها، تجول وولِّي وحكم وقضى في جميع الأقطار الإسلامية، ولكن عندما جاءت وثنية الوطنية ووثنية القومية أخذوا يعلمونهم أن الفارسي يجب وطنيةً أو قوميةً أن يتعلم لغة قومه، وهكذا قالوا لفلان ولفلان وللشعوب الأخرى، مع أن فارس نفسها منذ مائة عام كانت تتكلم العربية كلها، وكانت تكتب هذه اللهجات بأحرف العربية، بعد الاستقلال مسخوا، فكانوا أقبح من الاستعماريين القدامى؛ فقد ألغوا الحرف العربي ووضعوا مكانه الحرف اللاتيني.
وبهذا تحرفت القراءة وتغيرت، وعندما تقرؤها بالحروف اللاتينية تكون الحركات من ضمة وفتحة وكسرة والمدود متغيرة، وتقرأ العربية وأنت عربي بالحرف اللاتيني وكأنك فرنسي أعجمي، وكأنك ما عشت عربياً يوماً ولا قرأت العربية.
فقوله: ((قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)) أي: لا اعوجاج فيه، ولا اختلاف فيه ولا لحن ولا اضطراب، ولا كلام يلغي كلاماً آخر أو يخالفه أو ينازعه، وهذا من تمام الإعجاز، إذ كله متناسق في المعاني العلوية والسفلية، وكله جاء بحق وصدق في أخبار الأمم الماضية والأمم اللاحقة وعقائدهم.
فلا تجد فيه لحناً ولا تغييراً، ولا يقال فيه: هذا خالف لغة العرب؛ ولهذا فإن الكثير من اللغويين والنحاة فسروا القرآن الكريم بالعربية والنحو فقط، ولم يهتموا بسوى ذلك، وقد أفادوا جداً.
قال تعالى: ((لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) فهؤلاء أنزل إليهم القرآن لعلهم يتقون الله، ويخافونه، ويتقونه في العمل بأمره، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتقونه في ترك المحارم، ويتقونه في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.(273/8)
تفسير قوله تعالى: (ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء)
قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29].
ضرب الله مثلاً للكافر والمؤمن عبداً مملوكاً، واحداً تملكه جماعة: ((شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ))، أي: متنازعون ومختلفون، فيهم شكاسة وشراسة في أخلاقهم.
فهذا العبد يأتي إليه السادة المشتركون في ملكيته، فهذا يأمره بالشيء فيأتي الثاني فينهاه عن ذلك الشيء، وهذا يأمره بما يخفف عنه، وذاك يأمره بما يزيده عذاباً أو محنة وبما لا يطيق، فهو في عذاب أليم بين هؤلاء السادة المشتركين في ملكيته.
قوله: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا)) رجلاً: منصوب على أنه تفسير لمثل، وقيل: منصوب بنزع الخافض، أي: ضرب الله مثلاً في رجل والمعنى واحد.
قال تعالى: ((وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ)) أي: وآخر لا يملكه إلا رجل واحد، وهو مسالم له، لا يحمله فوق طاقته، ولا يأمره بما يخالف أمره، ولا يأمره بما يناقض فهو مستريح معه.
فالعبد الذي يملكه شركاء مشتركون هو المشرك الذي عبد أصناماً مختلفة من جن أو إنس أو جماد، فهو في محنة دائمة.
ومثل الرجل الذي لا يملكه إلا شخص واحد العبد الموحد الذي عَبَّد نفسه لله الواحد، فهو يعيش ويحيا في سلامة وأمان، إذ لم يحملنا ربنا ما لا نطيق، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] جل جلاله وعلا مقامه.
حتى هؤلاء الشركاء غير متفقين، بل فيهم شكاسة وشراسة وسوء خلق، إذْ يأمرونه ويعذبونه بما لا يتفقون عليه.
أما الآخر كما قال تعالى: ((وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ)) أي: مسالماً وموافقاً ومهادناً لا يحمله ما لا يطيق.
قال تعالى: ((هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا)) هل يتساوى هذا وهذا في المثل؟ هل يشبه هذا هذا، فقوله: (مثلاً) أي: تشبيهاً.
هل يستويان؟ استفهام تقريري،
و
الجواب
هيهات أن يستويا، وهيهات أن يكونا في رتبة واحدة.
إذاً (الحمد لله)، أي: يحمد المؤمن الله، فقد علمنا الله أن نحمده على أن كان هو المالك لنا والمعبود لنا وحده، ونحن معه في دنيانا وأخرانا، ففي دنيانا لم يحملنا ما لا نطيق، لم يعسر علينا أعمالنا وعبادتنا، ويوم القيامة يجازينا بالكثير على القليل رحمةً منه جل جلاله وتنفيذاً لوعده الكريم للمؤمنين المتقين.
قال تعالى: ((بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)) أي: بل أكثر هؤلاء، والأكثر هنا أي: ممن مات على هذا.(273/9)
تفسير سورة الزمر [30 - 35]
يأمر الله تعالى عبده محمداً صلى الله عليه وسلم أن يخبر الكفار أنه ميت غير مخلد وأنهم ميتون، ثم يكون اللقاء والاختصام يوم القيامة عند الله تعالى، فمن كذب على الله وكذب بكتبه ورسله فمثواه جهنم والذي جاء بالصدق وصدق به فجزاؤه عند ربه جزاء المحسنين.(274/1)
تفسير قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون)
قال ربنا جل جلاله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:30 - 31].
يقول ربنا جل جلاله لهذه الأمم والشعوب في الأرض: إنهم ميتون، وقد اختلفوا وتنازعوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ومنهم من ضل ومنهم من اهتدى، ناس من أصحاب اليمين وآخرون من أصحاب الشمال.
فهؤلاء الذين أبوا إلا التكذيب والكفران والجحود، وأبوا إلا أن يصرفوا الصدق عندما يأتيهم سيموتون، وسيموت الدعاة والأنبياء وتموت الناس ويموت الخلق كلهم ملائكةً وجناً وإنساً، وعند ربهم يوم القيامة يختصمون ليُعرف من المحق من المبطل! ومن الصادق من الكاذب! وليعرف من الذي أتى بالحقائق ومن الذي أتى بالأباطيل.
قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر:30] الخطاب لسيد البشر صلى الله عليه وسلم، وهو لكل نفس على وجه الأرض.
{وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] أي: وإن أولئك الذين عصوك وخالفوك وتمنوا لك الموت سيموتون، ولقد قالوا عنه: صابروه إنه عما قليل يموت وتستريحون منه ومن رسالته، فقال الله: قل لهؤلاء: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] أي: لن يفلت من الموت أحد.
قال الفراء والكسائي من أئمة اللغة: يقال ميِّت ومَيْت، يقال: ميِّت بالتشديد لمن لا يزال حياً وهو سيموت يوماً، ويقال: مَيْت بالفتح لمن هو ميت فعلاً، ولذلك كان الخطاب {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر:30] فهو لا يزال حياً ويخاطب بهذا، ومعناه: إنك صائر إلى الموت لا محالة.
فقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] أي: إنك وأتباعك، إنك والكافرين بك، إنك والخلق كلهم صائرون إلى الموت يوماً، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول لا بد يوماً أن نحمل كما حُمل من مات قبلنا، بينما نمشي على أرجلنا إذا بنا محمولون على هذه الأخشاب.
وبهذه الآية: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] استدل أبو بكر الخليفة الأول رضي الله عنه عندما مات النبي عليه الصلاة والسلام.
فعندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصدق الصحابة، وذهبوا يقولون: ما مات رسول الله، بل لقد وصل الأمر إلى أن يقول عمر: من قال إن رسول الله مات ضربته بسيفي هذا.
وكان أبو بكر رضوان الله عليه أثبتهم وأعرفهم بذلك وأحسنهم توفيقاً، فهو أسبق الصحابة خلافةً ومقاماً، ثبت أنه دخل إلى غرفة ابنته حيث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله في جبينه وقال له: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! فأخذ القوم ينتظرون ما هو فاعل فصعد المنبر فوجد في الدرجة الأولى عمر فأبعده جانباً، وقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
فانتبه القوم وكأن هاتين الآيتين لم يسمعوهما من قبل، بل لقد قال عمر: والله لكأني أسمع هذه الآية الآن، وعلموا أن الموت حق على الأنبياء وعلى غير الأنبياء، عند ذلك أعادهم أبو بكر بما جاء به رسول الله من عبادة الله وحده ووحدانيته، قال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وذكّرهم بالرسالة المحمدية، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يرسل لعبادة نفسه أو لشيء يتعلق به، ولكنه جاء رسولاً من رب العالمين يبلّغ رسالات ربه؛ وليعبد الله بنفسه وليكون أول المسلمين؛ وليتبعه جميع من دعاهم من الجن والإنس، وإذا كان الأمر كذلك فالمعبود جل جلاله لا يزال حياً ولن يموت: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] وهو الباقي، وهو الدائم، وهو الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية.
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31] أي: أيها الضالون المكذبون، ويا أيها المؤمنون الصادقون؛ ستموتون ثم تبعثون إلى ربكم يوم القيامة، وسيكون بينكم خصومة أمام الله وبين يديه، يشكو بعضكم بعضاً وينازع بعضكم بعضاً, فسيكون الحكم إذ ذاك لله جل جلاله.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ} [الزمر:31] أي: بعد الموت: {تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31] الخصام: النزاع والخلاف في أمر.
قال ابن عمر: طال عليّ الدهر وأنا لا أعلم معنى هذه الآية، أنخاصم أهل الكتاب، أم نخاصم إخواننا المسلمين، وكيف نتخاصم؟ فنحن نعبد رباً واحداً ونؤمن برسالة واحدة، قال: حتى رأيتنا نتضارب بالسيف يقتل أحدنا الآخر، وهو يشير لما حدث للمسلمين من قتال وفتنة بعد موت عمر رضي الله عنه، وما حدث من تمرد على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وهكذا أصبحت الخصومة في أنفسهم! قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أول خصومة تكون بين جارين) كما في مسند أحمد عن عبد الله بن عباس: أول من يتقدم للخصومة وللنزاع وطلب الحكم جاران طغى أحدهما على الآخر في دار الدنيا ولم ينتصف للآخر، فيحكم الله جل جلاله بالعدل بينهما.
وروى عقبة بن عامر في مسند البزار: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تتركوا الخصومة والحقوق بينكم إلى ما بعد الموت، فإن هناك لا درهم ولا دينار) قد يرد الظالم الحق للمحقّ، حتى إذا جئتم يوم القيامة كنتم قد تباعدتم وتعاديتم.
وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه يأتي الرجل يوم القيامة ومعه صلاة وزكاة وعبادة ولكنه يأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا وأكل مال هذا، فيأخذ الله من حسناته إلى من ظلمهم، حتى إذا انتهت أُخذ من سيئاتهم فطرحت عليه فيؤمر بحمله إلى النار.
وفي رواية: (سأل النبي عليه الصلاة والسلام قال: من المفلس فيكم؟ قالوا: من لا درهم له ولا دينار، قال: ولكن المفلس يوم القيامة رجل جاء بعبادة وبصلاة وبحج، ولكنه جاء وقد شتم هذا وسب هذا وأكل مال هذا، فيؤخذ من حسناته وتضم إلى أولئك المظلومين، حتى إذا انتهت حسناته يؤخذ من سيئات أولئك المظلومين فيحملها هذا الظالم ويقذف به إلى النار).
ولذلك فإن الرجل الظالم الذي يريد أن يقبل على الله وهو بريء الذمة من حقوق الناس في دنياه يأخذ الحق من نفسه ويعيد الحقوق لأصحابها ولو مضى عليها زمن، لكن في القوانين الجائرة حتى في العالم الإسلامي: إذا مضى على الجريمة عشرون عاماً حتى وإن كانت الجريمة قتلاً تسقط المتابعة ولا يطالب بها، ولكن شريعة الإسلام ليست كذلك، بل الحق حق طال الزمان أو قصر، والباطل باطل طال الدهر أو قصر؛ وما ضاع حق وراءه طالب.
ولذلك فمن لم يؤد الحق في الحياة الدنيا ويرد الحقوق لأصحابها أو يطلب منهم السماح والمغفرة، سيؤتى به يوم القيامة حيث لا درهم ولا دينار، وسيكون مديناً لزيد أو لعمرو من الناس بدينار أو أكثر، وعندما لا يكون هناك دنانير ولا دراهم يعطى بذلك من حسناته، ثم إذا انتهت تزال سيئات ذلك المظلوم ويحملها هذا الظالم، فيخرج المظلوم وكأنه اشترى حسنات هذا بدراهم معدودة لا تكاد تغنيه ولا تسمن من جوع ولا ترويه من عطش.(274/2)
تفسير قوله تعالى: (فمن أظلم ممن كذب على الله)
قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر:32].
يقول ربنا: ليس هناك أعظم افتراء وأكبر جرماً ممن جاء يوم القيامة وقد كذب على الله وكذّب بالصدق، ونسب لله شريكاً أو ولداً وصاحبة، وجاء وقد كذّب بالرسالة الحق التي أتى بها أنبياء الله ورسله وكذب بكتب الله المنزلة لتأمر الناس بالمعروف وتنهاهم عن المنكر.
فقوله تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ) استفهام تقريري، أي: لا أظلم منه ولا أكبر كفراً ولا جريمة ممن كذب على الله فيما ادعاه على الله من كفر وجحود، ثم جاء مكذباً لرسالات الله وكتبه.
قوله: (كذب على الله) أي: نسب له ما ليس بحق، قوله: {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [الزمر:32] أي: كذب برسل الله وأنبيائه وكتبه والحقائق الثابتة من الدين.
قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر:32] يقول الله مستفهماً استفهاماً إنكارياً تقريرياً، إذ ينكر على هؤلاء ويوبخهم ماذا كانوا ينتظرون عندما جاءوا يوم القيامة وهم كذبة على الله وكذبوا بالصدق إذ جاءهم: هل كانوا ينتظرون جزاء وشكوراً وهم لا يؤمنون بالآخرة ولا يؤمنون بيوم البعث والنشور، فقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر:32] أي: ألم يدر هؤلاء أن مثواهم جهنم؟! والمثوى: الإقامة الدائمة.
قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر:32]
و
الجواب
بلى، أخذ من سياق القول، وهذا من بلاغة القرآن وفصاحته ومعجزاته، فلا أظلم ممن جاء كاذباً على الله ومكذّباً بالحقائق، ولا مثوى لهؤلاء ولا مقام ولا دار إلا جهنم خالدين فيها أبد الآباد ودهر الداهرين.(274/3)
تفسير قوله تعالى: (والذين جاء بالصدق وصدق به)(274/4)
معنى قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به)
قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر:33 - 35].
هذه مقابلة، إذ القرآن متشابه ومثاني، جاء القرآن بالآيات متشابهة في الحق والذكر والبيان وهي مثنى مثنى تذكر الشيء وضده، تذكر الكفر والإيمان، والجنة والنار، وأولئك كذّبوا الصدق وكذبوا على الله، وهؤلاء جاءوا بالصدق وصدّقوا المرسلين.
قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] جاء يوم القيامة ومعه الصدق، جاء، وقد صدّق ربه وكتابه ونبيه، وصدّق بالحقائق كلها.
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33] أي: أولئك هم المؤمنون الصالحون، الذين اتقوا الباطل والشرك، وجعلوا بينهم وبينه حواجز من الطاعات ومن الإيمان بالله وبرسله.
وذكر أن الذي جاء بالصدق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من المسلم به، جاء رسول الله وجاء الرسل أجمعون بالصدق، قوله: {وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] صدّقوا أنفسهم وكانوا رسلاً لأنفسهم.
وقيل: إن الذي جاء بالصدق هو جبريل.
فقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33] أي: الملائكة متقون، والرسل والأنبياء متقون، فهم معصومون عن الزلل والخطأ ولكن سياق الآية لا يدل على ذلك؛ يدل على أن المقصود هم الجن والإنس غير المعصومين؛ لقوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر:34 - 35] فهؤلاء قوم مسيئون جاءوا بمعاصٍ وذنوب غفرها الله لهم، ثم جازاهم وأحسن إليهم بأحسن أعمالهم.
فنحن الذين نخطئ ونذنب ثم نعود بتوفيق الله لطلب المغفرة من ربنا فيغفر لنا، فهي صفات غير الملائكة والأنبياء وإن كانوا هم الذروة من الذين جاءوا بالصدق من الله وصدّقوا ما جاءوا به، ولكنهم لم يكونوا مسيئين يوماً ولا مذنبين.
فقوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] أي: من الجن والإنس جاء يوم القيامة بالصدق، وهذه بخلاف الآية السابقة: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [الزمر:32] فهؤلاء الكفرة جاءوا كاذبين على الله ناسبين له الشريك والولد، أما هؤلاء فعكسهم تماماً، جاءوا بالصدق يوم القيامة وبتوحيد الله والإيمان برسله، والعمل بشريعته حسب جهدهم وطاقتهم.
يخبر ربنا عن هؤلاء أنهم هم المتقون المؤمنون الذين اتقوا الذنوب والمعاصي فلم يفعلوها، وإذا فعلوها تابوا واستغفروا وأنابوا إلى الله ورجعوا، والله يغفر لمن يشاء.
والله أكرم هؤلاء الذين جاءوا بالصدق وصدقوا به ووصفهم بالتقوى، فقال: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر:34] مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، جعلنا الله معهم.(274/5)
معنى قوله تعالى: (لهم ما يشاءون عند ربهم)
قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ} [الزمر:34] أطلق الله لهم المشيئة، أي: كل ما شاءوا ورغبوا فيه من أنواع الملذات والشهوات والراحة والسعادة، من قصور ومآكل ومشارب وحور عين، وما هو أعظم من ذلك، وهو رؤية الله العظيم المتعال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] أي: ينعمون وأثر النضارة والجمال بادية على وجوههم وواضحة في حواسهم، وهم مع ذلك ينظرون إلى ربهم وهذا ألذ اللذائذ.
ولذلك ورد في الحديث القدسي أن الله جل جلاله يقول لعباده وهم في الجنة: هل أزيدكم؟ فيقولون: يا ربنا! ماذا تزيدنا وقد أعطيتنا ما لم يخطر في بالنا من مشارب ومساكن ومآكل ومن حور عين، فيقول الله لهم: أريكم وجهي، فيتجلى لهم جل جلاله بوجهه الكريم، وهذا يفهم من قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
قال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِم} [الزمر:34] فهم لهم في الآخرة ما يشاءون من رحمة ورضاً وجنان.
قوله: {ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:34] أي: تلك مكافأتهم وعطاؤهم وأجرهم، والإحسان: أن تؤمن بالله وتزيد على ذلك مع اليقين والطاعة.
ثم زاد ربنا فقال في تمام هذا الجزاء: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر:35].
يكفّر الله أي: يستر ويغفر، وأصل الكفر: الستر، يقال: فلان كفر، أي: غطى الحقائق وحجبها، والمغفرة كذلك: الستر، من الغفارة: وهو ما يغطى على الرأس في الحرب ليقيه ضرب السيوف والنبال والرماح.
فقوله: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر:35] أي: أقبح ما صنعوه في الدنيا، وأقبح ما يكون بعد الإيمان وهو بغير حق؛ ومعنى ذلك: أن الله يغفر أعظم السيئات لمن جاء تائباً موحداً ومصدقاً، قال الصدق وعمل به وصدّق به.
قوله: (أسوأ): أفعل تفضيل على يقتضي المشاركة والزيادة من السيئات، ولكن أسوأها وأقبحها يغفره الله، وإذا غفر الله الأكبر والأسوأ فمن باب أولى أن يغفر الذي دونه؛ وهذا معنى قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] لم يذنبوا فقط بل زادوا في الذنب بإسراف، والإسراف: الزيادة في الشيء، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ودون الشرك جميع الذنوب وجميع الآثام.
قال تعالى: {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر:35].
أي: وفي المقابل يجازيهم بأحسن أعمالهم ويكافئهم، وأعظم الأعمال لا إله إلا الله والصلاة وبقية الأركان، فالله يجازيهم عليها.
ولذلك فالتوحيد هو الفارق بين أهل الجنة وبين أهل النار، فمن جاء يوم القيامة وهو موحد فإن مآله دخول الجنة والرضا والرحمة، ومن جاء كافراً وإن أتى بأعمال صالحة تصير كلها سراباً هباء، وهو خالد مخلد في النار.
فقوله: {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر:35] أي: ويجزيهم ربهم من الأعمال أعلاها وأكرمها وأسماها، وأسوأ السيئات يغفرها، وهو يجازي على القليل بالكثير، فالحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله، فقد قال الله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر:34] أي: بغير حساب ولا كيل ولا ميزان، يحثو لهم حثواً.(274/6)
تفسير سورة الزمر [36 - 42]
الله تعالى هو الخالق الرازق، وهو الذي يكفي عباده الصالحين شر الكافرين، وهو الذي أنزل الكتاب على عبده محمد صلى الله عليه وسلم لهداية من طلب الهداية، وهو الذي يتوفى الأنفس بالنوم والموت، فهو المستحق للعبادة والتوحيد، ولا يعجزه الكافرون الظالمون.(275/1)
تفسير قوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده)
قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} [الزمر:36 - 37].
يقول تعالى لنبيه: بلّغ جميع عبادي العابدين: أليس الله بكاف عبده؟
الجواب
بلى، وهو استفهام تقريري جوابه فيه، فهذا الذي يخوف بعمل مخلوق وجبروته وظلمه، ويخوف بشؤم الأصنام والأوثان، فاكتف يا محمد! وهكذا يدافع الله تعالى عن الذين آمنوا ويكافئهم ويتولاهم.
قوله: (عَبْدَهُ): أي: عابده، فيدخل في الدرجة الأولى الأنبياء والملائكة ويدخل بعد ذلك المتقون الصالحون من عباد الله جناً وإنساً، والمعنى: أفلا يكفي إنسان أن يدافع الله عنه ويحميه ويتولى رعايته وكفايته ونصرته؛ وقد قال الله ذلك عندما قال الكفار لرسول الله: إنا نخاف عليك من آلهتنا وأنت تسبها وتزيفها، ألا تخاف أن تصيبك بخبال وجنون وتُمرضك؟ فهؤلاء يخوفون أولياء الله والعابدين بالأصنام والأوثان التي لا تنفع ولا تضر.
فقوله: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36] أي: يخوّفون رسول الله بمن هو دون الله من أوثان وأصنام لا تضر ولا تنفع، ولا تعي ولا تعقل.
ثبت في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر خالد بن الوليد أن في الطائف صنماً يؤلهونه وأمره أن يكسره، فوافق خالد وهو الأمير ليضرب هو ومن معه هذا الصنم ويفتتوه، فأخذوا يصيحون ويحذرونهم: إياكم أن تمسوه فيصيبكم خبال وبلاء، فقال خالد: ليس للصنم إلا أنا، فأخذ فأساً وارتفع في وجهه وكسر أنفه وعينه ورأسه ثم رمى به.
فالمشركون خوّفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما خوفوا خالداً وقد دخل مكة عليه الصلاة والسلام فاتحاً معززاً مظفراً، فأتى الكعبة وكان فيها ثلاثمائة وستون صنماً فأخذ يقول: ({جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]) وفي يده عصاً يكسر بها هذه الأصنام فتسقط وتترامى، وأخذ من لا يزال على شركه يخوّفه مما يفعل صلى الله عليه وسلم، فيقول الله له وللقائمين بوحدانية الله، الكافرين بالشرك والأوثان: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36].
فهؤلاء قد ضلوا وكفروا وخرجوا عن الحق، وأغرقوا أنفسهم في الباطل، فهم ضلوا عن علم، وضلوا بعد مجيء الرسالة ومجيء كتاب الله، وبعد أن علّمهم وعرّفهم بالأدلة الأصولية التي لا ينكرها إلا أعمى البصيرة قبل أن يكون أعمى البصر، فبقوا على أصنامهم وعلى أوثانهم، ومن ضل فلا هادي له من دون الله، وليس له من يهديه إلا الله، والرسل يهدون وإنما كلّفوا بالبلاغ وبالدعوة {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272].
قال تعالى: وحتى لو أمرت إنساناً فائتمر ونهيته فانتهى فإن منك البلاغ، أما الهداية فهي حيث شرح صدره للإسلام ووسع قلبه لقبول الحكمة؛ وإلا فقد تكون أبلغ وأفصح من ذلك، وأكثر دلالة من ذلك، ولكن الذين تدعوهم مصروفون عن قول الحق وسماع الصدق، ويأبون إلا الكفور والفجور، وقد يجدون أفضل من كلامك فيغلقون آذانهم ويقولون: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26].
فقوله: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36] أي: من دون الله وهم كل ما خلق الله مما اتخذوه وثناً وطاغوتاً شريكاً مع الله ونداً، قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36] أي: من أضله الله لا هادي له وسيبقى على ضلاله إلى أن يُخلّد في النار {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مُضِلٍّ} [الزمر:37] أي: يشرح صدره لقبول الموعظة وسماع كلام الله وإدراك فهمه وفهم تفسير رسول الله عليه الصلاة والسلام، فمن هداه الله فلا يخاف ضلال أحد.
ثم قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} [الزمر:37] بلى يا ربنا! إنك أنت العزيز الذي لا ينال جنابه، والعزيز الذي من اعتز بك عز ومن اعتز بغيرك ذل، فالله يُعز المؤمن وينتقم من الكافر المشرك، وإنما العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون؛ فالمؤمن يشعر بالعزة وبالعظمة نتيجة إيمانه وتعلقه بالله، فلا عزيز إلا الله ولا عزيز إلا من أعزه الله، ومن يذلل الله فلا مُعز له، كما أن الله ينتقم من أعدائه الكفرة يهوداً ونصارى ومنافقين، ويدخلهم في نار جهنم خالدين فيها أبداً كلما نضجت جلودهم بدّلهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.
وقوله: (ذي انتقام) من الأسماء الخمسة التي تُرفع بالواو وتُنصب بالألف وتُجر بالياء، فتقول: جاء ذو مال، ورأيت ذا مال، ومررت بذي مال، وجاء ذو دين، ورأيت ذا دين، ومررت بذي دين.(275/2)
تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض)
قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38].
يقول تعالى: سل هؤلاء المجانين الحمقى: من خلق السماوات والأرض؟ فإنك لو سألتهم لقالوا: الله (لئن) بالقسم مؤكدة بنون التوكيد الثقيلة، فلو أنت سألتهم من الذي خلق هذه السماوات العلا وهذه الأرضين السفلى لقالوا: بإن الله هو الذي خلقها، فهم مع وثنيتهم وشركهم يعترفون بأن الله خالق السماوات والأرض، ولكن لا يؤمنون بالبعث والنشور، فتراهم يعبدون أصناماً وأوثاناً ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فمن جنونهم ووراثتهم الوثنية والصنمية يقولون: عبادتنا لهم هي عبادة شفاعة، لنتخذهم قربى وزلفى إلى الله، وهم بذلك يزيدون ضلالاً، وقد كانوا قبل الإسلام عندما يحجون ويلبون يقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فهم يقولون له شركاء ولكن هذه الشركاء لا تملك شيئاً وهذا من تمام الضلال؛ ولذلك يقول الله لنبيه: قل لهؤلاء: من خلق السماوات والأرض، ودعهم يعترفون بأنهم حمقى لا عقول لهم، ولا منطق لهم من دليل ولا برهان عقلي ولا نقلي.
أي: فهل يستطيع هؤلاء الشركاء أن يكشفوا عني هذا الضر الذي أصابني الله به؟ {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38] أو لو أرادني الله برحمة فأكرمني بنعمة أو مال وجاه وعبادة وتقوى وسلطان وأمر بمعروف ونهي عن منكر، هل يستطيعون أن يمسكوا رحمة الله عني؟
الجواب
هم أعجز من ذلك، وهو مفهوم من السياق، ولذلك قال الله لنبيه: {قُلْ حَسْبِيَ الله} [الزمر:38] إذا كان هؤلاء الذين يدعون من دون الله مهما كانوا من بشر أو جن أو ملك، ليس بإمكانهم أن يمسكوا الرحمة عن أحد، فإذاً لم الخوف منهم؟ ولم هيبتهم؟ ولم الاهتمام بهم؟! ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عباس وغيره قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، فإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
يخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم مبيناً لمثل هذه الآيات أن الخلائق كلها من آدم إلى آخر إنسان، ومن إبليس إلى آخر شيطان، ومن جبريل إلى آخر الملائكة، لو اجتمعوا وأرادوا ضُرّك بشيء لم يكتبه الله عليك لما استطاعوا، ولو اجتمعوا جميعاً على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك في صحيفتك لما استطاعوا جفّت الصحف بما هو كائن إلى يوم القيامة، لقد كتب الله في اللوح المحفوظ ما كان ويكون إلى قيام الساعة قبل خلق الخلق بألفي عام، واليوم فيها كألف سنة مما تعدون، أي ألف سنة تصبح ألف ألف مليون سنة.
يقول ربنا جل جلاله وهو يسائل نبيه عليه الصلاة والسلام ليظهر كذب المشركين وضلال الضالين أن من يدعى من دون الله لا يملك مع الله ضراً ولا نفعاً، فالجميع أعجز عن ذلك وأضعف من ذلك، فما كتبه الله لك من خير لن يستطيعوا إمساكه، وما قدر الله عليك من ضر لن يستطيعوا كشفه، ولذلك علّم الله نبينا أن يقول: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [الزمر:38] أي: كفاني الله رازقاً وخالقاً، فحسبي الله جل جلاله في قدرته ووحدانيته وإرادته الخير إن شاء أو الضر إن شاء، فلا نفع بالمشركين ولا بالوثنيين ولا بأصنامهم وأوثانهم ولا بما هو غير الله.
فقوله: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [الزمر:38] أي: حسبي ربي رازقاً ومعيناً ومؤازراً ومحامياً ومدافعاً، وكل أولئك هباء في هباء.
قوله: {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] أي: يجعلون الله وكيلهم القائم بأمورهم، وعندما يأتي المؤمن ويفعل ذلك عن رضاً وقناعة وفهم وإدراك ووعي، يكون ذلك من كمال الإيمان والإيقان ويجازى على ذلك، وأحسن ما يجازى به المؤمنون الأتقياء المتوكلون مضمون قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: كافيه وحاميه ورازقه، ومن يعتز بالله اعتز، ومن حاول أن يعتز بغيره ذل.(275/3)
تفسير قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم)
قال تعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [الزمر:39 - 40].
يا محمد! قل لقومك ولمن أمرت بدعوتهم للإيمان: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} [الزمر:39] وهذا تهديد ووعيد، قل: اعملوا على دينكم وعلى مذهبكم وطريقتكم، وأنا سأعمل على طريقتي وديني كما أمرني الله.
قوله: (اعملوا)، ليس هو أمر بالعمل ولكنه ترك وإهمال ونسيان، ثم هو وعيد وتهديد، قال تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [الزمر:39 - 40] فسوف هي للتسويف البعيد بالنسبة لهم، يعني: يوم القيامة ستعلمون من يحل عليه عذاب يخزيه في الدنيا والآخرة، فسوق تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا من ذل وهوان وقهر وغلبة واستعباد وقتل وأسر وتشريد وتدمير، وقد حدث كل هذا وما زال يحدث.
قال: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [الزمر:40] فيوم القيامة عذاب دائم، عذاب مقيم لا يزول أبداً؛ فهم في الدنيا في خزي وعذاب مهين، وفي الآخرة لهم عذاب مقيم دائم، كلما نضجت جلودهم بُدِّلوا غيرها ليزدادوا عذاباً.(275/4)
تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق)
قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر:41].
يقول ربنا بأنه أنزل الكتاب على نبيه {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} [الزمر:41] أي: أنزلنا عليك الكتاب لتكون به بشيراً ونذيراً لجميع الناس، عرباً وعجماً، مشرقاً ومغرباً، من عاصرك في حياتك ومن جاء بعدك وإلى يوم القيامة، فلا نبي ولا رسول ولا دين بعدك ولا كتاب؛ وهذه من الآيات التي تؤكد وتتفتح لعلوم الأمثال الخالدة، كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158].
فقد أنزل الله الكتاب على رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون للناس بشيراً ونذيراً معلماً ومبيناً، من اهتدى به فقد اهتدى، ومن أعرض عنه فقد ضل، أنزله الله بالحق، فكل ما فيه حقيقة بعقائده وأحكامه وآدابه وقصصه، وحقيقة بما قصّه علينا من أخبار الأولين، وبما يُخبرنا من أخبار الآتين إلى يوم القيامة.
قال تعالى: {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ} [الزمر:41] بعد البيان والعلم، وبعد الرسالة وتمام البلاغ.
{فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ} [الزمر:41] من قبِل هداية القرآن ورسالته، فهداية محمد صلى الله عليه وسلم فلنفسه، والهداية يعود نفعها عليه، فهو الذي سيمتع برحمة الله ورضوانه وبالخلود في الجنان.
قال تعالى: {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الزمر:41] أي: ومن أبعد عن الطريق وضاع عنها، وسلك الطرق المعوجة وترك القرآن الكريم، وقبل ديانة النصارى وديانة اليهود وديانة عبدة الأوثان، وكل ذلك قد غُيّر وبُدّل وحُرّف، فمن ترك الحق فقد ضل ونفسه أضر وضلاله على نفسه عائد عليها بالضرر والهوان والخلود في النار، فهو أبعد ما يكون عن الهدى.
وقد بيّن الله الحق وأنزل الرسل وتبقى الحجة البالغة لله، فإذا سئل عند موته: من ربك؟ من نبيك؟ ولم يجب فلا يلومن إلا نفسه؛ لأنه سمع الكتاب المنزل عليه وقرأ السنة بياناً وشرحاً، سمعها من أبيه أو أخيه أو شيخه أو من مجتمعه أو من أي مكان.
سمع في الأرض أن إنساناً من جزيرة العرب اسمه محمد خرج من مكة ثم انتقل إلى المدينة، يقول: أنا رسول الله للناس جميعاً جئتكم بالهدى وبسعادة الدارين، جئت منذراً للكافرين بالنار ومبشِّراً المؤمنين بالجنة؛ فهو عندما يسمع ذلك ويبلغه يصبح ملزماً بالإيمان وبالإسلام، والجهل ليس عذراً، وعدم معرفة العربية ليس عذراً، فإن لم يعرفها فليتعلمها، فإن لم يتعلمها فليسأل أهل هذه اللغة ليفسروا له، أما أن يبقى على ضلال ويقول: ما علاقتنا! هذا نبي المسلمين! بل نبي العرب والكتاب منزل على العرب، فهذا يضحك الشيطان عليه حتى إذا جيء به يوم القيامة ووقف الملكان على رأسه وأخذا يسألانه من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ وأخذ يهذي ولا يجيب ويقول: سمعت ناساً يقولون وآخرين يقولون، لن ينفعه هذا من عذاب الله في شيء؛ ولذلك أنذر الله وبشر، وأمر نبيه الخاتم أن يبشّر وينذر بأمره وبنهجه؛ لذلك كثيراً ما كان يحذّرنا نبينا عليه الصلاة والسلام وينصحنا ويقول: اجتهدوا حياتكم قبل مماتكم، وشبابكم قبل شيخوختكم، وصحتكم قبل مرضكم، وفراغكم قبل شُغلكم، وإلا فالوقت كالسيف إن لم تقطعه بالعمل فيه وبالعبادة فيه وبالتفكر فيه فاتك الزمان، وإذا بك يوماً من الأيام ميت، وبعد الموت لن ينفعك شيء، قال تعالى: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].
قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر:41].
وقال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود:12].
وقال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40].
فوظيفة الأنبياء البلاغ وليست الهداية، الهداية بيد الله سبحانه وهذا القرآن جاء بلاغاً من رسول الله عن ربه جل جلاله، فلا حجة لنا ولا لمن سبقنا ولمن يأتي بعدنا ولا لأحد في الأرض في مغاربها ومشارقها، فكل من بلغه أن هناك عبداً لله قال أنا نبي الله، ودعا إلى القرآن الكريم وبالرسالة الهادية ثم أعرض عن ذلك إلا أصبح من المشركين الكافرين عليه عذاب الله الخالد ولا عذر له ولله الحجة البالغة.(275/5)
تفسير قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها)
قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42].
يقول ربنا في هذه الآية الكريمة بأن الموت موتان: موت لا يبقى فيه حس ولا شعور في الإنسان، وهو الموت الذي يأخذ الله فيه الروح البتة، وموت يكون عند النوم.
فقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ} [الزمر:42] أي: تنتهي آجالها وأوقاتها {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] والإنسان مشتمل على نفس وروح، فالنْفس هو هذا النَفَس ولا يزال الإنسان في حركة ما دام هذا النفس، وهناك الروح؛ وقد تقف الروح ويبقى النفس، وإذا وقفت الروح فلا نفس، يقول تعالى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42] أي: يأخذها ويستوفيها {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} [الزمر:42] يستوفيها كذلك في منامها.
ولذلك نحن عندما ننام لا نحس ولا ندري ولا نعي فإذا صحونا زال المنام، وعندما ننام نكون قد أخذ الله الروح، فالله جل جلاله إذ ذاك من قضى عليها الموت من النفس أخذها إليه، ومن لم يقض عليها الموت أعادها إلى الجسد {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42] أي: إلى الأجل المقدر لكل مخلوق، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام إن الإنسان ينام كما يموت، ويستيقظ كما يبعث، فشبّه النوم بالموت، فالإنسان عندما يموت فجأة يفقد الإحساس والحركة، والنائم كذلك، وعندما يُبعث الإنسان يوم القيامة يُحس بالحركة كما نصحو بعد النوم.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا أراد أحدكم أن يضطجع على فراشه فلينزع داخلة إزاره ثم لينفض بها فراشه فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليضطجع على شقه الأيمن ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).
أي: إذا أخذت روحي وأنا نائم فارحمها، وإذا أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، أي: احفظها في دينها وصحتها من فتن العصر.
ومن المعلوم في السيرة النبوية أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينام على يمينه ويضع باطن يده اليمنى تحت خده الأيمن، وينام المسلم على جهته اليمنى والقلب في الجهة اليسرى؛ لأنه يكون أقرب للصحو والاستيقاظ لصلاة الفجر، وإن نام على الجهة اليسرى يكون أكثر في الاستغراق في النوم والتخلف عن صلاة الفجر في وقتها.
ويقول علي رضي الله عنه: تجتمع الأرواح عند الله -أرواح الموتى وأرواح النائمين- ثم تعود أرواح النائمين عندما يُرسلها الله؛ وفي هذه الحالة إذا رأى الإنسان حلماً وروحه في السماء لم تنزل بعد فستكون رؤيا صدق وحق، وإذا رأى رؤيا وقد أخذت روحه تنزل وهي في طريقها إليه تكون تلك الرؤيا من الشيطان، والأرواح الميتة في دار الحق، والذي يذكر عنها هو حق سواء كان خيراً أو كان شراً، وأهل النعيم في نعيم حق، وأهل الشقاوة في شقاوة حق، النار حق والجنة حق، ونحن نرى في المنام أشياء عجيبة إذ نرى موتى وهذا يكون كثيراً.
يقول تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:64] سئل النبي عليه الصلاة والسلام: ما بشرى الدنيا يا رسول الله؟ قال: (الرؤيا الصالحة يراها المؤمن وترى له) ونفسّرها عنه بأن هذه الرؤيا الصالحة هي التي لا تزال في السماء مع الأرواح فما رآه الإنسان وهو في منامه وروحه لا تزال في السماء، فإن رؤياه حق إما بشارة بخير أو إنذار من سوء وهو كذلك حق.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا حديث نفس، ورؤيا من الشيطان) ويأتي ذلك عند تفاصلهما.
قال تعالى: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42] أي: التي أماتها والتي سبق في علمه أنها استوفت أيامها يقبضها الله إليه ويمسكها، بحيث لا تعود للبدن {وَيُرْسِلُ الأُخْرَى} [الزمر:42] التي لم يقض الله عليها بوفاء أجلها وبموتها فيرسلها إلى الجسد، يرسل النفس الأخرى والروح الأخرى {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42] أي: إلى الأجل المكتوب.
ونحن لا نزال في أرحام أمهاتنا عندما يأتي الملك المكلف بزرع الأرواح يقول: ما أجله؟ فيكتب كم يعيش الإنسان حسب أمر الله وإرادته.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42] أي: إن في هذا لعلامات وأدلة قاطعة تدعو إلى الحق اليقين وإلى الإيمان.
قوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42] أي: لقوم سليمي العقول والإدراك ولا يصنع هذا إلا الله.
وقديماً تساءل الناس ما هي الروح؟ وحديثاً يتساءل الناس ما هي الروح؟ وسيبقون يخبطون خبط عشواء، فالروح مما استأثر الله بعلمها، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] وعلى دعوى الإنسان في العصور الماضية والعصور الحاضرة بالعلم والمعرفة أن الروح التي بين جنبينا تصاحبنا وتماشينا ومع ذلك لا نعلم ما هي؟ فإذا قال إنسان: نحن نقوم ونجلس ونأكل ونشرب ونحب، فهذه علامات وجود الروح.(275/6)
تفسير سورة الزمر [42 - 46]
استأثر الله تعالى بعلوم غيبية لا يطلع عليها الناس، ومن ذلك ماهية الروح، وإذا كان الإنسان عاجزاً عن بعض هذه العلوم، فلا يجوز له أن يتخذ آلهة من دون الله، فضلاً عما يكون عند المشركين من الاشمئزاز لذكر الله والاستبشار عند ذكر شركائهم الذين من دون الله.(276/1)
أقوال العلماء في معنى الروح
قال الله جل جلاله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42].
يخبرنا جل جلاله بأن النوم وفاة، وأن الموت وفاة، يقول الله تعالى: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)) أي: الله يستوفي أجلها وحياتها، فالتي ماتت يمسكها ولا يعيدها، والتي سبق في علمه أنها ستبقى يرسل لها روحها إلى أجل مسمى عنده، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (النوم كالموت والصحو كالبعث)، ونحن عندما ننام كأننا متنا، فهو شبيه بالموت من حيث فقد الشعور والإحساس والإدراك، واستيقاظنا من نومنا كالبعث عند القيام للحشر والعرض على الله.
واختلف علماؤنا: هل النفس هي الروح أو الروح مختلفة؟ ظاهر القرآن يدل على أن النفس هي الروح، وأن الروح هي النفس، قال تعالى: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا))، فقد ذكر كل ذلك موتاً سواءٌ كان عند الموت التام أو عند النوم.
وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185].
وذهبوا يتكلمون عن الروح ما هي؟ فقالوا: هي جسم لطيف أشبه بذات الإنسان طولاً وعرضاً، وأشبه بصفات الإنسان المرئية.
ولكن هذا كلام قالوه والقرآن يخالفه، فقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الروح كما يقول ربنا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].
فالله قد استأثر بعلمها.
فلذلك قال ربنا: ((وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)) أي: لم نؤت من العلم على سعة علوم البشر وكثرتها وتنوعها وتفننها إلا القليل.
وقصة موسى والخضر تؤكد ذلك وتزكيه، عندما سئل موسى: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: لا، فقال الله له: بل عبدنا الخضر، فرجا ربه وضرع إليه ليجمعه به، وليتعلم من علمه، وإذا به قطع البراري والقفار، والشواطئ والصحاري، من صحراء فلسطين إلى طنجة؛ حتى بلغ مجمع البحرين: البحر المحيط والبحر الأبيض، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه وغيره، فوجد موسى الخضر عليهما السلام فسأله أن يعلمه من علومه، فقال: إنك لا تصبر على ذلك، قال: بلى، فاشترط عليه ألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً، إلى أن جمع معه ثلاث قصص وثلاث قضايا فكان موسى في عقب كل قصه يستنكر ما رأى.
وفي الثانية: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف:76].
وفي الثالثة كذلك انتقده وعابه، فقال له الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] أخذ يحدثه بحكم ذلك وتفسيره، وأخبره بالمغزى من القصة كلها، وقد وقف طائر على شاطئ البحر، وأخذ قطرة من الماء، فقال الخضر: يا موسى! أرأيت هذه القطرة يأخذها هذا الطائر، ما علمي وعلمك وعلم جميع الخلائق إلى علم الله إلا كهذه القطرة يأخذها هذا الطائر من البحر.
وذاك معنى قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] أي: لو أن بحار الأرض جميعها وخلفها مثلها كانت مداداً، وكانت الشجر أقلاماً لجفت البحار والأقلام، ولا ينفد علم الله بحال.
فالذي أخذه المفسرون وعلماء الفلسفة وعلماء الكلام في تعريف الروح هو ضرب من الظن ورجم بالغيب، إذ ليس الأمر كذلك، فالله لم يطلع أحداً على معرفة الروح، وكل ما نستطيع قوله هو ما يتعلق بأثرها، فمن كان فيه روح يتحرك، ويتنفس، ويرضى ويغضب، ويأكل ويشرب فكل ذلك أثر من آثار الروح وليست الروح نفسها.
قال عمر رضي الله عنه -وفي المجلس علي وجماعة من الصحابة: عجبت لأمر الرؤيا يرى الإنسان الرؤيا في منامه لم تكن تخطر له على بال في عالم الصحو واليقظة، فإذا به يصحو وكأنه يلمسها بيده، فقال له علي: أتعلم مغزى ذلك وحكمته؟ قال: لا، قال: قوله تعالى: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)) يحصد أروح النائمين كل ليلة؛ فتجتمع في الملأ الأعلى فتتذاكر وتتحاور، فما دامت في السماء يرى الرائي -وهو النائم ولم يقدر بعد أخذ روحه منه- فتلك الرؤيا صادقة ترى في السماء، تراها روحه، وتتحدث بها، فعندما تعود للجسم تتحدث وتكون رؤيا صدق، وما تحدثت به ورأته في منامها وقد نزلت وقد جاءت فتكون رؤيا كاذبة من الشيطان، فعجب عمر، وقد قال مثل ذلك ابن عباس وسعيد بن جبير وآخرون من السلف صحابةً وتابعين رضي الله عنهم.
قال الله تعالى: ((فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ)) أي: يتوفى الأنفس، ويستوفي حياتها وأيامها، وتكون عنده في الملأ الأعلى، فالذي قضى في سابق علمه نهايتها يمسكها إليه، ويرسل الأخرى التي لم يقض بعد بموتها، فتعود للبدن إلى أجل مسمى عند ربنا، فيعيش سنة أو مائة أو أقل أو أكثر، ويعلم ذلك الله جل جلاله.
ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين والسنن يقول: (إذا أراد أحدكم أن يدخل في فراشه فلينفض داخلة إزاره، فهو لا يدري ما خلفه بعده، ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).
ويعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننام جهة اليمين، وأن نضع الكف اليمنى تحت الخد الأيمن، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم، وأن ندعو بهذا الدعاء: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها وإذا أنت أرسلتها فاحفظها) أي: احفظها من الذنوب والآثام إلى أن تقضي بأخذها.
قال تعالى: ((وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ)) أي: إلى وقت مسمى وزمن معين عنده جل جلاله.
قال تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) إن في أخذ أرواح النائمين وأرواح الموتى وكيف يصنع ربنا ذلك لعلامات دالة على قدرة الله، وعلى انفراده بالقدرة والوحدانية، وعلى أنه القادر على كل شيء وأن غيره لا يقدر على شيء، وأنه لا شريك له سبحانه.
فقوله: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ)) أي: لعلامات لكل متفكر في قدرة الله، ولكل واع مؤمن، وفي الأثر: (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله)؛ إذ ذات الله لا تسعها العقول ولا تصل إليها، وكل ما خطر على بالك فالله يكون مخالفاً لذلك.(276/2)
تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء)
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:43 - 44].
يقول ربنا عن هؤلاء المشركين الكفرة: ((أَمِ اتَّخَذُوا)) أم: استفهام تقريعي توبيخي، أي: هل أهؤلاء الكفرة المشركون اتخذوا من دون الله شفعاء، أي: آلهة؛ ليشفعوا لهم من عذاب الله، هذه الآلهة التي زعموا أنهم ما عبدوها إلا لتقربهم إلى الله زلفى، هل ستشفع لهم يوم القيامة من الخزي والعذاب ومن غضب الله؛ هل يملكون شيئاً في الدنيا، هل يعقلون أو يميزون، هل ينفعون أو يضرون؟ فما بال هذه العصور الضائعة الزائفة تعبد الجمادات، وتعبد أجساماً لا تضر نفسها ولا تنفعها، فكيف بها تنفع غيرها أو تضرها؟! ثم قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:44].
أي: قل يا محمد! لهؤلاء: إن الشفاعة لله جميعاً، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، فلا يقبل الله الشفاعة إلا ممن رضي له قولاً وأذن له أن يشفع، والله لا يأذن لوثن ولا لصنم، فإن الصنم جماد لا يعي ولا يعقل ولا يدرك ولا يملك من أمر نفسه شيئاً، حتى الشفاعة للملائكة وللرسل، بل والشفاعة العظمى لسيد الخلائق محمد صلى الله عليه وسلم لن تكون إلا بإذن الله.
فعندما تأتيه الخلائق والأمم من أمة آدم عليه السلام إلى أمة نبينا عليه الصلاة والسلام، يقوم عند ذلك ويقول: (أنا لها)، ولا يشفع حتى يخر ساجداً تحت العرش، ويدعو الله بمحامد -يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ولا أعلمها الآن، يعلمني الله إذ ذاك إياها، فيشفع ويقول: يا رب، ويضرع إلى الله بأن يأذن له بالشفاعة، بعد زمن لا يعلم كم، يوم أو سنة أو أكثر أو أقل، فيقول الله عز وجل: (يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع)، وهذا هو المقام المحمود الذي وعده الله لخاتم أنبيائه، وهو مع ذلك لا يكون إلا بإذنه وأمره، فكيف بهذه الأصنام وهذه المعبودات الباطلة، أن تشفع وأن يصدر عنها ضر أو نفع، وهي أعجز من ذلك، وأضل من ذلك وأضعف.
فقوله: ((قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا)) أي: كل الشفاعات؛ شفاعات الملائكة، وشفاعات الأنبياء والرسل وشفاعات الصالحين من آباء وأبناء، وشفاعات العلماء من كبار وصغار، كل هذه الشفاعات بجميع أنواعها هي بيد الله ولا يأذن لأحد في إحداها إلا لمن رضي ولمن أذن له، قال تعالى: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)).
قال تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:44].
أي: الله الواحد، مالك السماوات والأرض وما بينهما، خالقها ومدبرها، رازقها والقائم عليها جل جلاله.
قال تعالى: ((ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) أي: يوم القيامة، ثم تبعثون بعد الموت، فحساب فعقاب فجنة ونار، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
فليس لهؤلاء الأنداد ولا لهذه الأوثان مع الله أمر أو نهي، إنما هي أوهام وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان.(276/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة)
قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45].
وما أشبه اليوم بالأمس، فإن الله يخبر عن هؤلاء الكفرة الجاحدين المشركين بأن من عوائدهم وأخلاقهم أنه إذا ذكر الله وهم يسمعون اشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35].
فقوله: (اشمأزت قلوبهم) أي: نفرت وحاصت حيصة حمر الوحش، واستكبرت وتضايقت وعافت السامع وملته، فلا تريد أن تسمع لله ذكراً، وذاك من كفرها وإصرارها على الكفر؛ ومن عدائها جهلاً وضلالاً؛ لجهلها بالله ومقامه، إذا سمعوا اسم الله تعالى ضاقت نفوسهم ونفرت قلوبهم، واستكبروا على الله ولا يريدون أن يسمعوا لله ذكراً.
قال تعالى: ((وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)) أي: إذا ذكر الأوثان والشركاء، وإذا ذكر من زعم له العلم ممن يسمى فيلسوفاً ومفكراً وعاقلاً ومدبراً، ((إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)) أي: يفرحون، وهذا كما وصف الله به من مضى من الكفار السابقين، ومن عاصر محمداً صلى الله عليه وسلم، ولا تزال هذه الصفة الكاشفة لكل كافر إلى يومنا هذا.
فإنك إذا جئت مجتمعاً فيه كفرة مشركون، تجدهم لا يهابون سيفاً ولا يهابون حاكماً؛ لأن الحاكم من نوعهم، والنائب من جنسهم والزعيم من أشكالهم، فإذا قلت: باسم الله، حاصوا حيصة حمر الوحش وقالوا: لم باسم الله؟! وإذا قلت: الحمد الله، صاحوا في وجهك وقالوا: وما ذكر الله؟! وأعلم وأسمع في بلاد المسلمين أنه يقف الأستاذ الجامعي يحاضر تلاميذه، فيبتدئ درسه بباسم الله، وإذا بهم يقومون في وجهه كالوحوش الكاسرة: لم باسم الله؟! هذه بداية الرجعيين المتخلفين، وإذا ختم الدرس بالحمد الله، حاصوا وجنوا، فإذا قال هذا المتكلم: ماركس وقال: لينين وما إلى ذلك من هذه الأسماء القذرة تطارحوا عليه تطارح الفراش على النار، والأمر كما وصف الله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] أي: يفرحون ويعدون ذلك بشرى، وهذا في ديار الإسلام ممن تلاعبت بهم اليهودية والصليبية والإلحاد والنفاق بكل نعوته وصفاته، فأفسدوا العقول، وأضلوا العقائد، وأذلوا البشرية، وأصبحوا أحقر من الحيوانات، بل كما وصفهم الله: {أولئك كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].
فهذه هي الصفة التي وصفهم بها خالقهم، ولذلك فهم الرجعيون حقاً والمتخلفون حقاً، فآباؤهم وأجدادهم وأولياؤهم من الكفار السابقين، هم الذين اتصفوا بهذه الصفات، ينفرون إذا سمعوا ذكر الله، ويحصل لهم اشمئزاز في النفوس والقلوب، ويستكبرون في أنفسهم ويقولون: دعنا من ذكر اسم الله.
وأعلم شخصاً هلك قريباً، كان وزيراً كاتباً وابن رجل صالح، جاءني يوماً بمقال قال لي: ألا ترى؟ كتبت عدة أوراق ولم أذكر اسم الله قط، وأنت تكتب ولا يكاد يمر سطر إلا وفيه باسم الله، والحمد الله، وإن شاء الله، وإذا أراد الله، فقلت له: (تلك شكاة ظاهر عنك عارها!) وهلك قريباً، ولا أدري على أي حال هلك، وإن كان من بيت كريم ينتسب للشرف والعلم والصلاح، ولكن الشيطان -ونعوذ بالله من وساوس الشيطان- إذا عادى عالماً، وعادى صالحاً، وعجز عن الإضرار به وإفساده طمع في أن يصل إلى أولاده، فنعوذ بالله أن يقدره علينا أو على أولادنا أو على أسباطنا.
فقوله تعالى: ((وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)) أي: من دون الله، وهذه صفة هؤلاء الأوساخ ممن ينتسبون للبشر، هذه صفتهم القديمة والمحدثة، ومن عجيب الأمر أن يقولوا مثل هذا ويجاهروا به مع قلة أدبهم وقلة حيائهم مع الأساتذة وقت محاضراتهم، ولا يجد هؤلاء رادعاً من الدولة، لا من كبيرها ولا من وزراءها، ولا من حكامها، فكلهم يؤيدون الكفر ويشجعونه، وينافحون عنه، فلو قام هذا، ولطم هذا، وطرد هذا لقامت عليه الدنيا: أنت محدث أو جبار.
أما أن يسمع ذكر الله بسوء، ويسمع الإعلان بالكفر بالله والاشمئزاز من ذكره، فيقولون له: تلك حرية، تلك أشياء شخصية لا دخل لك فيها؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله! كل هذا في هذا الوقت السوء، في هذا العصر عصر الشيطان واليهود، وعصر الصليبية والنفاق بكل أشكاله، أعاذنا الله والمسلمين جميعاً منه، ومن وساوس إبليس.(276/4)
تفسير قوله تعالى: (قل اللهم فاطر السماوات والأرض)
قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:46].
أي: قل يا محمد! وادع ربك وناجه، وقل: ((اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)).
اللهم: أي يا الله، يا فاطر السماوات، يا خالقها ومبدعها على غير مثال سابق.
والفطر: الخلق على غير مثال سابق، فليس هناك شيء سابق إلا الله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن.
فالله هو الذي فطر السماوات بمن فيها وما فيها وما بينها، وهو فاطر الأرض وما عليها وما تحتها، وما فيها من إنس وجن وحيوان، وما فيها من بحار وصحاري وكل ما فيها، فالله هو الذي ابتدأها وفطرها وخلقها على غير مثال سابق، فنادِ يا محمد! ربك وادعه، لا كأولئك الذين لا يريدون أن يدعوا الله.
قوله تعالى: ((عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)) أي: يا عالم الغيب -وهو ما غاب عن الناس- يا عالماً بالأسرار! يا عالماً بما في الضمائر! يا عالماً بما في الخواطر.
وقوله: ((وَالشَّهَادَةِ)) أي: الحاضر والعلانية، أي: تعلم ما أعلن؛ فأنت تعلم ما أسر وما أضمر وما لم تتحدث به إلا النفوس والضمائر، ولا تخفى عليك خافية يا ربنا يا إلهنا.
قال تعالى: ((أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)): أنت الذي ستحكم يوم البعث والنشور، عند الحياة الثانية لهؤلاء الخلائق، أنت الذي ستعرضهم عليك وتحكم بينهم باختلافهم؛ فأنت تعلم المحق من المبطل، وتعلم من الذي أتى الهداية والذي عاش على الضلالة، ومن الذي قال الحق والذي عاش في الباطل، فستحكم بينهم يوم القيامة ((فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)).
تحكم بين النصارى ودعواهم: أن الله ثالث ثلاثة، وبين اليهود ودعواهم أن عزيراً إلههم، وتحكم بين اليهود والنصارى والمسلمين؛ وتحكم بين الذين ادعوا أنهم أبناء الله وأحبابه من النصارى واليهود، وتحكم للمسلمين الذين قالوا: إن الله واحد في ذاته، واحد في صفاته، وواحد في أفعاله، وأنه الخالق القادر الرازق المدبر للأمر، ليس له شريك لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
في الصحيح والسنن: سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها: (يا أم المؤمنين! بماذا كان يبتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام للصلاة في الليل؟ قالت: كان يقول: الله أكبر، ثم يقول: اللهم رب جبرائيل وإسرافيل وميكائيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي إلى صراط مستقيم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعبد الله بن عمرو ولغيرهما رضي الله عنهم: (إذا أصبحت وإذا أمسيت فقل: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون من قال ذلك حين يصبح، ومن قال ذلك حين يمسي يحفظه الله من كذا وكذا)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآيات جاءت بياناً للتوحيد وللهداية إلى الحق، وللإيمان الصدق بعد كفر أولئك الذين جعلوا مع الله شركاء، والذين إذا ذكر الله يستكبرون، والذين إذا سمعوا اسم الله تجدهم قد اشمأزت نفوسهم ونفرت قلوبهم، وحاصوا حيصة حمر الوحش، أما المؤمنون حقاً فهم الذين إذا ذكر الله اطمأنت قلوبهم، إذا ذكر الله فزعت قلوبهم، إذا ذكر الله تجدهم إذا هم بجميع خلايا جسومهم، وبجميع أعضائهم حامدون شاكرون راجعون لله فرحين، عكس أولئك المنافقين.
قال تعالى: ((أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ)) أي: أنت يا الله الحكم الحق، وأنت الحكم الذي تهدي الناس إلى سواء الصراط المستقيم، فمن آمن في الدنيا فله السعادة، ومن أشرك إلى ما بعد الموت يعرف الحقيقة، ويكون قد فاته الزمن، وقد مات على الشرك، فلا ينفعه إذ ذاك إيمان ولا توحيد ولا عودة إلى الحق؛ لأن الإيمان الذي قلنا به في دار الدنيا هو إيمان بالغيب.
أما حين يصبح الإيمان إيمان حضور وشهود فإنه يكون الكافر والمؤمن إذ ذاك سواء، قال تعالى: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].(276/5)
تفسير سورة الزمر [47 - 52]
يوم القيامة يتمنى الكفار لو كان لهم ملء الأرض ذهباً ليفتدوا به من العذاب الذي كانوا به يكذبون، ولكن هيهات! فإنه ليس هناك إلا حساب ولا عمل، وقد فاتهم الأوان حين لم يتعظوا في الدنيا بمن كان قبلهم من الظالمين فعاقبهم الله.(277/1)
تفسير قوله تعالى: (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً)
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
يقول الله عن هؤلاء الكفرة المشركين: يوم القيامة عندما يصبحون أمام العذاب وجهاً لوجه، ويسحبون إلى النار فإنه في تلك الساعة يتمنون ويرجون، ولات حين مندم، إذ يندمون على ما فات منهم، ويتمنون لو كان لهم ملء الأرض؛ بشرها وجنها وأرضها وجبالها وبحارها وخيراتها وأرزاقها وجيوشها ودولها ومثل هذا معه ليفتدوا به من عذاب الله، وأن الله يقبل ذلك لافتدوا به ولكن هيهات! فأين الأرض يومئذ، وأين كنوزها وجيوشها، وأين دولها؟ قد أصبحت في أمس الدابر، قد فنيت فيما فني، وذهبت الدنيا بما فيها؛ من خيرها وشرها، وفقرها وغناها، ولم يبق إلا الله والدار الآخرة، من جنة أو نار.
فهم يخوضون في الأماني الباطلة والخواطر الزائفة، ويخوضون في أشياء لا تفيدهم، وإنما تزيدهم حسرةً وألماً وهواناً وعذاباً نفسياً، وعذاباً جسدياً، فهم إذ ذاك من سوء العذاب يتمنون ولات حين أماني، يندمون ولات حين مندم على ما صدر عنهم في دار الدنيا من شرك وكفر، فلو أنهم يقدمون كل ما في الأرض فداء لأجسامهم ولأرواحهم من عذاب الله الذي أصبحوا بمواجهته، ولكن هيهات هيهات! قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، أي: وظهر لهم من الله وعقابه وحسابه وعذابه، ما لم يكونوا يحتسبون، وما لم يكن يخطر لهم ببال، وما لم يقبلوه في دار الدنيا وما لم يصدقوه وهم أحياء، فقد كانوا يعملون ويظنون أنهم يحسنون صنعاً، كانت تضيع أيامهم وسنواتهم، وحياتهم في عمل الباطل وهم يظنون أن ذلك العمل هو الذي يفيدهم وأنه سيكون لهم أجره وثوابه يوم القيامة إن كان ثم قيامة، فهم لا يعتقدون بها، ولا يدينون بكينونتها.
ولذلك فإن ما كانوا ينفونه ويكفرون به يجدونه إذ ذاك مواجهة وأمام أعينهم وهم في ذل وهوان، فيسحبون على وجوههم إلى النار، ولا يفيد منهم قول ولا عمل، ولو ردوا إلى الحياة الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، وإنما هي أباطيل منوا بها أنفسهم، وهيهات هيهات أن يكون لهم من هذه الأماني شيء! وقد بدا لهم وظهر ما لم يتوقعوه، مع أن ذلك قد أخبرتهم به أنبياؤهم، ونزلت به عليهم كتب ربهم، وبُين ذلك تفصيلاً للعمل في الدنيا والعمل للآخرة، كل ذلك بُين وفُصل، وهانحن لا نزال أحياء، ومثل هذا الذي سيقولونه نسمعه وندرسه ونفهمه عن ربنا جل جلاله وعن نبينا صلى الله عليه وسلم.
فلا يمكن أن تقول نفس عند البعث والنشور: لم يبلغني ذلك، ولم أسمع ذلك إلا الآن! فقوله: ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)) أي: ظهر لهم ما لم يكونوا في دنياهم يحسبونه ويظنونه أو يخطر لهم ببال؛ وذلك من ضلالهم وجهلهم ومن جعل الرصاص في آذانهم، وإلا فالقرآن قال ذلك: {مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23] القرآن قرر ذلك وقرع أسماع المؤمنين والكافرين صباحاً ومساء، وقد جاءت بهذا الأنبياء منذ آدم إلى خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فاعتذارهم وظنهم الواهي بأن ذلك لم يكن يخطر لهم ببال، ذاك من شركهم وجهلهم.(277/2)
تفسير قوله تعالى: (وبدا لهم سيئات ما كسبوا)
قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الزمر:48].
أي: ظهر لهم ما كانوا يظنونه من أعمال صالحة، أنها أصبحت سيئات وضلالات، وبدا لهم أنه شرك ووثنية، وأنه لا ينفعهم بل ضرهم.
قال تعالى: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} أي: كانوا يستهزئون ويتضاحكون من المؤمنين والصالحين، ومن أنبياء الله المرسلين، ومن كتب الله المنزلة عليهم، وكانوا يقابلون كل ذلك بالهزء والسخرية، وعلى أنه كلام ملفق ودعاوى من هؤلاء، ولم يكونوا مرسلين ولا أنبياء، والكلام كلامهم، والكتب قولهم، أعانهم عليها قوم آخرون، فبقوا على هذا الضلال وعلى هذا الكفران إلى أن ماتوا وهلكوا ودمروا وأصبحوا جيفاً منتنة، وعندما أعيدوا وبعثوا ورأوا ما لم يكن يخطر لهم ببال، وما لم يكن يحتسبونه، وما كانوا يحسبونه صالحاً؛ بدا لهم أنه سيئات وذنوب ومعاص ومخالفات لله ولرسله، ولورثتهم من العلماء والصالحين والدعاة إلى الله، فأحاطت بهم سيئاتهم إحاطة السوار بالمعصم.
فقوله: (ما كانوا) أي: الذي كانوا به يستهزئون ويسخرون، ويتضاحكون.
فقوله: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الزمر:48] أي: أحاط بهم الذي كانوا يستهزئون به، ويتضاحكون منه، وهكذا طال كفرهم خبثهم إلى أن وقعوا في هاوية خبثهم وكفرهم وضلالهم وبعدهم عن الله، ووجدوا ما كانوا يهزءون به أنه هو الحق الصراح وأنه هو الحق الذي لا حق سواه.(277/3)
تفسير قوله تعالى: (فإذا مس الإنسان ضر دعانا)
قال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:49].
قال تعالى: وبعض هؤلاء ولعلهم أماثلهم وصالحو كفارهم، كان إذا أصابه الضر، أي: أصيب وبلي بضرر أو بكارثة في جسده أو روحه أو ماله أو في أولاده أو في أي شيء يضره ويؤذيه؛ ((دَعَانَا)) إذ ذاك فيذكر الله ويتضرع إليه ويدعوه كشف الضر عنه، فلا يعلم ذلك ولا يقوله، ولا يعلنه إلا إذا امتحن بالضر والبلاء.
وذاك خلاف ما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (تعرف إلي في الرخاء أعرفك في الشدة)، يقول ربنا: تعرف إلي وأنت في هناءة من العيش وعافية وصحة وغنى أعرفك في الشدة والمصيبة.
فاعبد الله، واضرع إليه وادعه، قم الليل ساعات، وابك على خطيئتك، واستغفره من ذنوبك، وتصدق بما أعطاك الله، وأحسن إلى الفقير والمسكين واليتيم والأرملة والمريض العاجز، فإن فعلت ذلك وأنت في نعمة وعافية ورخاء فإنك إذا أصبت بالبلاء يعرفك الله ويكشف ضرك ويزيل ما آذاك وأضرك وأمرضك، ويزيل ما أسقطك في الفراش وطرحك.
قال تعالى: ((فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا)) الألف واللام تدل على الجنس، أي: جنس الإنسان في الأغلب، لا يذكر الله ولا يتذكر الدعاء والضراعة إليه، ولا يتذكر قدرته ووجوده إلا إذا أصابه ضر في جسد أو مالٍ أو أي شيء يؤذيه.
قال تعالى: ((ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً)) أي: إذا ملكه الله نعمة، كأن يكون جعل له نعمة العافية، نعمة رفع الضر، نعمة إجابة الدعاء.
قوله: (مِنَّا) أي: من الله جل جلاله، ((قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ))، أي يقول: هذا كان بعلم مني ومعرفة وذكاء وفهم وإدراك، لذلك استطعت كسب المال وشفاء جسدي، والتملك على الناس وبذل الجاه؛ لأن الله جل جلاله علم صلاحي وأهليتي لذلك، فأعطاني في دار الدنيا مالاً وجاهاً، فالذي أعطاني ذلك في دار الدنيا سيعطيني في الآخرة أعظم من ذلك.
فهكذا يفتري على الله الكذب؛ كفراً للنعمة وعدم شكر لها، والأمر كما قال تعالى عن شكر النعمة: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، فالشكر على النعم يزيدها، والكفر بها يزيلها ويسلبها، فهذا يكفر النعمة فيسلبها وتزول عنه، ويعود لهوانه ولضره وبلائه، وهيهات هيهات أن تكون العافية لمن أتى يوم القيامة جاحداً مشركاً.
((ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ)).
يقول تعالى: ليس كما زعم هذا الجاهل -هذا إضراب عن قوله، بل هو فتنة أي: اختبار من الله، يختبر هذا العبد حتى يشكر الله على نعمه وعافيته ويصبر عليها، فإن لم يفعل كان قد امتحن فرسب، وعند الامتحان يعز المرء أو يهان، فهذا المرء امتحن ورسب وأهين عند الامتحان، وكان يعيش بالدعوى فتبين أن دعواه كاذبة، وليست مستندة على أصل أو واقع.
قال الله تعالى في سورة الأنبياء: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] أي: يبتلي الله البشر بالخير فتنة وبالشر فتنة، والله يرزق من يرزق ويوسع عليه، إياك أن تغتر وتقول كما قال هؤلاء الكفار: أنا رجل أعلم التجارة والزراعة وأعرف كيف أتصرف، فإن هذا المال الذي ملكته وهذا الجاه وهذا الخول نتيجة معرفتي وعلمي، فمن يقول ذلك فقد كفر بالله، وجحد نعم الله، ويوشك من يفعل ذلك أن يسلب النعمة.
قال تعالى: ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)) أي: أكثر هؤلاء المبتلين لا يعلمون، فالكافر كافر، ولكن معناه أن بعض هؤلاء ربما يتوبون وينيبون ويوحدون الله، ويبقى الأكفر، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
فهؤلاء لا يعلمون أن ذلك ابتلاء واختبار من الله، بل فليبادروا إلى شكر النعم وليبادروا إلى الصبر على البلاء، ويعبدوا الله في الرخاء وفي الشدة، وفي الرخاء أكثر، فإن فعلوا يوشك أن يذكرهم الله في الشدة، وأن يستجيب ضراعتهم ودعواتهم، وإذا هم لم يفعلوا كان ذلك في الدنيا وبالاً، وفي الآخرة عذاباً.(277/4)
تفسير قوله تعالى: (قد قالها الذين من قبلهم)
قال تعالى: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الزمر:50].
أي: قالها قارون كما قص الله في كتابه عندما أعطاه من كنوز الدنيا ما تعجز العصبة أولو القوة على حمل مفاتيحها، فعندما قيل له: اشكر الله واحمد الله، وآمن بموسى -وهو من قومه من بني إسرائيل-: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، فكانت النتيجة أن خسف الله به الأرض هو وعرشه وماله وكنوزه ومفاتيحه ذهب في الأمس الدابر ودفن بجميع ما يملك؛ كنوزاً وقصرواً ودوراً وأولاداً وخشباً وحشماً وخدماً، فكأن ذلك لم يكن يوماً، ودعك ما يدبر لهم الله في الآخرة.
فقوله: ((قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) أي: قد قال ذلك أقوام من قبل، وإنما قارون مثال منهم، فهؤلاء أصيبوا في أبدانهم وأموالهم، فدعوا الله وضرعوا إليه، حتى إذا كشف عنهم الضر وعافاهم وشفاهم، وقيل لهم: اشكروا الله، قالوا: إنما أوتينا الذي أوتينا على علم منا ومعرفة ودهاء وبراعة وعلى علم منا أننا أهل لذلك، وأن سيؤهلنا للجنة يوم القيامة، هذا مع شركهم وكفرهم وجحدهم للأنبياء ورسالات الله وكتبه.
فقال الله لهؤلاء المشركين في عصر النبي عليه الصلاة والسلام ومن يجيء بعدهم إلى يوم القيامة: ((فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) أي: لم يغنهم، ولم يفدهم، ولم يدفعهم عن بلاء ولا مصيبة، ولم تشكر لهم نعمة، إذ هم كفروا بالنعمة، فجميع ما كسبوا من ملك وحطام ومال وجاه وشباب وأولاد وأتباع كل ذلك كان وبالاً عليهم ونقمة، وكان زيادة في العذاب والابتلاء والفتنة، فهكذا يضرب الله الأمثال ويعلم الحاضرين ويعطيهم الدروس والعبر من السابقين، إن وجدت آذان سامعة أو قلب يسمع الحق وهو شهيد.(277/5)
تفسير قوله تعالى: (فأصابهم سيئات ما كسبوا)
قال تعالى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر:51] أي: وأصابهم سيئات أكلهم للحرام، وفسادهم في الأرض، وشركهم بالله واتخاذهم الناس عبيداً وخوراً وجحودهم للأنبياء ولكتب الله، وبعدهم عن الحقائق، وعيشهم في الأباطيل والسفاسف.
((فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا)) أي: أهينوا وأصيبوا بذنوبهم وبسيئات ما كسبوه وارتكبوه وعملوا به.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر:51].
يقول الله عن هؤلاء الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام من كفار جزيرة العرب، ومن كفار الفرس والروم، وكفار الدنيا جميعها: هؤلاء الذين لم يؤمنوا، والذين أبوا إلا الكفر والجحود والعصيان، إذا عاثوا في الأرض فساداً وزادوا كفراناً وجحوداً؛ فـ (سيصيبهم سيئات ما كسبوا)، أي: يصابون بمصائب نتيجة ما اكتسبوا وارتكبوا من شرك وظلم وباطل وأكل أموال الناس بالباطل ومن فساد في الأرض.
قال تعالى: ((وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ)) أي: ليسوا بفائزين ولا يعجزوننا.
فالله القادر على كل شيء، وهم أقل من أن يعجزوا الله، فمن مضى قبلهم كانوا أعظم كفراناً وأكثر أقواماً وأموالاً وجنداً وحضارة ومع ذلك عاقبهم الله في الدنيا قبل الآخرة نتيجة شركهم، بين خسف وصعق وغرق وتشريد وبلاء، ولم يفلت منهم أحد.
فما قص الله علينا عن قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم فرعون، وقوم لوط وأقوام من بني إسرائيل، إلا ليكونوا عبرة لقوم محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من أمته، حتى إذا أشبهوا النصارى عوقبوا عقابهم، وإذا قلدوا اليهود عوقبوا عقوبتهم، وإذا قلدوا قوم لوط عوقبوا عقوبتهم.
فما ذكر الله ذلك إلا للعبرة والحكمة وأخذ الدرس منهم، لا لنعلم قصة، ولا لنطلع على حكاية، ولا لنمضي وقتاً في قصة لا نعلم ما بها ولا نسعى إلى معرفة حكمها وفوائدها.
فقوله: ((وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا)) أي: ينذرهم الله ويتوعدهم أنه سيصيبهم كذلك سيئات اكتسابهم وارتكابهم كما حصل للأمم السابقة.
قوله: ((وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ)) أي: لن يعجزونا، فهم لا يعجزون الله، وهيهات هيهات! ما أعجزوا محمداً صلى الله عليه وسلم وهو بشر مثلهم، فقد قتل منهم من قتل، وشرد من شرد، وأسر من أسر، وصادر من صادر، وطرد من طرد، وهكذا في حكومات الخلفاء الراشدين، في مشارق الأرض ومغاربها، ومن أتى بعدهم من الملوك الصالحين، ومن الفاتحين العادلين.(277/6)
تفسير قوله تعالى: (أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق)
فهؤلاء الذين قالوا إنما ملكنا وتقوينا وكان لنا من الكنوز ما كان هو بعلمنا، وبمقدرتنا وبما جعل الله فينا من أهلية هو أعلم بها، ولن يزيدنا يوم القيامة إلا أحسن من ذلك وأكرم، فهؤلاء لا يزالون على الشرك؛ لذلك قال الله: قل يا محمد لهم: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر:52].
استفهام تقريعي توبيخي، أي: ألم يعلم هؤلاء أن الله يرزق من يرزق ويمنع الرزق عمن يشاء؟ فقوله: ((أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ)) أي: يوسعه يكثره.
قوله: ((وَيَقْدِرُ)) يقدره ويقلله، أي: هو الذي يفقر من شاء ويغنى من شاء له الحكمة البالغة، وكل يعامله بما هو خير له مآلاً وخير له حالاً.
أولم يعلموا أن الغنى والفقر ليس بمحبوبية ولا بكراهية، ولكنه ابتلاء من الله لخلقه منذ خلق آدم وحواء إلى يوم القيامة، وليس لسعة متكبر ولا لذلة ذليل، ولو كان كذلك لكان الأنبياء أغنى خلق الله على الإطلاق.
وقد عرض على نبينا عليه الصلاة والسلام جبال مكة والمدينة ذهباً وفضة فأبى ذلك، وقال: (أعيش نبياً عبداً، أشبع يوماً فأشكر، وأجوع يوماً فأصبر)، وهو مع ذلك سيد الملوك الأباطرة، الشريف من الخلق والكبير من وضع رأسه عند نعله وبين قدميه.
ودعك ممن لا يعلم قدر النبي عليه الصلاة والسلام؛ فقد كان لا يهاب الملوك والأغنياء صلى الله عليه وسلم، بل هم الذين كانوا إذا رأوه هابوه وارتعدوا منه، كان يجيئه الرجل فيضطرب ويرتعد فيقول له: (هون عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة).
ولولا رحمة الله بأمته وأتباعه لما استطاعوا الجلوس بين يديه، أما رفع البصر بين يديه فما كانوا يستطيعونه، إذ كانوا يجالسونه وكأنما على رءوسهم الطير هيبةً وحباً واحتراماً، أما أن يهابوه كالملوك، فهذا كلام من لم يعرف من هو نبي الله، ولم يتأدب بعد بأدب رسول الله، ولم يعلم المقامات ليعطيها منازلها، وليعطيها حقوقها، وكثير من الناس، وممن يزعم العلم يظن أنه يعطي الحق عندما يقول مثل ذلك، وإذا به يضيع الحق ويقل من الأدب مع المصطفى عليه الصلاة والسلام.
فقوله تعالى: ((أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)).
أي: ألم يعلموا أن الغنى والفقر ليس بإكرام ولا إذلال، ولكن لله في ذلك الحكمة، والصالحون من الأنبياء فمن دونهم كانوا يستعيذون من الدنيا وغناها، ويبعدون عنها بعدهم عن المجذوم، فقد قال عليه الصلاة والسلام -ولله في ذلك حكمة-: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأفسدهم، وإن لله عباداً لا يصلحهم إلا الغنى، ولو أفقرهم لأفسدهم)! ومن هم هؤلاء؟ الله يعلم، ولكن نحن نعلم بتعليم الله لنا، فقد كان لنا زملاء على مقاعد الدرس، كانوا فقراء مدقعين وقلما يجدون قوت يومهم، وكانوا على غاية من الصلاح والدين والأخلاق، وإذا بنا نكبر ويكبرون، ويتولون المناصب فيتخولون الأموال والجاه والسلطان والخدم والحشم، وينسون الله ألبتة؛ فلا صلاة ولا صيام ولا ذكر لله، ولا خوف منه، ألم يكن من صالحهم أن يبقوا فقراء، أليس من الخير أن ينزع عنهم مالهم ليعودوا إلى الله؟ وما أرى إلا أن الران قد صعد على قلوبهم ونسوا الله فأنساهم أنفسهم وتركهم، والله لا ينسى، ولكن نسيان الله لهم هو تركهم وعدم المبالاة بهم.
وهذا شيء متعلق بإرادة الله وقدرته وحكمته لا بعلم عند هؤلاء، ولكن إذلال لأولئك، كم من فقير لا يجد قوت يومه هو عند الله أكرم وأشرف من جماهير ممن يملكون الملايين.(277/7)
تفسير سورة الزمر [53 - 59]
يدعو الله تعالى عباده الذين أسرفوا على أنفسهم إلى التوبة، وألا يقنطوا من رحمة الله، فإنه يغفر جميع الذنوب، فعليهم المبادرة إلى التوبة في الدنيا قبل التحسر والندم يوم القيامة.(278/1)
تفسير قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم)
قال الله جل جلاله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
هذه الآية الكريمة هي أرجى آية في كتاب الله، هي آية تدع الإنسان يرجو رحمة ربه ولا يقنط منها مهما صدر عنه من ذنب وجريمة.
فبعد أن قص الله علينا حال المؤمنين ثم حال الكافرين ذكر في هذه الآية الكريمة رحمته الشاملة، فذكر أنه يغفر الذنوب جميعاً ولو كانت ملء السموات والأرض لمن جاءه تائباً مستغفراً.
فقوله: ((قل))، أي: قل يا رسول الله! ونادِ عبادي، يا عباد الله! لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً.
والمعنى: يا محمد، ناد الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم، ناد الذين أسرفوا على أنفسهم وتجاوزوا الحد في الذنوب، وقتلوا النفس التي حرم الله، وكفروا بالله وجعلوا له شريكاً، وظلموا الناس، قل لهؤلاء الذين أسرفوا على أنفسهم: ((لا تقنطوا)) أي: لا تملوا ولا تيأسوا ((من رحمة الله))، ومن عفوه ومغفرته، ((إن الله يغفر الذنوب جميعاً))، سواء كانت من كافر أو كانت من مؤمن أو كانت من عاص، فجميع تلك الذنوب يغفرها الله؛ لأنه هو الغفور الرحيم.
والغفور: صيغة مبالغة، أي: كثير المغفرة والستر لذنوب عباده.
والرحيم: الذي يرحم عباده التائبين المستغفرين؛ ولذلك يقول بعد: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] أي: توبوا إلى الله وارجعوا إليه تائبين مستغفرين نادمين على ما صدر منكم.
وهذه الآية قال عنها عبد الله بن مسعود: هي آية الفرج للناس كلهم كافرهم ومؤمنهم.
وقال علي كرم الله وجهه: هي أعظم آية وأرجى آية في كتاب الله أي: أكثر الآي رجاءً وطمعاً في رحمة الله للمذنبين العصاة المخالفين.
ذات مرة خطب عليه الصلاة والسلام على المنبر، وذكر هذه الآية حتى اهتز فرحاً وارتج المنبر، حتى قال ابن مسعود: لقد ظننت أن المنبر سيخر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ما أود أن لي الدنيا بحذافيرها وألا تكون نزلت هذه الآية علي).
جاء عن أنس بن مالك وعن أبي أيوب الأنصاري وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم فيما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لو أن أحدكم أتى بذنوب ومعاص ملء السماوات والأرض ثم تاب إلى الله وندم لغفر الله له).
ثم قال: (ولو لم تذنبوا ثم تتوبوا وتستغفروا لأتى الله بأقوام يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم، ثم تلا هذه الآية الكريمة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53]) الآية.
فالله جل جلاله هو التواب الغفور الرحيم، أخبرنا بهذه الآية ونحن ما زلنا أحياء، فهو ينصحنا ويوجهنا ويدخلنا في رحمته، ويدلنا على الطريق التي نتبعها ليغفر لنا خطايانا.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! لقد غدرت غدرات، وفجرت فجرات في الجاهلية، فهل لي من مغفرة؟ قال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، وأشهد أنك رسول الله، قال: لقد غفر لك على ما كان منك).
وجاء أقوام وذكروا لرسول الله أنهم زنوا وقتلوا وكفروا وأشركوا؛ هل لهم من مغفرة إذا تابوا، فأنزلت هذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53].
والقنوط: اليأس، و {لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].
وقف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على واعظ يعظ ويعلم، فوجده يتكلم عن النار وسلاسلها وعذابها وما فيها من مقت وغضب، فقال: يا مذكر! لا تقنط الناس من رحمة الله، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الإسلام يجب ما قبله)، وقد وعد الله جل جلاله المستغفرين التائبين أن يغفر لهم وأن يتوب عليهم، وذلك معنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فالله لن يغفر الشرك إلا لمن كان حياً ثم تاب من شركه وأناب وعاد للإيمان والتوحيد، أما من مات على الشرك وعلى الكفر فلا مغفرة له البتة، ولو أتى بملء الأرض ذهباً وبمثله معه فداءً فلن يغفر الله له.
فقوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] أي: يا أيها الذين أذنبوا وعصوا وأفرطوا في المعصية، يا من ارتكبت من الكبائر أكبرها وأفظعها وأعظمها، لا تقنطوا ولا تيأسوا من رحمة الله؛ إن الله يغفر الذنوب جميعاً كبائرها وصغائرها، {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] أي: يغفر الذنب ويرحم المذنب بالمغفرة.(278/2)
تفسير قوله تعالى: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له)
قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54].
(أنيبوا) أي: ارجعوا فتوبوا واستغفروا ربكم.
والمعنى: يا أيها الذين أسرفوا على أنفسهم وارتكبوا من الكبائر أفظعها وأعظمها؛ إنكم إذا رجعتم إلى الله مستغفرين تائبين فالله يغفر الذنوب جميعاً، وإذا استسلمتم لله ولوجهه فأطعتم أوامره، واجتنبتم نواهيه، واتخذتم رسول الله موضع الأسوة، وائتمرتم بما أمركم به، واجتنبتم ما نهاكم عنه، يوشك أن يغفر الله لكم ذنوباً ماضية وحاضرة، ويتوب الله على من تاب.
قوله: (أنيبوا): من الإنابة، أي: ارجعوا إلى الله تائبين مستغفرين.
وقوله: (وأسلموا له) أي: استسلموا لقضائه ولرسله ولكتبه، وأسلموا وجوهكم لله مطيعين الأوامر، مجتنبين النواهي.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54]، من قبل أن تموتوا ومن قبل ألا تستغفروا فيفجأكم العذاب ولن ينصركم من عذاب الله أحد؛ لأنكم على الشرك وعلى الذنب.
ثبت في صحيحي البخاري ومسلم: أن رجلاً من بني إسرائيل قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم جاء إلى راهب وقال له: إني قتلت تسعاً وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ قال: لا، فقتله وأتم به المائة.
ثم ذهب فوجد آخر فقال له: هل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبينها؟! إن الله يغفر لمن استغفر، ويتوب على من تاب، اذهب إلى قرية كذا ففيها قوم يعبدون الله ويستغفرونه، وكن معهم واستعن بأعمالهم وعبادتهم، فذهب وإذا به يموت في الطريق، فجاءته ملائكة العذاب وملائكة الرحمة يتنازعون فيه، تقول ملائكة العذاب: هذا قد فعل كذا وكذا من عظائم الأمور، وإزهاق الأرواح، نحن نتولاه ونحن الذين نقوم بعذابه.
فقالت ملائكة الرحمة: الرجل قد تاب وأناب وندم على ما كان منه وهو آت إلى القرية ليتعبد الله مع العابدين الصالحين، فظهر بينهم ملك في شكل رجل، فحكم بينهم فقال: انظروا إلى الطريق، فإن كانت أقرب لقرية العابدين فهو من أهل الصلاح والتقى، ولتأخذه ملائكة الرحمة، وإن كان لا يزال قريباً من القرية التي عصى الله فيها فهو من أهل العذاب، فقاسوا الطريق ووجدوه إلى قرية العابدين الصالحين أقرب، فأخذته ملائكة الرحمة وغفر الله له ذنوبه.
وكذلك أبواب الرحمة مفتوحة ولا يتركها إلا مخذول، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (المؤمن واهٍ راقع، وخيركم من مات على رقعه).
واهٍ: يوهي الثوب إلى أن يتمزق، ثم يعود فيرقعه ويلبسه وهو مرقع، وهكذا الذنب إذا أخذ دينه تمزق الدين، فإذا تاب وأناب أخذ يرقعه ويعيد لدينه سلامته، فيكون كالثوب الذي يهي ثم يصلحه ويرقعه، ومن مات على رقع ثوبه من الذنوب والآثام فهو المؤمن الصالح.
ومن الإنابة الاستسلام لأمر الله واجتناب نواهيه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
وقد فهم بعض الفقهاء من هذه الآية: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:54]، إعادة الصلوات الفوائت، فمن فاتته صلوات يرجع إليها ويعيدها ويستغفر الله على ما مضى من فعله وذنبه.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! إن أبي يريد الحج وهو شيخ كبير فان، متى يركب الراحلة يقع ولا يستطيع التماسك عليها، أأحج عنه؟ وجاءه رجل فقال: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها حج فلم تحج، أأحج عنها؟ ما كان الجواب لهما؟ (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فأدوا الله، فدين الله أحق بالوفاء)، فجعل الله ذلك الركن من الإسلام ديناً على صاحبه إذا مات ولم يؤده، فلا بد أن يؤديه كما يؤدي المدين ما عليه من ديون.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (أدوا الله فدين الله أحق بالوفاء)، فيه أنه جعل ترك الفرائض كالصلاة والحج ديناً في ذمة من مات وقد ترك ذلك، أو مرض مرضاً عضالاً وعجز عن أداء ذلك، فالصلاة لا بد أن يؤديها على كل حال، فإن فاتته فليعوضها وليؤدها قضاءً، والحج إذا عجز عنه حج عنه غيره من ولد أو قريب أو تلميذ، وهو مفهوم قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54].
فارجعوا إلى الله بالقيام بفرائضه واستغفاره من الذنوب وأسلموا وجوهكم له؛ ليغفر الله لكم ما مضى من ذنوبكم، فهؤلاء الذين أسرفوا على أنفسهم تعهد الله لهم بأن يغفر ذنوبهم جميعاً إن هم استغفروا وأنابوا وأسلموا وجوههم لله.
وأكد هذا نبينا عليه الصلاة والسلام حين قال: (أدوا الله فدين الله أحق بالوفاء)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ديناً إلهياً، ولا بد من أداء الديون، فدين الله أحق بالوفاء، وأحق بالتقدمة، وهذا منها.
قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54]، أي: فبادروا في الحياة قبل الممات، بادروا بالتوبة والاستغفار والندم على ما صنعتم من ذنوب وآثام من قبل أن يأتيكم العذاب، ومن قبل أن تموتوا وأنتم على الشرك والعصيان، ولن تجدوا ناصراً ولا مؤازراً، ولن تجدوا من يخرجكم من عذاب الله وعقابه.
ولذلك فإن الله ينبهنا ويوجهنا ونحن لا نزال أحياء إلى أن نبادر بالطاعات والاستغفار والتوبة من ذنوبنا الماضية، وأن نئوب إلى الله راجعين، من قبل أن يحدث الموت والعقاب ثم لا نجد نصيراً ولا مؤزراً ولا مدافعاً.(278/3)
تفسير قوله تعالى: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم)
قال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:55].
يقول ربنا جل جلاله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55]، وأحسن ما أنزل إلينا كتاب الله القرآن الكريم، وقد نزلت كتب سابقة: نزل الزبور على داود، ونزلت التوراة على موسى، ونزل الإنجيل على عيسى، عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وأحسن تلك الكتب، وأكملها، وأجمعها وأنفعها لصلاح الناس كلهم في دنياهم وآخرتهم؛ كتاب الله الأخير القرآن المنزل على قلب نبينا عليه الصلاة والسلام.
فالقرآن أحسن ما أنزل إلينا من ربنا وأكمله وأجمعه وأجمله، وهو الذي ما تمسك به أحد إلا نصره الله، ولا تركه من ظالم إلا وقصمه الله، هو الذي فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، هو الفصل ليس بالهزل.
هو الكتاب الجامع لمنافع الناس ولمصالحهم في دنياهم وأخراهم، يعز الله من آمن به، ويذل من كفر به.
هو الذي من تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، وهو الكتاب المعجز، وهو الكتاب الذي ضرب الله فيه أمثال كل شيء، هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هذا الكتاب الذي فيه نبأ كل شيء، وهو أقدم كتب الله وأجمعها للحلال والحرام، وأصلحها للبشر كلهم منذ ظهور محمد صلى الله عليه وعلى آله في هذه البقاع المقدسة، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، فكتابه المنزل عليه كتاب هداية الناس جميعهم، في مشارق الأرض ومغاربها منذ عصره وإلى يوم النفخ في الصور.
فقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً} [الزمر:55] أي: فبادروا إلى العمل به وامتثال أمره والانتهاء عن نواهيه، وإلى الإيمان بحلاله وحرامه، من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة، وعذاب الله بعد الموت لمن مات ولم يستغفر ربه ولم يعد إليه، خاصة إذا مات مشركاً فلا أمل في رحمته، ولا أمل في أن يعفو الله عنه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48].
قال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً} [الزمر:55] أي: فجأة، فالموت آت لا محالة، فعجباً للإنسان الذي يعيش بالأماني والأحلام وينتظر ربه بعد ذلك، فيقال: لا يزال شاباً، ويقال: لا يزال صغيراً أمامه سنون وسنون، فنقول: وما أدراه أن أمامه سنين؟ هذا تأله على الله ورجم بالغيب، الموت أجل من آجال الله، يأتي الصغير والكبير، وقد يأتي الصحيح ويدع المريض سنوات.
قال تعالى: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:55] أي: لا تشعرون بتلك البغتة.(278/4)