تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي)
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:84].
إذا جاء هؤلاء المكذبون الكفرة من أمة نوح إلى أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله؛ إذا جاءوا للحساب والعقاب قال الله لهم: {قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} [النمل:84].
أكذبتم -يا هؤلاء- بآياتي حال كونكم لم تحيطوا بها علماً، ولم تنتظروا أن تفكروا فيها وتبحثوا، فتسألوا شيخاً أو عالماً، أو تبحثوا عن داعية يعلمكم دينكم؟! يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} [النمل:84]، فلم تحيطوا بها علماً ولا معرفة، بل قيل لكم: آمنوا بالله واحداً فقلتم: لا نؤمن، وقيل: آمنوا بمحمد عبداً ونبياً فقلتم: لا نؤمن، وقيل: آمنوا بالقرآن أنه كلام الله، فقلتم: لا نؤمن، وما بحثتم ولا درستم، ولا حققتم، بمنطق عقل، ولا بمنطق نقل، ولا بسماع من محقق عالم عارف.
قال تعالى: {أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:84] في هذه المدد الطويلة التي عشتموها من أعماركم، فلم تفكروا يوماً لعلكم تعودون إلى الله، ولعلكم ترجعون إليه فتسألون عن دينكم، وعن كتاب ربكم ورسوله، ولكنكم عشتم في الباطل وفي ضلال وفي فسوق وعصيان، والآن قد جئتم ورأيتم ما كذبتم به، وعشتم في واقعه، فتحملوا نتيجة عصيانكم ونتيجة كفركم.(141/7)
تفسير قوله تعالى: (ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون)
قال تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ} [النمل:85].
وقع عليهم القول باللعنة وبالغضب وبدخول النار، بسبب كذبهم على الله وتكذيبهم بالله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم.
والظلم هنا: الكفر والشرك والبعد عن الله وكتاب الله ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله.
يقول تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ} [النمل:85].
وقفوا مبهوتين وهم يسمعون ما صنعوا في حياتهم مما كتبه الملك المكلف من كفر وشرك ومعصيته، فعندما بدا بذلك وعلموا أن كل ذلك حرام -وما ربك بظلام للعبيد- بهتوا ولم ينطقوا بشيء، وماذا يقولون؟! أيكذبون ربهم وهم الكذبة؟! أيكذبون الملائكة وهم الكذبة؟! أيكذبون الحق وهم في يوم القيامة الذي لا ينطق فيه إلا بحق، ولا يعمل فيه إلا حق؟! هيهات هيهات، ذهبت الدنيا بأكاذيبها ولعبها ولهوها وكفرها ونفاقها، فلم يبق يوم القيامة إلا الحق، فحق على الكافر العذاب، وحق للمؤمن الجنة ورحمة الله.(141/8)
تفسير قوله تعالى: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً)
قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل:86].
يقول تعالى عن هؤلاء الكفار: ألم يعلموا أن الله جعل الليل مظلماً ليسكن الناس فيه فيجدون فيه السكينة من المتاعب والمشاق من أعمال النهار ومن مشاكلهم البدنية والذهنية، فبالليل تسكن أعضاؤهم بضع ساعات ليشرق النهار وقد وجدوا في أرواحهم وفي أبدانهم طاقة جديدة في العمل في ذلك اليوم بما ينفعهم، ويعود عليهم نفعه في الدنيا والآخرة بما يكون لهم سبب الهداية إن شاءوا ذلك، وإلا ازدادوا كفراً على كفر، وغضباً على غضب.
يقول تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} [النمل:86].
ألم يروا رؤية القلب ورؤية العلم أن الليل الذي جعلناه مظلماً جعلناه كذلك ((لِيَسْكُنُوا فِيهِ))، أي: ليجدوا فيه السكينة والطمأنينة والراحة من عمل اليوم.
(وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) مشرقاً نيراً ليكتسبوا فيه بالتجارة وبالزراعة وبالضرب في الأرض وبالسياحة وبالأعمال التي تعود عليهم بخير في دنياهم وأخراهم إن شاءوا.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [النمل:86] في جعل الليل للسكون والهدوء والطمأنينة، وجعل النهار مشرقاً نيراً للعمل الدءوب للدنيا، والعمل للآخرة لمن وفقه الله {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل:86] جعل الله في ذلك آيات وعلامات ودلائل على قدرته، وعلى وحدانيته، وعلى أنه القادر على كل شيء والخالق لكل شيء.
فتلك علامات بينات، وآيات واضحات لمن آمنوا بالله واحداً، وبمحمد نبياً وعبداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما غير أولئك فهم موتى لا يحسون، صم لا يسمعون، عمي لا يرون.(141/9)
تفسير قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور)
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87]، وفي قراءة سبعية: (وكل آتوه داخرين).
والصور: قرن ينفخ فيه، والنفخة يصعق لها ويفزع لها من في السموات ومن في الأرض لشدتها وشدة انتشارها، وقد سأل أبو هريرة الراوي للحديث رسول الله عن الصور، فقال: (قرن، خلق إسرافيل ملك الله فكلف به).
وفي الحديث الصحيح أن إسرافيل منذ استلم القرن وضع فمه عليه ينتظر الأمر بالنفخ فيه.
والنفخ في الصور ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث.
فنفخة الفزع هي التي يذكرها الله هنا في قوله: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} [النمل:87] أي: اذكر -يا رسولنا- وذكر غيرك، يوم ينفخ في الصور في آخر يوم من أيام الدنيا، يوم يؤمر إسرافيل بأن ينفخ في الصور فيفزع ويهلع ويرتعب من في الأرض ومن في السماء، وتكاد تخرج القلوب من الصدور، ويقفون مبهوتين منتظرين إرادة الله راضين أم كارهين.
والنفخة الثانية: نفخة الصعق، فينفخ إسرافيل فإذا بالكل يصعق ويخر ميتاً وكأنه لم يكن، كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68] فهذه نفخة الصعق، والتي في الآية نفخة الفزع.
والنفخة الثالثة: بعد الموت، والله أعلم كم بين الأولى والثانية والثالثة.
وبعد النفخة الثالثة يقفون جميعاً قياماً بين يدي ربهم يوم القيامة، يوم العرض عليه، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] يوم ترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله عظيم.
في هذا اليوم -يوم النفخة الثالثة في الصور- يقف الناس لرب العالمين.(141/10)
المراد بمن استثناهم الله من الفزع
استثنى الله من نفخة الفزع فأخبر بأنه يفزع من في السموات ويفزع من في الأرض ((إلا من شاء الله))، فقيل: الذين شاء الله ألا يفزعوا ولا يرعبوا هم الشهداء الذين سقطوا في معارك الجهاد، فهؤلاء الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:170].
فيرزقون رزقاً الله أعلم بحقيقته، ويحيون حياة الله أعلم بحقيقتها.
وعلى كل فالشهداء -كما نص النبي عليه الصلاة والسلام- لا يجدون فزعاً ولا رعباً ولا هلعاً من النفخة الأولى في الصور، بل يكونون على غاية ما يكون من السكينة والاطمئنان والراحة، ولا يفزع إلا غيرهم.
وأنبياء الله في طليعة الشهداء، فأنبياء الله لا يفزعون، والشهداء لا يفزعون والملائكة لا يفزعون.
ومن فسر الفزع هنا بالموت قال: يموت الكل إلا من شاء الله إلى حين، فيفنى الكل فلا يبقى إذ ذاك إلا جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت، فيميت الله تعالى أحدهم فلا يبقى إلا ثلاثة، فيميت الله الثاني ثم الثالث، فلا يبقى إلا جبريل، فيقول جبريل: يا حي يا قيوم مات الكل، وأنت الحي الدائم، فيقول له: مت أنت كذلك.
فيموت ويبقى الله الواحد، فلا إنس ولا جن ولا ملائكة، فيقول إذ ذاك: لمن الملك اليوم؟! فلا مجيب، فيجيب نفسه بنفسه فيقول: لله الواحد القهار.
وذاك قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] فكل من على الكون فان ميت هالك {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27].
فهو الذي كان ولا أولية لكونه، وهو الباقي ولا آخرية لبقائه، كنا عدماً فأحيانا من العدم، ونحن بعد ذلك تحت المشيئة الربانية، فإذا قال لنا: موتوا متنا، وسنموت لا محالة، فكما جئنا من عدم سنذهب مرة ثانية إلى العدم، وتبقى الأرواح، ثم ستعود بعد ذلك في الحياة الثانية يوم العرض على الله حيث الحياة الدائمة، فالجنة ولا موت، أو النار ولا موت.
يقول تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87] فلا يفزعون أو لا يصعقون من تلك النفخة، ولكن يموتون بعد ذلك، ويصعقون بعد ذلك، وآخر من يبقى أولئك الملائكة، ثم يموت الواحد منهم خلف الآخر ولا يبقى إلا جبريل، فيقول الله له: مت فيموت، فيبقى الله وحده.(141/11)
معنى قوله تعالى: (وكلٌ أتوه داخرين)
قال تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87] وقرئ (آتوه) أي: جاءوه داخرين صاغرين مستجيبين بلا عصيان، فالكل يأتون إليه للحساب والعرض عليه جل جلاله.
يأتيه المؤمن ويأتيه الكافر، يأتيه من يدخل الجنة ومن يدخل النار، يأتيه من كان في الدنيا مسرفاً على نفسه، ويأتيه من أكرمه الله بالإيمان والإيقان.
والتنوين في (كل) تنوين عوض، أي: كل مخلوق، فكل مخلوق يأتيه يوم القيامة صاغراً مستجيباً ليعرض عليه حسابه إما إلى جنة وإما إلى نار.
وجميع المفسرين القدامى في العصور الفاضلة وما بعدها قالوا: يكون ذلك يوم القيامة، حيث تزول الجبال عن أماكنها وتصبح كالعهن المنفوش.(141/12)
تفسير سورة النمل [88 - 93]
إذا أذن الله بقيام الساعة تغيرت ظواهر الكون، فترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب، فتكون كالعهن المنفوش، وفي هذا اليوم تنجلي الحقائق فمن جاء بالحسنة فله خير منها، ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار.(142/1)
تفسير قوله تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب)
قال الله جلت قدرته: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88].
الخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خطاب لكل سامع ولكل إنسان ولكل مسلم ولكل من يبلغه ويسمعه.
يقول تعالى: ((وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً))، ترى الجبال -أيها الإنسان المبلغ المكلّف المدعو إلى الإيمان برسالة الإسلام ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام- تظنها وتحسبها جامدة لا تتحرك، قائمة بمكانها وهي في نفس الوقت تجري جريان السحاب في الأجواء.
قالوا: يكون ذلك يوم القيامة عندما يُنفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض، فيحدث ذلك عند ذهاب الدنيا وقيام الساعة، يوم لا يبقى إلا وجهه، قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
قالوا: وهي في معنى قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105] تُنسف نسفاً فلا يبقى إلا القاع حيث لا يوجد هناك أمت ولا اعوجاج، هكذا قالوا، والسياق يتعلق بقيام الساعة وبهلاك الدنيا وموت الخلق وذهابهم كالعهن المنفوش، فكل جاء من العدم وينتهي إلى العدم، ولا يبقى إلا الله الواحد عندما يقول: ((لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ))؟ فلا مجيب، فيجيب نفسه بنفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].
قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] (صُنع) منصوب على الإغراء، أي: انظر صنع الله، أو أنه منصوب على المفعولية المطلقة، أي: صنع الله ذلك صنعاً.
يقول تعالى: ((صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)) أتقن خلقه وأتقن وجوده وأتقن حياته وأتقن نظامه، فكل مخلوق من ملك وإنسان وجن وحيوان، وصامت وجامد، كل ذلك صُنع الله، وكل ذلك قد أتقنه جل جلاله.
قال تعالى: ((إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)) فالله جل جلاله هو الخبير والمطّلع على الضمائر وعلى الغيب، يعلم ما تُخفي الأنفس، ويعلم ما تُعلن، وهو الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض.
هذا تفسير السلف لهذه الآية، وكذلك قال ابن جرير شيخ المفسّرين القديم ومرجعهم، وكذلك قال القرطبي وابن العربي وابن عطية من المغاربة، وكذلك قال ابن كثير والبغوي من المشارقة، وقال ذلك كل من فسّر الآية الكريمة من السلف.(142/2)
ذكر ما قاله المفسرون المحدثون وعلماء الإعجاز في الآية الكريمة
وقال المفسّرون المحدثون: إن الآية جاءت في سياق آيات متعلقة بيوم القيامة ومتعلقة بالصعق والنفخ في الصور، ولكن شأن القرآن في هذا أن يأتي بالآي في غير السياق العام تنبيهاً على قدرته تعالى وتقريراً لها.
فهذه الآية ليست متعلقة بيوم القيامة، ولكنها متعلقة بعلم الفلك، فالأرض تتحرك، وتمر مر السحاب شعرنا أم لم نشعر، وذلك ليس بغريب على الله، فالله قد حمل الأفلاك على غير عمد، فالسماء في الفضاء والأرض في الفضاء، والأفلاك أعلاها وأسفلها في الفضاء.
ثم إن الله تعالى قال لنا: ((وَتَرَى الْجِبَالَ))، ويوم القيامة فيه أهوال عظام، ولذلك فالناس في فزع عظيم من العرض على الله، وهم لا يدرون أيدخلون الجنة أو النار، فليس الوقت وقت رؤية ولا وقت تمعّن كما أن من بقي حياً إلى أن يُصرع ويُصعق يرى الدنيا تخرب ويرى السماوات تنشق ويرى الأرض تذهب وكأنها العهن المنفوش وكأنها لم تكن يوماً، والله تعالى يقول هنا: ((وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً))، وأما ذلك الرائي فيراها متحركة، كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105] فهي تنسف نسفاً وتتدهده ويتبع بعضها بعضاً في الفناء.
ثم إن قوله تعالى: ((صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)) يراد به الصنع الذي كان في الخلق الأول، والإتقان الذي كان في خلق الدنيا وتنظيمها ليلاً ونهاراً وخلقها على نظام لا يزيد ثانية ولا ينقص ثانية.
ولكن هذا الذي قاله المفسّرون المحدثون لم يشر إلى شيء منه القرطبي على سعة تفسيره، ولا شيخ المفسّرين ابن جرير الإمام في الفقه والإمام في التفسير والإمام في التاريخ، وقد نقلوا تفسيرها عن صحابة وعن تابعين وعن مجتهدين فلم يُنقل عن واحد منهم ما ذكره علماء الإعجاز المتأخرون والمفسرون المحدثون كـ المرجاني وجمال الدين القاسمي في تفسيره الواسع محاسن التأويل.
فكلام السلف على أن ذلك يوم القيامة، ولا يسعنا إلا أن نعتمد على السلف، وقد أتوا بنقول عن الأصحاب ونقول عن الأتباع ونقول عن الأئمة.
ولا نقول: إن الذي قاله المحدثون غريب، فأمر الله أعجب من حركة الأرض، فهي مرفوعة على غير عمد كما قال لنا ربنا، فالكوكب الأرضي والسماوات العلى كلها محمولة في الفضاء بقدرة الله وبإرادة الله، ومتى أذن الله بزوال ذلك تدهده كل ذلك، وزال كل ذلك ونسف نسفاً.(142/3)
تفسير قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها)
قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89].
من جاء يوم القيامة وعُرض على ربه فجاء بالحسنة -والحسنة هنا لا إله إلا الله-، أي: من جاء مؤمناً موحداً من الأمة المحمدية أو الأمم السابقة، ومعه (لا إله إلا الله) فله خير منها، وليس هناك خير من (لا إله إلا الله) إلا رضا الله، وأما غير ذلك فلا يعلو على (لا إله إلا الله)، يدل على ذلك حديث ذاك الرجل الذي يجيء يوم القيامة وكله آثام وذنوب ومخالفات، فأمر بطرحه في النار، فقال الله جل جلاله: ردّوه، لا ظلم اليوم، وإذا ببطاقة صغيرة فيها (لا إله إلا الله) توضع في كفة الميزان، فيقول هذا الذي أُمر به للنار: فما عسى أن تصنع هذه البطاقة؟! لكثرة ذنوبه وكثرة كبائره وكثرة معاصيه، وإذا بكفة الحسنات تثقل، لأن (لا إله إلا الله) لا يقف لها شيء.
فمن مات وهو يقول: (لا إله إلا الله) دخل الجنة، وهل سيدخلها بعد العذاب في النار، أو يغفر الله له؟ ذاك غيب لا يعلمه إلا الله، ولكن الذي ندين الله به هو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
ومن العقائد الثابتة أن النار سيدخلها الكافرون وسيدخلها مؤمنون عصاة، الله أعلم بهم، وأعلم بإقامتهم فيها، ولكن لن يخلد في النار ولن يدوم في النار من مات وهو يقول: (لا إله إلا الله).
يقول تعالى: ((مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا)) وفُسِّرت الحسنة بالحسنة مطلقاً من صلاة وصيام وصدقة وسائر أنواع الطاعات.
((فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا)) وفي آية أخرى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] فذاك خير من واحدة، ذاك تضعيف الله وتكريم الله للمؤمن المُحسن.
ولكن السياق في المؤمن والكافر، فمن فسّر الحسنة هنا بالتوحيد وبـ (لا إله إلا الله) فالسياق يؤكد قوله.
قوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89].
ولا يكون هذا إلا للموحد المغفور له، فالذي أتى بهذه الحسنة لا يُفزع ولا يخاف ولا يُرعب، ولا يحصل له ما يحصل للمقصرين والمذنبين والعصاة، وما ذلك إلا لأنه أتى موحّداً مطيعاً، أتى ومعه (لا إله إلا الله) اعتقدها جنانه ونطق بها لسانه، فكان جزاؤه من ربه المغفرة والرضا، وكان جزاؤه أن أمّنه من الفزع والرعب والخوف من أن يدخل النار ومن أن يُغضب عليه.
وقرئ في السبع: ((وَهُمْ مِنْ فَزَعِ يَوْمِئِذٍ آمِنُونَ)) بالإضافية، فيكون المراد فزع العرض على الله والحساب.
وقراءة ((فَزَعٍ)) بالتنوين على التنكير تدل على العموم، وهي أبلغ، فيكون آمناً من الفزع بكل أشكاله، فيأمن من فزع الحساب، وفزع العقاب، وفزع دخول النار، وفزع ما يحصل للناس عموماً يوم العرض على الله {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج:2]، فالذي يحدث للناس لا يحدث لهذا البتة، جزاء طاعته وعمله في الدنيا، فعند العرض على الله وجد جزاء عمله وطاعته وإيمانه، جعلنا الله منهم.(142/4)
تفسير قوله تعالى: (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار)
قال تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90].
(من جاء بالسيئة) أي: سيئة الشرك، فمن جاء كافراً بالله مشركاً بالله كافراً بالأنبياء جاحداً للإسلام، كافراً بكتاب الله القرآن الكريم وما أمر به وما نهى عنه كُب على وجهه في النار، فطُرح وقُذِف وجُر جراً على وجهه إلى النار.
يقول تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ} [النمل:90] فطرحوا على وجوههم وسحبوا سحباً إلى النار وإلى غضب الله جزاءً وفاقاً على كفرهم برسول الله محمد سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وعلى شركهم بالله الواحد، وعلى كفرهم بالقرآن كلام الله الحق الذي أنزل لهداية البشرية عامّة وللجن.
قال تعالى: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90] يقال لهم: هذا الكب في النار وهذا السحب على الوجوه إلى جهنم جزاء ونتيجة ما كنتم تعملون في دار الدنيا، عندما دعاكم رسولكم وكتاب الله المنزل على نبيكم، وهو الذي طالما نادى: (يا أيها الناس).
(يا أيها الذين آمنوا).
فلم تعيروا ذلك آذانكم، ولم تستجيبوا لدعوة القرآن أمراً ولا نهياً، والآن جاء وقت الجزاء، فللمحسن الجنة ورضا الله، وللمسيء الغضب ولعنة الله والخلود في الجحيم والنيران.(142/5)
تفسير قوله تعالى: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة)(142/6)
شرف العبودية لله تعالى
قال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل:91].
قال الله لعبده ونبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: قل: إنما أُمرت أن أعبد رب هذه البلدة، فكما أمرتكم بعبادة الله أُمرت أنا بأن أمتثل رسالتي وأن أُطيع إلهي وأن أعمل بالكتاب المُنزل عليّ، فكُنت أول مسلم وكُنت أول مستجيب لما جئت به للناس كافة.
و (إِنَّمَا) أداة حصر، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله) فأطرت النصارى عيسى فقالوا عنه: هو الله، وقالوا عنه: هو ابن الله، وقالوا: ثالث ثلاثة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يؤكد ويُلح سفراً وحضراً على أنكم مهما مجّدتم فلن تخرجوني عن كوني عبداً لله أولاً، ثم أنا بعد ذلك نبي.
فأشرف صفة شرف بها المصطفى صلى الله عليه وسلم أن كان عبداً لله، وفي المناسبات الكبيرة عندما رفع الله شأن عبده محمد صلى الله عليه وسلم كان من أعلى الصفات وأزكى الصفات وأسماها أن يوسم بالعبد، كما قال تعالى عند ذكر الإسراء والمعراج، ولم يكن ذلك لأحد من الأنبياء قبل، ولم يكن ذلك لملك مقرّب ولا لنبي مرسل غير رسولنا وحده صلى الله عليه وسلم، حيث حصل له الإيمان شهوداً بما ذكر الله للخلق منذ آدم إلى خاتم الأنبياء نبينا صلى الله عليه وسلم، فعُرج به إلى السماوات العُلى سماء فسماء إلى سدرة المنتهى حتى كان قاب قوسين أو أدنى {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] فقال عن ذلك ربنا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1] فوصفه بالعبودية، وتلك أسمى صفة وأشرف صفة يوصف بها خاتم الأنبياء؛ لأن عبودية الله حُرّية، ولأن عبودية الله شرف، ولأن عبودية الله لا تتم بحقها إلا للمقربين من الملائكة والمرسلين وأتباع المرسلين من الأتقياء والصالحين.
يقول تعالى: ((إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ)) وهذه البلدة هي مكة المكرمة التي فيها الكعبة المشرفة التي شرفت بأن جُعلت قبلة للمؤمنين وطاف بها المؤمنون منذ أيام آدم إلى أن جُددت وأُعيدت أيام إبراهيم إلى أن عادت إلى التوحيد والإيمان أيام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فشرفها الله وأدام التوحيد المحيط بها، وأكثر الناس الذين يعبدون الله متجهين إليها وطائفين بها، ونسبة الرب إليها تشريف لها.
قال تعالى: (وله كل شيء)، فهو رب كل شيء، وكل شيء خاضع لجلاله مؤتمر بأمره، وهو خالق كل شيء ومعبود كل شيء جل جلاله وعزّ مقامه.
وقد فرض الله على كل إنسان في الأرض مرة في العمر أن يأتي إلى البلدة المكرّمة المقدسة طائفاً بالكعبة المشرفة، ساعياً بين الصفا والمروة، قائماً في عرفات، بائتاً في منى، قائماً بالمشاعر، مرة في العمر على أقل تقدير، ويُسن تجديد ذلك عند كل تمام خمس سنوات.(142/7)
عدم سقوط تكاليف العبودية عن الأنبياء والصالحين
يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّمَا أُمِرْتُ)) ولو تركت الشريعة لأحد لتركت للنبي، فما زعمته الفئات الضالة من أن الإنسان عندما يعلو في الطاعة والمعرفة تسقط عنه الواجبات كذب وضلال، وهيهات هيهات! إنما أسقطها الشيطان، والشيطان عندما يمتثل الإنسان لأمره يكون قد أشرك بربه واتخذ الشيطان إلهاً.
والنبي عليه الصلاة والسلام على رفعة مقامه وأفضليته على كل الخلق كان أعبد الناس، وكان أتقى الناس، وكان أخوف الناس من ربه، ولذلك عندما اجتمع نفر من الصحابة فقال بعضهم: أصوم الدهر ولا أفطر، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: أقوم الليل ولا أنام، فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام قام خطيباً فقال: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأُفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
فمن رغب عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسلوكه في دين الله الذي أتى داعياً إليه لا يكون من المسلمين ولا يكون من أتباع النبي حقاً، وقد نهى عن صيام الدهر فقال: (لا صام من صام الدهر).
قال ابن العربي: إن كانت هذه دعوة من رسول الله عليه الصلاة والسلام على من صام الدهر فيا ويل من دعا عليه عليه الصلاة والسلام! والمعنى أن من صام الدهر لا أصحه الله ولا أمتعه بالعافية ليصوم.
وإن كان ذلك خبراً، كان معناه: لم يُعتبر صائماً، فليس له إلا الجوع والعطش، فلا أجر ولا ثواب.
فيقول ابن العربي مرة أخرى: فمن أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم عن عبادته وعن صيامه بأنه ليس صائماً وأنه لا أجر له ولا ثواب فإصراره بعد ذلك على صيام الدهر إصرار على المخالفة وعلى الخروج عن السنة النبوية المحمدية.
فالله جعلنا أرواحاً وأجساماً نأكل ونشرب ونتزوج ونتمتع في حدود الشريعة الإسلامية، ولا نخرج عن أمر الله بمقدار طاقتنا وقدرتنا، فإن حصل شيء منا فإنا نكثر الاستغفار ونُكثر التوبة، فالمؤمن خطاء.(142/8)
معنى قوله تعالى: (الذي حرمها)
يقول تعالى لنبيه: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل:91].
أي: جعلها حراماً، فحرّم فيها القتل والقتال، وحرّم فيها الصيد.
ولذلك جاء عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فيما رواه البخاري في الصحيح ومسلم في الصحيح وأصحاب السنن أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله حرّم مكة يوم خلق الله السماوات والأرض).
فلم يحرّمها النبي صلى الله عليه وسلم ولا جده الأعلى إبراهيم، ولكن حُرّمت -كما قال النبي عليه الصلاة والسلام- يوم خلقت السماوات والأرض، فإن صح أنه كان هناك خلق قبل آدم فقد كانت محرمة أيضاً عليه، لا يرتكبون فيها معاصي ولا يصيدون صيدها ولا يختلون خلاها؛ فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُقطع شجرها، ولا يُختلى خلاها، ولا ينفّر صيدها، ولا تُلتقط لقطتها إلا لمعرّف بها.
وقد أكد عليه الصلاة والسلام التحريم الأزلي منذ خلق السماوات والأرض كما فعل جده الأعلى خليل الله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والتحريم قد نص الله عليه وصرّح به في هذه الآية الكريمة {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل:91] فجعلها حراماً لا يصاد صيدها، بل ولا ينفّر، وتنفيره: إبعاده، فيحرم على الإنسان أن يفعله، أما إذا اصطاد فعليه هدي زيادة على الإثم والحرام، بل إن لقطتها لا تُحمل من الأرض إلا لمن يريد أن يعرّف بها، وإلا فاتركها في مكانها ولا شأن لك بها، فدع اللقطة في مكانها إلى أن يأتي صاحبها.(142/9)
معنى قوله تعالى: (وله كل شيء)
قال تعالى: ((وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ)).
فهو تعالى رب كل شيء، ومالك كل شيء، وله السماوات العلى وله الأرضون، وله ما كان وما يكون، وله الإنس والجن والملائكة، وله الكون كله، فهو خلقه، وهو أنشأه ودبّره وقام عليه جل جلاله بإرادته ومشيئته.
قال تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أُمر سيد البشر عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون من المسلمين لربه المستسلمين لطاعته والممتثلين لأوامره والتاركين لنواهيه، الداعي إلى الله والمبلّغ عنه كتابه الكريم القرآن الجامع، وسنته النبوية التي تشرح الوحي وتبيّن الوحي، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فكان نبينا أول المسلمين وأول المطيعين لما جاء به من رسالة.(142/10)
تفسير قوله تعالى: (وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن)
قال تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل:91 - 92].
والقرآن الكريم هو الكائن بين دفتي المصحف من {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] إلى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] كل ذلك كلام الله ووحي الله باللفظ والمعنى، وبتنظيم السور وتنظيم الآي، أمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن يتلوه، وأن يتهجد به، وأن يصلي به الصلوات الفرائض والنوافل، وأن يتلوه على الناس ببيان حرامه وحلاله وعقائده وقصصه وآدابه، فذاك أمر الله له، فلا يخرج عن أمره، وقد عصمه الله كما عصم الأنبياء من المخالفة ومن المعصية، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو المسلم الأول- قد أُمر بالإسلام فامتثل وأطاع، كما أُمر بتلاوة القرآن وهو المعصوم والمغفور له ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر، فما يقول المسلمون أمثالنا؟! إذاً: ذاك أمر لنا كذلك بتلاوة القرآن وبالتهجد به والصلاة والعبادة.
قال تعالى: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [النمل:92].
يقول الله لنبيه: افعل ما أُمرت به {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [النور:54] فمن اهتدى بعد أن بلغته ودعوته وتلوت عليه كتاب الله وقرعت به أذنيه فلنفسه اهتدى، فصلاح ذلك وثواب ذلك وجزاء ذلك سيعود عليه، فالهداية عائدة إليه لا إليك، وثوابه لنفسه ودخوله الجنة لنفسه ورضا الله لنفسه.
وإن خالف فقد قال تعالى: {وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ} [النمل:92] فإن ضل فلم يقبل الدعوة والبلاغ، ولم يقبل كتاب الله، ولم يقبل رسالتك، ولم يهتد بهديك، ولم يمتثل لأمرك، فهذا ضال، وقل عن نفسك: ((إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ)).
وكل نبي من الأنبياء جاء للنذارة وتخويف الناس من معصية الله ولتبشيرهم بطاعة الله، فمن استسلم لربه وأطاع رسله فقد اهتدى ودخل في زمرة الهادين المهتدين، فلنفسه اهتدى، ولها قدّم الحسنات وقدّم الأجر والثواب.
وإن هو ضل بمعصيته وبكفران ربه وبجحود الكتاب المنزل عليه ((فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ)) أي: إنما أُمرت أن أُنذرك وأخوفك وأن أهددك وأبلغك أمر الله؛ لأن من لم يطعه وخرج عن الكتاب وعن سنة محمد صلى الله عليه وسلم فالنار مأواه وهي جزاؤه، وأنا لست إلا منذراً مبشّراً للمؤمنين ومنذراً للكفار العصاة المخالفين، وبعد ذلك لا يلومن إلا نفسه، وإنما هي أعماله تقدّم إليه، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، كما في الحديث القدسي.(142/11)
تفسير قوله تعالى: (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها)
قال تعالى: {وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل:93].
معناه: ابتدئ أعمالك بالحمد وأنهها بالحمد، فقد ابتدأ الله كتابه بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وختم دخول الجنان بالحمد لله رب العالمين.
وهنا يقول الله لنبيه: قد بلّغت رسالة ربك، وقد تلوت كتابه، وقد أنذرت من يُنذر وبشّرت من يُبشّر، فقل بعد ذلك: (الحمد لله رب العالمين)، فالحمد لله على ما ألهم نبينا من طاعة لربه ومن نذارة ومن بشارة ومن تبليغ لكتاب ربه، وقام بذلك خير قيام صلى الله عليه وسلم، ولذلك خطب قبل موته بأشهر في حجة الوداع في الأرض المقدسة عند جبل الرحمة خُطبة الوداع، وكان يودع الخلق ويودع البشر، وقد قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، فكان يقول: (هل بلغت؟ هل بلغت؟) فيقولون: نعم يا رسول الله.
فيرفع أصبعه السبابة إلى السماء ويقول: (اللهم اشهد).
وهنا يقول الله له وقد بلّغ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} [النمل:93].
أي: يا أيها الذين كذّبتم نبيكم وكفرتم بربكم! غداً ستردون فتعلمون، وفي الدنيا سترون الآيات.
قال هذا ربنا فبلغه إيانا نبينا قبل ألف وأربعمائة عام، وقد رأينا هذه الآيات، رآها الآباء ورآها الأجداد وأدركناها نحن، وسيراها من يأتي بعدنا إلى يوم القيامة، ومنها كل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم مما سيكون بعده من فتن وفجور ومعصية، وعز وشرف ونشر للإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، فستخاض بحار في سبيل الله.
فالعرب الذين كانوا يأكل قويهم ضعيفهم، ويصنعون الصنم من الحلوى ثم يجوعون فيأكلونه، جاءهم الإسلام فأصبحوا سادة الأرض وأئمة الأرض ومعلمي الأرض وأئمة الكون، نشروا الهدى والتوحيد، وأبطلوا الكفر وقضوا على الأوثان من الصين إلى أوروبا.
فعندما كانوا مطيعين لربهم قائمين بكتابهم يحكمون في الخلق بأحكام الله حلالها وحرامها، عندما كانوا كذلك سادوا الأرض كما أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وكذلك أخبر بأنهم عندما يعصون ويخالفون ويتمردون على ربهم سينتكسون ويذلون ويحكمون من قبل أحقر الخلق وألعن البشر، وما يجري اليوم بيننا وبين اليهود والنصارى والمنافقين ما هو إلا عقوبة إلهية نتيجة تمردنا ونتيجة بعدنا عن الله وكتاب الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن يعود الله بنا إلى ما كنا فيه من خير ومن عز وشرف ونصر إلا إذا عدنا إلى ربنا مرة أخرى فحكمنا كتاب ربنا وسنة نبينا.(142/12)
تفسير سورة القصص [1 - 3]
سورة القصص من السور العظيمة التي ابتدأت بالحروف المقطعة (طسم)، وفيها يتلو رب العزة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من نبأ موسى وفرعون بالتفصيل منذ ولادة موسى عليه السلام.(143/1)
تفسير قوله تعالى: (طسم)
بسم الله الرحمن الرحيم {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص:1 - 3].
هذه السورة مكية إلا آيتين أو ثلاثاً وعدد آياتها (88) آية.
وهناك آية واحدة نزلت بين مكة والمدينة عندما كان نبينا عليه الصلاة والسلام مهاجراً من مكة مسقط رأسه وبلد قومه وعشيرته، عندما اضطره كفارها إلى تركها والخروج عنها خروجاً أبدياً إلى يوم القيامة، فحُرموا بركته ورسالته، ولكن الله بعد ذلك أكرم كثيراً منهم بالإيمان، فتم الشرف لأهل مكة والمدينة بالإيمان برسول الله ثم حرّمها على الكافرين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28].
خرج الكفر منها خروجاً أبدياً، ولن يعود بحكم الله، على أن يكون له الشأن ما دامت الدنيا ودام الإسلام، أما في أُخريات الزمان وعند قيام الساعة فتلك لها حكم، وتأتي في كتاب الله، وقد أتت مرة.
أما الآية التي نزلت في الطريق بين مكة والمدينة فإنها نزلت في الجحفة ميقات أهل المغرب، وهي ما تسمى اليوم (رابغ)، وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [القصص:85] فكانت هذه الآية وحدها تُعتبر مدنية مكية، لا مكية خالصة، ولا مدنية خالصة، ولكن تُعتبر بينهما، فقد نزلت في الطريق بين مكة والمدينة.
قال تعالى: {طسم} [القصص:1] أي: طاء سين ميم، هذه الأحرف الهجائية التي طالما تحدثنا عنها وقلنا: إن المفسرين قديماً وحديثاً تنازعوا واختلفوا في معناها؟ فقال البعض: هي أرقام حسابية، ولا دليل لهم، وقال البعض: هي أسماء إلهية ورموز، ولا دليل لهم إلى غير ذلك من الأقوال.
والأقرب للحق والصواب ما قاله الزمخشري في كشافه وسانده وأيده مفسِّر مُعاصر - أعني الشيخ الشنقيطي، وتفسيره بين التفاسير المعاصرة من أحسنها ومن أكملها دليلاً وبرهاناً - حيث قالوا: القرآن مُعجز وهذا معلوم من الدين بالضرورة علمناه علماً واقعاً تحدى الله البشر والخلق أيام نزول القرآن على سيد البشر وسيد العرب صلى الله عليه وسلم وعلى أقوامه، وكانوا الفصحاء والبلغاء، وكانوا أمراء الكلام شعراً ونثراً، وكان القرآن قد نزل بلغتهم.
فالقرآن تحداهم وأعجزهم على بلاغتهم أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، أو يأتوا بآية من مثله.
نبي الله أُعطي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام، وهو أفصح العرب على الإطلاق، ومع ذلك إذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم من قِبل نفسه قلت: هذا كلام بليغ فصيح؛ ولكنك إذا قرأت القرآن تجد الكلام المعجز، والكلام الأبلغ والأفصح.
فهو عندما يتكلم بالقرآن يكون في رتبة المتكلم بكلام الله والتالي لكلام الله؛ فإذا تكلم وتحدث عن نفسه وبقوله ينزل رتبة عن ذلك، ومعناه أن القرآن فيه تعجيز للخلق أنبياء ورسلاً وملائكة وبلغاء.
ومعنى معجز: أي: أعجز البشر، ومسيلمة الكذاب عندما ادعى النبوة في الحياة النبوية ذهب يقول: أنا كذلك أوحي إلي، وأخذ يتلو على الناس كلاماً يقول هو قرآنه، وكان من الهراء والسخف، ومما يضحك الثكلى ما كان يقول: أوحي إليّ، فتارة كان يقول: قسمت الأرض بيني وبين قريش، ولكن قريشاً قوم لا يعدلون، الطاووس وما الطاووس؟! والذبابة وما الذبابة؟! لها شعر ولها ريش! وأخذ يهذي هذا الهذيان؛ ولا يزال ذلك مسجلاً في الكتب ليضحك به الثكلى.
وقالوا عن المعري الشامي أنه حاول كذلك في اللزوميات أن يعارض القرآن، وقد دافع عنه قومه، وعلى كل اعتبار قصد ذلك أو لم يقصده أين اللزوميات في فصاحتها وبلاغتها، وأين فصاحة النبي عليه الصلاة والسلام؟ بل أين فصاحة القرآن وبلاغة كلام الله المعجز؟ وهنا سيقول قائل: القرآن نزل بلغة العرب، وإذا كان الأمر كذلك فما معنى الإعجاز؟ فإن الله زيادة في التحدي ابتدأ الكثير من السور: {الر} [الحجر:1] {الم} [البقرة:1] {حم} [غافر:1] {يس} [يس:1] {طسم} [القصص:1] الأحرف هي أحرف الهجاء الثمانية والعشرين، وكأن الله يقول: هذا القرآن حروفه المتكونة منه، القائمة على جمله وتعابيره، هذه هي الحروف العربية: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف:2] لكن أتستطيعون أن تفعلوا ذلك، والحروف أمامكم واللغة طوع يدكم؟ ولذلك لا تكاد تجد هذه الأحرف إلا وذُكر القرآن بعدها: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ} [البقرة:1 - 2] وهنا: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص:1 - 2].(143/2)
تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب المبين)
قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص:2].
معناه: الله تعالى تكلم بالقرآن وأنزله على نبيه بواسطة الروح الأمين جبريل عليه وعلى نبينا السلام، كان هذا من هذه الأحرف، أتستطيعون أن تأتوا بمثلها؟ هيهات لا مؤمن ولا كافر! {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص:1 - 2].
الإشارة إلى هذه الأحرف، وهذه الأحرف منها كان القرآن، ومنها كانت جمله ومفرداته وتعابيره، ومع ذلك أتستطيعون أن تفعلوا مثل ذلك؟ هيهات هيهات! التحدي كان منذ (1400) عام، وكان في عصرنا منذ عشرين سنة أو أكثر بقليل رجل لم يمض له مثيل في البلاغة والفصاحة منذ (1000) عام في العرب، وأعني به مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في كتابه الذي جمع بعد ذلك ومقالاته، وسميت: وحي القلم مع بلاغته وفصاحته، عندما تقرؤها تقول: فصاحة وبلاغة! ولكن عندما تقرأ الفصاحة النبوية تجد بين كلامه والفصاحة النبوية ما بين السماء والأرض، أما إذا وازنت بينه وبين بلاغة القرآن وإعجازه فالفرق هو ما بين الخالق والمخلوق؛ هذا على أنه لا نظير له ليس في عصره فقط بل من قبل عصره بأكثر من ألف عام، مع أنه عمر مقالاته وكلامه بروح الإسلام، وأخلاقه وآدابه في أبلغ عبارة وكلمة ومفردة، ولكن الإعجاز للقرآن يبقى دائماً الصفة الكاشفة المفردة المعرّفة.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص:2] تلك: هذا الكلام أكّده صاحب الكشاف الزمخشري وأيده بتحمس وبأدلة أخذها من الاستقراء في كتاب الله، كما فعل الزمخشري وكذلك صديقنا المرحوم الشيخ الشنقيطي في كتابه أضواء البيان.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص:2] (تلك) أي: وهذه الأحرف منها، (آيات الكتاب المبين) أي: القرآن المبين الواضح، البيّن المنير المشرق، الذي مهما لم يفهمه زيد من الناس أو عمرو من الناس فقد فهمه آخرون، فلا بد من بيانه ومعرفته إذا لم يفهمه الكل لعدم دراستهم ولجهلهم بلغة العرب، وبشريعة الإسلام، فمن أكرمه الله باللغة العربية والإمامة فيها ودراسة الشريعة الإسلامية فالقرآن له بيّن، بل هو بيّن لعموم من يعرف العربية حتى الدارجة، يستطيع أن يفهم من ذلك الدعوة إلى عبادة الله، وترك الحرام والمنكرات على قدر لغته الدارجة، أما الذي لا يعرف من العربية شيئاً فهذا أصم وأبكم، فيجب عليه تعلم العربية؛ ليعلم كتاب ربه وسنة نبيه.
والإسلام فريضة على كل مسلم، ولا يتوصل إلى ذلك إلا باللغة التي أنزل بها، وما أُنزل القرآن إلا بلغة العرب، وما أُنزل إلا على سيد العرب بلغته صلى الله عليه وسلم وفصاحته وبيانه.
(المبين) أي: النير الواضح الذي يفهمه كل من أكرمه الله للتعلم من العربية والشريعة ما يدرك به المعنى والأحكام.(143/3)
تفسير قوله تعالى: (نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق)
قوله: {نَتْلُوا عَلَيْكَ} [القصص:3] كان هذا كالديباج؛ لما في داخل السورة من أحكام وفصول.
يقول تعالى مخاطباً نبينا عليه الصلاة والسلام: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص:3] أي: نتلو عليك يا محمد، ونقرأ عليك وننزل عليك ونبيّن لك.
(مِنْ نَبَإِ) (من) للتبعيض أي: بعض أنباء وأخبار موسى نبي الله، أحد أولي العزم من الرسل، المنزلة عليه التوراة، من أنبياء بني إسرائيل.
(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ) أي: تلك الأكاذيب والأضاليل التي يقصها اليهود والنصارى في كتبهم المحرفة وتوراتهم بعد تبديلها وتغييرها، وفي إنجيلهم بعد تبديله وتغييره، وفي كلام علمائهم وهم أكذب وأفجر الخلق، ومن أضلهم الله على علم، نحن سنتلو ونقص عليك ونملي عليك من أنباء هؤلاء وأخبارهم (بالحق) أي: بالصدق البيّن الذي لا شك فيه، ولا مين ولا تردد ولا احتمال.
((لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص:3].
أي: الذي آمن بالقرآن وآمن بالمرسل إليه نبينا صلى الله عليه وسلم، فهو الذي سيؤمن بما يتلو ويقص القرآن، أما أولئك الكفرة الفجرة الذين لم يؤمنوا بالله في الأصل ولا بكتابه ولا بنبيه هؤلاء لا يؤمنون لا بقصص القرآن، ولا بأحكام القرآن، فهم كفروا بالأصل فكيف بما جاء بعد ذلك؟! ولذلك يخاطب الله هنا المؤمنين الذين سيصدقون ما يُقال لهم إذا آمنوا، فهو يتلو علينا ذلك لنأخذ الحكمة والعبرة والفائدة لما يستقبل حياتنا ومجتمعنا وأحكامنا، وقد ذُكرت قصة موسى وبني إسرائيل في القرآن كثيراً من المرات، فما الحكمة في ذلك؟ سبقنا في الديانة عيسى، وهو آخر أنبياء بني إسرائيل، بينه وبين نبينا عليه الصلاة والسلام ستة قرون وثلث قرن وسنوات، وليس بينه وبين نبينا رسالة ولا نبوة، وقبله سبق موسى وكان من أولي العزم، وهو الذي أُنزلت عليه التوراة، ثم أُنزل الإنجيل على عيسى، فالله يذكر لنا قصص بني إسرائيل من أتباع موسى وأتباع عيسى، وهو قد فضّلهم يوماً على العالمين، ومكّنهم في الأرض، وأرى فرعون وهامان منهما ما أراهم، ثم لُعنوا بعد ذلك وغُضب عليهم، وذلوا واستعبدوا، وأصبحوا أذل من شسع النعل، لم ذلك؟ لأنهم خرجوا عن أمر الله، وقتلوا الأنبياء، ونشروا الفواحش والفساد، وكانوا قساة القلوب.
ولا تغتر أيها المسلم بما يجري اليوم فليس هو إلا استدراجاً، فعن قريب وعن قليل تقشّع، فيعودون إلى السحق بالأقدام، وإلى الطرد من جميع ديار المسلمين، ولن تقوم لهم بعد ذلك قائمة؛ لأن القرآن الكريم حدثنا بذلك، وأعطاهم فرصتين وزمنين للإفساد في الأرض، وبعد الإفساد الثاني لن تقوم لهم قائمة، وسيكون هذا الإفساد استدراجاً للقضاء عليهم وتشريدهم وطردهم.
ولكن القرآن عندما يقص علينا أخبارهم يقول لنا: يا هؤلاء المسلمون الذين فضّلهم الله على كل البشر من اليهود والنصارى وغيرهم، وجميع الأمم السابقة، وجعل نبيهم أفضل وأكرم الأنبياء، ولا نبي بعده، ولا رسول بعده ودينه عالمي لكل الخلق في حين أن نبوة عيسى قومية مقصورة على بني إسرائيل.
قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (اختصصت بخمس: كان الأنبياء قبلي يرسلون إلى أقوامهم خاصة وبعثت إلى الناس عامّة) فالإسلام وحده هو الدين العالمي، وقد قلت: وأكّد هذا ما وجد في الإنجيل من قول الله تعالى نقلاً عن عيسى: إنما أُرسلت إلى بني إسرائيل خاصة، عيسى نفسه يقول: جئت إلى كباش هؤلاء اليهود ولم يرسل لغيرهم.
أكّد ذلك القرآن الكريم فقال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف:6] ليس رسولاً إلا لنبي إسرائيل، لم يرسل لعرب ولا أوروبيين، ولا لأمريكيين، ولا لأحد من الخلق إلا لبني إسرائيل، فلم يؤمر غيرهم بأن يكونوا أتباعه ولا أن يؤمنوا به، ولكن عندما جاء الإسلام نُسخت هذه الأديان، وانتهت نبوءات رسلهم، ثم هي كانت قد نُسخت وبدّلت وغيرت، بعد ذلك نسخت للإسلام، وأصبح بعد ذلك من لم يدخل الإسلام ولم يدن بالإسلام لا دين له؛ ولذلك يقول تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).
وعيسى سينزل في آخر الدنيا من السماء، وسيكون من أتباع نبينا عليهما الصلاة والسلام، وما فعله صلى الله عليه وسلم بأمر ربه ليلة الإسراء في المسجد الأقصى أعاده الله للمسلمين، وطرد منه القردة والخنازير وعبد الطاغوت من اليهود، حيث صلى إماماً بالأنبياء بأرواحهم، وما كانت تلك الإمامة إلا إشارة إلى أنه سيدهم وكبيرهم، والذين أُخذ عليهم العهد أن من أدرك الحياة المحمدية ليؤمنن به وليدينن بدينه ولينصرنه، ذاك أمر الله.(143/4)
تفسير سورة القصص [4 - 8]
كان فرعون قد طغى وتجبر وتكبر واستعمل سياسة (فرق تسد) ليتم له استضعاف شعبه واستعباده، وقد أذل بني إسرائيل غاية الذل، وحينئذٍ أذن الله بأن يولد من بني إسرائيل من تكون نهاية فرعون وملكه على يديه.(144/1)
تفسير قوله تعالى: (إن فرعون علا في الأرض)
قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
يخبرنا ربنا جل جلاله عن فرعون حاكم مصر مدّعي الألوهية الظالم الغشوم الذي عوقب على ظلمه ودعواه الألوهية بالغرق مع جنده وملئه وقومه، وأنه علا في الأرض وتجبّر وطغى وتكبّر وتعالى على عباد الله، وجعل أهل مصر شيعاً وأحزاباً وفرقاً، فهو من النوع الذي يطبق المثل الدارج: فرّق تسُد، وهذا مبدأ استعماري ظالم اتخذه فرعون مصر الأول وغيره من فراعنة العصر الذين طالما طغوا وعلوا في الأرض استعباداً واستصراخاً وإفساداً، فكان أول ما صنع فرعون حتى لا تجتمع عليه شعوب الأمة فيقضون عليه ويثورون في وجهه ويخلعونه عن ألوهيته الكاذبة، أن جعل أهل مصر فرقاً وشيعاً وطوائف يضرب بعضها بعضاً ويلعن بعضها بعضاً ويتآمر بعضها على بعض ليبقى وحده الحاكم المتسلط.
وجاء إلى فئة من شعبه وهم بنو إسرائيل ووجدهم ضعافاً أذلاء فاستضعفهم، فاستعبد رجالهم ونساءهم وحمّلهم ما لا تطيقه الجبال ذلاً وهواناً وخدمة، فكانوا يقومون بالمشاق والمتاعب من صناعة وزراعة وإصلاح شوارع والقيام بالدور، أما الأقباط قوم فرعون فهم وحدهم المرفّهون المنعّمون بما خلق الله في الأرض من خصب ومن نعم ومن زروع ومن ثمار.
ولم يكفه ذلك الاستضعاف والاستعباد والاستذلال لبني إسرائيل، فذبّح أبناءهم الذكور عندما يولدون، وترك البنات أحياء فلا يقتلهن؛ وذلك لأنه رأى في المنام أن هلاك ملك الفراعنة الأقباط في مصر سيكون على يد وليد من بني إسرائيل، فاتصل بالكهان وبمن يعبّر الرؤيا فعبّروها بأن طفلاً من بني إسرائيل ممن استذلوا واستعبدوا للفراعنة والأقباط سيولد وسيكون سبب هلاك فرعون وخلفائه وقومه من الأقباط على يده، فيغضب غضباً شديداً فيأمر بقتل كل وليد ذكر لإسرائيلية عبرانية فبقي على ذلك زمناً يرسل الذبّاحين والقوابل، عندما يعلمون بحمل امرأة من بنات بني إسرائيل، فيرقبونها إلى وقت المخاض فتدخل القوابل من الأقباط فيقمن بتوليدها، وبعد ذلك يدخل الذبّاحون فيذبحون ذلك الوليد إن كان ذكراً.
ومضى على هذا سنوات وإذا بالأقباط يضجّون ويرفعون شكوى لـ فرعون قائلين: يوشك أن يموت شيوخ بني إسرائيل ولا يشب بينهم شاب لأن الصبيان يقتلون عند ولادتهم، وإذ ذلك يفقد العبيد من بني إسرائيل، فيضطرّون للقيام بما كان يفعله عبيدهم من صناعة وزراعة والقيام ببناء الدور وما عليها، وإذا بـ فرعون يأمر بأن يُترك أولاد بني إسرائيل عاماً ويذبّحون عاماً، وكان هذا من أمر الله الذي خطر بباله ليحصل ما يحصل لموسى.
فولدت أم موسى وليداً وهو هارون في العام الذي لا ذبح فيه لأولاد بني إسرائيل، فكشفته للقوابل والذبّاحين من الأقباط فتركوه، وإذا بالسنة التالية تلد موسى فكان فزع أمه بولادته ذكراً فزعاً عظيماً إذ هي السنة التي يُقتل فيها ما يولد لبني إسرائيل من الذُكران، فاشتد الحال بأم موسى وحارت ما تصنع، وسيقص الله علينا في سياق القصة ما أوحى به لها وما أمرها به.
فقوله تعالى: ((يُذَبِّحُ)) هذا من زيادة المبنى التي تدل على زيادة المعنى، ولو كان الذبح عادياً لقال: يذبح أبناءهم بدون تشديد، ولكن الذبح كان كاملاً ومكتملاً، وكان فرعون حريصاً عليه أشد الحرص، وكان الذبح شديداً إلى أن تُفصل الرؤوس عن الأجساد، وكان لكل حامل إسرائيلية جاسوس إذا هي ولدت ذكراً ولم يُذبح وليدها.
وقوله تعالى: ((إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)) أي: كان فرعون من المفسدين في الأرض، وكان من العتاة والطغاة الظالمين، وكان ممن تأله وزعم الألوهية.(144/2)
تفسير قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض)
قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6].
هاتان الآيتان الكريمتان فيهما مقدمة لما يريد الله تعالى أن يجعله لبني إسرائيل إذ أكثر فيهم الأنبياء، وكانوا خير الأمم بصلاتهم وعبادتهم ودينهم، ولكنهم خرجوا عن أمر الله فبغوا وطغوا، فتركوا الأمر بالمعروف وقاموا بالأمر بالمنكر، وانتشر الفساد بينهم فعاقبهم الله بالتشريد والتدمير وعبّدهم لـ فرعون وخلفائه، وللأقباط من قبله وسلالاتهم وذريّاتهم، جزاءً وفاقاً على كفرهم بنعم الله، وعلى الكفر بعد الإيمان، وعلى الظلم بعد العدل والإيقان.
ولكن بعد أن عذّبهم الله وعبّدهم وحمّلهم الشدائد التي لا يكاد يحملها إنسان إلا مرغماً ذليلاً مستضعفاً مستعبداً، أراد الله بعد ذلك أن يرحمهم ويجدد الرسالة لهم ويبعث لهم موسى وهارون فقال تعالى: ((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ)): يذكر ربنا أنه يريد ولا راد لإرادته، وإرادته أمر وخلق، وإرادته من ذاته جل جلاله يفعل ما يشاء وينفّذ ما يشاء له الخلق وله الأمر.
والآية نزلت من أجل بني إسرائيل المستضعفين عند أقباط مصر، فمنّ الله عليهم وأكرمهم وأنقذهم من طغيان الفراعنة ومن ذل الأقباط؛ فنقلهم من العبودية إلى السيادة، ومن الخدمة إلى المخدومية، ومن الرعية إلى الحكام والملوك.
فقد كانوا مستضعفين محتقرين لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم ذلاً ولا ضيماً من فرعون وملئه، فكانوا يذبّحون أطفالهم ويتركون بناتهم، ويستعبدون شبابهم وشيوخهم ونساءهم في أذل عمل وأقساه وأصعبه، وقد استجاب الله دعوة الصالحين من بني إسرائيل أيام فرعون المتأله وأيام حكم الأقباط، وكان هذا قبل الإسلام بآلاف السنين، فجعلهم ربنا أئمة: جمع إمام، أي: حكّاماً وملوكاً ومتحكمين في أرضهم وفي شعوبهم وفي أمورهم لا يبقي للفراعنة عليهم حكم ولا سلطان، وأورثهم أرض مصر، وما كان فيه فرعون من نعم وخيرات، ومن زروع وأنعام وخصب، ومن أمر ونهي، ويعيد الكرة لهم على الأقباط الفراعنة كما سيقص الله علينا في بقية القصة إلى آخر السورة.(144/3)
تفسير قوله تعالى: (ونمكن لهم في الأرض)
قال الله تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6] أي: نجعلهم الممكنين المحكمين المستقلين بأرض مصر وما حولها من حكم وسيادة وسلطان وأرزاق وأنعام.
ونُري فرعون المتأله الظالم المدّعي للألوهية، ونُري وزيره هامان الذي آزره وساعده على دعوى الإلوهية وعلى ظلم الخلق وذبح المستضعفين واستحياء النساء، وعلى أكل أموال الناس بالباطل، وعلى الشرك بالله ولو بنفسه، ونري جنودهما وحكومتهما وأشياعهما وأنصارهما وجيشهما.
فكل من وافق فرعون على كفره وعلى تألهه سيعاقبه الله وينتقم منه انتقامه من فرعون؛ لأن من أعان ظالماً سُلّط عليه، وقد حرم الله تعالى أن يعان الظالم على ظلمه، وأن يعان الكافر على كفره، فمن فعل ذلك فهم في الظلم والكفر سواء، وقد قال تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من أعان ظالماً سُلِّط عليه).
فمساعدة الظالمين ظلم، ومساعدة الكافرين كفر، وموافقتهم على ظلمهم وكفرهم تجعلك مثلهم؛ ولذلك فإن الله تعالى قال للمؤمنين من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
فمن يوالي اليهود والنصارى، ومن يؤيدهم على كفرهم، ومن يجري خلفهم ويذل نفسه لهم ويحرص على استعبادهم؛ يكون يهودياً ونصرانياً مثلهم، ذاك صريح قول الله تعالى الذي لا مين فيه ولا شك ولا ريب؛ ولذلك فإن الله تعالى عاقب فرعون بمثل ما عاقب أشياعه وأنصاره من وزراء وكتّاب وأعوان وجنود، وكل من سانده على عمله من أمته ورعيته فأغرقهم الله في البحر جميعاً، وأورث الله الأرض والأنعام والخيرات لعبيدهم من بني إسرائيل فصاروا سادتهم وحكّامهم.
فأرى الله فرعون وقومه ما كانوا يخافون منه، وهو ما قاله الكهنة في رؤيا فرعون أو ما ذكر من العلم القديم عن إبراهيم الخليل، بأن هلاك فرعون وأقباط مصر سيكون على يد رجل من بني إسرائيل، فما حذروا منه وخافوا منه لن يفيدهم، وما أفاد حذر من قدر، وما قدّره الله كائن مهما حذروا وخافوا وأعدوا ومهما هيئوا فلن يكون ذلك في نتيجته إلا وبالاً عليهم.
وهذا الذي حدث، فكان موسى عليه الصلاة والسلام السبب في القضاء على فرعون بالغرق وإذلال الأقباط، فقد نشأ في دار فرعون، وأكل طعامه ولبس لباسه ونشأ على فراشه وقيل عنه زمناً من الأزمان موسى بن فرعون، وهكذا ما قدّره الله كان، ولا يفيد حذر من قدر، وما أراده الله كائن، لا راد لقضائه ولا مدافع لسلطانه جل وعزّ وعلا.(144/4)
تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه)
قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7].
معنى ذلك: أن أم موسى حملت بموسى تسعة أشهر كاملة، فعندما ولدت به وجدت نفسها عوضاً أن تُسر به لأنه ذكر كعادة الناس، فإن ولادة موسى كانت عليها خوفاً وهلعاً ورعباً، خاصة لما رأت من إشراق النور عليه فدخل حبه في قلبها أكثر من حب الأم للأطفال؛ لأن الله ألقى عليه محبته فلا يكاد يراه إنسان إلا أحبه ومن ذلك فرعون، ولولا ذلك لقتله ولما سمح لامرأته أن تتركه في البيت وأن تنشئه على فراشه ونعيمه.
فقوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) ظاهر كلمة أوحينا أن أم موسى نبية وأن الله أوحى لها، وهل تكون امرأة نبية؟ وسنجد أن الآية جمعت بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
وجمهور المفسرين قالوا: لم يكن وحياً من جبريل إليها كما يوحى إلى الأنبياء ولكنه كان وحي إلهام، فقد أُلهمت أن تفعل ذلك.
ولكن المحققين من العلماء أبوا ذلك وقالوا: أيمكن للإنسان يوماً أن يأتي إلى وليده فيقتله أو يقذفه في البحر ويقول: أُلهمت أن أفعل ذلك؟! والإلقاء في اليم موت وقتل، ولن يكون هذا ولن يتم إلا بوحي من الله، وإلا لكانت صنعت شيئاً يتجاوز الخواطر، والخواطر قد تكون شيطانية وقلما تكون ملائكية.
ثم في الآية وعد من الله أنه سينقذه وأنه سيرد وليدها لها، وأن وليدها سيصبح نبياً رسولاً، وهل الإلهامات والخواطر تصل لهذه الدرجة من الصحة ومن الحقيقة ومن الوعد؟ وقد كان الأمر كذلك، فقد رد الله لها ولدها بأحسن عيش وأسعد حالة، ثم جُعل ولدها نبياً رسولاً سيداً من سادات الأنبياء ومن الخمسة أولي العزم.
فالذين قالوا إن ذلك إلهام لئلا تكون المرأة نبيةً، ونحن نقول: ذكر الله بأن الرسول لا يكون امرأة، أما أن تكون نبياً فلا مانع، فقد ذكر الله إيحاءه لـ حواء وامرأة إبراهيم، وهذا من ذاك.
وتعريف النبي في العقائد هو: عبد أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، فذاك مقصور عليها فلم يجعل لها سيادة على أحد ولا يدخل ذلك في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فهي لم تتول أمر أحد، ولم تكلف بهداية أحد، ولم تؤمر بتبليغ رسالة ولا بنزول كتاب عليها، وإنما هو شيء أوحاه الله إليها فكانت بذلك نبية بالوحي، فالأعمال التي قامت بها والوعود التي وعدت بها لا يكفي أن تكون إلهاماً، ولو قلنا هذا لفتحنا أبواباً، وقد ادعى ذلك بعض من أضلها الله وقالت: أوحي إلي، فعندما قلنا لها كيف أوحي إليك؟ قالت: كما أُوحي إلى حواء وإلى أم موسى وإلى امرأة إبراهيم وإلى أم عيسى.
قلنا لها: فماذا تقصدين بالوحي؟ قالت: الإلهام والخواطر، وهذا يضل فيه الإنسان، وقد يفعل الأفعال المخالفة للشريعة ويقول: أُلهمت وأوتيت خواطر ملائكية، فيضل الضال وينتشر البلاء، وهيهات هيهات أن نُعامل الإلهامات أو الخواطر معاملة الوحي! وهذه الآية الكريمة فيها أمران ونهيان وبشارتان وخبران، وهي بذلك من أبلغ آي الكتاب الكريم ومن أفصحها ومن أجمعها للكلم في ألفاظ قليلة.
((وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ)) هذا الأمر الأول، والأمر الثاني: ((فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)) أي: البحر، وهو نهر النيل.
والنهي الأول والثاني ((وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي)).
والخبر الأول والثاني ((إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)) أخبرها الله في وحيه أنه سيرده عليها ولن يهلك في البحر ولن يغرق، وأنه سيجعله من المرسلين، فهما خبران وبشارتان، فسّرت من أن وليدها سيعود إليها وسيكون نبياً رسولاً من أولي العزم.
فقوله تعالى: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)) أرضعته إلى أن جرى حليبها ودر دره ولكنها مع ذلك خافت عليه الذبّاحين.
بل قالوا: دخل الذبّاحون وقوابل الأقباط عليها يريدون قتله فبادرت وجعلته في تابوت مغلق وقذفت به إلى اليم فلم يجدوا شيئاً ورأوا ثدييها يدر الحليب فقالت: أنا أرضع هارون منذ أشهر فقد ولدته في السنة التي كان فرعون لا يذبح فيها الأطفال فحليبي من وليدي، فوجدوا العلامات فتركوها.
فلما ألقته في نهر النيل كادت أن تُجن ويذهب عقلها كما سيصف الله لنا، ولم تعد تفكّر إلا في الوليد الذي زاد حبه بقلبها كسائر الأولاد، ولكنه زاد لما رأت على جبينه من إشراق ومن نور وما بُشّرت به من الحضرة الإلهية أنه سيكون له شأن وسيكون نبياً ورسولاً من أولي العزم من الرسل، ولا تخافي من إلقاءه في اليم أن يغرق أو أن يختنق أو أن يموت، ولا تحزني على فراقه فإنه سيفارقك يوماً أو يومين أو أقل وسيعود وليدك إليك علناً، وسترضعينه بعز وشرف وستأخذين أجرة على إرضاع ولدك، وبعد ذلك عندما يكبر ويبلغ الأشد ويستوي في عمره وجسمه وعقله سيكون رسولاً نبياً.(144/5)
تفسير قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون)
قال تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8].
معنى ذلك أنها ألقته، وأن الأمواج أخذته إلى جوار قصر فرعون وكان على شواطئ النيل، فخرجت جواريه وخدمه على الشواطئ للعب أو الصيد أو للنزهة وإذا بهم يرون صندوقاً ترفعه موجة وتضعه موجة، فترقبوه إلى أن وصل إليهم فأخذوه ولم يفتحوه، فذهبوا به إلى الملكة آسية بنت مزاحم زوجة فرعون فقالوا: وجدنا هذا التابوت في البحر.
وإذا به يفتح على وليد جميل أخّاذ جذّاب ما كادت تقع عين زوجة فرعون عليه حتى شغفها حباً وحتى أصبح كأنه خرج من رحمها.
وجاء فرعون فبادرته قبل أن يبادرها فقالت له: يا فرعون هذا الوليد وجدناه في البحر ولا شك أنه جاء من بعيد.
قال لها: لا بد أن يكون عبرانياً إسرائيلياً ولا بد من ذبحه، فأخذت ترجوه تستعطفه وتجادله حتى تركه.
فقوله تعالى: ((فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ)) أي: التقطوا هذا الوليد موسى، واللقيط أو اللقطة معناهما: وجود شيء في الأرض وأخذه بلا إرادة ولا طلب معد من قبل، وإنما الله هو الذي أتى به لما يراد بهذا الوليد مما سيقصه الله علينا بالتفصيل في هذه السورة الكريمة.
وبعد إلحاح ورجاء وافق فرعون، فسُرّت زوجته وفرحت وأعدت نفسها وكأنها ملكت الدنيا وما فيها ليتم ما يُريده الله من موسى.
وآلك: أولادك وعيالك وخدمك وشيعتك، وقد قيل: كان لـ فرعون بنت ولم يكن له ولد، ولم تكن البنت من آسية بنت مزاحم وقد يكون هذا صحيحاً وقد لا يكون صحيحاً، فالآل كما يطلق على الأولاد يُطلق على الخدم والحشم والأنصار والشيعة.
وقوله تعالى: ((ليَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)) أصل اللام أن تكون للتعليل، فهل التقطوا هذا الوليد وهم يريدون أن يكون لهم يوماً عدواً، أو يكون لهم أداة حزن وألم وذل وهوان؟
الجواب
لا، ولكن هذه اللام قالوا عنها في لغة العرب: هي لام العاقبة والصيرورة، أي: هذا الوليد الذي أخذوه ستكون عاقبته في بيتهم عداوة وحزناً وأوجاعاً وآلاماً، فيربون على فراشهم عدواً لهم، وسيكون السبب في القضاء على ملكهم وسلطانهم، والسبب في تحرير العبيد من بني إسرائيل.
وقال ابن كثير: وإن كانت هذه اللام ظاهرها أنها لام العاقبة أو لام الصيرورة ولكنها في الحقيقة هي لام التعليل من قبل الله، أي: أن الله تعالى هو الذي ألهم آل فرعون ليلتقطوه ليكون لهم عدواً وعقوبة وجزاء على ظلمهم وطغيانهم وعلوهم في الأرض بالفساد والاستكبار واستضعاف الضعاف والمساكين، والسبب في ذلك ((إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ)).
وجعل الله هذا الوليد في دار عدوه ليكون سبباً في القضاء عليه؛ لأن فرعون علا في الأرض فطغى وتجبّر وكفر بالله وجعل نفسه إلهاً على الأرض، وصانعه في ذلك وتابعه هامان وزيره وأيده وسانده بالأرواح والأعمار والأجساد والأموال، وكذلك جنده وأنصاره وقومه، وأن هذه الطائفة كلها من ملك ووزراء وحكومة وجيش كانوا خاطئين، وآثمين، ومجرمين، وظالمين، فحق هؤلاء لظلمهم وعتوهم وجرمهم أن يُعاقبوا بما عاقبهم الله به وأعده لهم وهيأه لهم مع الزمن البعيد بعد سنوات.(144/6)
تفسير سورة القصص [9 - 17]
عندما ولدت أم موسى خافت على رضيعها فألهمها الله فألقته في البحر، فسخر الله له امرأة فرعون فاستبقته لنفسها وبحثوا عن مرضع حتى عاد إلى أمه، ثم تربى في بيت فرعون حتى شب وبلغ أشده.(145/1)
تفسير قوله تعالى: (وقالت امرأة فرعون)
قال تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9].
التقط آل فرعون هذا الوليد، وإذا بامرأة فرعون جاءت إلى فرعون واستعطفته وتمسحت به وقالت له: لا ولد لنا، هذا الوليد قد يكون قرة عين لي ولك، وسبب فرح وسعادة وسيادة وينشر ذريتنا وسلالتنا، ويرث عرشنا وملكنا.
وأصل قرة العين هدوءها وبردها، ويكون ذلك عند الفرح بما يسر القلب ويطمئن النفس.
وقيل إنه وافق وقال لها: أما لكِ فنعم، وأما أنا فلا حاجة لي به.
ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو قال فرعون قرة عين لي ولكِ لكان قرة عين له ولها أيضاً) ولكنه رفض ذلك ليتم وعيد الله، ولتتم عقوبة الله على هذا الظالم المتأله الكاذب.
وقوله تعالى: (لا تَقْتُلُوهُ) باعتبار قتله لكل عبراني، وهو ولد في السنة التي يقتل فيها أطفال بني إسرائيل فأخذت ترجوه وتستعطفه ألا تقتلوه؛ (عَسَى) إن تُرك بلا قتل (أَنْ يَنفَعَنَا) أي: أنا وأنت ومملكتنا ودولتنا (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) أي: نتبناه، عسى أن يصدر لنا منه نفع في المستقبل، أو يكون ولداً لنا حيث لا أولاد لنا.
وكل ذلك رفضه فرعون فقال: لا حاجة لي بنفعه ولا ببنوته فهو قرة عين لكِ فقط، وقد كان هذا كذلك، فقد هداها الله على يده فأسلمت وآمنت وكانت من الصدّيقات، قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ خديجة أم المؤمنين الأولى رضي الله عنها: (ألا تدري يا خديجة أن الله سيزوجني يوم القيامة آسية امرأة فرعون ومريم أم عيسى؟) والحديث صحيح؛ وعلى هذا الاعتبار يجب أن تُعتبر آسية أماً من أمهات المؤمنين ولو في الآخرة، ومريم أماً من أمهات المؤمنين ولو في الآخرة.
وهكذا من خلد ذكره في الصالحين فإنه يذكر ولو بعد حين، فخلدت آسية على لسان خاتم الأنبياء، وعلى لسان أتباعه من ورثته من العلماء إلى كل المؤمنين، فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد).
فالله عز وجل ألهمها أن تقول: (قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) فلقد نفعها النفع الجزيل فآمنت وأسلمت وأخلصت لله، وامتثلت أمر موسى عندما جاء نبياً يدعو فرعون إلى توحيد الله، فنفعها وكان قرة عين لها، ورفض ذلك فرعون وبقي على كفره واستحق عقوبة الله له.
وقوله تعالى: (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) كل هذا الذي يقوله الله، ويوحي به إلى أم موسى والقوم لا يشعرون بهذا، ولو شعر فرعون بأن موسى سيكون سبب هلاكه لمزّقه تمزيقاً، ولو شعر الذبّاحون والأقباط أنه سيكون سبب هلاكهم وسبب عقوبة الله لهم لذبحوه.
فقوله تعالى: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:9].
أي: ولو شعر فرعون بأن موسى سيكون سبب هلاكه لمزّقه تمزيقاً، ولو شعر الذبّاحون والأقباط جميعاً أن هذا الوليد الذي ينشأ على عين فرعون وفي بيت فرعون ولا يُعرف إلا بموسى بن فرعون سيكون سبب هلاكهم وسبب عقوبة الله لهم، لقتلوه منذ أزمان.
فهم لا يَشْعُرُونَ بحكم الله وبالعاقبة التي يريد الله عقوبتهم بها؛ وهؤلاء الذين طالما حذروا وذبحوا الآلاف بل عشرات الآلاف لكي لا يُقتل فرعون ولا يُطرد فرعون ولا يُمحق الأقباط ولا يذهب الكهان؛ ولكن هيهات أن ينفع حذر من قدر!(145/2)
تفسير قوله تعالى: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً)
قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10].
قذفت أم موسى وليدها في البحر، وعندما قذفته أصبح فؤادها ضائعاً هواء، لأنها مولهة به فهي كالمجنونة الضائعة، وتصور أماً اضطرّت إلى قذف ولدها في البحر أو في النار أو ليُذبح! كيف سيكون حالها؟ وكانت قد غلبت ذاتيتها وبشريتها على ما أوحي لها به، فقد قال الله عن الأنبياء جميعاً: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110] كان يشتد البلاء بالأنبياء، وبرسل الله حتى تضيق عليهم الأرض بما رحبت وتخطر ببالهم الخواطر التي لا تليق ولكن لا يملكون صرفها إلى أن يظنوا ويتوهموا أنهم قد كذبوا، عند ذلك يأتي النصر والفرج مع الصبر، وكذلك يأتي نصر الله ووعده الحق بالأنبياء وأتباع الأنبياء من الصادقين المؤمنين.
فقوله تعالى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا) أي: فارغاً من كل شيء في الكون إلا من موسى.
(إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي: كادت لتخرج من الدار وتمشي في الشوارع وتقول: واموساه! أين ولدي؟ فهذا الذي أخذته امرأة فرعون هو ولدي؟ أتحرمونني منه وأنا في الحياة وتجعلونه بلا أم؟ ألا يكفي في ذلك أن يكون يتيم الأب فيكون مرة ثانية يتيم الأم في ما ذكروا؟ وإلا فالسياق يدل على أن أباه كان لا يزال حياً ولكن لم يُذكر.
وكاد في لغة العرب من أفعال المقاربة، فقوله تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص:10] أي: قاربت أن تُظهره، ولو فعلت لكان ذلك سبب ذبحه والقضاء عليه، ولكن الله ثبتها بالصبر كما ثبّتها بالوحي.
وقوله تعالى: (لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا) أي: لولا أن الله صبّرها وشد على قلبها الذي ضاع وتاه، وأصبح فارغاً هواء، فثبّتها وصبّرها لكي لا تخرج من الدار وتُعلن أن هذا الوليد ولدها.
وقوله تعالى: (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: لتكون أم موسى مؤمنة بالوحي الذي أوحى الله إليها، ولو لم تكن من المؤمنين لكانت من المكذبين، ولا يليق بنبية أن تكون من المكذّبين.
فهي من المصدقات بوعد الله، وهو أن الله راده عليها، وأنها ستنعم به وأنه سيكون عند الكبر نبياً رسولاً.(145/3)
تفسير قوله تعالى: (وقالت لأخته قصيه)
قال الله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:11].
وقالت أم موسى لأخته: يا فلانة! قصيه أي: اتبعي أثره، وفي مكة يسمون من يتبع آثار السارق والفار والهارب القاص، وهي لغة عربية فصيحة.
وقوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:11]: أي: فاتبعت أثره من جنب: أي: من جانب بعيد بحيث لا يشعرون بأنها تتبع الوليد، وتترسم خطاه ونهايته، فرأته ببصرها لا بعلم قلبه ولا بإخبار أحد أنه في الشاطئ، وأن جواري فرعون نزلن للشاطئ وأخذنه، فاطمأنت أنه لم يمت وبشّرت أمها بأن موسى لم يغرق ولم يضع ولم تأكله هوام البحر، ولكنها زادت رُعباً عندما دخل قصر فرعون، فإنه سيذبحه لأنه لم يكن هذا إلا لأنه كان عبرانياً إسرائيلياً.
وقوله تعالى: (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي: لا يشعرون بأنها تتبع أثره وتترسم خطاه، وتريد أن تعلم ماذا جرى له، ولو انتُبه لها لضغطوا عليها وهي صبية ولعذّبوها إلى أن تقول الحقيقة فيضيع موسى، ولكن الله لطيف لما يشاء كما قال يوسف في قصته مع إخوته.(145/4)
تفسير قوله تعالى: (وحرمنا عليه المراضع من قبل)
قال تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12].
أي: أتوا بالمرضعات في القصر وخارج القصر فامتنع أن يرضع من أي امرأة، وهذا تنفيذ وعد الله.
(وَحَرَّمْنَا عَلَيْه) أي: تحريماً قدرياً بمعنى: منعنا.
(الْمَرَاضِعَ) جمع مرضعة، فكانوا يتجولون بالطفل في الطرق وزوجة فرعون تكاد تُجن أكثر من أمه الحقيقية، وإذا بأخت موسى تقف عندهم وتقول لهم: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) فقالوا لها: ما يُدريك؟ هل الولد وليدكم؟ هل أنتم الذين قذفتموه في البحر؟ فقالت: إن أُمي مسكينة وتحتاج إلى مساعدة الملك، ثم هي تنصح الملك فيما ينالها من سروره وبهجته وقرة عينه، وقد ولدت في السنة الماضية وليداً حيث كان لا يُذبح أولاد بني إسرائيل، فهي لا تزال ترضعه ولا يزال ثدياها يجريان بالحليب.
وكان كلام أخت موسى كلاماً ظاهراً مقبولاً، فلو لم يكن لها وليد ووجدوها تُرضع لقالوا لها: من أين الرضاع ولا رضيع؟ ولكن الأمور كلها جاءت طبيعية ليتم وعد الله بالحق.
فقوله تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) أي: من قبل أن يصل إلى أمه وهم يتجولون به ثلاثة أيام أو أربعة أيام حتى كاد أن يموت، وأمه التي تريد أن تتبناه وهي زوجة فرعون كادت أن تُجن عليه أكثر من أم موسى.
ومعنى قوله: (يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) أي: يحضنونه ويحفظونه ويضمنون حياته وصحته وإشباعه وريّه.
(وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) أي: ينصحونه ويخلصون له ويبرّون له رجاء خدمة الملك ومعروف الملك ومسرة الملك، وهي مرضعة لها وليد تُرضعه.
فكان الكلام مقبولاً فاستجابوا لها، فذهبوا به إلى أمه.(145/5)
تفسير قوله تعالى: (فرددناه إلى أمه)
قال تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:13].
كان ذلك سبباً في أن يأتي الطفل إلى أمه، وجاءوا بالوليد فسلّمته الثدي مع العطف والشوق، وإذا بالحليب يدر من أول مرة كأنه نافورة، وإذا بالطفل يشم رائحة أمه فيلتقم ثديها ولو توسع فمه الصغير لارتضعه جميعاً، فسرّت أم موسى وبلغ ذلك زوجة فرعون، فسرّت وفرحت وقرّت عينها وطلبت منها أن تأتي إلى قصرها فجاءت، فقالت لها: أنت في بيتي وواحدة من أهلي فاخدميه وأرضعيه هنا.
فقالت لها أم موسى: هذا يسرني ولكنني زوجة لرجل وأم لأولاد ومكلّفة ببيت، فلمن أترك الزوج والأولاد، فدعيه عندي فأنا سأخدمه بعيني وأنصح لكم فيه، فوافقت.
وذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن الرجل يعمل العمل فيحتسب به على الله فيؤجر عليه كما أُجرت أم موسى على وليدها، أرضعت ولدها وأخذت أجرة.
ووعد الله كان بأسرع وقت، وعدها الله بأن يرده إليها فرده خلال يومين أو ثلاثة أيام بالأكثر، قال تعالى: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا): أي: تزداد فرحاً وسروراً وارتياحاً وبهجة بوليدها حيث سترضعه أمام الملأ دون خوف ولا وجل ولا رُعب؛ لأنه لو بقي عندها لأرضعت ولداً من أولاد بني إسرائيل، ومهما حاولت أن تُخفيه فهي في رعب مستمر، ويقع عليها رعب أشد من الرعب الأول عندما ألقته في اليم، أما الآن فهي تُرضع ولد الملك بإجلال وباحترام وبإعزاز، وهكذا وعد الله الحق إذا وعد أحداً بأن يفعل له وأن يكرمه كان وعده الحق جل جلاله، قال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] أي: لا أحد.
وقوله تعالى: (وَلا تَحْزَنَ) فقد ذهب حزنها وانتهى بأسرع وقت.
(وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ولتزداد أم موسى علماً وإيماناً ويقيناً بأن وعد الله حق، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ولكن أكثر الناس لا يثقون بعهد الله ولا بوعده ولا يؤمنون بذلك فهم كفرة فجرة، وقد يكونون مسلمين يعلمون وعد الله الحق بنصرة المسلمين ومع ذلك لا يطمئنون، وذاك من ضعف إيمانهم وقلة يقينهم.(145/6)
تفسير قوله تعالى: (ولما بلغ أشده واستوى)
ولما ذكر الله تعالى ولادته وطفولته ورضاعه، ذكر بعد ذلك نشأته من بداية شبابه إلى اكتماله ونضوجه، فقال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص:14].
لما بلغ موسى الحلم والأشد: ما بين الثامنة عشرة إلى الثالثة والثلاثين من بداية الشبيبة إلى اكتمالها ونضجها (وَاسْتَوَى) أي: أتم الأربعين، لا يكون استواء الرجولية إلا عند الأربعين عاماً من عمر الإنسان، فهو العمر القابل لإرسال الرسالات ووحي الله تعالى لعبيده من البشر كما أرسل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة.
وقوله تعالى: (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) أي: آتاه الله الحكمة والعلم والفهم، أما النبوة فلم تأت له إلا بعد أن يترك البلد ويهدد بحياته ويصبح في أرض مدين، وتلك مرحلة ثالثة وليست المرحلة الأخيرة من المراحل التي قص الله علينا من سيرة موسى.
فعندما بلغ موسى هذا السن وهو ما دون الأربعين سنة أكرمه الله بالفهم والحكمة، ومن ذلك أنه كان على دين آبائه، كان موحداً ومؤمناً بما تبقى من رسالات بني إسرائيل.
قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) كل من عاش محسناً في حياته مطيعاً لربه مصدّقاً بوعده غير مخالف ولا عاص فإن الله يحسن إليه كما أحسن إلى موسى عليه الصلاة والسلام؛ فالله القديم الأزلي الذي لا أول له ولا آخر له وهو على ما كان عليه كائن، وكما أكرم الأولين فهو يُكرم الآخرين وفضل الله تعالى لا يحجّر ولن يحجّر، من أحسن في دينه وطاعته وأكرم مثوى نفسه وأخلص الخدمة لعباد الله المؤمنين؛ فلم يسرق ولم يزن ولم يخالف فإن الله تعالى يجزيه أحسن ما يجازي به عباده الصالحين، كما أحسن لموسى يحسن لمن فعل فعله من الطاعة والامتثال فزاده العلم والحكمة.(145/7)
تفسير قوله تعالى: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها)
قال تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15].
بعدما أصبح موسى في هذه الدرجة من الوعي والفهم والعلم، بينما هو في يوم من الأيام قد دخل المدينة واسمها عين الشمس، وهي المدينة التي نشأ فيها، ولكن كان وهو كرئيس وابن الملك قلما يخرج للشوارع، فبدا له أن يخرج يوماً في وقت خلاء الشوارع وليس فيها أحد كشأن الكبراء عندما يريدون أن يتنقلوا ويسيحوا في البلاد.
فخرج في وقت القيلولة والراحة أو ما بين المغرب والعشاء، وهو وقت نهاية عمل اليوم والعودة إلى البيت للعشاء والراحة، فخرج في هذا الوقت وكانت الطرق خالية ليس فيها أحد، وإذا به وهو يتجوّل يجد رجلين يقتتلان ويتخاصمان ويتنازعان ويضرب بعضهما بعضاً، ويكاد يقتل أحدهما الآخر أو يُقتلان معاً، (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِه) أي: الإسرائيلي فهو من قومه (عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّه) أي: القبطي، وكان موسى قوي الجسم متين العضلات فجمع أصابع يده فوكز القبطي بضربة فألقاه ميتاً، وهو لا يريد قتله ولكن يريد الانتقام منه نصرة للذي من شيعته وقومه.
فقوله: (فَوَكَزَهُ مُوسَى) الوكز الضرب بجمع اليد عند الصدر.
(فَقَضَى عَلَيْه) أي: كانت القاضية على حياته، فعندما رآه موسى يُصرع ميتاً (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَان) أي: أنا لم أرد قتله ولم أفعل ما يكون سبباً لقتله، فالشيطان هو الذي تدخل في الموضوع فدفع موسى وحمسه إلى أن قتله.
(إِنَّهُ عَدُوٌّ) أي: إن الشيطان عدو للإنسان منذ امتنع من السجود لأبيه آدم، و (مُضِلٌّ مُبِينٌ) فهو لا يسعى إلا في ضلال الناس وفي إفسادهم، فهو مضل ظاهر بيّن واضح لمن عمي قلبه قبل أن يعمي بصره، إذ ذاك موسى وقد أوتي الحكمة والعلم والفهم والدين ولم يوح إليه بعد فقال كما ذكر تعالى:(145/8)
تفسير قوله تعالى: (قال رب إني ظلمت نفسي)
{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [القصص:16].
اعترف أنه ظلم نفسه بقتله من لا يستحق القتل ولغير سبب من أسباب القتل {فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16].
ولكن موسى لا يدري أن الله قد غفر له فذاك يحتاج إلى وحي، والوحي لم يأته بعد، فالله غفر الله لأنه قتل من يستحق القتل، لأنه كان كافراً، والكافر والكلب سواء فلا حرمة لدم الكافر ولا لماله ولا لعرضه؛ وهذا معروف من الدين بالضرورة، وإن كان موسى قد رأى أنه قد تسبب بقتل إنسان لا يستحق القتل فقال: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) فهذا الموضوع يحتاج إلى استغفار، فرفع يديه بالاستغفار، (فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
فالله هو الغفور وهو الرحيم يغفر عن زلات الزال وعن ذنوب المذنب وعن سيئات المسيء، يرحم ضعفه ويرحم ما قام به في حالة ضعف وغلط وفتنة.(145/9)
تفسير قوله تعالى: (قال رب بما أنعمت علي)
ثم وعد موسى ربه وعداً حقاً فقال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17].
أي: رب بسبب إنعامك عليّ من الحكمة والعلم والفهم والدين فلن أكون بعد اليوم ظهيراً ومعيناً ومساعداً للظالمين والمجرمين، ودخل في هذا الوعد فرعون وقومه والكفرة من بني إسرائيل، وكأن هذا الإسرائيلي الذي تعصّب له موسى وقتل القبطي من أجله لم يكن مؤمناً، فقد ناصر مجرماً كما ناصر فرعون ببقائه معه في قصره بعد العقل والفهم والإدراك وهو لا يستحق ذلك؛ فموسى مؤمن أوتي العلم والحكمة وفرعون يدّعي الإلوهية، ولذلك كم من ذنب تنشأ عنه حسنة وهذا من ذاك.
ومعنى ذلك أن مساعدة المجرم حاكماً كان أو تاجراً ظلم وإجرام وهكذا؛ وهو سبب في العقوبة كما قال ربنا: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] فالظلمة يسلّطهم الله على بعض، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83] ثم يُقذف بالكل إلى قعر جهنم، فمن أعان ظالماً سُلّط عليه، قال تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فكل هذا قد حرّمه الله ورسوله، وحرّمته شريعة الإسلام.
قال تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:18].
بعد هذا الموقف ترك موسى دار فرعون ولم يعد إليها، لأنه قد قتل نفساً قبطية بغير نفس فخاف من المتابعة وإن كان لم يراه أحد، ولكن خاف من الإسرائيلي أن يبلّغ عنه فهو قد كان كافراً وقد يحمله الكفر والرعب والهلع من طُغيان فرعون أن يبلّغ عن طغيان موسى.(145/10)
تفسير سورة القصص [18 - 22]
كان سيدنا موسى عليه السلام قد قتل قبطياً وجده يختصم مع أحد بني إسرائيل، ثم ندم على فعلته واستغفر ربه فغفر له؛ لكنه ظل خائفاً يترقب، ثم جاء في اليوم الثاني فوجد ذلك الإسرائيلي يختصم مع قبطي آخر فاستصرخه فهب لنصرته ففضحه، وخاف موسى على نفسه فخرج من مصر وتوجه تلقاء مدين.(146/1)
تفسير قوله تعالى: (فأصبح في المدينة خائفاً يترقب)
قال الله جل جلاله: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص:18].
لا نزال مع موسى عليه السلام، حيث خرج إلى المدينة فاستغاثه إسرائيلي من قومه على قبطي من أعدائه فوكزه فقتله، وكان الوقت وقت غفلة وفراغ من الناس في الأزقة والدروب، حيث كان وقت القيلولة والزوال أو وقت المغرب والعشاء وما بينهما، وإذا بموسى يُصبح خائفاً مترقباً متوقعاً شيئاً من فرعون وملئه لإيذائه والبطش به: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ).
وإذا باليوم التالي لم يرجع موسى إلى فرعون ولا إلى بيته، وأصبح الصباح وهو في خوف وترقب، وفي انتظار طلبه وكشف فعلته لقتله القبطي.
قوله: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) أي: يجول في الأسواق ويقطع الدروب وهو وجل خائف من قوم فرعون الأقباط.
(فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) أي: وإذا بصاحبه الذي من أجله قتل النفس القبطية بالأمس يستصرخه ويناديه لينصره مرة أخرى على قبطي آخر: يا موسى أغثني! وإذا بموسى يقول له: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ).
أي: فقال له موسى: إنك غوي تدعو للضلالة، وبسببك أزهقت روحاً بالأمس، إن ضلالتك وغوايتك بيّنة، فماذا تريد اليوم وأنا لا أزال أفكّر في فعلتي بالأمس، يا هذا! إنك ضال مضل، غوايتك وفسادك بيّن ظاهر فكلمة الأمس تعني أي يوم سابق ليومه، فإذا لم تدخلها الألف واللام فهي معرفة مبنية على الكسر وإذا دخلت عليها الألف واللام نكرت كما هنا.(146/2)
تفسير قوله تعالى: (فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما)
قال تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} [القصص:19].
أي: فلما أراد موسى أن يضرب قبطياً آخر نصرة لقومه ولهذا الإسرائيلي من جماعته وعشيرته، وإذا بالإسرائيلي يصيح في موسى ويقول له: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص:19].
هذا الإسرائيلي عندما رأى موسى مقبلاً عليه، هاجماً إليه وهو قد قابله بهذه الكلمة: إنك غاو مضل بيّن الغواية والضلالة، فعندما أقبل موسى ظن هذا الإسرائيلي أن موسى يريد البطش به لا بالقبطي، ففزع، وكما قال ربنا: (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا) والذي هو عدو لموسى ولهذا الإسرائيلي هو قبطي.
(فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى) قال ذلك الإسرائيلي ونادى موسى وسمّاه وكشفه أمام هذا القبطي: (يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْس) وناداه باسمه يا موسى، فكان بذلك قد أعلن جريمته في نظر القبطي، وكشف حادثته، وكان الأقباط مع فرعون يبحثون عن قاتل هذا القتيل الذي وجد ملقىً في الشوارع ولم يعرف من القاتل، ولم يوجد شاهد ولا دليل، إذ قتله في وقت غفلة من الناس ولم يكن في الشارع أحد إلا موسى وهذا الإسرائيلي والقبطي.
ولكن هنا عندما كادت تتكرر الحادثة مع الإسرائيلي السابق نفسه ووبّخه موسى وقال: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) ثم أراد البطش بالقبطي ظن الإسرائيلي أنه سيبطش به لا بالقبطي، فصاح فيه مسمياً له: (يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْس) وبهذا سمع القبطي الذي كان يريد موسى أن يبطش به مرة ثانية أن القاتل بالأمس هو موسى.
قوله: (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْض) أخذ يشتم موسى ويصفه بالجبروت والطغيان، وبالاستعلاء والظلم، والجبّار من الناس هو الظالم المتكبّر، وهو المؤذي، هو الذي إن قتل لا يبالي وإن شتم لا يبالي؛ فذهب هذا الإسرائيلي يشتم موسى بوصفه جبّاراً في الأرض.
(إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ) أي: لست تريد إلا أن تكون جبّاراً من الجبابرة.
(وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) ولا تريد الخير ولا الصلاح ولا الإحسان، فأنت ظالم بين الظالمين.
وإذا بالقبطي يفر ويذهب مسرعاً إلى فرعون قائلاً: لقد اكتشفت قاتل القبطي بالأمس، إنه موسى الذي نشأ في بيتك وعلى فراشك، وتغذى بنعمتك، وكان موسى قد ترك قصر فرعون وقال عن نفسه: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] فكان من ذلك أن ترك فرعون وقومه واستقل بنفسه على خوفه ووجله من أن يُحاسب بالقتيل ويُكشف أمره، وهذا ما حذر منه.(146/3)
تفسير قوله تعالى: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى)
وإذا باليوم الثاني، قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20].
أي: بلغ الخبر فرعون، وجاء رجل من قصر فرعون (يَسْعَى) أي: يهرول ويجري، ويبادر ليبلّغ موسى قبل حبسه وقتله وتوصل فرعون لإيذائه والبطش به.
قالوا: هذا المبلّغ كان مؤمن آل فرعون، الذي أخبر الله جل جلاله عنه في سورة غافر، ويقال: اسمه شمعون، وقيل: شميع، وهذه أسماء لا أصل لها ولم تُذكر في القرآن، ولم تثبت في السنة؛ وإنما هي أشبه بالإسرائيلية.
(وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) أي: من أبعد المدينة حيث يسكن فرعون على ثلاثة أميال من مصر كما قالوا، وأقصى المدينة تدل على ذلك، وسرعته وسعيه وجريه للوصول إليه يؤكّد ذلك.
(قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) أي: يتآمرون عليك ويتباحثون في الانتقام منك جزاءً لما صنعت بالقبطي من قومهم وجماعتهم، ومن رجالهم.
(فَاخْرُجْ) أي: اترك البلد واخرج منه (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) أي: أنا أنصحك يا موسى إن كنت تريد حياتك والحفاظ عليها، فإن القوم تجمّعت لهم عنك مؤاخذات في شتمك وتسفيهك لـ فرعون، وعدم اعتقادك بألوهيته، وبقتلك للقبطي، وبدفاعك عن قومك، هذا الذي يريد الآن فرعون أن يبطش بك وينتقم لجماعته منك ولنفسه.
(فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) أي: أمحضك النصح وأحثك على خير نفسك، وألا ينالك من الجماعة مكروه.(146/4)
تفسير قوله تعالى: (فخرج منها خائفاً يترقب)
فبلغ الخبر موسى وكان خائفاً مترقباً ينتظر ما يسمع وينتظر ما يبلغه، وإذا بما كان يخاف منه قد بلغه، قال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21].
ترك المدينة ترك مصر، وخرج من الأرض هارباً بنفسه وبحياته من ظلم فرعون، وحقد الأقباط وتآمرهم على قتله وعلى البطش به.
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21] خاف أن يُدركوه فأصبح بكل خلايا بدنه يسمع لعله يُصرخ عليه من هنا! لعله يلاحق من هنا! لعله لا يستطيع الخروج عن حدود مصر وحكم فرعون! خرج هائماً لا يعرف طريقاً، ولا يعرف سبيلاً، ولكن فعل ما فعل اعتماداً على ربه أن يهديه سواء السبيل، وأن يُنجيه من فرعون وقومه.
(قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) نجّني منهم احفظني من بطشهم احفظ حياتي من إيذائهم ومن مكرهم وتآمرهم.(146/5)
تفسير قوله تعالى: (ولما توجه تلقاء مدين)
قال تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22].
ترك مصر وأخذ الطريق إلى أرض مدين وهو لا يعرف طريقاً أقبل بوجهه سائراً إليها لا يعرف طريقاً، ولا يعرف مسلكاً، وهو خائف من أن يراه أحد يعرفه فيقبض عليه ويسلّمه لـ فرعون، فهو مع هذا مترقّب ومتخوف ومتوجس شراً من هؤلاء.
قوله: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ) أي: تلقاء أرض مدين.
(قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) يرجو ربه ويدعو إلهه جل جلاله أن يهديه للطريق السواء المستقيم، حتى يصل إلى قبائل مدين وأرض مدين، وهي على بعد ثلاثة أيام من مصر بسير الإبل.
فاستجاب ربه له، وقطع الطريق خلال أيام ليس معه إلا ربه، قالوا: خرج جائعاً عطشان في مثل هذه الصحاري، ما تجرأ أن يطلب طعاماً، وخاف من أن يتكلم، أو أن يطلب ماءً، والحذاء كذلك قد تآكل، فأخذ يمشي في هذه الصحاري مع شدة الحر، يصل الليل بالنهار إلى أن وصل إلى بئر يستقي منها الناس، قال تعالى: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ) ولم مدين؟ مدين أرض أجداده، ومدين هو ابن إبراهيم عليه السلام، وموسى من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، أراد أن يذهب إلى أرض فيها آثار عشائره، وفيها آثار آبائه ليس فيها حكم فرعون ولا حكم الأقباط أخذ الطريق ودعا ربه أن يهديه الطريق المستقيم إلى مدين، ووصل مدين وهدي إلى الطريق.(146/6)
تفسير سورة القصص [23 - 30]
ولما خرج موسى من مصر توجه تلقاء مدين وهو جائع عطشان، فوصل إلى ماء مدين وكان ما حدث من قصته مع البنتين وأبيهما وزواجه بإحداهما، ثم عودته بعد عشر سنين إلى بلده فرأى في الطريق نوراً في الجانب الأيمن من وادي الطور عند الشجرة.(147/1)
تفسير قوله تعالى: (ولما بلغ ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون)
قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23].
جاء وهو عطشان محتاج للماء والطعام، ولكن الطعام قد يصبر عليه الإنسان أياماً، أما الماء فلا يستطيع أن يصبر عليه ساعات عند اشتداد العطش واشتداد الحر.
قوله: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ) الورود: الدخول، والمراد البلوغ، أي: بلغ البئر التي تستقي منها قبائل مدين في أرض مدين.
لما وصل إلى البئر أخذ كفايته من الماء، ورأى ازدحاماً من الشباب الأقوياء من الرعاة للغنم في سقي غنمهم وقطعانهم، وأخذهم الماء لبيوتهم، ورأى امرأتين خلف الناس، بعيدتين عن الناس، تذودان غنمهما وتدفعانها وتحبسانها؛ لكي لا تختلط بغنم الغير فتضيع عليهما، ولا تستطيعان المزاحمة مع الرجال، أولاً: لأنهما أضعف من الرجال ثانياً: لأنه لا يليق بالمرأة أن تُزاحم الرجال، فهما تنتظران أن يذهب هؤلاء ثم تستقيان، وقد يطول ذلك اليوم بكماله إلى العصر أو المغرب.
قوله: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاس) أي: وجد على ماء مدين جماعة من الناس.
قوله: (يَسْقُونَ) أي: يشربون ويسقون أغنامهم، ويأخذون الماء لدورهم للسقيا.
قوله: (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَان) ووجد خلف الناس امرأتين تدفعان وتحبسان أغنامهما على ألا تختلط بأغنام أولئك.
فوقف ونظر ذلك المنظر، وكأنه أشفق على هاتين المرأتين أن تكونا في هذا العذاب أمام هذه الجماعة من الرجال الذين لا يهتمون إلا بأنفسهم، ولا يقدّمونهما لا شفقة لأنوثتهما، ولا خشية على ضعفهما، وإذا بموسى يتقدم ويسألهما: ما خطبكما؟ لم أنتما خلف هؤلاء؟ ولم أنتما في هذه المشقة؟ (قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) أي: لا نستطيع السعي لسقي أغنامنا (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) أي: حتى يذهب الرعاء وينتهوا من السقي، ونبقى وحدنا دون زحام، ودون مقاتلة مع الرجال والشباب.
والرعاء: جمع راع كتاجر جمعه تجار، والمعنى: لا نستطيع سقي أغنامنا حتى يذهب هؤلاء، ويرجعوا عن السقي ويعودوا إلى مكانهم، عند ذلك نجد المكان فارغاً، والبئر ليس عليها ازدحام، فنسقي أغنامنا.
واعتذرا فقالا: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) بمعنى: هما ليستا بمتزوجتين، ولا رجال لهما يقومون مقامهما، وليس لهما أخ يقوم بمثل هذا، وأبوهما الذي سيفعل هذا رجل كبير عاجز عن السقي والرعي، وعاجز عن خدمة داره وبناته.
وإذا بموسى عليه السلام يشفق عليهما ويسعى لخدمتهما طلباً للأجر والثواب، وشفقة ذاتية من شخصه، وهذه المرحلة الثالثة من حياة موسى؛ وكانت المرحلة الأولى التي قصها الله علينا مرحلة ولادته ورضاعه ونشأته عند فرعون، وكانت المرحلة الثانية كبره وخروجه للشوارع والأسواق، وقتله للقبطي، والمحاولة الثانية لقتل قبطي آخر، وإذا به يترك القصر ويقول: لن أكون ظهيراً ولا مساعداً للمجرمين بعد اليوم، فينذر ويخوّف من مؤمن آل فرعون بأن يترك البلد ويخرج، وإلا فـ فرعون والأقباط قاتلوه، فترك مصر وخرج هائماً على وجهه لم يسبق قبل أنه ترك أمه وترك أخواته وقومه، وخرج على وجهه لا يدري أين يذهب.
ولكن من أول مرة قصد أن يذهب إلى أرض مدين وهو لا يعرفها، فسأل ربه جل جلاله أن يهديه إليها، ففعل، وهدي إليها ووصل، وكان أول ما وجد القوم على ماء مدين يسقون الأغنام ووجد بين هؤلاء الرجال امرأتين بكرين لم تتزوجا بعد، ولا أخ لهما، وأبوهما رجل كبير يعجز عن السقي والرعي، وعن خدمة البيت، فالبنتان هاتان هما اللتان تقومان بعمل الرجال، وهي عادة بدوية لا يستغني البدوي عنها وهم في حاجة إليها، وكان هؤلاء في البدو.(147/2)
تفسير قوله تعالى: (فسقى لهما ثم تولى إلى الظل)
وإذا بالله يقول عن موسى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24].
قالوا: لم يأكل أياماً وهو على غاية ما يكون من الجوع والحاجة للطعام، كان يأكل أوراق الشجر في الطريق حتى اخضر وجهه، وتعب بدنه، فسقى لهاتين المرأتين حسبة وخدمة.
(ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) أي: ذهب إلى تحت شجرة يستظل بظلها من حر الشمس والصحراء، وللراحة من الكلل والتعب.
وقيل: إنه عندما ذهب للسقي أخذ يدافع الرجال بقوته، ووجد صخرة على فم البئر لا يكاد يُسقى إلا بقلة، وهم يحتفظون بذلك، فجاء إلى الصخرة فحملها قالوا: ويعجز عن حملها الرجال الكثيرون، فحملها كمن يحمل بيده شيئاً خفيفاً، ورمى بها ثم سقى لأغنامهما، ثم صرفهما وعاد مستريحاً تحت الظل، فاستظل بظل الشجرة وقال: يا رب! إني لما أنزلت إليّ من خير، أي: مما أكرمتني من خير وبما أكرمتني من فضل وعلم وحكمة، وأنجيتني من فرعون وظلمه وسلطانه وطغيانه، مع ذلك فأنا فقير يقول: أنا جائع فأطعمني يا رب.(147/3)
تفسير قوله تعالى: (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء)
يقول تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25].
معناه: ذهبتا وقصّتا على أبيهما قصة هذا الرجل الغريب، واستنكر أبوهما أن تأتياه مسرعتين على خلاف عادتهما؛ لأن وقت السقي كان يستغرق منهما اليوم كله، وإذا بهما لم يكادا يغيبان أكثر من ساعة أو ساعتين فعادا والأغنام شاربة ومكتفية، والمياه معهما لسقي البيت فقال لبنتيه: ما خطبكما؟ فأخبرتاه أن رجلاً غريباً صادفنا على فم البئر فسقى لنا وحمل من الصخر ما حمل إلى أن اكتفينا، وذهب يستظل تحت ظل شجرة وهو في أسمال بالية، وفي نعل ممزقة، فصاح لربه يدعوه ويقول: على ما أكرمتني من خير وسعادة أنا فقير يا رب.
وإذا بأبيهما يرسل إحداهما إلى موسى يدعوه: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25].
بلّغت البنتان أباهما، فأرسل أبوهما إحداهما فجاءت إلى موسى على حياء وخجل قال عمر بن الخطاب: جاءت وعيناها في الأرض، وكمها يستر وجهها قال هذا عمر من أين؟ لعله سمعه من أحد ولم يروه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن نحترم قول عمر ونقول: جاءته إحداهما تمشي على استحياء، فالشأن فيها أن تكون هكذا، جاءت في حياء النساء كما وصفها عمر قال: ليست بولّاجة وخراجة، وليست من النساء اللاتي يتجرأن على الرجال في كلامهم، وفي الأخذ معهم، وفي المفاوضة لهم، جاءت وهي بكر عذراء يغلبها حياؤها، أخذ هذا من قوله تعالى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).
وكانت مهذّبة فلو قالت له: اذهب معي أنا أدعوك لظن بها السوء ولما استجاب لها، ولكن من أول مرة ذكرت الدعوة وسببها، وإلا كيف يدعوني هذا الرجل وأنا لا أعرفه وهو لا يعرفني وأنا رجل غريب؟! إذاً هذه حيلة من البنت تُريد أن تختلي بالشاب، ولكن لذكائها ذكرت الدعوة وسببها: (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).
قوله: (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) جاء موسى ودخل بيت والد هاتين البنتين، وقص عليه قصته مع فرعون، وقتله للقبطي وقذفه للنيل وهو لا يزال رضيعاً في أيامه الأولى، وقتل فرعون لفتيان وأطفال بني إسرائيل، وهأنذا بعد ذلك كله قد جئتك (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَص) قال والد البنتين: (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
أي: أنت الآن في غير حكم فرعون، ولست في أرض مصر، ولا سلطان لهم عليك ولا علينا هنا، ولا على هذه الأرض، فقد نجّاك الله واستجاب دعاءك.
وإذا بالبنتان وقد أراحهما موسى بالأمس عزّ عليهما أن يُترك هذا الغريب جائعاً محتاجاً، وأن تبقيا على سقيهما للأغنام، وهذا الشاب القوي غريب شريد طريد لا أهل له، فلم لا يكون معهما في البيت ومع أبيهما؟(147/4)
تفسير قوله تعالى: (قالت إحداهما يا أبت استأجره)
عندما قال ذلك أبوهما لموسى: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25] وإذا بإحداهما تقول: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} [القصص:26].
أي: اقترحت إحداهما: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26].
خافتا أن يذهب عنهما ولا يخدمهما بعد ذلك، وليس في الدار شاب يشتغل ويرعى ويخدم ويسقي، ويقوم بالوالد وبالبنتين، فاقترحت إحداهما على الوالد، وكان هذا من ذكائها وفراستها (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ)، أي: خذه أجيراً ودعه يعمل عندك يسقي غنمك، ويخدم بيتك، ويقوم بدارك، ويكفيك مئونة أهلك، أما نحن فبنتان نعجز عن أن نقوم بما نضطر إليه من رعي وسقي.
(قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ): أحسن صفة في الأجير والخادم أن يكون قوياً وأميناً.
وإذا بالوالد يسأل هذه البنت التي عرفت الرجل ووصفته بالقوة والأمانة فقال لها: ومن أين عرفت قوته؟ ومن أين عرفت أمانته؟ قالت: يا أبت عندما أراد أن يسقي لنا دخل في الجموع من الرجال فتفرقعوا وفروا من أمامه وعجزوا أن يجادلوه، وجاء إلى صخرة لا يحملها إلا العشرون من الرجال فأخذها بيد واحدة ورماها بعيداً فهذه قوته، وسقى أغنامنا بأسرع وقت.
قال: والأمانة؟ قالت: عندما أرسلتني إليه وأخذت أقوده لك تقدّمته وإذا بالرياح تلعب بثوبي، فقال لي: يا أمة الله! تعالي خلفي وأشيري إلي بالطريق بصوتكِ أو بأصبعكِ وهذه أمانة ومروءة وعفّة وشهامة.
إذ ذاك اطمأن شعيب واستراحت نفسه، وسُر لاقتراح هذه البنت وأراد من يريحه ويريح بنتيه، وأراد أن يزوج البنتين كذلك ويستريح من مشكلتهما، فيكون قد ضرب عصفورين بحجر، فزوج موسى إحدى البنتين، وأتى بمن يخدمه مع أمانة وقوة، وماذا يريد الإنسان أكثر من ذلك؟ قال كثيرون: هو شعيب نبي الله الذي ذُكر في القرآن، وأنه أُرسل لأهل مدين، ولكن هذا القول أنكره ابن تيمية وجهّل من قاله، وقال المحققون من المفسّرين مثل قول ابن تيمية ومن بعده - والأمر كما قالوا - شعيب كان بعد لوط بقليل، وموسى كان بعد ذلك بقرون، ولذلك قصص الأنبياء في القرآن تذكر أولاً قصة آدم فقصة نوح فقصة هود فقصة صالح فقصة لوط، ولوط ابن أخي إبراهيم وفي عصره، تنبأ في عصره وكان ما كان من تدمير أرض سدوم في فلسطين، وجعل عاليها سافلها، لما اختصوا به من فواحش ومنكرات والجري وراء الذكران دون النساء، بلية لم تسبق أن كانت قبلهم، كما قص الله تفاصيل ذلك ومضى أكثر من مرة.
أما موسى فقد جاء بعدهم بأكثر من أربعمائة عام وتزيد، فادعى بعضهم أن شعيباً بقي حياً هذه المدة الطويلة، وهذه دعوى لا دليل عليها ولا برهان لها، والله هنا ذكر البنتين ولم يذكر أن شعيباً أبوهما، وذكر من قبل شعيباً ولم يذكر أنه صهر موسى، ولا صاحب موسى، ولا شيء من ذلك؛ ولذلك ابن تيمية عندما يذكر ذلك يقول: لا كما تقول الجهلة إن شعيباً نبي الله هو صاحب موسى وهو والد البنتين في قصة فرار موسى من فرعون وطغيانه وزواجه بإحدى بنتيه، والأمر كما قال.
وقيل: هو ابن أخي شعيب وأيضاً هناك كلام آخر.
وقيل: اسمه ترتون، وقالوا أسماء أخرى.
وعلى كل اعتبار فالقرآن لم يذكر شيئاً من هذا، وفي السنة النبوية لم يصح شيء من هذا، يبقى هذا كلاماً ذُكر من أخبار الإسرائيليات، ولا ثقة بها ولا دليل لقبولها، نقول البنتان وأبوهما ولا نزيد (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) خذه أجيراً، واستخدمه عندك خادماً بأجرة (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ).(147/5)
تفسير قوله تعالى: (قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين)
قال تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27].
كانت هذه البنت المقترحة لهذا الاقتراح قد ضربت على الوتر الذي في نفس أبيها، فبادر أبوها بكل إسراع في الحين، وعرض البنتين معاً على موسى ليختار إحداهما كما يريد، فلم يلزمه بالكبيرة قبل الصغيرة ولم يدعه للصغيرة قبل الكبيرة وخيّره قال: هاتان بنتاي أريد أن أزوجك فاختر إحداهما إن شئت، وكانت الأجرة التي طلب ليست مالاً ولكن كانت عملاً، فطلب أن يخدمه ثمان سنوات، فيقوم برعي غنمه وبالخدمة الكاملة له ولزوجه ولبنتيه، ولما تحتاجه الدار.
ثم قال له: أنا أطلب ذلك لمدة ثمان سنين فإن أتممتها عشراً فمن عندك.
(سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ستجدني صهراً صالحاً، وستجد مني ما تقر به عينك، وستجد مالي مالك وداري دارك، وإحدى ابنتي زوجتك، وأنت ستكون كابني.
وماذا يريد موسى الغريب أكثر من ذلك؟ فهو لا يعرف أهلاً ولا داراً، وهو يحتاج إلى الخبز والماء، وعندما وصل إلى والد البنتين عرض طعاماً للأكل قال: لا، نحن قوم لا نبيع ديننا بالدنيا، أنا لا أريد أجراً على ما سقيته لابنتيك، وإنما ذلك احتساب، قال: لم أفعل ذلك أجرة وإنما أفعله كرماً على عادتي وعادة آبائي وأجدادي، وكان أيضاً من بني إسرائيل؛ عند ذلك قال: ألست بجائع؟ قال: بلى، أنا جائع قال: كل إذاً، فأكل، فوجد المنزل والصهر الصالح، وكان من المؤمنين الصالحين.(147/6)
تفسير قوله تعالى: (قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين)
وإذا بموسى يستجيب بسرعة ويقول: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} [القصص:28] أي: قد استجبت وقبلت، فالأمر بيني وبينك في أن أتم ثمان سنين كما طلبت أو أزيد عليها سنتين، وسأنتظر عون الله وأنظر ما يفعل الله، ولكل إرادة ويفعل الله ما يشاء.
قوله: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} [القصص:28] أي: فلا معاتبة ولا محاسبة إن قضيت الثماني حجج فذاك الشرط، وإن زدت سنتين فأصبحت عشراً فذلك فضل مني وليس شرطاً، أيّما الأجلين: أجل الثماني سنوات أو العشر سنوات قوله: (قَضَيْتُ) أي: أتممت.
(فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ) أي: لا يعتدى عليّ بمساءلة ولا بمتابعة ولا بمحاسبة، ثم أشهد الله على النكاح فقال: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28] أي: الله وكيل عليك في تزويجك إحدى ابنتيك لي، والله وكيل علي أني قبلت واستجبت لخدمتك واستئجارك لي على الثمان سنين أو العشر؛ هذا التزويج والنكاح في الآية أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم من أئمة الاجتهاد تنازعوا في أحكامه نزاعاً طويلاً عريضاً.
هل يصح أن يأتي إنسان فيزوج إنساناً بهذه الطريقة؟ يأتي ببناته ويقول زوجتك بإحداهن، أليس من الضروري تعيين إحداهن ليقع الزواج عليها؟ وهل يمكن أن يتم الاختيار في النكاح ويتم العقد بذلك؟ قالوا جميعاً: لا يتم ذلك، وإن كان يوجد من صنعه وهو أبو البنتين فشريعة من قبلنا ليست شريعة لنا، ولا شرع لنا إلا ما أقرّه الشرع وأكده القرآن، وأكده رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم قالوا: المهر يكون أجراً للبنت أو لأبيها؟ ماذا استفادت البنت؟ ولا بد من المهر للبنت، فالأجرة كانت للأب، وهو سيكون أجيراً للأب، أيصح هذا أو لا يصح؟ وقالوا لم يكن في هذا النكاح شهود، بل كان التزويج بين والد البنتين وبين موسى، لم يحضر في ذلك شهود فيشهدون عليه ويؤكدونه، وإنما أشهدوا الله على ذلك، وجعلوه وكيلاً فهل يصح هذا في شريعة الإسلام؟ نبتدئ بالمؤخرة، قال الشافعي: لا يجوز، وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يتم زواج بغير عدلين، وقال مالك: يجوز أن يكون ذلك كما فعل والد البنتين؛ لأن هذه معاوضة، والمعاوضة يكفي فيها التسليم فلا حاجة للإشهاد.
لم تذكر الآية هل استشار البنت أم زوجها جبراً؟! وظاهر الآية أنه زوجها بلا اختيار منها ولا موافقة منها؟ قال مالك والشافعي: يجوز تزويج البنت جبراً ولو قالت: لست أرضى، وإن كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (البكر تستأمر وإذنها صماتها، والثيب تُعرب عن نفسها) فلا بد من إذن البنات الأبكار التي لم يسبق لهن زواج، يقال لها: فلان يخطبكِ وصفته كذا وكذا؟ ويقال لها: سكوتك رضاً إن أنتِ سكت اعتبرنا سكوتك موافقة، فإن سكتت فالزواج قد تم، وإن عارضت فلا زواج.
والنبي عليه الصلاة والسلام فسخ نكاح ابنة من الصحابيات أجبرها أبوها على الزواج من شخص بغير رضاها؛ فكان ذلك توكيداً لهذا الحكم مع القول العمل، لكن قالوا: هذا في الصغيرة غير البالغة؛ لأن غير البالغة لا تُعرب ولا رأي لها، والموضوع الكلام فيه طويل كل هذا الذي قالوا لا موضوع له ولا معنى، أولاً: الله قص علينا قصتهما وليست قصة كما تحكى الروايات، وإنما أعطانا منها العبرة، فذكر منها ما نحتاج إليه، وألغى الباقي، وفي أول السور ماذا قال تعالى؟ {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} [القصص:3] أي: من بعض قصصه، ومن بعض أخباره، لا أن يحكي لنا القرآن كل الحكايات، ذكر القرآن للقصص لا لأنها قصص، ولكن لأخذ العبرة منها، وهنا لا حاجة إلى التفاصيل ولا إلى ذكر اسم البنتين، حتى سموهما صفوراً وصفراء وأسماء أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، وسموا الأب عدة أسماء لا حاجة لذلك.
فنقول: ليس هذا الفعل من والد البنتين يعد تزويجاً، وإنما هذا عرض، ثم ماذا حدث بعد ذلك لم يذكره الله، وإنما ذكر نعمته وإفضاله وتمننه على موسى أنه لم يتركه، وأنه آواه وهيأ له داراً وبيتاً، وهيأ له زواجاً، وهيأ له بيتاً سيكون سيده بعد هذا الرجل العجوز، أما التفاصيل فلم يذكرها، وهنا العبرة في تحقيق وعد الله لأم موسى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].
ثم هذا الكلام الذي دار بينهما إنما هو عرض، وليس معناه التزويج، فلو جاء إنسان إلى آخر في لغة إسلامنا وشريعتنا وقال: أنا أريد أن أزوجك ابنتي، هل يعتبر هذا زواجاً؟ هل إذا أشهد عليه يعتبر زواجاً؟ هي إرادة لكن هل نفذ هذه الإرادة أم لم ينفّذها؟ هذا ليس إلا عرضاً، عرض والد البنتين على موسى أن يزوجه إحدى البنتين، وبعد موافقة موسى واختياره لإحداهما سيكون التزويج إذ ذاك بالعين، فليس هناك تزويج بالاختيار، وليس هناك تزويج بلا شهود، وليس هناك تزويج بلا مهر، كل ما ذكر الله أنه ختنه، أما كونه أعطى مهر البنت أو لم يعط فلم يذكر القرآن هذا، والحكم بشيء لم يذكر افتئات على القرآن وما جاء فيه.
وعرض البنت على الرجل الصالح هي سنة المرسلين والسلف الصالحين، وقد عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء أن يتزوجنه فلم يوبّخهن، ولم يلمهن، ولم يتزوجهن.
وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة عندما تأيّمت من زوجها على أبي بكر فسكت، ثم عرضها على عثمان فأباها وامتنع، فلم يكن العرض تزويجاً، وإلا لأصبحت زوجة لـ عثمان، فتبيّن بعد أن أبا بكر لم يجب لأنه سمع النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يخطب من عمر ابنته الأيّم، وبعد الزواج قال هذا لـ عمر قال: يا عمر! قد أخبرني رسول الله برغبته بالتزويج ببنتك، وما كنت لأقول ذلك فأفشي سر رسول الله، ولو تركها لأخذتها.
أما الزواج بالأجرة فنعم هو وارد في الإسلام، لكن الأجرة للزوجة لا لأبيها، الرجل الذي حضر مجلس رسول الله عليه الصلاة والسلام مع المرأة التي عرضت نفسها على الرسول عليه الصلاة والسلام، فأباها، كان جالساً بمحضره رجل، فلما رأى أن النبي عليه الصلاة والسلام رفضها قال: يا رسول الله! إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها قال: (ما معك؟) قال: لا شيء والقصة لها كلام، وليس هذا موضعها، وموضع الشاهد أنه بعد أن عجز حتى عن خاتم من حديد قال: (ما معك من القرآن؟) قال: كذا وكذا وعدَّ سوراً من سور القرآن الصغيرة: (قل أعوذ برب الفلق) و (قل هو الله أحد) و (إنا أعطيناك الكوثر) قال: (زوجتكها بما معك من القرآن) أي: يكون مستأجراً لزوجته مقابل تعليمه لها هذه السور.
فإذاً: هو أجير للمرأة، وهنا في هذه القصة هو أجير لأبيها، والمهور لا يأخذها الآباء ولا الأولياء، وهي منحة للبنت نفسها، فكيف يكون المهر بالأجرة للغير؟ نقول: كذلك هذا شيء والتزويج شيء آخر، ولكن أبا البنتين استأجر موسى أو عرض عليه استئجار واشترط: على أن تأجرني ثماني حجج، لن أزوجك إن وافقت إلا بعد أن تخدمني، هذه الخدمة وهو يريد أن يساكنه، ماذا حدث من بعد؟ ماذا أعطاه من مهر؟ أخذ الكبيرة أو أخذ الصغيرة؟ أيأخذهما معاً؟ لا يمكن، وهو لم يعرضهما عليه معاً: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27] الله لم يقل لنا أنه زوجه كلتيهما! وهذا لا يكون، لأن الأختين لا يجتمعان في عقد واحد، ولا في عصمة واحدة؛ إذاً: لا يمكن الاستدلال بفعل والد البنتين من ختن موسى بحال من الأحوال؛ فهذا الذي ذكره الله عرض وليس تزويجاً.
ووافق موسى على العرض، هذا كل ما حدث، لكن هل أخذ الكبيرة أم الصغيرة؟ القرآن لم يذكره، ولا حاجة لذلك، إذ الحكمة بما أكرم الله به موسى لا في كونه أخذ صغيرة أو كبيرة، على أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي فعله موسى مع ختنه؟ هل خدمه ثمان سنين أو عشراً؟ قال صلى الله عليه وسلم: (آجره أوفاهما وأكملهما) أي: عشر سنوات.
ثم سأله: أتزوج الصغرى أم الكبرى؟ قال: (الصغرى) سألوه صلى الله عليه وسلم، وهذا عن أبي ذر وأبي هريرة وجماعة من الصحابة، من التي أرسلها أبوها إليه عندما جاءته تمشي على استحياء وتقول له: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25]؟ في هذه الحالة قالوا: إنها الصغيرة هي التي أرسلها، فرأته فأُعجبت به ووصفته بالقوة والأمانة، ورأى هو منها طاعة وحياءً، فهو تزوج بعد المعرفة والرؤية، النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، والقرآن لم يقله، ولو رواه أحد غير رسول الله عليه الصلاة والسلام لاعتبرناه من الإسرائيليات، على أن الأسانيد في ذلك يصححها البعض، ويطعن فيها البعض.
يقول ربنا جل جلاله حاكياً عن موسى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} [القصص:28] أي: هذا النكاح بالثمان سنين والعشر (أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ) أي الأجلين، قالوا: (ما) صلة، وهي في الحقيقة تأكيد لهذا (أَيَّمَا الأَجَلَيْن) أي: أجل الثمانية والعشرة (قَضَيْتُ) أي: آجرت نفسي لك (فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ) أي: لا معاتبة، ولا محاسبة، ولا مسئولية، فالثمان لا بد منها، والعشر إفضال وتكرّم، وأنا سأترك هذا من بعد ولا أعد بشيء.
(وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) وكّل الله موسى لا في الزواج وإنما في التأجير؛ لأن الكلام الذي تكلم به موسى هو عن التأجير، وإن كان التأجير شرطاً للنكاح، الله وكيل على أن أفعل معك كل ما أستطيعه، وسأخدمك خدمتي لأبي، وقد وفّى موسى وأحسن.(147/7)
تفسير قوله تعالى: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله)
قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29].
خرج موسى سائحاً، أيرجع مصر ومنها فر؟ أيذهب إلى دار مستقلة لم يهيئها الله بعد، كل ما هنالك: قبل أن يذهب أعطاه والد البنتين قطيعاً من الأغنام ليعيش بها، ويجعلها رأس مال للعمل، وذهب في ليلة مظلمة باردة، وأرض مدين وأرض الأردن وفلسطين شديدة البرودة خاصة أيام الشتاء.
(فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ) أي الأجل قضى موسى؟ القرآن لم يذكر؛ لأن الموضوع ليس موضوع قصة بتفاصيلها، العبرة أخذت، والحكمة أخذت، وهذه التفاصيل والزوائد لا حاجة إليها، وإن كان النبي - زيادة في العلم - عليه الصلاة والسلام قال: (قضى أكمل الأجل) وأوفى الأجل: عشر سنوات.
قوله: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِه) أي: أخرج أهله معه، ومعنى هذا: أن الزوج له الحق أن يذهب بزوجته حيث شاء، لا حق لها في الامتناع، ولا حق لأوليائها أن يمنعوها، فهو قد ترك ختنه وداره، وليس ملزماً بخدمته إلى الأبد.
قوله: (آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا) آنس: انتبه واستأنس وشعر (مِنْ جَانِبِ الطُّور) أي: جبل الطور في سيناء أو قرب سيناء، ماذا وجد؟ شعر بنار من بعيد، وكان موسى ضالاً، ضاعت عليه الطريق، وهو لا يعرفها، وكانت امرأته في غاية ما يكون من البرد والقشعريرة، وكان هو كذلك، لكن الرجل يصبر أكثر مما تصبر المرأة؛ فعندما رأى النار شعر بها واستأنس.
(قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) أي: أقيموا وانتظروني، (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا) أنا رأيت ناراً من بعيد (لَعَلِّي) يرجو ويطمع (آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ) أي: من يدلني على الطريق، ويدلني على أي الدروب سأسلك، أأقيم هنا أو أقيم بعيداً؟ ضائع! (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّار) جمرة من النار مشتعلة (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) وتصطلون: تستدفئون فيذهب ما بكم من برد وقشعريرة، وهذه المرحلة الثالثة والأخيرة، مرحلة الانتقال من بيت ختنه بعد أن تزوج وولد له، فهو الآن يذهب لسعادته ولتحقيق وعد الله لأمه، فرأى هذه النار، وهو في الحقيقة رأى نوراً فاختلط عليه النار بالنور.(147/8)
تفسير قوله تعالى: (فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة)
قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30].
ذهب موسى إلى النار ليأتي بها أو بخبر منها، وإذا به عندما وصل إلى شاطئ الوادي الأيمن، أي: الذي على يمينه والوادي: الطريق بين الجبلين، والشاطئ: الجانب، لما وصل إلى هذا الجانب في البقعة المباركة التي تباركت بكلام الله لموسى، وتجلي الله عليها لموسى، وبكون موسى فيها نبئ وأُرسل، وفيها كُلّم ومنها أخذ لقب كليم الله.
قوله: (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَة) كان النداء من الشجرة، وقالوا عن الشجرة: هي سمرة، وهي عوسج، وكل هذا أيضاً كلام لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن لم يذكره، ونقول ما قال ربنا: هي شجرة، نودي من هذه الشجرة التي هي على الشاطئ الأيمن في البقعة المقدّسة.
قوله: (أَنْ يَا مُوسَى) نودي باسمه (إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) قالوا: هذه الشجرة كانت خضراء يانعة، وهي تشتعل نوراً بما ظنه موسى ناراً؛ وليس هو ناراً ولكنه النور، كيف سمع هذا الكلام؟ فعلماء الكلام والأشاعرة والماتريدية والمعتزلة أكثرهم قال فلسفات يونانية ما أنزل الله بها من سلطان، ولا دليل عليها من قرآن، ولا حجة عليها من سنة الرسول سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول ما قال الإمام مالك عندما جاءه من يسأله في مثل هذه الآيات المتشابهة فقال له: يا أبا عبد الله! يقول ربنا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ فأطرق مالك ملياً وعدّ هذا السؤال غير وارد، ثم رفع رأسه وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، أين أنت يا شرطي؟ أخرج هذا من المسجد.
سأل سؤال البدعة؛ لأن ربنا في ذاته لا يُعلم، فكل ما خطر ببالك فربنا مخالف له، عقولنا لا تتصور ذلك، عقولنا الحادثة لا تتكيف ولا تتصور ذات الله، فالحادث لن يستطيع أن يعيش بتصور القديم الذي لا أول له.(147/9)
تفسير سورة القصص [29 - 35]
لقد قضى سيدنا موسى عليه السلام في ديار مدين عشر سنين، وعند عودته إلى وطنه أخذ أهله معه، وحدث له ما حدث من الاصطفاء والتكليم قبل أن يصل إلى دياره.(148/1)
تفسير قوله تعالى: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور ناراً)
قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29].
هذه المرحلة الثالثة من مراحل موسى عليه السلام في قصته المفصلة في هذه السورة من كتاب الله، ففي المرحلة الأولى فسّرنا الآيات الواردة في ولادة موسى ورضاعه وعودته لأمه بعد أن كاد يُذبح أو يغرق في النيل، ثم نشأته في بيت فرعون إلى أن أصبح شاباً يافعاً لا يُعرف إلا بموسى بن فرعون، إلى أن صار يخرج للأسواق، فقتل قبطياً انتصاراً وإغاثة لإسرائيلي من عشيرته وأتباعه وأنصاره، كان بعد ذلك أن خرج من مصر خائفاً يترقب، فيذهب إلى مدين على بعد ثلاثة أيام من مصر، إلى بلد آبائه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومدين هو ابن إبراهيم.
ذهب موسى تائهاً لا يعرف طريقاً فطلب من ربه أن يهديه سواء السبيل، فهدي إلى مدين، وبعد أن خدم من سمي شعيباً وسمي بغير ذلك من الأسماء، فزوجه إحدى ابنتيه وأقام عنده عشر سنين كاملات، ثم بعد تمام هذه السنين أراد أن يخرج من عنده مستقلاً بنفسه مخرجاً لأهله معه وقد أصبح أباً، فهو خارج لا يدري أين يذهب؟ أيعود إلى مصر وقد خرج منها خائفاً من فرعون وملئه أن يقتلوه بالقبطي أو يذهب إلى جهة أخرى؟ وما هي؟ وبينما هو خارج في ليلة شديدة البرد خرج وهو لا يعرف طريقاً ولا يهتدي لمسلك من المسالك؛ وهذه ابتداء المرحلة الرابعة.
قال تعالى: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَل) لقد شارط موسى شعيباً أن يبقى عنده ثمان سنين أو عشر سنين، وبقاء السنتين تكملة العشر فضل من عنده، وقد سئل صلى الله عليه وسلم: (ما الأجل الذي قضى موسى؟ فقال: قضى أوفاهما وأكرمهما) أي: أتم عشراً، قضى موسى عشر سنوات من رعيه لغنم صاحب مدين، ومن القيام بحاجته رعياً وزراعة وما يحتاج إليه.
وقوله: (وَسَارَ بِأَهْلِه) أي: أن موسى ترك ختنه وصهره وصحب زوجته وأهله، والأهل كلمة أول ما تُطلق على الزوجة وتشمل مع الزوجة الأولاد والخدم والحشم، ومن تجمعه دارك من أقارب.
وقوله: (آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا) أي: أبصر نوراً من بعيد، ولا شك أن الوقت كان ليلاً، وإلا قلما تُرى النار من بعيد في النهار المنير المشرق، فموسى لما رأى النار ومعه أهله وهم على غاية ما يكونون من البرد والزمهرير، (قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) أي: أقيموا وانتظروني، (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا) أي: لقد رأيت ناراً من بعيد.
(لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي: انتظروني وارتقبوا عودتي، سأذهب إلى هذه النار لعلي أجد عليها قوماً أو أي إنسان يرشدني إلى الطريق، وإلا جئتكم من هذه النار بجذوة وبقطعة وبجمرة، وفي اللغة: جَذوة وجُذوة وجِذوة مثلثة الجيم، (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي: لعلكم تستدفئون بها فيزول عنكم الزمهرير وشدة البرد، فذهب موسى وإذا به وجد شجرة تشتعل على شدة اخضرارها والنار لا لهب لها ولا دخان ولا خشب ولا شجر يحترق، ولكنه النور.
عندما طلب موسى رؤية ربه ماذا قال له ربه؟ {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] فلم يستقر الجبل وتجلى ربه له فجعله قاعاً صفصفاً ولم يبق هناك جبل لم تبق إلا أرض لا أمت فيها ولا عوجاً {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143].
فموسى عليه السلام وجد النور بدل النار.(148/2)
تفسير قوله تعالى: (فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن)
قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30] لما وصل موسى إلى الشجرة إذا به يُنادى من جانب الطور الأيمن ومن شاطئ الوادي، والوادي هو الطريق بين جبلين.
وقوله: (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَة) أي: البقعة المقدسة التي تجلى الله فيها لموسى، والتي أشرقت أنواره سبحانه فيها، {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] فموسى عندما وصل هناك يفاجأ بما سيكون به قرير العين وبما ترتفع رتبته من مجرد إنسان عادي إلى نبي ورسول كريم، وإلى رسول من أولي العزم الخمسة من الرسل، وإلى أن خُص بكلام الله، فأصبح يلقب بكليم الله، أي: الذي شرّفه الله بكلامه، فناداه من عند الشجرة من الشاطئ الأيمن من الوادي في البقعة المباركة المقدسة من الطور: (أَنْ يَا مُوسَى) ناداه باسمه جل جلاله.
ثم قال: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أي: أنا ربك ورب فرعون وملئه ورب بني إسرائيل، ورب العوالم كلها علويها وسفليها بجميع أنواعها ملائكة وإنساً وجناً، وكل ما وجد على الكون فالله ربه وخالقه ومولاه والقائم به جل جلاله.
وقوله: (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ) وكانت في يد موسى عصا، وفي آية أخرى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17 - 18] أراد الله أن يسليه ويقوي قلبه ويبين له أن هذه العصا ليست كبقية العصي وإنما هي معجزة وستكون آيته الكبرى إلى فرعون وملئه، فقال الله له: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص:31] فامتثل وفعل وقذفها، {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص:31] أي: لما ألقى العصا انقلبت حية تسعى، فلما رأى موسى هذه العصا تهتز وتلتوي التواء الأفعى، إذا به يفر ويهرب منها خائفاً، (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ) أي: تضطرب.
(كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا) أي: أدبر على عقبه وذهب فاراً خوفاً من هذه الأفعى.
(وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي: ولم يلتفت خلفه ليرى ماذا هناك، هو يظن أن هذه الأفعى تتبعه تريد افتراسه وتريد إيذاءه.
فقال تعالى له: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31] ناداه الله مرة أخرى وكلمه وقال: (يَا مُوسَى أَقْبِلْ) أي: عد إلي وتعال إلي (وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ) لن تؤذى، وأنت آمن على نفسك وعلى حياتك وعلى مستقبلك، فلم الخوف والهرب والله هو الذي يكلمك؟!(148/3)
تفسير قوله تعالى: (اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء)
قال الله تعالى له: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص:32].
أراه الله وأطلعه على الآية الأولى لتكون علامة صدقه ومعجزة نبوته ورسالته إلى فرعون الكاذب المتأله، وإلى قومه بني إسرائيل المستعبدين في مصر كذلك، فأراه الآية الأولى والمعجزة الأولى وهي العصا، ثم أراه المعجزة الثانية وقال له تعالى: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي: أدخل يدك في شق قميصك، قالوا: الشق يكون عند الصدر، وقالوا: الشق يكون في اليمين أو اليسار وليس هذا مهماً المهم أن الله تعالى قال له: أدخل يدك في جيبك (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ) فأدخل يده في جيبه وفي شق قميصه ثم أخرجها كما أمره ربه، وإذا يده كأنها الكوكب الدري، كأنها اللمبة الكهربائية ذات الإضاءة والإنارة القوية.
وقوله: (مِنْ غَيْرِ سُوء) أي: من غير مرض ولا برص، تخرج بيضاء لا بياض مرض ولا بياض برص، ولكن بياض معجزة وإنارة، ويكون ذلك متى تريده ويزول متى تريد، فلما أدخل موسى يده في جيبه رأى يده تشتعل كما رأى الشجرة من بعيد وقد حسبها ناراً، ولكنه مع ذلك لم يفزع، فقد استأنس من المرة الأولى عندما قال له ربه: {أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31] فأمن على نفسه وزال قلقه واضطراب بشريته، ووقف لأمر ربه ليتلقى الآيات والمعجزات التي سيذهب بها إلى فرعون وملئه.
ثم قال الله له: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) قرئ: (الرّهْب) و (الرهَب)، أي: الرُعب، وجناح الإنسان يداه.
فقوله: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْب) أي: إذا أنت رُعبت وخفت عند استقبالك فرعون فضم يدك إلى صدرك، فيزول عنك هذا الرُعب.
وقد قال مفسّرو الآية الكريمة كذلك: من ارتُعب من شيء يراه أو شيء يسمعه أو خواطر سوء تخطر بباله فليضم يده إلى صدره وليتل وليذكر فيزيل الله بإذنه رُعبه وخوفه وهلعه، كما أزال خوف موسى ورعبه وقلقه.
وقوله: (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ) أي: إلقاء العصا وصيرورتها حية، وإدخال يدك في جيبك تخرج بيضاء كأنها الكوكب الدري، تانك علامتان ودليلان وبرهانان ومعجزتان سترسل بهما إلى فرعون وملئه، وهما آيتان دالتان على صدقك، ومعجزتان من جملة معجزات الأنبياء.
وقوله: (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِه) أي: إلى وزرائه وجماعته وكبراء قومه وأشرافهم، والملأ كبراء القوم وأشرافهم وزعماؤهم.
وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) أي: كان قوم فرعون جماعة فاسقين، فسقوا عن أمر ربهم، وخرجوا عن التوحيد، وكفروا بالله وأشركوا به، فألهوا فرعون وزعموه إلهاً ورباً من دون الله، فاذهب إلى هؤلاء الفاسقين وادعهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فإن هم كذّبوك فأظهر هاتين العلامتين وهذين البرهانين الدالين على تصديقك، وإذا بموسى عليه السلام بعد أن وعى الرسالة وحفظ المهمة وعرف ما أُريد به يذهب متجهاً إلى فرعون وقومه.(148/4)
تفسير قوله تعالى: (قال رب إني قتلت منهم نفساً)
قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص:33].
أي: يا رب هؤلاء الذين ترسلني إليهم من فرعون وملئه لهم عندي جريرة فإني قتلت منهم فرعونياً، فأخاف إن هم رأوني أن يقتلوني مقابل قتلي لذلك الفرعوني.
ثم طلب من ربه أن يعينه بأخيه فقال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:34] أُمر ببلاغ رسالة وبأدائها! ولكنه اعتل بعلتين: العلة الأولى: أن هؤلاء الذين سيُرسل لهم قد قتل منهم نفساً فيخاف أن يقتلوه، ثم بعد ذلك هو عيي اللسان ليس فصيحاً في القول، فكان في لسانه لثغة فيخاف إن ذهب إليهم ألا يستطيع البلاغ ولا أداء الرسالة ولا أن يُفهمهم، ولربما لم يدعوه لإتمام القول فتكون القاضية عليه، فطلب ورجا ربه أن يرسل معه أخاه هارون، فقال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا).
لقد سبق أن ذكرنا هارون وقلنا: إنه أسن من موسى بعام، وهو لا يزال حياً في مصر مع أمه، وأخوه موسى هنا في أرض مدين، فموسى عليه السلام طلب من ربه لأخيه ما لم يطلبه بشر منذ عصر آدم إلى عصر نبينا عليه الصلاة والسلام، طلب لأخيه النبوة والرسالة، ولم يحدث أن كان هذا قط في القرون الماضية ولا التالية إلى ختم نبوة نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
فقوله: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا) أي: معيناً ومساعداً ووزيراً ومؤازراً.
وقال في سورة أخرى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه:25 - 27] يدعو موسى ربه عندما أرسله أن يحلل العقدة التي في لسانه، {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:27 - 32].
وطلب موسى من ربه أن يشرك أخاه هارون معه في أمر الرسالة والنبوة، وأن يزيل العقدة أو يخفف لكنته وعيّه، فاستجاب الله جل جلاله له، قال نبينا عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح لـ علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).
فنبينا صلى الله عليه وسلم جعل علياً منه بمنزلة هارون من موسى؛ أخوة وتقديراً وإشادة ورفعة، ولكنه استثنى من هذه الأخوة أن يكون علي نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم، كما كان هارون نبياً في حياة موسى وبعد موسى؛ إذ لا نبي بعد محمد فهو خاتم الأنبياء وخاتم الرسل الكرام صلى الله عليه وعلى آله.
وقوله: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) أي: هارون هو أفصح من موسى؛ لأن موسى أخذه فرعون في السنتين الأوليين وأجلسه على فخذه، وأخذ يداعبه، وإذا بموسى يمسكه من لحيته وينتف منها شعرتين أو ثلاثاً، وإذا بـ فرعون ينزعج ويقول: هذا لا شك أنه عبراني إسرائيلي، أين الذبّاحون؟ يريد قتله، وإذا بمربيته وحاضنته زوجة فرعون آسية بنت مزاحم تقول له: يا فرعون! هو طفل رضيع لا يفهم ولا يعي، ائته بجمرة وائته معها بدرة، وانظر ماذا سيختار؟ ففعل فرعون وأتاه بدرة تتلألأ وأتى معها بجمرة تشتعل، ولكي ينقذه الله من الذبح جعله يأخذ الجمرة ويضعها في لسانه، فتحرق لسانه فتصبح فيها عقدة، عند ذاك تركه فرعون؛ وكان هذا الذي حصل له من العقدة في اللسان فدى لحياته، وهكذا بقيت هذه العقدة معه إلى أن مات، ولذلك عندما جاء إلى فرعون قال لقومه: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] (مهين) أي: لم يلبس ألبسة الملوك من حرير وديباج وأساور ذهب على الأيدي والأعناق والتيجان على الرءوس، (وَلا يَكَادُ يُبِينُ) للثغة التي في لسانه، يقول الكلمة وينعقد لسانه، فهو يحتاج إلى زمن حتى تخرج الكلمة، ولذلك أول ما كلّفه الله بالرسالة فكّر في شيئين: الأول: أنه قتل نفساً من آل فرعون وقومه فهل سيتركونه.
الثاني: أن في لسانه عقدة ولكنة فكيف سيبيّن ويؤدي الرسالة إلى فرعون، فطلب من ربه أن يجعل معه أخاه هارون رسولاً؛ لأنه كان فصيحاً بليغاً ولم تكن فيه هذه العلة في لسانه.
قال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا) أي: اجعله معي رسولاً وردءاً ووزيراً معيناً ومساعداً مؤازراً ومؤيداً.
(يُصَدِّقُنِي) لم يصدّقه فرعون ولا الملأ، فهو لم يقل: يصدّقونني، وإنما قال: (يصدقني) أي: يصدّقه هارون فيما يقوله ويكرره هارون مصدقاً لكلام موسى، وأن موسى نبي الله المبلّغ عن الله حقاً، وهذا معنى المؤازرة والتأييد، ثم قال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا) وقرئ: (رِدَاً) على عادة قراءة نافع في زوال الهمز.
وقوله: (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي) أي: يصدّقني هارون أمام فرعون، وقد يمكن وهو ليس بالسياق: ليصدّقني فرعون، إذ سيسمع الرسالة وبيانها بالأدلة والبراهين، وموسى لم تكن معجزته فصاحته وبلاغته، ولكن معجزته كانت شيئاً يُرى بالعين ويُسمع بالأذن، فهو سيرى الحية وتلاعبها وقد تحولت من عصا، وسيرى اليد وقد انقلبت من يد إلى كوكب دري يكاد يأخذ بالأبصار.
وقوله: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُون) أي: بسبب العجز عن البلاغة والفصاحة مع اللكنة والعقدة التي في لساني، فأخاف أن يكذّبني فرعون وملؤه وقومه، فأنا أطلب أن تُرسل معي هارون لأبين ولأُبلّغ، فهو أفصح مني وأبلغ في أداء الرسالة.(148/5)
تفسير قوله تعالى: (قال سنشد عضدك بأخيك)
وإذا بالله الكريم يستجيب دعاءه وطلبه فيقول جل جلاله: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35].
فوعده الله وقال له: سنشد عضدك ونؤيدك ونقويك ونساندك، والعضد هو كناية عن المعاونة والمؤازرة والوزارة والتأييد والتصديق.
فقوله: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ) أي: سنقويك ونجعل أمرك شديداً بإسعافك في إرسال هارون رسولاً معك وشريكاً ووزيراً.
وقوله: (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا) أي: هيبة وجاهاً ومقاماً وعزة ورفعة، فسيراكما فرعون وتنقلب الآية، فعوضاً من أن تخاف يا موسى منه فهو الذي سيخاف منك، وهو الذي سترتعد فرائصه منك.
وكان نبينا عليه الصلاة والسلام يُنصر بالرُعب مسيرة شهر من الجهات الست شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ومن الأطراف، فقد كان إذا سمع به الأعداء من فارس والروم والأحباش وغيرهم ترتعد فرائصهم منه ويخافونه، وكان إذا رئي صلى الله عليه وسلم ترتعد فرائص من يراه ممن لم يكن مؤمناً به؛ ولذلك جاءه رجل وطلب منه شيئاً وأخذ يرتعد، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد) يعني: لم تنزعج؟ هكذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام تسلية له، وإزالة لخوفه واضطرابه، وهو في هذا عليه الصلاة والسلام لم يصنع شيئاً مما يجعله الملوك من جيوش وحُراس من الأمام والخلف، ومن أسلحة تحرسه عن اليمين والشمال، ومن مظاهر الملك والسلطان، بل كان النبي عليه الصلاة والسلام نبياً عبداً، وإن كان قائد جيش ولكن ذلك كان أصغر ألقابه وأصغر أوصافه، والوصف الذي يوصف به هو رسول الله ونبي الله؛ وإن كان قد قاد الجيوش وأسس الدولة وأقام النظام، وولى وعزل من المدنيين والعسكريين، وجند الجيوش وخرجت تكتسح العالم، ابتدأها فأتم ذلك خلفاؤه الراشدون من بعده، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
وقوله: (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا) أي: لن يستطيعوا الوصول إليكما ولن يستطيعوا أن يؤذوكما في شيء.
وقوله: (بِآيَاتِنَا) أي: بمعجزاتنا وبعلاماتنا وبراهيننا، بل هم الذين سيرعبون منكم ويخافون.
وقوله: (أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) أي: أنت يا موسى وأخوك هارون ومن اتبعكما من المؤمنين، سواء من قوم فرعون ولم يكن ذلك إلا قلة لا تكاد تُذكر ولا تعد على الأصابع، ومن اتبعك من عشائرك من بني إسرائيل، أنتم الذين ستكونون الغالبين القاهرين وهم الأذلاء المغلوبون.(148/6)
تفسير سورة القصص [36 - 43]
أيد الله رسوله موسى عليه السلام بالمعجزات الواضحات التي تدل على أنه رسول الله حقاً، فلما جاء فرعون وقومه يدعوهم إلى الله اتهموه بالسحر والافتراء واستكبروا عليه تيهاً وضلالاً، فأخذهم الله بالعذاب ولم يبال بهم.(149/1)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات)
قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [القصص:36].
أي: جاء موسى إلى مصر بعد غيبة عشر سنوات، خرج فاراً بحياته وفاراً من فتنة فرعون وملئه، ترك أمه وأخاه هارون، وترك أخته التي قصت أثره عندما أرسلتها أمها لتتبع أثره عندما قذفته في النيل.
جاء إلى أمه على قدر، وهي تنتظر تنفيذ وتحقيق وعد الله عندما وعدها عند الولادة: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] عندما أمرها الله جل جلاله وأوحى إليها بأن تُرضعه فإن خافت عليه فلتقذفه في اليم ولا تخف عليه غرقاً ولا موتاً؛ لأن الله سيرده، بل وسيجعله من المرسلين.
فقد تحقق الوعد الأول فرده الله إليها مع عز وكرامة وأمن، والآن سيعود إليها نبياً رسولاً كريماً، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111].
قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [القصص:36].
أي: ولما رجع موسى إلى مصر دخل على أمه وأقر عينها بعودته وأقر عينها برسالته، وبلغ هارون رسالة ربه وأمره بالذهاب معه، وذهبا إلى فرعون.
فوجئ فرعون بأن موسى قد حضر ولم يكن خائفاً ولا راجياً، ولم يحضر على أنه ابنه الذي تبناه وعاش في بيته، ولكنه جاءه مسفهاً لدينه ومكذّباً بألوهيته، وداعياً له إلى ربه ومنذراً له إذا لم يؤمن، وإذا لم يسلِّم له بني إسرائيل ويترك الاستعباد والاضطهاد والآلام والتذبيح للذكور والاستحياء للنساء منهم، فلا يلومن إلا نفسه بغضب من الله في الدنيا وغرق، وبغضب وعذاب يوم القيامة أشد وأنكى.
فلما جاءه موسى وقابله دعاه إلى الله الواحد القهار، وبين له أنه رسول من الله يدعوه إلى رب العالمين؛ فأخذ فرعون يقول: وما رب العالمين؟ فهو يتساءل في ذلك هازئاً جاهلاً.
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَات) أي: جاءهم بالعلامات والبراهين البيّنة الواضحة المشرقة، إذ عندما قال لـ فرعون: أنا رسول ربك إليك، قال فرعون للملأ معه: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون، جاء بما لم تعرفوه ولم تدركوه.
فقال موسى: عندي ما يصدقني، قال: أبن ذلك وأظهره إن كنت من الصادقين! وإذا به يلقي العصا ويقذفها بينه وبين فرعون، وإذا بـ فرعون يُرعب ويرجع إلى الخلف، ويرجوه أن يُعيدها كما كانت، فيأخذ موسى الحية فتعود عصا.
ثم يدخل موسى يده ويخرجها وهي شعلة من نار، لم ير فرعون في ذلك إلا ناراً ولم ير نوراً، فزاد رعبه وزاد هلعه وزاد فزعه، فأدخلها موسى في جيبه وخرجت كما كانت، لما رأى فرعون وملؤه وجماعته وكبراء دولته وأتباعه من الفجرة الفسقة هذه الآيات البينات ماذا كان جوابهم؟ (قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى) أي: ليس هذا إلا سحراً كاذباً مخترعاً ولا رسالة ولا نبوة؛ لأن السحر كان إذ ذاك في مصر وعند فرعون هو العلامة الكاشفة للأمة المصرية للأقباط والفراعنة، فعندما جاءهم بشيء يشبه ما هم عليه من السحر وتغيير الأجناس وتغيير الطبائع قالوا: هذا شيء، نعرفه وبلدنا فيها الكثير من هذا ليس هذا إلا سحراً مفترى.
قوله: (وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ) أي: لم نسمع عن آبائنا ولا أجدادنا أن هناك رباً غير فرعون أو إلهاً خالقاً غير فرعون.
وهؤلاء البقر يرون فرعون يشيب ويمرض ويعجز ثم يموت، فكيف لرب أن يموت؟ وكيف لإله يعجز؟ ولكنها هكذا العقول إذا ابتُليت بالشرك وبالكفر ذهب نورها وفهمها، وذهب وعيها فكانت كالأنعام، بل الأنعام أشرف وأكمل منهم، بل هم أضل من الأنعام كما وصف الله جل جلاله.
فقولهم: (وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ) كذب وافتراء، بل قد سمعوا بأخبار الأنبياء قبل، فهذا يوسف كانت نبوته في مصر، وكان ملكاً عليها، وكان يوسف يتصرف في مصر وسمعوا به، وسمعوا بأبيه يعقوب، وسمعوا بجده إسحاق، وسمعوا بجد الكل إبراهيم، وسمعوا بنوح، وبالتالي سمعوا بجد البشرية وأبيها الأول آدم عليه وعليهم جميعاً سلام الله، ولكن الفراعنة حكام مصر لا يعلمون إلا أنهم آلهة وأرباب، يقول فرعون وهو يضحك على قومه ويستخف عقولهم: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] من يملك هذا الجزء الصغير الحقير من الدنيا كيف يكون رباً وإلهاً؟! هذا أحد خلفاء بني العباس يتذكر قصة فرعون فقال: أنا أملك الدنيا وأتمدد على ظهري وأقول للسحب: صبي هنا أو هنا فخراجكِ سيصل إليّ، ومع ذلك أبيت أبكي ساجداً ممرغاً جبيني ووجهي على التراب أطلب رحمة ربي ومغفرته، ومصر ليست إلا جزءاً صغيراً من مملكتي وأرضي، فيدّعي هذا المجنون الألوهية لذلك، والله لن أولي على مصر إلا عبداً وخادماً من خدمي، فولى كافور الأخشيدي وكان مسلسل الشعر، مشقوق القدمين، إلى آخر الصفات، ومع ذلك فقد كان ملك كافور وحكمه وولايته من أحسن ما يكون عدلاً وإدارة وإتقاناً، فأين فرعون وما تركه من شرك؟!(149/2)
تفسير قوله تعالى: (وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده)
قال الله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [القصص:37].
قال موسى بعد أن جاء بالبينات: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى) أي: فكيف تدعون الألوهية وأنتم أعجز ما يكون عن خدمة أنفسكم، وعن جلب الخير لكم ودفع الضر عنكم، هل أنتم الذين جئتم بالخير أم الله سبحانه؟! فقوله: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ} [القصص:37]، أي: جاء بما يهدي الخلق ويهدي الفراعنة الأقباط، جاء بالهداية من الله وجاء بالتوراة وبالحكم وبالصلاح، وبالنور بعد الظلام.
وقوله: {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} [القصص:37] أي: لمن ستكون عاقبة دارنا الآن، والعاقبة يوم القيامة، وسترون بعد ذلك إن أنتم كذبتم هل ستكون العاقبة لي أو لكم؟ وهل سأنتصر أنا أو أنتم؟ وهل سينتصر الله جل جلاله القاهر فوق عباده، أم أنتم معاشر الكفرة الفجرة الذين أنتم أعجز من حيوان صغير فضلاً عن أن تدعوا الألوهية والربوبية؟! وقوله: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [القصص:37].
الظالمون الكافرون المشركون لا فلاح ولا نجاح لهم، ولا سعادة لهم في الدنيا ولا في الآخرة.(149/3)
تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري)
قال الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38].
قال قولته الفاجرة التي تهتز لها الأرض استنكاراً واستقباحاً واستهجاناً، وقال في آية أخرى: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ليس إلهاً فقط بل الإله الأعلى، وهو عندما يستدل على ألوهيته يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] ليس العالم كله، وإنما له شيء من الماء اسمه النيل، فأين هو من البحر الأبيض ومن البحر المحيط؟! إذا قيس النيل بالبحار فما هو إلا قليل، أما إذا قيس بالمحيط فلا قياس.
وقال فرعون لملئه ولقادة دولته ولضباطه ووزرائه وهم بمحضر موسى وهارون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] و (من) إذا دخلت على النكرة عمت، أي: ليس هناك إله ألبتة إلا هو، وكما قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54].
استخفهم وأضاع عقولهم وأذهب وعيهم، فأطاعوه على أنه رب وإله، قال: لا أعلم لكم من إله غيري، ثم التفت إلى وزيره هامان فقال له: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38].
أي: يا هامان اصنع لي آجراً بالنار واجعل آجرة على آجرة، ثم بعد ذلك اجعل لي صرحاً أي: قصراً ومنارة عالية لأصعدها، وأطلع إلى إله موسى أين هو؟! ثم قال: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38].
ومن أول مرة قال: سأصعد وسوف لا أجده، مع أن الله معه: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد من الذي أحياني وأحياكم؟ من الذي أمدني بالحركة وبالقوة وأمدكم؟ من الذي جعل الليل سكناً والنهار مبصراً؟ من الذي خلق السماوات؟ من ومن؟ سنبقى نقول: من إلى يوم القيامة ولم تنته من! فالله تراه في كل شيء، فالكل خلقه، والكل أمره، والكل أثر من آثاره، وكان الله ولا شيء معه، وهذا الكون لم يكن موجوداً، ولم يكن هناك أحد، فخلق أبانا الأول من تراب، وأمنا من ضلع آدم، ثم خلقنا من ماء دافق، من صلب الأب ومن رحم الأم، واختص عيسى بأن خلقه من الأم بلا أب.
من الغريب أن يخطر ببال إنسان في الأرض أن يدعي الألوهية، نعم، قد يدعي المرء الملك أو الجاه فهذا ممكن، أو يدعي العلم أمام الجهال فيظنونه عالماً، أو يدعي المال والغنى فقد يسرق ويخطف ويأخذ أموال الناس، أما أن يدعي الألوهية وأنه يحيي ويميت فلا!! وقد سبقه نمرود عندما ذهب إليه إبراهيم يدعوه لعبادة الله وقال عن ربه: إنه يحيي ويميت، فقال نمرود: أنا أحيي وأميت، كيف ذلك؟! يأتي بالإنسان فيقتله فيقول: أنا أمته، ويأتي بآخر يريد قتله فيتركه من القتل فيقول: أحييته، فقال إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] أي: أن الله يخرج الشمس من المشرق فائت أنت بها من المغرب، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] صار كالأبله والمجنون.
إذاً: أرسل الله الرسل إلى البشر؛ ليعلموهم عبادة ربهم وتوحيده، وأنه لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته ولا في أفعاله.(149/4)
تفسير قوله تعالى: (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق)
قال الله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} [القصص:39].
كان فرعون جباراً مفسداً كما وصفه الله من قبل، واستكبر وتعالى على ربه وظن أنه يستطيع أن يفعل شيئاً.
فقوله: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [القصص:39] هل لـ فرعون حق في هذا الاستكبار؟ هل خلق كخلق الله؟ هل أحيا كإحياء الله؟! هل أمات كإماتة الله؟! كل ذلك لم يكن.
وقوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} [القصص:39]، أي: خطر ببالهم وظنوا أنهم لا يموتون ولا يعودون إلينا، ولا يحاسبون على شركهم ولا على كفرهم، ولا على تألههم، ولا على ظلمهم، ولا على ما يصدر منهم، فكانت النتيجة كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من يتأله على الله يكذب).
وتكذيبه في إذلاله وتحقيره ليراه من عبده بغير حق، وأنه بئس العابد والمعبود من كل بشر، ومن كل كاذب ومدع مفتر على الله.(149/5)
تفسير قوله تعالى: (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم)
قال الله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص:40].
كانت العاقبة الوخيمة لـ فرعون المتأله الكاذب أن أخذناه هو وجنوده من ملئه وكبرائه وأتباعه وأشياعه ومناصريه، فقذفناهم في البحر كما يقذف الشيء الذي لا قيمة له ولا شأن له، قذفهم الله في اليم فغرقوا وضاعوا وكأن لم يكن، وأبقى جثة فرعون على حالها؛ لتكون لمن خلفه آية؛ لأنهم زعموا أن الرب انتقل إلى مكان آخر، وأن فرعون لا يموت ولا يقتل، فعندما غرق في النيل أخرج الله جثته من النيل ليصبح جيفة تحتقرها النفوس، وإذا بها بقيت على حالها تعرض على الملأ يراها من يرى فرعون ويعرفه ويعلمه، بحيث تحققوا أن هذا الإله كاذب ليس إلا إنساناً كالناس أحياه الله فأماته، وهذه الجثة لا تزال إلى اليوم في متاحف مصر في الموميات، ولكن لا تعرف بعينها، ويقولون لك: هذه الجثث العشر أو العشرين هي لفراعنة مصر، هذا فلان، وهذا فلان، وهذا فلان، ولكن بالتأكيد القاطع: أن هذا فرعون موسى يحتاج ذلك إلى دليل، وأين الدليل؟ وأين البرهان؟ ولكن لاشك أنه واحد منهم، لأن الله أخبر بأنه سيجعله آية لمن يأتي بعده ولمن يأتي خلفه، وهو آية لا تزال إلى يومنا.
ذهب فرعون كما يذهب البشر وهلك وذهبت دعواه، وذهب قومه، وأورث الله الأرض موسى ومن معه، وأذل أولئك وسحقهم، وكانت العاقبة للمؤمنين، {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173].
وقوله: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص:40]، أي: انظر يا محمد وانظر يا من آمن بمحمد، ومن جاء بعده وإلى يوم القيامة كيف كانت عاقبة المشركين الظالمين لأنفسهم والظالمين للناس، والكاذبين على الله المدعين ما ليس لهم.(149/6)
تفسير قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار)
قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ} [القصص:41].
هم أئمة نعم، هم حكام وملوك وسادة وزعماء، ولكن زعماء إلى النار، وأئمة الكفر لا يكتفون بالكفر في أنفسهم، بل يأبون إلا أن يكفروا ويدعوا غيرهم للكفر، وأن يشركوا ويدعوا غيرهم للشرك، وأن يظلموا ويدعوا للظلم.
وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ} [القصص:41].
أي: لم ينصروا في الدنيا، وكذلك يوم القيامة في الآخرة لا ينصرون؛ لا ينصر الله كافراً ولا يرحمه؛ لأنه ليس للكافر إلا الذل والهوان والغضب، والخلود في النار أبد الآبدين ودهر الداهرين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
قال الله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص:42].
معنى ذلك أنه يشرع لمن ذكر هذا الكاذب المتأله وأمثاله أن يتبع ذكره باللعنة، فيقول: قال فرعون لعنه الله، وقال الأقباط لعنهم الله، فهم متبوعون باللعنة وبالخزي وبسوء الذكر وبالاحتقار؛ نتيجة دعواهم ما ليس لهم به حق، فهؤلاء تتبعهم اللعنة في الدنيا، وهم يوم القيامة من المقبوحين الخزايا الملعونين الخالدين في النار، الذين لا يكاد يذكرهم أحد إلا بالخزي والبراءة من أعمالهم.
وليس فرعون إلا مثالاً لمن فعل فعله، وليس هو شخصاً بعينه، بل كان مثالاً لكل من جاء بعده إلى يوم القيامة، فكل من ادعى دعوى فرعون وقال: لا إله أو أنه الإله، أو ظلم وسفك وأكل المال الحرام، وجعل من نفسه رباً دون الله، فإن له اللعنة والخزي في الدنيا، وله القبح والتقبيح والخزي يوم القيامة، والخلود في النار أبد الآبدين.(149/7)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:43].
بعد ذلك أنزل الله على موسى التوراة فيها الهدى والنور، وفيها التوحيد، وفيها ما في الكتب السماوية السابقة، فهذه هي صفة التوراة عندما نزلت، ولكنّ العبرانيين أتباع موسى بعد ذلك غيروا وبدلوا وحرفوا، فالتوراة التي بين أيدينا والتي كانت منذ عصر الوحي المحمدي قام علماؤهم وكبراؤهم فبدلوا فيها وغيروا وحرفوا وزادوا ونقصوا، وأدخلوا فيها الشرك بعد ذلك، فلقد قال تعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18].
فزعموا أنهم أبناء الله، فلم يشركوا بالله واحداً بل أشركوا كل البشر؛ لأن ابن الإله إله إن صح أنه ابن ولا ابن لله، ولا يليق بالله سبحانه أن يكون له ابن، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:1 - 3].
ولكن لشركهم قالوا ذلك، والتوراة بين أيدينا فيها الطعن في جلال الله، وفيها اتهام الأنبياء بالكبائر: بالسكر وبالزنا وبالفساد، وبإتيان المحارم، وفيها ما لم يكد يخطر على بال.
ومن هنا كان اليهودي في دمه وفي عرقه وفي نشأته وفي بيئته عنصراً للفساد، فهم يدينون بشتم الله، ويدينون بقذف الأنبياء، ويدينون بسفك الدماء، ويدينون بنشر الفاحشة ونشر السوء بين البشر، ولذلك هؤلاء الذين يسعون من الحكام إلى فتح الحدود معهم، إنما يزيدون شعوبهم فساداً وفاحشة وكفراً وبلاءً، فإن هذا لبلاء مبين، فأرجو الله تعالى أن يزيله وألا يتمه، وأن يخيب آراءهم، وأن يرد كيدهم في نحورهم جميعاً هم وأنصارهم ومن يريد أن يفعل ذلك منهم.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} [القصص:43].
أرسل الله موسى بالتوراة من بعد قرون سابقة عنه هلكت وبادت وانتهت، والقرون هم قوم نوح، وقوم هود وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم إبراهيم، وقد قص الله علينا قصصهم.
والقرن هو المائة من السنين، والقرن هو الجيل بعد الجيل.
وموسى جاء متأخراً بعد ذلك، وقد سبقه هؤلاء كلهم، فـ شعيب أرسل إلى مدين، وإبراهيم إلى نمرود، ولوط إلى أهل سدوم في فلسطين، وهود وصالح إلى عاد وثمود، ونوح إلى البشرية، وكانت لا تزال قريبة العهد بآدم، ليس بينها وبين آدم إلا ألف عام، ولبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فقص الله علينا ما قص مما مضى جميعه بعد هذه القرون الطويلة، وهذه الأجيال المتتابعة التي أهلكها الله وذهبت في أمس الغابر.
وأرسل الله بعد ذلك موسى، وسبقه من بني إسرائيل يوسف وأيوب ويعقوب وإسحاق، بل يعقوب هو إسرائيل وهو كبير أنبياء بني إسرائيل، أما إبراهيم وإن كان أباً لهم فهو كذلك أبو العرب الأول، وهو الذي مكن للعرب هنا، وأتى بولده إسماعيل وأسكنه هنا في هذه الأرض المقدسة، فكان إسماعيل نبي الله ورسول الله الجد الأعلى لنبينا عليه الصلاة والسلام، والجد العالي لجميع عرب اليوم، أما الذين كانوا قبله فيسمون بلغة الأنساب والأحساب: العرب العاربة، وهؤلاء انتهوا ولم يبق منهم أحد، ولذلك الله عندما ذكر إبراهيم قال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] والخطاب للعرب، فهو أبو العرب، وهم نسله، ولذلك دعا إبراهيم ربه لإسماعيل أن يجعل رسولاً من سلالته، ولذلك كان يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وأنا بشرى أخي عيسى، هو الذي بشر الناس باسمي، وقال لهم في الإنجيل: يأتي من بعدي رسول اسمه أحمد) ومحمد وأحمد اسمان كريمان للكريم خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.(149/8)
تفسير سورة القصص [43 - 46]
آتى الله سيدنا موسى الكتاب هدى لبني إسرائيل؛ لكنهم عاندوا وطلبوا ما ليس لهم أن يطلبوه، وقد أقام الله عليهم الحجة وأثبت صدق رسله وأنبيائه.(150/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب)
قال الله ربنا جل جلاله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:43].
لا نزال مع موسى وما أكرمه الله به من إشادة وذكر في العالمين منذ طفولته، بل منذ ولدته أمه إلى أن أصبح نبياً كريماً، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [القصص:43].
فبعد أن كلم الله موسى عليه السلام وشرفه أنزل عليه التوراة فيها هدى ونور، وفيها الصلاح والفلاح والدعوة إلى الله، وهكذا كان هذا الكتاب يوم نزوله، ووقت وجود موسى وهارون عليهما السلام، ثم بدلوه وغيروه من كتاب توحيد إلى كتاب شرك ووثنية، فجعلوا لله شركاء وجعلوا أنفسهم أبناءً لله، وقذفوا الأنبياء واتهموهم بالكبائر، وقالوا عن الله ما لا يقوله إلا كافر أرعن أحمق.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} [القصص:43].
فقد جاء موسى عليه السلام وأرسل بالكتاب إلى بني إسرائيل بعد القرون الماضية والأجيال السابقة، قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم إبراهيم، فجاء بعدما هلكوا وبادوا.
وفسر بعض المفسرين الآية: أن الأمم والأنبياء من قبل موسى لم يشرع لهم القتال والجهاد، فإذا كفرت أمة وأشركت بادرها الله بالعقوبة في الدنيا بأمر منه، فحين عصى قوم نوح نوحاً أفاض الله عليهم الماء فأغرقهم، وأهلك عاداً بما أهلكهم به من الصيحة والفزع، وأهلك قوم صالح كذلك، وأهلك قوم لوط بأن جعل عالي الأرض سافلها، وأهلك قوم فرعون بالغرق والضياع، ثم لما جاء موسى شرع القتال والحرب، فلم تبق الفتنة ولا العذاب ولا القضاء شاملاً عاماً لكل الأمة ممن كفر بالله وأشرك به، ولكن الله تعالى شرع للمؤمنين أن يقاتلوا الكافرين؛ ليذلوا ويسحقوا ويؤدبوا على يدهم، ومنذ موسى عليه السلام رفع الخسف والصعق والغرق والبلاء على الأمم عامة، إلا ما كان من القتال والجهاد، يكرم الله به المؤمنين، وهم يبذلون أرواحهم وأموالهم وأولادهم رخيصة لإعلاء كلمة الله.
ومع ذلك فإن قرية من القرى أيام موسى عليه السلام عندما تحايلوا على الصيد في يوم السبت وحاصروا الحيتان وحجزوها إلى يوم الأحد مسخوا قردة، قالوا: ولم يحدث بعد ذلك أن كان شيء من هذا، وإنما الهلاك يكون على يد الأمم بعضها بعضاً، فيسلط الله قوماً على قوم، وأمة على أمة، فقد يكون المسلمون - وهو هذا الشأن - هم المظفرون المنصورون، ولكن إذا بدلوا كذلك وغيروا كما صنع اليهود والنصارى قبلهم سلط الله عليهم شعوباً أخرى أذلوهم واستعبدوهم واستعمروهم، كما نعيش منذ قرون، ولا يزيد الأمر إلا شدة؛ لأن المؤمنين زادوا كفراً وخلافاً وعصياناً، وبقدر ما يزيدون يزيد الله عذابه ونقمته وتأديبه.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} [القصص:43].
القرون جمع: قرن، تطلق على المائة سنة، وعلى الجيل، وهنا أطلقت على الأجيال والأمم والشعوب ما مضى منها وما تلا، وإلى عصر موسى وما بعد عصره، ثم أوقف الله عذابه الشامل للأمم، واكتفى بأن أمرهم بالجهاد، ليقاتل المسلمون الكافرين، وأرسل موسى بالتوراة والكتاب بصائر للناس، أي: للتبصر والتنور والوعي والإدراك والإيمان عن بصيرة، فكان بصائر للناس وهدى؛ ليهتدوا بذلك ويزول ما هم فيه من ظلمات بعضها فوق بعض، ثم هو هداية يهديهم من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى التوحيد، ورحمة ومغفرة ودخولاً للجنان وقبولاً لتوبة من آمن به والإيمان والإسلام يجب ما قبله.
{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:43].
فأرسل الله موسى عليه السلام بالتوراة؛ ليتبصر بها بنو إسرائيل، ويخرجوا من الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان، وأرسل هداية؛ ليتركوا الضلال إلى الهدى، ثم رحمة لمن آمن به، وصنع ذلك بهم لعلهم يتذكرون ويعون ويفكرون، ولعلهم يقولون يوماً: ربي الله، ويدعون الكفر والظلام والضلال إلى الإيمان والهداية والنور.(150/2)
تفسير قوله تعالى: (وما كنت بجانب الغربي)
قال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44].
هذا من ظواهر المعجزات التي أتى بها نبينا عليه الصلاة والسلام التي ينص عليها الله في كتابه؛ ليعيها الشاك والمرتاب والمتردد، وليزداد بها المؤمن إيماناً وإيقاناً وثباتاً في الله وفي دينه.
قال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} [القصص:44].
أي: يا محمد! لم تكن حاضراً في الجانب الغربي جانب الطور وجانب الشجرة والبقعة المقدسة المباركة التي نادى فيها الرب جل جلاله عبده موسى، فكلمه وشرفه وأرسله، فأنت لم تكن حاضراً، ولم تكن من الشاهدين ولا من الحاضرين، ومع ذلك أنت الآن علمت ذلك كما لو كنت شاهداً وحاضراً، وأمتك لم تكن أمة قارئة، بل كانت أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، ولم ينزل على أمتك وشعبك قبلك نبي ولا كتاب، وها أنت ذا تتكلم بالحقائق، وتتحدث عن الأنبياء السابقين منذ آدم إلى نوح إلى موسى وعيسى عليهم السلام، بما كانوا عليه من حقائق، وبما عاشوا فيه من واقع، وتتحدث عن الدنيا منذ كانت، إلى أن وصلت إليك، إلى ما بعدك وإلى يوم القيامة، وأنت لم تكن حاضراً هذا مع موسى؛ لأنك لم تكن خلقت بعد، فبينك وبينه الآلاف من السنين، فلم يكن ذلك إلا وحياً وإنباء وإخباراً من الله؛ لتعلمها أنت وتعلمها لهم ولغيرهم.
أفلا يكفي الكافرين من العرب والعجم من السابقين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة أن يروا هذا الرجل الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب يأتيه الوحي في غار حراء، فإذا به ينطق بالحكمة ويقول الحقائق والعلوم التي لم يعلمها سابق ولا لاحق؟ فمن أين ذاك؟ أعلمه الناس كما زعم بعض الكافرين قديماً وحديثاً، فقد زعموا أن حداداً كان في مكة هو الذي علمه، وهو لا يكاد يبين بالعربية، ونبينا لا يعرف سواها، وهذا الحداد ما عسى أن يعرف أو يعلم، فهو جاهل ولا يكاد يعلم ما في يومه فضلاً عن أمسه وعن مستقبله، وهذا الذي أتى به من المعارف والحقائق وما فرض على الناس يؤمن به من أصلح الله قلبه وغسله من الشرك والظلمات والكفر والعناد على الكفر.
وفي عصرنا هذا كتب أحد النصارى الفرنسيين كتاباً قارن فيه بين القرآن والتوراة والإنجيل، وقال: كل ما جاء في التوراة فقد حرف، والإنجيل قد حرف، وكل ما أتى به هذان الكتابان التوراة والإنجيل يخالف الحقائق والعلوم والواقع، إلا القرآن فما نطق القرآن بشيء عن السماوات والأرض وأنباء الأنبياء السابقين والأديان السابقة إلا وهو حق وصدق أيدته الكتب السابقة والعلم الحديث والحفريات على الآثار التي اكتشف بها الكثير مما كان يجهله الناس، وهكذا الله جل جلاله يلفت أنظار العقلاء والذين يبحثون عن الحقائق؛ ليعيشوا مع الحق والواقع، لا مع الأوهام، والأكاذيب والأباطيل والأضاليل.
وفكر يوماً أيها المشرك الكافر! من أين لمحمد العربي الأمي هذه العلوم والحقائق، وهذه القصص عن موسى منذ الولادة إلى النهاية، وهو لم يكن شاهداً ولا حاضراً، وهذا ما يلفت إليه القرآن أذهان الناس وعقولهم، فقال: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص:44]، أي: لم تكن بجانب الجهة الغربية من الشجرة المباركة في البقعة المقدسة عندما أوحى الله إلى موسى عليه السلام ما أوحى وكلمه بما كلمه، وقضى الله جل جلاله الأمر والرسالة والنبوة، والهداية والتكليف منه جل جلاله إلى موسى، وهو الأمر الذي يشار إليه بالأمر، فلم تكن حاضراً إذ ذاك، فمن أين لك هذا لولا أن الله أكرمك بالوحي، وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً؟ كما أن له الفضل على أتباعه المؤمنين به وبجميع ما جاء به ففضل الله عليه وعلى أتباعه عظيم.
قال تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44]، أي: لم تكن بجانب الغربي مع موسى عندما كلمه الله، ولا من الحاضرين في عصره، المشاهدين لحياته، كيف ولد، وكيف قذف في اليم، وكيف أخذ إلى فرعون، وكيف كبر، وكيف قتل الفرعوني، وكيف خرج من مصر، وكيف بقي في مدين إلى أن تزوج وأصبح زوجاً وأباً، وكيف رحل بعد ذلك إلى أن كلم بالوحي، ثم كيف عاد إلى مصر، فمن أين لك كل هذه الحقائق لولا إنعام الله عليك بالوحي وبالعلم وبما علمك به؟(150/3)
تفسير قوله تعالى: (ولكنا أنشأنا قرونا)
قال تعالى: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [القصص:45].
الكلام هنا مع اليهود والنصارى أولاً، ثم مع الكفار عموماً من كفار مكة والجزيرة إلى كفار الأرض بكل مللهم وأجناسهم ونحلهم.
قال تعالى: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [القصص:45]، أي: ولكن الله بعد موسى والتوراة أنشأ وخلق قروناً وأجيالاً وشعوباً وأمماً أخرى طويلة في مئات وآلاف من السنين.
{فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [القصص:45]، أي: طال على أهل الكتاب نصارى ويهوداً، وعلى المشركين الذين لم يؤمنوا بكتاب قبل ولم يرسل إليهم نبي ولا كتاب، فطال عليهم العمر والزمن من قبل ومن بعد إلى نسوا الكتاب فحرفوه وبدلوه وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتسافدوا تسافد البهائم في الشوارع، وأصبح القوي يأكل الضعيف، والغني المتجبر الطاغي يستعبد الخلق والبشر.
قال تعالى: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [القصص:45].
ومعناه: لكن هؤلاء بدلوا وغيروا وأنكروا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في التوراة والإنجيل، وأبوا إلا الكفران والجحود كما كفروا قبل ذلك بشريعتهم، فغيروها وحرفوها وبدلوها، وغيروا كتب الله ورسالاته، حتى إذا جاءهم سيد البشر صلى الله عليه وسلم مبيناً لهم الحقائق مصححاً لهم الوقائع والأحداث أبوا إلا العناد والجحود والكفران والتألب والتواطؤ والتآمر على هذا الدين الجديد وعلى نبيه المرسل إليه صلوات الله وسلامه عليه.(150/4)
تفسير قوله تعالى: (وما كنت ثاوياً في أهل مدين)
قال تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص:45].
أي: لم تكن حاضراً بين قوم شعيب، ولم تكن ثاوياً مقيماً بينهم، حتى تعلم عنهم وتدرك حالهم وتعرف أخبارهم بنفسك وتتلو عليهم آياتنا، ولم تكن نبياً إذا ذاك ولا معلماً ولم يظهر شخصك بعد، ولكن ذكرك واسمك سبقاك، فذكرت في توراة موسى وإنجيل عيسى عليهما السلام، وبشرت بك الخلائق من قبل جيلاً بعد جيل، وديناً بعد دين، وقرناً بعد قرن، ولكن هؤلاء أبوا إلا التغيير والتبديل والانحراف.
قال تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [القصص:45]، أي: وما علمناك وأخبرناك من قصص شعيب ومن قبله ومن بعده لم تكن بينهم ولا حاضراً معهم، ولا تلوت عليهم كتابك، فلم تكن بعد لا أنت ولا كتابك ولا رسالتك.
قال تعالى: {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص:45]، أي: ولكننا بعد ذلك شرفناك ورفعنا ذكرك، وقرناه باسمنا في الشهادتين وفي الإقامة وفي مفاتيح الإسلام، فلا تتم شهادة الدخول في الإسلام إلا بقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ولا يتم أذان ولا إقامة إلا إذا قرن اسم محمد صلى الله عليه وسلم باسم الله خالقه ومرسله، صلى الله عليه وسلم، وتعالى ربنا وعز.
قال تعالى: {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص:45]، أي: ولكن سبب مجيئك بهذه الأخبار مع أنك لم تكن حاضراً هو أننا أرسلناك فعلمناك وهديناك وأنزلنا عليك القرآن خاتم الكتب السماوية والمهيمن عليها والمتحكم فيها والمبين لحقائقها والمزيف لأباطيلها، فعند ذلك تكلمت بالحق والصدق وبالوحي من الله، فكان كلامك عن الله، سواء القرآن الذي هو كلام الله باللفظ والمعنى، أو السنة التي هي بيان وتفسير وشرح للكتاب.
قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] ومن هنا كان قول النبي عليه الصلاة والسلام شرعاً، وفعله شرعاً، وإقراره شرعاً في الغضب والرضا، في السفر والحضر.
ولذلك عندما كان يكتب عبد الله بن عمرو بن العاص كل ما يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم قال له بعض الجهلة من قريش: أتكتب عن رسول الله كل شيء، وهو بشر يغضب ويرضى؟! فكف، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: لم ذاك؟ فقال: قال لي فلان وفلان من قريش كذا وكذا، فقال: اكتب، فوالله لا يخرج منه إلا الحق في الغضب والرضاء.
فلا هوى له صلى الله عليه وسلم، وما هو إلا الوحي والحق والدعوة إلى الله، ولم يكن يعتبر لنفسه كياناً ولا وجوداً، بل كان يتسامح فيما يتعلق بشخصه إلا إذا انتهكت محارم الله فهو الأسد الهصور، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(150/5)
تفسير قوله تعالى: (وما كنت بجانب الطور)
قال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص:46].
أي: كذلك لم تكن مع موسى عندما جاء يبحث عن هذه النار التي رآها وهو لا يريد منها إلا جذوة أو خبراً من أي أحد من الناس يهديه الطريق ويعرفه كيف يذهب في مسالك الأرض، ولم تكن معه عندما نودي من الشجرة المباركة: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30].
فلم تكن بجانب الطور إذ نادينا وقلنا: يا موسى! ومع ذلك علمت ما لم يعلم غيرك ممن مضى أو حضر، ومن باب أولى ممن يأتي إذ لا نبي بعده ولا رسول.
وهذا تأكيد لقوله في الآية الأولى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص:44] أي: بالجانب الغربي من الشجرة المباركة من البقعة المقدسة، أي: لم تكن بجانب الطور وجبل سيناء عندما نادى الله موسى وكلمه، وقال: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30] ومع ذلك علمت ذلك وتحققته وأمرت بمعرفته، وذلك لتعرف به الناس وتصحح أغاليطهم التي حرفوها وأتوا بها منحرفة في التوراة والإنجيل والزبور.
قال تعالى: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:46].
رحمة: مفعول مطلق، أي: ولكن رحمك ربك رحمة.
{لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:46] فقد أرسلناك وبعثناك نذيراً لقوم لا يعرفون من قبل نذيراً، ولم يرسل إليهم رسول، ولم يبعث إليهم هاد، ولم يأتهم كتاب، فقد جئتهم على قدر يا محمد! فرحمه الله وأكرمه بالوحي وبالرسالة وبختم الأنبياء والرسل، وأرسل لقوم ابتداءً، وإلا فهو قد أرسل لكل البشر.
قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158].
وقال صلى الله عليه وسلم: (أرسلت إلى الأبيض والأحمر، لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).
وليس هذا موضع نزاع من أحد، ومن هنا كانت القاديانية وكل ملة وفرقة تزعم أن لها نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم هي أديان كاذبة باطلة، ومعتقد ذلك كافر، فإن كان قبل مسلماً فقد ارتد، فإما أن يعود إلى الإسلام، وإما أن يقتل بسيف الإسلام.
والله أرسل النبي عليه الصلاة والسلام على ثلاث مراحل، فقيل له أولاً: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فأنذر عشيرته الأقربين، وأخذ ينادي: يا صفية بنت عبد المطلب! يا فاطمة بنت محمد! يا فلان! يا فلانة! وقال لهم: إني نذير من الله لكم بين يدي عذاب أليم.
ثم بعد ذلك دعا الأبيض والأسود، ودعا المشرك واليهودي والنصراني، ودعا كفرة الأرض جميعاً بكل أشكالهم، ومن كان في الأصل صاحب كتاب ثم أشرك فحرف وبدل، ومن لم يكن له كتاب أو كان يؤمن بخزعبلات من الاعتقاد في الحجارة وفي البشر، وقد كان بعضهم يعبد النار، وبعضهم يعبد عزيراً والمسيح، وبعضهم يعبد الشيطان، وبعضهم يعبد الأحجار، وبعضهم يعبد غير هؤلاء، فكل هؤلاء كفرة مشركون، وكلهم إما أن يدخلوا الإسلام، وإما أن يجاهدوا، بل يجب جهادهم حتى يؤمنوا، ومن لم يفعل يؤدي الجزية عن يد وهو صاغر.
قال تعالى: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:46] أي: لتنذر وتدعو قوماً لم يرسل لهم قبلك نذير، وهكذا كانت الرسالة في الشهور الأولى، ثم عمت، وشملت الشرقي والغربي، والكتابي والوثني والمشارق والمغارب، وجميع أمم الدنيا، وقال الله له: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، أي: لعلهم يتذكرون وبرحمة من ربك أرسلك نذيراً إلى العرب الذين لم يرسل لهم قبلك نذير ولا رسول ولا كتاب؛ لعلهم يتذكرون ويذكرون أن هذه نعمة من الله لم ينعم بها على أحد قبلهم، إذ الأديان قبلهم كانت قومية خاصة بالأقوام.
وأما الرسالة التي أرسل بها نبينا صلى الله عليه وسلم فهي رسالة شاملة عامة، تعم كل الكون الجن والإنس.(150/6)
تفسير سورة القصص [47 - 54]
إن من عادة أهل الكفر والجحود أن يتعنتوا أنبياءهم ورسلهم بالمطالبة بالآيات التي لو استجيب لهم فيها ما آمنوا بها، ولو عذبوا لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك، فإذا جاءهم الرسول اتهموه بالسحر والأباطيل.(151/1)
تفسير قوله تعالى: (ولولا أن تصيبهم مصيبة)
قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:47].
أي: لولا أنه لم يسبق أن أرسلنا للعرب رسولاً ونذيراً نتيجة ما قدمت أيديهم من معاص وذنوب وشرك وكفر وظلم لعاجلناهم بالعقوبة، هذا هو جواب (لولا) المفهوم من سياق الكلام.
أي: لولا أن يصيب العرب ممن لم ينذروا قبل برسالة أو هداية مصيبة أو بلية أو كارثة تجعلهم كمثل السابقين من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم هود.
وذكر الأيدي لأن أغلب الظلم والطغيان والجبروت يكون باليد، وليس المقصود بما قدمت أيديهم فقط، وإنما بما قدمت أنفسهم نطقاً باللسان أو اعتقاداً بالجنان أو عملاً بالجوارح.
قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [القصص:47].
فيعاجلوا بالعقوبة فيصيحوا: {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [القصص:47] أي: يا ربنا عجلت لنا العقوبة في شيء نجهله ولا نعلمه، فنحن لا نعرف كيف نعبدك وندين لك؟ ومن الذي يعلمنا؟ فلم ترسل لنا نبياً، ولله الحجة البالغة، وما أرسل الرسل مبشرين ومنذرين إلا لتكون الحجة له على البشر، وقد قال ربنا: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
قال تعالى: {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:47].
وهذا لو أن الله عجل لهم العقوبة، ولكنه لم يفعل؛ لتبقى الحجة له جل جلاله، ولكي لا يقولوا هذا ويعتذروا به، فإذا عوقبوا لا يقولون: هلا يا ربنا! أرسلت لنا رسولاً كما أرسلته للأمم السابقة والقرون الماضية.(151/2)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم الحق من عندنا)
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} [القصص:48].
أي: فلما جاءهم الحق من الله جل جلاله وأرسل لهم آخر الأنبياء النبي الخاتم الشامل العام بشيراً ونذيراً، كما قال الله: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص:48] وفي قراءة: (وقالوا ساحران تظاهرا)، وهما قراءتان سبعيتان.
فالله أرسل لهم ما طلبوا وتمنوا بقولهم: هلا أرسلت إلينا رسولاً، {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} [القصص:48] والحق هنا: هو النبي صلى الله عليه وسلم، أخذوا يعترضون ويصرون على الكفر، فقالوا: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص:48]، أي: لم لم يأت محمد بالمعجزات كما أتى بها موسى؟ ولم لم ينزل عليه القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى جملة واحدة؟ ولم لم يأتي بمعجزة العصا ومعجزة اليد ولم يفعل ما فعل موسى؟ فإذا بالقوم متنطعون معاندون لا يريدون إيماناً، وإنما يريدون الهزل والحجاج بالباطل والعناد والدوام على الكفر.
فقال لهم ربنا: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [القصص:48].
فالآن يقولون: موسى، وهل آمنوا بموسى من قبل؟ وعرب مكة والجزيرة لا يعرفون عن اليهودية والنصرانية شيئاً، وأنبياء بني إسرائيل لم يرسلوا إليهم، ولكن أرسلوا إلى بني إسرائيل، ولكن عندما ظهر النبي عليه الصلاة والسلام في هذه البطاح المقدسة أرسلوا إلى يهود المدينة، ولم يكن بمكة يهود ولا نصارى، فقالوا: أبلغكم ما يزعم هذا الرجل؟ قالوا: نعم.
وقد قرأنا في التوراة وفي الإنجيل أنه سيبعث نبي يكون آخر الأنبياء في آخر الزمان، فعندما سمعوا ذلك وقالوا لهم بأن موسى عليه نزل كتاب عليه، وكان وكان، فأخذوا يقولون: جاءنا محمد بغير ما جاء به موسى، فلم يأت بمعجزة كمعجزة موسى، فقال الله لهم: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [القصص:48].
فما أوتيه موسى من التوراة، هل آمنوا بها؟ وكيف لم يتذكروا الإيمان بالتوراة إلا الآن؟ قال تعالى: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص:48] أي: سحر التوراة وسحر القرآن، واعتبروا جواب اليهود تواطؤاً وتعاوناً مع النبي ورسالته عليه الصلاة والسلام، وكان اليهود قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كثرة متضافرين، وكانت لهم السيادة العلمية على الأوس والخزرج في المدينة، ففرحوا بمبعثه، وكانوا يظنون أنه لا يطلبهم أن يؤمنوا به، وأنه إنما جاء لمن لا كتاب له ولم يرسل له نبي من قبل، وقالوا: سنتعاون معه على احتلال الجزيرة وامتلاك العالم، فعاشوا سخفاء إلى أن سبقهم الحق ونبذهم وطردهم وألزمهم بالإيمان، فما آمن منهم مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا ما لا يكاد يعد إلا على الأصابع.
فعندما قال اليهود لقريش ذلك {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص:48].
أي: القرآن سحر، والتوراة سحر، والقراءة التي فيها: (ساحران تظاهرا) وهي قراءة نافع، أي: الساحر موسى كما قال عنه الكفرة من الفراعنة، ومحمد ساحر، كما كذبوا وزعموا، وحاشا نبينا وموسى من كل ذلك.
قوله: {تَظَاهَرَا}.
أي: كان بعضهم ظهيراً ومساعداً ومؤيداً ومؤازراً لبعض، فقالوا سحران تظاهرا ثم زادوا فأصروا، {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص:48] أي: بالتوراة والقرآن وبموسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
وزعمهم وقولهم: لم لا يكون عند محمد من المعجزات ما عند موسى قول سخيف من عقول سخيفة، وإلا فقد أتى نبينا عليه الصلاة والسلام من المعجزات بما تجاوز وسبق كل الأنبياء السابقين، فما من معجزة أتوا بها إلا وأتى النبي عليه الصلاة والسلام بمثلها وزيادة، وبأكثر منها صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام حدثته الدواب والحيوانات، وشكت إليه الجمال، وشكى إليه الذئب، وحن لفراقه الخشب وهو جامد يابس عندما ترك المنبر الذي كان يخطب عليه في المسجد النبوي، وكثر القليل في يده الذي لم يكن يكفي شخصين أو ثلاثة، فكفى الجيش بما فيهم العشرات والمئات، ونصره الله على عدوه نصراً عزيزاً مؤزراً، وموسى لم يأت من المعجزات إلا بالعصا واليد.
وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد خصصت كتب في معجزاته وخصائصه، ولقد كتب الإمام السيوطي رحمه الله كتاب الخصائص، فتجاوز بها مائتي خصيصة، كلها مما اختص به نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ولم يأت نبي قبل موسى أو بعده بالمعجزة الخالدة العروج إلى السماء من بيت المقدس سماءً سماء إلى سدرة المنتهى إلى أن كان قاب قوسين أو أدنى، ثم صلى صلى الله عليه وسلم بأرواح جميع الأنبياء، فكان ذلك إشارة بأنه إمامهم وكبيرهم وسيدهم صلى الله عليه وسلم، وهل تحدث موسى وكتابه عن العلوم والمعارف والحقائق الكونية والشرعية والحكمية كما تحدث عنها القرآن الكريم الذي أنزل على نبينا صلوات الله وسلامه عليه؟ ولكن العناد وصعود الران على القلب والخذلان من الله ترك هؤلاء يقولون ذلك.
على أن هذا الذي قالوه قد ذكره أكثر المفسرين عن كفار مكة، وقاله في عصرنا هذا المستشرقون من كفرة اليهود والنصارى والمجوس، وقبل ذلك قالوا: إن محمداً لم تكن معه معجزة، وكرروا كل ما ذكره القرآن عن الكافرين السابقين، وقد قال ذلك الفرس والروم والأحباش وكل ملل الكفر قديماً وحديثاً، والكفر ملة واحدة كما يقال، والواقع ينفي ذلك، والتاريخ المتواتر يذكر من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم ما لم يسبق له نظير من أحد من الأنبياء قط، لا الخليل إبراهيم، ولا الكليم موسى، ولا عيسى، ولا أولي العزم الخمسة من الرسل عليهم جميعاً سلام الله وصلاته.(151/3)
تفسير قوله تعالى: (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما)
قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} [القصص:49].
عندما قالوا هذا وتحدوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم في الحقيقة تحدوا ربهم وأساءوا الأدب معه وأنكروا كتابه ونبيه، بل والكتب والأنبياء السابقين جميعاً، فعندما قالوا: التوراة والقرآن سحران، وقالوا: موسى ومحمد ساحران، قال الله لنبيه: قل لهم يا محمد! {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49].
أي: يا هؤلاء! إن كانت التوراة والقرآن سحرين ونبياهما ساحرين فأتوا أنتم بكتاب من عند الله وادعوه أن يرسل لكم نبياً {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49]، أي: في أنكم تريدون البحث والنقاش والمجادلة لمعرفة الحقائق والوصول إلى التوحيد والإيمان، ولكنهم كذبة فجرة.(151/4)
تفسير قوله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم)
قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50].
أي: إن لم يأتوا بكتاب من عند الله هو أكثر هداية ونوراً وبصائر من التوراة والقرآن وأهدى من محمد وموسى عليهما السلام (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) أي: اعلم إنما يتبعون الأهواء، وهي جمع هوىً، أي: النزوات والأغراض والكلام بلا دليل ولا برهان ولا معنىً من عقل ولا نقل، وإنما يحملهم على ذلك الجهل والعناد والإصرار على الكفر.
قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]، هل هناك أضل وأكثر ضلالاً وكفراً وشؤماً وعناداً في الكفر والشرك ممن أضله هواه ونطق وسعى به وعاش بالنزوات وبالشهوات وبالباطل والضلال، وكل من ليس مسلماً في الأرض هو هكذا، فكلهم حيوانات عجماء، يعيشون بقراً، والبقر أشرف منهم، وحتى أولئك الذي يوسمون بالعلم والاختراع والفهم والتأليف، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، فهم في غفلة وضلال وكفر وفسوق، والدواب والحيوانات أعقل منهم وأفهم.
قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]، أي: اتبع الهوى بغير هاد من كتاب سماوي، أو هاد من نبي مرسل.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50] الذين لا يريدون الهداية ولا الإيمان، ويأبون إلا الشرك والكفر والعصيان، فيصعد الران على قلوبهم، وينقلب النور الذي في نفوسهم إلى ظلمة، إذا أخرج أحدنا يده لم يكد يراها من ظلمة هؤلاء وكفرهم وشركهم.(151/5)
تفسير قوله تعالى: (ولقد وصلنا لهم القول)
قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:51].
الله جل جلاله كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أصبر على الأذى من الله)، فهو يرزقهم وهم يكفرون به، ويمهلهم وينظرهم السنوات وعشرات السنين، والله يمهل ولا يهمل، فإذا أخذ الكافر لم يفلته، فيأخذ أخذ عزيز مقتدر، قال ربنا في هذه الآية: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} [القصص:51]، وصلنا: تابعنا، فهو أرسل الرسل من قبل على هؤلاء البشر منذ آدم إلى نبينا عليهم الصلاة والسلام، فقد أنزلنا القرآن وتابعنا فيه القول آية بعد آية، وسورة بعد سورة، وكلفنا نبينا وعبدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، فهو يأتي للآية فيفسرها ويؤولها ويشرحها بلغات مختلفة، ويقولها تارة بعبارة، وأخرى بعبارة، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قال الكلمة أعادها ثلاثاً؛ لتفهم عنه، وقد يقرأ الآية ويشرحها سواء في حضر أو في سفر أو في مجلس خاص أو في المسجد النبوي أو في ليل أو في نهار، لا يمل ولا يكل، وكان يقول: (إنما علي البلاغ وليس علي الهداية)، فالهداية بيد الله والبلاغ علي، فكان لا يكل ولا يمل، والله يقول جل جلاله: {وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} [القصص:51]، فوصل القول لكل الخلق والبشر، وتابعه آية بعد آية، ونبياً بعد نبي، وكتاباً بعد كتاب.
قال تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:51]، لعلهم يوماً يعون ويفهمون ويدركون ويقولون: لقد ظلمنا يوماً، وينتهزون حياتهم قبل مماتهم، وشبابهم قبل شيخوختهم، وغناهم قبل فقرهم، وبالتالي حياتهم قبل موتهم، وإلا فإذا وصلت الروح إلى الحلقوم، فلن ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً.
قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:51]، أي: تابع ووصل بعضه ببعض، وجعل بعضه في ذيل بعض، في كل وقت وزمن وعصر، وفي كل كتاب نزل من السماء، ومع كل نبي أرسل من قبل الله جل جلاله، ونبينا صلى الله عليه وسلم كلف بأن يزيد البلاغ والشرح والبيان، وقد فعل صلى الله عليه وسلم.(151/6)
تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله)
قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص:52].
فطائفة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبأنبيائهم من قبل، وآمنوا بالتوراة والإنجيل، ثم آمنوا بالقرآن، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [القصص:52]، وهذا يشمل اليهود والنصارى وكلهم بنو إسرائيل.
{هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص:52]، أي: يؤمنون بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم كذلك.(151/7)
تفسير قوله تعالى: (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به)
قال تعالى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:53].
وإذا يتلى عليهم القرآن وقد تلاه عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم آمنوا به وأعلنوا إيمانهم وقالوا: قد كنا مؤمنين به من قبل أن نراك ونسمعك، وقبل رسالتك والكتاب المنزل عليك وقد آمن من اليهود عبد الله بن سلام وجماعة معدودين على اليد، وآمن سلمان الفارسي وتميم الداري وكانا نصرانيين، وآمن جماعة من أرض جيزان، وآمن ملك الحبشة فأسلم هؤلاء، وكانوا من أهل الكتاب، وقالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: وجدنا صفتك، وكنا مؤمنين بك من قبل، وكنا مسلمين من قبل، ووجدنا اسمك يا محمد! وكتابك في كتبنا، وتحدثت إلينا أنبياؤنا عنك، وبشرونا بظهورك وبالوقت الذي ستظهر فيه في جبال مكة، وأنك ستظهر في آخر الزمان، ولذلك بمجرد أن ظهرت وطابقنا صفتك مع ما نعلمه من التوراة والإنجيل وجدنا الصفة تامة منطبقة عليك، فآمنا، وكنا من قبل نؤمن بأنك آت، وأنك مرسل، فآمنا بك وبالكتاب الذي سينزل إليك.
ولذلك عندما سمعوا القرآن وسمعوا عيسى يقول كما تلا القرآن: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، فهذا الوصف وجد في الإنجيل وفي التوراة، وبعض العلماء من الهنود له كتاب طبع أكثر من مرة جمع فيه النصوص من التوراة ومن الإنجيل ومن الزبور كما هي اليوم، وهي كلها تؤكد بشارة الله للقوم من قبل بظهور نبي في آخر الزمان، وصف بالحمد وبراكب الجمل، ولا يوجد في الأنبياء من اسمه محمد، أو أحمد، أو محمود إلا نبينا عليه الصلاة والسلام، على أن عيسى قد سماه وقال: أحمد، وأولئك حاولوا التحريف والتغيير، ولكن هيهات، فقد كانت الآيات في ذلك كثيرة، فحرفوا البعض وبقي الكثير مما يؤكد رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم في هذه الديار المقدسة.
وجاء في الإنجيل وفي التوراة: أنه سيظهر في جبال فاران، وجبال فاران هي جبال مكة، وقد وصف براكب الجمل، ولم يركب الجمل إلا هو عليه الصلاة والسلام، فلم يكن في بني إسرائيل ولا في أرض بابل والعراق التي ظهر فيها إبراهيم خليل الله عليه السلام جمال، ولكن الجمال عرفت في جزيرة العرب، وعرف العرب بها فهي صفة لازمة، فلم تكن هناك طيارات ولا سيارات ولا صواريخ ولا بواخر بحرية، وما كان إلا الجمل، ولذلك كان يسمى سفينة الصحراء، فكما يسافر الناس في البحار على السفن فإنهم يرحلون في البراري على الجمال.(151/8)
تفسير قوله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:54].
فهؤلاء الذين آمنوا بالقرآن وبالمنزل عليه نبينا عليه الصلاة والسلام قبل بروزه وبما جاء به كانوا في حقيقتهم قد آمنوا بكتابهم، وكتابهم اشتمل على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبالقرآن، ولذلك قالوا: كنا من قبله مسلمين، أي: قبل ظهور القرآن وظهور نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأن التوراة والإنجيل بشرا به.
ولذلك يقول نبينا عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى).
وعندما بشر الأقوام به قال: يأتي من بعدي رسول اسمه أحمد، {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] وهي صفات ونعوت لا تنطبق إلا على نبينا عليه الصلاة والسلام، وتلك الشدائد والحديد والأغلال الذي كان في شريعة موسى وعيسى عليهما السلام، أزيل ورفع كله، وجاء الإسلام بالجسد والروح، وجاء بالمادة كما جاء بالروح، وقال لنا: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32].
وعلمنا أن نقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة:201]، فلم يحرم دنيا، ولكنه جمع لنا بين الدين والدنيا، وأمرنا أن نطلبهما معاً، بما لا يفسد خلقاً ولا ديناً، ولا يهتك عرضاً، ولا يأكل مالاً، والدين لا بد منه، وهو معنا، ففي الصباح وفي الزوال وفي العصر وفي المغرب وفي العشاء نصلي لله، ونناجيه ونسجد بين يديه، ونخاطبه في الصلاة خطاب المفرد الذي زالت بيننا وبينه الكلف، فنقول له: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ونقول له: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6].
وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من السجود، فقمن أن يستجاب لكم).
فأقرب حالة بين العبد ومولاه هو هذا السجود، الذي نضع فيه الجباه والأنوف والركب والكفين ذليلة لله، وخضوعاً وتوحيداً له، ولا يليق أن يكون شيء من ذلك لأحد من الخلق، لا لنبي مرسل ولا لصحابي ولا تابعي.
ولما أراد معاذ بن جبل أن يسجد للنبي صلى الله عليه وسلم حيث رأى الروم تسجد لأباطرتهم منعه وقال: (لا يجوز السجود إلا الله، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لعظم حقه عليها)، فلم يأمره ولم يأذن له.
وقال: (لو كنت آمراًَ لأمرت المرأة)، ولو حرف امتناع لامتناع، فهو لم يأمر وبالتالي فلا سجود، وهكذا شريعتنا جاءت بالتوحيد الخالص وبالعبادة الخالصة لله، التي لا تجوز أن تكون لعبد بشراً كان أو إنساً أو جناً.
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص:54].
(أولئك) أي: الطائفة من أهل الكتاب التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ودخلت عليه إلى مكة المكرمة - والسورة مكية - فجاءت إلى مكة فسمعت الحق والوحي وكلام الله وبيان رسول الله عليه الصلاة والسلام، وآمنت بمجرد السماع، ودمعت عيناها، وفاض قلبها إيماناً ورحمة، فأخبروا النبي عليه الصلاة والسلام: إننا قبل لقائك كنا مؤمنين بك؛ لأن كتبنا التوراة والإنجيل بشرت بك ووصفتك وذكرتك، كما جاء في الكتاب المرسل إليك، فنحن قبل ذلك كنا مسلمين ومؤمنين، فقال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص:54] المرة الأولى لإيمانهم بكتبهم ودينهم السابق، والمرة الثانية لإيمانهم بالنبي اللاحق صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وفي الصحيحين قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: كتابي آمن فهو يؤجر لإيمانه بكتابه ونبيه السابق، ويؤجر لإيمانه بي وبالقرآن الكريم وبالإسلام، وعبد عبد ربه وأطاع سيده يؤجر مرتين، لعبادته لله، ولطاعته لسيده)، حتى لقد قال أبو هريرة: والله لولا أمي وبرها، ولولا الجهاد وأجره، ولولا الحج وكون الإنسان يخرج منه كيوم ولدته أمه، لعبدت نفسي ولتمنيت أن أكون عبداً؛ لأوجر مرتين، ولكنه لم يفعل؛ لأنه يريد أن يبر بأمه وكان باراً بها، ويريد الحج ويريد ويريد.
قال صلى الله عليه وسلم: (ورجل كانت له أمة فعلمها وأدبها وغذاها وأحسن تربيتها، ثم أعتقها وتزوجها)، فله أجر على كونه أعتقها وأدبها ورباها، وله الأجر الثاني على كونه بعد ذلك لم يتركها سبهللاً ضائعة، فتزوجها وصانها وحفظها.
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:54]، صبروا على الدين الأول بما فيه من شدة وبلوى وأغلال وصعوبة، وصبروا على الإيمان بالدين الجديد من جهاد وبذل روح وعطاء وزكاة واجبة ومستحبة ونفقة واجبة، فهم مأجورون أجرين؛ لأنهم صبروا مرتين على الدين القديم والجديد.
قال تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [القصص:54] أي: يدفعون، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، أي: ادفعوا الحدود.
قال تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد:22]، أي: يدفعون بالحسنة فيفعلونها ويقومون بها ويمحون السيئة والمعصية السابقة والشرك السابق، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)، أي: إن ارتكبت السيئة عمداً أو جهلاً فحتى تتوب ويغفر لك فأسرع بحسنة بعدها، فعسى تلك الحسنة أن تمحو السيئة، وخالق الناس بخلق حسن، أي: كن معهم خلوقاً ومهذباً ومتحملاً.
قال تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص:54]، فينفقون من أموالهم فرائض وزكوات ونفقات وإحساناًً وصدقات.(151/9)
تفسير سورة القصص [55 - 57]
لما أنزل القرآن على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبعث رحمة للعالمين كان قد بشر به في كتب الأقدمين، وقد جاء وفد النجاشي من الحبشة فآمنوا به وصدقوه وأقروا له بالرسالة وأنه صاحب البشارة، فآتاهم الله أجرهم مرتين، وكفر به أقرباؤه من قريش، والهدى بيد الله.(152/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه)
قال جل وعز: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].
يشهد الله سبحانه لمن آمن من أهل الكتاب بنبيه وبالكتاب المنزل عليه، ثم آمن بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وبالكتاب المنزل عليه، وأخبر أن له أجرين ومقامين، وأثنى عليه الله بأنه مع إيمانه ينفق مما رزقه فيؤدي الزكوات الواجبة وزكوات التطوع، ويؤدي النفقات الملزمة، والنفقات السنة.
ثم يقول الله جل جلاله عنهم كذلك: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) واللغو: الباطل، وما ليس بحق، وهو السفه والكلام الذي لا يقوله مؤمن مهذب صالح.
سبب نزول هذه الآيات التي جاءت في نسق واحد: أن النبي عليه الصلاة والسلام جاءه إلى مكة المكرمة وفد من عند النجاشي الذي آمن بنبي الله وبدينه وبالكتاب المنزل عليه، ويقول له: لولا عملي في دولتي لجئت فغسلت رجليك ولأقمت بين قدميك، ودخل وفد النجاشي مكة، ووجد النبي عليه الصلاة والسلام في المسجد الحرام، وفي المسجد جماعة من الكفار كـ عبد الله بن أمية بن المغيرة وأبي جهل بن هشام وآخرين.
فجاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وسألوه عن هذا الدين الجديد وعن فرائضه وسننه وعما يدعو إليه، فدعاهم لعبادة الله الواحد، ودعاهم لبقية الفرائض والأحكام وأن يكونوا عند طاعة الله في كتابه، وطاعة النبي عليه الصلاة والسلام، فدمعت أعينهم وقبلوا ذلك، وأعلنوا إيمانهم، وقالوا: لقد كنا من قبل مسلمين، إذ وجدنا صفتك ونعتك في الإنجيل، وحيث قال الله عنهم: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6].
فكانوا قد آمنوا بما في الإنجيل وبما فيه من ذكر أحمد والتبشير به، وأنه سيكون آخر الأنبياء والرسل، فما كانوا يحتاجون إن أدركوا عصره إلا أن يعرفوا عينه ويسمعوا رسالته، فيؤكدوا إيمانهم به، وكما آمنوا به عندما بشر به عيسى في الإنجيل آمنوا به كفاحاً ووجاهاً، وأصبحوا مجددين للدين الحق الخالد دين الإسلام، وإذا بـ أبي جهل يقوم إليهم ويقول لهم: يا خيبة لكم من وفد جئتم رواداً لقومكم، سائلين عن هذا النبي وعما يقول، وإذا بكم تركتم دين آبائكم وصدقتموه لأول مرة، فيا قبح ما جئتم به! فقالوا له: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] أي: لا نسافهكم ولا نشاتمكم، نحن أعلم بمصالحنا وأعلم بما يجب علينا، ولن نكون سفهاء مثلكم، فأثنى الله عليهم لهذا، وقال عنهم: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55] أي: لم يجيبوا عنه، ولم يكونوا سفهاء كأولئك الذين تسفهوا وجهلوا، وقالوا الباطل ظلماً وعدواناً تنفيراً عن الإسلام والإيمان وتنفيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص:55].
أي: لا تسألون عنا ولا نسأل عنكم، لكم دينكم ولنا ديننا، أعمالنا نحن أعلم بما نفعل منها وما ندع وأعلم بما ينفعنا، وأنتم أعلم بدينكم وشرككم ووثنيتكم.
ثم قالوا: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [القصص:55] أي: ليس سلام تحية، ولكن سلام ترك وهجران وبعد، وقالوا لهم في ذلك: لكم منا السلام والأمان، لن نشتمكم ولن نطاردكم، ولن نكون سفهاء مثلكم، فقد هذبنا الدين وعلمنا الإسلام، وكنا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، إذ رأينا العلامات التي ذكرها الإنجيل والتوراة وذكرها الأنبياء السابقون فصدقناه وآمنا به، ونحن بذلك مغتبطون، ولله حامدون وشاكرون.
قوله: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] أي: لا نريد الجهلة السفهاء، الذين يأبون إلا شتم الناس وسبابهم، فإن كنا ضيوفاً في بلدكم في بيت الله الحرام، وأبيتم إلا الشتم والسباب فلن نشتمكم ولن نخرج عن آداب ديننا الذي دعا إليه محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه الإشادة من الله بهؤلاء معناها: أنه هكذا ينبغي للمسلم ألا يشاتم ولا يتسفه، وكان من صفة النبي عليه الصلاة والسلام في التوراة والإنجيل أنه ليس بسباب ولا صخاب في الأسواق، وهكذا فإن قريشاً تشتمه وتقول وتقول، وهو لا يجيبها، بل استمر في طريقه إلى أن نصره الله النصر العزيز المؤزر ففتح مكة، وطرد كفارها ومشركيها ونشر الإسلام في جميع جزيرة العرب، فمن أسلم فالخير له، ومن أبى إلا الكفران عرض للسبي وللقتل والطرد، وباء في الدنيا بالذل والهوان، ولعذاب الآخرة يوم القيامة أشد وأنكى.
وهذه الآية مثل قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72] يصف الله المؤمنين الصالحين الذين يأبون إلا الفضل والنطق بالصلاح والعمل للخير، ولا يريدون أن يكونوا سبابين شتامين.
فقوله تعالى: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] أي: ابتعدوا عنا، قد شتمتمونا فهنيئاً لكم ذلك وهنيئاً لنا ديننا وإيماننا بمحمد، واكفروا أنتم بما شئتم، فنحن قد آمنا في غبطة وسرور وحمد لله وشكر.(152/2)
تفسير قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت)
{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
ليست وظيفة النبي والرسول الهداية، إن الهداية بيد الله يهدي من يشاء، وإنما وظيفة الرسل البلاغ والدعوة وتلاوة القرآن عليهم ونشر الأحكام كما شرعها الله جل جلاله، فعليهم بيانها وتفسيرها بحاله ومقاله؛ بأن يفعل ذلك أولاً في نفسه وهو أول المسلمين وأول المرسلين، فهو أول ما أرسل أرسل لنفسه، فهو رسول للناس ولنفسه، فجميع ما أمر الناس به من فرائض ونوافل وأركان وأحكام كان هو المأمور بها أولاً، ثم بعد ذلك أمر بها الناس، ولذلك كان المصطفى عليه الصلاة والسلام رسول نفسه أولاً، ثم هو رسول الناس جميعاً.
قال الله له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56].
أي: ليست الهداية بحبك ولا بإرادتك، وليست بوظيفتك، وإنما على الرسل البلاغ، وأنت منهم يا محمد لم تطالب بالهداية، ولكنك طولبت بالبلاغ والبيان وإسماعهم القرآن حتى يعلموه ويدركوه.
وقد ذكر الله في هذه الآية المنطوق والمفهوم، فالمفهوم من الفقرة الأولى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] أي: ليست الهداية لك، بل هي لله، ثم صرح بالمفهوم فأصبح منطوقاً، فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وهذا كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272].
والإيمان هداية القلب، فمن أكرمه الله وأسعده وفتح قلبه لسماع الحق، ولدخول النور اهتدى، ومن أصم أذنيه وأعمى قلبه وأتبع ذلك بصيرته ضاع عن الإيمان والإسلام وعاش سبهللاً كافراً.
فقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
أي: الله أعلم بمن يهديهم ويصلحهم، فهذا يستحق الكفر لفجوره وفسوقه، لم يرد حتى الحوار ولا السؤال، ولم يفتح أذنيه لكلمة الحق، وهكذا كان حال من دعاهم في مكة وجزيرة العرب، وهكذا كان حال رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نشروا الإسلام خارج حدود الجزيرة، فعم الإسلام الكون مشارقه ومغاربه، ولم يطل ذلك أكثر من نصف قرن حتى كانت أعظم دولة في الأرض هي دولة الإسلام، فقد كانت شرقاً من بلاد السند، وغرباً إلى عمق أوروبا وأسبانيا والبرتغال وفرنسا وما بينهما شمالاً وجنوباً، ولم يتجاوز ذلك نصف قرن، فأصبحوا أئمة الناس ومعلميهم وحكامهم، والآمرين لهم والناهين، يقتلون من شاءوا بأمر الله، ويحيون من شاءوا بإذن الله، فنصر الله بهم الحق والإيمان، فالهداية لله وليست لأحد، والأنبياء خلفاؤهم هم الخلفاء الراشدون؛ وخلفاؤهم كذلك العلماء، فالعلماء ورثة الأنبياء، وما كان الخلفاء الراشدون إلا علماء بالله عارفين بكتابه وبنبيه وسنته.
قال تعالى: (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي: أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، وأعلم بمن لا يستحقها وليس أهلاً لها، ولذلك فإن الكفار الأول في مكة المكرمة سمعوا القرآن فاستنكروه؛ لأنهم لا يعرفونه لجهالة وضلالة سابقة، ولكنهم لم يعادوا نبي الله، ولم ينصبوا من أنفسهم أعداءً لله ولرسوله، فهؤلاء مع الأيام آمنوا وأسلموا، أما من كان عدواً لرسوله كـ أبي لهب وأبي جهل وأمثالهما من صناديد كفار مكة فهؤلاء آذوا وعتوا ونفروا عنه، فلم يختم الله لهم الحياة إلا بسوء الخاتمة، ولذلك يقول ابن تيمية عن كل من تعرض للإسلام ولمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلة الأدب قولاً أو حالاً أو نفساً: لا يختم له إلا بشر، ولا يختم له إلا بسوء الخاتمة، وفسر بذلك قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95].
وحكى من ذلك قصصاً وروايات وأحداثاً في أعظم كتبه على الإطلاق الذي طبع أكثر من مرة وهو كتابه (الصارم المسلول على شاتم الرسول) فقد قال: شاتم الرسول -أي: قليل الأدب مع الرسول بالقول أو بالإشارة أو بالتعريض- يقتل إجماعاً، ولو قال: أنا تائب، فـ أبو لهب وأبو جهل وهؤلاء الذين تصدوا بعداوتهم لله ولرسوله وللإسلام ختم الله لهم بسوء الخاتمة، وهكذا كل من يتعرض للإسلام ويتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختم له إلا بالشرك وسوء الخاتمة، ونعوذ بالله من الخذلان.(152/3)
سبب نزول قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت)
هذه الآية كان سبب نزولها عم النبي عليه الصلاة والسلام أبا طالب، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فقد كان أبو طالب شديد الحب للنبي عليه الصلاة والسلام وشديد الخدمة له مدة سنوات النبوءة في مكة المكرمة، وهي اثنتا عشرة سنة وأشهر، كان مع النبي عليه الصلاة والسلام المنافح والمدافع والحريص على حياته وعلى ألا يؤذيه أحد من كفار قريش، وبذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام محفوظاً من كفار قريش حرمة لعمه أبي طالب الذي بقي على دينهم، وطالما أشاد بالنبي في قصائد بليغات، هي من عيون الشعر ومن عيون اللغة تدرس في المدارس والجامعات، ويتعلم منها البلاغة والفصاحة ومفردات اللغة العربية وجملها، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم حتى عند من لم يسلم بعد.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يسلم عمُّه ويهتدي، ولطالما دعاه وألح عليه، وأبو طالب يأبى أو لا يجيب، إلى أن احتضر أبو طالب فدخل عليه ابن أخيه صلى الله عليه وسلم، فقال له: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها يوم القيامة عند الله) أي: يشهد له بأنه موحد وبأنه مات مسلماً، وكان بحضرته الشيطان المفسد الخبيث أبو جهل، وكان عنده كذلك عبد الله بن أمية بن المغيرة وكلاهما من أعداء الإسلام وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أكل الحقد قلوبهم والعداوة نفوسهم.
فعندما أخذ يقول هذا لـ أبي طالب، أخذا يقولان له: يا أبا طالب! أتتبع دين ابن أخيك أتترك دينك ودين آبائك أتترك دين قريش؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول له في حرقة وألم: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله يوم القيامة)، وإذا بآخر كلمة يقولها أبو طالب: يا محمد! والله لولا أن تقول قريش أني قلتها جزعاً من الموت لأقررت بها عينك، ومات.
وإذا بالنبي يقول له: (والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)، فأنزل الله في شأنه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113]، فأوقف الاستغفار، والأمر أمر الله، والخلق خلق الله ما شاء فعل، ثم نزل قوله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] والقصة في صحيح البخاري ومسلم، ولولا قداسة الصحيحين وثقة رجالهم لحاولنا البحث في الأسانيد، ولكن البخاري له جلالته، ولـ مسلم كذلك جلالته، ورجال أسانيدهما قد تجاوزا العقبة ثقةً وعدالةً وضبطاً وإيماناً ودعوةً إلى الله، فلو حاولنا أن نطعن في أسانيدها بلا دليل ولا برهان لكنا كبعض الفرق الضالة؛ لأننا إذا حاولنا أن نهدم البخاري ومسلم لتوصلنا بذلك للقرآن، ولا يفعل ذلك مسلم، ولكننا نعيد ونقول ما قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
توفي أبو طالب في السنة الثامنة من البعثة النبوية، وفي نفس السنة كذلك توفيت أم المؤمنين خديجة رضوان الله عليها، فاشتد حزن رسول الله عليه الصلاة والسلام، اشتد حزنه ثلاث مرات: مرتين على أبي طالب، ومرة على خديجة، وسمى هذا العام عام الحزن؛ مرتين: على أبي طالب وعلى موته، وكان باراً به، وقد نشأ في بيته وفي حضانته، وكان الأب الثاني له بعد أبيه عبد الله، وجده الثاني بعد جده عبد المطلب براً وعنايةً وتنشئةً وعطفاً واهتماماً.
ثم بعد أن دعاه للإسلام لم يسلم، ولكنه كان باراً به حريصاً على راحته، ينافح عنه ويدافع عنه، ولما قاطعته قريش ثلاث سنوات كان أبو طالب مع الصباح والمساء يأبى هجرانه والابتعاد عنه، ويأبى إلا أن يدافع عنه، فحزن لموته عليه الصلاة والسلام؛ لأنه عمه، والعم: صنو الأب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، وزاد حزنه أكثر حيث لم يهتد للإسلام، ولم يقل بالكلمة التي أمر بها الخلق كلهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فكان حب أبي طالب للنبي عليه الصلاة والسلام ليس حباً شرعياً، ولكن كان حباً طبعياً، كما يحب الإنسان ابنه وابن أخيه، والبار به وتلميذه ومحبه والحريص على خدمته، وهذا لا يكفي، إذ لابد أن يكون حب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرجة الأولى.
ولذلك نحن أيضاً نحزن لحزن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا نستطيع أن نفعل أكثر من ذلك، وأكد هذا مرة أخرى، إذ سئل عليه الصلاة والسلام فقيل له: حب أبي طالب لك وخدمته لك ومنافحته عنك أتنفعه يوم القيامة؟ قال: (نعم، هو الآن في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، ولولا ذلك لكان في قعر النار)، ومعنى هذا: أنه وإن خفف عنه فهو في النار.
ولذلك يقول ربنا جل جلاله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56].
ويقول جل جلاله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، ومجال القول ضيق أمام الأدلة والنصوص.(152/4)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا)
قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57] وقرئت: (تجبى إليه) فهي قراءتان سبعيتان متواترتان، قال كفار مكة -والسورة مكية- كنا نؤمن بك يا محمد! ونحن نعلم أنك جئت بالحق ولم نجرب عليك كذباً حتى في شئون الدنيا، فلا يمكن أن تكذب على ربك، ولكن إيماننا بك ليس فيه مصلحة لنا.
وهكذا تقول العقول السخيفة الضالة، يقولون ما لا يعقلون وما لا يفهمون، فقد خافوا أن يطردوا من مكة وهو خوف لا محل له وكذب وبهتان، ولم يخافوا لعنة الله وغضبه، ولم يخافوا خلودهم في النار، {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57] أي: إن نؤمن بدينك ونتبع دعوتك ونقل قولك نتخطف من أرضنا.
وقولهم: (مَعَكَ)، يعني: أنهم على هدى، ولكنهم تركوا هداية محمد، وهذا من تمام السخافات والضلالات.
قولهم: (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) أي: نخطف ونخرج ونطرد وتحتل بلادنا، ومعنى الذي يقولون: أن جميع جزيرة العرب والعالم كله لن يؤمنوا بك ولن يصدقوك ولن يعتبروك نبياً ولن يعتبروا ما جئت به كتاباً لله وكلاماً له، فنحن لو تحدينا العالم جميعاً وآمنا بك لقاتلونا عن قوس واحدة، ولاختطفونا من أرضنا وأخرجونا من بلادنا ونحن أعجز من أن نقاتل جميع العرب، بل جميع الناس في الأرض، فالله كذبهم وسخف عقولهم فقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص:57].
فهؤلاء في الوقت الذين يقولون لك ذلك مكنا لهم، أي: أسكناهم في مكة، وهي الحرم الذي يحرم به السفه والجرم والسرقة والاختطاف والإيذاء، وكان هذا في أيام الجاهلية، فجميع العرب تحترم مكة وتحترم سكانها، فلا سرقة فيها ولا فساد، ولا أكل مال بباطل، فكيف يدعون هذا؟ وهل يكونون آمنين وهم على جهالة وكفر بالله وضلال عن دينه، حتى إذا وحدوا وأسلموا واهتدوا ينقلب الأمان خوفاً، وينقلب الحرم أرضاً مفتوحةً لكل غاز؟ وهذا الكذب بعينه.
فقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ} [القصص:57] أي: نجعلهم متمكنين من مكة، سكاناً وحكاماً وسادة وقادة، وبذلك هم سادة العرب وحكامهم، والمرجع لهم جميعهم، فكيف مع هذا يدعون أنهم يمكن أن يختطفوا أو يهجم على مدينتهم أو تحتل أرضهم؟ فقوله: (أَوَلَمْ) استفهام إنكاري توبيخي تقريعي، ينكر الله عليهم دعواهم أنهم لم يؤمنوا خوفاً من أن تهجم عليهم العرب ويختطفوهم ويسرعوا بالقضاء عليهم ويحتلوا مكة بلدتهم، فكان
الجواب
( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ) أي: قل لهم يا محمد! (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا) أي: آمناً من السوء ومن السرقة ومن الاعتداء، وهم في الجاهلية على شركهم لا يعبدون إلا الأصنام.
قوله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57] تجبى إليهم أي: تجمع وتصدر وتورث، فيأتيهم ثمرات كل شيء من كل الأرض من المشارق والمغارب، من رحلات الصيف والشتاء، من أرض الشام الخصبة ومن الجزيرة نفسها، ومن الطائف ومن اليمن، وهي أرض خصبة، ومن المدينة المنورة إذ هي أخصب من مكة ببساتينها وزروعها وثمارها، ومن جميع الأرض أيضاً.
وهذه الفقرة في هذه الآية من المعجزات التي في عصرنا، فقد كان ذلك خبراً لأولئك، ولكن نحن جئنا بعد نزولها بألف وأربعمائة عام، ولا تزال هي هي، ونعلم وكل ساكن في هذه البلاد أن منافع الأرض الملبوسة والمفروشة والمأكولة والمترفة بها توجد في هذه الديار المقدسة في أرض الحجاز الشريف، ويؤتى بها من مشارق الأرض ومغاربها، والحجازي جالس ولا يتكلف لها بكبير شيء حتى تصبح بين يديه، وتصله فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وتأتيه أفضل الألبسة كان ذلك في الجاهلية واستمر الأمر في الإسلام وإلى الآن، وقد مضى على القرآن 1400 سنة، والأمر لا يزال هو نفسه؛ إذ تجبى إلى مكة ثمرات كل شيء من كل أرض وبقعة.
فقوله تعالى: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا): أي: أولم نسكنهم ونملكهم أولم يتمكنوا تمكن التملك والسلطان والمقام، فهذا الحرم الآمن مكة المكرمة حرم الله صيدها وقطع شجرها، والفسق والظلم فيها، والظلم يعتبر ظلماً خارج مكة، أما في مكة المكرمة فالظلم ظلمان والجريمة جريمتان، حتى لقد قال علماؤنا: إن الصلاة في بيت الله الحرام بمائة ألف صلاة، والغرم بلغ مائة ألف غرم، وكذلك السيئة بمائة ألف سيئة، وهذا قول ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما، وخوفاً من أن تأتي السيئة فتجرف معها الحسنة بكل أعدادها ومئات آلافها، أبوا إلا أن يسكنوا الطائف بعيدين عن الحرم حتى تبقى السيئة سيئة واحدة، فيأتون إلى مكة كل جمعة لصلاة الجمعة وهم لا يتكلمون، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]، فلا يأتون إلا للذكر والمذاكرة، وتلاوة قرآن والصلاة، ثم يعودون إلى بلدتهم، وكل يعرف مقام عبد الله بن عباس حبر القرآن الصحابي الجليل، الواسع العلم، مرجع جميع المفسرين ممن أتى بعده، وكل تفسير إذا لم يقل عن ابن عباس فهو تفسير لا مرجع له ولا سند له، وهكذا قل عن عبد الله بن عمرو بن العاص الذي اختص بمزية لم يسبق إليها قط، وهو أنه كان يكتب كل ما يسمع من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وجمع ذلك في كتاب سماه الصادقة، فيه ألفا حديث، وقد أكدت فيما كتبته عن ذلك في تخرجي لأحاديث فقه الحنفية وهو مشهور ومتداول، بأن التدوين كان في عصر النبي عليه الصلاة والسلام وفي حياته، وذكر الصادقة ورد اسمها في كتاب سنن الدارمي الذي قيل عنه: هو سابع الكتب الستة، وعند جماعة من الأئمة يعدونه سادس الكتب الستة ويقدمونه على سنن ابن ماجه، هذا مع صلاح ابن عمرو بن العاص وعلمه وجلالته، ومع ذلك خاف على نفسه من المقام في مكة كثرة السوء والذنوب والمعاصي، وخوفاً من أن الحسنات تنهار كلها.
قال تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57]، ذكرت الياء بمناسبة كل، مع أن الثمرات مؤنثة بالتاء، وكل ما كان كذلك فليس التأنيث فيه حقيقة، ولذلك نزل الوحي في القراءات السبع: بيجبى وتجبى، تجبى لمراعاة الثمرات وتاء التأنيث، ويجبى لذكر كل شيء، أي: يجبى كل شيء ويجمع ويورث وأهل مكة جالسون وأهل الحجاز ينتظرون إفضال الله عليهم.
قال تعالى: (رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا) أي: نرزق ذلك أهل مكة والحجاز، فقوله: (رزقاً): مفعول مطلق منصوب.
قوله: (مِنْ لَدُنَّا) أي: من لدن الله، ومن عند الله كرماً وفضلاً منه، لمقام مكة في الإسلام، حيث كانت مسقط رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت المنزل الأول للوحي، وحيث كانت فيها هذه البنية المقدسة الكعبة المشرفة، التي طاف بها جميع الأنبياء؛ من آدم أبي البشر وأول الأنبياء إلى خاتمهم نبينا عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه.
قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57] أي: أكثر الناس لم يؤمنوا بالله، بل كفروا به ولم يعلموا هذا الحق، ولم يؤمنوا به، ولم يؤمنوا برسول ولا بكتاب ولا بآيات القرآن وما فيه من دلائل وبراهين قاطعة، ومعجزات تصدق المنزل عليه محمداً صلى الله عليه وسلم في كل ما قال.(152/5)
تفسير سورة القصص [58 - 63]
إن العتاة والمجرمين عادة ما يقابلون الرسل بالتكذيب والإعراض فيكونون سبباً لهلاك قراهم وأقوامهم الذين يضلونهم بغير علم، والله تعالى لا يهلك قرية حتى يقيم عليها الحجة، ثم يوم القيامة يجمع الأتباع والمتبوعين فيعذب الجميع.(153/1)
تفسير قوله تعالى: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها)
قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58].
هنا النذير والتهديد والوعيد لكفار مكة.
يقول تعالى: يا كفار مكة وغيرها من الكفار السابقين واللاحقين! لا تطغوا ولا تتجبروا، فكم من قرية بطرت معيشتها فأهلكناها، وبطر المعيشة: كفر النعمة، والتعاظم بها والتكبر بما أنعم الله به على الإنسان.
والإنسان عندما يغنى ويكون صغير العقل ضعيف الدين يطغى بماله وبما رزقه الله وأنعم عليه، فكان من الواجب عليه أن يشكر الله على ذلك ويزداد شكراً وحمداً ونشراً للنعمه التي أنعمها الله عليه، فيعطي منها المستحقين من آل وفقراء ومحتاجين وسائلين، فالله وصف المؤمنين فقال عنهم: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24]، وقال أيضاً: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19].
أما الذين إذا أغناهم الله ورزقهم وأوسع الله عليهم يبطرون ويحصل لهم تيه بالمال وعلو وفساد في الأرض، وكبرياء وجبروت، تكون نهايتهم أن المال لم يكن إلا فتنة وابتلاء، فلم يشكروا الله عليه، فحري أن يسلبوه في الدنيا ويعاقبون على ذلك يوم القيامة، وقد قال ربنا جل جلاله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، فمن يشكر النعمة تزدد عنده وتكثر لديه، ومن يجحدها ويكفر بها ولا يعط المستحقين منها ويمنع حقوق الله من زكاة ونفقات في ماله فقمن بأن يسلب النعمة وتزول وكأنها لم تكن، ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء.
فقوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)، أي: تعاظمت بها وتاهت وتجبرت ودخلها طغيان بمالها والنعم المحيطة بها، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7].
فالإنسان يطغى إذا رأى نفسه قد استغنت، وذلك عندما يكون ضعيف العقل قليل الدين.
قال تعالى: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} [القصص:58]، ماذا صنع الله بها؟ أهلك أهلها فماتوا وانتهوا، قطعت سلالاتهم وخربت دورهم وسلبوا النعمة في الدنيا، فلا ذرية ولا أحد يأتي بعدهم يقول: كان أبي كذا رحمه الله، أما الصالح والمتصدق والمنفق مما أعطاه الله، يطلب من الفقراء والمساكين، وممن استفادوا بماله، أن يذكروه بخير وأن يترحموا عليه، ماداموا في الوجود ويتسلسل ذلك.
ومن بقاء وتمام النعمة والشكر عليها أن يرزقه الله أولاداً صالحين، وابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، منها: ولد صالح يدعو له، فيقول: كان أبي، وعلمني أبي، وأنفق علي أبي، فيترحم عليه بعد موته، ويكون ذلك من عمله وفي صحائفه.
ومن ذلك أيضاً: العلم ونشره لساناً وكتاباً، ونحن الآن نذكر الأئمة الأربعة والسلف الصالح وشيوخنا ونترحم عليهم وندعو لهم؛ لأنهم خلفوا العلم ونشروه وتركوه في الكتب والصحائف، فتعلمناه منهم أباً عن جد، وشيخاً عن شيخ، فترحمنا على السابقين، وذكرناهم بخير؛ وكان ذلك نتيجة إحسانهم، ونتيجة إيمانهم وعدم بطرهم، لا بعيش من حيث المال ولا بعيش من حيث العلم، فلم يبطروا لا بهذا ولا بهذا.
والمسكن: الدار، فمساكن جمع مسكن، فهذه المساكن الموجودة في جميع بقاع الأرض قد خربت وبادت، وقد كانت يوماً مساكن لملوك ومترفين ولنساء ولرجال ولشباب ولقوة ولمال ولرفاهية، أين هي؟ ذهبت في أمس الدابر وكأنها لم تكن، وصب الله عليهم العذاب، بالزلازل والصواعق الإغراق.
وتلك المساكن سُكنت قليلاً؛ لأنه قد يكون المسافر والرحالة إذا مر عليها يحتاج إلى ماء وراحة واستظلال بسقف أو حائط أو شجرة، فيجد هذه البيوت الخاوية فيدخلها ساعة أو ساعتين من اليوم، وإن أطال بات ليلة ثم ذهب، فكانت السكنة قليلة لعابري السبيل، ولمن لم يجعلوها سكناً ولم يتملكوها ولا حاجة لهم بها؛ لأنها مساكن من غضب الله عليهم وقضى عليهم وقطع دابرهم.
قال تعالى: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58] أي: خربت ولم تسكن ولم تورث.
ومعنى كونها لم تورث: لم يخلفوا أولاداً، وإن خلفوهم هلكوا معهم؛ فانقطعت الذرية والسلالة، فلو أنهم خلّفوا أولاداً لورث تلك المساكن الأولاد وأولاد الأولاد والأسباط والأحفاد ولكن انقطع الكل وكأنهم لم يكونوا، إذ كانوا فبادوا وأصبحوا ورقاً معلقاً يقص عنهم القاص: كان وكان وليس أكثر من ذلك.
فهذه الآية نذير ووعيد من الله جل جلاله لهؤلاء الكفار ولأمثالهم من كفار كل عصر وجيل، وكفّار كل جنس إذا بطروا النعمة واتخذوا منها تيهاً وجبروتاً وطغياناً على الخلق، فيوشك أن يسلبهم الله تلك النعمة فيذهبوا وتذهب دورهم ومساكنهم وما كانوا يتمتعون فيه، ويرث ذلك الله وحده ولا يبقى لهم ولد ولا سبط ولا حفيد.
وهكذا حدث لهؤلاء الذين ماتوا على الكفر انتهوا وبادوا وزالت الأملاك وأُعطيها غيرهم، ومع الأيام لم يذكروا إلا باللعنة والخزي، وفي الفتوح الإسلامية كم من مدن بأكملها وقرىً بتمامها ذهبت وخربت وبادت؛ نتيجة الكفر والعصيان وحرب الله ورسوله والمسلمين.(153/2)
تفسير قوله تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً)
قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59] يقول الله كرماً منه وفضلاً وعدلاً: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص:59] وهذه كقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} [القصص:59] أي: أهلها وسكانها من الكفار؛ ما كان الله ليهلكهم وهم صالحون مؤمنون، حتى ولو كانوا ضالين كافرين لا يفعل ذلك ما لم يرسل في أمها -أي: في أم تلك القرى- رسولاً، فالله ذكر القرى وأمها، فأم القرى هي مكة المكرمة، فهي أم الدنيا منها كانت الدعوة للهداية، ومنها برز سيد الخلق، وفيها ترعرع ونشأ صلى الله عليه وسلم، وفيها دعا الناس للإيمان به وبرسالته، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] ولها أوجب على كل إنسان في الحياة أن يأتيها مرة في العمر حاجاً وطائفاً وساعياً وواقفاً في عرفات وبائتاً في منى ليلتين أو ثلاثة، ومن لم يفعل ذلك وقد قدر عليه وأُعطي الزاد والراحلة يقول النبي عليه الصلاة والسلام عنه: (إن شاء مات يهودياً أو مات نصرانياً) ويكون قد ترك ركناً من الأركان الخمسة، ويُستحب إن استطاع أن يُعيد الحج مرة عند كل خمس سنوات، للحديث الوارد في مسند الإمام أحمد.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} [القصص:59] أي: لم يكن ربك يا محمد! ليهلك أهل القرى والمدن والناس، وتُذكر دائماً المدن؛ لأن شأن سكان المدن هم الأشراف والكبار، وهم الذين يعلمون البدو والأعراب، وهم الذين يستطيعون تلقي الوحي والرسالة ليعلّموها بدورهم من هو أصغر منهم عقلاً وأقل منهم علماً وفهماً، وخاصة أولئك البدو والأعراب.
أما لو نزل الإسلام بين البدو والأعراب لما فهموا ولما أدركوا، وقلما يحصّلون، فهم يحتاجون إلى التعليم من كبرائهم وكبراء بلدتهم وكبراء الدنيا من المؤمنين، وهكذا فعل الله، ومن هنا سُميت أم القرى، فهي أم المدن ومعناه: عاصمة الدنيا، ولا شك أنها عاصمة الدنيا، إذ لا يتم إيمان مؤمن ما لم يأت إليها طائفاً ساعياً واقفاً نائماً في منى، فإن كان قادراً فقد أخل بركن من الأركان وأنذره النبي عليه الصلاة والسلام إن ترك ذلك وهو قادر عليه بأنه: إن شاء مات يهودياً أو نصرانياً، أي: ليس بمسلم.
فقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص:59] كقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] ولذلك فإن العرب الذين لم يُرسل إليهم نبي لا يعذبون إلا من أدرك الرسالة المحمدية والدعوة النبوية، فأبى الإيمان وأبى إلا الجحود فهذا عصى عن علم وسابق تقدير؛ فهذا هو الذي يُعتبر كافراً ويُعذّب؛ لأن الله قد أرسل إليه؛ والعرب لم يُرسل إليهم أحد إلا نبينا عليه الصلاة والسلام والذين سبقوه بقرون وآلاف من السنين لم يُرسل إليهم ولم يبعث لهم ولم ينطق بلغتهم، فكان أنبياء بني إسرائيل لا يخاطبون بالإيمان إلا بني إسرائيل؛ وهكذا قل عن جميع الأمم والشعوب الذين أُرسلت إليهم رسل وأنبياء، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].
قال تعالى: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص:59] أي: يبلّغهم كتابه وأحكامه وآياته ودلائله وبراهينه، والمعجزات التي تُصدِّق ذلك الداعي بأنه نبي من الله.
ثم قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59] وقد أكّد الله هذا المعنى في الآية مرتين: ما كنا لنهلك أهل قرية لم يُرسل إليهم، فنحن نُرسل إليهم ومع ذلك لا نُهلكهم إلا إذا كانوا ظالمين أي: مشركين كافرين، ومن سوى ذلك لا يُهلك؛ لأنه لم يُرسل إليه.
ولذلك في سؤال القبر يأتي منكر ونكير ويُلقى الميت في قبره فيسألانه: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ فإذا قال: لا أعلم يقال له: ألم يُرسل لك رسول؟ يقول: قد قالوا ذلك، إذاً: لم لا تؤمن به؟ فتكون حجة الله البالغة عليه، ويكون قد كفر عن علم وبلاغ فاستحق العذاب، فيُعذّب روحاً في قبره إلى أن يُعذّب بعد ذلك يوم القيامة جسداً وروحاً.
فقوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59] أي: إلا وهم مشركون كافرون، والظلم إذا أُطلق لا يُطلق في القرآن إلا على الشرك.(153/3)
تفسير قوله تعالى: (وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا)
قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:60].
يخاطب الله الكافرين والجاحدين والعصاة بقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [القصص:60] أي: من مال ورفاهية وشباب وقوة، ليس كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا وزينتها تتمتعون به متاعاً مؤقتاً، كأكلة أكلتها صباحاً فقذفتها مساء، كشباب كان بالأمس كذلك مضت عليه سنوات ثمَّ انتهى بالشيخوخة وانتهى سواد الشعر بالشيب، وانتهت الحياة بالموت، ولا يبقى إلا الله، فالدنيا دار زوال وفناء بما فيها وبما عليها.
قال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:60] أي: ما عند الله يوم القيامة من جنان خالدات وحور عين ورؤية لله جل وعزّ؛ فذلك أبقى وأدوم ولا يفنى.
فيقول الله: (أفلا تعقلون؟) أي: أليست هناك عقول؟ {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] خير لأنه أدوم وأبقى وألذ، ولذائذه كما وصفها القرآن، والنبي عليه الصلاة والسلام: فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
يقول ابن عباس: كل ما ذُكر من سمة للحور العين والفواكه والأطعمة والطير واللحم ليس فيه من الدنيا إلا الأسماء، فما عند الله يوم القيامة هو فوق ما يظن الظّان ويخطر على باله، من متع دائمة ولذائذ باقية وسعادة لا تنتهي ليلاً ولا نهاراً، فهي الظل الممدود وهي الحياة الدائمة التي لا موت بعدها أبداً.
فقوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:60] أي: أليس لكم عقول تفكرون بها؟(153/4)
تفسير قوله تعالى: (أفمن وعدناه وعداً حسنا فهو لاقيه)
قال تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61].
استفهام إنكاري تقريعي أي: أيهما أحسن؟ هذا الذي وعدناه منا وعداً حسناً، وعدناه إن أنت آمنت وأسلمت وأصلحت فيوم القيامة لك من الخير والرضا والجنان والقصور والحور العين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أهذا خير أم ذاك الذي متّعنا متاع الحياة الدنيا وعاش في الدنيا ليأكل ويشرب كما يأكل ويشرب الحيوان؟ فشأن المؤمن والعاقل في الأرض أن يأكل ليعيش، والحيوان يعيش ليأكل؛ ولذلك وصف النبي عليه الصلاة والسلام بأن الكافر يأكل بسبعة أمعاء، إذ لا يكتفون بمرتين في اليوم أو ثلاث مرات، لكنهم يأكلون خمس مرات ولا تكاد تجدهم إلا يأكلون، وما دامت المعدة صالحة فهو يأكل، حتى إذا فسدت وخربت وما عادت تهضم إذ ذاك يأكل بالحمية والجوع، فإذا زاد على الأكل بما لم يسمح له به الطبيب أضر بنفسه وقد يتعرض للموت، وأخطر من الموت أن يعيش سنوات مريضاً مهملاً مشلولاً أو لا يكاد يتحرك، نسأل الله اللطف والسلامة.
قوله تعالى: {فَهُوَ لاقِيهِ} [القصص:61] أي: سيلقى ما وعدناه به، وسنفي له بالوعد ونحقق له المبتغى، قال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] فهو مستقبله ومحصّل له وسيكون له يوماً.
قال تعالى: {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [القصص:61] أي: هل هذا أحسن أو ذاك الذي متّعناه في الحياة الدنيا بطعام وشراب ثم انتهى طعامه وشرابه وانتهى هو أيضاً؟ {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61] فبعد هذه المتعة غير الدائمة وهذا الطعام الذي لا يفيد سيفنى ويموت، ويكون يوم القيامة من المحضرين للحساب والعقاب ولعذاب الله ودخول النيران؛ فهو يحضر ليُعذَّب وليُحاسب: لمَ لم تؤمن؟ لم أصررت على الشرك؟ ألم يرسل إليك رسل؟ ألم يقُل لك علماؤك؟ ألم تقرأ كتاب ربك؟ ألم ألم، فيجد نفسه عاجزاً عن الجواب؛ لأنه قد رأى النبي أو سمع به وأبى إلا التكذيب والكفران، واغتر بجاهه وسلطانه وماله ومتع فرجه وبطنه وظهره، فما أوصله ذلك إلا للعنة والخراب ولعذاب الله يوم القيامة.(153/5)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون)
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62].
يؤتى بهم يوم القيامة ويناديهم الله، أو يكلّم الله من يناديهم من الملائكة، فيقال لهم: أين ما كنتم تزعمون وأنتم في دار الدنيا من شركاء لي؟ لماذا لم يدافعوا عنكم؟ ولماذا لم يحموكم؟ ولماذا لم يرزقوكم الجنة؟ ولماذا لم يزيلوكم من بين أيدينا؟ أي: يحاسبون حساباً عسيراً.
وتقول السيدة عائشة رضوان الله عليها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن نوقش الحساب عُذِّب) فإذا حوسب المرء يوم القيامة يُحاسب عن النقير والقطمير، وعلى ما أكل وشرب ونطق، والله قد قال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
فالكافر يُحاسب على الذرة من شره وبلائه وكفره، والمؤمن يغفر الله له الكثير، وذلك أنه إذا توضأ ذهبت ذنوبه مع الماء، وإذا مضت الجمعة إلى جمعة أخرى وجدد التوبة تاب الله عليه ما سبق منه في تلك الجمعة، فإن ارتكب ما عسى أن يرتكب ثم تاب إلى الله وأناب وأوفى الوعد مع ربه ولم يعد لتلك الذنوب غفر الله له.
أما الكافر مهما استغفر فلن يُغفر له؛ لأنه لا مغفرة لكافر، ولذلك فإن الذنوب تزداد والآثام تزداد فيُحاسب يوم القيامة على النقير والقطمير وعلى الذرة.
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [القصص:62] أي: يوم القيامة ينادى الله هؤلاء ويدعوهم ويحاسبهم، وتدعوهم الملائكة بأمر الله، وما أمر الله به فهو قوله وفعله جل جلاله.
قال تعالى: {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62].
أي: أين أولئك الشركاء؟ أين مناة؟ أين اللات؟ أين من كنتم تعبدونه من الجن والحشرات والبشر كـ ماركس ولينين، وأمثال هؤلاء الأقذار الأوساخ المشركين، الذين يجب أن تُقدّس الأماكن المحترمة عن ذكرهم؟ ولكن الله ذكر الكثير من هذه الأسماء عظة وعبرة؛ لكي يتلافى الناس ذلك ويبتعدوا عنه.(153/6)
تفسير قوله تعالى: (قال الذين حق عليهم القول)
قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص:63].
أي: أولئك الذين كانوا يعبدون الشياطين والإنس وأئمة الضلالة وزعماء النار.
فقوله: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ} [القصص:63] أي: وجب عليهم العذاب، فإذا بهم يتبرءون، فتسوقهم الملائكة مسحوبين على وجوههم إلى النار، فيقول هؤلاء: {رَبَّنَا} [القصص:63] أي: يا ربنا {هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} [القصص:63] أي: أضللنا وأفسدنا، وأبعدناهم عن الأنبياء والإيمان بهم، فهؤلاء {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص:63] فلن يستطيعوا الانتقام من الله، ولكنهم ينتقمون من أمثالهم، فكما ضلوا وغووا وأفسدوا وكفروا يقولون: لم نُعذب وحدنا؟ فينطلقون إلى البشر فيغوون ويضللون ويكفرون، وهكذا شأن أئمة الضلالة زعماء النار الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} [القصص:63] أي: هؤلاء الذين نحن أغويناهم وأضللناهم، لم أغويتموهم؟ قالوا: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص:63] لأنهم هم غووا وضلوا وكفروا وفسدوا وأرادوا أن ينتقموا من هؤلاء؛ لأنهم لن يستطيعوا أكثر من ذلك فأغووهم وأضلوهم وكفّروهم وأفسدوهم، قالوا: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} [القصص:63] أي: تبرءوا منهم كما قال ربنا في آية أخرى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:166] فالذين اتُّبعوا هم أئمة الضلالة يتبرءون من الذين اتبعوهم، وهكذا قول الله أيضاً: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص:63].
أي: كانوا ضلالاً وكفّاراً يعبدون أهواءهم ويعبدون فروجهم وبطونهم وظهورهم، إنما نحن دفعناهم للفساد والضلال والكفر {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص:63].(153/7)
تفسير سورة القصص [64 - 73]
إن المشركين الذين يتخذون من دون الله شركاء قد خسروا أنفسهم، فإن الله يسألهم يوم القيامة ويكلفهم أن يدعوا شركاءهم فلا يستجيبون لهم، ثم يسألهم ماذا أجبتم المرسلين فلا يستطيعون الجواب، حينئذ يعلمون أن الله هو الخالق المتصرف يخلق ما يشاء ويختار.(154/1)
تفسير قوله تعالى: (وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم)
قال الله جلت قدرته: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [القصص:64].
الكلام لا يزال على هؤلاء الكفرة الذين أصروا على العصيان والجحود والنكران، إذ يقال لهم يوم القيامة: أين شركاؤكم الذين كنتم تدعون في دنياكم من دون الله؟ ادعوهم لينصروكم، ادعوهم ليؤازروكم ويخرجوكم من عذاب الله وغضبه ولعنته.
قوله: (قيل) أي: تقول الملائكة لهم ذلك عن أمر الله.
قال تعالى: {فَدَعَوْهُمْ} [القصص:64] أي: دعوا الشركاء، وإذا بالشركاء يتبرءون منهم ويكفرون بشركهم ويقولون لله: إنا برآء منهم، فقوله: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [القصص:64] أي: لم يجيبوهم ولم يلتفتوا لهم.
{وَرَأَوُا الْعَذَابَ} [القصص:64] وهنا رأوا عذاب الله ولعنته في دخولهم للنار جزاءً وفاقاً على شركهم.
قال تعالى: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [القصص:64].
أي: ودّوا إذ ذاك لو أنهم اهتدوا في دار الدنيا كي لا يروا عذاباً ولا يدعوا شركاء، وودوا لو يحصل لهم ما يحصل للمؤمنين التائبين.
والجواب مقدّر، أي: ولو أنهم كانوا يهتدون لما رأوا عذاباً ولما دخلوا ناراً ولا عوملوا معاملة الجاحدين الكافرين، فالله يقص علينا حال الكفار يوم القيامة عندما يقومون للعرض عليه جل جلاله، ماذا سيكون لهم ويقص ذلك على الكافرين لعلهم يتوبون ويئوبون، ويقص ذلك على المؤمنين ليزدادوا إيماناً.(154/2)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يناديهم) إلى قوله: (فهم لا يتساءلون)
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65].
أي: يوم يأمر الله الملائكة فتدعو كل واحد باسمه، فيقال لهم: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] أي: عندما جاءت رسلكم وأنبياؤكم ودعوكم للإيمان بالله وعدم الشرك والكفران، ودعوكم إلى الإيمان بما جاءت به كتب الله من أوامر ونواهٍ، وحلال وحرام، ماذا كان جوابكم لهم؟ وسبق أن قال ربنا في الآية السابقة: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62] فالسؤال هنا سؤالان، كسؤال الملائكة للميت في القبر، إذ يكون السؤال أولاً عن الله ووحدانيته: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62] ثم يسألون ثانية: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] أي: وماذا كان جوابكم للرسل عندما جاءوكم؟ هل استجبتم وأطعتم وحللتم ما أحلوا وحرمتم ما حرموا؟ وهكذا الميت عندما يُدفن في القبر يأتيه الملكان فيسألانه، فأول سؤال يسألانه: من ربك؟ ثم بعد ذلك يسأل: من نبيك؟ فإن أجاب جواب المؤمنين المسلمين سئل بعد ذلك عن الصلاة والزكاة وبقية الواجبات، فإن لم يجب رأى العذاب والمحنة، وإن أجاب رأى الرحمة والرضا؛ وهكذا يوم القيامة يُعاد
السؤال
أين ما كنتم تزعمون من دون الله؟ ثم يسألون مرة أخرى: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65].
فيكون الكافر أخرس لا جواب له؛ لأنه لم يوحد الله بل أشرك به ولم يستجب للرسل في دعوتهم، بل كفر بهم.
قال تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص:66].
فالجواب عن السؤال يوم القيامة عن الله وعن الإيمان برسل الله تعمى عليهم وتضيع، والأنباء: الأخبار، أي: لا يستطيعون خبراً ولا نبأً ولا جواباً؛ لأنه لا جواب عندهم، فإنهم سيذهلون عن السؤال، إذ لو أجابوا فلن يكون جوابهم إلا أنهم أشركوا بالله ولم يستجيبوا لرسل الله.
قال تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} [القصص:66] أي: ضلوا إلى أن أصبحوا عمياً، وأصبحت الأنباء والأخبار عنهم في عمى وضياع فلا جوا ب منهم ولا خبر يستطيعون الجواب فيه لله أو لملائكة الله.
قوله: {يَوْمَئِذٍ} [القصص:66] أي: يوم القيامة، يوم العرض على الله.
قوله: {فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص:66] أي: فلا يسأل بعضهم بعضاً، ولا يستخبر بعضهم بعضاً إذ ليسوا في موضع جواب ولا موضع سؤال، وإذا سُئلوا لم يجيبوا لما هم فيه من ذهول الكفر والمحنة والغضب واللعنة من الله، فالله يقص هذا في حال الدنيا على الكافرين لعلهم يتوبون ويذكرون حال الكافرين السابقين لمن لا يزال حياً؛ ليستدرك حياته قبل موته فيتوب إلى الله ويئوب.(154/3)
تفسير قوله تعالى: (فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين)
قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص:67].
أي: من تاب في دنياه من الشرك وعمل صالحاً وقام بالأركان والواجبات فصلى وصام وحج وزكى وقام بما عليه من أوامر وترك ما نُهي عنه من نواهٍ، وتاب من الكفر وصدّق بالله وبرسله وبكتبه، فمن جاء هكذا يوم القيامة فهو من المفلحين كما قال تعالى: {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص:67].
و (عسى) من الله موجبة وللتحقيق، أي: يكون يومئذ مفلحاً وفائزاً، ويكون يومئذ من القوم الذين يرضى الله عنهم ويقبل توبتهم في الدنيا، حتى إذا أقبلوا عليه جازاهم برحمته وجنته.(154/4)
تفسير قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار)
قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68].
يقول جل جلاله عن هؤلاء الذين أشركوا من دون الله إنه ليس لهم خلق ولا أمر ولا اختيار، فالرب هو الذي انفرد بالخلق والحياة والرزق فالخيرة له والأمر له والخلق له، ولا يحتاج لشريك ولا معين ولا مؤازر، والكل عبد لله صاغر في الدنيا والآخرة، لا شريك له في صفات سبحانه ولا في أفعال ولا في ذات، جل عن أن يوصف بما يوصف به الخلق، وجل عن أن يُشبّه بخلقٍ من خلقه، هو الله الواحد الذي لا شبيه له في ذات ولا صفة ولا فعل.
قال تعالى: {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68].
والخيرة: اسم للاختيار، فليس لهم أن يخلقوا وليس لهم أن يختاروا بين الخلق، فلله الاختيار ولله الخلق والأمر، والله قد توحّد وتنزّه وتعالى عمن أشركه به اليهود والنصارى والوثنيون والمعطّلون، فكلهم كفرة فجرة فسقة.
ويكاد جميع التلاوات السبع في القرآن تقف على قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] ثم تستأنف: {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] وقلة أيدها شيخ المفسّرين محمد بن جرير الطبري، فوقف على قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] فجعل (ما): اسماً موصولاً مفعولاً به، أي وربك يختار لهم ما فيه خيرهم؛ وهذا كلام جعلوه هكذا، فتأيد به مذهب الاعتزال الذي يقول بالأصلح والأكمل، وهو كلام في الأصل لا حقيقة له ولا وجود له وليس له علاقة بالعقائد، فرسول الله فضلاً عن الله جل جلاله يقول تعالى عنه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
إذ لا خيرة لأحد مع رسول الله فهو صاحب الأمر والنهي، والحلال والحرام المبلّغ عن الله جل جلاله، فإذا كان ذلك من رسول الله العبد المخلوق النبي الرسول الكريم فما بالك من الله؟ فالله يخلق ما يشاء، فليس لأحد اختيار قط، فما هنا: نافية وليست باسم موصول ولا تُعرب مفعولاً.
فنقول كما قال ربنا: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) قف إذ تم الكلام، ثم استأنف الكلام: {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] أي: لم يكن الاختيار لمن أشركوا به من دون الله ولا لهؤلاء الذين يُشركون، لا لملك مقرب ولا لنبي مُرسل، فالكل لله انفرد بالخلق والأمر والاختيار؛ وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي التلاوة كما وردت في القراءات السبع.
ومن هنا سبّح الله نفسه ونزّهها وعظّمها، فهو يعلمنا كيف نعرف الله ونمجده فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68] أي: تنزّه ربنا وتعالى وانفرد بالخلق والاختيار والأمر، وتنزّه وتعظّم عن شرك المشركين وكفر الكافرين وغثاء الجاهلين.
فقوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ} [القصص:68] أي: أنزِّه الله والله ينزِّه نفسه عن أن يُشبه أحداً من خلقه أو يُشبهه أحد من خلقه، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4].
قوله: {وَتَعَالَى} [القصص:68] أي: تعاظم وتقدّس وتنزّه {عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68] أي: عن شركهم وشركائهم ملائكةً كانوا أو أنبياء، شياطين كانوا أو إنساً، جمادات كانوا أو حيوانات؛ فكل أولئك الذين أشركوهم المشركون مع الله هم أقل من أن يكون لهم خلق أو أمر أو اختيار، فالله الواحد الذي انفرد بالخلق والأمر والاختيار؛ ومن هنا علّمنا صلى الله عليه وسلم أننا إذا أقدمنا على شيء ونحن لا نعلم الخيرة في شيء - هل يكون ذلك لخيرنا وصالحنا؟ أو يكون ضرراً علينا - أن نستخير الله تعالى، ونطلب منه أن يختار لنا ما فيه خيرنا وصلاحنا! وفي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة كما يعلّمنا السورة من القرآن، أي: أن نستخير ونطلب خيرة الله واختياره لنا، فالغيب لا يعلمه إلا هو، والمستقبل لا يعلمه إلا هو، يقول جابر: كان يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن ويقول - أي: النبي عليه الصلاة والسلام - (من هم بأمر فليصل ركعتين سوى ركعات الفريضة وليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم إنك أنت علّام الغيوب، اللهم إن كان هذا الأمر (ويسميه) خيراً لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري عاجله وآجله فاقدره لي ويسّره لي ثم بارك لي فيه، وإن كان هذا الأمر شراً لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري آجله وعاجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ورضّني به).
وقال علماؤنا: والاستخارة ينبغي أن تكون في كل شيء فيما أنت متردد فيه، أتفعل أو لا تفعل! أتصاهر أو لا تصاهر! أتشارك أو لا تشارك! أتعمل أو لا تعمل! أما ما وجدته في نفسك إقبالاً وميلاناً وعزماً {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] ولا تكون الخيرة والاستخارة إلا عند التردد والحيرة.
وقالت عائشة رضوان الله عليها: كان نبي الله عليه الصلاة والسلام يُكثر أن يقول عند كل أمر: (اللهم خر لي واختر لي).
وقال أنس رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من هم بأمر فليستخر الله سبع مرات، حتى إذا وجد من قلبه انشراحاً للأمر فليفعله) وليس الأمر متوقفاً على رؤيا أو ما أشبه ذلك، وإنما هو متوقف على الانشراح القلبي، فما انشرح له قلبك فذاك، وما لم ينشرح فاتركه، وقد تكون رؤيا ولكن ليس ذلك ضرورياً، ولا الاستخارة متوقفة عليها، وقالوا: يصلي ركعتين فيقرأ في الأولى الفاتحة وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، وفي الثانية يقرأ الفاتحة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].
وقال قوم: يقرأ في الأولى الفاتحة وهذه الآية الكريمة: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68] ويقرأ في الثانية الفاتحة وقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] ألا يكون لهم خيار ولا أمر، هذا مقبول وهذا مقبول، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد ماذا تقرأ وإنما هذا استحبه العلماء، وإنما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليصل المستخير ركعتين من غير الفرائض) وعقب الركعتين يدعو الله بهذا الدعاء وينتظر الانشراح الذي سيلهمه الله إياه وينشرح به خاطره، وقد تكون رؤيا ولكن ليس هذا من اللازم.(154/5)
تفسير قوله تعالى: (وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون)
قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:69].
هؤلاء الكفرة يعلم الله جل جلاله ما تكنه صدورهم وتكتمه، وما يتكلمون به من كفر ونفاق وانطواء على شر، كما يعلم ربنا جل جلاله ما تنطوي عليه السرائر والضمائر من خير وإيمان، إذ يعلم كل ذلك من المؤمن وغيره والكافر وغيره، قوله: {وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:69] أي: يعلم الذي يُعلنونه مع غيرهم في المجالس العامة أو في كتابة أو خطابة أو أي نوع من أنواع الإعلان.(154/6)
تفسير قوله تعالى: (وهو الله لا إله إلا هو)
قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [القصص:70].
أي: لا شريك له ولا ثاني له، وكل من أشرك به أتى بالزور والباطل والكذب والبهتان، وليس له على ما أتى سلطان ولا دليل لا من عقل ولا من منطق ولا من نقل، إن هي إلا خزعبلات وأباطيل، أتوا إلى حجارة لا تضر نفسها ولا تنفعها فضلاً عن أن تضر غيرها أو تنفعها، أتوا إلى خلق من خلق الله ملائكةً أو رسلاً أو بشراً أو جناً أو حيوانات، فجعلوها شركاء لله وهي جميعها لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً، والكل عبد لله خاضع لجلاله تحت أمره ونهيه، ومن أحياه عاش ومن أماته ذهب إلى أمس الدابر.
فقوله: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [القصص:70] أي: هو المعبود بحق، الواحد الذي لا ثاني له وكل ما عداه مما قال الكاذبون وافترى المبطلون وكرره المشركون ليس ذلك إلا باطلاً وكذباً وزوراً وبُهتاناً، فلا إله معبود بحق إلا هو المنفرد بالألوهية والربوبية له الخلق وله الأمر والاختيار، وهو المحيي والمميت.
قال تعالى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ} [القصص:70] أي: له الحمد المطلق في الأولى: في الدنيا، يحمده الناس على ما رزقهم سبحانه فالمؤمن يحمده ويشكر على حمده، والكافر يأبى ونعمة الله متجلية عليه ظاهرة وباطنة من صحة وشباب وحواس ورزق وحياة وعطاء، والواجب أن يُحمد الله الفاعل لكل ذلك المتمنن والمتفضّل بكل ذلك.
قال تعالى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ} [القصص:70] أي: وله الحمد يوم القيامة كذلك على ما أعطى عباده المؤمنين الصادقين من جزاء بدخول الجنة ورحمة ورضا حتى إنه ابتدأ الأمر بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] وانتهى بقوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10] فنبتدئ الحياة منذ أن ندرك ونحس بوجودنا ونستشعر بأنه جل جلاله الخالق الرازق المحيي المميت؛ وهكذا نبقى مدة حياتنا، حتى إذا عُرضنا عليه مرة ثانية وأكرمنا الله برحمته ورضاه تكون آخر دعوانا مرة أخرى: الحمد لله رب العالمين.
ومن هنا فرض علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون الفاتحة المبتدأ بها كتاب الله والمبتدئة بالحمد، وتقرأ باستمرار في جميع الركعات فرائض ونوافل، للإمام والمأموم والفذ، فأول ما نقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] أي: الحمد الكامل لله رب العالمين، فهو ربهم وإلههم وخالقهم وذو الفضل والمن عليهم.
قال تعالى: {وَلَهُ الْحُكْمُ} [القصص:70] فهو الذي يفصل بين العباد يوم القيامة إما إلى جنة وإما إلى نار، وهو الذي يفصل بين الأديان والأحزاب والملل والنحل، فيقول لهذا: أصبت ويقول لهذا: لم تصب، على أن ذلك قد أرسل به الرسل وأنزل عليهم الكتاب بذلك، ولكن المتشككين الكافرين الذين لا يؤمنون بالغيب ويأبون إلا الجحود والكفران عندما يرون ما كان إيماناً بالغيب شهوداً وحضوراً، ويرون العرض على الله يوم القيامة، وقد كانوا في دنياهم يُنكرون ذلك، ويرون الجنة والنار بأعينهم وكانوا في الدنيا منكرين لذلك، يعلمون أنه له الحكم إذ ذاك، فهو الحاكم الذي سيفصل بينهم، ويحكم لهذا بالجنة ولهذا بالنار.
قال تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70] أي: رجوعنا لله، فقد جاء بنا الله جل جلاله خلقاً من خلقه وسنموت دهراً ثم نعود إليه يوم القيامة؛ ليحاسب المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته.(154/7)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً)
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71].
يعيد الله ويذكر لنا علامات ودلائل وبيّنات وجلال قدرته، وأنه القادر على كل شيء، فيقول: يا محمد! قل لهؤلاء: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القصص:71] أي: إذا جعل الدنيا كلها والزمن كله ليالي لا نهار فيها ولا ضياء ولا شمس، إذا جعل الكون كله ظلاماً لا شمس ولا ضياء ولا نور ولا نهار.
{مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} [القصص:71] يعني: هل هؤلاء الذين أشركتموهم بي يستطيعون أن يأتوكم بالنهار أو يأتوكم بالشمس، أو يستطيعون أن يأتوكم بالنور والضياء؟
الجواب
لا، وكلهم أقل من ذلك وأعجز، فالذبابة لا يستطيعون خلقها، بل إذا أخذت الذبابة منهم شيئاً لا يستطيعون أن يختطفوها منها، وكما قال ربنا جل جلاله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] فالمطلوب هو المشرك به من دون الله وهو ضعيف ضائع، والطالب ذلك من غير الله ضعيف ضائع، وإذا سألت فاسأل الله، فوحده القادر على كل شيء جل جلاله وعلا مقامه، فلو أن الله جعل سنيَّ الدنيا كلها ليلاً، لا ضياء فيها ولا نهار ولا شمس ولا نور، فهل هذه الآلهة المزيّفة الباطلة تستطيع أن تُنجزكم وتغيثكم وتجعل لكم ضياء ونوراً؟
الجواب
لا، وكلهم أعجز من ذلك.
قال تعالى: {أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71] سماع فهم وقبول وإدراك، فقد عدّهم الله كما وصفهم أكثر من مرة بأن لهم آذاناً لا يسمعون بها، وإذا سمعوا لا يعقلون ولا يدركون ولا يعون.(154/8)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً)
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:72] أي: قل لهؤلاء المشركين الذين يعبدون الأحجار: لو أن الله جل جلاله جعل الدنيا والسنوات كلها نهاراً وضياءً وشمساً فهل آلهتهم المزيّفة تستطيع أن تأتيهم بليل يسكنون فيه ويجدون راحتهم وهدوءهم واستقرارهم من عذاب النهار وتعبه ومشاقِّه؟ الجواب باستمرار: لا، وليس ذلك إلا لله وحده القادر على كل شيء.
قال تعالى: {أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:72] أي: أليس لكم بصائر! لم يقل: (أعين) هذه المرة؛ لأن العمى عمى البصر {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] وقد تجد الإنسان مفتّح العينين، لكنه أشد عمى من الأعمى؛ لأن البصيرة عمياء لا تُبصر ولا تُدرك ولا تفهم ولا تعي ما يقال لها، لا بما رأته عيناً ولا بما سمعته أذناً ولا بما أحسّته ببشرتها.
فقوله: {أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:72] استفهام إنكاري توبيخي تقريعي؛ لأن الليل جُعل للسكن والراحة، لتهدأ الروح والحواس، وجُعل النهار للأعمال فتتعب الروح والحواس وتتعب الأيدي والأرجل، فلو لم تسترح هذه الحواس وهذا الجسد وهذه الروح فإنها مع الأيام تهلك وتموت؛ وهكذا لو كان الليل باستمرار ولم تُشرق الشمس فسيكثر أمراض البيت، وتكثر أوبئته، ويكثر فساده، والجسد إذا لم ير الشمس ويسطع عليه نورها وتمسه شعاعاتها يمرض ويكل، والنبات كذلك إذا لم ير الشمس وتشرق عليه فإنه يذبل ولا يكاد يُعطي ثمرة، والليل كذلك، فإن ضياء القمر به يرى الإنسان نفسه ويرى النبات، وهكذا نرى البحار بين مد وجزر تأثراً بالقمر.(154/9)
تفسير قوله تعالى: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله)
جمع ذلك كله ربنا في آية ثالثة فقال: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73].
فمن رحمة الله بكم أيها الناس مؤمنين وكافرين! أن جعل لكم الليل وجعل النهار، وجمع بينهما ثم قضى عليهما معاً؛ لتسكنوا إليه ولتبتغوا من فضله، وهذا يقال له في علم البلاغة: الطي والنشر، وهو أن يُقال الكلام مسلسلاً ثم يأتي ما يناسبه.
قوله: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [القصص:73] أي: لتسكنوا لليل وتستريحوا فيه.
وقوله: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:73] وفضل الله هنا: الضرب في الأرض من تجارة وسياحة وزراعة وأعمال، ويكون ذلك في النهار، فالله جعل الليل للسكون والراحة ولاطمئنان الجسد واستقراره، ولاطمئنان الروح واستقرارها، وجعل النهار للأعمال والمشاقّ والتجارة والزراعة والضرب في أرض الله الواسعة جبالاً ووهاداً بحاراً وأجواء، والله عندما يذكر لنا ذلك ويعدده ويمتن علينا به، والشيء إذا تكرر تقرر، يعني: هل تكرار ذلك سيجعلنا نفهمه ونعي ونُدرك؟ ولعل الكافر منا يتوب إلى الله ويعود للإسلام، ولعل العاصي منا يتوب من معصيته، ويتذكر إفضال الله عليه فيتوب ويئوب ويعلم ذلك ويفهمه ويعمل بمقتضاه.(154/10)
تفسير سورة القصص [74 - 78]
يوم القيامة يكون الحساب ويخرج الأنبياء شهداء على أممهم ببلاغ الرسالات.
وإن الذين لم يؤمنوا باليوم الآخر قد بطروا وتكبروا، ومنهم قارون ذو الكنوز والأموال الطائلة، لكن ذلك لا ينفعهم شيئاً ولا يغني عنهم من عذاب الله.(155/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي)
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:74].
هذه الآية بنفسها تقدّمت معنا بالأمس قبل آيات مضت، وكررت هنا لزيادة التوبيخ والتقريع، وجاءت بعد تعداد نعم الله وقدرته من خلق الليل والنهار، واستراحة الناس في الليل وسكونهم، وضرب الناس في النهار وعملهم وتجارتهم وزراعتهم، فعاد فقال لهؤلاء المشركين عقب كل ذلك: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [القصص:74] أي: ينادي الله أو تنادي ملائكته عن أمر الله.
قال تعالى: {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:74].
أي: أين الذين زعمتموهم شركاء لله في ملكه وفي قدرته، هل يستطيعون خلقاً أو ملكاً أو اختياراً؟ هل يستطيعون خلق ليل أو خلق نهار؟ كلهم أعجز من ذلك! إذاً: لماذا لم يغيثوكم ولم ينقذوكم من عذاب الله ولعنته؟ فكل هذا يُقال في الدنيا لمن يسمع من الكفار علّه يتوب ويئوب، ويقول: رب اغفر لي قبل أن يموت.
وفي هذا المعنى يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك).
وإلا ضاعت على الإنسان حياته في البرزخ، فهي الطريق للآخرة، والمدرسة التي من نجح فيها أخذ كتابه وشهادته بيمينه يوم القيامة فكان من الناجحين والفائزين، والذي لم ينجح فيها إذ لم يوحّد الله ويعبده يأخذ يوم القيامة شهادة الخسران والرسوب بشماله فيدخل النار مع الداخلين.(155/2)
تفسير قوله تعالى: (ونزعنا من كل أمة شهيداً)
قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص:75].
أي: أخذ من كل أمة شهيداً؛ وشهداء الأمم رسلهم وأنبياؤهم، قال تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41].
يُخاطب الله نبينا بهذه الآية، وعندما تلا هذه الآية ذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم، فالله يوم القيامة عند مُحاسبة كل أمة وعند عرض أعمالها عليها يدعو نبيها وينزعه من بين أمته ويقول: اشهد، هل بلّغتهم؟ فلا يستطيعون النكران.
قال تعالى: {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [القصص:75].
أي: دليلكم على الشرك وسلطانكم على الكفر وبرهانكم على أن ما عشتم فيه في دنياكم كان حقاً وصواباً، قال تعالى: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} [القصص:75].
أي: علموا بعد فوات الأوان أن التوحيد هو الحق وأن الرسل هم الحق، أن الله هو الحق، وأن الكتب هي الحق، فاعترفوا بعد فوات الأوان يوم {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:158].
قال تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص:75].
أي: غاب عنهم افتراؤهم وكذبهم وضلالهم وشركهم وكفرهم ومعاصيهم، فكل هذا يعرضه الله علينا في الدنيا ولم يحدث بعد، ولكن لنعلم ونأخذ منه العبرة والدروس، حتى إذا جئنا إليه جل جلاله جئنا ونحن نعلم ما سيكون بعلم الله ووحيه وبلاغ رسله عليهم الصلاة والسلام، ولتكون الحجة البالغة لله، فلا يقول قائل منا: لم يأتني رسول! لم أسمع كتاباً! لم أسمع وحياً! بل سيكون أول
السؤال
من نبيك؟ هل آمنت بنبيك؟ فلن يستطيع أن يقول: لم أسمع بنبي، ولم أدرك نبياً، ولم يبلغني أحد عن نبي؛ وهنا يضيع عنهم كفرهم وكذبهم وبُهتانهم في الدنيا.(155/3)
تفسير قوله تعالى: (إن قارون كان من قوم موسى)
قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76].
هذه آيات استطرادية قيلت لكفر فرعون وملئه وكفر من كفر كفرهم وأشرك شركهم، فقد قص الله علينا قصة موسى مع فرعون صغيراً وكبيراً، نبياً وغير نبي، إلى أن ذهب فرعون مع الذاهبين وأخذه اليم وابتلعه مع جنوده جميعاً.
أما قارون فقد عوقب عقوبةً أخرى، وقارون لم يكن قبطياً ولا فرعونياً، بل هو إسرائيلي من قوم موسى، بل هو ابن عم موسى، إذ إن أبا موسى وأبا قارون أخوان شقيقان، وزعم قوم أنه عمه، وأجمعوا جميعاً أنه من بني إسرائيل، والقرآن يؤكد ذلك كما قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76].
فرغم كونه من قومهم وانتصر بانتصارهم بغى على بني عمه، وظلمهم وتكبّر عليهم، وتعالى بنفسه وأمواله وأرزاقه وسلطانه وبنفوذه وجاهه، وزعم قوم أن قارون آمن ثم أصبح منافقاً وهذا لا يدل عليه القرآن بحال، فالله أخبرنا أنه خسف به وبداره الأرض، ووصفه وصف الكافرين المشركين، ولم يخبر بأنه آمن يوماً حتى نقول: إنه آمن ثم نافق.
والمعلوم من سيرته أنه حسد موسى وهارون، وقال لموسى: يا ابن عم! أخذت النبوءة وسلكت معك أخاك هارون فما تركت لي؟ وكأن موسى هو الذي نبأ نفسه، وهو الذي أرسل نفسه! قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76] أي: رغم كونه من قومهم لكنه كان باغياً، والبغي: الظلم، فقد كان ظالماً متعالياً، ولم يكن أقل من فرعون طغياناً وجبروتاً.
وللمال طغيان وجبروت وبطر، وهكذا كان قارون يتكبر على قومه قبل غيرهم، بل كان متألباً مع فرعون وهامان على موسى وأخيه وقومه.
قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} [القصص:76] (ما) في موضع مفعول به، والتقدير: وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ الذي تعجز وتثقل حتى تتمايل يميناً وشمالاً العصبة أولو القوة، وهم الجماعة القوية الشابة المتكاثرة.
وقالوا: (العصبة): بين الثلاثة والعشرة، وبين العشرة والثلاثين، وبين الثلاثين والأربعين.
وقوله: {الْكُنُوزِ} [القصص:76] جمع كنز من الأموال بجميع أشكالها، ذهباً وفضةً وجواهر ولآلئ، وألبسةً وثياباً وحبوباً وأرزاقاً ومطاعم، قالوا: وقد كانت.
والمفاتح: جمع مفتح، وإذا قلنا: مفتاح، فالجمع مفاتيح.
قال تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} [القصص:76] (ما) اسم موصول يطلق على المذكر والمؤنث، فلو حملتها جماعة ذات قوة واقتدار لناءت ولأخذت تتمايل، ويثقل عليها حمل المفاتيح فقط، قالوا: وكان المفتاح في قدر إصبع، وكان من الحديد ثم حوله إلى الخشب، ومع ذلك كان في هذا الثقل، قالوا: وكان إذا خرج في زينته وجماعته، تبعه ستون بغلاً يحملون هذه المفاتيح للكنوز خاصة.
فقوله: {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76] أي: ظلم وتكبر وتعالى على أنبياء الله، ومن يتكبر على أنبياء الله يكفر مع أن قارون لم يدخل في الدين قط.
قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} [القصص:76] أي: لا يدخلك بطر ولا تتكبر علينا ولا تظلم ولا تظن نفسك شيئاً، لا مالك دائم، ولا حياتك باقية.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] أي: لا يحب الفرحين بالباطل والبغي والطغيان والفرحين بجمع المال من حله وحرامه، فذاك ما يكرهه الله ولا يحبه.(155/4)
تفسير قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة)
ثم قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77].
وهذا كلام المؤمنين الموحدين قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77] أي: هذه الكنوز والأموال التي أكرمك الله بها وأعطاك، ابتغ فيها وفي عملها وتوزيعها الدار الآخرة، فاجعل هذه الأموال للفقراء والمساكين والمحتاجين، ولأسرك وأقاربك ورحمك، ولأداء الحقوق الواجبة من زكوات، ولإجابة السائل الفقير المحتاج، واتخذها طريقاً للآخرة.
قال تعالى: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] ولم نقل لك: وزعها على الناس وانسَ نفسك، بل خذ حصتك منها حلالاً ليس حراماً، خذ من الحلال والطيبات ومما أباح لك الشارع.
وهكذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام رغم زهده في الدنيا، فقد كان يأكل الحلوى، ويأكل أنواع اللحوم، ويلبس من الثياب ما وجد، ومرة اشتريَ له ثوبٌ بمائة ناقة، وكان يستقبل به الضيوف والوفود، وكان له جوار وغلمان وزوجات ولكن كل ذلك كان نفقة لهؤلاء، وما فضل منها يكون للفقراء والمساكين وذوي الأرحام، فهو لم يحرم حلالاً، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32].
وإنما منع نفسه من أكل الضب، وقال: ليس بحرام؛ لأنه عافه وكرهه؛ ولأن قومه بمكة لم يكونوا يأكلونه.
وإنما منع نفسه من البصل والثوم لكراهته في رائحته، وقال: ليس بحرام: (ولكني أناجي من لا تناجون)، أي: يستقبل الوحي ويناجي ملائكة الرحمة وجبريل رسول الله إليه، أما غير ذلك فقد كان يأكل ما وجد، إن وجد اللحم أكله، وإن وجد التمر أكله، وإن لم يجد شيئاً صبر وصام عليه الصلاة والسلام.
وكان ينهى عن التكلف، كما قال سلمان رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نتكلف للضيف) أي: لا يتكلف لإيجاد مفقود، ولا يبخل بموجود.
فقوله تعالى: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] أي: خذ سهمك وحصتك من الحلال تزوج وكل واشرب من غير سرف ولا تبذير، ولا تشرب خمراً ولا تأكل خنزيراً، ولا تأكل حراماً، فقد أباح الله من المناكح والمآكل والمشارب والطيبات ما كان حلالاً طيباً، وما سوى ذلك فحرمه الشارع لمصلحة الإنسان نفسه، لما فيه من الضرر والأذية، ولما فيه من فساد هذا الجسم البشري.
قال تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77].
فقد أحسن الله إليك بهذا الغنى الواسع، فأحسن كذلك، أعط السائل والفقير، وأعطِ المحتاج والقريب والبعيد، وشارك في بناء المعابد والمساجد والمعاهد، واكسُ العريان وأطعم الجائع، واسق العطشان، وأعز الفقير بعطائك، وهكذا أحسن، وترك المفعول في قوله: أحسن لشموله وعمومه، أي: أحسن للخلق إنساناً وحيواناً، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (في كل ذات كبد حرى صدقة)، حتى إطعام الحيوان وإطعام الطير فيهما أجر وثواب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (دخلت امرأة النار في هرة، فلا هي أطعمتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، فهذا حيوان مستأنس داجن حبسته فجاع حتى مات فعوقبت بسبب ذلك بالنار.
وقال: (رحم الله بغياً رأت كلباً يلهث على رأس بئر في صحراء ما استطاع أن ينزل إلى الماء، ولا وجد الماء عالياً فيشرب منه، فجاءت وأخذت نعلها، وأخذت قطعة من ثوبها، وفتلتها حبلاً ثم سقت في تلك النعل ماء وأشربته إلى أن ارتوى، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فغفر الله لها)، ولذلك كان يقول عليه الصلاة والسلام: (من لا يرحم لا يرحم).
ورحمة الله سبقت غضبه سبحانه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (سبقت رحمتي غضبي).
ولذلك نبتدئ القرآن، ونبتدئ السورة بقولنا: (بسم الله الرحمن الرحيم) وهي آية في سورة النمل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، فهو الرحمن، وهو الرحيم، وهو من سبقت رحمته غضبه.
قال تعالى: {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77].
أي: لا تفسد في الأرض ولا تزهق الأرواح ظلماً ولا تأكل أموال الناس باطلاً ولا تأت على شجر فتقطعه للفساد، ولا تفسد على الناس مياهها وآبارها، ولا تنشر الفساد كأنه مذهب ودين، بل كن براً عطوفاً محسناً متصدقاً، كن لين العريكة، واخفض جناح الذل من الرحمة للمؤمنين وعباد الله الصالحين، هذا يقوله المؤمنون، ويكرره الله إشادة به، ومعناه أيضاً: المخاطب به، ولكل من كان له مال كـ قارون وغيره أن يتمتع بالطيبات والحلال، وأن يحسن كما أحسن الله إليه، وأن يأخذ نصيبه من الطيبات، ولا يجعل نعمة الله عليه وبالاً، ولا يفسد بها في الأرض، فيوشك أن يعاقبه الله عليها، وأن ينزعها منه كما فعل مع قارون.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]، وإذا قال الله: (لا يحب) فمعناه: حرم وكره، ومعناه: نهى ومنع.(155/5)
تفسير قوله تعالى: (قال إنما أوتيته على علم عندي)
أجاب قارون قومه: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78].
فقال الله مخبراً موسى ونبيه صلى الله عليه وسلم: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].
أي: أهلك من كان أشد منه قوة وأكثر منه جمعاً - أي: لهذا المال - فلم يكن المال فقط لـ قارون وانفرد به في الكون، فقد سبق قبله الكثيرون ممن كانوا أغنى منه وأقوى، وفي عصرنا الكثيرون يملكون ما لم يكن يملكه قارون، ويفعلون ما كان يفعله قارون، يطغون بذلك المال ويبطرون، فلا يحسنون كما أحسن الله إليهم وتكون النتيجة بعد ذلك، أن ذهبوا وبادوا، ويبقى المال لمن لا يرحمهم عليه، أو تأتي الشيوعية فتنزعه عنهم عقوبة سماوية، والجزاء من جنس العمل، وهكذا وقع في كثير من بلاد المسلمين، قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
فقوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] معناه: لم أعط هذا المال هكذا بلا سبب، بل أنا رجل نشيط، ولي علم بأنواع التجارة والزراعة وتنمية المال، فأنا أخذته بعرق جبيني وبعلمي ومعرفتي.
وقال الكثيرون من المفسرين: إنه كان يستعمل الكيمياء والإنس والجن، وكل هذا كلام إسرائيلي لا معنى له، والآية لا تدل عليه، فنحن نرى الكثيرين في عصرنا هذا يملكون ما لم يكن يملكه قارون، ولم يقل أحد منهم: جمعت ذلك المال بالكيمياء، فقد يكون لعمل من الأعمال كانتهاز منصب واستغلال بيئة ومعرفة بالتجارة أو بالزراعة، أو معرفة بالصناعة، ولا حاجة إلى أن يكون هناك كيمياء أو تحويل للأصل، ولا أن يكون خدمة من جن ولا شيء من ذلك.
فقوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] أي: كان ذلك بمعرفتي وبنشاطي ومسارعتي لمعرفة الأسواق، والتجارات وما إليها، فلم يقل: رزقته بعون الله وفضله ومنه، حتى لو قلنا أوتيتها بمعرفتك فمن الذي أعطاك المعرفة؟ من الذي هيأ لك الجو؟ والكثيرون ممن أخذوا الشهادات وأنواع الدراسات، ومن أعلم الناس بأنواع التجارة والزراعة والصناعة لم يملكوا شيئاً، فكانوا فقراء ولا يزالون قديماً وحديثاً، ولِمَ هؤلاء لم يرزقوا، ورزق هؤلاء؟
الجواب
هؤلاء أراد الله رزقهم، إما إفضالاً عليهم وإما امتحاناً لهم واختباراً، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، وكما يكون البلاء والاختبار بالشر كذلك يكون بالخير.
إن تعذيب الإمام أحمد رضي الله عنه وفتنته من المأمون والعباسيين كان شراًّ امتحن به، بعد ذلك جاء المتوكل فأطلق سراحه، وحاول أن يقربه ويعطيه، فكان يقول: شرطت عليكم ألا يكون إلا ما أريد، فلا أريد زيارتكم، ولا هداياكم، ولا أن تأتوا إليّ، فكلما أتوه بشيء امتنع، وكان يقول: هذا فتنة، فقد افتتنت بالشر، وأنا الآن أفتن بالخير، فتركوه وذهبوا لأولاده وولوهم القضاء وأعطوهم الأموال فهجر أولاده، لكي لا يكون هذا الإحسان للأولاد طريقاً إليه، وقال: اصنعوا ما شئتم، هذا المال مشبوه، وهذا العطاء مشبوه، وأراد بذلك الدنيا لا الآخرة.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ} [القصص:78] أي: قد أهلك الله قبل قارون من القرون الماضية والأجيال السالفة: {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص:78] أي: أهلك من كان أكثر قوة وحشماً وخدماً وأتباعاً، وقد قالوا عن قارون: كان إذا خرج خرج بألف من الرجال من أمامه، وألف من الرجال من خلفه، وكذا وكذا من الجواري، وكذا كذا من العبيد، وكذا كذا من الخيام، وكذا كذا من الخيل والبغال، وكانوا يصفون البغال والجمال بأن عليها الذهب والفضة وأنواع الجواهر، فهم لم يروا ذلك ولم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكره القرآن، ولكن فهموا ذلك من وصف الله غناه ورفاهيته، قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79] فتصوروا أن هذه الزينة لا تكون إلا بذلك، وليس ذلك ببعيد، وظاهر القرآن يدل عليه.
فقال الله عنه: ألم يفكر ويعتبر، ألم يبلغه ويسمع أن الكثيرين ممن سبقوه، ممن كانوا قبله من الأجيال الماضية، أهلكناهم ودمرناهم وعاقبناهم لكفرهم ككفره وبطرهم كبطره، وكانوا أشد منه قوة وأكثر منه جمعاً.
قال تعالى: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].
إذ يعرف المجرمون يومئذ بسيماهم ويأت الملائكة للمجرمين بلا سؤال، كما أن الكثيرين يدخلهم الله الجنة بلا سؤال ولا حساب.
فالكثيرون من المجرمين يعرفون بسيماهم ويجرون على وجوههم إلى النار بلا سؤال؛ لأن كفرهم وشركهم وطغيانهم وجرائمهم ظاهرة على جباههم تقرأها الملائكة فهم عرفوا بسيماهم وحالتهم وبأوصافهم فدخلوا النار، وهكذا وصف قارون بالبطر والبغي والظلم والاعتداء والتعالي على الله.(155/6)
تفسير سورة القصص [79 - 84]
لقد بطر قارون بماله وطغى بجماله واستكبر على قومه، وخرج في زينته، فتمنى ضعفاء النفوس لو كانوا أمثاله، فلما خسف الله به وبداره أشفقوا على حاله ومآله، وحمدوا الله أن لم يكونوا في سلطانه وماله، وعلموا أن الدار الآخرة خير للمؤمن وأبقى.(156/1)
تفسير قوله تعالى: (قال الذين يريدون الحياة الدنيا)
قال الله جلت قدرته: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79].
قارون الذي طغى على قومه واتخذ نعم الله وآلائه، وخيراته وأرزاقه كفراً ومساعدة في الشر، وعوناً على العصيان والكفر، فقد ضرب الله به مثلاً للذين يريدون الحياة الدنيا ولا يريدون الآخرة.
وذات يوم خرج على قومه بني إسرائيل في زينته، في مهرجانه، وصولجانه، فقد خرج معه كذا وكذا ألفاً من الرجال والشباب والغلمان، والجواري على أنواع من الخيول والبغال في حرير وديباج وذهب وفضة وأنواع من الطرب والموسيقى، وهو يتيه بنفسه، ويأشر بماله، ويطغى بما يكسب، ويتعالى بذلك على قومه، وإذا بضعاف النفوس من قومه ممن يريدون الحياة الدنيا ولا يريدون الآخرة يقولون: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79]، فلما رأوا هذا المنظر تمنوا على ربهم أن يكون لهم ما لـ قارون من المال والجاه والزينة والنشب، وأنواع ما يتيه به ذوو المال والجاه العريض في الأرض.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79].
أي: إنه لذو مال وجاه عظيم فقد أدركه الحظ والذكر الحسن بين قومه.(156/2)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم)
هكذا كان ضعاف النفوس عندما رأوا قارون في هذه الزينة الفاتنة وإذا بقوم آخرين وهم قلة ينكرون عليهم كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ} [القصص:80].
أي: قال الذين أوتوا العلم والمعرفة بالله ممن رأوا قارون وهو في هذا التيه والخيلاء، ورأوا أولئك الذين يتمنون زينته وماله وجاهه، فقال هؤلاء العلماء بالله، والعارفون بالدنيا وزوالها، والمدركون لخلود الآخرة وما فيها من نعيم دائم.
فقالوا لهؤلاء: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80] وكلمة الويل تقال إشفاقاً، وتقال طعناً وشتماً.
والويل: واد في جنهم، فهم قالوا لهؤلاء: يا ويلهم، وسوء تدبيرهم وأفكارهم، عندما يتمنون هذه الدنيا الزائلة، وهذه الزينة الباطلة، ولم يتمنوا ما عند الله من خير، ومن إفضال، ومن نعمة دائمة ورضاً يفوزون به في الدنيا والآخرة.
وعبادة الله في الدنيا يترتب عنها الثواب في الآخرة، وهو خير من كنوز قارون ومال قارون وزينة قارون، فثواب الله خير لمن آمن بالله رباً وعمل الأعمال الصالحة من الفرائض والنوافل، أما الفرائض فقد قام بها جميعها، وأما النوافل فقد قام بما يستطيع منها جهد طاقته.
ثم قالوا لهم: {وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، أي: لا يلقى ولا يجازى ولا يصل هذا المقام من رضا الله وكرمه وإفضاله الله إلا الصابرون على طاعة الله، وامتثال أمر الله، وطاعة رسول الله وامتثال أمره صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه.
وصدق بجنانه، وعمل بأركانه، ولا يلقى مثل هذا إلا الصابرون على الطاعات، والفرائض، والنوافل.(156/3)
تفسير قوله تعالى: (فخسفنا به وبداره الأرض)
قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].
هذا الذي تمنوا مكانه، وقالوا إنه ذو حظ عظيم، وتمنوا أن يكون لهم من الزينة والكنوز والأموال، وإذا به وهو في زينته، وهو يطأ الأرض يتيه في خيلاء، وتعاظم وتعالى على خلق الله، وإذا بالله الكريم يخسف به الأرض، فتغيب به الأرض وتزول من تحت قدميه، وإذا به يهبط إلى أن يصبح داخلها، وكأنه لم يكن يوماً في هذه الدنيا.
فالله تعالى أخسف به الأرض، فانشقت، وأصبحت ذا هوة سحيقة وإذا به يدهده ويغيب فيها ثم تغيب داره، وكنوزه وأمواله وزينته وكل ما كان عنده.
فهذا الذي تعاظم على الله وعلا على خلق الله، وطغى بما ملكه الله من زينة وأموال وجاه، فعوضاً عن أن يشكر الله عليها، ويأتيه مما آتاه الله، ويحسن كما أحسن الله إليه، طغى وبغى في الأرض، فكان جزاؤه أن عذبه الله على ذلك في الدنيا، وسلبه تلك النعمة، بل وغيبه في الأرض ودفنه فيها حياً، هو وداره وجميع ما فيها من كنوز وزينة ونشب وأموال، وإذا بتلك الطائفتين: الطائفة التي كانت تريد الدنيا، وتريد مثل ما أوتي قارون، وغاروا منه، واغتبطوا بحاله، بل وحسدوه على أمواله.
وأولئك الذين قالوا لهم: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80]، وإذا بالطائفتين معاً تريان هذا المنظر، وأن قارون الذي كان قبل ساعات مضت ذا حول وطول وسلطان وعلو وطغيان في الأرض، وإذا بالأرض تخسف به، وإذا به يغيب في الأرض والتراب، فيذهب في أمس الدابر، ويذهب قصره وتذهب كنوزه، وكأنه لم يكن يوماً من الأيام متعالياً بكنوزه وجاهه.
وعندما خسف الله به الأرض لم تكن له جماعة، ولا أنصار، من أولئك الذين يصحبونه في الذهاب والإياب، فيكثرون جموعه، ويتقدمونه ويتأخرون عنه، ويكونون عن اليمين وعن الشمال، فكل أولئك لم يستطيعوا نصرته، ولا إغاثته، ولا إنقاذه من هذا الخسف، وهذا التغييب في الأرض، وهذا البوار وهذه اللعنة.
ولم يجد أحداً ينصره من دون الله، إذ كان مخذولاً هافتاً ضائعاً، ومن الذي يجير على الله؟ ومن الذي يتطاول على أن يغيث أحداً من غضب الله ولعنته؟ إن كل من في الأرض والسماء ومن في الكون إلا آتي الله عبداً، فليس في قدرة أحد أن ينصر من غضب الله عليه.
وقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].
أي: لم يكن من الذين انتصروا، وأنقذوا، وتعالوا، وقد حلّ عليه قول الله وغضبه ولعنته، وإذا بالطائفتين: الدنيوية والأخروية اللتين رأتا أعماله وزينته، فتمنى ذلك البعض ممن يريد الدنيا، وقالت الأخرى العارفة بالله: إن الإيمان بالله وطاعته خير من قارون وجميع أمواله.(156/4)
تفسير قوله تعالى: (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس)
قال تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82].
(أصبح) يمعنى: صار، يقال: أصبح إذا صار وانتقل من حال إلى حال، وليس من الضروري أن يكون ذلك في وقت الصباح، يقال: أصبح فلان عالماً، فليس معناه عندما أصبح الصباح صار عالماً، فقد يكون ذلك في الصباح أو في المساء ويفهم ذلك من سياق الكلام، تقول: أصبح وأمسى بمعنى بمعنى: الصيرورة والتحول.
وإذا بهؤلاء الذين تمنوا مكانه، فقالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79] عندما رأوا ذلك فزعوا ورعبوا وندموا على ما صدر عنهم، وحمدوا الله وشكروه أن لم يكونوا مكان قارون ليعذبوا ويعاقبوا عقاب قارون بسبب اغتراره بماله وكنوزه وجاهه.
وقوله: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} [القصص:82] كان هذا بالأمس الدابر، والأمس المبني على الكسر يعني به اليوم الذي قبل يومك.
ففي اليوم الماضي رأوه وهو على عزه وسلطانه قد خرج في زينته الكاملة، حتى تمنوا مكانه وأعلنوا ذلك، وإذا بهم بعد ذلك يرون قارون وقد خسف الله به الأرض بنفسه وزينته وقصره وكنوزه، فقالوا متعجبين لذلك: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} [القصص:82].
وي: كلمة تعجب، والمعنى: نظن ونعلم أن الله هو الذي يرزق من يشاء بلا حساب ويضيق على من يشاء، يفعل ما يشاء كيف يشاء جل جلاله، فليس الرزق بسبب علم العالم ومعرفة العارف من التجار أو الحكام أو الزراع أو الصناع كما قال قارون وزعم: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78].
فليس ذلك بعلمه ولا بقدرته، ولا بسلطانه، ولكن الله ابتلاه وفتنه واختبره، فلم يفز عند هذا الابتلاء، ولم ينجح بل رسب وخسر، فلم يشكر الله على هذه النعمة، ولم يصرفها في نعم الله، ولم يحسن للفقير واليتيم والأرملة، كما أحسن الله إليه، وإذا بالله الكريم الذي أنعم عليه وابتلاه، نزع ذلك عنه، وسلبه إياه، وقضى عليه وعلى ما يملك، وكأنه لم يكن، فعلم هؤلاء المتعجبين أن الله يغني من يشاء من عباده بلا حساب، ويقدر على من شاء من عباده، أي: يجعل رزقه بقدر وحساب، فهو المغني والمفقر، جل جلاله يفعل ما يشاء، له الأمر والخلق، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وقوله تعالى: {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [القصص:82]، ندموا على التمني السابق، وعجبوا مرة أخرى، فقالوا: يا عجباً! لولا أن منّ الله علينا، وكان هذا المنّ والإفضال في أن الله لم يرزقهم ما رزق قارون، فندموا فيما كانوا قد تمنوه من زينة قارون وكنوزه، ثم حمدوا الله على أن أبقاهم فقراء، ولم يعطهم ما أعطى قارون، ولم يخسف بهم وبدورهم الأرض، ولم ينزع نعمته عليهم، من شباب وقوة وحواس، ومن إيمان بالله كذلك.
فهؤلاء إنما كانوا يريدون الحياة الدنيا، وهم ممن آمنوا بموسى من بني إسرائيل الذين نصرهم الله على فرعون، بعد أن عاشوا عبيداً أرقاء له ولقومه قروناً تتبعها قرون، فحمدوا الله على الفقر والمسكنة، ولم يجر بهم ما جرى لـ قارون من خسف الأرض به، وبداره وبكنوزه وبجاهه، وبكل ما أتى به وطغى، أن لو كان لهم ذلك بعد أن تمنوه على الله.
وقوله تعالى: {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [القصص:82] جواب (لولا) لخسف بنا، أي: لو لم يبقهم الله فقراء، ولم يعطهم ما تمنوا عليه من ملك قارون وجاهه لخسف بهم الأرض كما خسف بـ قارون.
وقوله: {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82]، وهذا مما يزيد التأكيد أن قارون لم يسلم ولم يؤمن بموسى، فلم يكن مؤمناً كما ادعت الروايات الإسرائيليات التي نقلت في أكثر التفاسير أنه كان مؤمناً، وكان إذا تلا التوراة يكون من جمال صوته ما يتأثر به كل سامع مؤمن بالتوراة إذ ذاك، ثم نافق بعد ذلك، وليس في آيات القرآن ما يدل عليه.
فالذين تمنوا مكانه بالأمس قالوا عنه كافر، وأيقنوا أن الكافر لا يفلح ولا ينجو ولا يفوز لا في الدنيا ولا في الآخرة، فكانت هذه الكنوز والأموال ابتلاء واختباراً له، فما تمتع بها، بل كانت سبب هلاكه ولعنته وعقابه في الدنيا، ومات مع الكافرين، ولعذاب الله أشد.
فالكافر لا يفلح إن عاش كافراً ومات على ذلك.
والله قص علينا هذه القصة للعظة وللاعتبار، لنأخذ منها الدروس والحكم حتى إذا رأينا في عصرنا قوارين، لا نأبه لهم ولا نحسدهم على ذلك، ولا نطمع في أموالهم، فنحن لا ندري هل هذه الأموال والكنوز ستكون عليهم وبالاً كما كانت على قارون الذي قص الله علينا، فإذا كان كذلك فما الفائدة من مال وكنوز لا تدوم، ويكون نهايتها الذل والغضب واللعنة والموت على سوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية.
والمسلم إذا دعا الله يدعوه من خيره وإفضاله ما يكون خيراً له في الدنيا والآخرة، لا فتنة وابتلاءً له في دينه، ولا ضرراً عليه، وصدق رسول الله القائل عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون، -أي: هلك ذوو الأموال الكثيرة- إلا من قال: هكذا وهكذا، وهكذا)، أي: إلا من صرف الفاضل من أمواله، في كل جهة من جهات الخير، في الزكوات، والنفقات للسائلين وللمحاويج، لما يعود على الناس بالخير، وليحسن كما أحسن الله إليه.
والله تعالى لم يمنع عباده مما أخرج لهم من الطيبات من الرزق، ولم يمنعهم أن يتركوا نصيبهم من الدنيا، فإن كان حلالاً طيباً فليحسنوا كما أحسن الله إليهم، فهذه بعض العبر والحكم من هذه القصة، ولم يؤتَ بها للحكاية والرواية.
فقد أوتي بها ليعتبر بها المؤمن والكافر، فالمؤمن يزداد إيماناً ويعيش في حياته عابداً مطيعاً، والكافر تقام حجة الله عليه، وأنه قد ضربت له الأمثال، وذكرت له القصص ليتخذ منها العبر والحكم، لتكون الحجة لله بالغة يوم القيامة، ولا يجد لنفسه عذراً ولا جواباً عندما يسأل عما قدم.(156/5)
تفسير قوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض)
قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
(تلك الدار) الإشارة للتنويه والتهويل، أي: تلك الدار التي وصفها الله تعالى في كتابه المبين ووصفها نبيه عليه الصلاة والسلام فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ما لم تره عين ولا سمعت به أذن، ولا خطر من ذلك على قلب بشر.
وهي الجنة ذات الأرزاق والنعم الدائمة الخالدة السائدة بفضل الله ورحمته.
والدار الباقية لم يجعلها الله لمن كان في الدنيا ذا سلطان ولا حاكماً ولا غنياً ولا ذا أرزاق وكنوز، ولكن جعلها للأتقياء الصالحين الأبرار، كانوا ملوكاً أو خلفاء أو مساكين، أو محاويج، أو ذوي أنساب وأحساب، فتلك الدار جعلها الله تعالى لمن قال فيهم: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ} [القصص:83] أي: لا يريدون التكبر على خلق الله، ولا الاستعلاء على عباد الله، ولا يتيهون بأحسابهم ولا بأنسابهم ولا بأمومتهم أو أبوتهم، ولا بأموالهم ولا بما ملكهم الله في هذه الدنيا، وإلا لكان ذلك ابتلاءً وفتنة، كما كانت كنوز قارون لـ قارون، فقد فتن بها وعذب في الدنيا، ولعذاب يوم القيامة أشد.
والدار الآخرة إنما جعلها الله للذين لا يستعلون على عباد الله، ولا يتكبرون على الإيمان والمؤمنين، إذا قيل لهم: قال الله، قال رسول الله، قالوا: السمع والطاعة، على الرأس وسواد العين، وإذا قيل: هذا مؤمن أخوك، قال: أخي وهو أكرم مني، ولا يعلم الأكرم يوم القيامة إلا الله، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ومن كان في ظاهره متقياً لله سواء في الصلاة وبقية العبادات ومع ذلك حتى لو لم يكن كذلك، فهو لا يدري كيف سيختم له؟ كثيراً ما يكون الخصوص من اللصوص، فقد يتوبون ويغفر الله لهم، ويصبحون في أعلى الدرجات والمقامات، ويكونون خياراً، وما المؤمنون الأُول من الصحابة الأوَل إلا ممن كانوا يعبدون الأوثان والأحجار في أيامهم الأولى، فلما شملتهم العناية الإلهية، والرحمة الربانية، عندما ظهر فيهم سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإيمان بالله وبه، وبما جاء به من عند الله، آمنوا واستسلموا فأذهب الله عنهم نخوة الجاهلية ومعصيتها، وصاروا سادات الدنيا وأئمتها، لم يسبقهم في الفضل والخير إلا الأنبياء، فهم أفضل الخلق بعد الأنبياء فكانوا من الخصوص بعدما كان مما لم يذكر، ولا حاجة لذكره بعد أن ذهب، والإسلام يجب ما قبله.
الدار الآخرة وجنتها ورضاها ورحمتها مقصورة على الذين لا يتكبرون، ومن ينازع الله في كبريائه أذله وحقره.
وقوله: {لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83].
أي: لا يريدون الفساد في الأرض، وكلمة (فساد) تشمل كل أنواع الفساد من كبرياء وجبروت وعلو على البشر ومعصية لله وإعلانها، من ظلم للخلق وأخذ أموالهم بالباطل، ومن كل ما يطلق عليه إفساد، فمن كان كذلك لا حظ له في الآخرة، ولا في رحمة الله ولا في رضاه.
والعلو في الأرض والكبرياء هو الذي أفسد الكافر الأول، ما كان إبليس إلا مع الملائكة، وإن كان جنياً بينهم، فقد كان من العابدين العارفين، ثم ارتد وكفر، وكان ارتداده بسبب كبريائه وطغيانه، وتعاليه على آدم، عندما أمره الله بالسجود إليه أبى واستكبر، وكان من الكافرين كما وصفه الله جل جلاله، وعندما قيل له: لِمَ لم تسجد؟ {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وجعل نفسه خيراً من آدم، مع أنه رأى وعلم وسمع أن آدم خصه الله بأن خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له جميع الملائكة، سجود احترام وتقدير، لا سجود عبادة، ومع ذلك تعالى إبليس، فكان بكبريائه على آدم كافراً مرتداً، وقلما يتكبر أحد على خلق الله، وعلى عباد الله المؤمنين فيفلح، وقد تنتهي أيامه بسوء الخاتمة والردة كما انتهت أيام قارون، وتتبعه اللعنة إلى يوم القيامة، كما تبعت قارون في كتاب الله وفي كل ما يذكر فيه عندما يذكر التاريخ الأول وقصص الأولين.
وقوله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، ليست للأغنياء ولا للحكام، ولا للطغاة، ولا للجبابرة، ولكن للمتقين، والمتقي قد يكون حاكماً وقد يكون سلطاناً، وقد يكون خليفة، فالرابط هي التقوى وليس سواها، والتقوى أن تجعل بينك وبين ربك وقاية من غضبه ولعنته، ولا تكون هذه الوقاية إلا بطاعته وامتثال أمره، والخضوع لكتابه والامتثال لنبيه، وما جاء به من أمر ونهي، تمتثل أمره وتجتنب نهيه.(156/6)
تفسير قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها)
قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص:84].
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [القصص:84] كما قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160].
أي: من جاء بالحسنة جزي عنها بعشر إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله.
{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:160] أي: سيئة بسيئة، وقد يغفرها الله ويرحم مرتكبها إن كان موحداً ثم تاب منها.
والحسنة هنا: هي كلمة التوحيد، وهي لا إله إلا الله، ولا شيء أعلى وأخير من (لا إله إلا الله) إلا رؤية الله في الآخرة، فمن مات موحداً يعتقد أن لا إله إلا الله بالجنان ونطق بها اللسان وعملت بها الأركان، يكرمه الله يوم القيامة بدخول الجنان، وبرؤية الله جل جلاله، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، عليها نضرة النعيم، وفيها جمال النعمة، وراحة النعمة، ثم تكرم بالنظر إلى وجه الله الكريم.
ومعنى آخر للحسنة أنها بعشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى ولا يكافأ ولا يعاقب ولا يقابل إلا بما عمله، أي: سيئة بسيئة إذا لم يغفرها الله، ولا تغفر السيئة إن كانت كفراً أو شركاً.(156/7)
تفسير سورة القصص [85 - 88]
لما هاجر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة كان قد خرج من أحب البلاد إليه، فوعده الله تعالى بالرجوع إليها حتى رجع فاتحاً بعد ثمان سنين، وهو صلى الله عليه وسلم مثابر على الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالله، ونبذ الشرك والأوثان.(157/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [القصص:85].
هذه الآية وحدها في السورة لم تنزل بمكة ولا بالمدينة، فأكثر سور القرآن ما يزيد على (90%) منها إما مكي وإما مدني، إي: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، أو نزل عليه بالمدينة، وهناك آي من القرآن نزلت عليه وهو في الطريق ما بين مكة والمدينة، في سياحة أو غزوة أو تعليم وتربية لأتباعه.
وهذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم عندما خرج من مكة المكرمة مهاجراً إلى المدينة المنورة، عندما اضطره قومه كفار مكة لهجرانها وتركها، وما هجرها إلا وهو متألم، ويود أن لا يتركها، وأن يبقى فيها، فكان حنينه إلى الأرض التي ولد فيها، والتي خرج منها إلى الوجود، والتي هي مسقط رأسه الشريف ومنبت آبائه وأجداده ومرتع صباه، والمنزل الأول للوحي، فخرج مضطراً بعد أن تواطأت قريش على قتله واغتياله.
وقد خرج معه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد سبقهما إلى المدينة المؤمنون المهاجرون، ولم يبقَ في مكة إلا المستضعفون من الصبيان والعجزة ومن حبسهم العذر، وتسلط عليهم قادات مكة ظلماً وطغياناً وعلواً في الأرض وفساداً.
خرج عليه الصلاة والسلام واختفى في غار ثور ثلاثة أيام، ثم سار في طريق غير معروفة إلى أن وصل للجحفة وهي اليوم جزء من رابغ، والجحفة ميقات أهل مصر وأهل الشام وأهل المغرب وأهل إفريقيا ومن جاء عليها ولم يمر على المدينة، ومن مر على المدينة فميقاته ميقات أهل المدينة، وكل من مر على ميقات قوم لإحرامه يصير ذلك الميقات ميقاته.
وهذه الجحفة وردت كثيراً في السيرة النبوية وهي هنا يشار إليها في هذه الآية، والكلام عليها وحدها قد سبق، والكلام فيها يحتاج لدرس أو درسين، وبالمناسبة يأتي ذلك، وقد مضى بعضه.
فبينما هو في الجحفة، وإذا بهذه الآية الكريمة تنزل عليه: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ} [القصص:85]، أي: إن الذي أنزل عليك القرآن، وجعله فرضاً عليك لتبلغه للناس، ولتعلمهم حلاله وحرامه، وقصصه وآدابه، وعقائده وجميع ما فيه، فالذي أنزل عليك القرآن وفرضه هو الله جل جلاله.
وقوله تعالى: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85].
(لرادك) اللام موطئة للقسم، كأن الله جل جلاله يقسم للنبي عليه الصلاة والسلام مسلياً له، ومقوياً له ومشجعاً.
لقد خرج صلى الله عليه وسلم حزيناً حيث خرج من أرضه وبلاده مضطراً عن غير رضا منه، خرج بإخراج أهل مكة له كفراً به وبدينه وبربه، فلما وصل للجحفة نزلت عليه هذه الآية تبشره.
أي: يا محمد! يقسم الذي أنزل عليك القرآن، وجعله فرضاً عليك لتبلغ الناس أوامره ونواهيه، حلاله وحرامه، بأنه سيردك إلى الأرض التي خرجت منها وسيعيدك إليها.
وقد فعل جل جلاله، ومن أوفى بعهده من الله، قد عاد إليها عزيزاً منتصراً سيداً آمراً ناهياً محكماً في أعدائه، دخل صلى الله عليه وسلم مكة على غاية ما يكون من التواضع والأدب مع الله، راكباً ناقته، فالإبل ليست هوجاء وليس فيها تيه، ولا رقص، ومع ذلك دخل عليه الصلاة والسلام مكة ورأسه منحن، ولم ينسب لنفسه شيئاً، بل الكل نسبه لله أدباً مع ربه، وهو ينشد نشيد الفتح على خلاف أناشيد الملوك والأباطرة وجبابرة الأرض عندما يدخلون فاتحين، فإنهم يتيهون بأنفسهم وبأقوامهم وبقوتهم وبسلطانهم وبما لهم، ويهددون وينذرون بأنهم سيسحقون الأعداء، وسيدوسون عليهم بالأقدام، وسيحيون كذا ويميتون كذا.
دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة وهو السيد العزيز المنتصر نصراً عزيزاً مؤزراً، وهو مطأطئ الرأس على جمل وهو يقول: (الحمد لله الذي نصر عبده وأعز جنده، وأنجز وعده وهزم الأحزاب وحده)، لم ينسب لنفسه شيئاً عليه الصلاة والسلام على ما قاسى من قومه من شدائد، فقد أخرج من بلده مضطراً من غير رضا وأجاعوه ثلاث سنوات حتى كان يعيش على ورق الشجر، وقالوا عنه كذا كذا، وكان عليه الصلاة والسلام يعرض عن ذلك ويأبى إلا الدعوة إلى الله والظهور يومياً عند بيت الله الحرام، وعند الكعبة المشرفة، يدعو إلى الله، ويسفه أحلام المشركين ويزيف آلهتهم، إلى أن دخل إليهم بعد ثمان عشرة سنة من النبوءة، في السنة الثامنة من الهجرة، دخل بهذا النشيد النبوي، فكسر الأصنام وأزالها، وكانت ثلاثمائة وستين صنماً على عدد أيام السنة، وأمر بلالاً الذي كانوا يعذبونه ويضربونه وهو يقول: أحد أحد، أن يصعد على ظهر الكعبة إلى أن جنّ جنون قريش، لِمَ هذا الأسود يصعد على ظهر الكعبة؟ وهو الذي كانوا يحتقرونه ويؤذونه ويظلمونه، فنادى بكلمة التوحيد وأذن الأذان: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله إلى آخر الأذان.
فقال الكثير من الكفار، وهم يحمدون أنفسهم ذلاً وهواناً وكفراً، قالوا: الحمد لله أن أبا فلان مات ولم يرَ هذا المنظر، وأن أخا فلان مات ولم يرَ هذا المنظر، ثم دخل فتجمعوا بين يديه، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (ماذا ترون يا معاشر قريش أني فاعل بكم اليوم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم)، فما قالوا عنه ساحر ولا مجنون ولا قالوا إنه يطلب الملك والمال والسلطان كما كانوا يقولون بل أخذوا يتمسحون به ويطلبون منه العفو والسلام والأمان.
فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) فعفا عن مقدرة، ويسمى هؤلاء في السيرة النبوية الطلقاء، ولذلك فإن عمر عندما طعن وترك الخلافة لستة من الصحابة مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، قال رضي الله عنه: لا يصلح هذا للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء.
هؤلاء الذين لم يسلموا إلا متأخرين بعد أن أتعبوا النبي عليه الصلاة والسلام الكثير والكثير، وبعد ثمان سنين من نزول الآية دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة عزيزاً سيداً، ثم بعد ذلك نزل قوله تعالى في حجة الوداع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28].
جاء أمر الله بأن المشرك عين النجاسة لأن المتنجس يغسل، أما عين النجاسة فلا تغسل ولو بجميع ماء البحر، والعذرة عذرة لا تطهر، والبول بول، وهكذا المشرك، والكافر، والمنافق.
فطهرت هذه الأرض المقدسة وأصبح المحكم فيها سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخرج من داره وهو مضطر حزين عليه الصلاة والسلام، فعوضه الله جل جلاله المدينة المنورة.
وقد ورد في الحديث النبوي في صحيح الحاكم وهو حجة الإمام مالك وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن شهاب الزهري، وعمر بن عبد العزيز في الأفضلية بين مكة والمدينة، قال: (اللهم كما أخرجتني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب البلاد إليك) وما كان أحب لله فهو أفضل، فأنزله المدينة المنورة، فالمدينة المنورة أفضل من مكة لدلالة هذا الحديث، الذي في صحيح الحاكم وهو المستدرك على صحيحي البخاري ومسلم، وهو على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه.
فما كان أحب لله فهو أفضل، وهذا رأي الخليفتين الراشدين العمرين ابن الخطاب وابن عبد العزيز، والإمامين البرين العالمين عالمي الحجاز بل عالمي الدنيا ابن شهاب الزهري وتلميذه الإمام مالك بن أنس رحمهم الله جميعاً.
والوعد الذي وعده في كتابه وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] وقد أقسم الله به وبشره ووعده فقرت عينه، وانشرحت نفسه وبشر بذلك المؤمنين وتلا عليهم الآية، وهو لا يزال في الطريق قبل أن يصل إلى المدينة المنورة، فبعد أن أنجز الله وعده في فتح مكة قال عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي أنجز وعده).
وقوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [القصص:85] كان كفار قريش يقولون عن محمد عليه الصلاة والسلام إنه ضال، بل وقالوا أكثر من ذلك، وفضلوا دين اليهود على دين الإسلام، وفضّل اليهود دين الوثنيين على دين الإسلام.
فتركهم النبي عليه الصلاة والسلام استغناءً عنهم، قال الله له قل لهم: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} [القصص:85] فالله أعلم وستعلمون بعد ذلك من هو في ضلال مبين.
فالله أعلم بالحقائق، هل أنا الذي على ضلال مبين أو أنتم؟ هل أنا الذي على هدىً من الله وطريق مستقيم ونور بين مشرق أم أنتم؟ وقد بان الأمر بعد ذلك، فسرعان ما أسلم الكثير وذل الكثير وأسر الكثير، وكانت المعركة القاصمة النهائية الفاصلة معركة بدر التي فيها أعز الله الإسلام والمسلمين، وذل كفار قريش، ومن ذلك اليوم لم يرفع لهم رأس.(157/2)
تفسير قوله تعالى: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك)
قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص:86].
يقول الله للنبي ممتناً عليه، مظهراً كبير إفضاله عليه: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} [القصص:86].
أي: ما كنت تتمنى يوماً ولا خطر لك ببال أن يوحى إليك بالقرآن، ولا أن تكون نبياً ورسولاً، ولكن عناية الله اختارتك من بين البشر، ومن بين العرب، ومن بين قريش، ومن بني هاشم.
وبهذا فإن شرف مكة مضاعف ومكرر كالمدينة المنورة، فمنها رسول الله وفيها نزل عليه الوحي، وفيها الكعبة المشرفة وهي منزل أبيه الأعلى إسماعيل، ومدفن أبيه إسماعيل، وهي التي أعز الله بها الإسلام وأعزها بالإسلام.
وقل مثل ذلك عن المدينة - مع الخلاف الموجود في الأفضلية - وكلتاهما أشرف بلاد الله على الإطلاق، ومكة أم القرى عاصمة الدنيا، أحب من أحب وكره من كره.
فيجب على كل مسلم في الأرض أن يأتي ولو مرة في العمر ليتشرف بالدخول لهذه الديار المقدسة، فيطوف بالكعبة المشرفة، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقف في عرفات، ويبيت في منى.
فقوله: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا} [القصص:86] أي: وما كنت ترجو يوماً، وما كنت تطلب، وما كان يخطر لك ببال.
وكما قال الله له: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52] أي: ما كان يدري ما معنى الكتاب، فهو أمي عليه الصلاة والسلام، وما كان يدري ما الإيمان الذي نزل عليه من الله جل جلاله، وإن كان لم يسجد لصنم قط ولم يعبد وثناً قط، ولم يعجبه ما كان يجد عليه قومه قط.
وكان يصعد إلى حراء فيتعبد الله بالفكر ويقول في نفسه: هل هذه العوالم كلها صنعتها هذه الأحجار التي يسجد لها قومي؟ ويعجب من ذلك ويدعو الله ويرجوه في نفسه أن يعرفه الحقيقة، وأن يبين له الطريق السوي، إلى أن فوجئ بجبريل رسول الملائكة إلى الأنبياء والمرسلين وآخرهم نبينا عليه الصلاة والسلام.
{وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86] الاستثناء هنا منقطع، والتقدير: ولكن الله رحمك رحمة، فرحمة مفعول مطلق، أي: رحمك الرحمة الشاملة الكاملة، واختارك لهذا الكتاب ولهذه الرسالة الشاملة الخاتمة، إن فضل الله كان عليك عظيماً، ولا شك ولا ريب.
وقوله: {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص:86] أي: وبهذه الرحمة، وبهذا الإفضال من الله فيا محمد! لا تعن الكافرين، ولا تكن لهم ظهراً وظهيراً ومعيناً، فالعنهم وقاتلهم وذلهم فإن لم يستسلموا لك فافرض عليهم الجزية حتى يؤدوها عن يد وهم صاغرون.
ولا تتخذ منهم قريباً ولا صديقاً ولا ولياً، ومن يتول الكافرين يكن منهم، وهذا نهي لنبينا وهو في الحقيقة نهي لنا، لأن الأنبياء معصومون، فكيف بسيد الأنبياء عليه الصلاة والسلام؟(157/3)
تفسير قوله تعالى: (ولا يصدنك عن آيات الله)
قال تعالى: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص:87].
فقوله تعالى: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} [القصص:87] فعل مضارع مؤكد بنون التوكيد الثقيلة، أي: لا يبعدونك، أو لا يجعلونك بعيداً عن الدعوة لله والإيمان بالله والرسالة التي أنزلت إليك وكتاب الله الذي أنزل إليك، والآيات البينات الواضحات التي أنزلت إليك التي ظهر إعجازها وقدرة الله على كل شيء، فإياك أن يغرك هؤلاء المشركون، وأن يصدوك عن الله والدعوة إليه.
وقوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص:87] وهذا النهي الموجه للنبي عليه الصلاة والسلام هو نهي لنا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم.
وقوله تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [القصص:87] أي: فلتكن دعوتك باستمرار مدة حياتك الدعوة إلى الله الواحد، الرازق، المحيي المميت لا أول له ولا ثاني له لا في ذات ولا في صفات ولا في أفعال.
فلتكن كل حياتك دعوة لله، ولتوحيد الله، ولعبادة الله، وإياك أن يتلاعب بك كفار قريش فيصدونك ويبعدونك عن هذه الدعوة لله ولكتابه، وإلى دين الإسلام.
والله يأمر نبيه بما شاء، يقول له: لا تكفر، ولا تشرك، فالرب رب والعبد عبد، والنبي عليه الصلاة والسلام يزداد بذلك إيماناً وإيقاناً وثباتاً، والمؤمنون يقولون: إن كان نبينا المعصوم يخاطب بهذا الخطاب فكيف نحن؟ فنحن الذين نؤمر من الله ألا نكون ظهراء ولا معينين على الكافرين، وألا نصد عن طاعة الله وعبادته، وألا نكون مع المشركين، وألا نترك الدعوة إلى الله قائمين وجالسين ومسافرين ومقيمين وفي كل حياتنا.
وهذا شأن المسلم.(157/4)
تفسير قوله تعالى: (ولا تدع مع الله إلهاً آخر)
قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
قال الله لعبده ونبيه وسيد خلقه صلى الله عليه وعلى آله، إياك يا محمد! أن تدعو لإله آخر غير الله، فلا تدع هبل ولا مناة ولا العزى ولا ما يدعو إليه قومك، ولا أحد من الشركاء مما أشرك به الذين لا يملكون عقلاً ولا نوراً ولا هداية.
فلا إله إلا الله، فهو الإله الواحد، والرب الواحد، وهو الله الفرد الصمد، وهو الذي لا شريك له، هو الذي لا يشبه أحداً من خلقه ولا يشبهه أحد من خلقه، فعش على لا إله إلا الله ومت على لا إله إلا الله.
وعض على ذلك بالنواجذ، وهو أمر لرسول الله وهو أمر لنا كذلك، فمن غير أو بدل فإنه يوشك أن يخرج عن دين الإسلام، ونرجو الله أن يثبت أقدامنا، وأن يديم إيماننا، وأن يحيينا مسلمين ويميتنا مسلمين، ويحشرنا تحت لواء سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آله.
ولا إله إلا الله مفتاح الإسلام، وهي أول كلمة في الأذان، وأول كلمة في الإقامة التي لا يتم إيمان المؤمن إلا بها، والتي من قالها حفظ ماله ونفسه وعصما، ومن لم يقلها حل دمه وماله وأهله وعياله.
يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله).
وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] أي: كل شيء هالك إلا ذاته، فيطلق الوجه في كتاب الله ويراد به الذات العلية، وهنا أيضاً استثناء، فهو جل وعلا يستثني وجهه، أي: ذاته من أن تهلك.
ومعناه: ليس هناك في الأرض شريك، وإن أشركوا به فهو هراء وباطل.
وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل).
فكل ما خلا الله وكل ما سوى الله باطل، فان، زائل، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
فقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] أي: كل شيء ميت، فان، باطل، ضائع، ولو عبدت شركاء من دون الله، ولو زعمت الألوهية لخلق من الخلق ملائكة وإنساً وجناً وجمادات وحيوانات وكل ما فعله الحقير في هؤلاء الذين ذهب الله بنورهم، وقد رزقهم العقل والسمع والبصر فلم يستفيدوا منه، وكانوا كالأنعام بل هم أضل.
وقوله تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ} [القصص:88] أي: الفصل، والحكم لله وحده، فهو الذي يفصل بين العباد يوم القيامة، فيفصل بين النصراني واليهودي والمسلم والوثني.
وهو جل جلاله يحكم بين عباده، ولن يحكم معه أحد، وبعد أن تفنى الدنيا ينادي الله جل جلاله فيقول: أنا الملك، أين الملوك؟ فلا مجيب، فيجيب نفسه بنفسه: أنا الملك، جل جلاله وعز مقامه.
فهو الحاكم الذي يفصل بين الخلق يوم العرض على الله، فيعلم الناس إذ ذاك الحق من الباطل، ولا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، هيهات! وسيتمنى الكفار على الله ولو ملكوا الدنيا لافتدوا بها على أن يعودوا للدنيا ليعبدوا الله وليؤمنوا به وليوحدوه، ولكن هيهات! ولو عادوا إليها لما فعلوا إلا كما كانوا يفعلون من قبل، هكذا قالت لهم الملائكة، وهكذا حكم الله الحاكم الفرد جل جلاله.
وقوله تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] يا هؤلاء البشر! يا من كفر بالله! يا من خرج عن دين الله! يا من ضل وأضل وعلا في الأرض طغياناً وفساداً! عما قريب ستهلكون جميعاً، وتموتون جميعاً ولا يبقى إلا وجه الله الكريم، وترجعون إليه ليحكم بينكم إما إلى جنة وإما إلى نار.
فمن مات مؤمناً موحداً يرجو الخير ولو عذب ودخل النار، ومهما أقام فيها فنهايته للخروج منها ودخول الجنة، وقد يغفر الله له من أول مرة فلا يدخلها، أو يدخلها شيئاً قليلاً.
وأما الكافر الذي مات على الشرك ولم يقل يوماً: ربي الله فهذا لا مغفرة له ولا رحمة له، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وبهذا نكون قد أتممنا سورة القصص ولله الحمد والنعمة والشكر والمنة، ولم نقطع دراستها يوماً، ولم نتأخر عن تدريسها لا يوم خميس ولا يوم جمعة ولا حتى أيام الانتقال للمدينة المنورة التي أتابع فيها دروساً أخرى في الحديث في مسند أحمد، وقد أعان الله عليها ودرسناها وفسرناها متتابعة، وأعنتم أنتم بالحضور وبالسمع، وأعانني الله بمتابعتها وشرحها وبيانها، وهذا بعلم الله وفضله.(157/5)
تفسير سورة العنكبوت [1]
سورة العنكبوت من السور العظيمة التي أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسميت بذلك لأن الله ضرب المثل فيها بالعنكبوت.(158/1)
سبب تسمية السورة بهذا الاسم
قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2].
هذه هي سورة العنكبوت، وسميت بسورة العنكبوت لذكر العنكبوت فيها، قال تعالى: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41].
وكان النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يسمي السور، وينظمها، ويضع هذه الآية هنا وهذه السورة هنا، ولم يترك ذلك لأحد ولا حتى لـ أبي بكر ولا عمر؛ من أجل الحفاظ على القرآن، وكل ما يدعيه المستشرقون من يهود أو نصارى أو منافقين من أن ترتيب الآيات والسور هو من فعل الصحابة، ومن فعل أبي بكر وعمر وعثمان كله كذب على الله، ومع هذا فيدعي هؤلاء أكثر من ذلك، فيقولون عن القرآن: إنه ليس كلام الله، وهم يرون المعجزات المرئية، وبإجماعهم أن هذا القرآن هو الذي نطق به النبي عليه الصلاة والسلام منذ 1400عام لم يتغير كلمة، ومع ذلك يقولون: افتراه وأعانه عليه قوم آخرون، وقد قص الله علينا كفرهم، وقول هؤلاء القردة والببغاوات هو نفس ما سبق أن قاله الكفار السابقون، وذكر الله كفرهم في القرآن.
والبيت المبني من فولاذ لا يخاف من ضرب الحجارة، ولكن بيوت الورق تؤثر فيها أقل نسمة، وهكذا دينهم وفلسفاتهم وعلومهم الباطلة التي لا دليل عليها من منطق ولا من علم ولا من نقل صحيح ولا فاسد، وهم مع ذلك متضاربون ومتشاكسون لم يتفقوا حتى على باطلهم.
وسورة العنكبوت اختلف فيها العلماء منذ عصر الصحابة أهي مكية أم مدنية؟ فقال جماعة: مكية، أي: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة، وقال جماعة من الصحابة: بل هي مدنية، أي: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وقال قوم: لا مكية ولا مدنية، وإنما هي كقوله تعالى في سورة القصص: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]، التي نزلت على رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو بين مكة والمدينة.(158/2)
تفسير سورة العنكبوت [1 - 7]
سورة العنكبوت سورة عظيمة ابتدأها الله تعالى بذكر أنه يختبر الناس ويبتليهم، حتى يعلم الصادق من الكاذب، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بسيئاته.(159/1)
تفسير قوله تعالى: (الم)
قال الله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2].
هذه السورة اختلف فيها الصحابة هل هي مدينة أو مكية اختلافاً قل أن يوجد في غيرها من السور، فقال قوم: هي مدنية نزلت بالمدينة المنورة.
وقال قوم: هي مكية، أي: نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة.
وقال الإمام علي رضي الله عنه: بل نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما بين مكة والمدينة.
وهي 69 آية.
وسميت بالعنكبوت لذكر العنكبوت فيها، قال تعالى: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]، وهذا من باب تسمية الكل باسم البعض، وجميع سور القرآن على هذا المنوال وعلى هذا الطريق.
والحروف المقطّعة {الم} فيها خلاف طويل عريض منذ عصر الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ونحن نرجح ما قاله الإمام الزمخشري رحمه الله وأكده الإمام الشنقيطي المتوفى حديثاً رحمه الله: إن هذه الحروف تعني أن هذا الكتاب آخر الكتب المنزلة من الله على خاتم أنبيائه رسولنا ونبينا محمد صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، وهو المهيمن عليها جميعاً، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ونحن اليوم نعيش معجزته، فهو بعد نزوله بألف وأربعمائة عام لم تزد فيه كلمة ولم تنقص كلمة، بل ولم تُنقص منه حركة من ضمة وفتحة وكسرة وسكون ولم تزد، بل أكثر من ذلك فلم تقدم سورة ولم تؤخر، ولم يختلف في وقت من الأوقات في آياته، وذلك كله من الأدلة القاطعة على صدق نبينا ورسالته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى أن هذا الكتاب هو كتاب الله الذي لم يغير ولم يبدّل.
وأما الكتب السابقة جميعاً فبدّلت وغيّرت؛ لأن الله لم يتعهد بحفظها، وإنما عهد بحفظها للعلماء فلم يحفظوها ولم يراعوها، وأما القرآن الكريم فهو الذي تعهد بحفظه ولم يتركه لنبي ولا لصحابي ولا لأحد من الخلق، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
ونحن بعد نزوله بألف وأربعمائة عام نراه واقعاً ومطابقاً للواقع من الإعجاز والصدق والدليل القاطع على حفظ الله له.
فنحن نقرؤه اليوم كما أنزله الله في الوقت الذي آمن به الأولون في عصر الصحابة والتابعين، فهم آمنوا به إيمان تصديق ونحن آمنا به إيمان شهود وواقع.
قال تعالى: {الم} [العنكبوت:1] فهذا القرآن معجز أعجز الخلائق أولها وآخرها منذ نزوله، فهو معجز بلفظه وبمعناه، وقد تحدى الله الخلق أن يأتوا بمثله أو بسورة منه أو بآية فعجزوا كلهم رغم فصاحتهم.
بل إن نبينا وهو سيد الفصحاء والبلغاء والمتكلم البليغ الأول بالعربية وقد أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم عندما توازن بين كلامه في السنة النبوية على فصاحتها وبلاغتها وبين كتاب الله وبلاغته وفصاحته تجد الفرق والبون شاسعين، وهو فرق ما بين الخالق والمخلوق، وبين كلام الله وكلام عباده.
فقوله تعالى: {الم} [العنكبوت:1] كأنه يقول: هذا القرآن المعجز على إعجازه إنما نُظم ونزل باللغة العربية على محمد عليه الصلاة والسلام بواسطة جبريل عليه السلام، وهكذا يقال في جميع المواضع التي تذكر فيها الحروف المقطعة، مثل قوله: {الم}، وقوله: {كهيعص} [مريم:1]، وقوله: {ص} [ص:1]، وقوله: {الر} [يونس:1]، إلى جميع تلك الحروف في فواتح السور.
ومن هذا كان نظم القرآن وكلامه، فاصنعوا إن قدرتم مثله، وهذه الحروف الهجائية هي بينكم، ولكن هيهات هيهات أن يفعل ذلك أحد أو أن يستطيعه.
ولقد حاول الكذاب المتنبئ مسيلمة أن يأتي بشيء سماه قرآناً فأتى بما تضحك منه الثكلى، وأتى بما يستهزأ به وبمثله، وقالوا: إن المعري كذلك حاول أن يفعل مثل ذلك، فأتى بالهراء والسقط من القول.(159/2)
تفسير قوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون)
قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} [العنكبوت:2].
أظن الناس أن يتركوا وقد زعموا أنهم آمنوا بالله؟ والإيمان يكون بالتصديق بالجنان -بالقلب- وبالقول باللسان وبالعمل بالأركان.
أي: أظن الناس أن يُتركوا وقد زعموا الإيمان وزعموا الإسلام وزعموا تصديق محمد في رسالته صلوات الله وسلامه عليه؟ أفظنوا أو حسبوا أن يقولوا ذلك ويعتقدوه ثم يتركوا بلا فتنة؟ أي: بلا اختبار ولا امتحان؟ وهكذا يُبتلى الأطفال ويختبرون ويمتحنون في المدارس هل درسوا؟ وهل لازموا المدرسين والشيوخ؟ فإن أدوا الامتحان فعند الامتحان يُعز المرء أو يهان، إما أن يُعز فينجح، وإما أن يهان ويذِّل فيرسب.
وهكذا من كان في الابتدائي أو الإعدادي أو الثانوي أو الجامعات أو التخصص، وهكذا البشر كلهم في الأرض، وهكذا الخلق كلهم، جنهم وإنسهم المكلفون منهم غير المعصومين، حاشا الملائكة فهم معصومون.(159/3)
الحكمة من ابتلاء الأنبياء
وهكذا يُفتن الأنبياء ويُبتلى الرسل؛ ليُعلم صدق المؤمن في قوله: أشهد أن لا إله إلا الله أصادق هو في دعواه الإيمان أو كاذب؟ قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت:2]، أي: وقد قالوا: لا إله إلا الله وادّعوا الإيمان بالله، أيحسبون أن يقولوا ذلك وهم لا يُفتنون؟ والفتنة: هي الامتحان والابتلاء والاختبار فلابد من الابتلاء؛ ليعلم الله الصادق من الكاذب، وهو يعلم جل جلاله، ولكن ليدرك الناس ذلك، وليتأكد المبتلى والمُفتتن بهذا حتى إذا أُحسن إليه علم أنه قدّم طاعة، وإذا أُسيئ إليه نتيجة إساءته فإنما نفسه هي التي أساءت إليه، وليعلم أن حجة الله بالغة، فلم يبتل بمحنة ولم يُبتل بعذاب إلا بعد أن أتته الرسل وأتته كتب الله تأمره وتنهاه.
ولقد ابتلي الرسل والأنبياء بما فيهم أولو العزم الخمسة، فقد ابتلي إبراهيم خليل الله وأبو الأنبياء عندما قذف به النمرود في النار، ثم أُخرج من بلده وعُذّب العذاب النكر فصبر لذلك، وكان من أولي العزم، وبقي مبتلى إلى أن لقي الله ولم يوجد منه إلا الصدق، وكان مكان الأسوة لبنيه وسلالته والناس أجمعين.
وابتلي موسى واستُعبد قومه وأُنذر وهُدد بالقتل وشُرّد وأُخرج من بلده وكان ما كان، فخرج من المحنة والفتنة مضفّراً منصوراً.
وهكذا ابتلي خاتمهم نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد قام قومه في وجهه قومة رجل واحد، فكذّبوه وقالوا: مجنون وساحر، وقاطعوه وهجروه ورموه بالحجارة وفعلوا به الأفاعيل إلى أن أخرجوه من بلده ومسقط رأسه، ثم اضطروه للحرب والقتال، فكُسِرت رباعيته صلى الله عليه وسلم ولقي ما لقي، فداه نفسي وأبي وأمي وولدي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فخرج من كل ذلك كالذهب الإبريز، وخرج القدوة البشرية العالمية لكل الخلق أجمعين، فإن كان هذا بالأنبياء وأفضل الخلق فكيف بغيرهم؟(159/4)
سنة الله في ابتلاء المؤمنين
وهكذا كل من يزعم الإيمان أو الصلاح لن يُترك هكذا دون أن يُبتلى، وعند الابتلاء والصبر على الاختبار والامتحان يخرج وقد صُدِّق، ويخرج وقد أصبح على سنن المرسلين والصالحين، وهذا ما أكده النبي عليه الصلاة والسلام بقوله في الحديث الصحيح: (أشدكم بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل)، أي: الأصلح فالأصلح والأقرب إلى الدين والصدق وهكذا؛ فإن ابتلي وفتن واختبر فنجح وظفر وصبر كان من أولي العزم، سواء كان من عموم الناس أو من الأنبياء.(159/5)
ابتلاء الصحابة رضي الله عنهم
وقد امتحن الصحابة في حياتهم بالقتال وبالقتل، وبالفقر وبالبؤس، وبالخروج من أرضهم وأموالهم، وبتخلل المنافقين بين أوساطهم، فمن ثبت نال وظفر وأصبح مع محمد صلى الله عليه وسلم في الآخرة كما كان معه في الدنيا، ومن لم يصبر فقد نافق وارتد، فمنهم من نافق في الحياة النبوية، ومنهم من ارتد بعد الوفاة النبوية فخسر الدنيا والآخرة، وذلك الذي اضطّر الخليفة الأول أبا بكر رضي الله عنه لقتال هؤلاء الذين ارتدوا وغيّروا وبدّلوا، ولقتال أولئك الذين بقوا على الإسلام ولكنهم حاولوا أن يمنعوا الزكاة، فقاتلهم قتالاً لا هوادة فيه إلى أن انتصر عليهم، فآمن من آمن تائباً عائداً، وقُتل من قُتل، فكان دمه هدراً وقتله سيف الإسلام.
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، أي: أظن الناس أن يُتركوا بلا امتحان ولا اختبار ولا ابتلاء ولا فتنة وقد قالوا: إنا مؤمنون؟ والإيمان عمل بالقلب، والقلب لا يعلم دواخله وحقائقه إلا الله؛ ولذلك اختُبر وابتُلي، فمن صدّق بالجنان، وقال باللسان، وعمل الصالحات بالأركان وما إليها، وصبر على الفتنة والبلاء فذاك هو المؤمن الصادق، ومن لم يصبر فقد ذهب بخزي الدنيا والآخرة.(159/6)
تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا الذين من قبلهم)
قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3].
أي: وليس هذا مما انفردتم به يا أتباع محمد، بل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3].
أي: لقد فتنت الأمم من قبل، وأعظم من فُتن بما لم يُفتن به نبي من الأنبياء نوح عليه السلام، فلم يبتل أحد مثل ابتلائه، فقد بقي ألف سنة إلا خمسين عاماً في غاية الفتنة والبلاء من قومه، وهو صابر يدعو إلى الله صباح مساء، حضراً وسفراً، فكانوا تارة يهزءون به، وتارة يكذبونه، وتارة يشتمونه، وهو مع كل ذلك صابر داع إلى الله، ومع هذه المدة الطويلة ما آمن به من قومه إلا قليل.
قال تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:3].
يعلم الله الشيء قبل أن يكون وبعد أن يكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، فهو العالم بكل شيء.
والعلم هنا الرؤية، أي: سيرى الله من خلقه من الذي سيكون بعد الفتنة صادقاً، ومن الذي سيكون كاذباً، ومن الذي سيثبُت على الإيمان بالله جناناً ولساناً، ومن الذي ستتلاعب به الأهواء ويكون كريشة في مهب الريح، والسماء لا تكاد تستقر على حال.
{فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} [العنكبوت:3].
أي: في إيمانهم؛ ليرى الصادق في إيمانه، وليرى الكاذب في إيمانه، وليجازي الصادق على صدقه، وليجازي الكاذب على كذبه، وما خُلقت النار والجنة إلا لأمثال هؤلاء؛ فللمطيع الصادق الجنة، وللكاذب المنافق المرتد المتردد النار.
والعياذ بالله.(159/7)
تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين يعملون السيئات)
قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4].
أي: أم ظن هؤلاء المرتكبون للمعاصي والآثام والذين يعملونها أنهم يسبقونا ويفلتون من عقابنا وعذابنا لهم وامتحاننا لهم؟ إن كان ذلك كذلك {أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:59]، أي: ما أسوأ أحكامهم، وما أسوأ ظلمهم، وما أشد بلادتهم وإعراضهم، فالله جل جلاله لن يترك أحداً من غير أن يُفتن؛ ليُعلم صدقه من كذبه.
والله جل جلاله طالما ضرب لنا الأمثال وأعاد هذه المعاني في القرآن الكريم، قال تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، وقال تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] فقد زلزل بالفتن والبلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه حتى أخذهم ضيق وتبرم وقالوا: متى نصر الله؟ أي: لقد طال البلاء.
قال تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] وإن مع الصبر الفرج، ومع الفرج النصر، وهذه سنة الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].
قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} [العنكبوت:4]، أي: أظن هؤلاء المسيئون الآثمون أن يسبقوا نقمتنا وغضبنا عليهم؟ وهل ظنوا أنهم سيُفلتون من عذابنا؟ هيهات، {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]، أي: ما أسوأ حكمهم وأسوأ فهمهم وبعدهم عن الحق وعن الفهم والإدراك.(159/8)
تفسير قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله)
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:5].
أي: من كان يخاف لقاء الله وينتظر الموت، ويخاف العرض على الله يوم القيامة، ويخاف السؤال في القبر من منكر ونكير {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت:5]، أي: الأجل الذي ضربه الله لوفاة كل إنسان هو في نفسه آت عما قريب لا محالة، وكأن الدنيا لم تكن، فيسأل كل فرد عن نفسه، فقد خرج من الرحم وحده، وسيدخل القبر وحده، لا أب معه ولا أم ولا قريب ولا خدم ولا حشم سواء كان سلطاناً أو مسكيناً، وسواء كان ذا جاه في الدنيا أو كان مجهولاً لا يعرفه أحد، فقد جاء وحده وسيعود وحده.
فهذا الذي يرجو لقاء الله والعرض عليه بمجرد موته وبسؤال الملكين عن دينه وعقيدته، وعن حياته كيف قضاها؟ وعن إيمانه بالله وبنبي الله صلى الله عليه وسلم كيف هو؟ وعن عمله وما أمره الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم أقام به أم لم يقم؟ فهو عند الموت يلاقي الله ويلاقي الحقائق، فما كان إيماناً بالغيب يُصبح واقعاً ومشهوداً، ويُصبح وجهاً لوجه مع الحق ومع العرض على الله يوم القيامة ولقائه؛ ومن يرجو الآخرة ويرجو لقاء الله يجب أن يعمل لذلك اليوم.
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت:5]، وقال تعالى: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81].
وأجل الله أي: من الوفاة ومن القيامة والعرض يوم الحساب على الله، فذلك اليوم هو آت لا محالة، ولا يشك فيه إلا منافق أو كافر.
قال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:5] فالله يسمع، وهذه تتمة كما هي في كل الآيات، وهذه التتمة في كل آية تكون تارة لتمام المعنى وتمكينه ومطابقة له، وتكون تارة بشرى، وتارة نذارة، وهنا تشتملهما معاً، فالله سميع للمؤمن عندما يعلن إيمانه ويصدّق الجنان اللسان، فيسمع عبادته وتوحيده وما يصنعه من طاعات، وهو عليم بحاله إن كان من أهل الخير أو إن كان من أهل الشر، ويسمع من كل إنسان ما يقوله من شر، فيُجازى على الخير خيراً وعلى الشر شراً.(159/9)
تفسير قوله تعالى: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه)
قال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6].
ومعنى ذلك: كل شيء يحتاج إلى جهاد.
والجهاد يعني: أن تبذل من نفسك جهدها وطاقتها، فإن كان بالسيف فهو القتال، وإن كان باللسان فهو الجهاد باللسان، وإن كان بالعبادة فهو الجهاد بالعبادة، وإن كان بالدعوة إلى الله فهو بالدعوة إلى الله، وإن كان بالشكر فهو كذلك، وإن كان بالصبر على الفتن والبلاء فهو كذلك.
والجهاد كما يقول الحسن البصري: لا يكون إلا بالسيف.
فالجهاد كما قص الله وكما بين رسول الله عليه الصلاة والسلام يكون بالسيف، ويكون باللسان، ويكون بالعمل، ويكون بالمال، ويكون بالرأي، ويكون بكل ما يملكه الإنسان؛ فالطالب عندما يبذل من نفسه الجهد ويتعب في التعليم والدراسة؛ ليصل إلى درجة ينتقل بها من الجهل والأمية إلى درجة القراءة والعلم فما يبذله من نفسه من سهر وملازمة فذاك جهاده، والمدرس والعالم ما يدعو به إلى الله ويكتب به ويخطب به ويؤلفه؛ لنشر العلم ومعرفة الحقائق وتزييف الأباطيل ومحاربة الشرك والأوثان وإذلال الكفر والكافرين والنفاق والمنافقين فذلك جهاده، ومن هنا جاء الحديث: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) وقد يصبر الإنسان على الجهاد الأصغر الذي هو بذل الحياة رخيصة في سبيل الله ولا يطيق الجهاد باللسان وبالعبادة وبالطاعات.
فالجهاد هنا يعم كل أنواعه، فتجاهد في الله بأن تترك الفواحش جميعها ما ظهر منها وما بطن، وتبذل الجهد من نفسك لتلتزم طاعة الله وطاعة نبيه عليه الصلاة والسلام في جميع الأوامر والنواهي جهد طاقتك، وتبذل من نفسك الجهد لأن تكون مؤمناً حقاً ولأن تكون مسلماً صادقاً.
فالمسلم مدة حياته إلى لقاء الله في جهاد، وهذا الجهاد قال الله عنه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت:6]، فمآله وثوابه وأجره لن يعود إلى الله ولن يعود إلا للإنسان ولنفسه، كما قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، وكما في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم لما نقص ذلك من ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم لما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي! إنما هي أعمالكم أجمعهما لكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
وقال تعالى هنا: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6]، فهو الغني المطلق ونحن الفقراء إليه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].
فحياتنا ومعاشنا وقيامنا ووجودنا لولا الله ومدده لما كان لها أثر، ولولا الله لما بقيت حياة، فالله غني عن عبادتنا وعن كل ما نفعله في هذه الدنيا، ولا يضره كفرنا كما لا ينفعه إيماننا، ولكن مآل جهادنا في أنواع الطاعات والعبادات إلينا، وثوابها راجع لنا، وخيرها نحن الذين نتمتع به، كما قال هنا: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ} [العنكبوت:6]، واللام هنا لام التوكيد في الكلام، وهي تقوم مقام القسم، فالله غني عن العوالم الماضية ملائكة وجناً وإنساً، والعوالم الباقية واللاحقة ملائكة وجناً وإنساً وغير ذلك، فالله غني عن الكل غنىً مطلقاً، ونحن الفقراء إليه فقراً مطلقاً، ولا يستغني أحد عن الله في شيء، فهو الذي أوجدنا، وهو الذي أحيانا، وهو الذي يرزقنا، وهو الذي أصحنا، فإن شاء أبقى ذلك وإن شاء رفعه، لا يزيد ذلك في ملكه ولا ينقص منه، فهو الغني الغنى المطلق عن الكل.(159/10)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7].
في الآية الماضية كان الكلام على الكافرين والمترددين والمنافقين، وسنة الله في كتابه أنه يتكلم عن الكفر بعد الإيمان، وعن الإيمان بعد الكفر، وعن العذاب بعد الرحمة، وعن الرحمة بعد العذاب؛ ليبقى الإنسان بين خوف ورجاء، وبين طاعة دائمة وتردد فيما إذا كان من المنافقين.
فلأهل الجنة وللمطيعين آيات الرحمة والوعد بالجنة والرضا، وللكافرين والمنافقين التهديد والوعيد بالنقمة والعذاب والنار، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العنكبوت:7] فلابد مع الإيمان من عمل الصالحات.
والإيمان: التصديق بالقلب والقول باللسان وعمل الصالحات بالأركان؛ ليؤكد الخُبر الخبر.
قال تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العنكبوت:7] أي: من القيام بالأركان الخمسة جميعها بالتزام الشهادتين وآدابها، والتزام الصلوات الخمس في اليوم والليلة، والتزام صيام شهر رمضان من كل عام، والتزام الحج مرة في العمر لمن وجد زاداً وراحلة، وأداء الزكاة لمن رزقه الله مالاً يؤدي زكاته، ويتبع ذلك ترك المنكرات والمحرمات جميعها، وفعل الطاعات حسب جهده وطاقته، وضابط ذلك وجامعه قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].
فلا تزن ولا تسرق ولا تنافق ولا تكذب ولا ترتش ولا تراب ولا تظلم، فهذه النواهي جميعها لا بد منها؛ لأن السلب لا يتعلق إلا بالإرادة، بأن تكون إرادتك قوية وإيمانك صحيحاً، وأما الأفعال فعلى قدر الطاقة، مثل الأمر بالصلاة قياماً، فإذا عجز المريض فقد قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ومثل الأمر بالصيام فإن كانت حائضاً أو نفساء أو وجد مسافر أو مريض فـ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
ومثل الأمر بالحج فإن لم يجد هذا المأمور زاداً ولا راحلة فـ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
أما ما لا تفعل فهي في إمكان كل أحد امرأة كانت أو رجلاً؛ لأنها لا تحتاج إلى قدرة، وإنما تحتاج إلى إرادة قوية وإيمان صادق يحقق هذه الإرادة القوية.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [العنكبوت:7]، فهنا يخبر الله جل جلاله ويتعهد باللام الموطئة للقسم ويؤكده بالنون الثقيلة: {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [العنكبوت:7] والتكفير: الستر، أي: تستر وتزال، أي: لا يحاسب عليها المؤمن الذي يأتي بالصالحات.
{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7]: أي: يجازيهم الله عن الذي كانوا يعملون بأحسنه، والحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا حد له مما أراد الله، وقد تكون الحسنة الواحدة سبباً في دخول الجنة، وقد تكون السيئة الواحدة نوعاً من الكفر، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في النار سبعين خريفاً)، أي: ولا يصل إلى القعر، كأن يقول كلمة يمزح بها وهي تتعلق بالذات العلية أو تتعلق بالنبوة الكريمة فيرتد بها ويكفر.
وأما المسلم المؤمن الذي يقوم بالصالحات فمهما كان منه من سيئة فإنه يكفّر عنه سيئاته بهذا الشرط، ويجازيه على الحسنات أحسنها وأكرمها وأتمها وأسبقها، والحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
هذا جزاء المؤمن الصادق العامل للصالحات والقائم بها: أن تكفّر سيئاته، وتسجّل حسناته بأحسنها.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7]، أي: يجازيهم الله ويكافئهم على أعمالهم بأعلى الحسنات والأجر والثواب.(159/11)
تفسير سورة العنكبوت [8 - 11]
يوصي الله تعالى الإنسان بالإحسان لوالديه، وألا يسيء إليهما وإن كانا كافرين، وذكر أنه سيدخل المؤمنين في الصالحين، وأن المنافقين سيبتليهم الله حتى يظهر نفاقهم ويفتضحون.(160/1)
تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حسناً)
قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8].
أي: كما أمر الله بطاعته وبتوحيده وصى بالوالدين، ويكثر في القرآن الكريم أن يقرن الله بر الوالدين بطاعته وتوحيده؛ وذلك لأنه الخالق الرازق، وقد أعطاهم الإيمان وأكرمهم بالرزق وأنعم عليهم بالحسنات، وأما الوالدان فقد كانا سبباً لخروج الابن إلى هذه الدنيا، فإن كان مؤمناً ففي صحيفتهما، وإن دخل الجنة ففي صحيفتهما، وإن عمل في دنياه وفي خدمة العباد، ونشر الإسلام، وقتال الكافرين ففي صحيفتهما، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، فكيف إذا لم يشكر أباه وأمه!! {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8] التوصية من الله فرض وأمر، قال تعالى في الآية: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ} [العنكبوت:8] ولم يقل: المسلم؛ لأن الأوامر والنواهي الإلهية والنبوية يخاطب بها كل إنسان على الأرض، ولكن شرط قبولها أن يكون الإنسان مؤمناً، فهو أول شرط في صحة قيام الطاعات، وأما المخاطبة بها فإن الله يخاطب كل الناس، ونبينا الخاتم نبي لجميع الناس وجميع البشر: أبيضهم وأسودهم، في مشارق الأرض ومغاربها، بل والإنس والجن.
والبر قد يكون من الكافر ويكون من المؤمن، فإن الكافر يبر أباه ويبر أمه، وقد يقبل بره أو لا يقبل، ويفرض ذلك على المسلم الذي يأتي بذلك بعد الشهادتين، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8]، أي: أمرناه بالإحسان إليهما، والإحسان كلمة شاملة بأن يكون مطيعاً مؤدباً، وألا يقول لأحدهما أقل كلمة وأحقرها: أف، فحتى التأفف لا يجوز أن يتأفف من أحدهما، وألا يعبس في وجوههما، وألا يرد أوامرهما إلا في حالة واحدة، ذكرها الله في قوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8].
فالوالدان إن كانا مشركين أيضاً فأنت مأمور بالإحسان إليهما وببرهما وبالقيام على طاعتهما والأدب معهما على كل حال، ولا يعصيان أو يعصى أحدهما إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا أمرا الأبناء أو أحدهم بالشرك بالله، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8].
وقال في آية أخرى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15].
فما يتعلق بالإيمان والإسلام وبطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلابد أن تقوم بذلك، ولا تطع أمر الوالدين إن حاولا أن يرداك عن الإيمان، ولكن صاحبهما بالمعروف، ومعروف الدنيا السكن والنفقة والكسوة وكل ما يدخل تحت البر وتحت الإحسان؛ فهذا أمر إلهي فرضه الله على الإنسان مع والديه؛ فإن خرج الأولاد عن ذلك انتقلوا من البر إلى العقوق بلا واسطة.
وعظم جرم العقوق بينه النبي عليه الصلاة والسلام لما سئل: أي ذنب أعظم بعد الشرك بالله؟ قال: (عقوق الوالدين).
فكما أن بر الوالدين يأتي في الدرجة الثانية بعد التوحيد والإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فكذلك مخالفة الوالدين وعقوقهما يأتي في الدرجة الثانية بعد الكفر بالله، وليس هناك مصيبة أعظم من هذا البلاء.
وطاعة الوالدين معلوم من دين الإسلام بالضرورة، وكتب السنة عامرة بذلك، والقرآن فيه آيات تتحدث عن ذلك وليست واحدة، وكلها تلح وتؤكد هذا المعنى، ومن باب القاعدة: الشيء إذا تكرر تقرر.
أي: عندما يكرر الأمر والنهي فإنه يصبح قراراً وأمراً لا هوادة فيه.
وقد نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص أحد الستة الذين اختارهم عمر للشورى في أمر الخلافة، وهو أحد القادة الفاتحين، وأحد الرعيل الأول من الأصحاب المهاجرين، قال رضي الله عنه: نزلت في أربع آيات من كتاب الله وذكر منها هذه الآية.
وذلك أنه اشتهر ببر أمه، فلما أسلم قالت له: والله يا بني! لن أطعم ولن أشرب ولن يظل رأسي ظل بيت ما لم تعد لديني وتترك هذا الدين المبتدع.
فسكت عنها، فمر اليوم الأول فلم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فسكت عنها، ثم مر اليوم الثاني والثالث وهي كذلك، وقد أخذت تضعف وتتدهور صحتها فقال لها: يا أماه! إنك لتعلمين طاعتي لك وبري بك، والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً على أن أترك دين محمد لم أفعل، فانظري لنفسك: كلي أو لا تأكلي، واشربي أو لا تشربي! فعندما رأت الجد والصرامة في قوله دخلت الغرفة فأكلت وشربت.
وبسبب إرادته القوية وإيمانه الثابت انضمت إليه فآمنت بإيمانه وأسلمت بإسلامه، وذلك نتيجة شخصيته وقوة عزيمته وقوة إيمانه وإسلامه.
ولقد ابتلي المسلمون في مكة أشد البلاء من الجوع والتعذيب والضرب ووضع الحجارة عليهم في وقت شدة الحر عندما تكون الشمس في كبد السماء، ومعلومة شدة الشمس في أيام الحر هنا في مكة، فقد كانوا يضعون الحجارة على بطونهم وظهورهم، ويربطونهم بالحبال ويسلمونهم لعبيدهم وغلمانهم ليجروهم في أزقة مكة ودروبها؛ ليكفروا بالله وليرتدوا عن دين الله، وهم لا يقولون إلا أحد أحد، فمات من مات منهم، وكان أول من مات في سبيل الله سمية أم عمار زوجة ياسر رضي الله عنها، ودخلت في عموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).
فأول من آمن بهذا الإسلام وبمحمد عليه الصلاة والسلام امرأة، وهي أم المؤمنين الأولى السيدة خديجة رضوان الله عليها، وأول من استشهدت في سبيل الله امرأة، وهي سمية أم عمار، فكان لـ خديجة أجرها وأجر من آمن بعدها، ولـ سمية فيما استشهدت به أجرها وأجر من استشهد في سبيل الله بعدها باستمرار.
وأول من هاجرت في سبيل الله البكر العذراء عاتكة بنت عقبة بن أبي معيط، وأبوها الكافر المرتد عقبة كان من أشد أعداء الله على رسول الله، وقد أسر في غزوة بدر فقتله النبي عليه الصلاة والسلام كما قتل ذاك الشاعر الذي كان يهزأ بالقرآن وبنبي الله عليه الصلاة والسلام، الذي كان يقول: أنا أستطيع أن أقول كما يقول محمد، إن هي إلا أساطير الأولين.
وعندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة والد السيدة الجليلة عاتكة قال له: يا محمد! لم خصصتني بالقتل؟ فلم يجبه، ثم قال: لمن تترك الصبية؟ قال: للنار، وكان ولده مع دعواه الصحبة منافقاً أو أشبه بالمنافقين، وهو الوليد بن عقبة المشهور في التاريخ الأول في الإسلام، أما عاتكة فقد كانت من أنبل المؤمنين وأول من هاجرت من مكة إلى المدينة، هجرت أباها الكافر وأهلها الكفار، وهاجرت قبل الرجال جميعاً، وعندما اشتد البلاء على المسلمين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ألا ترى هذا البلاء الذي نعيش فيه؟ فادع الله أن يرفعه عنا، فأخبرهم أن من قبلهم كانوا ينشرون بالمناشير حتى تُقسم رءوسهم، وتمشط أجسادهم بأمشاط من حديد ما بين لحمهم وعظمهم، وهم يأبون إلا الإيمان والصمود على الإسلام والثبات على توحيد الله، ثم قال لهم: (ولكنكم قوم تستعجلون)، ومعناه: أن النصر سيأتي، والعزة ستأتي، ومكة ستنفردون بحكمها وستخرجون كفّارها ومشركيها، ولكن الأمر مرهون بوقته، فمن استعجل الأمر قبل أوانه عوقب بحرمانه كما قال الحكيم المسلم الفيلسوف.
قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8] أي: يا آباء ويا أبناء! ستعودون إليّ وأُحاسب المحسن وأجازيه على إحسانه، وأُحاسب المسيء وأجازيه على إساءته، والله يعلم الصادق من الكاذب، والأعمال الظاهرة تدل على الأعمال الباطنة، وهذه بشرى لفاعلي الخير، وهو نذير لمرتكبي الشر، فهم يرجعون إلى الله جميعاً، وسنرجع جميعنا إلى الله، والله يعلم أعمالنا، وسيجازي كلاً منا على عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.(160/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:9].
ومعنى ذلك أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كفّر الله عنهم سيئاتهم وجازاهم بأحسن أعمالهم؛ وأدخلهم في عداد الصالحين، فالرسل أولاً فالأنبياء فالصالحون، فهم مع الصحابة في صلاحهم، ومع التابعين في صلاحهم، ومع الأخيار العبّاد في صلاحهم، فهم في طبقة الصالحين الخالدين إذا صدق إسلامهم وبان صدقهم، ومن أسر سريرة ألبسه الله ردائها وأصبح في عداد الصالحين.
وفي طبقات الرجال في كتب التراجم يقولون عن فلان: كان صالحاً، وعن فلان: كان منافقاً، وعن فلان: كان صدّيقاً ومنذ عصر الصحابة، فنحن نقول: المهاجرون الأول والأنصار الأول، ونقول: المنافقون والمرتدّون، ونقول: مانعوا الزكاة، إن كان هذا في العصر النبوي فما بالك بما بعده؟ وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).
وكون المسلم دخل في طبقة من طبقات الصالحين تلك رتبة عالية، فقد أكثر من تكفير السيئات والمجازاة بالحسنات، كما أن الصادق باستمرار يكتب مع الصادقين والله مع الصادقين، وكذلك الكاذب الذي اعتاد الكذب دوماً واستمراراً يكتب مع الكاذبين الذين لا يصدقون.
والذي فعله علماء الأمة من السلف الصالح عند تلقيهم وقبولهم للأحكام عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنهم سجّلوا الرواة من بعد عصر الصحابة، وبينوا الصادق من الكاذب، أما الصحابة فكلهم عدول، فمن ارتد أو نافق خرج من الإسلام، ومن بقي صادقاً في دينه فهو ثقة، والتابعون يطرأ عليهم الصدق والكذب وإن كان يغلب عليهم الصدق، ومن جاء بعدهم لا بد من معرفة الصدق والكذب، وصدق الصادق، وكذب الكاذب.
وطريقة رجال الجرح والتعديل أنهم إذا قبضوا على راو كذبة واحدة لم يؤاخذوه بها فإن زاد كُتب مع الكاذبين وأدخل في سجل الكاذبين، مثل ميزان الاعتدال للذهبي ولسان الميزان للحافظ ابن حجر العسقلاني وكتب الضعاف في أعلام الجرح والتعديل، ومهما صدق بعد ذلك لا تُقبل له رواية، فيقولون عنه: قد اختلط كذبه بصدقه، وصدقه بكذبه، ولا يستطيعون أن يميزوا ما قاله صدقاً وما قاله كذباً، فيستغنون عنه وعن كلامه، ويبقى الكذب في سنده باستمرار، ويصبح الحديث موضوعاً لوجود فلان فيه وهو كذّاب.
ولذا قيل: إن راعياً للأغنام كان يصيح ويقول: الذئب الذئب! فخرج أهله لينقذوه فوجدوه قد كذب عليهم، ثم كررها مرتين أو ثلاثاً، ومرة جاء الذئب حقيقة فصاح بأعلى صوته: الذئب الذئب، فما صدّقه أحد، وإذا بهم يجدونه بعد ذلك قد افترسه الذئب ولم يترك منه شيئاً، فكان ضحية كذبه، فهو على كل حال عبرة للكثير من تلاميذنا وغيرهم.
وقوله سبحانه وتعالى: {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:9] أكد الفعل المضارع باللام، وبنون التوكيد الثقيلة أنهم سيكونون مع الذين امتحنوا فنجحوا وفازوا وأصبحوا صالحين صادقين مؤمنين حقاً.(160/3)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله)
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:10].
أي: من الناس طبقة مترددة بين الكفر والإيمان لا تكاد تُبتلى أو تختبر أو تفتن بشيء إلا وضاع إيمانها ونافقت، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ} [العنكبوت:10] ولم يقل: ومن المؤمنين؛ لأن من نافق ليس مؤمناً، ودعواه الإيمان دعوى كاذبة، وإنما يقول بلسانه.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] أي: إذا امتحن أو اختبر لأجل دينه وصدقه، وطاعته وإعلانه إسلامه؛ أو أصابه الإيذاء البشري عندما يؤذى به يجعل فتنة الناس كعذاب الله، فيضطرب ويرتد عن الإسلام ويترك الإيمان وصار شيوعياً أو اشتراكياً أو ماسونياً! وهذه الأديان اليهودية الجديدة ابتلي بها المسلمون في أقطارهم وفي بلادهم، فعندما يمتحن هذا الامتحان يترك الدين فلا يصلي.
فالمنافق إذا أوذي لأجل دينه وإذا امتحن لأجل إسلامه، إذا قيل له: دع الإيمان وكن مع الكافرين، فإنه يضطرب حيناً ويرتد حيناً ويجعل فتنة الناس وعذابهم كعذاب الله، لا يفكّر أنه مهما امتحن ومهما عُذِّب في الدنيا إن هو ضاع إيمانه واستجاب لكلام أئمة الشياطين والكافرين لم يقارن بين عذابهم وعذاب الله فيما إذا ارتد أو نافق أو اضطرب في إسلامه ودينه؛ وهذا لضعف إسلامه من الأصل ولعدم رسوخه في الإيمان من أصله.
إذا أوذي في الله لأجل دينه وامتحن لأجل إسلامه يسرع إلى الكفر فيرتد ويجعل عذاب الناس من المصيبة والبلاء يعادل عذاب الله، فلا يخاف من عذاب الله المنتظر له، وإنما يخاف من عذاب الناس له فيرتد ويكفر ويقول للناس: ألا تعذروني! قال تعالى: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10].
والخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين الصادقين وقد كان معهم جماعة من المنافقين كـ عبد الله بن أبي ابن سلول كبير المنافقين فقد كان المنافقون من المدينة ومن اليهود ادعوا الإسلام وكانوا كذبة فجرة، فإذا كان النبي في عز ونصر يقولون للنبي وللمسلمين: إنا كنا معكم، قال تعالى: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10] أي: لم لا تقاسموننا الغنائم؟ ولم لا تشركونا معكم في العز والنصر؟ ألم نحضر المعركة؟ وقد حضروا وألبوا على رسول الله، وحضر في غزوة أحد عبد الله بن أبي ابن سلول ومعه المئات من المنافقين أمثاله في عزّ المعركة، فانسحب هو ومن معه فانتقلت المعركة من نصر إلى هزيمة لفعل هذا المنافق، والنبي عليه الصلاة والسلام لاقى الشدائد في المعركة، فقد سقط في حفرة وانكسرت ثناياه عليه الصلاة والسلام، ودخلت حلقتا المغفر -وهو من الحديد الذي كان لابساً له في الحرب- في خده إلى أن وصلت إلى أسنانه، إلى أن جاء الصحابة بعد ذلك فأخذوا هذا الحديد بأسنانهم إلى أن طارت الأسنان والثنايا، ولما أخذوا بيده لم يستطع عليه الصلاة والسلام لكثرة ما نزفت دماؤه في الحفرة أن يصعد منها، فوضع الصحابة ظهورهم فصعدوا به بعد بلاء وجهد.
وفي غزوة الأحزاب لاقى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد المعاناة، وما كاد أن يصل إلى البيت حتى جاءه جبريل وقال: إنا لم ننزع لأمة الحرب بعد، فاغز بني قريظة، فذهب إلى بني قريظة، وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، وذهب معه الكثير من الصادقين من المهاجرين والأنصار إلى بني قريظة وهم جرحى تسيل دماءهم.
وقد لقي النبي عليه الصلاة والسلام من المنافقين الشدائد، فكان هؤلاء المنافقون إذا كانت المعركة هزيمة أظهروا الكفر وأظهروا التشنيع، وإذا انتصر النبي عليه الصلاة والسلام كما انتصر في غزوة بدر جاء المنافقون مسرعين وقالوا: ألم نكن معكم؟ قال تعالى: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10] أي: في النصر.
فهم {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143]، فالمنافق ذو وجهين: وجه مع المؤمنين ووجه مع المنافقين، وهؤلاء طبقة لم تنته قط من الدنيا، فقد كانت ولا تزال كما كانت أيام نبي الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله على أصحابه، فهذه الطبقة ملازمة لكل عصر.
وإذا ظن المؤمن أنه سيكون مؤمناً ولا يختبر في دينه ولا يُفتن في دعواه ليُعلم هل هو صادق أو كاذب، فإنه يكون ضعيف الإيمان، ويكاد في أول امتحان يفقد دينه وإسلامه، وقد حصل هذا كثيراً، فيظهر البعض على غاية من التقوى والصلاح فإذا به يُبتلى يوماً إما ببلاء سماوي أو بلاء بشري، وإذا به يتزعزع، وإذا به يترك الصلاة وقد كان يصلي، فكان مؤمناً فأصبح من المنافقين، وهذا إيمانه في الأصل غير ثابت وغير مستقر؛ لأن الإسلام لم يخالط بشاشة قلبه بعد ولم يذق حلاوته.
قال تعالى: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:10].
يقول الله لنبيه: قل لهؤلاء: إن الله جل جلاله أعلم بما في صدور العوالم كلها والخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم، فالمنافقون الذين يزعمون الإيمان ويظنون أنهم يخفون على الله، هذا من سخافة عقولهم وضياع إيمانهم، وهذا يدل على أنهم لا عقل ولا دين لهم.(160/4)
تفسير قوله تعالى: (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين)
قال الله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:11].
أي: ليرى ذلك، وإلا فالله يعلم الشيء قبل كونه، ويعلمه بعد كونه، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.
{وَلَيَعْلَمَنَّ} [العنكبوت:11] أي: ليري ذلك في أنفسهم، وليراه غيرهم، وليكونوا على قناعة أنهم اكتشفوا وفضحوا.
وأكد الفعل المضارع (يعلم) بلام التوكيد للقسم، وبالنون الثقيلة، فالمؤمنون يعلمون حتى يظهر إيمانهم ويراه الناس ويكونوا على ثقة بأنفسهم، والمنافقون ليتأكدوا بأنفسهم، وليعلموا أن الله يعلمهم.(160/5)
تفسير سورة العنكبوت [12 - 17]
الكافرون المجرمون يدعون الناس إلى باطلهم وكفرهم، ويذكرون لهم أنهم مستعدون أن يحملوا أوزارهم وخطاياهم، وهم كاذبون في ذلك، وقد ذكر الله تعالى قصة نوح مع قومه وصبره على الدعوة، وكذلك سيدنا إبراهيم؛ ليكون فيهما تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(161/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا)
قال الله جل جلاله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت:12].
إن الكفر أنواع كما أن الإيمان أنواع، فهناك الكافر الداعي إلى النار وإلى الكفر، ولا يكتفي بصد الناس عن الإيمان، ولكنه في وقاحة يدعو المؤمنين إلى الردة، وترك الإيمان واتباع الكفر والشرك، وعصيان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي يحكيه الله جل جلاله هنا عن أقوام من الكفار عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة والجزيرة العربية، وهذا النوع يوجد في كل عصر وفي كل أمة، وهؤلاء نموذج لهم ومثال عنهم، فلم يكتفوا بكفرهم، بل قال هؤلاء الكفار للذين آمنوا بالله وبرسوله وبكتابه: دعوا دينكم ودعوا الإيمان ودعوا الناس، واتبعوا طريقنا وانصروا كفرنا، ونحن نلتزم لكم بأن نحمل خطاياكم وجرائمكم وآثامكم، قال الله عنهم: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت:12].
وصناديد قريش ما كانوا إلا مثالاً للكفار الصادين عن الله ورسله وكتبه، وكانوا قد قالوا للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا وطريقنا في الكفر ودعوا الإيمان وعودوا إلى دين الشرك والكفر ونحن نلتزم لكم بأن نجعل آثامكم في أعناقنا، فيتحملون أوزار أنفسهم وأوزار هؤلاء الذين يضلونهم، قال الله عنهم: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت:12] أي: كذبوا وافتروا، بل كما قال الله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] أي: أن هؤلاء الذين كذبوا وافتروا: سيحملون أوزار غيرهم.
وهنا يقسم الله جل جلاله، ولام الابتداء هي الموطئة للقسم، وأكد ذلك بنون التوكيد الثقيلة، أي: إن هؤلاء الدعاة إلى الكفر، والذين زعموا للمؤمنين بأنهم سيحملون أوزارهم وآثامهم، سيحملون يوم القيامة أوزار أنفسهم وأثقالهم، وهي جمع ثَقل وثِقل، أي: ثقل الجرم وثقل الشرك والإثم وثقل الجريمة، فيحملونها عن أنفسهم؛ لكفرهم ولشركهم ولصدهم عن الله، وليحملن مع أثقالهم وأوزارهم أثقالاً أخرى زائدة على ذلك، كما قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13]، أي: وسيسألون يوم البعث، ويوم العرض على الله عن هذا الكذب والافتراء: من الذي قاله لهم؟ وفي أي كتاب وجدوه من كتب السماء؟ وفي أي منطق من العقل؟ إن هم إلا كاذبون في ذلك، وسيحملون أثقال أنفسهم وأثقال الذين أضلوهم بغير علم.
وهذا المعنى زاده النبي عليه الصلاة والسلام بياناً فذكر أن قوماً يأتون يوم القيامة ومعهم حسنات كثيرة، ولكن صاحبها يأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا وأكل مال هذا، فيعرض يوم القيامة على الله وأصحاب الحقوق يطلبون حقوقهم، وإذا كان لا حقوق هناك وليست إلا حسناته فإنه يؤخذ من حسناته وتعطى لأولئك المظلومين، فلا يزال يؤخذ من حسنات هذا الظالم الشاتم حتى لا يبقى له شيء منها، فيقول الله لملائكته: خذوا من أوزار أولئك المظلومين واجعلوها في ميزان هذا الظالم، أي: أنه تضم أثقال هؤلاء إلى أثقاله، وأوزار هؤلاء إلى أوزاره، وآثامهم إلى آثامه.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوماً: (من المفلس فيكم؟ فقالوا: الذي لا مال له ولا متاع، فقال: المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات كأمثال الجبال، ويأتي وقد ظلم هذا وأكل مال هذا وشتم هذا، فيؤخذ من حسناته وتضم لحسناتهم، حتى إذا فنيت حسناته، أخذ من آثامهم فطرحت عليه، ثم يقال: خذوه فاسحبوه إلى النار).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من قتل أو إثم يحدث إلا كان على ابن آدم الأول كفل من وزره؛ لأنه أول من سن القتل)، أي: لأنه كان أول من ارتكب جريمة القتل، فكان وزر القتل عليه حيث قتل فيه نفساً ظلماً وعدواناً، ويبقى عليه وزر من ارتكب هذه الآثام وقتل النفس المؤمنة بغير حق، فيحمل أوزاره وأوزار الآخرين الذين ارتكبوا عمله وتأسوا به.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) وهكذا.
فهؤلاء دُعاة النار وهؤلاء الكفار المشركون الصادّون عن الله ودينه قالوا كما حكى الله عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} [العنكبوت:12].
فطلب الكفار من المؤمنين بعد إيمانهم أن يتبعوا سبيل الكفر والشرك وسبيل التهود والتنصر وقالوا لهم نحن نحمل أوزاركم وآثامكم ويكون ذلك في أعناقنا وفي رقابنا، فقال الله عنهم: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:12 - 13]، أي: بل سيحملون أثقال أنفسهم وجرائمهم وآثامهم وعظائمهم وكبائرهم، ويحملون كبائر غيرهم من الذنوب والآثام الذين أضلوهم بغير علم.
{وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13]، أي: وسيؤتى بهم يوم القيامة فيسألهم الله جل جلاله عن هذا الإفك والكذب الذي كذبوه والباطل الذي زعموه، وذهبوا يضلون الناس به بغير علم ويقولون لهم: نحن نتحمل عنكم آثامكم، وهذا ديدن كل ضال يريد أن يغري غيره بضلاله وبكفره، سواء كان حاكماً أو محكوماً، أو زعيماً أو رعية، أو عالماً أو جاهلاً، وسواء كان داعية للكفر أو للتهود أو للتنصر، فإنه عندما يدعو غيره إلى كفره ونفاقه وبعده عن الله يحاول أن يذكر له أعماله ويفتخر بها، ويلتزم بتحمل وزر أولئك.
والله يكذبهم ويقول: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت:12]، أي: بل سيحملون أثقالهم وجرائمهم وجرائم الذين أضلوهم بغير علم.
وعلى هذا قامت النصرانية، فقد جعلوا مبدأهم الصلب والفداء، وذلك عندما زعموا أن عيسى الذي صلبه اليهود رباً، فقيل لهم: كيف يكون عيسى رباً وقد صلبه اليهود وقتلوه؟ فاضطربوا وقالوا تارة عنه: هو الله، وتارة: هو ابن الله، وجعلوا الله ثالث ثلاثة، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، وقال: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30].
وهكذا تعددت أقوالهم الكفرية الصلعاء، ثم زعموا أن عيسى إنما فعل ذلك ليفدي عباده ويفدي خلقه من الإثم والجريمة والخطيئة، فجعلوا شعار دينهم ومبدئه الصلب، أي: إن ربهم صلب نفسه وفعل ذلك عن طواعية، ثم قالوا: الفداء، أي: فداهم بنفسه وتحمل آثامهم وجرائمهم؛ وبهذا كانت النصرانية جزءاً من اليهودية، ولن يكون النصراني نصرانياً إلا بعد أن يكون يهودياً؛ فهم يؤمنون بما يسمونه العهد القديم وهو التوراة، ويزعمون أنها كذلك، ثم بالعهد الجديد وهو الإنجيل.
وعيسى عليه السلام لم يُرسل إلا إلى اليهود ولم يُرسل لأحد غيرهم، وقد روي عنه في الإنجيل أنه قال: إنما أرسلت إلى خراف بني إسرائيل الضالة.
وأكّد القرآن هذا الكلام وهو المهيمن عليه، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف:6] فعيسى عليه السلام يقول لليهود: لست إلا رسولاً إليكم ومرسلاً لكم ولم أُرسل لغيركم، ولذلك إذا ذُكر في الكتب السماوية وفي الكتاب المهيمن عليها بنو إسرائيل فإنما يُقصد بذلك اليهود والنصارى معاً؛ لأن عيسى عليه السلام آخر أنبياء بني إسرائيل، والنصرانية ليست إلا ديناً إسرائيلياً حُرّف وبُدّل كما حُرّفت العقيدة فيه من توحيد إلى وثنية، وإلى جعل الله الواحد ثلاثة وعبادة الله وعيسى ومريم، فكذبوا وأفكوا وقالوا على الله بغير علم.
فهؤلاء عندما جعلوا من دينهم ومبدأ شأنهم شعار الصلب والفداء، قصدوا أنه فدى البشرية بصلبه نفسه، وبذلك فتحوا الأبواب على مصارعها للفواحش والخطايا والجرائم، وقد قالوا لبعضهم: إن عيسى قد تحمّل عنهم وزرهم وخطيئتهم لما سلّم نفسه للصلب، فكان بذلك قد افتداهم وتحمّل خطيئاتهم؛ وهذا يكذّبه القرآن بقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] وهذا هو المبدأ الإسلامي المنطقي والعقلي.
وكرر الله هذا المعنى هنا بأوسع عبارة فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} [العنكبوت:12]، أي: اتبعوا طريق الكفر والوثنية وعبادة عيسى ومريم وقولوا بالفداء والصلب واجعلوا ذلك شعاراً، {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت:12] فكذّبهم الله فقال: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت:12] و (شيء) نكرة في سياق النفي فتعم جزئيها وكليها، وصغيرها وكبيرها، ثم أكد الله هذا التكذيب فقال: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت:12]، أي: كذبوا على الحق وكذبوا على أنفسهم وكذبوا على الناس.
ثم زاد الله فقال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13]، أي: عقيدة الصلب والفداء في زعمهم، فلم يكن صلب ولا فداء، وإنما هي خزعبلات وأباطيل وضلالات، فقد لعبت اليهودية بهم فتلقفوها وجعلوها عقيدة، عاشوا عليها وماتوا عليها منذ ألفي سنة أو قريب من ذلك، فكذّبهم الله وقال عنهم: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13].
أي: وسيبعثون بعد الموت يوم القيامة للحساب وللعرض على الله يوم الفصل بين الخلق، فيسألون عن هذا الكذب الذي كذبوه والذي افتروه، وكيف يكون رب قد صُلب و(161/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14].
هنا يسلي الله جل جلاله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ويعزيه ويقول له: يا محمد! ما لقيت من قومك في مكة أنت وأتباعك من شطط ومن اعتداء وتكذيب فنوح قد سبقكم إلى هذا الصبر والبلاء، فقد بقي مدة ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعو قومه إلى الله وإلى عبادته، وبعد هذا العمر الطويل وهذه القرون الممتدة ما آمن معه إلا قليل.
قال بعض المفسرين: لم يؤمن معه إلا اثنا عشر شخصاً، وبالغ من بالغ فقال: آمن معه سبعون شخصاً، وقد قال الله عنه: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40].
وأخبره بأنه لن يؤمن معه إلا من قد آمن، وعندما أخُبر من الله بذلك يئس، وعند ذلك دعا على قومه كما قال تعالى حاكياً عنه: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، فاستجاب الله له وكان ما سيذكره الله.
وقصة نوح عليه السلام قد مضت في سورة هود مفصّلة بعض الشيء، وإنما أعيد ذكر نوح هنا للتسلية والعزاء لنبينا عليه الصلاة والسلام فيما لقي من قومه من تكذيب وصد، ومن إصرار على إخراجه من بلدته وهي عزيزة عليه، وما تركها -وهي أحب البلاد إليه- إلا مرغماً طاعة لله وثقة في وعده على أنه سيعود إليها فاتحاً مظفّراً منصوراً، وقد نزل عليه عليه الصلاة والسلام وهو مهاجر إلى ربه في الجحفة -رابغ- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]، أي: سيُعيدك إلى مكة عزيزاً مظفّراً منتصراً على أعدائك، وكذلك كان، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111].
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بُعث نوح لقومه وهو ابن خمسين ومائتي سنة، ثم عاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة) أي: أنه عاش ألفاً وأربعمائة وخمسين سنة.
وورد أن ملك الموت عندما جاءه لأخذ روحه قال: يا نوح! ويا أطول الأنبياء عمراً! يا مجاب الدعوة! -وكان قد دعا على قومه- كيف وجدت الدنيا؟ قال: كمن بنى بيتاً وجعل له بابين دخل من باب وخرج من الآخر، فكانت هذه السنون وهذه القرون عند الموت وكأنها لم تكن.
وقد مثّل النبي عليه الصلاة والسلام الدنيا كلها كمسافر آذاه حر الشمس فاستظل تحت ظل شجرة منتظراً الفيء ثم مضى، أي: إن الحياة كلها منذ الخلق الأول إلى يوم القيامة ليست عند نهايتها إلا كإنسان آذاه حر الشمس فاستظل تحت ظل شجرة حتى إذا زالت الشمس تابع طريقه، وكأن الدنيا لم تكن.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:14].
فهؤلاء الذين عذّبوا وأتعبوا وكذّبوا نوحاً نبي الله طوال هذه القرون الطويلة أغرقهم الله بالطوفان، فقال للسماء: أمطري وقال للأرض: أخرجي، وهكذا.
وقد كُلّف نوح قبل ذلك بأن يبني سفينة ويصنعها، فصنعها وركب معه من آمن، وجاء الطوفان على الخلق كلهم رجالهم ونسائهم، صغارهم وكبارهم، إنسهم وجنّهم، طيرهم وحيوانهم، ولذلك حمل نوح معه من كل شيء زوجين من كل أنواع الدواب ومن كل أنواع الطير إلى أن عادت الحياة مرة أخرى عندما قال الله للأرض وللسماء: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود:44].
وكانت النتيجة ذهاب العقاب وترك أثره عبرة للمعتبرين ما دامت الدنيا وما دام الإنسان على وجه الأرض.
قال تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:14]، أي: أخذهم عذاب الله بطوفان الماء عليهم فماتوا غرقاً وهم ظالمون، وحل عليهم ظلمهم لأنفسهم، والظلم إذا أُطلق لا ينصرف إلا إلى الكفر، أي: وهم كافرون بالله وبنبي الله وبالحق الذي جاء من الله، فعوقبوا في الدنيا بالطوفان والغرق، ولعذاب الله يوم القيامة أشد وأنكى.(161/3)
تفسير قوله تعالى: (فأنجيناه وأصحاب السفينة)
قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت:15] فطاف الطوفان على الأرض فلم ينج الله منه إلا نوحاً ومن آمن معه، بل إن أحد أولاده لم يؤمن به وأبى إلا الكفر وقال سأستعصم بجبل من الماء، وقال له والده: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:43] وهكذا حال الموج بينه وبين ولده، {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43]، وهو كافر بالله.
فتجددت الحياة بعد ذلك وأنقذ الله نوحاً ومن آمن معه من الغرق، وما آمن معه إلا قليل، وترك الله ذلك آية وعبرة ودرساً للعالمين ولكل العوالم التي ستأتي بعد نوح وتسمع قصته.
وقد ذُكرت هذه القصة في جميع الكتب السماوية: التوراة والإنجيل والزبور على ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير إلى أن نزل الكتاب الخاتم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فبيّن وفصّل وأظهر ما زاده أولئك الذين انحرفوا وتركوا الدين الحق، وعندما نسخت أديانهم بكتاب الله القرآن وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم بقوا على ضلالاتهم وأوهامهم وشركهم، لا تزيدهم الأيام إلا إصراراً على الكفر وظلمة وضلالاً.
والضمير في (جعلناها) قال قوم: يعود للعقوبة، أي: تركنا هذه العقوبة التي كانت بالطوفان والغرق عبرة ودرساً للعالمين بكل أنواعهم إلى يوم القيامة.
وقال بعضهم: (وجعلناها) أي: السفينة نفسها بما حملت وأنجت من الذين ركبوها.
وسواء عاد الضمير للعقوبة أو للسفينة أو للنجاة فالمعنى واحد، فقد كان الطوفان عبرة، وكانت نجاة نوح ومن آمن معه عبرة، وكل ذلك تركه الله في كتابه عبرة للمعتبرين وفكراً للمفكّرين ودرساً للدارسين؛ ليتخذوا منه العبر في حياتهم ومستقبل أيامهم، حتى إذا حدّثت الإنسان نفسه بالكفر والشقاق فيجب أن يعلم أن الذي عاقب الأولين بعضهم بالغرق وبعضهم بالخسف وبعضهم بجعل الأرض عاليها سافلها هو الله الذي كان ولا يزال، والذي لا أول له ولا آخر، وهو على ما كان لا يزال جل جلاله.
وذلك درس وتهديد ووعيد للكفرة والمنافقين الذين يأبون إلا الإصرار على الكفر والشرك.(161/4)
تفسير قوله تعالى: (وإبراهيم إذ قال لقومه)
قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت:16].
إبراهيم مفعول منصوب لأرسلنا المتقدمة، ويحتمل أن يكون المعنى: واذكر يا محمد! إبراهيم، أي: اذكر قصته وطالما تُليت وكررت في القرآن الكريم عند كل مناسبة لحكمة جدت ولواقعة نزلت ولعبرة دعت إليها، وكذلك هي تسلية وتعزية له صلى الله عليه وسلم؛ لأن نوحاً تحمّل من قومه الشدائد ألف سنة إلا خمسين عاماً، وتحمل إبراهيم من ذلك ما يقاربه أو يزيد، فقد ابتلي في سبيل الدعوة إلى الله من قومه منذ اليوم الأول بأن أُخذ أخذاً وطُرح في النار للحرق وللعذاب والمحنة، ولكن يأبى الله إلا نصرة رسله وأوليائه والعاقبة للمتقين.
فأنت يا محمد! مهما كذّبك قومك وقالوا: إنك ساحر ومجنون، ومهما هجروك وأدموك وأخرجوك من بلدك فلم يحصل لك ما حصل لنوح مع قومه ولا لإبراهيم مع قومه، فكان ذلك من الله جل جلاله تقوية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم ليزداد نشاطاً وحركة ودواماً واستمراراً في الدعاء إلى الله وتبليغ الرسالة والأمر بها بلسانه وبسيفه وفي حياته كلها حاضراً ومسافراً.
وإبراهيم عليه السلام دعا قومه إلى ترك الأوثان وإلى نبذها، وإلى أن المعبود هو الله الحق، فهو الخالق وهو الرازق وهو الواحد الذي لا ثاني له {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} [العنكبوت:16]، أي: اجعلوا وقاية وشيئاً يقيكم من عذاب الله ولعنته وغضبه وعقابه، وهذه الوقاية هي عبادته وطاعته وامتثال أمر نبيهم.
فقال لهم: يا قومي! إيمانكم بالله وعبادتكم له وحده خير لكم حالاً ومآلاً، وخير لكم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا ينصركم الله ويملككم رقاب الخلق حُكّاماً عليهم وناشرين للتوحيد والعدل، وفي الآخرة يجازيكم الله ويكافئكم برحمته ورضاه وبدخول الجنان.
{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت:16]، أي: إن كانت لكم عقول تفهم وآذان تسمع، وعيون تُبصر، وأما إن كانوا كما وصفهم الله بأنهم كالأنعام بل هم أضل فسيصرون على كفرهم وعلى شركهم وعلى عنادهم.
فبعد أن دعاهم إلى الله وبين لهم ما يجب أن يفعلوه وما يجب أن يتركوه ذكر لهم أن ذلك خير لهم لو كان عندهم علم ومعرفة.(161/5)
تفسير قوله تعالى: (إنما تعبدون من دون الله أوثاناً)
قال تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17].
أي: قال إبراهيم لقومه: هذا الذي تعبدونه من دون الله وتخصونه بالعبادة من دون الله ليس إلا أوثاناً، وهنا أتى بأسلوب الحصر.
والأوثان جمع وثن، والوثن: الصنم والحجر والخشب يصنعه الإنسان ثم يسجد له، وأنواع الأوثان في الأرض كثيرة، فمن الناس من عبد الملائكة، ومن الناس من عبد الجن، ومن الناس من عبد الأنبياء والصالحين كعيسى ومريم، ومن الناس من عبد الأحجار، ومن الناس من عبد ما يسمونه الطبيعة، ومن الناس من عبد اليهود، ومن الناس من عبد ماركس ولينين وتركوا دين الله وقالوا بالشيوعية والاشتراكية كفراً بالله، وابتعاداً عن دينه، وتغييراً لإمام الهداة وإمام الأنبياء إلى أسماء قذرة وسخة عوضاً عن هذا الدين الحق والإمام الحق محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فهذه الأوثان قال إبراهيم عنها لقومه: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت:17].
أي: إنما تعبدون أوثاناً وأصناماً لا تضر ولا تنفع، فهي لا تنفع نفسها ولا تضرها، فكيف تنفعكم أو تضركم؟ أتركتم الله الخالق الرازق الذي يرزق ويعطي ويمنع وعبدتم المخلوق العاجز!! {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} [العنكبوت:17] وكيفما كان شكلها فهي أصنام لا تضر ولا تنفع سواء كانت جامدة أو متحركة، فهي لا تضر ولا تنفع نفسها فكيف بغيرها؟ {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت:17].
أي: تصنعون كذباً وزوراً وتأتون إلى هذه الأصنام فتسمونها آلهة، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23].
فلا سلطان علم، ولا دليل عقل، ولا دليل نقل، وإنما هي أمراض وعلل أُصيبت به عقولكم، وتركتم الله الخالق، وتركتم الأنبياء على عصمتهم وعلى رسالتهم، وتركتم خاتم الأنبياء والرسل الذين أُرسل لكل الخلق منذ بعثته كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، فكان رسولاً للخلق جميعاً إلى يوم القيامة، ولا دين عالمي جاء لكل الخلق إلا الإسلام.
وأما الأديان الأخر فهي أديان محصورة في أقوام وعصور، ولو ادعى بعضهم أو جميعهم أن أديانهم عالمية، فمثلاً موسى لم يرسل إلا لبني إسرائيل، وعيسى قد ذكرنا قوله في الإنجيل والقرآن، وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد قال: (خصصت بخمس) فذكر منها: (كان الأنبياء قبلي يُرسلون إلى أقوامهم خاصة، وأرسلت للناس عامة).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتّباعي) وعيسى عليه السلام كذلك، وهو لا يزال في السماء فقد رفعه الله إليه، {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [النساء:157] وإنما تلك فرية افتراها اليهود وصدقتها النصارى؛ لفساد عقولهم ولسخافة نفوسهم.
وإنجيل برنابا يصرّح بهذا المعنى الذي قاله القرآن الكريم من أن عيسى لم يُصلب ولم يُقتل، وإنما قُتل شبيه له من حوارييه كان منافقاً باعه بدراهم معدودة إلى حاكم القدس إذ ذاك، وقد قال الله تعالى في كتابه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، أي: قتلوا شبيهاً له وهم يعلمون أنه ليس بعيسى.
وفي إنجيل برنابا: أن هذا الذي حملوه على الصليب وألبسوه تاج الشوكي كان وهو في الطريق إلى الصلب يبكي ويصيح: لست عيسى، أنا شكوت عيسى وأغريت الروم بعيسى، وهم يلعنونه ويتفلون في وجهه، ولكن الله رفع إليه عيسى! وقد اجتمع به نبينا عليه الصلاة والسلام عند المعراج في السماء الأولى، وسينزل في آخر الزمان بنص القرآن ونص السنة المتواترة وإجماع المسلمين، وما أنكر ذلك إلا ضال أو جاهل أن يتعلم، وليس الجهل بعذر، فسينزل عيسى ويكون من أتباع نبينا، وسيحج حجة الإسلام، ويصلي صلاة المسلمين وسيأتم بالمسلمين، وقد ترجم له من كتب في الصحابة، فترجم له الحافظ في الإصابة على أنه من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأن تعريف الصحابي ينطبق عليه، فالصحابي هو من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً وآمن به ومات على ذلك، وعيسى اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو حي، وسينزل للأرض وهو على دين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى دين الإسلام، وسيموت على ذلك، فهو إذاً صحابي كما ترجم له من كتب في تراجم الصحابة كـ ابن الأثير وكـ ابن عبد البر والحافظ، وهذا إجماع بين المسلمين.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت:17]، أي: تخترعون وتختلقون وتصنعون الكذب إفكاً وكذباً وتزعمون أنها آلهة، وأنها معبودات من دون الله، وليس ذلك إلا في عقولكم السخيفة الضائعة، قال الله تعالى عن إبراهيم فيما قاله لقومه: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} [العنكبوت:17].
أي: هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله لا يملكون أن يطعموكم إذا جعتم، أو يسقوكم إذا عطشتم، أو يشفوكم إذا مرضتم، أو يحيوكم إذا متم، فكيف تعبدون من لا يضر ولا ينفع؟ {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17]، أي: من أراد الرزق فليطلبه من الله، ولا يستغني مخلوق عن الرزق وإلا لمات جوعاً وهلك عطشاً، ولو طلبوا ذلك من الأوثان لما فعلت، فهم يعبدون من لا يعطيهم ويتركون من يعطيهم، فهل هناك سخافة وضياع عقول أقبح من هذا؟ {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17]، أي: ابتغوا الرزق عنده، فهو جل جلاله قادر على رزق هؤلاء العباد بكل أشكالهم وأنواعهم ولا يعجزه عن ذلك شيء، وهو القادر على كل شيء.
قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17] فالله وحده الذي يجب أن يُعبد فاعبدوه، وهو الذي يجب أن يُطلب منه الرزق ويُبتغى ويُراد فهو القادر، فالشكر له والحمد له.
{إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17]، أي: إلى الله الرجوع وإليه المعاد والبعث، وعندما نحيا ونبعث مرة ثانية إلى الله فهو الذي سيحاسبنا على من فعل خيراً فخير ومن فعل شراً فشر، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
فكيف تتركون الخالق الرازق، وتجرون خلف من لا يضر ولا ينفع، ومن لا يرزق ولا يحيي؟!(161/6)
تفسير سورة العنكبوت [18 - 22]
ينذر سيدنا إبراهيم عليه السلام قومه، ويخبرهم أن ما عليه إلا البلاغ، وأن عليهم أن يسيروا في الأرض فينظروا الدلائل على ربوبية الله وألوهيته، ويعلموا أنهم ليسوا معجزين.(162/1)
تفسير قوله تعالى: (وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم)
قال تعالى: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:18]: لا يزال إبراهيم يتكلم مع قومه ويقص الله علينا محاورته ودعوته لقومه، وأنه قال لهم: قد كذبت أمم من قبلكم، وكذب الكثيرون منهم، فلم تزيدوا أكثر من أن تلحقوا بهم، وتعاقبوا عقوبتهم.
ولذلك فليس من وظيفة النبي الهداية والتوفيق، وليس من وظيفة النبي أن يدخل الإسلام في قلوبكم وعقولكم.
قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:18] فوظيفتي ووظيفة الأنبياء قبلي وبعدي أن أبلغكم دين الله، وأن أعلن دين التوحيد، وأن أدعوكم إلى عبادة الله الواحد، وأن تتركوا الأصنام والأوثان وما لا يضر ولا ينفع، وأما الهداية فليس عليَّ هداهم ولكن الله يهدي الله من يشاء، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
قال الله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] أي: لعلك يا محمد! مهلك نفسك على أن يؤمن بك قومك، فلم يطلب منك هذا وإنما طلب منك البلاغ كما طلب من الأنبياء قبلك.
فأمر أن يقول لقومه: إن كذبتموني وقلتم إنني كاذب ولست رسولاً من الله، فقد سبق أن كذبت الأمم قبلكم أنبياءهم، وليست وظيفتي الهداية ولكن وظيفتي أن أدعو الناس إلى الله بما أمرني به، وأن تتركوا عبادة الأوثان، وأن تتقوه وحده، فهو المحيي المميت، وهو الخالق الرازق.(162/2)
تفسير قوله تعالى: (أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت:19].
هذه الآيات تخللت محاورة إبراهيم لقومه، وقال البعض: إنها من قول إبراهيم.
قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت:19].
أي: أليست لهؤلاء أعين تبصر وترى؟ ألم يتجولوا ويسيحوا في الأرض وينظروا بأبصارهم كيف ابتدأ الله الخلق أول مرة من العدم؟ وكيف كرره وأعاده؟ ألم يروا إنساناً قد مات وترك ذرية ضعافاً صغاراً فتزوجوا فكبروا وإذا بهم يلدون أولاداً، وأولئك الصغار أصبحوا كباراً، فمن الذي أمات الكبير؟ ومن الذي خلق الصغير؟ وكيف تم هذا التوالي؟ وكل يوم نرى الصلاة على الجنائز، فقوم يذهبون وقوم يأتون.
فالله بدأنا من نطفة نراها، والبنت قبل أن تتزوج وقبل أن تتصل بذكر وفحل لا تلد ولو عاشت عمر نوح، فإذا تزوجت ولدت من السنة الأولى، وقد تلد في السنة الثانية إن قدر لها، فمن الذي خلق ذلك الوليد؟ ومن خلق تلك النطفة في صلب الرجل، وتلك النطفة في رحم المرأة؟ ثم يكبر هذا المولود ثم يذهب إلى ما ذهب إليه آباؤه.
وفي هذه الأرض تأتي الشمس ويأتي الصيف، وإذا بالأرض قد يبست أوراقها وذهبت ثمارها، وأصبحت الأرض بلقعاً ليس فيها شيء، وإذا بالأمطار تأتي وإذا بالربيع يعود بعد ذلك، وإذا بالأرض تهتز بالأشجار وبالأوراق وبالثمار وبالأرزاق والخيرات، فمن الذي أتى بالأول ثم ذهب به؟ ومن الذي جدد هذا؟ فنحن نرى هذه البداية في خلق الله بأعيننا، فمن لم ير ذلك فإن بصره لا يبصر، وسمعه لا يسمع، وقلبه لا يفقه، كما قال ربنا {هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44].
هذا في الدنيا، أما إذا حاولنا أن نستدل على الآتي بالماضي فليفكر كل إنسان في نفسه: أين كنت قبل تلك السموات؟ ومن الذي أتى بي؟ وهل كان أبي يعلم أنني سأكون له؟ وهل كنت أعلم أن ولدي سيكون لي؟ فإذا كنا نرى هذا ونعيش في واقعه ونحس به فلم نستبعد البعث يوم القيامة وقد كنا مخلوقين من قبل.
والبعث أهون من الإيجاد من العدم مع أن كل شيء هين على الله ولا يعجزه شيء.
وهذا كله سهل على الله، ولا يكلفه شيء، ويكفي أن يقول: كن فيكون، فقد خلق سبحانه هؤلاء الخلق المعدودين وقام بهم وبرزقهم، وبكسوتهم، وبما يحتاجون إليه مدة حياتهم، ولو كلفت بذلك دولة لعجزت عن ذلك، وهي نفسها تحتاج لما تحتاج إليه من طعام وسكن وكسوة وصحة.(162/3)
تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)
أكد الله تعالى المعنى السابق ليلفت أنظار الخلق لترك الوثنية والشرك والكفر فقال سبحانه: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت:20].
أي: قل يا محمد لهؤلاء: سيروا في الأرض وانظروا إلى الآثار القديمة، هذه الحفريات، هذه القصور، هذه الأهرامات كيف صنعت؟ وكيف قطعت تلك الأحجار العظيمة الطويلة من مسافات بعيدة؟ وكيف قطعت على نفس الشكل؟ وكيف وضع بعضها على بعض؟ قصور بابل كيف بنيت؟ وكيف بقيت خرائبها؟ كل هذا صنعته عقول البشرية، والله هو الذي خلقها.
فلماذا الطغيان؟ ولماذا يظن إنسان هذا القرن أنه أعلم الناس وأقوى الناس وأعرف الناس؟ يجب على الإنسان أن يعتبر وأن يفكر، ولذلك اعتبر الفكر نوع من العبادات.
فإذا تفكر: من خلقني؟ كيف صنعت؟ من خلق هذه السموات؟ من خلق هذه الآثار؟ تكون النتيجة إن كان سليم العقل وكان مؤمناً هو أنه سيقول بغير شعور: الله، ولن ينكر ذلك إلا من لا عقل له، لأنه لا دليل على الكفر لا من منطق عقل ولا من برهان نقل، لا من القديم ولا من الحديث.
قال تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} [العنكبوت:20].
الذي أنشأ الخلق وابتدأه لأول مرة قادر على أن يعيده مرة ثانية، فالذي قدر على الأول يقدر على الثاني، والذي قدر على أن يوجدنا من العدم وعلى غير مثال سابق ألا يقدر على أن يوجدنا مرة ثانية؟ إن القرآن ليس كبقية الكتب التي يجب الاستسلام لها دون دليل ولا عقل ولا فكر فيما يزعمون، ومن قال ذلك فقد كذب على الله، فكتاب الله هو الإسلام، والله يخاطبنا في كتابه ونبيه عليه الصلاة والسلام في سنته بمنطق العقل، ولذلك تجد في القرآن: (أفلا يعقلون)، (أفلا يذكرون)، (أفلا يبصرون)، ويذكر آيات في خلق الأرض والسماء: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة:164] إلى آخرها، يقول النبي بعد تلاوة مثل هذه الآيات: (ويل لمن قرأها ولم يتدبرها)، يدعو بالويل على من يقرأ ذلك بغير تدبر، وبغير تفهم وتعقل.
فديننا ليس كدين الرهبان الدجاجلة الذين أضلهم الله، والله إذا أراد ضلال إنسان كان ذلك لفساد ما في نفسه {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70].
قال تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} [العنكبوت:20] أي: النشأة الثانية يوم القيامة.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20].
أي: ليس شيء إلا والله قادر عليه، يفعل ما يشاء، ويقدر على ما يشاء، خلق هذه السموات والأرض، وخلق ما في الكون من عجائب وغرائب، ومن أعجب ذلك خلق الإنسان، وأعجب من الإنسان هذه الحشرة الصغيرة التي لا تكاد ترى إلا بالمكبر خلقت بلسان وأمعاء وسمع، ورزقها وزوجها وجعل لها جنساً، وجعل لها إحساساً، فمن يستطيع أن يصنع ذلك؟ وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد ومع ذلك فالإنسان ينكر، وكفار العصر أكثر من كفار الماضي، فالكفار الماضون لم يكونوا ينكرون وجود الله، إنما يدعون له شركاء، أما كفرة اليوم كالشيوعية والاشتراكية والوجودية فتنكر وجود الله.
وبهذا الفكر عاشت بعض دول العالم في فساد وضياع، وحاولت أن تدخل هذا الضياع إلى جامعات المسلمين ومدارسهم، حتى مسخت بعض عقول المسلمين فأصبحوا أشد عداء للإسلام وهم يحملون اسم المسلمين، ويصنعون بالإسلام والمسلمين ما لا يفعله أعداؤه من اليهود والنصارى وغيرهم.(162/4)
تفسير قوله تعالى: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء)
قال الله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:21].
فالخلق خلق الله، والكون كونه، والظالم لا يكون ظالماً إلا إذا تصرف في ملك الغير، والله لا شريك له في ملكه، ومع ذلك لا يظلم.
يقول تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا)، وقال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
ولكن الله عندما يعذب يعذب بحق، وعندما يرحم يرحم بحق، ومع ذلك يغفر الذنوب جميعاً إن شاء، إلا الشرك والكفر بالله، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
ومن عذبه وقد مات موحداً مؤمناً إنما يمحصه ويطهره من الآثام، ثم تكون النتيجة إخراجه من النار ودخوله الجنة، أما الكافر فلا يخرج أبداً، لأن الله حرم الجنة على الكافرين، ومن مات وهو يشرك بالله ولم يقل في حياته: ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين، فهو المشرك الكافر.
قوله: {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:21].
أي: إليه المصير، والمعاد، وسنقلب وتعود حياتنا، وسيكون مصيرنا إليه، ليحاسب المحسن على إحسانه فيغفر له ويدخله الجنان، ويحاسب المسيء على إساءته فيغفر له إن شاء إن لم يكن كافراً، ويعذبه بالخلود في النار إن كان كافراً.(162/5)
تفسير قوله تعالى: (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء)
قال تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [العنكبوت:22].
أي: يا هؤلاء! مهما ظننتم أنكم من القوة والحول والطول والقنابل الذرية والهيدروجينية، واذكر ما شئت من آلات السحق والمحق وفناء الأرض فهيهات أن يعجزوا الله خالقهم، هو القادر متى شاء أن يفنيهم وأن يسحقهم، والأمم التي سبقتهم لم تكن بأضعف منهم، فأين دولة الفرس؟ وأين دولة الرومان؟ وأين من قبلهم؟ وأين الكثير من الدول التي عاصرناها؟ وأين المملكة التي كانت لا تغرب عنها الشمس؟ أصحبت أذل من شسع النعل تسعى إلى العرب والمسلمين لتعيش على فتات موائدهم.
واذكر غيرهم وغيرهم، ويوشك عن قريب أن يذهب الكل، نتيجة غضب الله عليهم، ونتيجة ارتباط مستقبلهم بمن أذلهم الله وكتب عليهم الذل واللعنة إلى الأبد، {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة:82]، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167]، فذاك وعيد الله ولن تقف قوة في وجهه، ومن حاول فلا يزيد على أكثر من أن يذل نفسه، ويربط مصيره بمصير هؤلاء الأذلاء، وهؤلاء القردة والخنازير وعبدة الطاغوت.
وهؤلاء ليسوا أعداءنا نحن فقط، ولكنهم أعداء الله، ولقد لعنوا في كتبهم وعلى لسان أنبيائهم، وجدد اللعن القرآن الكريم فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78]، فمن أول أنبيائهم إلى آخر أنبيائهم وهم يلعنونهم، ونزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فأمر بطردهم من ديار المسلمين، ولكن دولاً متأخرة، ودولاً جاءت بعد عهد الخلفاء الراشدين لم يطبقوا دين الله، ولا حكم الله فأبقوهم، فكان ما كان عقوبة للمسلمين؛ لبعدهم عن الله، وكفرهم به وردتهم، ورحم الله من قال: ردة ولا أبا بكر لها، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كما دخلتم في دين الله أفواجاً ستخرجون من دين الله أفواجاً).
ومن هنا ونحن نتلو قصة خروج الدابة، فستخرج في مكة قبل غيرها، عندما تكلم الناس {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82] ثم هي تجرحهم وتكلمهم وتكتب في جبين كل كافر ومؤمن، فالكافر يفضحه الله ويكشفه أنه مسلم في المظهر وكافر في المخبر، ومنطو على الكفر، وعلى إعزاز اليهودية والنصرانية، وإعزاز النفاق، والله لم يقل: العزة لغير المؤمنين، وإنما العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون، وقد ذكر الله عن هؤلاء الذين لا يعلمون: أنهم منافقون، وإسلامهم كذب، وليس لهؤلاء أن يعايشوا إلا وهم أذلاء حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وأما أن يكونوا سادة وقادة فلا يقبل ذلك، ولا يسعى فيه إلا كاذب منافق ربط مصيره باليهود وذُلّ اليهود ولعنة اليهود.(162/6)
تفسير سورة العنكبوت [22 - 27]
إن الناس مهما طغوا وتجبروا وبلغوا من العلم فليسوا بمعجزي الله، فإنما أمره بين الكاف والنون، وقد حاور سيدنا إبراهيم عليه السلام قومه بذلك، وبين بطلان وثنيتهم، فأرادوا إحراقه، فأنجاه الله من النار، ونصره على قومه.(163/1)
تفسير قوله تعالى: (وما أنتم بمعجزين في الأرض)
قال الله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [العنكبوت:22].
لا نزال مع إبراهيم خليل الله وأبي الأنبياء عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهو يزيف الأوثان والأصنام وعبادتها، ويدعو إلى توحيد الله وعبادته وحده، ثم ينذر ويهدد هؤلاء الكفرة بأنهم مهما كانوا من القوة والسلطان والجبروت والطغيان فلن يستطيعوا بحال من الأحوال أن يفروا أو يفلتوا من عذاب الله، حتى ولو صعدوا إلى السماء، ولم يكن إذ ذاك عند نزول هذه الآيات الكريمات طيران ولا تحليق ولا صواريخ ولا ما قد عاصرناه وأدركناه، وقد قيل: إن هذه الآية معترضة في محاورة إبراهيم لقومه، فهي من كلام الله سبحانه وتعالى الموجه لهم، وقيل: هي من قوله لهم.
قوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [العنكبوت:22] أي: يا هؤلاء الذين أشركوا بالله وخرجوا عن أمر الله لستم بحال من الأحوال بمعجزين، بل أنتم أقل وأحقر من أن تعجزوا الله، أو أن تفوتوا عن أمر الله، أو أن تفلتوا من عقوبته ونقمته وعذابه، سواء كنتم في الأرض أو استطعتم التحليق في أجواء السماء.
وكل ما علا فهو سماء، وأما السماء التي بيننا وبينها خمسمائة عام فهي مساكن الملائكة، وأما السماء في الآية فهي ما علا الإنسان.
والأفلاك فيها من الحيوان وفيها من الخلق، وفيها من الدواب التي تدب عليها، وكل ما يدب على الأرض سواء كان داباً على رجلين أو على أربع أو على بطنه فهو خلق من خلق الله.
وقد قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} [الشورى:29]، فقد بث ونشر في الأفلاك العليا وفي الأفلاك السفلى خلقاً من خلقه تدب على أرضه على رجلين أو أربع، أو تزحف على البطون.
فهؤلاء المشركون حيث كانوا من أفلاك الأرض أو أفلاك السماء لن يعجزوا الله طلباً، ولن يعجزوه إن شاء عقوبتهم والنقمة منهم؛ نتيجة كفرهم وعصيانهم.
قوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [العنكبوت:22].
أي: وليس لكم من يتولى عنكم ظلمكم، أو يقف دون الله وعقابه لكم، إذ الكل خلقه، والكل تحت أمره وقهره، ولن يجرؤ أحد على معصيته فضلاً عن عداوته، ولا شريك له مما تزعمون وتفترون وتأفكون.
قوله: (من ولي)، أي: من معين ومساعد ومؤازر.
(ولا نصير): ينصركم على ظلمكم، ومن باب أولى ينصركم على الله، فلن يكون ذلك ولن يوجد وإنما هي خزعبلات نطقت بها ألسنتكم فسميتم الأوثان والأصنام آلهة، وذلك من إفككم ومن اختراعكم، ومن كذبكم على أنفسكم وعلى الحق.(163/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت:23].
قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [العنكبوت:23]: أي: بكتابه، وبرسله، وبالأدلة القاطعة على أنه الواحد المعبود لا شريك له في ذات ولا صفة ولا فعل، فهؤلاء الذين يكفرون بآيات الله وبلقائه ويكفرون بيوم البعث لا يؤمنون بأن الخلق سيبعثون بعد الموت، وأنهم يحشرون يوم القيامة للحساب والعقاب، ويكون مصيرهم إما إلى جنة وإما إلى نار، فهؤلاء قد كفروا بالله وكفروا بكتبه، وكفروا برسله، وكفروا بلقائه وباليوم الآخر وبالعرض على الله وبيوم القيامة.
{أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} [العنكبوت:23]: يقول الله عن هؤلاء الكافرين: إنهم قد يئسوا من رحمة الله، فقد يئسوا من الجنة، ويئسوا من أن يغفر الله لهم أو يرحمهم، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] فلا يغفر لمن كفر به، ولا يغفر لمن جعل مع الله إلهاً آخر، ولا يغفر لكل من لم يؤمن بالله وبرسوله وباليوم الآخر، وهو معنى اليأس في الآية، فإنهم قد يئسوا من الرحمة، ويئسوا من الجنة، ويئسوا من مغفرة الذنوب.
قوله: {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت:23]: الإشارة في قوله: (أولئك) لهؤلاء الذين كفروا بالله، وجحدوا الله ورسله وكتبه، وكفروا بيوم البعث -اليوم الآخر يوم القيامة- فهؤلاء الذين هذه صفتهم وهذه حالهم لهم عذاب أليم موجع، وقد يئسوا من الرحمة في الدنيا ما لم يتوبوا وينيبوا ويئوبوا إلى الحق، وهم في الآخرة أشد يأساً من الرحمة ومن المغفرة، ولهم مع ذلك العذاب الأليم الموجع المؤلم المذل المهين.(163/3)
تفسير قوله تعالى: (فما كان جواب قومه)
قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:24].
بعد هذا العرض والمحاورة من إبراهيم عليه وعلى نبينا السلام، وهو يدعو قومه إلى ترك الأوثان والأصنام، ويدعوهم إلى عبادة الله الواحد الخالق الرازق الذي لا ثاني له ولا شريك، وبعد أن بين لهم وأنذرهم وبشرهم وأوعدهم كان نتيجة ذلك أن أجابوا إبراهيم.
وقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ} [العنكبوت:24] نصب الجواب على أنه خبر كان المقدم، وتقدير القول: كان هؤلاء في جوابهم أن هددوه وأنذروه وأخذوا يختلفون بماذا يعاقبونه، فكان فعلهم ومداولتهم لقتله أو لحرقه هو الجواب، وهم بذلك تركوا المنطق والعقل، وتركوا الحوار بالدليل والبرهان، وعادوا إلى استخدام جاههم وقوتهم وسلطانهم، وظنوا أنه لا آخرة، وأن الدنيا بما فيها من جاه وسلطان وقوة لأصحابها تنجيهم من عذاب الله، وتنقذهم من نقمته وغضبه ولعنته.
قوله: (قالوا)، أي: تداولوا بينهم، واختلفوا هل يحرق أم يقتل؟ فقال قوم: اقتلوه، وقال قوم: حرقوه، ثم اتفق رأيهم بعد ذلك على حرقه؛ زيادة في الحقد والنقمة، كافرين بنبوته جاحدين لنعمته رادين لإرشاده وهدايته مصرين على الكفر والشرك.
والضمير في قوله: (قومه) عائد على إبراهيم، (إلا أن قالوا) أي: لم يشاركوه القول في الدليل والبرهان، ولم يردوا أدلته وبراهينه، بل تركوا كل ذلك وأعرضوا عنه، وهذا فعل الجهلة الأغبياء، ومن على شاكلتهم ممن لا دليل له ولا برهان من منطق عقل أو منطق دليل وإنما الإصرار على ما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم من الشرك وتكديسه ومن الكفر وبقائه.
قوله: {قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت:24] أي: فكان ما وصلوا إليه أخيراً أن قالوا: ابنوا له بنياناً فألقوه في النار، فاتفقوا بعد ذلك على حرقه زيادة في الانتقام منه والحقد عليه، فاتخذوا مكاناً جمعوا له الأحطاب من كل جانب، وجمعوا له الحجارة التي تكون وقوداً من الفحم الحجري الذي تدوم فيه النار أكثر من الخشب، فأشعلوه وتركوا ذلك أياماً إلى أن أصبح ناراً بيضاء، حتى أنها من العلو إذا حلق الطير فوقها احترق وسقط، ثم جعلوه في كفة المنجنيق وقذفوه إلى داخل النار انتقاماً وتحفظاً ونصرة لهذه الأصنام التي لا تعي ولا تعقل، وهذه الأوثان التي صنعوها بأيديهم وأسموها آلهة وأرباباً كذباً على الله وعلى رسل الله.
قوله: {فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت:24] أي: بعد أن ألقي في النار وبقي أياماً إلى أن همدت النار وإذا بإبراهيم قائم لم تمسه النار بشيء، وكأنه لم يلق فيها ولم ينبذ، وذلك قول الله جل جلاله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، ولو قال: كوني برداً فقط لمات من الزمهرير وشدة البرد.
ولكن قال: (برداً وسلاماً) لتكون برداً عليه مع السلامة في حياته، والسلامة على صحته، والسلامة على بدنه وجسده، وهكذا كان، بعد أن انتهت الأيام والأسابيع وانطفأت النار وهدأت، فقد رئي إبراهيم في مكانه يعبد الله ويسبحه ويهلله ويكبره، وعاد كيد الأعداء في نحورهم، وغصوا بظلمهم، إذا كان كل ما استطاعوا أن يفعلوه هذا، فلم ينفعهم وبقي إبراهيم على حياته وعلى دعوته في رسالته.
قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:24]: أي: إن في إنجاء الله وإنقاذه لإبراهيم من نار الكفار الوثنيين لآيات ودلائل وبراهين لقوم يصدقون بالحق يؤمنون بالله يؤمنون بالرسل وما جاء عن الله وما بلغته الرسل.
وجمع الله الكلام بين قصة نوح وإبراهيم ليقوي قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وليعزيه وليسليه وينشط في تحركاته وبذله لدعوة ربه، وليعطيه نشاطاً إلهياً وحيوية جديدة ليستمر ويثابر على دعاء قومه لله، فلا يمل ولا يقنط، بل يتخذ من أبيه إبراهيم وأبيه الأعلى نوح مثالاً يحتذى، وعبرة يأخذ منها الحكم والدروس فيزداد قوة في الدعوة إلى الله، وإلى التوحيد، محتسباً ما عامله به قومه من التكذيب والتسفيه والقطيعة والاتهام بالباطل، ثم اضطراره لترك بلده وخروجه عنها.
فالله يقول له: كما يقول لأتباعه من المؤمنين الدعاة إلى الله: انظروا كيف كان صبر من قبلكم على الدعوة إلى الله، مع ما لاقوه من أقوامهم طوال هذه القرون من تكذيب، وهجران، وسباب وشتائم، وانظروا كيف عومل الأولون من قذف في النار، وتحريق للأبدان على أن يتركوا الدعوة إلى الله، وليدعوا تزييف الأوثان والأصنام فما تركوا ذلك، بل بقوا على ذلك إلى أن لقوا الله.
فمهما أصابك يا محمد فلن يكون كما أصاب نوحاً أو إبراهيم، فاصبر والعاقبة للمتقين، وهكذا كان صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم صبر الرجال الأشداء، وصبر الجبال الراسيات، فكانت العاقبة والنصر له، وكان أن أورثه الله ديار هؤلاء الكفرة المشركين من قومه وغير قومه، ونشر دينه وسلطانه في مشارق الأرض ومغاربها خلال خمسين سنة لا أكثر، فأصبح حكم الله الواحد يعلن في جميع بقاع الأرض ولا يزال، وأصبحت الشهادة بتوحيد الله: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، تدور على شفة كل مسلم، وفي جميع بقاع الأرض مشارق ومغارب، فلا تكاد تجد بقعة في الأرض يسكنها رجل وامرأة إلا وبينهم من يدعو إلى الله ويؤمن به، ويعترف لمحمد بالرسالة الخاتمة، وأن لا نبي بعده، وأنه الرسول النبي الخاتم إلى يوم القيامة.(163/4)
تفسير قوله تعالى: (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً)
قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25].
بقي إبراهيم بعد هذا العذاب، وبعد القذف في النار على دعوته لله، وقال لهؤلاء الكفرة الفجرة: يا هؤلاء! لم تكن عبادتكم للأوثان من دون الله إلا مودة بينكم -أي: إلا بالمودة والمصادقة والمؤاخاة- فما وجدتم شيئاً يجمع إخوتكم ومودتكم وصحبتكم إلا الشرك بالله والكفر به، وعبادة أوثان لا تضر ولا تنفع نفسها فضلاً عن غيرها، أما كان الأجمل بكم والأليق بعقولكم أن تكون المودة الرابطة هي الأة في الله، والحب في الله ذاك الحب الدائم، وتلك المحبة الدائمة؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر منهم-: ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه).
ويقول الله عن أخوة الكافرين: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، وقد جمع بين الأخوة في الله والأخوة في الشيطان، ثم بين أن الأخوة الشيطانية تنقلب إلى عداء وبغضاء يوم القيامة، فيتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ويلعن بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم ببعض، (إلا المتقين) أي: إلا أخوة التقوى فهي الباقية الدائمة، فكما كانت في الدنيا هي كذلك في الآخرة يوم يجمعهم رضوان الله، وتجمعهم رحمة الله، وتجمعهم الجنان وهم إخوان على سرر متقابلين.
قوله: {قَال} [العنكبوت:25] أي: إبراهيم.
{إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} [العنكبوت:25] أي: جعلتموها أرباباً من دون الله.
{مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} [العنكبوت:25] أي: لأجل المودة والصحبة والأخوة، وليرضى بعضكم عن بعض، ويصاحب بعضكم بعضاً.
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} [العنكبوت:25]: فليس اتخاذكم ذلك إلا في الدنيا ولمن أصر على الكفر، أما يوم القيامة فسيكفر بعضكم ببعض، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166].
فكل أسباب الصحبة والمودة تنقطع، ويقول الأئمة عن تابعيهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4]، ويقول الأتباع: أنتم الذين أضللتمونا فنحن نتبرأ منكم، ربنا زدهم عذاباً ضعفاً من النار، فكان
الجواب
{ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:38]، {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فأنتم أحقر من أن يطلب أو يتكلم أو يرجو.
وهنا يقول تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25]: أي: فشأنكم يوم القيامة التلاعن والشتائم والسباب، يتبرأ بعضهم من بعض، فيتبرأ التابع من المتبوع، والمتبوع من التابع.
قوله: {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} [العنكبوت:25]: المأوى: المنزل والمسكن، فيجمع أئمة النار وتابعيهم، ويجمع كبراء الكفر وأتباعهم في النار، فيجادل بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم بعضاً.
قوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25]: أي: ليس لكم سلطان ولا جاه، ولا مال ولا قوة، ولا جيوش ولا حشم، فلا ناصر من دون الله، يوم يخذلون من القريب والبعيد من التابع والمتبوع، يوم يأتون فرادى كما خلقوا وينادي الجبار: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]؟ فلا يجيب أحد، ثم يجيب الله نفسه بنفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].(163/5)
تفسير قوله تعالى: (فآمن له لوط)
قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26].
وبعد هذه المدة الطويلة، وما لقي إبراهيم من عنت قومه، وقذفه في النار لم يؤمنوا له حتى الأقارب إلا لوط عليه السلام وزوجته ابنة عمه سارة، وكان لوط ابن أخيه قد آمن بنبوته ورسالته، وعندما آمن قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26]، أي: سأهجر دار الكفر التي يسكنها الظالمون وأهاجر إلى حيث أعبد الله حراً كما شئت وكما يأمرني ربي دون أن أجد معترضاً أو مانعاً أو متسلطاً قهاراً جباراً.
قوله: (فآمن له لوط) أي: آمن به، ومعنى: آمن له، أي: صدقه وقبل رسالته فعبد الله وحده، ونبذ الأوثان والأصنام، وبعد إيمانه قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26].
وقد اختلف في قائل ذلك، فقال بعضهم: الذي قال ذلك هو إبراهيم، والكلام لا يزال عن إبراهيم ولم ينته بعد.
وقال قوم: الضمير يرجع إلى أقرب مذكور كما هي قواعد لغة العرب التي نزل بها القرآن، والذي ذكر قبل ذلك بقرب هو لوط في قوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ُ} [العنكبوت:26].
وسواء قلنا إن المهاجر هو لوط أو قلنا: إبراهيم، فقد هاجر إبراهيم وهاجر لوط، فهاجر إبراهيم إلى الشام، وهاجر معه ابن أخيه لوط إلى الشام، ثم استقل لوط بالهجرة إلى إقليم سدوم من أرض الشام، وهي اليوم أرض الغور في الأردن.
والهجرة إلى الله لا تنقطع إلى يوم القيامة كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، وأما قوله لمن حاول أن يهاجر من مكة إلى المدينة بعد أن صارت مكة دار إسلام وفتحتها كلمة التوحيد: (لا هجرة بعد الفتح) فإن الكلام مقيد، وقواعد الأصول تقول: إن الكلام إذا قيد بقيد فروح الكلام هو ذلك القيد، وإليه يتوجه النفي والإثبات، فقوله: (لا هجرة بعد الفتح) الفتح هنا هو الفتح المعهود للسامع وهو فتح مكة، فالألف واللام في قوله: الفتح، للعهد الذهني الموجود في ذهن الطالب للهجرة وفي أذهان الحاضرين السامعين لذلك، فقال لأهل مكة: (لا هجرة بعد الفتح) أي: فقد أصبحت مكة دار إسلام فلا حاجة للهجرة منها؛ لأن الهجرة تكون من دار الكفر أو دار الفسق إلى دار الإيمان والتقوى والصلاح، وأما الهجرة من دار إيمان إلى دار إيمان بلا سبب فلا داعي لها ولا مرغب فيها.
ويسنثنى من ذلك إذا كان هناك سبب؛ كالهجرة لمكة المكرمة مثلاً رجاء الأجر في أن تكون الصلاة بمائة ألف صلاة، أو كالهجرة إلى المدينة المنورة رجاء أن تكون الصلاة بخمسين ألف صلاة، أو كالهجرة إلى القدس -وهي دار إسلام وأنوف اليهود وأنصارهم في الرغام- رجاء أن تكون الصلاة بخمسمائة صلاة، وهذا هو معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تنقطع الهجرة إلى يوم القيامة).
والمعنى: إذا كانت دار الإسلام فالأندلس مثلاً عاشت مسلمة 800 عام، ثم انقلبت إلى الكفر والتنصير -أعادها الله للمسلمين- فإن بقي فيهم مسلم يجب عليه الهجرة منها.
كذلك الهجرة من دار الفاسقين، فقد تكون البلد بلد إسلام ولكن الحكام أصبحوا يتحاكمون بأحكام اليهود والنصارى ويتأدبون بآدابهم، وانتشر الفسق والدعارة علناً، وتكشفت الأعراض وتعرت النساء، وشربت الخمور، وانتشرت الفواحش بكل أنواعها وألوانها، فإن وجدت داراً وأرضاً ليس فيها ذلك، وهي أقرب للإيمان والطاعة فيستحسن بالمؤمن الهجرة إليها إن استطاع فراراً بدينه، وحفاظاً على دين أهله وأولاده، وأسوته في ذلك لوط وإبراهيم، وأصلهما معاً من ضواحي الكوفة، ولم تكن الكوفة إذ ذاك ولكن أرضها وبقعتها في أرض العراق، فأرسل إبراهيم إلى العراق وكان معه لوط في العراق أيضاً، وهم أبناء أسرة واحدة في مدينة الكوفة، ومكانها اليوم، ولا تزال تسمى بهذا الاسم، وهي أشبه بقرية منها بمدينة لها مقامها وسلطانها، فلما كانت الدار لا تزال دار كفر، ولا يزال النمرود سلطاناً عليها هاجر منها إبراهيم إلى الشام ومعه لوط، إلا أن لوطاً هاجر على حدة وهاجر إبراهيم على حدة، وكان مهاجر لوط أرض سدوم من أرض فلسطين في أرض الغور فيما يسمى اليوم بالبحر الميت، وكانت تسمى في التاريخ بالبحيرة المنتنة.
وذكر الهجرة من بلاد الكفر هنا يفيد أنها ستبقى مشروعة لكل المؤمنين، وأن هجران المؤمن بلاد الكفار أو بلاد الفاسقين ماض إلى يوم القيامة، ولكل إنسان نيته، وإنما الأعمال بالنيات.
قوله: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26].
إن ربي هو العزيز يعز من يشاء ويذل من يشاء، إنما العزة لله ولرسوله وللمؤمنين وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ.
ترك لوط وإبراهيم أرض الكفر والشرك في العراق طلباً لعزة التوحيد والإسلام والطاعة، ورغبة في عزة عبادة الله في حرية من غير مضايقة من حاكم ولا محكوم؛ ولذلك ختمت الآية بذكر العزة وبكون الله هو العزيز الحكيم، فهو العزيز الذي لا يقاوم وما من عزة إلا منه وإليه، إذ العزة لله، وهو الحكيم الذي يضع الأمور مواضعها أمراً ونهياً، فهو الحكيم في أفعاله، وفي أوامره، وفي نواهيه، وفي عقابه، وفي رحمته ومغفرته.(163/6)
تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب)
قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [العنكبوت:27].
قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ} [العنكبوت:27]، مما يؤكد أن الضمير في قوله: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26] عائد على إبراهيم وأنه هو المهاجر؛ إذ الموهوب له إسحاق ويعقوب هو إبراهيم عليه السلام، فالكلام لا يزال عاماً والآيات في نسقها وتسلسلها كلها عن إبراهيم، وما ذكر لوط معه إلا استطراداً في أنه مع طول هذه الأوقات والأزمان لم يؤمن به أحد إلا لوط ابن أخيه.
قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [العنكبوت:27] إسحاق هو الولد الثاني لإبراهيم، وقد وهبه من زوجته سارة، وقبله وهب الله تعالى لإبراهيم إسماعيل، كانت سارة أم إسحاق قد غارت من إسماعيل وأمه أن كان لها ولد وهي عقيم، فأدرك ذلك إبراهيم عليه السلام، فخاف على ولده إسماعيل منها وهو النبي الكريم والرسول الذي في ذريته النبوة والكتاب، فنقله إلى موضع مكة المكرمة -المكان الذي فيه ماء زمزم- كما مضى ذلك وسيعود في الكلام على ذكر إسماعيل ورسالة إسماعيل ونبوة إسماعيل.
وقد كان إسحاق نبياً فقط، وكان إسماعيل نبياً رسولاً، ولا شك أن النبي الرسول أفضل وأكرم، إذ إن النبوة وحي إلى رجل ليعلمها في نفسه ولم يكلف بأن يبلغها غيره، فمصلحته هو دينه، وعبادته مقصورة عليه فقط، أما الرسول فهو رجل أوحي إليه بشرع، وأمر به في نفسه وأن يبلغه لغيره، وكان كذلك إسماعيل.
وقد وهب الله تعالى لإبراهيم زيادة على أن وهب له قبل ذلك إسماعيل إسحاق، ثم في حياته وهبه حفيداً نبياً كذلك وهو يعقوب بن إسحاق، فما مات إبراهيم حتى كان له من سلالته ثلاثة أنبياء: ولدان وحفيد، والحفيد ولد، فالأب عندما يولد له ولد يكون قد وهب ذلك، فإذا جاء الحفيد كان ولداً مرتين: مرة لأبيه ومرة له.
وقد حاول بعضهم ألا يفهم سياق قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) ولا يقابل الآي بعضها ببعض ويدع بعضها يفسر بعضاً فقال: إن إسحاق ويعقوب كليهما ولدا إبراهيم من صلبه وليس أحدهما ولداً والآخر حفيداً، وهذا كلام مرجوح يدل على غفلة ووهم، وإلا فذاك مذكور ومعروف بالتواتر قرآناً وسنة وفي جميع كتب التأريخ القديمة التي تقص تأريخ الأنبياء وحياتهم.
فمعنى الآلة: {وَوَهَبْنَا لَهُ} [العنكبوت:27]، أي: لإبراهيم، {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [العنكبوت:27]، أي: وهب له إسحاق ومن بعد إسحاق يعقوب، فبعد أن يصبح إسحاق رجلاً بالغاً متزوجاً سيولد له كذلك، فولد له يعقوب، ولذلك يقول تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد:26] أي: في ذرية إبراهيم وإسحاق، فكل نبي جاء بعد إبراهيم فهو من سلالته وذريته، والذرية: الأولاد والسلالة -ولا تزال هذه الكلمة في لهجة المغرب إلى اليوم فيقولون عن الأولاد: ذراري- وكما جعل الله كل من جاء من الأنبياء بعد إبراهيم من أولاده وسلالته جعل كل كتاب كان بعد إبراهيم في ذريته وسلالته، فإبراهيم ولد إسماعيل وولد إسحاق، وإسحاق ولد يعقوب، ويعقوب ولد يوسف، وكل من جاء بعد ذلك فهم من سلالة يعقوب من أنبياء بني إسرائيل إلى خاتمهم عيسى، فهو ابن إبراهيم من أمه ولا أب له.
فكان يعقوب أبا أمه كما نقول: الحسن ابن رسول الله والحسين ابن رسول الله صلى الله عليه وعليهما وسلم، فهما ولداه لأنهما من ذريته من بنته فاطمة، ثم هما من عشيرته بني عبد المطلب، فهو يجمع الكل أبوة وهو يجمع الكل أمومة.
فـ الحسن والحسين ابنا علي وعلي ابن عبد المطلب وعبد المطلب كما هو جد علي هو جد النبي صلى الله عليه وسلم.
فيعقوب هنا هو حفيد إبراهيم، وجميع من جاء بعده من سلالته هم من بني إسرائيل، فهم جميعاً ذرية إبراهيم، ونبينا عليه الصلاة والسلام، كذلك فجده الأعلى هو إسماعيل، وإسماعيل هو ابن إبراهيم، فكان من الخصائص التي خص الله إبراهيم عليه السلام بها كما خص نوحاً من قبل أن جعل الأنبياء من أبنائه، إذ إن نوحاً انفرد بالأبوة لأن الطوفان غمر كل الأرض، فكان الأب الثاني للبشرية بعد آدم، وكان أبا الأنبياء من بعده إلى إبراهيم، وكان إبراهيم الوالد الأعلى لمن جاء بعده من الأنبياء، فهو والد إسحاق وإسماعيل، وإسماعيل أبو نبينا عليه الصلاة والسلام الأعلى، وإسحاق أبو أنبياء بني إسرائيل الأعلى.
أما الكتب فإن التوراة نزلت على موسى وهو من أنبياء بني إسرائيل من سلالة إبراهيم، والزبور نزل على داود وهو من أنبياء بني إسرائيل من سلالة إبراهيم، والإنجيل نزل على عيسى وهو من سلالة إبراهيم، والقرآن الكريم نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو ولد إبراهيم من ولده إسماعيل، فكانت كل الكتب السماوية وكل النبوات والرسالات بعد إبراهيم في سلالته، ولا أشرف ولا أكرم ولا أعظم من ذلك، وليس ذلك فحسب بل إن الله خص إبراهيم بالخلة فكان خليل الله، ثم كان نبينا بعد ذلك خليل الله.
قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد:26]، فالكتاب جنس، أي: كتاب الإله المنزل زبوراً وتوراة وإنجيلاً وقرآناً، فكلها نزلت على الأنبياء والرسل من سلالته ومن ذريته.
قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} [العنكبوت:27].
وقد أكرم الله إبراهيم حيث وفى بالوعد، وقام بجميع ما أمره ربه به، وكان المثال الذي يحتذى به من أولي العزم من الرسل في جميع ما أمره الله به أو نهاه عنه.
وقد أكرمه الله بإكرامات لم يكن لها نظير أو شبيه، ونبينا عليه الصلاة والسلام لم يكن في ذريته النبوة والكتاب، ولكن كان الأمر أعظم من ذلك، فكان هو النبي والرسول لكل الأمم من البشر بعد مبعثه، وأما أولئك الماضون فلم تكن نبوءتهم إلا مقصورة على أقوامهم وتنتهي بوفاتهم، أما نبوة نبينا فلقومه ولمن كان في عصره ولمن جاء بعده إلى عصرنا، ولمن يأتي بعدنا إلى يوم القيامة، فكتابه المنزل عليه هو كتابنا وكتاب الأولين والآخرين، كل ما فيه: (يا أيها الناس!) فنحن الناس المخاطبون، وكل ما فيه (يا أيها الذين آمنوا!) فنحن الذين آمنوا المخاطبون فيه، وكل ما فيه من أوامر ونواه فنحن الذين نؤمر بها وننهى عنها كما أمر الأولون ونهوا، وكما سيظهر التالون وينهون.
فهو الرسول العالمي لكل الأمم والعصور مشارق ومغارب، بيضاً وسوداً، حمراً وصفراً، ولم يكن هذا في إبراهيم؛ ولذلك طلب من الله أن تسترسل النبوءة بعده إلى أن تكون في ذريته.
{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} [العنكبوت:27]: والأجر الذي أعطاه وهو لا يزال في الدنيا كونه أولاً وهب له الأنبياء والمرسلين في حياته، وهب له ولدين جميلين نبيين كريمين إسماعيل وإسحاق، ووهب له في حياته يعقوب من ولده إسحاق، ثم جعل النبوءة في سلالته إلى نبينا صلى الله عليه وعليهم أجمعين، ثم أكرمه كذلك فجعل الكتب السماوية جميعها تنزل على سلالته وأولاده: داود وموسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه، ثم جعله محترماً مقدراً عند جميع الأديان.
فالنصارى يدعونه ويقولون: هو نبينا الأول، فيجلونه ويكرمونه ويذكرونه بالخير، واليهود يقولون ذلك فيجلونه ويكرمونه، والمجوس منهم من يسمون بالبراهمة نسبة إليه، وعبدوا النار قالوا: لأنها أطفئت على إبراهيم؛ فعوضاً عن أن يعبدوا خالق النار والذي أطفأ النار، والذي أنقذ إبراهيم من النار، تركوا المسبب وعبدوا السبب لجهلهم وسخافة عقولهم.
فإبراهيم كان مقدساً محترماً عند المجوس وعند اليهود والنصارى والمسلمين، وبذلك آتاه الله أجره في الدنيا.
{وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:27]: أي: وفي الآخرة سيكون في زمرة الصالحين زمرة أبيه الأعلى آدم وأبيه الثاني نوح، ومع سلالته من الأنبياء والرسل الكرام، فهو أيضاً من جملتهم وينال منالهم ويكرم كرامتهم، ويكون في الفردوس الأعلى من الجنان حيث منازل الأنبياء والمرسلين.(163/7)
تفسير سورة العنكبوت [28 - 33]
ذكر الله تعالى قصة لوط وما كان عليه قومه من الفحشاء وفعل السوء الذي لم يسبقهم إليه أحد من العالمين، وما عاقبهم الله به من عذاب، وكأن الله يحذر من يصنع صنعهم ممن مسخ الله فطرتهم ونكست قلوبهم.(164/1)
تفسير قوله تعالى: (ولوطاً إذ قال لقومه)
قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:28].
قصة لوط مضت قريباً، لكن كررها لأن الشيء إذا تكرر تقرر، وذلك لتنفير الناس من مثل فواحش وبلايا قومه.
فالقرآن الكريم وحي الله وكلامه، فالله أنذر من سيأتي بعد هؤلاء أن يفعلوا فعلهم، وقد فعلوا فعل جميع قوم لوط بتفاصيل ذلك وكلياته فأنذروا بذلك، لكنهم أبوا إلا الكفران، وأبوا إلا اتباع أهل الفواحش والمنكرات، عاصين ربهم، خارجين عن دينه، يفعل ذلك من لا يزال كافراً، وفعل ذلك من يزعم أنه مؤمن في دعواه.
وقوله: (ولوطاً) أي: وأرسلنا لوطاً، فهو منصوب على المفعولية.
ويمكن أن يكون التقدير: اذكر يا محمد! لوطاً، وخذ العبرة والحكمة منه لقومك، عندما تدعوهم إلى محاسن الأخلاق وتنفرهم من مساوئها وفواحشها وقبائحها.
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [العنكبوت:28].
يؤكد ذلك بلام التوكيد، يقسم على أنها فاحشة، ويؤكدها بإن المؤكدة أول الكلام.
قوله: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:28].
أتيتم بفاحشة لم تكن قبلكم قط، لم تعرف في الأنبياء السابقين في أقوامهم، لم تعرف في عهود آدم إلى نوح إلى إدريس إلى شعيب إلى إبراهيم إلى أن قام قوم لوط في سدوم.
هذا وليست الفاحشة فقط هي الجريمة، بل هي علاوة وزيادة على الشرك بالله والكفر وأنواع المناكر، انفردوا بفاحشة من دون العوالم، وهي الاستغناء بالرجال عن النساء بلية وشذوذاً وبعداً عن طبيعة الأشياء، في الأرض العقيم التي لا يصدر عنها ولد ولا إنتاج ولا زراعة، في المكان الذي لا يكون إلا للقذر والوسخ، فتركوا نساءهم التي ينتجون منهن ذرية وأولاداً تعبد الله يوماً، وتخدم المسلمين يوماً، وتنشر الدعوة إلى الله يوماً، وذهبوا إلى أرض جدباء مع القذر والوسخ وعلقوا بذلك وعشقوا وعاشوا فيه مضافاً إلى الكفر والشرك، وإلى الفواحش بأنواعها.(164/2)
تفسير قوله تعالى: (أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل)
ثم قال لوط لقومه: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت:29].
كانوا كقوم نمرود، فعندما هاجر لوط إلى سدوم نبهه الله وأرسله إلى قبائل سدوم وإقليمها ومدنها وكان ذلك في حياة إبراهيم، وكان هذا في أيام بني إسرائيل كثيراً.
وهنا كان إبراهيم نبياً ورسولاً، وكان لوطاً بعد ذلك نبياً ورسولاً، وقد آمن قبل رسالته بعمه إبراهيم ورسالته، فكان شكر الله له وجزاؤه بأن أرسله هو كذلك نبياً ورسولاً إلى سدوم.
(أئنكم): استفهام استنكاري تقريعي توبيخي يقرر عليهم ويؤكد، أي: هذه الفواحش التي تأتونها من إتيان الرجال دون النساء ومن قطع الطريق العامة متلصصين منتهكين للأعراض قائمين بالفواحش، قائمين بالظلم، قائمين بالاعتداء مضافاً إلى بليتهم ومصائبهم.
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29].
ناديهم: أي مجلسهم ومجتمعاتهم يأتون فيها بالمنكرات يباري بعضهم بعضاً يقلد بعضهم بعضاً، وتجري بينهم بعض هذه المنكرات التي ينكرها العقل والطبع والدين والأخلاق الفاضلة، وأما قطع السبيل: فهو اللصوصية والسرقة والقيام في وجه الناس في الأمن العام الذي يستفيد منه سكان البلد.
فكان من خرج على بلده أو في ضواحيها قطعوا عليه طريقه وسبيله، فسرقوا عرضه إن كان رجلاً، وسرقوا ماله إن كان ذا مال، وشتموه وأذلوه وقد يقتلونه.
{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29] ما هو هذا المنكر الذي كانوا يأتونه في مجالسهم؟ كانوا يتسافدون ويركب بعضهم على بعض، وينزل بعضهم على بعض، كانوا شباباً أو كهولاً أو شيوخاً وهم يتضاحكون وكأنهم يأتون بشيء يسير، وكانوا يفتحون أزرار قمصانهم كما يفعل السفهاء في هذا العصر مرة أخرى، وكان يتشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، يطيل الرجال شعورهم كهيئة النساء، وتقص النساء شعورهن كهيئة الرجال، كانوا يلبسون الأصفر والأحمر والأخضر وما إلى ذلك كما يفعل اليوم هؤلاء المخنثون.
فالله جل جلاله عندما يعيد علينا قصة لوط، وقصة غيره من أنبياء الله فإنما ذلك ليقرع الأسماع ليزدادوا بعداً عن الفواحش إن وفقوا لذلك، ولتلزمهم حجة الله ودين الله والرسالات التي أتى بها نبينا عليه الصلاة والسلام، حتى إذا دخل قبره يوم يهلك ويأتيه الملكان يسألانه: من ربك؟ من نبيك؟ لا يقول: لم أعرف نبياً، لم يأتني نبي، لم أسمع بكتاب، بل سيضطر للجواب، وهكذا اللعنة تبتدئ من تلك اللحظة فيبقى في العذاب المستمر إلى أن يبعث فيبقى في عذاب النار خالداً فيها إلى الأبد.(164/3)
تفسير قوله تعالى: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله)
قال: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29]؟ فما كان جواب هؤلاء؟ {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} [العنكبوت:29]، لم يناقشوه، لم يحاسبوه، لم يجيبوه، وبماذا يجيبونه؟ لا منطق ولا عقل معهم، ولا بشرية معهم، إن هم إلا حيوانات، بل الحيوانات أكرم وأشرف، الحيوانات يكتفي الذكر بالأنثى، ولا يتصل الذكر بالذكر، ولا الأنثى بالأنثى، ولا يفعلون هذا.
فالحيوان الحقيقي: هو الإنسان عندما يكون مرتكباً هذه العظائم وهذه المناكر، ويبقى الحيوان أشرف منه وأكرم منه، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].
قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت:29]: طلبوا العذاب تكذيباً له وإصراراً، وثقة بأنفسهم أنه ليس رسولاً، وأن لا رب ولا آخرة، ولا حساب ولا عقاب، هكذا خرجوا للوجود عبثاً وسبهللاً، هكذا تحدثهم عقولهم الفاسدة، والفواحش هي التي طبعت قلوبهم فصعد عليها الران، فما عادوا يميزون بين صدق وكذب، بين ظلمة ونور.
وعندما تحدوا لوطاً أجابهم لوط: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت:30]: طلب لوط من ربه أن ينصره على هؤلاء المفسدين في الأرض بالفحشاء، بقطع السبيل، بأنواع المنكرات، فما عادوا يعرفون رباً ولا نبياً ولا خلقاً ولا أدباً.
فأخذ الله يقص علينا كيف نصره، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت:31].
بينما إبراهيم في داره إذا بشباب طرقوا بابه فرحب بهم ودخلوا، فذهب سريعاً وجاء بعجل سمين محنوذ ووضعه بين أيديهم، وإذا بهم لم يأكلوا فخاف منهم؛ لأن الملائكة لا تأكل، ولا تشرب.
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} [العنكبوت:31]، وما هي البشرى؟ كانت امرأته واقفة عند دخولهم فبشروا إبراهيم بنصر لوط على قومه المفسدين، وبشروا امرأته سارة بأنها ستلد فصكت وجهها كما تفعل النساء الآن: أيكون هذا وأنا امرأة عقيم كبيرة؟ وكانت قد تجاوزت المائة عام، قال زوجها: الله أكبر، فأكدوا لها أن هذه بشرى الله، وأن أمر الله لا بد منه.
ووضع إبراهيم الطعام فما أكلوا، فأنكر عملهم فكشفوا عن حقيقتهم، {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت:31]، وإبراهيم كان رحمة، وكان حريصاً على أن يهتدي قومه وقوم ابن أخيه لوط، فأراد أن ينذرهم قليلاً لعلهم يؤمنون، فما قبلوا ذلك، بل جاءوا بوعد الله، وبعقوبة الله، وبنقمة الله، فهي واقعة لا محالة، فعندما لم يقبلوا ذلك منه قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت:32] أي: كيف ستأتون بالقرية وتهلكونها وفيها نبي الله ورسول الله لوط؟ قال: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت:31]، سيأتون لقرية سدوم يهلكونها ويدمرونها، ويفعلون ما أمرهم ربهم فيها من سحق ومحق وزلازل من الأرض وصواعق من السماء، وجعل عاليها سافلها؛ لأنهم كانوا ظالمين، كانوا مشركين، كانوا فاسقين، كانوا مرتكبين للفواحش بكل أنواعها، فعندما حاول إبراهيم أن يثنيهم أو يدعهم وقتاً ما لعلهم يعودون إلى الله لم يقبلوا، عند ذلك قال إبراهيم لرسل الله: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} [العنكبوت:32]، أي: نحن نعلم بأن فيها لوطاً، {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:32]، فقر عيناً، فلن يصل لوطاً العذاب، ولن يمس أهله كذلك باستثناء زوجته من بين أهله: {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:32]، التي غبرت وسبقت أن كانت كافرة مشركة.
وكانت تساعد قومها على الفواحش، وتتجسس على لوط ومن جاء عنده من الشباب، ومن جاء عنده من الرجال، وقد تجسست عندما أتى هؤلاء لوطاً، وبلغت قومها، وكان بينها وبينهم إشارة.
فقوله: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:32]، أي: إلا امرأته لن ننجيها فيصيبها ما أصاب قومها لكفرها، ولخيانتها في دينها، ولتواطئها مع قومها في الفحشاء والمنكر.(164/4)
تفسير قوله تعالى: (ولما أن جاءت رسلنا لوطاً)
قال تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ} [العنكبوت:33].
المحاورة السابقة كانت مع إبراهيم، والكلام كان مع إبراهيم نبي الله وخليله، والآن سيذهبون إلى لوط ليبلغوه الرسالة: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} [العنكبوت:33].
معنى ذلك: أن هؤلاء جاءوا في صورة شباب حسان كاملين، فلما جاءوا استاء من مجيئهم واغتم وتألم وتوجع وضاق بهم ذرعاً، فماذا سيصنع؟ إن هو أدخلهم للدار وأضافهم وأكرمهم خاف من أن يأتي قومه إليهم فيؤذونه فيهم، ويفعلون ما يفعلونه عادة بالرجال، وإن هو رفض ضيافتهم ودخولهم للبيت خاف إن وجدوهم أن يأخذوهم بالقوة وبالعنف وبالإيذاء.
فهو على العموم استاء منهم، واغتم من مجيئهم، وحمل هماً كبيراً، وضاق بهم ذرعاً، وتبرم وتحير، وإذا بهم يشعرون بذلك فيجيبونه قائلين له: {وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:33].
أشعروه بأنهم ملائكة، ولم يشعر بهم لأول مرة، كما لم يشعر بهم عمه إبراهيم، فعندما أشعروه بأنهم ملائكة علم أنهم ناجون وأن قومه أحقر وأقل وأذل من أن يصلوا إليهم بسوء، وقد قالت القصة: جاء القوم وبلغت امرأته القوم بإشارة بينه وبينها، فعندما جاءوا وزاد لوط تبرماً، وزاد ضيقاً وإساءة، خرج أحدهم وإذا به يظهر جناحه، فضرب هؤلاء فطمست أعينهم وذهبت، أي: أصبحت لا شيء ولم تبق سوى الجبهة فقط، فأخذوا يصيحون فجاء من ينقذهم فأصيبوا بمثل تلك الإصابة.
قوله: {وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ} [العنكبوت:33].
أي: لا تخف يا لوط! فلن يمسوك بسوء، ولا تحزن على نفسك، ولا تحزن عليهم، ولا تحزن على أهلك، {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [العنكبوت:33]، أنت ستنجو وستنقذ منهم، وسنمهلك إلى الصباح للخروج عنهم وعن حدود أرضهم: {وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:33]، سننقذك وأهلك من هذا البلاء، من هذا الذي أمرنا بأن نصنعه بهذه المذنبة وقومها.(164/5)
تفسير سورة العنكبوت [33 - 40]
بعدما قص الله علينا قصة قوم لوط وكيف كان هلاكهم، قص علينا قصص غيرهم من الأمم ممن كذبوا الرسل كأهل مدين وقوم هود وصالح وقارون وفرعون وهامان، وقص علينا سبحانه وتعالى هلاك كل أمة من الأمم التي كفرت وكذبت الرسل.(165/1)
تفسير قوله تعالى: (ولما أن جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم)
قال الله جل جلاله: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:33].
يقول ربنا جل جلاله: لما أن جاءت ملائكته إلى لوط اغتم وحزن من أجلهم، وأخذه هم وكرب، وضاق بوجودهم ذرعاً، وخاف عليهم من فسقة قومه إن آواهم، وإن تركهم خاف عليهم كذلك من أن يصلوا إليهم بما اعتادوه من فحشاء وبلاء مما لم يسبقوا له في الأمم السابقة.
ولم يشعر أول مرة بهؤلاء الرسل الكرام، فقد ظنهم بشراً من الناس؛ لأنهم أتوا إليه في صورة شباب حسان، ولم يدر أنهم في الأصل ملائكة، وإذا بهم يشعرونه بحالهم وأنفسهم ويقولون: يا لوط لا تخف من قومك أن يصنعوا شيئاً، فأنت في حفظ متين، ولا تحزن عليهم فسيصيبهم ما أصاب الفسقة الفاجرين أمثالهم، فلا تخف ولا تحزن فإنا قد جئنا لعقابهم أمراً من الله جل جلاله، وإنا منقذوك ومبعدوك عن البلاء الذي سيصيبهم، وكذلك أهلك وأسرتك وبنتيك ومن معك من آل وأقارب وأتباع مؤمنين.
وقوله تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:33].
أي: إلا زوجتك فإنها كانت ممن غبر في الخيانة والكفر والإجرام والتواطؤ مع قومك على فعل الفاحشة والبلاء، فكانت تدلهم على الشباب الأحداث الذين يحاولون المجيء إلى لوط عليه الصلاة والسلام، فإنها لن تنجو وستعاقب عقابهم، وتضرب ضربهم.(165/2)
تفسير قوله تعالى: (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء)
قال الله تعالى: {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [العنكبوت:34].
أي: أمر الله جل جلاله الملائكة بأن تنزل عليهم الرجز من السماء، والرجز هو البلاء والعذاب، والرجم بالحجارة، وخسف الأرض بهم.
فقد جاء جبريل عليه الصلاة والسلام ومعه جمع من الملائكة الكرام إلى أرض سدوم التي كان يسكنها قوم لوط، فأخذوها واقتلعوها من جذورها ومن أعماقها، وصعدوا بها إلى أعلى الأجواء حتى سمع من في السماء نباح كلابهم، ونهيق حميرهم، وصياح رجالهم، وعويل نسائهم، ثم قلبوا عاليها سافلها، ثم أتبعوهم حجارة من سجيل تضربهم ذات اليمين وذات الشمال، وفي كل جانب يمكن أن يهلكوا به إلى أن هلكوا ودمروا وأصبحوا حديث أمس الدابر.
وقوله تعالى: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [العنكبوت:34] الباء هنا باء السببية، أي: بسبب فسقهم وفحشائهم وفسادهم ومنكرهم.(165/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون)
قال تعالى: {وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:35].
أي: وتركنا من هذه الأرض -أرض لوط- آية وعلامة واضحة ظاهرة (لقوم يعقلون) الأمور، ويعون الأشياء ويفهمونها، وكانت تلك العلامة والبينة عندما أخذت الأرض من قعرها ومن جذورها، وجعل عاليها سافلها، ثم قذف بها في الأرض، وهذه علامة للعرب وهم ينتقلون بين مكة والشام، أصحاب رحلة الشتاء والصيف، فكانوا يمرون على أرض سدوم وإذا بالأرض تصبح بحيرة سوداء الماء منتنة، لا تنبت ولا يصلح فيها نبات، وأصبحت حجارة سوداء وذات مياه سوداء علامة بينة على هؤلاء الذين عوقبوا ورجموا من السماء، وقلبت بهم الأرض عاليها سافلها، وأصبحت أرضاً عقيمة لا تنبت، ولا تنفع، ولا يشرب ماؤها.
كان هذا بين جداً في صدر الإسلام، ولا يزال هذا إلى اليوم، فالقرية تقع في أرض الأردن وهي البحر الميت، وماؤه لا يصلح للنبات، ولا يشرب ولا يسقي شجراً ولا دواب، بل شربه فيه ضرر وأذى لمن شربه من إنسان وحيوان.
فكانت تلك آية بينة، وعلامة واضحة لقوم يعقلون الأمور، ويملكون الفهم والوعي.
وهذا جزاء كل من ارتكب مثل هذه الفاحشة، والعرب لم يكونوا وقت نزول القرآن والبعثة المحمدية يعلمون هذه الفاحشة، ولم يسمعوا بها قط، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله لولا أن القرآن ذكر أن هناك أقواماً يأتون الرجال لما قبلت ذلك ولما صدقته، أيخالفون الشيء في طبيعته؟ أيكونون شواذ في خلقتهم؟ يدعون ما خلق الله لهم من أزواجهم، ويأتون هذه الفواحش والمنكرات.
وفي خلافة أبي بكر رضي الله عنه حدث هذا البلاء فرفعت إليه قضية، أن رجلاً أتى رجلاً كما يأتي الرجل زوجته، وإذا به يجمع الصحابة ويستشيرهم في عقوبة الفاعل والمفعول به، فقال قوم: نرميهم من أعلى جبل كما صنع الله تعالى بأهل لوط، عندما رفع أرضهم إلى السماء وجعل عاليها سافلها.
وقال بعضهم: بل نرجمهم بالحجارة كما يرجم المحصن أي: الذي تزوج رجلاً كان أو امرأة.
وقال بعضهم: نحرقهم بالنار؛ لأنهم رموا بحجارة من سجيل، وهي من جهنم فحرقتهم، فاختار أبو بكر رضي الله عنه من هذه المقترحات أن يكشفهم عراة إلا ما يستر العورتين ووضعهم في أعلى الجبل، ثم رماهم من أعلاه إلى أن وصلوا إلى أسفله ممزقين أشلاء وقطعاً.
كان هذا حكم أبي بكر رضي الله عنه لمن صنع هذا الفعل، واختلف الفقهاء في ذلك فقال البعض: يرجم الفاعل والمفعول محصناً كان أو غير محصن.
وقال البعض الآخر: يفتلان معاً.
وقال البعض: بحرقهما.
وقال البعض: يصنع بهما ما صنعه أبو بكر.
وأجمعوا جميعاً على أن فعل ذلك فحشاء ومنكر.
فعقاب الفاعل والمفعول به بما يراه الإمام ردعاً لأمثالهما وزجراً من عودة هذا بين الناس، وعقاباًَ لهما بأن يكونا في باطن الأرض، إذ وجودهما على ظهرها يكون سبباً لنشر هذه الفحشاء، ولعدوى الناس بها.
قال تعالى: {وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:35]، هكذا قال الله، وهذا صنيعه بهم، بسبب كفرهم وما كانوا يرتكبونه من المنكرات من كل لون ونوع في مجالسهم وفي ندواتهم.(165/4)
تفسير قوله تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيباً)
قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [العنكبوت:36].
أي: كما أرسلنا نوحاً إلى قومه، وأرسلنا لوطاًَ إلى قومه، وأرسلنا إبراهيم إلى قومه، أرسلنا شعيباً إلى أهل مدين نبياً ورسولاً، فجاء يدعوهم إلى الله قائلاً لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [العنكبوت:36].
أي: يا أهلي وعشيرتي! إليكم أرسلت، أن آمركم بالمعروف وأنهاكم عن المنكر، وأدعوكم إلى عبادة الله الواحد، وأن تتركوا عبادة الأوثان والأصنام.
واعتقدوا أن اليوم الآخر آت لا محالة، وهو يوم البعث، فهو اليوم الذي يحاسب الله فيه الناس، من أتى بالخير فله الجنة، ومن جاء بالشر فله النار، فخافوا من عذاب الله وحسابه يوم القيامة، وتوقعوا المجيء واحسبوا حسابه وأعدوا له ما تصنعون من خير، فإن ارتكبتم سوى ذلك فاستغفروا الله وتوبوا إليه، فهو يغفر لمن تاب.
وقوله تعالى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [العنكبوت:36].
العثو أشد أنواع الفساد، ويشمل الكفر بالله وقطع السبيل، وأنواع المناكر، وقوم شعيب كان فيهم من المنكرات ما كان في أمثالهم من الكفار والمشركين وعبدة الأوثان، فكانوا يقطعون السبيل، ويأتون المنكر، ويشركون بالله، فأمرهم نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام بعدم الفساد في الأرض، لعل الله يغفر لهم، ويجازيهم بخير.(165/5)
تفسير قوله تعالى: (فكذبوه فأخذتهم الرجفة)
قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [العنكبوت:37].
أهل مدين عندما جاءهم نبيهم شعيب برسالة الله وبعبادة الله وحده، كذبوا رسالته، فعاقبهم الله بالرجفة، فرجفت بهم الأرض، وتطايرت حجارها وحصاها ورفعوا إلى عليين، فكان يسقط الرجل منهم إلى الأرض مقطوع الرأس، حتى كأنهم أعجاز نخل خاوية، أي: كأنهم النخل وقد أزيل سعفها، وهكذا بقوا أجساماً بلا رءوس جاثمين، أي: موتى، بما أرسل عليهم من الرجفة التي رجفت بهم الأرض فهلكوا، هلكوا بريح عاصف فيه حصباء وحجارة، رفعتهم الريح إلى أعلى عليين، ثم هووا على أم رءوسهم، وقد فصلت الرءوس من الأجساد، فأصبحوا كما وصفهم الله {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:7 - 8]، ذهبوا إلى أمس الدابر، وأصبحوا صحائف تتلى، وأخباراً تقص، وكأنهم لم يعيشوا يوماً.(165/6)
تفسير قوله تعالى: (وعاداً وثمود وقد تبين لكم)
قال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:38].
أي: وعاد وثمود أرسل إليهم رسلاً مبلغين، مبشرين ومنذرين، كما أرسل نوحاً وإبراهيم وشعيباً ولوطاً إلى أقوامهم، أرسل إلى قبائل عاد هوداً، وإلى قبائل ثمود صالحاً، وكانت قبائل عاد في الأحقاف قريباً من حضرموت في أرض اليمن، وكان قوم صالح بالحجر في المدائن، في أرض الحجاز، في الحدود بين الحجاز والشام.
وإذا بهم كذبوا وكفروا وقاموا على أنبيائهم بالصد والمعارضة والمقاومة، فقال الله عنهم: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} [العنكبوت:38].
أي: وعاداً وثمود قد تبين لكم أيها السامعون كيف كانت عاقبتهم، قد تبين للناس في عصر النبوة عندما ذهب صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك ومروا على الحجر، فأخذوا ماءها فطبخوا وعجنوا به، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يأمرهم برمي ذلك العجين وعدم أكل الخبز، وبطرح ذلك الطعام وعدم أكله، وأن يخرجوا من هذه الديار التي غضب الله على أهلها، وألا يدخلوها إلا باكين أو متباكين، حتى لا يصيبهم ما أصابهم من لعنة وطرد من الرحمة، إذ كانوا كفرة بالله، متمردين على الله، وقد رزقهم عقولاً مستبصرة، وأجساماً قوية، فبنوا حضارات سبقوا بها الناس، فكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، وكانوا عمالقة الأجسام أقوياء، وكانوا من أتقن الناس للصناعات وللبناء وللمزارع، وكانوا على غاية ما يكون من الشدة والبأس، ولكنهم لم يشكروا النعمة، ومن يكفر بالنعمة تزال عنه وتسلب منه، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
والله تعالى لفت أنظار الناس أن يروا آثار اللعنة والغضب عليهم، وما أصابهم من صيحات ورجفات بحيث أصبحوا كأنهم جذوع نخل خاوية، وقد ذهب بهم الهلاك كل مذهب، فلم يبق منهم أحد، فبعضهم كان في البيوت والغرف، وبعضهم في الأزقة، وبعضهم بين الشجر، وعندما جاء هذا العذاب والبلاء ذهبوا وهلك كل واحد منهم على ما كان عليه في نفس الوقت والحال، وتركوا آثارهم، تركوا الخراب في دورهم، وتركوا المياه متغيرة بالسواد، وتركوا شجرهم وقد احترق وذهب، وذلك في الأحقاف في أرض اليمن قرب حضرموت، وذاك بالحجر من أرض الحجاز قرب تبوك، في الحدود بين الحجاز والأردن من أرض الشام.
فالله يقول: يا هؤلاء الذين كفروا بمحمد ورسالة محمد تفكروا قليلاً، وانظروا ماذا حل بالأمم السابقة من قوم نوح وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقوم هود، وقوم صالح، وكانت نتائج كفرهم وعنادهم، أن عاقبهم الله وأهلكهم وأنهى ذكرهم ووجودهم، وكأنهم لم يعيشوا يوماً.
وقوله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} [العنكبوت:38]، أي: تبين لكم آثار دورهم بعد خرابها ودمارها، وآثار ما بقي بعدهم، وما صنع الله بهم من لعنة وغضب.
وقوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [العنكبوت:38] أي: فقد زين لهم الشيطان أعمالهم، فأخذوا يعتبرونها أعمالاً حسنة وصالحة ومجيدة ينبغي أن يجازوا عليها، وهذا من سخافة العقول، وظلمة الكفر، وضلال الدين، وهكذا صنع بهم، قلبوا الحقائق واعتبروا الهدى فساداً، والظلمة نوراً، إلى أن تربصت بهم الأيام والشيطان يغريهم، ويزين لهم أعمالهم، إلى أن هلكوا وكأنهم لم يعيشوا يوماً.
وقوله تعالى: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [العنكبوت:38].
أي: دفعهم، وأبعدهم عن الطريق الحق، وعن السبيل المستقيم، وعن طريق الهدى والتوحيد والإيمان بالله ورسالاته وكتبه.
وقوله تعالى: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:38].
أي: كانوا قبل ذلك ذوي عقول مفكرة، ولكن ذلك في شئون الدنيا لا الآخرة، فكانوا يتمتعون بالقوة أبداناً، وعقولاً، وحرباً وقتالاً، بنوا الأبنية والقصور فوق الجبال وداخل الجبال، فنحتوا من الجبال صخوراً فبنوها قصوراً، ونحتوا داخل الجبال بيوتاً، فأقاموا فيها، فهم في فصل الصيف يشعرون بالبرد، وهم في البرد في حرارة، وكأنها المكيفات في عصرنا هذا، ومع ذلك علموا من الدنيا ظواهرها وهم عن الآخرة غافلون، وبها كافرون، لم يفكروا يوماً من أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟ ومن الذي أتى بنا؟ لم يفكروا في الخالق، هل سيعيشون سبهللا؟ هل خرجوا للدنيا عبثا؟ فكانوا غافلين وضالين، إلى أن انتهت حياتهم ووجودهم، وإذا بهم قد أصبحوا عبرة ومثلاً للمعتبر.(165/7)
تفسير قوله تعالى: (وقارون وفرعون وهامان)
قال تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت:39].
أي: وكذلك أرسل الله تعالى إلى قارون وفرعون موسى عليه الصلاة والسلام بالآيات البينات، والمعجزات الواضحات، يدعوهم إلى الله، إلى ترك الأوثان.
والمعنى: اذكر يا محمد! قارون الذي أوتي من الأموال ما إن العصابة والجماعة من الناس لا تستطيع حمل مفاتيح خزائنها لثقل تلك المفاتيح، وكان في تلك الخزائن الذهب والفضة والمجوهرات التي لم يكد يملكها إلا القليل من الناس قبل وبعد، فإذا به يتيه بهذا المال على الخلق، ويجعل ذلك حقاً من حقوقه، ولا يكاد يهتم بأحد، تعاظماً وتكبراً وطغياناً وجبروتاً.
ومن يتأله على الله يكذبه، والكفر بالقدر بلاء في الدنيا وبلاء في الآخرة، وأول كفر في الأرض كان من إبليس بسبب القدر، وقارون كان من قوم موسى فبغى عليهم، وفرعون الذي قال لقومه: لا أعلم لكم إلهاً غيري، وقال عن نفسه: أنا ربكم الأعلى، واستدل على ذلك بسخافات وحقارات، فمنها ما قاله الله تعالى: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، اتخذ ملكه لجزء من الأرض سبباً لتألهه، وملكه لا يكاد يعتبر نقطة في مياه الأرض العذبة، ونصب نفسه على الناس إلهاً، فكان كاذباً فاجراً سخيفاً.
وهامان كان وزيراً لفرعون وناصره على ذلك وواطأه، وقد أرسل الله لهم موسى يدعوهم إلى الله بالآيات البينات، فقد جاء بتسع آيات، جاء بالعصا، وباليد تخرج من الجيب بيضاء كأنها اللؤلؤ الدري، وبالضفادع، وبالدم إلى أن جاء بأن ينفلق له البحر، فكان كل فرق كالطود العظيم، فكان جواب هؤلاء أنهم كفروا بالله، وخرجوا عن أمر الله، فجوزوا على ذلك.
وقوله تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت:39].
هؤلاء الثلاثة جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام برسالة الله وآياته البينات، فاستكبروا في الأرض، وكذبوا بالآيات التي أتى بها موسى، وجحدوا الحق وأبوا إلا الكفران والجحود، وعاشوا على ذلك، إلى أن عاقبهم الله بما نعلمه وبما سيقصه علينا مجدداً.
اتخذوا الكبرياء رداءً وديناً، وتكبروا على موسى وهارون، وتكبروا على المؤمنين من عباد الله واتخذوهم خولاً وعبيداً.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت:39].
أي: لم يسبقوا غيرهم إلى الإيمان بالله، أو لم يفلتوا منا عن عقوبتهم، فعاقبهم الله ودمرهم واحداً واحداً.
ولم يكونوا على ما كانوا عليه من شئون الدنيا سباقين للإيمان بموسى وهارون، وللإيمان بما أنزل عليهم من توراة، بل كانوا سباقين للكفر حريصين على الشرك، متكبرين على الله ومتعاظمين عليه.(165/8)
تفسير قوله تعالى: (فكلاً أخذنا بذنبه)
قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
يقول جل جلاله: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40] التنوين هذا هو تنوين العوض، أي: كل قبيلة، وكل أمة، وكل طاغية وجبار ممن ذكر الله من قوم هود وقوم صالح، وقارون، وفرعون وهامان؛ كل واحد منهم لقي عذابه نتيجة كفره وجرائمه وذنوبه، فكل واحد منهم أخذه الله وأهلكه وعذبه بسبب ذنبه والجرم الذي قام به، وبسبب الشرك الذي عمله.
يقول تعالى: {َفَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} [العنكبوت:40] وهم عاد قوم هود، وذلك عندما كفروا بالله فأرسل الله عليهم الحصباء والريح العقيم، فكانت تضرب هذا وتصيب هذا وتقتل هذا، وتفصل رءوسهم عن أجسادهم، إلى أن أصبحوا كأعجاز نخل خاوية.
وهذه الآية فيها أسلوب اللف والنشر كما هو معلوم في كتب البلاغة، أي: أن كل حكم يعود للأول المذكور على الترتيب، فالمذكور أولاً هم عاد قوم هود، فكان عقابهم أن حصبوا بالحصباء إلى أن طارت الرءوس عن الأجساد.
ومنهم من أخذته الصيحة، فصاح بهم جبريل عليه السلام، وهؤلاء هم ثمود قوم صالح، وذلك عندما خالفوه، وخرجوا عن أمره، وطلبوا معجزة الناقة أن تخلق من الصخر بطول كذا وعرض كذا، فدعا صالح ربه فكانت الناقة كما طلبوا، فقتلوها عتواً على الله، وكفراً بأنبياء الله، وظلماً لهذا الحيوان الذي لم يصنع شيئاً، وإنما خلق إظهاراً للمعجزة، وإذا بالله الكريم يصيبهم بالصيحة، فصاح بهم جبريل صيحة ارتجت لها الأرض بحيث خرجت قلوبهم من حلاقيمهم وصرعوا جميعاً، وهلكوا حيث هم، وآثارهم لا تزال في أرض الحجر من المدائن، في حدود الحجاز والشام، وتلك آثار من غضب الله عليهم ولعنهم؛ نتيجة كفرهم وشركهم.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ} [العنكبوت:40] وهو قارون، خرج في زينته يتيه ويتعالى على القوم، وقد خرج في كذا ألف راكب، وكذا ألف حصان وجواد، فتمنى القوم زينته وحليته، ويقولون: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79].
وهكذا ظنهم وتوهمهم حتى خسف الله به وبداره وبجميع كنوزه الأرض، فأصبح في قعرها وكأنه لم يكن يوماً على وجه الأرض؛ عقوبة لكبريائه، فقد أذله الله.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40]، والذي أغرق فرعون وهامان وقومهما، عندما كذبوا نبوة ورسالة موسى وهارون، على كثرة ما جاءهم من آيات بينات، ومعجزات واضحات، لكنهم أبوا إلا الكفران.
بعد ذلك أمر الله موسى وقومه بأن يتركوا أرض مصر، فجاوزوا البحر، وإذا بهؤلاء يلحقونهم، فيدخل فرعون وهامان وجنودهما البحر، وأصبحت الأرض قبل ذلك يبساً لا ماء فيها، وأصبح الماء يميناً وشمالاً كالجبلين العظيمين، فدخل موسى وهارون وقومهما المؤمنون، فلحقهم فرعون وهامان، وهما يظنان أن الأرض بطبيعتها وجدت كذلك، ثم دخل جميع الجيش البحر، ولم يبق أحد على الشاطئ، وإذا بالبحر ينطبق عليهم، ويصبحون طعماً للحيتان وهوام البحر، إلا فرعون، فقد حفظ الله جسده ليبقى آية لمن بعده، ولا يزال محفوظاً إلى اليوم في متاحف مصر، وهو من الأجسام المومياء، ولكن لا يعرف بالقطع، هل هذا أو ذاك؟ ولكنه واحد منهم؛ لأن قومه أو البعض الذين لم يلحقوا ممن لم يكونوا جنداً كذبوا أن يكون فرعون قد هلك، وزعموا أنه إله سيعود، إلى أن رأوا جسده جثة هامدة لا تتحرك.
وبعدما رأت الأعين، آمنوا بأن فرعون لم يكن إلهاً، وإنما كان كذاباً دجالاً.
فكما أغرق الله قوم نوح، أغرق قوم فرعون، وكما رجم قوم عاد، كذلك أصيب بالرجم قوم لوط، فقد قال الله عن قوم نوح: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:14] فأخبرنا تعالى بأنه عاقبهم بالطوفان فغرقوا وذهبوا.
وقال لنا عن قوم لوط عندما جاءه رسل الله من الملائكة: {إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت:31]، إلى أن قال: {وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:35]، فقد دمرها الله بالحاصب.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40] أي: أن الله جل جلاله لم يظلم ولا يظلم أحداً {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
فعندما أغرق الله من أغرق، وخسف بمن خسف، وأصابت الرجفة من أصابت، وحصب بالحجارة من حصب، كان ذلك جزاءً على جرمهم وذنبهم وكفرهم بالله، فأنفسهم ظلموا، وعلى أنفسهم تعدوا، وهل هناك أشد ظلماً من الشرك بالله والكفر به، وجحود آياته وأنبيائه ورسله وكتبه السماوية، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]، فهم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، وبالكفر، وبالجحود، وبالخروج عن أمر الله، وعن طاعة رسل الله بما ارتكبوه من ذنوب ومعاص وآثام.(165/9)
تفسير سورة العنكبوت [41 - 45]
ضرب الله للذين كفروا واتخذوا من دون الله أولياء مثلاً بالعنكبوت اتخذت بيتاً، وهو أوهن البيوت، ثم حذر الله سبحانه من الشرك وأمر بإقامة الصلاة على وجهها حتى تنهى عن الفحشاء والمنكر.(166/1)
تفسير قوله تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت)
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41].
في هذه الآية ذكر العنكبوت لذا سميت هذه السورة بسورة العنكبوت، وضرب الله فيها مثلاً لكفر هؤلاء ولما يعتمدون عليه من دون الله، فمثلهم مثل العنكبوت اتخذت بيتاً تأوي إليه وتعتمد عليه وهو من أوهن البيوت.
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41].
أي: مثل هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أوثاناً وجعلوها آلهة استمسكوا بها وتعلقوا بها، كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً.
والعنكبوت تتخذ بيتها لتحفظ نفسها من الحشرات أمثالها، فهي تنفع نفسها، ولا ينتفع ببيتها البشر، فهؤلاء الكفار وما اتخذوه من أولياء وأصنام كمن يتخذ من البشر بيوت العنكبوت وما يتصل به، ويجعلها عمدة وغوثاً ومرجعاً، وإذا بنسمة خفيفة من الريح تذهب بهذا البيت، وبمن التجأ إليه، وبمن قام عليه.
وهكذا كان تمسكهم وتشبثهم بأوهام لا أصل لها ولا وجود، فقد عبدوا من دون الله أولياء، فهم أشبه بالعنكبوت اتخذت بيتاً تتحصن به، وتختفي فيه وهو من أوهن البيوت وأضعفها، وأكثرها امتهاناً، وأبعدها عن أن تحصن وأن تحفظ وأن تصون، والمراد ببيت العنكبوت هنا الجنس، أي: بيوت العنكبوت أياً كان شكلها ونوعها.
{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41].
أي: لو كان لهم علم ومعرفة لما اتخذوا من دون الله أنداداً وأصناماً لا تضر ولا تنفع، فالله هو المعبود وحده، وهو الذي يجب أن يعبد ويطاع، وهو الخالق، الرازق، الضار، النافع، فخف منه قبل أن يرميك في العذاب، فاعبده ليجازيك بالخير خيراً برحمته، وأما ما دونه من المعبودات من ملك أو بشر أو جن أو جماد، فهي أشبه ببيت العنكبوت، وإن من أضعف البيوت أوهاها وأقلها وأذلها بيت العنكبوت، لو كانت لهم معرفة وعلم بالأشياء.
فالذين اتخذوا من دون الله أولياء عاشوا ضالين، وماتوا ضالين، وكانت استغاثتهم بهؤلاء الأنداد والأوثان والأصنام من دون الله أشبه بالعنكبوت اتخذت البيوت لتحصنها وتحفظها، وماذا عسى أن تصنع هذه البيوت!(166/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:42].
أي: أن الله جل جلاله هو العالم بالخفايا، والعالم بالسر والعلن، والعالم بالسر وما هو أخفى، فهو يعلم ما يدعو هؤلاء من دون الله ويعبدونه من مخلوقات الله مما لا تضرهم ولا تنفعهم، وليست إلا أشبه ببيوت العناكب، فمن فعل ذلك كان ضائع العقل، ذاهب الفهم، حريصاً على الجنون في الدنيا وعدم المعرفة، وما ينور العقل إلا الإيمان بالله وبرسله وكتبه.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:42].
أي: وهو العزيز الذي لا يمانع ولا يغالب ولا ينال؛ فإن العزة لله جميعاً، فلا يعز إلا من أعزه الله، ولا عز إلا للمؤمنين، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
والعنكبوت حرم الشارع قتلها، فهي التي نسجت على باب غار ثور الذي اختفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه من كفار مكة عندما تواطئوا وتآمروا على قتله ومنعه من الهجرة إلى المدينة المنورة، فلما خرجا من مكة تبعهما الكفار فتلمسوا آثار المشي حتى وصلوا إلى فم الغار، فقالوا: هنا انقطع الأثر، فقال قائل: ادخلوا الغار، فقالوا: لو دخله أحد لتمزق بيت العنكبوت ولما عشعش فيه، وهذا الطائر قد باض وفرخ.
فالعنكبوت دافعت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي أضعف ما يكون، وكذلك الحمام دافع عن نبينا وهو من أضعف ما يكون، فقد حمى الله به النبي صلى الله عليه وسلم، وصانه من أعدائه، ولذلك أعطي الحرمة.
وقالوا: إن الحمام المعروف يعتبر من نسل تلك الحمامتين، فحرم الله صيد الحمام وإزعاجه وقتله، وحرم أكل فراخه وبيضه.
وحرم قتل العنكبوت أيضاً احتراماً لذلك، وهذا من خصائصها ومما جعل الله على يدها في الحفاظ على حياة رسول الله، وصيانته من أعدائه.(166/3)
تفسير قوله تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون)
قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
أي: وتلك الأمثال والذي منها ضرب المثل للمشركين المتخذين من دون الله أنداداً بالعنكبوت اتخذت بيتاً.
والمثل بمعنى الشبه، والله عز وجل يضرب الشبه بما تراه العين وتحسه، وبما لم تره، أو بما ذكر في الذهن أو مضى في التاريخ لتقريب المعنى، والقرآن نزل بلغة العرب، ولغة العرب مليئة بالأمثال، حتى إن الدارج من لغاتها ولهجاتها في بلاد المشرق والمغرب العربي، فلا يكادون يتكلمون إلا والأمثال تتخلل كلامهم، ومحاوراتهم وصلحهم وجدالهم ونزاعهم تبعاً للغة العرب الأصلية التي نزل بها القرآن، فلقد قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ألف مثل.
فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الفصحاء، وأعطي جوامع الكلم، فـ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه وكلامه ومحاوراته أكثر من ألف مثل، وقد كتب علماؤنا وسلفنا الصالح في أمثال رسول الله الذي تكلم بها، وتوجد هذه الأمثال في عموم كتب السنة، فتوجد في كتب الصحاح، والسنن، والمعاجم، والمسانيد؛ في أبواب العبادات، والمعاملات، والعقائد، والقصص، والآداب والرقائق، صلى الله على نبينا وسلم.(166/4)
تفسير قوله تعالى: (خلق الله السماوات والأرض بالحق)
قال تعالى: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت:44].
يقول الله لهؤلاء الكفار: أتظنون أن الله خلق الدنيا عبثا؟ ما خلقها سبهللا لتعيشوا وتأكلوا وتشربوا وتتكاثروا فقط، ما خلق الله السماوات السبع، والأرضين السبع إلا بالحق وللحق والعدل، وهذا الذي يعلمه المؤمنون.
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت:44].
أي: لعبرة، ومعجزة، وعلامة بينة للمؤمنين بالله، والمصدقين لرسل الله، والعاملين بكتب الله أمراً ونهياً، فلم تخلق السموات والأرض عبثاً، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
والعبادة أصل خلقة الإنسان، فإذا ابتعد عنها كان كمن جعل حياته حياة حيوان، بل أقبح وألعن، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].(166/5)
تفسير قوله تعالى: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب)
قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
والكتاب هو القرآن، والألف واللام للعهد أي: للمعهود ذهنا، فالكتاب الموحى إليك كلام الله، ناسخ الكتب السابقة، والمهيمن عليها.
فالله يأمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقرأ هذا القرآن ويدعو الناس إليه، ويعرفهم بحلاله وبحرامه وبعقائده، وبآدابه، وبقصصه، وبرقائقه، والعمل بما فيه من أوامر، واجتناب ما فيه من نواهي، وأن يتلوه عبادة، صلاة، وتهجداً، وذكراً، وكذلك المؤمنون من مشارق الأرض ومغاربها.
والأمر الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم أمر لعموم الناس، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، ولكن لا يقبل ذلك إلا ممن آمن بالله، ولو فعله الكافر وهو على كفره لم يقبل منه، وهو مطالب بالإسلام، لأنه من أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
ومنذ برز النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الديار المقدسة وقال: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً، وجب على كل الخلق في مشارق الأرض ومغاربها، أن يطيعوه ويمتثلوا أمره، وهم أمته؛ إلا أنه من استجاب منهم فهو من أمة الإجابة، ومن لم يستجب فهو من أمة الدعوة، أي: الأمة التي دعاها النبي عليه الصلاة والسلام للإيمان بالله وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والتلاوة بمعنى القراءة، والدرس، والشرح والبيان، وكل ذلك تشمله هذه الفقرة الكريمة.(166/6)
أهمية الصلاة المفروضة
وقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45].
أي: أقم الصلاة المعروفة، ذات الركعات وذات التهجد، وذات الركوع، وذات التلاوة، وذات الأذكار والقيام والركوع والسجود، المبتدأة بالتكبير والمختتمة بالتسليم.
وإقامة الصلاة هو الإتيان بها في أوقاتها، بأركانها وشرائطها وواجباتها وآدابها، فمن أخرها عن وقتها، أو لم يطمئن فيها، أو صنع فيها ما لا يجوز أن يصنعه، لم يقم الصلاة.
قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] ومن خصائص الصلاة على من داوم عليها، وأتم أركانها، وقام بالطمأنينة فيها، وبالتدبر لما يذكر فيها من قرآن وأذكار، أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
والفحشاء هو كل ما حرم الله، ويكون كبيرة أو صغيرة، والمنكر كل ما أنكره الشرع، وحرمه وكرهه ومنعه.
ومن خصائص الصلاة أن من واظب عليها جماعة في المساجد فهو مؤمن، قال عليه الصلاة والسلام: (من رأيتموه يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان).
وجاء قوم إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالوا: (إن فلاناً يصلي دائماً ويقوم الليل، لكنه يسرق ويفسد -وذكروا جرائمه- فقال لهم: دعوه ستنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر)، وليس معنى ذلك ترك إقامة الحدود، إذ لم تتم الشهادة عليه، وإلا لقطعت يده، وإن كان زانياً لجلد أو رجم، ولكن كلاماً يقوله الناس، فكان يقول عليه الصلاة والسلام: (دعوه إن الصلاة ستنهاه عن ذلك، وتلا: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]).
وفي السنن: عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لا نهاه الله).
ومعناه: أن الذي لا يتدبر في الصلاة، ولا يتفكر في معناها، ولا يطمئن فيها، ولا يقوم بأركانها وبواجباتها، إن هي إلا حركات أشبه بنقر الديكة، وحركات الثعلب، فليست صلاة القانتين العابدين، ومن لا يلتزم الوقت، ولا يلتزم آدابها، فإنها ترد عليه، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر كأنه لم يصل؛ لأن صلاته ليست بصحيحة.(166/7)
أهمية الذكر
قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
ذكر الله: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أكبر من كل أنواع الأذكار، والصلاة فيها كل ذلك، ففيها ذكر الله: فيها الله أكبر، وفيها سبحان الله، وفيها سبحان ربي الأعلى، وفيها سبحان ربي العظيم، وفيها قراءة الفاتحة وسورة، وفيها السجود، ولقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم)، أي: جدير للساجد وقد سجد بجبهته، وبأنفه، وبكفيه، وبركبتيه، وبرءوس قدميه وهو بهذا الموقف الجليل الذي لا يليق إلا بالله، جدير أن يستجيب الله له دعاءه، فالصلاة مشتملة على الذكر.
قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، ويقول الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] أي: ذكر الله لك أيها العبد أعظم من ذكرك له، وأكبر من ذكرك له، وأشرف من ذكرك له، ودليله الآية السابقة، وقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) أي: من ذكر الله وحده ذكره الله وحده، وإن ذكره في جماعة ذكره الله في جماعة خير منها وأفضل، وهم جماعة الملائكة.
إذاً: فذكر العبد لله شيء عظيم، وكون الذكر في الصلاة فهو أعظم، وأعظم من ذلك أن يذكرنا الله عندما نذكره، فيذكرنا بالرحمة، وبالرضا، وبالجنة.
وذكر الله عبده أكبر من كل كبير، فالله الأكبر والأعظم، فإن ذكرك الله كان ذكره لك أعظم من ذكرك له، سواء كنت مصلياً، أو ذاكراً فقط، أو تالياً فقط، أو ذاكراً بأي نوع من أنواع الذكر، فذكر الله لك وحده لأنك ذكرته وحدك، أو في ملأ؛ لأنك ذكرته في ملأ، فذكر الله أعظم من ذلك؛ لأنه يذكرك كما ذكرته.
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
هذه فيها بشرى ووعيد وإنذار، فالله يعلم ما تصنعون أيها الناس، فمن كان صنعته الطاعة والعبادة، وكانت صلاته تامة في أوقاتها وبأركانها، فالله عليم بصنعه، وبعمله، فيجازيه بالخير إحسانا، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله، من غير إكراه.
والله يعلم ما يصنع الكافر والعاصي، فيعامل الكافر على الكفر ناراً ومحنة وعذاباً، والعاصي يعامله تأديباً ومحنة ودخول النار، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه.
قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، بذكر هذه الآية نكون قد ختمنا عشرين جزءاً أي: ثلثي القرآن الكريم، ومن أول هذه الآية نكون قد شرعنا في الثلث الثالث، أعاننا الله على تمامه كما أعاننا على تمام الثلثين السابقين، وقبل الله ذلك منا.(166/8)
تفسير سورة العنكبوت [46 - 47]
من آداب المجادلة مع أهل الكتاب أن يجادلوا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقد أنزل الله الكتاب على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فآمن به بعض أهل الكتاب لأنهم وجدوه مطابقاً لما عندهم.(167/1)
تفسير قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)
قال الله جلت قدرته: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46].
يعلمنا الله ربنا جل جلاله كيف ندعو الوثنيين والمشركين إليه، وكيف ندعو من كان من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، فلهؤلاء حكم, ولهؤلاء حكم، ويجمع الكل أنهم كفرة لا يؤمنون بالله، وأنهم اتخذوا معه أولياء وشركاء من دونه، فقال جل جلاله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46].
الجدال: هو الخصام، أي: لا تخاصموهم، ولا تناقشوهم، ولا تحاوروهم إلا بالكلمة الطيبة، فلا تعنيف، ولا شتيمة، ولا صراخ، ولا تقبيح، ولا شتم وذم.
وقد أرسل الله نبيين كريمين -وهما موسى وهارون- إلى من ادعى الألوهية كذباً وطغياناً وجنوناً وحمقاً، ومع ذلك قال لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، وهما النبيان الكريمان، والمدعو رجل طغى عليه حمقه ورعونته، فلم يدع النبوة، بل ادعى ما هو أكبر منها؛ ادعى أنه إله معبود من دون الله، ومع ذلك فإن الله جل جلاله أمر النبيين الكريمين بأن يكون كلامهما له ودعوتهما إياه باللين والكلمة الطيبة، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
وهنا أجدر أن تقبل الدعوة، وأجدر أن ينصتوا للحق ولدليله وبرهانه.
وهكذا هنا فإن الله جل جلاله أمرنا عند محاورة أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن نجادلهم وأن نستدل عليهم بالتي هي أحسن، أي: بالكلمة الحسنة والطيبة من غير أن يكون هناك خصام ولا شتيمة.
وأهل الكتاب قوم يظنون أنفسهم مؤمنين، وقد حرفوا وبدلوا التوراة والإنجيل، وأمروا أن يعبدوا إلهاً واحداً فعبدوا ثلاثة آلهة: عبدوا الله، ومريم، وعيسى، وسموها الأقانيم الثلاثة، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73].
وازداد اليهود كفراً فعبدوا العجل من دون الله، واتخذوه شريكاً وإلها، ثم زعموا لأنفسهم أنهم أبناء الله، ثم زعم ذلك النصارى بعدهم، وقد حكى الله ذلك عنهم، ثم قالوا كما قال الله عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18].
فكان شركهم قد تجاوز شرك السابقين؛ إذ جعلوا الخلق كله من أصل إلهي، وفيهم جزء إلهي، فكانت الآلهة عندهم بعدد الخلق، فضلوا وأضلوا.
والله جل جلاله سماهم الكفار والمشركين من أهل الكتاب، فهم في الأصل أهل كتاب، اتبعوا موسى في زعمهم، وأنزلت عليه التوراة، واتبعوا عيسى في زعمهم، وأنزل عليه الإنجيل، فهم بهذا الاعتبار أهل كتاب، ثم إنهم حرفوا وبدلوا وغيروا ما في الكتب السماوية.
وفي التوراة المحرفة الغرائب والعجائب، ففيها الاستهزاء بالله، وقذف الأنبياء والرسل بكل طامة وكبيرة من المحارم ومن أنواع الفواحش.
وكذلك الإنجيل المحرف فيه عقيدة التثليث، وفيه تأليه البشر: عيسى ومريم، وفيه أن النصارى أبناء لله، وينادون ربهم ويقولون: يا أبانا الذي في السماء! هكذا يكفرون ويشركون.
فالله جل جلاله يأمرنا أن ندعوهم إلى القرآن وإلى الإسلام وإلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالكلمة الطيبة.
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] أي: إلا الظالمين من هؤلاء الكتابيين، فعاملوهم بمعاملتهم، وأجيبوهم بمثل قولهم، وارفعوا السيف في وجوههم، لأنهم كانوا ظالمين، والظلم يعنى به هنا: تجاوز حدهم بالهجوم على الرسالة المحمدية، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم.
لأن الكفر أظلم الظلم، فكل من كان كافراً كان ظالماً، والكفر ظلم أخص، وهؤلاء منهم من إذا جادلك أو إذا خاصمك، تعرض لنبيك صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسوء، وتعرض لكتاب الله بكل قلة أدب، وقذف وشتم وكذب، وقال ما يقوله كل كافر وقح.
إذا بلغ بهؤلاء وقد ظلموا المسلمين بأقوالهم، وأفعالهم، فلا يكفي فيهم المجادلة بالكلمة الطيبة، ولا بالتي هي أحسن، فمن احتاج السيف فاضربه بالسيف، ومن يكفي فيه الضرب بالعصا، أو السجن وما إلى ذلك، يعامل بمثل ذلك، لا للجدال في الحق، ولكن لتأديبه على ظلمه، وتعديه لسلطانه، وهذا كله مع أهل الذمة، الذين هم تحت سلطاننا وذمتنا من اليهود والنصارى.
أما الحربيون فإنهم يدعون إلى الإسلام، وإلا فالجزية، وإلا فالحرب.
والله أمرنا أن ندعو الخلق كلهم إلى الإسلام، فإن فعلوا فذاك، وإلا فتعرض عليهم الجزية.
والجزية تعني: أن يخضعوا لكتاب الله حكماً، وأن يصبحوا تحت راية الإسلام، فالحكم للمسلمين وهم تحت تصرفهم، مع إبقاء البالغين منهم على دينهم، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256].
ومن دخل الإسلام أرضه، وأصبح الحاكم فيها، ووجد صغار لم يبلغوا الحلم، فالصغار يعتبرون مسلمين إذا بلغوا وهم تحت حكم الإسلام.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
والفطرة هي الإسلام، وقد أجمع على ذلك شراح هذا الحديث، فإن بلغ الأولاد وهم في بلاد الإسلام فهم مسلمون، ولا يحق لأب أو أم أو لكليهما أن يغيروا دين أولادهم من الإسلام إلى الكفر، ولا يجوز لنا أن نأذن لهم ونتركهم لأن ينصروهم أو يهودوهم، أو يمجسوهم.
وقد كان عمر رضي الله عنه يكتب لولاته وأمرائه وقواده: ألا تدعوا النصارى ينصروا أولادهم، وألا تدعوا اليهود يهودوا أولادهم، وألا تدعوا المجوس يمجسوا أولادهم.
وقوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46].
هذا خطاب لأهل الذمة الذين هم تحت ذمة المسلمين وحكمهم وسلطانهم، أما الحربيون فالإسلام أو الجزية أو السيف، أي: الحرب، وقد زعم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وليس الأمر كذلك.
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [العنكبوت:46]، أي: الذميون الذين تجاوزوا حدودهم من قلة الأدب مع الإسلام ونبي الإسلام وكتاب الإسلام، فليس لهم ذمة.
أما الحربيون إن رفضوا الإسلام والجزية، فليس لهم منا إلا السيف، قال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].(167/2)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب)
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت:47].
أي: كما أنزلنا الزبور على داود، والتوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، وكما جعلناهم أنبياء ورسلاً, وأوحينا إليهم بدين وكتاب، كذلك أرسلناك رسولاً بوحي وكتاب، فأرسلناك بالإسلام للناس عامة، وأوحينا إليك القرآن الكريم المهيمن على ما سبقه من الكتب، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالله جل جلاله حفظه وتعهد بحفظه، ولم يكل حفظه لأحد من خلقه.
وأكبر معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم، فهو بعد نزوله بألف وأربعمائة عام لم يغير ولم يبدل لا في سورة، ولا في آية، ولا في حركة حرف أو سكونه، وما ذلك إلا لأن الله تعهد بحفظه.
وأما الكتب السماوية السابقة فلم يتعهد الله بحفظها، وإنما عهد بحفظها لعلماء اليهود والنصارى، قال تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة:44]، فعجزوا عن حفظها، ورعايتها، فبدلوا وغيروا.
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت:47].
أي: القرآن، وهو هدى ونور للمؤمنين بل وللناس كافة، فمن اهتدى به نفع نفسه، ومن جحده أضر بها وما ضر أحداً.
وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت:47].
أي: والذين آتيناهم الكتاب منهم من آمن بك وصدقك كـ عبد الله بن سلام وقد كان يهودياً، وسلمان الفارسي الذي أسلم وقد كان نصرانياً، فهؤلاء آمنوا بالكتب السابقة، وآمنوا كذلك الكتاب اللاحق وهو القرآن الكريم المنزل إليك.
فهم آمنوا أولاً، وآمنوا أخيراً، لأنهم وجدوا في التوراة والإنجيل اسمك وصفتك ونعتك.
فكان إيمانهم بالكتب السابقة إيماناً بك، لأنهم وجدوا الصفات التي ذكرت في الكتب السابقة منطبقة عليك عندما رأوك وجالسوك، وسمعوا قولك، وسمعوا من القرآن المنزل عليك، فكان ذلك دليلاً وشاهداً وسلطاناً وبرهاناً فآمنوا.
وقوله تعالى: {وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} [العنكبوت:47].
أي: ومن المشركين الوثنيين من يؤمن بمحمد صلى الله عليه وعلى آله، ويؤمن بالكتاب المنزل إليه، وأنه كلام الله، وأنه الوحي الحق جاء به جبريل عليه السلام من الله إلى قلبك لتكون للعالمين نذيراً.
وقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت:47].
الجحود هو معرفة الحق ونكرانه، فأهل الكتاب وجدوا في النبي عليه الصلاة والسلام الصفات التي في التوراة والإنجيل فآمنوا به وصدقوه.
ومن العرب من آمن به كذلك، وكان هذا في صدر الإسلام، وهذه السورة مكية، على خلاف في ذلك، كما قررنا ذلك في أول السورة.
فكفار العرب رأوا من أمانة النبي عليه الصلاة والسلام، وصدقة وكونه لم يكذب قط على الناس إلى أن صار عمره أربعين عاماً، فعلموا أنه لا يكذب على الله بعد الأربعين عاماً، حاشا الله ومعاذ الله، فمن لا يكذب على الناس لا يكذب على الله.
وقد بقي النبي عليه الصلاة والسلام صادق القول لمدة أربعين سنة، وقد عرفه بذلك الصغير والكبير، والرجل والمرأة، فلا يخطر ببال أنه بعد ما أتم من الأربعين سنة يكذب على الله، جل الله عن ذلك، وجل نبينا عليه الصلاة والسلام عن أن يكذب على الله.
وكان كفار مكة يلقبون النبي عليه الصلاة والسلام قبل النبوة بالأمين والصديق، والصديق صيغة مبالغة، وهي تدل على كثرة الصدق، وعدم الكذب قط، لا تلويحاً ولا تصريحاً.
فالكفار آمنوا به بما علموا من خلقه، ومن عشرته الطويلة معهم قبل الإسلام، وأهل الكتاب آمنوا به لما وجدوا من صفته، ومن نعته في كتبهم السماوية التوراة والإنجيل، استناداً على ما عندهم من حق وسلطان ودليل، على أن محمداً النبي الخاتم والرسول الصادق، صلى الله عليه وعلى آله.(167/3)
تفسير سورة العنكبوت [48 - 51]
القرآن العظيم كلام الله أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى به العرب فلم يقدروا على الإتيان بمثله، فهو المعجزة الخالدة للنبي الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب.(168/1)
تفسير قوله تعالى: (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك)
قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48].
يقول الله لمحمد عليه الصلاة والسلام: إنك يا محمد كما تعلم أنت ويعلم قومك، ويعلم كل من رآك وعرفك، أنك قبل نزول الكتاب إليك، لم تكن تتلو شيئاً من الكتاب، فقد كنت أمياً لا تقرأ كتاباً ولا تكتبه بيمينك، فأعظم معجزة أنك لم تتعلم، ولم تجلس بين يدي شيخ، ولم تقرأ كتابا ولم تكتب بيدك شيئاً.
ومع ذلك وبعد الأربعين من السنين أصبحت محيطاً بعلم الأوائل والأواخر، علم الأنبياء وعلم الكتب السابقة، بل جئت فصححت ما كان عندهم من كذب، وتحريف، وتغيير، فعلمت علم خلق الدنيا، وخلق السموات والأرض.
وعلمت الله جل جلاله بنعوته وصفاته وبمقامه جل وعلا وأنه الخالق الواحد الذي لا شريك له، وعلمت ما كان بعلم الله لك وما سيكون، وعلمت من شأن الأمم قبلك والأمم بعدك ما علمكه الله بما أنزل إليك من هذا الكتاب الكريم، الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42].
هذا الكتاب المعجز في لفظه، والمعجز في معناه، جئت به وأنت الأمي، كما يقول العارف: كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم فيكفي معجزة لنبينا عليه الصلاة والسلام أنه وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب جاء بعلم لم يأت به أحد قبله: لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وكل ذلك قد صادق خبره الخبر، سواء فيما مضى أو فيما هو آت.
فقد جاءكم بكتاب فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، والفصل فيما بينكم، هو الجد ليس بالهزل، ما تركه من جبار إلا وقصمه الله، فيه الحق الصراح في الخبر والنبأ والحكم، والعقائد والقصص والآداب والرقائق.
قوله: {إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48].
أي: لو كان النبي يكتب ويقرأ لقال أهل الباطل من أهل الشرك ومن يهود ونصارى: لا غرابة فيما جاء به محمد، فهو قد قرأ كما يقرأ الناس، وكتب كما يكتب الناس، وحضر مجالس العلماء، فهو يقرأ ويكتب.
ولكن لما كان الأمر ليس كذلك كانت المعجزة مما ظهر في عقول العقلاء قبل غيرهم، وكانت أعظم معجزة أتى بها هي القرآن، فلم يأت من قبله إلا بمعجزة قد انتهى زمانها، كعصا موسى وناقة صالح وما إلى ذلك، ولكن المعجزة الدائمة الباقية ما بقيت الدنيا هي هذا الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فأعظم المعجزات التي كانت والباقية إلى يوم القيامة هي هذا الكتاب الذي تحدى الله الخلق جنهم وإنسهم أن يأتوا بمثله، أو بسورة منه، أو بعشر آيات منه، فعجزوا وما استطاعوا.
والتحدي لا يزال قائماً منذ ألف وأربعمائة عام، فلم يستطع أحد أن يجاري القرآن في فصاحته وبلاغته وإعجازه، لا القريب من اللغة العربية، ولا البعيد عنها.
قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} [العنكبوت:48].
أي: لم تكن تتلو كتاباً وتقرؤه من قبل القرآن الكريم المنزل إليك.
{وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48].
أي: ولم تكن تكتب بيمينك، وذكر اليمين هنا هو في الأغلب وإلا فبعض الشواذ يكتب باليسار، والمقصود أن النبي لم يكن يكتب قط.
والخط باليمين هنا المراد به الكتابة، بمعنى أنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكونه لا يقرأ ولا يكتب هو ما جاء ذكره في القرآن الكريم، وجاء في التوراة والإنجيل قبل ذلك، وأجمع عليه المسلمون قاطبة، حتى لقد قالوا: من زعم أن محمداً يقرأ ويكتب فهو كافر بالله، إما أن يتوب إلى الله وإما أن يقتل على الردة.
وقد زعم أبو الوليد الباجي من علماء الأندلس في القرن الخامس أن النبي عليه الصلاة السلام كان يقرأ ويكتب، وقال هذا الكلام وهذا الهراء وهذا الجهل على جلالته وعلمه ومكانته بين المفسرين والمحدثين والعلماء والفقهاء.
وقد أخذ ذلك من كلمة ذكرت في صحيح البخاري، وذلك عندما اتفق النبي صلى الله عليه وسلم مع خصومه وأعدائه من كفار مكة أن يكتبوا معاهدة الحديبية، وكان الكاتب للرسالة هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له النبي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، وإذا بسفير قريش يقول: اكتب: باسمك اللهم كما كان يكتب سلفك وقومك، ثم قالوا له: اكتب اسمك واسم أبيك كما يكتب الناس، ولو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، وكان علي قد كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فغيرها باسمك اللهم، فقال له النبي: امح رسول الله واكتب: هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله، فامتنع علي وقال: والله يا رسول الله لن أمحو رسالتك لا في قول ولا في عمل.
في رواية عند البخاري: فمحاها النبي صلى الله عليه وسلم وكتب: محمد بن عبد الله، وفي الرواية الثانية في البخاري: فأمر رسول الله غير علي بأن يمحوها ويكتب اسمه واسم أبيه، فجاء الباجي فقال: قد كتب رسول الله: محمد بن عبد الله، فنسب الكتابة للنبي، وقال: كانت تلك معجزة لرسول الله.
وهذا فهم أعوج لأمرين: أولاً: أن المعجزات لا تتضارب، فالمعجزة كانت في كونه أمياً، لا في كونه قارئاً، فلو اعتبرنا المعجزة انقلبت من أمي إلى قارئ وكاتب لكان هناك تضارب، والمعجزات لا تتضارب.
ثانياً: أنه لو كان يكتب لدخل في عموم الآية: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48].
إذاً: لو كان يقرأ ويكتب لتشكك وارتاب في صدق رسالته ونبوءته المبطلون البعداء عن الحق من أهل مكة وغيرهم من الوثنيين ومن الكتابيين، ولذلك قامت ضجة على هذا الرجل في المشارق والمغارب، وخطب الناس على المنابر في تكفيره وفي شتمه، وقال بقوله اثنان أو ثلاثة، وذكروا حديثاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات حتى تعلم القراءة والكتابة).
وهذا حديث باطل لا أصل له ولا سند له، ولا مخرج له، وهو من الأكاذيب التي كذبها الزنادقة أو الجهلة، وفي هذه النتائج دائماً يلتقي الجهلة مع الزنادقة.
وعلى ذلك فالقرآن صرح هنا بأنه لم يكن يقرأ كتاباً، ولم يكن يكتب كتاباً قبل نزول القرآن عليه.
وهو بذلك عندما جاءه الوحي بلغ الرسالة، ونشر علوم الأولين والآخرين، ونطق بما جاء به القرآن عن الله، وكان له أكثر من عشرين كاتباً يكتبون الوحي عندما ينزل عليه، ويكتبون الرسائل بينه وبين أمراء الأقاليم والملوك يدعوهم إلى الله الواحد الذي لا شريك له.
أما أنه يكتب ويقرأ فالقرآن صريح في عدم ذلك، وقد وصفة الله في التوراة والإنجيل من قبل أنه أمي، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].
وجاءت صفة رسول الله في التوراة والإنجيل كما يقول الله: إنه النبي الأمي، والأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، ومع أميته وصفه القرآن بأنه رسول ونبي، وأنه جاء ليأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، وينهاهم عن الخبائث، ويرفع عنهم إصرهم، أي: ما كان في دينهم مما لا تكاد تحتمله الناس من شدة وقسوة في عبادتهم.
والأغلال التي كانت عليهم: كانوا عبيداً للملوك مستذلين، قويهم يأكل ضعيفهم، وغنيهم يستبيح مال فقيرهم، إلى أن جاء النبي عليه الصلاة السلام، فرفع هذا من الكون كله، ورفع الظلم الذي كان في ديار العرب، وأمر برفعه من ديار الروم والفرس، فامتثل أمره الخلفاء الراشدون عندما ذهبوا فاتحين في أقطار الأرض، ناشرين رسالته وأمره ونهيه صلى الله عليه وسلم.(168/2)
تفسير قوله تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)
قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49].
الجحود: نكران الحق بعد العلم به، وقد كان هكذا كفر اليهود والنصارى، بعد أن وجدوا صفته في التوراة والإنجيل كما ذكر القرآن.
والعرب علموا حياته، وقد عاش عمراً من حياته بينهم، وما كان يعرف بينهم إلا بالصادق الأمين، وفجأة أخذوا يشتمونه ويكذبونه، عتواً في الأرض وفسادا.
وقد آمنوا بصدقه واعترفوا به، ولكنهم جحدوا الحق، فكفروا به وبما أتى به، قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49].
بل: للإضراب، بمعنى: بل علم محمد والرسالة المحمدية، والقرآن الكريم بما فيه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49].
أي: آيات بينات ظاهرات واضحات: {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49].
فهذا القرآن وهذه الرسالة المحمدية هي بالنسبة للمسلمين أتباع محمد لا يحتاجون فيها إلى كتاب ولا ورق، بل هي في صدورهم، يحفظونها حفظاً عن ظهر قلب.
فهكذا كان العرب المسلمون، فقد عرفوا بأن القرآن الكريم يحفظه الكبار والصغار، وحتى مع فساد الزمن ونشر الكفر، وإذاعة النفاق لا يزال في جميع العوالم، ولا تخلو بقعة من أرض إلا وفيها مسلمون يحفظون القرآن الكريم، أو فيهم من يحفظ القران الكريم، هذا على ما أصيب به المسلمون من جهل وكفر ونفاق.
فتجدهم يحفظون كتاب الله في صدورهم.
وهناك من الآثار والأحاديث ما يزيد هذا بيانا، ففي الحديث النبوي: (أناجيل أمتي في صدورها).
الإنجيل الذي عرف عند النصارى أنه كتاب ربهم، هو بالنسبة للمسلمين في صدورهم، يحفظونه غيباً ويتلونه صباحاً ومساء، يحفظون لفظه، ويحفظون معناه، وشرحه وبيانه.
يحفظون شرحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سنته، ويحفظون شرحه وتفسيره من الآيات التي يفسر بعضها بعضا.
ويحفظون تفسيره من لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم.
يعلمون أفعاله ومصادره، أسماءه وحروفه، فيستنبطون المعنى حلالاً وحراماً، قصصاً وعقائد وآداباً ورقائق، ولا يعرف هذا في غير الأمة المحمدية، وفي العرب بصفة خاصة قبل غيرهم، فلقد كان سلفنا الصالح يحفظون كتاب الله عن ظهر قلب، ويحفظون مع كتاب الله مئات الآلاف من الأحاديث النبوية.
كان مالك بن أنس يحفظ السنة النبوية، وكان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، وكان الشافعي يحفظ مئات الآلاف من الأحاديث.
كان أبو حنيفة على طعن أعدائه في حفظه للسنة يحفظ الآلاف من الأحاديث، وعليها بنى فقهه واستنباطه واجتهاده، لا كما زعم ابن خلدون الدخيل في دينه وإسلامه بأن أبا حنيفة لم يكن يحفظ من السنة إلا سبعة عشر حديثاً.
قال: وعليها بنى فقه وحديثه وإسلامه، وبذلك زعم وأفسح المجال لمن جاء بعده بأن قالوا: فقه الأحناف كله الرأي، وليس معتمداً على السنة، والإمام أبو حنيفة لم يكن يعرف السنة، وفقهه اجتهادات واستنباطات لا ترجع لدليل من السنة قط، فجاء الكفرة والمنافقون في عصرنا فقالوا: فقه أبي حنيفة فقه الرومان، وهو فقه حمورابي، وخرجوا به عن الدائرة الإسلامية الفقهية جميعها، فكذبوا على الله وافتروا! الزيلعي الإمام الحجة العلم المرجع، وهو حنفي المذهب، بل إمام من أئمة الحنفية، خرج فقه الأحناف في عصره، وإذا به يأتي بعشرات الآلاف من الأدلة مما استدل بها أبو حنيفة وأصحابه، وذلك في كتابه المسمى بنصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، وهو في أربعة مجلدات، مطبوع أجمل الطبعات، حرفاً وورقاً، والمحقق له أحد أصدقائنا من علماء الحديث في باكستان: محمد يوسف البنوري الذي توفي حديثا، رحمه الله وجزاه عن مذهبه وعن المسلمين خيرا.
وقبله الإمام الطحاوي، فقد جاء إلى كتابه شرح معاني الآثار، وإلى غيره، فخرج واستنبط وشرح وفسر من فقه الأحناف ما استدل به الإمام في عشرات الآلاف من الأحاديث.
ومما أكرمت به منذ ثماني عشرة سنة وأنا في جامعة دمشق أن خرجت أحاديث الأحناف في كتاب التحفة السمرقندية: تحفة الفقهاء للسمرقندي، فطبعت في أربعة مجلدات، طبعتها جامعة دمشق، وعلى ذلك فالأئمة الأربعة يحفظون كتاب الله عن ظهر قلب، ويحفظون السنة النبوية، وكان كذلك السلف الصالح منذ عصر الصحابة والتابعين.
فـ أبو هريرة راوية الصحابة كان يحفظ سبعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثا، وهو أروى الصحابة على الإطلاق.
لا تجد كتاباً في السنة من الصحاح إلى السنن إلى المعاجم إلى المصنفات إلا وتروي عن أبي هريرة.
واعترف له الكبار من الصحابة بأنه لزم رسول الله، وجالس رسول الله، وتعلم من رسول الله، وما اشتغل بتجارة ولا زراعة، فكان ليله ونهاره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب كل ما سمع، بل ويحفظه عن ظهر قلب، وكانت الكتابة طارئة.
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يحفظ عن رسول الله كذلك كل ما يسمعه، فكتب ما سماه الصادق، وهو أول كتاب دون في الإسلام، في حياة النبي عليه الصلاة السلام.
وكان مشتملاً على ألفي حديث، ولا نجد كتاباً بهذا الاسم، ولكنها أحاديث وزعت ورويت في الصحيحين: البخاري ومسلم، وبقية الكتب الستة، وجميع أمهات السنة، لم يضع منها حديث واحد.
بل أكثر من هذا أن أدباء العرب ورواة العرب يحفظون من الشعر، ومن اللغة ما يتجاوز عشرات الآلاف من القصائد والمقطعات، والأراجيز والأبيات.
جاء مرة بدوي إلى عبد الملك بن مروان، فدخل عليه، فوجده في هيئة زريئة كالأعراب خاصة إذا كانوا مدقعين فقراء، فقال: من أنت؟ قال أنا راوية العرب، قال: أنت راوية العرب؟ قال: نعم أنا روايتهم، قال: ما تحفظ؟ قال: ما الذي تريد، أشعر قريش أم شعر العرب؟ وإذا به يأمر بأن يحضر الأصمعي، وأن يحضر رواة العرب الكبار، وبأن يسمعوا منه.
فقال له: أريد أراجيز بني تميم خاصة، وهم أهل نجد آنذاك، فأخذوا يحصون عليه وإذا به يروي من حفظه، فهماً وإدراكاً وشرحاً للمفردات اللغوية، وللتعابير اللغوية، ويعلم اسم شاعر كل قصيدة، وما هي حياته، وفي أي عصر كان، وكيف كان، ومتى مات، وفي أي بلدة مات، إلى أن سمعوا منه عشرات المئات بل الآلاف من أراجيز العرب وحدها.
هذه صفة أكرم الله بها العرب، ثم أكرم بها المسلمين كافة ممن درس العربية، ودرس الإسلام جيدا، قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49].
أي: هو آيات واضحات بينات في صدورهم يحفظونها، ويحفظون أحكامها، ويحفظون ألفاظها، ويحفظونها لمن يأتي بعدهم، وهكذا حفظ القرآن في الصدور جيلاً بعد جيل إلى عصرنا.
يحكون عن يهودي أراد أن يختبر صحة سماع الأجيال التوراة والإنجيل والقرآن، فجاء إلى عالم يهودي فأخبره، وحضر معه جماعة من أمثالة، قال: اقرأ علي من التوراة، فقرأ من التوراة نفسها، وأخذ يتلكأ ويزيد وينقص، والحاضرون لا يرد عليه منهم أحد، مما يدل على أنهم لم يحفظوا شيئاً من التوراة.
ثم اتصل بعالم نصراني، ومعه جماعة مثله، فقال: اقرأ علي من الإنجيل، فأخذ يقرأ متلكئاً والحاضرون لا يزيدون على قوله ولا ينقصون، مما يدل على أنهم لم يحفظوا شيئاً، ثم جاء إلى مسلم عامي بين مجموعة من الناس، فقال: اقرأ علي من المصحف، قال: لا حاجة للمصحف، فمصحفي صدري، وأخذ يقرأ وإذا أخطأ في كلمة إذا بالحاضرين جميعاً يردون عليه، وإذا باليهودي يقول: أشهد أن الإسلام حق، وأن القرآن حق، وأنه لم يستطع أحد على مر القرون أن يغير في القرآن كلمة واحدة، أما التوراة والإنجيل فقد غيرت في العصور الأولى في العصر الثالث بعد موسى وعيسى، حتى غيرت وبدلت في أصولها وجوهرها، بدلت من التوحيد إلى الشرك، من الأخلاق الفاضلة إلى الأخلاق الزائفة، من احترام الأنبياء وتقديرهم إلى شتمهم وسبهم.
فالتوراة والإنجيل قد غيرتا وبدلتا في الجوهر وفي الكم والكيف.
أما القرآن الكريم فنحن الآن في أواخر القرن الرابع عشر، وما زال يقرأ في التراويح في كل بقاع الأرض.
باللفظ الواحد وبالحركة وبالمدة، وكما كان يقرؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، وفي مسجده، وبما كان يتلوه ويقرؤه بعده خلفاؤه الراشدون، وأصحابه الأكرمون، والتابعون فمن جاء بعدهم إلى عصرنا.
تلك معجزة المعجزات الخالدة التالدة في الإسلام، وكل معجزة سواها فهي خاصة بزمن نزولها، وقد ماتت مع أصحابها، ولم تبق إلا كسيرة نبوية.
وأما المعجزة التي رأوها، ورأيناها، ويراها أسباطنا وأولادنا بعدنا وإلى يوم القيامة فهي القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49].
فهؤلاء لا يحتاجون إلى كتابة.
والكتابة ليست إلا لمن لا يحفظ، والقرآن محفوظ في الصدور، وحفظه في السطور وفي التفسير، وفي البيان، ولذلك حفظ القرآن لفظاً وبيانا لغة وحركات ووقفات، ولم يلغ منه شيء، ولم ينقص منه شيء، ولم يزد عليه شيء، ومن حاول أن يقرأ ما لا يقرأه الناس قام الناس في وجهه معترضين عليه سواء كانوا صغاراً أو كباراً؛ لأنه لا يمكن للقرآن أن يخطأ فيه أو أن يغير، وجل من لا يسهو، وليست كذلك الكتب الأخرى.
{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49].
أي في صدور العلماء.
والله هنا استشهد بالعلماء، ومن أجل ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (العلماء ورثة الأنبياء).
النبي عليه(168/3)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه)
بعد أن علم المشركون ما علموا، وأدركوا ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أخذوا ينتقدون، قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت:50].
أخذوا يقولون: إن كان محمد رسولاً فأين معجزاته؟ أين العصا التي أوتيها موسى؟ وأين الناقة التي أوتيها صالح؟ أين الناقة التي تشبهها؟ وهكذا أخذوا يزيفون ويقلبون الحقائق، ويقولون ما لا أصل له مما أوحى إليهم به شياطينهم.
قال الله له: يا محمد! {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [العنكبوت:50].
أي: لست أنا الذي آتي بالآيات، فالآيات والمعجزات والمكرمات الواضحات، والتي تعجز الخلق والبشر هي من الله، {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت:50].
لست إلا نذيراً لكم ولأمثالكم ممن كفر بالله، وجحد دين الله، وأبى إلا الكفر، أنذركم يوم القيامة، وأنذركم عذاب الله الخالد الدائم.(168/4)
تفسير قوله تعالى: (أولم يكفهم أنا أنزلنا إليك الكتاب يتلى عليهم)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51].
قال الله: قل لهم يا محمد: أولم يكفهم؟ وهذا استفهام إنكاري توبيخي تقريعي، بمعنى: ألم يكتفوا بنزول القرآن الكريم الذي أنزلناه عليك، يتلى عليهم؟ يسمعون كلامه، ويسمعون وحيه، ويسمعون حلاله وحرامه، ويقرأ عليهم صباحاً وعشياً، ويدعون به إلى الله.
هذا القرآن المعجز الخالد الذي لم يستطع الجن والإنس -وقد تحداهم الله- أن يأتوا بمثله، أو بسورة من مثله، أو بعشر آيات من مثله، فلم يستطيعوا.
هذا القرآن الذي جاء به محمد النبي الأمي، الذي لا يقرأ ولا يكتب فيه علم من قبلكم ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم، ما تركه من جبار إلا وقصمه الله، من أين أتاه هذا العلم، وأنتم تعلمون أنه لم يقرأ، ولم يكتب، وعاش أربعين عاما ولا يعرف إلا ما يعرفه قومه، وقومه كذلك أميون؟ يقول النبي عليه الصلاة السلام عن العرب: (إنا أمة أمية، لا نقرأ ولا نكتب).
هؤلاء الذين في مكة جميعهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون، ومن تعلم منهم بعد أن خرج للخارج لن يكتب إلا سطراً أو سطرين، وأشبه بكتابة الأمي.
ومرة قالوا: هناك قين رومي كان يجلس إليه، ويستكتب ما يقوله، ولكن هذا الرجل لا يكاد يبين، فليس بعربي، ولا يفهم القول، وهو جاهل، وبعيد عن المعرفة، ولا ينطق بالعربية.
فهذا الكتاب الكريم كيف أتى به؟ وهنا قال النبي عليه الصلاة السلام -فيما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم في صحيحيهما-: (ما من نبي من الأنبياء إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر -أي: من المعجزات- وإنما كان الذي أوتيته وحياً، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة).
وهذا القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو المعجزة الشاهدة في كل عصر وأوان على أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أتى بالمعجزات الكثيرات، خاطبه الدواب وفهم عن الدواب، وسجدت له الدواب، واشتكى له الجمل، واشتكى له الذئب، بل إن المنبر الذي كان يخطب عليه في المدينة المنورة عندما حاولوا أن يزيلوه ويأتوا بغيره حن حنين الناقة التي يفصل عنها فصيلها حتى سمع حنينه كل من في المسجد.
النبي عليه الصلاة السلام حضر مغازي وحروبا، فلم يجدوا أكلا، ولم يجدوا شراباً فدعا بما عندهم، فأتوا بكسر قليلة، والجيش فيه المئات، فوضع يده وقال: باسم الله، فأكل جميع الحاضرين، وبقي الكثير من الخير.
ولم يجدوا الماء، وكادون يموتوا عطشاً، فوضع يده وسمى الله، وإذا بالماء يفور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، كما تفور العيون من الأرض، فشرب الجميع.
النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري، وهو متواتر عن أكثر من عشرة من الصحابة- (صلى الصبح ثم صعد المنبر، فبقي يخطب إلى أذان الظهر، فنزل فصلى الظهر، ثم عاد إلى المنبر، فبقي يخطب إلى أذان العصر، فنزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر، فبقي يخطب إلى أذان المغرب، فنزل وصلى المغرب واكتفى)، قال عمر بن الخطاب، وأبو هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن معاذ، وحذيفة بن اليمان، قالوا: لقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان ويكون إلى قيام الساعة، ومنذ بدأ الخلق، إلى نهاية الدنيا، إلى حساب الناس، إلى أن دخل من دخل الجنة، ودخل من دخل النار.
لقد حدثنا بما يكون بعده، وما من قائد فتنة ومعه رجل أو رجلين أو أكثر إلا وحدثنا باسمه، وبنسبه، ومتى كان.
كان ذلك من رسول الله وحياً وإخباراً من الله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27].
وتكررت مثل هذه الخطبة، وحدث بالفتن الحادثة بعده، من قتل عثمان إلى استشهاد علي إلى الفتن التي كانت أيام الصحابة، إلى استشهاد آل البيت، إلى ما صدر عن بني أمية، إلى ما حدث بعد ذلك في بني العباس، إلى أن أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة على قصعتها، قيل: يا رسول الله، أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت).
قال هذا والمسلمون في إقبال، ولم يمض على قوله بضع سنوات إلا وأصبح الإسلام يحكم العالم، من أقصى الصين إلى أقصى ديار الغرب، وما بينهما.
فكان هذا عندما يذكر لا يكاد يخطر ببال، كيف سيصل بنا الحال إلى ما نحن فيه، تداعت علينا الأمم من كل جانب، حتى اليهود وهم أذل الخلق وعبدة الطاغوت، لماذا؟
الجواب
لبعدنا عن الله، ولكراهيتنا للموت، ولعدم حربنا وقتالنا لأعدائنا، ولخروجنا عن أمر الله وطاعته، فهي عقوبة لا نخرج عنها إلا إذا تبنا إلى الله وعدنا إليه.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51].
أي: ألم يكفهم من هذه المعجزات هذا الكتاب الكريم، وهذا القرآن العظيم، وهم أفصح الناس، وأبلغ الناس، وأشعر الناس، وأخطب الناس، وهم أدرى الناس بالبلاغة، وأدرى الناس بالفصاحة؛ من أين لمحمد هذا؟ لقد عاش بينهم أربعين عاما، فلم يكن خطيباً، ولم يكن شاعراً، ولم يعلم الشعر حتى بعد ذلك: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69].
فإذا به فجأة ينزل عليه الوحي، ويأتيه جبريل إلى غار حراء، وينزل عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1].
ثم يتتابع الوحي، ويظهر النور، والعلم، والمعارف في كل حركاته وسكناته من فعله وقوله وإقراره.
وكانوا يحاولون سماع القرآن، ولا يريدون أن يسمعوه من النبي وهو يراهم، فكانوا يذهبون إلى داره وهو يتهجد به ليلاً، ويرفع به صوته كما هي صلاة التهجد ليلاً، فيتجمعون وينصتون، إلى أن افتضحوا.
فكان يأتي أبو سفيان، وأمية بن خلف، وأبو جهل وآخرون، وإذا بهم يلتقون صدفة واتفاقاً، ويعرف كل منهم أن الآخر يأتي لسماع القرآن، فأخذوا يقولون: والله لقد قرأنا الشعر، وما هو به، وقرأنا أراجيز العرب وما هو بها، وقرأنا خطب الخطباء، وما هو بها، والله إن عليه لحلاوة، وإن له لطلاوة، ولو سمعته الجن لآمنت به.
وهذا الذي حدث.
فقالوا للوليد: إذاً ماذا ترى؟ قال: أقول: هذا سحر، وهكذا الضلال والغواية، وهكذا إذا لعن الله قوماً طرد النور من قلوبهم بعد معرفته، ولذلك عبر الله بالجحود: {َمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت:47]، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49].
ولقد قال بعد ذلك عليه الصلاة السلام (إن من البيان لسحراً).
أي: من البيان وشدة الإيضاح ما يسحر عقول الناس، فلا يميزون بين حق وباطل، ولا بين نور وظلمة.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51].
أي: في القرآن الكريم، وفي هذا الوحي الكريم، لمن آمن به، فيخرجه من الظلمات إلى النور، ومن الباطل إلى الحق، ومن الوثنية إلى التوحيد.
قوله: ((وَذِكْرَى)) أي: تذكيراً لما فيه من وعيد وتهديد.
((لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) يذكرهم بأنهم لو لم يؤمنوا، ولو لم يصدقوا أن محمداً رسول الله وخاتم الأنبياء، وأن القرآن الذي أتى به هو من عند الله؛ لعاشوا في الظلمات.
فهو رحمة وذكرى لقوم آمنوا بالحق عندما سمعوه، وشهدوا بالأدلة العقلية الواضحة، وهكذا كان القرآن أكبر المعجزات، وأعظم المعجزات، وأخلد المعجزات.(168/5)
تفسير سورة العنكبوت [52 - 60]
عادة الكفار أن يتعنتوا رسلهم فيطلبون منهم الآيات بقصد التعجيز والتضييق، ولكن الله لا يجيبهم إلى ما يريدون، بل يخبرهم أنهم إنما يستعجلون ما هو آتيهم لا محالة من العذاب، وذلك جزاء كفرهم واضطهادهم للمؤمنين، حتى هاجروا بدينهم وتركوا أرضهم.(169/1)
تفسير قوله تعالى: (قل كفى بالله شهيداً يعلم ما في السموات والأرض)
قال الله جل جلاله:: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت:52].
هؤلاء عندما كذبوا الرسل، وكذبوا كتب الله التي أنزلت عليهم، وطلبوا المعجزات، ولم يكتفوا بمعجزة القرآن الخالدة التالدة، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله: {كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} [العنكبوت:52].
أي: يكفي أن يكون الله شهيداً بيني وبينكم على قولي وقولكم، وعلى حالي وحالكم، فهو يشهد بأني رسوله الحق، وأن ما جئت به كلامه الحق، وأن القرآن موحى به من عنده.
ويشهد إنكم لكذابون، ويشهد إنكم لفجرة جاحدون خارجون عن أمر الله ودينه.
قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [العنكبوت:52].
أي: هو الذي لا تخفى عليه خافية في السماء والأرض، يعلم السر وأخفى، ولو أخفيت كذباً في الرسالة لعلمه، ولجازاني على ذلك، ولكنكم تعلمون كذبكم وكفركم وجحودكم، فانتظروا عقاب الله، فهو شهيد بيني وبينكم.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت:52].
أي: أمثالكم الذين آمنوا بالباطل، وآمنوا بالشيطان، وآمنوا بالكفر والعصيان، وكفروا بالله خالقاً، ومرسلاً لرسوله محمد خاتم الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليه.
فهؤلاء الكافرون بالله، المؤمنون بالباطل: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت:52].
أي: هم الذين خسروا دنياهم، وخسروا آخرتهم، وذهبوا يجرون خلف الباطل، ويعارضون الحق، ويكفرون به، عن غير علم ولا دليل ولا سلطان من الله، ثم هم بعد ذلك يستعجلونك بالعذاب.
هؤلاء على كفرهم وجحودهم يقولون: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32].
هذا قول الكفار الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة، فالكفر ملة واحدة، ولسانه واحد، وجحوده واحد، وملل الكفر واحدة، يقولون ذلك متحدين لرسول الله، فهم لا يؤمنون إلا بالباطل.(169/2)
تفسير قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى)
قال الله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:53].
هؤلاء طلبوا العجلة بنزول العذاب، والسين والتاء في الفعل للطلب، فطلبوا الإسراع بالعذاب، والمعنى: ما سيكون يوم القيامة فليكن الآن في الدنيا.
يقول ربنا: {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} [العنكبوت:53].
أي: لولا أن الله سبق أن وعد نبيه أنه لن يعذب أمته في الدنيا، وسيمهلهم بالعذاب إلى يوم القيامة، علهم يؤمنون، لجاءهم العذاب.
ولولا أن الله ضرب لذلك أجلاً مسمى عنده، وهو موت كل حي، لجاءهم العذاب، ولكن كل حي عند موته يدخل قبره، ويسأله ملائكة القبر: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ ومن ساعتها يبدأ العذاب، ويوم القيامة يجمع بين عذاب النفس والروح، عذاب البدن والجسد: {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} [العنكبوت:53].
فلولا الأجل الذي ضربه الله للأمة المحمدية بأنهم لا يعذبون إلا بعد موتهم، لعجل لهم العذاب، ولجاءهم العذاب، كما جاء الأمم السابقة، فمنهم من أغرق كقوم نوح، ومنهم من أصابته رجفة وصيحة كقوم هود وصالح، ومنهم من جعلت عليهم الأرض عاليها سافلها، كقوم لوط، ومنهم من عذبوا بالخسف وبالرجز من السماء، وبالمسخ قردة وخنازير.
ولولا أن الله قال لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن العذاب يؤجل على أمته لجاءهم العذاب كما طلبوا وكما استعجلوا.
وقال تعالى: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:53].
أي: وسيأتيهم عذاب الله فجأة وهم لا يشعرون، فيفجأهم العذاب من فوقهم، ومن تحت أرجلهم.(169/3)
تفسير قوله تعالى: (يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)
ثم أكد الله ذلك وكرره فقال: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت:54].
هؤلاء الكفرة الصادون عن الله، وعن بيت الله ودين الله، وعن الحق، لم يكفهم كفرهم، بل أبوا إلا الجحود، والتحدي واستعجال العذاب، فلينتظروا فسوف يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت:54].
أي: ستحيط بهم جهنم من كل جانب، من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وسيذوقون العذاب الذي تمنوه يوماً، واستعجلوه يوماً آخر.
وهم قد أبوا إلا الكفر، والجحود، والصد عن الله وعن دين الله.(169/4)
تفسير قوله تعالى: (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم)
ويصف الله كيف أحاطت بهم جهنم فقال: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55].
يوم يغشاهم العذاب، أي: يغمرهم ويغطيهم، ويحيط بهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ} [العنكبوت:55]، وقرئ: (ونقول).
يقول ملائكة العذاب، أو يقول مالك حارس النار مع أعوانه: تذوقوا هذه النار التي أنكرتم، وهذا العذاب الذي استعجلتم، هو جزاء ما كنتم تعملون من كفر، ومن جحود وتحد وصد عن الله، ورسالات الله، ودين الأنبياء الحق، ودين محمد خاتم الأديان.(169/5)
تفسير قوله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة)
قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56].
نحن لم نهتم كثيراً بأسباب نزول الآيات؛ لأن سبب النزول قد مضى وقته، وعوقب من نزل من أجله، وتبقى الآية عامة شاملة لمن عاصر النبوءة، ومن جاء بعدها، وكما تقول قواعد المفسرين: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أمر من أسلم من أهل مكة بالرحلة، وبالهجرة، وبترك دار الكفر ودار المعاصي، حيث يجدون حرية الدين، وحرية العمل به من غير نكير ولا تحجير ولا معارضة: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:56].
فكان المؤمنون في صبر في الأيام الأولى من النبوءة، قد لقوا عنتاً واضطهاد وظلماً من كفار قريش، مما تنهد له الجبال، ولا يكاد جسد يتحمل ذلك، فقد قتلوا من قتلوا، وأجاعوا من أجاعوا، وهجروا من هجروا لمدة من السنوات.
كانوا يأكلون من الأطعمة أشهاها وهم لا يجدون من يبيعهم أو يعطيهم، فعاشوا مدة ثلاث سنوات على أوراق الشجر، بما فيهم صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله، عند ذلك أمرهم الله تعالى بترك مكة.
فكل بلاد يصبح الكفر فيها متغلباً، بحيث لا يباح للمؤمن أن يعبد الله كما يريد، بحيث يعلن ذلك، صلاة وصياماً وزكاة وذكراً لله، وابتعاداً عن الأوثان والأصنام، فلابد من الهجرة منها: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:56].
قوله: (يا عبادي): يا هؤلاء الذين آمنوا بي وآمنوا بالرسالة التي أرسلت بها محمداً وآمنوا بالقرآن الذي أنزلته عليه.
ليس هناك ما يجبركم على المقام بديار الكفر، وديار المعاصي، فاتركوها واهجروها واخرجوا منها، وهو أمر إلهي.
{إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:56].
أي: أرض الله واسعة، وهي لخلق الله، يتبوأ منها المؤمن حيث وجد الحرية في عبادته، والتصرف كما يريد، عبادة لله وطاعة له، سواء في شئونه الدينية، أو شئونه الدنيوية.
فقد أخرج الإمام أحمد في المسند، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيث ما وجدت خيراً فأقم).
يقول النبي عليه الصلاة السلام: الأرض أرض الله خلقها للبشر كلهم، فكل من على وجه الأرض عبد لله، فأقم حيث وجدت خيراً، ووجدت راحتك لدينك ودنياك، فلا تلزم نفسك أرضاً تجد نفسك فيها ذليلاً مستعبداً مضطهداً، لا تستطيع أن تظهر دينك وعبادة ربك، كما أمرك الله تعالى.
فالأرض واسعة، ولله المشارق والمغارب، جبالاً وتهامة، براري وبحاراً، غابات ورمالاً، فحيث ما وجدت نفسك تمتلك حريتك في دينك ودنياك فاهجر البلد الذي تذل فيه وتضطهد فيه، والذي تمنع فيه من أن تظهر دينك، وحرية تصرفك في دينك ودنياك.
قوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56].
أي: لا تعبدوا غيري، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر، أي: اعبدوا الله وحده، لا تشركوا به غيره، لا إنساً ولا ملكاً ولا جناً، لا حيواناً ولا جماداً، ولكن اعبدوا الله وحده، خالقكم ورازقكم، ومحييكم ومميتكم، فإذا اضطررتم في أرض لتغير الدين الحق فاهجروها واتركوا قومها، واذهبوا حيث وجدتم من أرض الله الواسعة حرية التصرف، وإعلان الدين كما أمركم الله به.
فلم يلزم الله أحداً بأرض دون غيرها، وكل من على وجه الأرض هم من أصول مختلفة حتى وإن لم تقلها ألسنتهم أو الأوراق التي يحملونها فسوف تقولها ألوانهم، وتقولها جباههم، وتقولها حركتهم وحواسهم: إن هذا من كذا، وهذا من كذا هذا من المشرق، وهذا من المغرب، والأرض أرض الله، والعباد عباد الله، فلم يلزم أحد بالمقام في أرض دون غيرها خاصة إذا كانت هذه الأرض تضطهدك في دينك ودنياك، وتمنعك من التصرف بما تراه مصلحة لك، وبما تعلن به الدين الذي أمرك الله به صلاة وصياماً وزكاة وما إلى ذلك.(169/6)
تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت)
فعندما أمروا بالهجرة، وبأن يتركوا مكة لغيرها، أخذوا يقولون: كيف نترك أوطاننا، وأرزاقنا، وعيالنا إلى بلاد غريبة عنا، قد نهلك ونموت؟ فكان جواب الله لهم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57].
الموت الذي تخافون منه هو ملاقيكم، وسيموت من هاجر ومن لم يهاجر، وليس الموت بالهجرة أو بعدمها، وليس الموت بغنى ولا بفقر، وليس الموت بسلطان أو بغير سلطان، إنما الموت بالآجال: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] فانتظروا الموت حيث كنتم: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
والموت لاقيكم لا محالة، خوطب بذلك الأنبياء قبل غيرهم، وخوطب به خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام فقيل له: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
فلن يدوم أحد: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:57].
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
إنما الحياة الدائمة والباقية هي الحياة الآخرة، فهي التي لا موت فيها، فمن دخل النار فهو خالد فيها أبدا، ومن دخل الجنة فهو خالد فيها أبداً.
فأما الدنيا فللموت وجدت، وللفناء كانت، وهي برزخ للآخرة، فمن عمل خيراً فليحمد الله، ومن عمل غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57].
ثم بعد الموت سيرجع الكل إلى الله جل جلاله، للعرض عليه، فيحاسب كل على عمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.(169/7)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:58].
فالعاملون هم الذين صبروا، وعلى ربهم يتوكلون، وفي الآية الماضية حكى الله تعالى عن الكافرين أن مأواهم النار خالدين فيها، تغشاهم النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وتحيط بهم من جميع جهاتهم، وتقول لهم ملائكة العذاب: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55] أي: ذوقوا نتيجة عملكم وكفركم فقد جاءكم الأنبياء، وجاءتكم كتب الله، وجاءكم خلفاء الأنبياء من الدعاة والعلماء يأمرونكم بطاعة الله ورسوله، والعمل لمثل هذا اليوم، فابتعدتم وصددتم عن الله، أما وقد كان ما كان، فانتظروا ما يكون.
وفي هذه الآية ذكر الله حالة المؤمنين وسنة الله في كتابه أن يجمع دوماً بين الكلام على المؤمنين ثم الكافرين، وبين الرحمة والعذاب؛ ليعيش الإنسان بين الرغبة والرهبة، وبين الخوف والطمع، وبين أن يرهب ويرجو ويتمنى.
وعبادة الله هكذا بين الخوف والرجاء، فيخاف المؤمن عذاب الله، ويرجو رحمته، يرى صفة الكافرين فيبتعد عنها، وصفة المؤمنين فيسعى إليها.
فقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [العنكبوت:58] أي: الذين آمنوا بالله عقيدة وقلباً ولساناً، ثم بعد الإيمان جاء منهم عمل الصالحات.
فلابد في الإيمان من قول وعمل، القول باللسان مع مطابقة الجنان، والعمل بالطاعات صلاة وصياماً وغيرها من الأركان الخمسة، كما يقول نبينا عليه الصلاة والسلام (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).
فعليك ترك المنكرات بكل أشكالها، وأنواعها، ظاهرها، وباطنها، وفعل الخيرات ما بلغته طاقتك وقدرتك فالصيام مثلاً إن استطعت صحة وبدنا ومقاماً فصم، وإن منعك مانع كالمرض، أو كنت في سفر، أو حاضت المرأة أو نفست، أو كانت حاملاً متماً تعجز عن متابعة الصيام، فتلك رخص أذن الله فيها بالفطر، على أن تعوض الأيام بعد ذلك عند الحضور من السفر، وعند الصحة من المرض، وعند انقطاع دم الحيض والنفاس، وهكذا كل الأوامر، جعل الله أقصاها كما أمر، وأدناها حسب استطاعتك.
أمرنا بالصلاة قياماً، وبالوضوء بالماء، فإن عجز المسلم عن الماء فليتيمم بالصعيد الطاهر، فإن عجز عن القيام فليصل جالساً، فإن لم يستطع فعلى جنب، فكل ذلك صلاة صحيحة، لأن المسلم أمر بأن يقوم بها حسب قدرته وطاقته، ولا يكلف الله نفس إلا وسعها.
قوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [العنكبوت:58].
فيه معنى القسم، يقسم الله للمؤمنين العاملين بالصالحات ليسكننهم في الغرف العالية من الجنان.
فوعد المؤمنين العاملين للصالحات المهتدين بهدي الأنبياء، القائمين بما أمروا به، والتاركين ما نهوا عنه؛ ليسكننهم وليجعلن لهم مساكن وقصوراً في الغرف العليا من الجنة.
وغرف: جمع غرفة، وهو المكان العالي من المنزل، والطبقة العالية في الدار.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [العنكبوت:58] أي: أن المياه متدفقة بين أيدهم وأرجلهم، يعطون جمال المنظر، ويعطون رطوبة الجو ومع الماء يكون كل خير تكون الفواكه والثمرات والخضرة والطير وكل ما إلى ذلك.(169/8)
تفسير قوله تعالى: (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)
قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:58].
ثم بين صفات (العاملين) فقال: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت:59].
أي: صبروا على طاعة الله، وصبروا على الجهاد، ولو ببذل الأنفس والأموال والأولاد، وصبروا على ترك المنكرات بكل أنواعها، وصبروا على العبادة بكل أشكالها، فصلوا والناس نيام في أيام البرد، وصاموا مع الحر وشدة القيظ، وحجوا بيت الله الحرام من أقاصي الدنيا ومشارق الأرض ومغاربها.
وأدوا الزكاة بحسب القيود والشروط المفترضة، من بلوغ الحول، وتمام النصاب.
صبروا على أنواع الطاعات كما صبروا على ترك أنواع المنكرات.
فهذا الذي يصبر هو العامل الذي يسكنه الله ويبوؤه الغرف العالية في الجنان التي تجري الأنهار من تحتها، وهو خالد فيها أبد الأبدين.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت:59].
أي: توكلوا في أعمالهم على الله.
والتوكل أن تقدم على ما أنت مقدم عليه، وليس معناه أن تدع العمل وتتواكل، أو تتردد فتقول: أفعل أو لا أفعل؟ أصنع أو لا أصنع؟ فإن التردد خلق قبيح في الإنسان، ولكن التوكل على الله: أن تعزم على تنفيذ الشيء، ثم دع أمره إلى الله.
فلنتوكل على الله لنجد قوة على العمل، وقوة على الترك، فلا توهينا الشهوات، ولا توهينا النزوات بكل أشكالها وأنوعها.
فهؤلاء العاملون المتوكلون على الله الصابرون في طاعة الله، هم الذين نعم عملهم، ونعم ما يأجرون عليه من الغرف العالية في الجنان التي جعلها الله متبوأ للمؤمنين العاملين.(169/9)
تفسير قوله تعالى: (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم)
قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:60].
لا نزال مع الهجرة وترك أرض الكفر والمعاصي، حتى ولو كان الحكام فيها يزعمون الإسلام، ولكن قد يقال: كيف ندع بلدنا وفيه رزقنا، وفيه مسكننا، وفيه عيالنا، إلى بلد ليس لنا فيه رزق ولا زوجة؟
الجواب
إن كثيراً ممن هاجر هاجر بمفردة، لم تسلم امرأته ولم يسلم أولاده، فذهب وحيداً مهاجراً لا يريد إلا الله والدار الآخرة.
وصل إلى المدينة وإلى الحبشة ليس معه قوت ساعته.
وقال الله لهؤلاء المهاجرين مشجعاً لهم ودافعاً لهم إلى الهجرة: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمُْ} [العنكبوت:60].
كأين: تكثيرية، أي كم من دابة لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ.
فكل البهائم والطيور على كل أشكالها تنتقل في أرض الله، لا تحمل غداءً ولا مؤنة، فتعيش ويدوم عيشها إلى أن يأتي أجلها، لا تحرص على الرزق، ولا تخاف جوعاً ولا عطشاً.
وليس من الخلق من يحمل زاده إلا الإنسان، والنملة والفأرة، فالفأرة تجمع ما تتمون به، والنمل يجمع ما يتمون به لأيام الشتاء، وشدة الزمهرير، أما بقية الدواب والحيوانات فإنها لا تحمل رزقها، ولا تحمل مؤنتها، والله يرزقها.
وكذلك أنتم خرجتم لا مؤنة لكم، ولا مسكن ولا طعام ولا شراب، ولكن الخالق لم يترككم، بل رزقكم وأشبعكم وسقاكم وألبسكم، وهيأ لكم ما تعيشون به مادمتم أحياء.
وهذا كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].
كل ذلك أحصاه اللوح المحفوظ، فأحصى أرزاق الخلق كلهم، جناً وإنساً، طيراً وحيواناً، دواب وحشرات.
وكذلك يقول الله لهؤلاء المهاجرين: اتركوا كل ما عندكم، واذهبوا بأجسامكم، فالذي رزقكم من قبل سيرزقكم من بعد.
وهكذا أمر رسول الله بعد أن نزل أمر الله في الآية: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:56].
أي: يا هؤلاء اتركوا أرض الكفر، وأرض المعاصي ووحدوا الله وحده، لا تعبدوا معه غيره، إن خفتم الموت فالموت لاحق بكل غريب، وكل من هو بين أهله، وإن خفتم الرزق فرزق العباد على الله، كما يرزق الطير والحيوان وهو ضعيف عن حمل رزقه ومؤنته، ومع ذلك تعهد الله له بكل شيء: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].
فأمر رسول الله الأصحاب، فهاجروا إلى الحبشة مرتين، وإذا بهم يجدون الأرض الرحبة، ويجدون الأهل المرحبين، فعاشوا خير عيشة، وأسلم ملك البلاد، فساندهم وأيدهم وحماهم، وأسكنهم أحسن المساكن، ورزقهم أحسن الأرزاق، ثم بعد ذلك هاجروا للمدينة، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وذهبوا إليها، لا يملكون غداءهم ولا عشاءهم، ولم تكد تمض أيام حتى رزقهم الله الرزق الذي لم يخطر ببالهم، ولم يملكوه يوماً في أرضهم، فـ الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وكثيرون غيرهم كانوا لا يعدون الذهب والفضة عداً، ولكنهم يكيلونها بالمكيال، كما تكال الحبوب، وعندما مات الزبير أرادوا أن يصالحوا زوجه والتي سبق أن طلقت، ولم تنته عدتها، فقالت: هي لا تزال على عصمته، فورثوها وكالوا لها الذهب والفضة، بالمكاييل، هذا دون الأرض.
ذهبوا للمدينة، فتاجروا وزرعوا وتنقلوا، فأغناهم الله من فضله، حتى لقد قالوا: لو أنا إذا تاجرنا بالحجارة والرمال لانقلبت ذهباً وفضة، مبالغة في كثرة الغنى الذي أغناهم الله به، وهذا مصداق قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60] أي: كما رزقها الله، سيرزقكم.
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:60].
أي: هو السميع لأقوالكم، العليم بأحوالكم، السميع لما قلتم من خوف الموت، وخوف الحاجة والفقر، العليم بصدق بواطنكم، من سيخرج مؤمناً بالله، مصدقاً بوعد الله، ومن سيخرج لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، والله يعامل الناس على نياتهم، وعلى ما في قلوبهم: (إنما الأعمال بالنيات)، فهو سميع للقول عليم بالعمل، لا تخفى عليه خافية، جل شأنه وعز مقامه!(169/10)
تفسير سورة العنكبوت [61 - 69]
كثير من الكفار يقرون بتوحيد الربوبية وينكرون الألوهية، فهم يقرون بأن الله خالق السماوات والأرض باسط الرزق لمن يشاء من عباده محيي الأرض بعد موتها؛ هو الله، ولذلك يذكرهم الله بذلك ويعلمهم أن ما عنده من الجزاء خير لهم وأبقى.(170/1)
تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض)
قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61].
أي: يا محمد هؤلاء كفرهم من نوع عجيب غريب، فلئن سألت كفار قريش ولئن سألت الكثيرين ممن يدّعون التوحيد، فاليهودي يدعيه، والنصراني يدعيه، والوثني يدعيه في حجارة، وإذا قلت له: من الذي خلق السموات والأرض؟ فسيقول لك: الله.
من خلقها وسخرها للعباد: لمصالحهم، ولأعمالهم، ولمزارعهم، ولحياتهم؟ لأجابوك جميعاً: الله، فكيف يوحدون الربوبية، ويشركون في الألوهية؟ ولا بد من توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، فالرب واحد، وهو الإله الذي لا ثاني له، ولا شريك له في ذات، ولا صفات ولا أفعال.
فكيف تعترفون بأن الله خالق الكون ثم مع ذلك تعبدون غيره، وتعيشون لغيره، وتشركون معه غيره، أهذا عقل العقلاء، وتدبير المدبرين؟!! أين ذهبت عقولكم وفهومكم وأديانكم؟ وقوله: (فأنى يؤفكون) أي: يفترون على الله، ويجعلون معه ثانياً ويشركون به فيفترون الإفك والكذب في خلق الأوثان والأصنام، وخلق الشركاء من دون الله.
يدعون ذلك زوراً وكذباً، وإفكاً وبهتاناً، ولا حقيقة لذلك ولا أصل له ولا وجود.(170/2)
تفسير قوله تعالى: (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له)
قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:62].
وعندما جرى الكلام على الفقر والغنى ظنوا الغنى في بلدهم وليس الأمر كذلك، وطنوا الفقر في بلد الغربة، وليس الأمر كذلك، فليس كل من بقي في أرضه أغنياء، فمنهم الغني، ومنهم المستور، ومنهم الفقير، وقل مثل ذلك عن الذين هاجروا، فمنهم الغني، ومنهم الفقير، ومنهم المعدم البتة.
فالغنى والفقر من الله، والله هو الذي يبسط الرزق، فيغني من شاء من عباده، ويعطيه من الأموال ما شاء كيف شاء، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23].
فأغنى من شاء بغير حساب، وأفقر من شاء بغير حساب، وجعل بعضهم وسطاً بين الغنى والفقر.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:62].
أي: أن الله جل جلاله عليم بعباده، فهو أعلم بمن يصلحه الفقر، ويفسده الغنى، وبمن يصلحه الغنى ويفسده الفقر.
وفي الحديث: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأفسدهم، وإن لله عباداً لا يصلحهم إلا الغنى، ولو أفقرهم لأفسدهم).
وكم من الخلق ممن عشنا معهم وعاشوا معنا كانوا فقراء، وكانوا على غاية من التقى والصلاح، وأداء الصلاة، وأداء القيم والأركان، حتى إذا اغتنوا وأخذوا السلطة والجاه تنكروا لله، ولعبادته، وتركوا الصلاة، وتركوا الصيام، وظلموا الخلق، واعتدوا على البشر، وتكبروا على عباد الله.
فقد كان الفقر أصلح لهم، ولكن الله ابتلاهم واختبرهم هل سيصبرون، وإذا بهم لم يصبروا.
وكم من فقراء عشنا معهم وكانت حياتهم على حال وسط، فإذا بالله الكريم يغنيهم، وأصبح لهم جاه وسلطان، فكثرت صلاتهم، وصيامهم، وصلاحهم، وتصدقوا في السر والعلن، وأصبحوا منفعة لعباد الله، فكان هذا وأمثاله ممن لا يصلحهم إلا الغنى، ولا يعلم هذا إلا الله خالقهم.
أما لم كان فلان غنياً وفلان فقيراً؟ فهذا سؤال غير وارد، ولا يسأله مؤمن، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23]، والبواطن والعواقب والنهايات لا يعلمها إلا الله، والعبرة بالخواتم، فهل سيختم لهذا الغني بخير؟ وهل سيختم لهذا الفقير بخير؟ فقد يفسد الغنى وقد يفسد الفقر؟ ولذلك يقول الله ويجدد القول: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [العنكبوت:62].
فالبعض يبسط له بالرزق، ويعطيه من الأموال ما لا يحصى كما أعطي قارون، وكم من قارون في عصرنا ولكن اسألهم: ماذا فعلتم بمال الله؟ هل أعطيتموه للفقراء؟ هل زكيتم؟ هل أديتم حق الله في مالكم؟ فستسمع
الجواب
لا، وقد يكذبون ويقولون: نعم، فإذا بحثت وجدتهم ضموا مع منع الزكاة ومنع حق الله الكذب على الله.
إن الزكاة لا تقل عن الصلاة، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه، وابن مسعود رضي الله عنه، والجماهير من الصحابة يقولون: من لا يزكي فلا صلاة له، وأول حرب أهلية كانت بين المسلمين كانت على مانعي الزكاة وذلك عندما منعوا الزكاة، فوقف أبو بكر وقفة الأسد الهصور في إصرار وثبات، حتى لقد حاول عمر وبعض الصحابة أن يستدلوا بأدلة غير كاملة على عدم قتالهم، فأرشدهم أبو بكر وأفهمهم، وإذا بهم يفهمون ويرشدون، قال عمر: ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر حتى شرح صدري لما شرح له صدر أبي بكر، وكان إجماعاً على أنه إذا منع قوم الزكاة وحق الفقراء فإنهم يقاتلون على ذلك، فمن قتل فقد قتله سيف الإسلام، ودمه هدر، ومن قتل من يقاتلهم من أجل ذلك فقد احتمل إثماً عظيماً وكبيرة من كبائر الذنوب.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:62].
أي: عليم بكل أحوال خلقه، فيعلم من الذي يصلحه الغنى ومن الذي يفسده، ومن الذي يصلحه الفقر ومن الذي يفسده، ولهذا تجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الأغنياء.
(هلك المكثرون، إلا من قال هكذا وهكذا)، أي: بذل ماله لجميع النواحي.
والله وصف المؤمنين فقال عنهم: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25].
وجعل في جمله صفة المؤمنين الذي لا يتم إيمانهم إلا به، أن في أموالهم حقوقاً لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، فالسائل: من يسأل حقه، وللمحروم من رزقه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن للسائل حقاً ولو جاء على فرس).
وقال: (لو صدق السائل لما أفلح المسئول).
حتى ولو كان عنده ما عنده، فأنت ينبغي لك إن وجدت سائلاً وكان عندك ما تعطيه أن تعطيه من القليل القليل، ومن الكثير الكثير، حسب قدرتك وطاقتك.(170/3)
تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء)
قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:63].
يقول الله لنبيه: اسأل يا محمد هؤلاء الكفار، كما سألتهم من خلق السموات والأرض؟ فأجابوك: الله، وكما سألتهم من سخر الشمس والقمر للخلق؟ فأجابوك: الله؛ سلهم كذلك: هذه الأمطار التي تنزل إلى الأرض، وكانت جدباء غير منبتة، وكانت في حاجة إلى الماء، من الذي أنزل هذا المطر؟ من الذي أحيا هذه الأرض وأغاثها فأنبتت فيها من كل زوج بهيج؟ قوله: {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} [العنكبوت:63].
أي: من بعد أن ماتت، بمعنى مات ما عليها من خضرة وثمرة، فهي لا تنبت، ولكن الله أمطرها، وأغاثها بالمطر، وإذا بها تهتز وتربو، وإذا بالبنات الأخضر ينبت من جديد، وإذا بالشجر يورق، وتشتد خضرته، ويعطي من الثمرات أنواعاً، ومن الفواكه أنواعاً، ومن كل ما يبهج ويحيي الناس والحيوان والطير.
{لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63] وقد أجابوا وقالوا: الله.
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [العنكبوت:63] أي: على أن الله هو خالق الكل، قل الحمد لله على أن اعترف هؤلاء بالحقيقة، رغم كونهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وحدوا الربوبية وكفروا بالألوهية، قالوا: الله رب كل شيء، وخالق كل شيء، ولكن جعلوا مع الله آلهة، ذكروا أصناماً، وأوثاناً، وذكروا أوليا من الملائكة والجن والناس، فافتروا على الله، وكانوا متناقضين، كيف والله هو الخالق وحده فتركتموه، وذهبتم لعبادة غيره، وللتعلق بغيره، وأشركتم معه غيره، مما لا يستطيع خلقاً ولا يستطيع رزقاً، ولا يستطيع حياة ولا موتاً.
قل الحمد لله الذي اضطر هؤلاء الكفرة لأن يعترفوا بالحق ولو كان ذلك اعترافاً جزئياً.
قوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:63].
بل حرف إضراب وهو إضراب عن الماضي، أي مع اعترافهم بتوحيد الربوبية، وبأن الله هو الخالق للسماء، والخالق للأرض، وللشمس والقمر، والمنزل للأمطار، والمحيي للأرض بعد موتها، ثم مع ذلك يشركون معه غيره، والحمد لله على أنهم اعترفوا بأن الخالق الرازق هو الواحد، ولكن أكثرهم لا يعقلون، فهم جميعاً ليس لهم عقول تميز، ولا تدرك، ولا تعي، ولا تفهم.
وهكذا فكل كافر لا عقل له، مهما نسبت له الفلسفة، والعلم والمعرفة، فهي ظواهر من الحياة الدنيا، {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
لا يعرفون حقيقة الحقائق، وهي وحدانية الله، فكيف يوصف هؤلاء بالعقل والعلم والفهم؟ فعلمهم أقل من علم الحيوان؛ لأن الحيوان يدرك ويفهم، ويوحد {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
فكل شيء في الخلق يسبح بحمد الله، بلهجاتهم، وبلغاتهم، وبما يدركون ويفهمون، إلا الكافر من بني الإنس والجن، فتجد الحيوان أشرف منه، وأعقل منه، وأقرب للتوحيد منه.(170/4)
تفسير قوله تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب)
قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].
يقول تعالى: قل إنما هذه الحياة الدنيا لهو ولعب، فالحياة الدنيا هي الحياة الأولى القريبة منا وليست إلا لهواً ولعباً، واللهو الباطل، فنومنا ويقظتنا، وتنقلنا وتكسبنا، كل ذلك لهو إن لم يكن لعبادة الله، وللعمل للآخرة: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
فميزة الدنيا أنها برزخ الآخرة، وهي القنطرة للآخرة، فمن عبد الله فيها، ومن وحد الله فيها، فذاك، ومن لم يوحده فحياته كلها من مبتدئها إلى آخرها لهو ولعب، لهو باطل في التصرف في المنام في اليقظة لعب في المعاملة لعب في المناكحة لعب في الأولاد لعب في التجارة لعب في الزراعة، فما دام لم يعبد الله، ويعمل لما بعد الموت، فحياته كلها لهو ولعب، فالدنيا جميعها لهو وباطل ولعب.
فهذا يخاصم هذا ليكون كبيراً يأمر وينهى ويطاع، وهذا يحرص على أن يأكل مال هذا، ليملك أكثر وأكثر، ومع ذلك كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم (ليس لك من دنياك إلا ما لبست فأبليت، وأكلت فأفنيت) وما سوى ذلك يحاسب عليه ويكون ثقلاً يوم القيامة.
وهذا الغني كم سيأكل؟ وكم سيلبس من الأثواب؟ فطعامه أقل من طعام الفقير، لأنه أسرف على نفسه وأكل بتخمة أيام الشباب، وإذا به يمرض، وإذا بمعدته لا تستطيع الهضم، وإذا به يعيش بالحمية، يعيش بالجوع مضطراً، ولباسه لا يتجاوز لباس الفقراء، إذاً: لمن يجمع؟ يا من تبيت للخراب تبني ويا من تلد فللموت تلد ولكن الباقي الخالد ما قدمته في دنياك وجعلته برزخاً لأخرتك، من تلك الركيعات، وتلك الدريهمات التي تصدقت بها، سواء كانت زكاة واجبة، أو صدقة تطوع، أو نفقة على أولادك، أو السائلين والمحرومين، وما عدا ذلك فستأتي به ثقلاًً يوم القيامة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المكثرون).
وقال النبي عليه الصلاة السلام عن الأغنياء الصالحين: (فيدخلون الجنة زحفاً وسيسبقهم الفقراء بنصف يوم)، {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].
أي يسبقونهم بخمسمائة عام، وهؤلاء الذين عملوا صالحاً سيدخلون الجنة، ومع ذلك سيدخلون زحفاً متأخرين عن الفقراء والمساكين الذين لا مال لهم يسألون عن زكاته، ولا جاه لهم يسألون عن جاههم، ولا سلطان لهم ولا نفوذ، بخمسمائة عام.
ونحن نرى الرجل الغني صاحب السلطان والنفوذ يعيش ثمانين سنة أو أقل أو أكثر ثم يهلك، فإذا بالأموال تقسم بعده لمن لا يرحمه، وإذا بالزوجات يتزوجن غيره، وإذا بالأولاد أخذوا تلك الأموال وصرفوها فيما لا يحل، والذي قذف في القبر يحاسب على ذلك، فهو الذي جمعه لهم، وهو يعلم أنهم سيصرفونه فيما لا يجوز وفيما يجعلهم للشيطان عوناً وقوة.
{وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64].
إن: للتوكيد.
وقوله: (لهي): اللام لام القسم، يقسم الله جل جلاله بأن الحياة الحق، والحياة الدائمة، هي حياة الآخرة، حياة من مات مؤمناً مطيعاً مسلماً، فهي الحياة الدائمة، في نعيم وجنان وحور عين: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].
هؤلاء الكفرة العصاة المشركون بالله، لو كانوا يعلمون حقاً، ولو كانوا يعلمون ديناً، ويميزون بين الحق والباطل، لعلموا أن الدنيا ذاهبة بخيرها وشرها إن كان فيها خير، وأن الحياة الحق، والحياة الدائمة هي حياة الآخرة، هي حياة الجنان، والرحمة والرضا، فلو كانوا يعلمون ذلك لما فعلوا ما فعلوه من معاص وذنوب وآثام.(170/5)
تفسير قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين)
قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].
هؤلاء الذين سئلوا: {مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [العنكبوت:61].
من: {سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [العنكبوت:61] من: {نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} [العنكبوت:63] فأجابوا جميعاً: الله، هؤلاء كذلك إذا كانوا في البحر، فركبوا الفلك، وركبوا البواخر، تأتي الأمواج تتلاعب بهذه المراكب، فإذا بهم يجدون أنفسهم لا يدعون إلا الله، ولا يلتجئون إلا إلى الله، ولا يستغيثون إلا بالله.
قوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65].
أي: أخلصوا الدين لله فلم يدعوا مع الله شريكاً ولا ولياً، ولا صنماً ولا وثناً، وإنما دعوا الله وحده، مخلصين له دينهم وعبادتهم، والدين هنا العبادة والطاعة والدعاء.
{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].
حكوا أن روسيا عندما أرسلت الصواريخ إلى أعلى الفضاء، ووصلوا للقمر، بعثوا شاباً ملحداً منهم شيوعياً، فعندما أصبح بعيداً عن الأرض بآلاف الكيلو مترات، ورأى هذه الأفلاك مرفوعة، ورأى القمر يكاد يمسه بيده، ورأى الأرض ككرة؛ وجد نفسه يناجي الله بغير شعور! وعندما نزل سألوه، فقال: لما رأيت ذلك قلت: من رفع هذه ومن خلقها؟ فأجاب نفسه بنفسه: الله، وإذا بهم يعاقبونه ويسجنونه ويعذبونه، ولو أنه مع إيمانه بالله آمن بمحمد رسول الله لمات شهيداً حين مات.
ونعرف ملاحدة وشيوعيين واشتراكيين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فإذا أصابهم بلاء في بدنهم، أو مالهم، أو مناصبهم، تجدهم فجأة يقولون: يا الله! يا رب! وإذا رفع البلاء إذا بهم يعودون للشرك أقبح مما كانوا، وللشيوعية وللإلحاد أكثر ما كانوا، ولذلك ما يحكيه الله عن أولئك ليسوا إلا أمثلة من هؤلاء، فالكفر ملة واحدة وشكل واحد، ولم يكن كفار مكة أو كفار العرب إلا مثلاً لكفار الدنيا بكل أشكالها وأنواعها، وإلى يوم القيامة.
قال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].
أي: فلما نجاهم وأنقذهم من هول البحر، وأنزلهم للبر، فإذا بهم يعودون للأصنام والأوثان.
يحكي محمد بن إسحاق بن يسار، صاحب السيرة، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، فر منه من فر من كفار قريش، فكان ممن فر عكرمة بن أبي جهل، وبقيت زوجته لم تفر، بل آمنت، فسألت رسول الله العفو له إن جاء مسلماً، فأعطاها ذلك.
وخرج عكرمة ووصل إلى شواطئ الجزيرة، فوجد سفينة مسافرة إلى الحبشة فركبها، فبعد أن أصبحت السفينة في عرض البحر، أخذت تتلاعب بها الأمواج، والكل يصيح، وإذا بربان السفينة وسائقها وقائدها يقول للراكبين: لن ينفع دعاء اليوم إلا دعاء الله وحده، فادعوا الله جمعياً بأن ينقذكم! فإذا بـ عكرمة يقول: إن كان الله هو الذي سينقذنا من البحر، إذاً فهو الذي سينقذنا من البر، علي عهد الله إن أنقذني الله، وأصبحت في البر، أن أضع يدي في يد محمد وأن أومن به وبرسالته وبالكتاب الذي أنزل إليه، فأنجاه الله، ونزل إلى البر مسرعاً ودخل مكة، وفاجأ النبي عليه الصلاة السلام بالسلام عليه، وقال: جئتك مؤمناً مسلماً، يا رسول الله: مرني أمرك، واعف عما مضى، فقبل منه صلى الله عليه وسلم، وكان عكرمة ممن أسلم وحسن أسلامه وشارك في الفتوح أيام أبي بكر وعمر، فشارك في فتوح الشام، وفتوح العراق، وفتوح فارس، وكان البطل الذي لا يجارى، وقتل على يده المئات من أعداء الله الكفار.
ورزق الله المسلمين على يده من الغنائم الملايين، ومن الأرض ما لا يعد ولا يحصى، وذلك ابتداء من خلافة أبي بكر، إلى نهاية أيام عمر رضي الله عنهما وعن المسلمين، وعن الصحابة والفاتحين جميعاً.(170/6)
تفسير قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا)
قال تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:66].
لما رجعوا إلى البر وأنقذوا من هول البحر، عادوا للشرك، فكفروا بما أنزل الله من كتاب ومن نبي ومن رسالة، فتمتعوا بباطل الدنيا وبلهوها.
قد أصبحوا يجرون وراء الباطل، ووراء متع الدنيا، من أكل لأموال الناس بالباطل، ومن غنى وسرقة، وربا، ورشا، ومن كل أنواع الفساد بأشكالها، فقال الله عنهم: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:66].
ينذرهم ويتهددهم، وأنهم ميتون لا محالة، وسيعلمون الحق آنذاك، وسيعلمون ما وعدوا به من عذاب، وقد استعجلوه في دنياهم قبل آخرتهم، فأرجأناهم لما سبق من وعدنا لمحمد صلى الله عليه وسلم ألا نعذب أمته في الدنيا، وأن ذلك يؤجله إلى يوم القيامة.
وهكذا يقول الله لهؤلاء: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:66].(170/7)
تفسير قوله تعالى: (أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67].
قال الله لكفار مكة -وهذا خاص بهم وعام فيمن بعدهم-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67].
أي: ألم ير هؤلاء أنا جعلنا مكة حرماً آمنا، حرمنا فيها الظلم، والسرقة، والقتل، وحرمنا فيها جميع الفواحش مما يقلق الأمن ويزيله، ويتخطف الناس من حولهم قتلاً وأسراً سرقة وطغياناً.
ألم ير هؤلاء -سكان مكة- كيف أن الله جعل بلده بلداً آمناً، وحرماً حرمه على أن يساء فيه! وكان هذا وقت نزول الإسلام.
ويتخطف الناس حول الحرم فيقتلون، ويؤسرن، ويستعبدون، ويمتهنون، وتؤخذ أموالهم.
فأهل مكة آمنون في أرضهم، وجميع جزيرة العرب، بل وجميع الدنيا لا آمان فيها، ولا راحة، ولا استقرار، ولا أمان على بيت، ولا على مال، ولا على عرض، وهم مع ذلك يأبون إلا الكفر والشرك.
{أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67].
أي: أهؤلاء بعد كل هذه النعم التي أنعمنا عليهم، يؤمنون بالشرك، ويؤمنون بالشيطان.
{وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67].
فجحدوا نعمة الله في جعل هذا بلداً آمناً، وجعله حرماً، وهذا كقوله فيما مضى في سورة القصص: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57].
وكقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97].
وكقوله تعالى: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4].
أمنهم من الخوف: من القتل، وأطعمهم من جوع، فكانت لهم رحلتان، في الصيف والشتاء إلى أرض الشام واليمن.(170/8)
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً)
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:68].
يقول جل جلاله: من أعظم جرماً وأكبر ذنباً، ومن أطغى نفساً ممن افترى على الله الكذب، وزعم أن الله أرسله ولم يرسله، كما زعم مسيلمة، وكما زعمت سجاح، وكما زعم الأسود العنسي، فقد كذبوا على الله وافتروا بأن الله أرسلهم وهم كاذبون.
فمن ادعى علماً ولم يكن كذلك، أو معرفة ولم تكن كذلك، يكون جرمه وذنبه من أعظم الذنوب.
قوله: {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} [العنكبوت:68]: وهذا يأتي في الدرجة الثانية في عظم الجرم والذنب.
فهؤلاء الذين كذبوا بالحق، وكذبوا القرآن الكريم، وكذبوا محمداً صلى الله عليه وعلى آله، وكذبوا الرسالة؛ هؤلاء هم الذين افتروا على الله الكذب، وكذبوا الحق لما جاءهم، فمن أعظم كذباً وافتراءً منهم؟
الجواب
لا أحد! فهؤلاء جمعوا دين الكفر والشرك والتحدي لجلال الله ولمقامه.
قوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:68].
هذا استفهام تقريري، أي: بلى في جهنم مأوىً ومقام ومنزل للكافرين، ولهؤلاء الذين كذبوا على الله افتراء، وادعوا ما ليس لهم، وهؤلاء الذين عندما جاء الحق كذبوه ولم يؤمنوا به، وازدادوا حرصاً وعناداً في الكفر، وصداً عن دين الله.(170/9)
تفسير قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
إن الجهاد يكون بالسيف، ويكون بالقلم، ويكون بالعبادة، ويكون بكسب الحلال، ويكون بطلب العلم، فطالب العلم المجد مجاهد، والعالم الناصر للعلم مجاهد، والداعية إلى الله بكل شكل مجاهد، والحامل للسيف في ساحات الوغى والحرب مجاهد، والصابر على الطاعات مجاهد، والتارك للمعاصي بأنواعها مجاهد.
وقد فسر الصحابة والتابعون قول الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، بأن الله يُقسم أن الذين جاهدوا في الله حق جهاده وحق طاقته، بأي نوع من أنواع الجهاد: بالسيف أو بالقلم ليهديهم سبله، أي: يهديهم إلى طرق الحق.
وسبل: جمع سبيل، أي: سبل الله، وهو السبيل الحق في الفهم، والحق في العلم، والنصر في الجهاد، والدعوة إلى الله، وهذه كما قال عمر بن عبد العزيز في تفسيرها: ومن عمل بما علم علمه الله علم ما لم يعلم! وكل من كان في طاعة الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، يدخل تحت هذه الآية، والآية تذكر أن الله سوف يهديه السبل التي جهلها، والتي لم يعلمها، ويعرفه الحق حقّاً ويعينه على اتباعه، ويعرفه بالباطل باطلاً ويعينه على اجتنابه.
قال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
الله جل جلاله مع المحسن بالعون وبالتأييد، وبالنصر، وبالمغفرة، وبالرحمة والرضا.
والنبي عليه الصلاة السلام في حديث عمر عندما سئل عن الإيمان، ثم عن الإسلام، ثم عن الإحسان قال: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).(170/10)
تفسير سورة الروم [1 - 6]
لقد أيد الله سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بالمعجزات الباهرات الدائمات، ومن ذلك ما أخبر به في مطلع سورة الروم من أن الروم أهل الكتاب من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين، وقد تحقق ذلك كما أخبر الله.(171/1)
تفسير قوله تعالى: (الم)
قال الله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1 - 4].
هذه السورة مكية، نزل بها الروح الأمين جبريل على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، وهي مشتملة على ستين آية، وتكاد تكون جميع آيها الأول معجزات، وكأنها أنزلت في عصرنا هذا.
ومعجزاتها: أن الله جل جلاله أخبرنا عما سيكون في عصرنا هذا قبل ألف وأربعمائة عام حتى كأن النبي صلى الله عليه وسلم يرى ذلك رأي العين، فهذا هو الوحي الذي أوحى الله به، فكان الأصل معجزة له، وكان بعد ذلك وإلى عصرنا تظهر معجزاته بأتم وأكمل وأشمل وجه بعد مضي هذه القرون الطوال، قال تعالى: {الم} [الروم:1].
وقد سبق أن تكلمنا في السور الماضية عن هذه الحروف المقطعة التي افتتحت بها السور، وأن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين طالما اختلفوا في تأويلها وبيانها وتفسيرها، وانتصروا غير مرة لما قاله الزمخشري وأيده معاصرون، فالقرآن هذا معجز بلفظه ومعناه، وقد تحدى الله به الخلق إنسهم وجنهم على أن يأتوا بمثله، وعلى أن يأتوا بسورة من مثله، وعلى أن يأتوا بعشر آيات من مثله، فعجزوا أجمعين أبتعين أبصعين، والتحدي لا يزال قائماً إلى يوم الناس هذا، فهذا القرآن المعجز إنما تركب من هذه الحروف الأبجدية العربية، ومع ذلك يقول لهم: يا هؤلاء الذين لم تؤمنوا بعد بالله إن استطعتم أن تأتوا بمثله، فهذه الحروف بين يديكم تسمعون منها ما يقاربه أو يشابهه، فإن استطعتم فافعلوا، ولن تستطيعوا ولو كان بعضكم لبعض ظهيراً.(171/2)
تفسير قوله تعالى: (غلبت الروم)
{الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:1 - 2].
هذا كان خبراً ووحياً عن شيء غائب عن العرب، وذلك بأن الروم حاربت الفرس فغُلبت وذلت، وأُخذت أراضيها وأقاليمها، وقد غلبها الفرس الوثنيون عباد النار.
غلبوا الروم الكتابيين الذين يرجعون لكتاب في الأصل وهو الإنجيل المنزل على عيسى من الله، وأهل الكتاب اسم يشمل اليهود والنصارى، فكلاهما أنزل على نبيه كتاب، فالإنجيل على عيسى، والتوراة على موسى عليهما الصلاة والسلام.
فكانوا قد غلبوا وذلوا وقهرهم عباد النار الوثنيون الفرس، والروم هم في الأصل وثنيون، وفي نهاية القرن الثالث الميلادي دانوا بالنصرانية، ولكن يوم دانوا بها كانت محرفة مبدلة مغيرة، وعقدوا أول مؤتمر لهم ويسمى بالمؤتمر المسكوني، أي: العالمي المنسوب إلى المسكونة، أي: إلى الأرض المسكونة، فاجتمعوا واختلفوا اختلافاً طويلاً عريضاً: ما هو دينهم في عيسى أبشر هو أم إله؟ أو هو ابن إله؟ أمات حقاً وقتله اليهود أم لم يمت؟ وإذا لم يمت فأين هو، وكيف كان حاله؟ ومن هي مريم؟ وكيف ولدته بلا أب؟ وإذا بهم بعد هذا النزاع الطويل العريض يؤمنون بكفر مضاعف، يؤمنون بوثنية مجددة، فاعتقدوا الآلهة ثلاثة، وانفصلوا على ذلك، وهددوا كل من لم يؤمن إيمانهم بالقتل والحرق، فحرقوا كل من لم يؤمن بأن الله ثلاثة، وأن الثلاثة هي: الله وعيسى ومريم حاشا الله وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وأخذوا يعتقدون أن عيسى قتل وصلب كما لعب بهم وهزأ اليهود فاعتقدوا ذلك، ولكن اختلفوا في تفسيره وتأويله تآويل مضحكة وتفاسير تدعو إلى الهزء بهم والسخرية من جديد، فقالوا: عيسى رب، وهو عن طواعية قَبِل أن يصلب، وقَبِل أن يقتل؛ ليفدي قومه وأتباعه من العذاب والآثام، والذنوب والمعاصي، فازداد كفرهم كفراً، ووثنيتهم وثنية.
وهكذا أباحوا الفواحش والمنكرات بأن اصنعوا يا أيها النصارى واليهود ما شئتم فقد تحمل عنكم ربكم عيسى، وحاشا الله من القول هذا، فمهما صنعتم فهو قد تحمل عنكم ذلك، ولكن هؤلاء -وقد اعتقدوا بشعار الصلب والفداء- لم يدينوا دين الحق، ولم يكونوا موحدين، ولم يكونوا من أتباع عيسى الذي هو عبد ابن أمة صديقة، أرسل نبياً ورسولاً إلى الناس، كما أرسل الجد الأعلى آدم بلا أب ولا أم، فأرسل هو بأم بلا أب، وهم قالوا إنهم من أبناء يافث بن نوح، أي: لا نلتقي بهم إلا في نوح، فالعرب والكثير معهم أبناء سام، فنحن أبناء سام بن نوح، وهم زعموا أنهم أبناء يافث بن نوح، والروم هي أرض أوروبا، وما يسكنها من شعوب وملل، وأمريكا لم تكن معروفة في ذلك الزمن ولم تكتشف بعدُ، ولكن الذين رحلوا إليها هم من روميّة وأوروبا وطردوا سكانها الهنود الحمر، وأبعدوهم إلى القفار والصحاري، واستباحوا دماءهم وكادوا يستأصلونهم قتلاً وحرقاً وإبعاداً، فلم تبق منهم إلا شرذمة معدودة يعيشون في هوان واضطهاد منذ أكثر من خمسمائة عام منذ اكتشفت أرض أمريكا، فالروم هم هؤلاء الذين هجروا أوروبا إلى أمريكا.
وإذا قيل الروم عند العرب فالمراد سكان أوروبا جميعاً وإن كان قد تشعبوا فرقاً، ومللاً، ومذاهب وأجناساً ولغات، ولكن هذا الاسم لا يزال جامعاً لهم.(171/3)
تفسير قوله تعالى: (في أدنى الأرض)
{غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:2 - 3] أي: في أقرب الأرض.
أي: في أرض بصرى ودمشق من أرض الشام، وكانت هذه الأراضي للروم منذ قرون قبل فارس، ثم تقاتلوا فغلبت فارس الروم، وأخذت أدنى الأرض إلى أرض العرب وإلى جزيرتهم، وأصبحت أراضي فارسية، هذا الخبر كان وحياً أخبر القرآن به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فسمعته قريش ثم تأكدت منه، فسرها ذلك السرور البالغ؛ لأن الفرس وثنيون وعبدة للنار، فهم على مذهبهم وطريقتهم، فسروا بنصر من يشبههم، وقالوا للمسلمين: هاهم إخواننا الذين يشبهوننا في الدين، والذين لم يؤمنوا بكتاب ولا بنبي ولا ببعث ولا بآخرة قد انتصروا، فذاك دليل على صدق دينهم وصدق طريقتهم، وإخوانكم الذين يشبهونكم وهم أهل كتاب مثلكم يؤمنون بعيسى وبالإنجيل قد غلبوا، فأحزن ذلك المسلمين، وسر قريشاً والكفار من الوثنيين عباد الأصنام.(171/4)
تفسير قوله تعالى: (وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين)
قوله: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:3 - 4].
جعل فرحة كفار قريش لم تتم، فقد أخبر الله نبيه والمؤمنين أن هؤلاء الروم الذين غلبوا الآن سيَغلبون بعدَ بضع سنين.
وكان أبو بكر رضي الله عنه قد جاءه أمية بن خلف وغيره من كفار قريش وقالوا: يا أبا فصيل! يسخرون ويهزءون، والفصيل: ابن الناقة، فهو أبو بكر والبكر هو ابن الناقة وقد اكتمل، فسموه وكنوه بوليد الناقة وهو لا يزال في أيامه الأولى؛ استهزاء.
قالوا: أما ترى هذا الكذب الذي تكذبون، فقد أخبر نبيكم بأن الروم بعد بضع سنين ستغلب الفرس، فقال له أبو بكر: أنت أكذب وأخبث، نعم ستغلب الروم بعد بضع سنين، قال: أتراهنني؟ قال: فعلتُ، قال: كم المدة؟ قال أبو بكر: خمس سنوات، قال: قبلت، وكان ذلك على بضع من الإبل بين العشر والعشرين، وقص أبو بكر قصته على النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: (راهنته؟ قال: نعم.
وكان الرهان إذ ذاك لم يحرم، قال: على كم من الزمن؟ قال: على خمس سنوات، قال: ألا تعرف لغة قومك، فالبضع من واحد إلى تسع، فكيف راهنتهم على خمس، والقرآن الكريم الذي أوحاه الله يقول: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4] اذهب إليه وزده في الرهان وزده في الوقت).
فذهب إليه أبو بكر وقد قال له أمية ما قال فقال: أتريد أن تعيد ونزيد؟ قال: أفعل، قال: أراهنك إلى ثمان سنين، قال: أقبل، قال: وإلى مائة ناقة، قال: أقبل، وإذا به بعد سبع سنوات وقبل تمام الثمان ينتصر الروم على فارس انتصاراً ساحقاً ماحقاً، فحزن كفار الجزيرة وسرّ به المسلمون، لكون المسلمين أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، فاعتُبروا أقرب إليهم من المجوس عباد النار، وحزن كفار الجزيرة لكون الذي انهزم هو أقرب إليهم وإلى دينهم ووثنيتهم، وذاك معنى قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2 - 3] أي: من بعد أن غلبوا وقهروا وانتصر عليهم الفرس.
{فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ} [الروم:4] أي: سيغلبون الفرس بعد بضع سنوات، أي: بعد سنوات معدودات على الأصابع، والبضع -كما قلت- لغة: هي من الواحد إلى التسعة، والرهان كان مرة ثانية إلى ثمان، وتم النصر كما أخبر الله قبل تمام البضع في السنة السابعة، فكانت الهزيمة وقت معاهدة الحديبية هزيمة الفرس ونصر الروم، وكانت هزيمة الروم قبل سبع سنين في غزوة بدر، فاجتمع النصر للمسلمين من الداخل والخارج، فمن الداخل انتصروا على قريش والكفار انتصاراً ساحقاً، فقد كانت معركة بدر المعركة الفاصلة التي ذل فيها الكفر وعز بها الإسلام، ولم يرفع الكفر بعد هذه المعركة رأساً، وما ذل المسلمون بعد معركة بدر، بل من نصر إلى نصر إلى فتح مكة إلى انتشار الإسلام خارج الجزيرة.(171/5)
تفسير قوله تعالى: (لله الأمر من قبل ومن بعد)
{لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4].
الأمر لله من قبل نصر الروم وبعد نصرها، ومن قبل نصر فارس وبعد ذلها، فالأمر كله بيد الله، فبه انتصروا وبأمره ذلوا، والله الكريم المتعال الكل منه وإليه، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
إن العزة لله جميعاً، فما من شيء يحدث في الكون إلا وهو بأمر الله، وبإرادة الله، وإن كان عزاً فقد يكون ابتلاءً واختباراً، وقد يكون مكافأة، وقد يكون ثواباً، وقد يكون رفعة كانتصارات المسلمين في جميع عهودهم وأعصارهم.
وقد يكون النصر ابتلاءً واختباراً كانتصار الكفار على المسلمين، فليس ذلك إلا اختباراً وابتلاءً وفتنة، ليزدادوا إثماً على إثم، وتبقى الحجة البالغة لله، وليمحَّص المسلمون ويعودوا إلى الله في أعمالهم، ويعلموا أن ما حدث لم يكن إلا بإذن الله، ولعلة المخالفة، وعلة المعصية، فكان ذلك أدباً من الله لهم، كي لا يعودوا لمثل ذلك الذنب.
قال تعالى: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ} [الروم:4] حين انتصر الفرس، ومن بعد هزيمتهم وذلهم، ومن قبل هزيمة الروم، ومن بعد نصرهم، فالأمر لله دواماً واستمراراً قبل خلق الخلق وبعد خلق الخلق، وما بين ذلك لم يكن في ملكه إلا ما يريد جل جلاله وعلا مقامه.(171/6)
تفسير قوله تعالى: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله)
قال تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5].
التنوين في (يومئذ) تنوين عوض عن جملة، أي: يوم نصر الروم على الفرس، والإدالة لهم منهم، يوم ذاك يفرح المؤمنون؛ لأنهم قد حزنوا قبل، فهم فرحوا بنصرة أهل الكتاب على الوثنيين، والوثنيون الذين هم خصومهم أشكال أضراب، فأعدائهم من كفار مكة والجزيرة، وبقية المجوس في مختلف أصقاع الأرض، وقد آمن الكثير من كفار الجزيرة عندما أحق الله ذلك، وانتصر الروم بعد الهزيمة.
{فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4].
فاتخذوا من ذلك دليلاً وبرهاناً على صدق الرسالة المحمدية، وصدق القرآن، وأنه كلام الله الحق الذي نزل به الروح الأمين على قلب نبينا صلى الله عليه وعلى آله.
وفسر قوم قوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] أي: قبل النصر وبعده، وقبل الهزيمة وبعدها، فكما ذل الفرس فسيذل الروم، ويوم ذلهم جميعاً يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، أي: سيقهرون ويغلبون الفرس والروم معاً، وقد حدث هذا فعلاً فقد انتصر المسلمون على الروم وعلى الفرس ومحقوهم وأنهوا دولتهم، وكما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم عنهم: (لا كسرى بعد اليوم ولا فارس بعد اليوم)، فانتهت دولة الروم البتة وأصبحت جزءاً من بلاد الإسلام وولاية من ولاياتها، وذهب كسرى إلى جهنم وبئس المصير ولم يجئ بعده كسرى آخر، وكسرى لقب كل ملك فارسي وثني ملك الفرس، وهرقل لقب لملوك الروم، والنجاشي لقب لملوك الحبشة، والمقوقس لقب لملوك مصر، وتبع لقب لملوك اليمن.
فهذا المعنى صحيح ولكن سياق الآية لا يدل عليه، فالآية تتكلم عن الفرس والروم وقتالهم، وكون الفرس انتصروا أولاً على الروم في أدنى الأرض وهي جزيرة العرب، وهي أرض الشام بصرى وأذرعات ودمشق، ثم بعد ذلك أديل للروم من الفرس فانتصروا عليهم خلال بضع سنوات انتصاراً ساحقاً، فأرجعوا هذه الديار كلها، وعندما أخذ النبي عليه الصلاة والسلام يكتب الرسائل إلى ملوك الأرض وأجيالها كتب إلى هرقل وكان في القدس، والقدس كانت من الأراضي التي تغلب فيها الفرس على الروم، ولكن بعد أن أخذ يكتب النبي عليه الصلاة والسلام الرسائل إلى الملوك والأجيال كان الروم قد انتصروا، وكان ذلك بعد غزوة بدر، فكان كتابه إليه وهو في بيت المقدس، فعندما جاءه رسول رسول الله عليه الصلاة والسلام نادى هرقل: هل هنا من هو قريب إلى هذا الذي يزعم أنه نبي من أرض مكة، فأجاب أبو سفيان وكان قرشياً وأقرب العرب هناك نسباً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فجاء به وأخذ يسأله عن وصف النبي وأصحابه خلفه وقال لهم: إني سائله فإن كذب فحركوا لي رءوسكم أعلم إذا خفتم منه ولن يراكم، وما دام قد قال الصدق فاثبتوا ولا تتحركوا، فسأله أسئلة فيها: هل كان في أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من ملك؟ هل ادعى هذه الدعوة أحد من أجداد النبي؟ وهل اتبعه الفقراء أو الأغنياء؟ وهل يغدر إذا قاتل؟ وهل كان يكذب وهو صغير؟ وهل كان يعرف بغير الحق مدة حياته بينكم قبل النبوءة؟ والعرب حتى في جاهليتها كانت أشرف من كثير من مسلمي هذا العصر عرباً وعجماً، فكان الجاهلي يستحي أن يكذب، ويجد ذلك مخلاً بمروءته، ومخلاً بشرفه، فمع العداوة والجاهلية التي كان عليها أبو سفيان استحيا أن يكذب، وقال: لم أجد مدخلاً إلى تنقيصه إلا عندما قال لي: أيغدر؟ قلت: بيننا وبينه الآن عهد ولا ندري ما هو فاعل بعدها، يعني: يعرض أنه قد يغدر، وهذه علامة ليس فيها شتيمة، فهو لا يدري الغيب، ولا يدري المستقبل إلا الله، وهكذا عندما أخذ النبي يكتب الرسائل بالدعوة إلى الإسلام كان ملك الروم قد انتصر على كسرى واسترجع دمشق وأذرعات وبصرى والقدس.
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5].
ونصر الله يؤتيه من يشاء.
فيعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزعه عمن يشاء، وفي كل ذلك سواء كان ذلك لمؤمن أو كافر فهو ابتلاء واختبار؛ ليرى -وهو راءٍ وعالم- هل هذا الذي ابتلي بالملك وبالجاه، وبالسلطان، وهل هذه الأمة التي انتصرت وعزت وسادت هل ستحمد الله على ذلك، وهل ستتخذ ذلك نعمة فتكثر الشكر، وتكثر عمل الصالحات؛ ليديم الله نعمه على من أكرمه بذلك، وهكذا ربنا يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
والعذاب الشديد هو سلب النعمة وزوالها، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء.
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:4 - 5].
فالنصر له والعزة له، والأمر له من قبل ومن بعد، فقد نصر المجوس على الكتابيين ابتلاءً للكتابيين لما غيروا وبدلوا لعلهم يتوبون، ونصر المجوس على أهل الكتاب لتزداد النقمة عليهم، ولتبقى الحجة البالغة عليهم على كثرة ما أعطاهم من نعم وعطايا، فما زادهم ذلك إلا كفراً بالله وإصراراً على الجحود.
{يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:5].
فهو العزيز الذي لا يغالب، هو العزيز الذي لا يحارب، فله العز انفرد به، وله الكبرياء، ومن يتألى على الله يكذبه، وهو الرحيم بعباده، فهو يرحم المؤمن من الذل ومن الهزيمة ومن الضعف ومن البلاء عندما يتوب ويئوب إلى الله ويقول: رب اغفر لي خطيئتي.
وهكذا الله جل جلاله يختم آياته في كتابه الكريم بكلمات تكون جوامع لمعنى الآية صغيرة كانت أو كبيرة، مختصرة كانت أو مطولة، وهذا من ذاك.(171/7)
تفسير قوله تعالى: (وعد الله لا يخلف الله وعده)
قال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6].
هذا وعد من الله لنبيه وللمؤمنين بعد أن أخبرهم بنصر الفرس على الروم فقال: {غُلِبَتِ الرُّومُ * وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2 - 4].
ووعد الله هنا منصوب على المفعولية المطلقة، أي: وعد الله وعداً، فهو مفعول مطلق لفعل محذوف وهو وعد، أي: وعد وعداً حقاً لا تأخير فيه ولا تراجع.
فقوله: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم:6].
زاد الله كلامه بياناً، فقد وعد بنصر الروم وقد انتصروا بعد بضع سنين.
{وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6] أي: أكثر الكفار، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
فهؤلاء لا يعلمون لله قدرة ولا إرادة ولا وحدانية، وهؤلاء لا يعلمون لله وعداً ولا وفاءً بوعد، وهؤلاء الضالون المضلون -وهم أكثر الناس- لا يعلمون توحيداً، ولا يعلمون إلهاً، ولا يعلمون وعداً بحق، ولا يصدقون نبياً، ولا كتاباً سماوياً، فهم في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج الرجل يده لم يكد يراها، فقد أصبح القلب مظلماً لا يستنير بنور دين، ولا بنور نبي، ولا بنور كتاب سماوي، بل لا يزدادون عند الأنوار إلا عمىً؛ فتعمي الأنوار أبصارهم، ويصعد الران على قلوبهم، فلا يعلمون عن الحق شيئاً.(171/8)
تفسير سورة الروم [7 - 8]
إن الكافر الفاسق ليهتم بأمور دنياه ويغفل عن آخرته، وقد وصف الله الكفار بأنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، وهذا تراه متحققاً في كفار اليوم وكأن القرآن نزل ليحدثنا عنهم، فهم متقدمون في علوم الدنيا وتكنولوجيا المعلومات والصناعات؛ لكنهم غافلون عن الآخرة، وقد دعاهم الله تعالى أن يتفكروا في أنفسهم وفي المخلوقات العلوية والسفلية لعلهم يؤمنون.(172/1)
تفسير قوله تعالى: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا)
قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] الكلام هنا على أكثر الناس وهم الكفار، على الروم المتحدث عنهم في أول السورة المسماة باسمهم، قال تعالى عنهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
وهذه الآية من أكبر معجزات القرآن في عصرنا لمن عاش عصرنا، ولمن رأى رؤيتنا، ولمن رأى هذه المخترعات الطويلة العريضة في مختلف أقطار الأرض عند الروم، فغرتهم، وذهبت بفهمهم وإدراكهم، فأضاعت دينهم أو كادت، وزلزلت عقيدتهم أو كادت، والكثيرون خرجوا من دين الله أفواجاً كما دخلوا فيه في عصر النبوة أفواجاً؛ اغتراراً وضلالاً بذلك، وذهاباً بعقولهم إليهم وهم لا يعلمون.
قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6] يعدل: ولكن الكافرين لا يعلمون، فعاد بالضمير لأكثر الناس فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7].
وكيف نسب لهم العلم ثانياً وقد نفاه عنهم أولاً فقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:6 - 7].
هنا نكتة وحكمة انتبه لها الزمخشري ونقلها عنه المفسرون بعده قاطبة، فقال: كيف نسب لهم العلم أخيراً ونفاه عنهم أولاً؟ قال: هو علم أقرب للجهل، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7].
و (ظاهراً) نكرة مطلقة، أي: شيئاً حقيراً وشيئاً قليلاً من هذه الدنيا، ولا يعلمون باطنها، ولا يحرصون على معرفة باطنها، فحتى الحياة الدنيا جهلوها فضلاً عما يجب أن يعلموه، ويدينوا به، ويقوموا على أساسه، وبه كانوا بشراً ذوي عقول، وذوي رسالات، وذوي كتب سماوية.
{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] أي: يعلمون الظواهر من الدنيا، فيعلمون كيف يزرعون، وكيف يحرثون، وكيف يتجرون، وكيف يصنعون الباخرة، وكيف يصنعون الطائرة، وكيف يصنعون سلماً، وكيف يتفننون في الأبنية فما هو مكون من طابق واثنين إلى سبعين وثمانين طابقاً، ولا يعلمون أكثر من ذلك.
فهم يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ولكنهم يجهلون باطنها، فلم يكلفوا أنفسهم أن يسألوا أنفسهم: من أنا؟ وكيف خرجت لهذا العالم؟ ولماذا جئت؟ وإلى أين المعاد؟ وما الحياة وما الممات؟ ومن الذي خلق هذه السموات؟ وسينبه الله عن هذا في الآية الثانية، وسنشرحه هناك.
فالدنيا نفسها لا يعلمون إلا جزءاً من ظاهرها وليس جميع الظواهر، فلا يعلمون بواطن الدنيا، ولا يعلمون كيف صعدوا بالطائرات إلى الأجواء، ولا كيف مخروا البحار بالبواخر؟ وكيف قامت هذه الأبنية ذات السبعين والثمانين والمائة طبقة في أجواء الفضاء؟ وكيف عاشوا هم في هذه الدنيا؟ وهل الطعام والشراب يعطي روحاً؟ وما هو العقل؟ وما هي هذه الجوهرة التي بها يكون التدبير، ويكون الوعي، ويكون التذكير، ومن إذا فقدها لا يستطيع شراءها ولو بملء الأرض ذهباً؟ فتلك عطية الله إذا أخذها لا يستطيع أحد أن يأتي بها أو بمثلها، كل ذلك عن الروح، وقل ذلك عن العقل، وقل ذلك عن النفس، وقل ذلك عن البصر، وقل ذلك عن الكلام.
والأطباء كل ما يفعلونه أنهم إذا وجدوا في العين عروقا تالفة فإنهم يربطونها كما يربط الكهربائي الأسلاك إذا انقطعت وذهب الضوء، وأما إذا ذهبت الأسلاك وليست عنده أسلاك فلا سبيل إلى أن يأتي بالنور، وطبيب العيون إذا ذهبت العروق التي خلقها الله فلا يستطيع أن يأتي بالنور، ولا بالإبصار، وإذا ذهبت عروق الصوت من الحلق لم يستطع أن يعطيك صوتاً، ولن يستطيع أن يعطيك كلاماً، وهكذا قل عن كل ظاهر، فلم يعلموا من الدنيا إلا ظاهرها، وأما باطنها فهم أبعد الناس عن علمه، ومعرفة حقيقته وكنهه، فهم جهلاء بكل شيء، وعلمهم لا يتجاوز علم القطة وعلم الكلب وعلم الخنزير، فيهمه أن يأكل وأن ينكح وأن يشرب وأن يفر من عدو، وأن يضرب عدواً، وأما ماذا وراء ذلك فهيهات هيهات.
{اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، فإذا لم يعط الله أحداً من نوره لم تزدد القلوب إلا ظلمة على ظلمة، فالله يهب نوره لمن يشاء، فإذا وهب نوره وهب علمه ووهب هدايته، ولا يكون ذلك إلا بالرسل والكتب المنزلة عليهم.
وأما الخواطر والأفكار والفلسفات وما يخطر على بال الإنسان فغير محفوظ، فهو لا يزيد على أنه كلام أقرب إلى الهذيان أقرب، وفساد دليل الفلسفة وجميع الفلاسفة لا يخفى، فلا تكاد تجد فيلسوفين من القدامى أو المحدثين اتفقوا على حقيقة الحقائق -الذات العلية- على العطاء الدائم، على الحقيقة التي لا أول لها ولا آخر، عن الله الحق خالق كل شيء، ورازق كل شيء، ومعطي الحياة ومعطي الممات.
{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7].
هذا الذي يعرفونه لا يتجاوز الظاهر، منذ سنين قالوا: نريد الصعود للقمر، لنرى كيف بدأ الخلق في الأرض وما هي الخلية الأولى؟ وما هي المادة الأولى؟ وكيف كان ذلك؟ فملاحدة العصر وكل الملل سوى ملة الإسلام كفرة ملاحدة لا دين لهم، فالكتابيون أصبحوا وثنيين يعبدون اثنين وثلاثة، والذين يعبدون الأحجار هم على حالهم، فليس إلا المؤمن الموحد المسلم، ومع هذا فهؤلاء المسلمون قد ضل الكثيرون منهم عندما دانوا بدينهم، وأخذوا حضارتهم، ودانوا بفلسفاتهم وأخذوا يطبقون ذلك على دينهم، فضلوا وأضلوا وخرجوا عن الإسلام.
{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7].
فمنذ سنوات قالوا: نريد أن نصل إلى فلك من هذه الأفلاك التي نراها في الأجواء، فوصلوا للقمر فوجدوه كجزء من الأرض لا يختلف عن صحاريها وعن جبالها وعن وهادها، فأنزلوا منه حجارة وتراباً ووزعوه على معامل الدنيا فحلل ذلك فوجدوه من نفس مادة حجارة الأرض وترابها، وقد بذلوا في هذا الملايين من المال، وأجاعوا الكثير من الخلق، ونشروا الفتنة بين الكثير من الخلق، وكل ذلك قد علمه المسلمون منذ ألف وأربعمائة عام، ونطق به الوحي الذي لا يأتي بباطل، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30].
يخاطب الكفار -وكأن الآية أنزلت الآن- أن السموات والأرض كانتا رتقاً، أي: متصلة وجزءاً واحداً وقطعة واحدة، ثم شاء الله في عصر من العصور وزمن من الأزمان فتق بعض هذه عن هذه، فتق هذه الأفلاك التي نراها فوق فتقها من الأرض التي هي جزء منها، فهي حجارة وتراب وجبال ووهاد، وجدوا الهواء هو الهواء على أنهم لم يجدوا هواءً، والشيء الموجود لا يكاد يذكر، وقالوا: لا حياة فيه، ولا يزالون يبحثون في أفلاك أخر هل يجدونه، ولا تظنوا أنهم وصلوا إلى السماء فهيهات ذلك، فالمصباح المعلق في السقف ليس هو السقف، وقد قال الله عن هذه الأفلاك: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5].
فهي زينة السماء الدنيا، وأما السماء التي يسري إليها خاتم الأنبياء نبينا صلى الله عليه وسلم فبيننا وبينها خمسمائة عام، وهي مغلقة، وهي طبق على طبق، وهيهات أن يستطيع أحد أن يصل إليها، فالشياطين يحاولون أن يقتربوا ليسترقوا السمع من الملائكة، فيسمعون كلمة واحدة يعطونها للسحرة وللكهنة، ويزيدون في الكذبات عليها تسعة وتسعين كذبة، فتضيع هذه الكلمة إن صحت بين تلك الكذبات، ولكن لا يكادون يقتربون من ذلك المكان إلا وتأتيهم شهب حارقة تحرقهم جميعاً وكأنهم لم يكونوا ولم يولدوا ولم يخلقوا.
{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
أكد الله ذلك بـ (هم) مرتين، وبالجملة الاسمية مرتين، فهم غافلون عن الآخرة ولا يعلمون شيئاً عن الآخرة، ولا يكلفون أنفسهم بمعرفة شيء عن الآخرة، وهذا شأن الكافرين الضالين والعصاة المتمردين، والآخرة لا تعرف إلا عن طريق الوحي وعن طريق كتب السماء، وعن طريق الرسالات، فكان الله يرسل في كل أمة رسولاً فضلاً منه وكرماً، {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].
ولكن الله لم يذكر في الكتاب المنزل إلا أربعة وعشرين أو خمسة وعشرين من الأنبياء، وقد قال وهو يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78].
فمنهم من قصه وذكره في الكتب كآدم وإدريس ونوح ومن بعدهم.
{وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] فلم نذكره ولا بكلمة عنه، وقد أشير إلى البعض.
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الرسل والأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر نبياً ورسولاً، ولم يذكر الله ويتكلم إلا عن خمسة وعشرين حيث أخْذ العبرة والحكمة بما يهدي المؤمنين، ويهدي الناس أجمعين، ومن حجرت عنه الهداية، فستكون حجة الله عليه بالغة، فقد أرسلت إليه الرسالات، وجاءه الأنبياء، وأعلن له من الحق ما أعلن.(172/2)
تفسير قوله تعالى: (أولم يتفكروا في أنفسهم)(172/3)
معنى قوله تعالى: (أولم يتفكروا)
ثم فصل الله تعالى فقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم:8].
يحكي الله عن هؤلاء الذين لا يؤمنون إلا بظاهر الحياة الدنيا، فتجد الرجل الطويل العريض منهم يسمونه بالأستاذ الكبير، ويسمونه بالعالم الكبير، ويكتبون له من المؤلفات العشرات والمئات، وإذا أخذ يحدثك عن الله والدار الآخرة حدثك حديث حيوان أعجم، ولذلك نفى الله عنهم العلم البتة، فقال: ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فأكثر الكفار لا يعلمون، ثم عاد فنسب لهم علماً هو إلى الجهل أقرب.
{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]، فيعلمون كما تعلم الدابة: كيف يأكلون، وكيف يشربون، وكيف يخزنون هذا الطعام، وكيف يخزنون هذا الشراب، ومع ذلك كم عجزوا فتمضي سنوات ويموت مئات الملايين من الخلق جوعاً، فلم يستطيعوا توفير الطعام والشراب لهم على كثرة خيرات الأرض، وكثرة الغيث من السماء على الأرض، وما في البحار من حيتان ولحوم وأرزاق، وما في الأجواء والغابات من أنواع الطيور، وما فيها من أنواع الحيوانات والصيد، ومع ذلك الناس يموتون جوعاً.
ففي إفريقيا يموت ملايين من الخلق جوعاً، وفي الهند يموت كل سنة ما يزيد على عشرة إلى خمسين مليون جوعاً، وفي الصين كل سنة يموت ما بين خمسين إلى مائة مليون جوعاً، وهذا ما يقول الله عنه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]، فلا ينبغي لمؤمن أن يكبروا في عينه، وأن يحسب لهم حساباً، فهم لا يزيدون فهماً على ما تفهمه الدابة من السعي لطعامها، وعلى ما يفهمه الكلب من السعي وراء فريسته، وعلى ما يعلمه الخنزير من البحث عن طعامه في المزابل والقاذورات والأوساخ، ومن يحاول أن يأخذ علمه وهدايته وحضارته منهم فقد ترك النور الحق وذهب إلى الضلال، وترك الرحمن وذهب للشيطان، وترك الدين الحق دين التوحيد وذهب إلى هؤلاء الذين لا يعلمون شيئاً، وحتى ما يعلمونه من الحياة ظاهراً لا يكاد يذكر، ولا تكاد يعتبر، فلا تجاوز طعاماً في بطن، وشراباً، ولبسة على الظهر، وليس ذلك لكل الخلق والبشر في الأرض.(172/4)
معنى قوله تعالى: (في أنفسهم)
ثم عاد الله فقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} [الروم:8]، وهذا استفهام معناه التقرير والأمر، أي: أما كان الواجب على هؤلاء أن يفكروا في أنفسهم يوماً فيقولون: من أنا؟ من أين جئت؟ من خلقني؟ وكيف خلقت؟ وما الغاية من حياتي؟ وما وظيفتي في حياتي؟ وعندما أموت فما معنى الموت؟ وإلى أين أنا ذاهب؟ وماذا بعد الموت؟ فقد خلقنا لهم عقولاً، وجعلناهم بشراً، وميزناهم عن الحيوانات وأن يفكر يوماً ويقول: ألا أراجع ما ذكره هؤلاء الذين زعموا أنهم أنبياء؟ فيراجع ما ورد في الكتب السماوية، وما ورد عن الأنبياء السابقين، فإذا كذبهم فليأت إلى القرآن الذي لم يغيَّر ولم يبدل، وإلى الإسلام الذي لم يبدل ولم يغير، فيبحث بعقله ويبحث بنفسه ليعود إلى التفكير في نفسه: أنا حي فما هي الروح؟ وكيف أعيش؟ وما الذي يحرك حواسي؟ وما الذي يدعني أسمع؟ وما الذي يدعني أبصر، وما الذي يدعني أحس وأتذوق؟ وما الذي يدعني أكبر يوماً بعد يوم وأصل إلى سن معينة ولا زيادة في أكثر الخلق؟ ثم بعد ذلك: كيف الإبصار؟ وكيف الذوق؟ وكيف الهضم؟ وكيف الإنسان ما دام حياً يبقى كما هو، فإذا مات ففي اللحظات الأولى يتفطر وتخرج روائحه، فأقرب الناس إليه يذهبون به مسرعين ويخفون جيفته في الأرض وإلا فر منها الناس جميعاً؛ لشدة كراهتها؟ فمن الذي أمسك الروائح الكريهة عن الخروج والإنسان حي، فإذا لم يستطيعوا الجواب عن ذلك وسكتوا، فهم {حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:50 - 51] وهم كذلك إذ لم يكلفوا أنفسهم التفكير في ذلك.
فالله يلفت أنظارهم ويقول لهم: أولم يفكر هؤلاء الذين لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، فهم لا يعلمون، وهم بلقاء ربهم كافرون، هؤلاء لِمَ لا يفكرون في ذواتهم، فلم نطلب منهم أن يضربوا في الأرض، ويسافروا الآلاف من الأميال جواً أو بحراً أو براً، ولكن يفكروا في أنفسهم.(172/5)
معنى قوله تعالى: (خلق الله السماوات والأرض وما بينهما)
قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم:8].
ولن يستطيعوا الوصول إلى الحقيقة إلا بدلالة نبي ورسول، ولم يكن دليل الخلق إلا محمداً صلى الله عليه وعلى آله، والكتاب المرشد الهادي خاتم الكتب، وبسوى القرآن الكريم ومحمد صلى الله عليه وسلم لن يصل أحد للحق لا فرد ولا جماعة، وسيبقون في ضلال يتبعه ضلال إلى الهلاك إلى أن يصبحوا يوماً بين يدي الملكين السائلين في القبر وهما يسألانهم بإزعاج وقلق: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ حتى إذا عجز عن الجواب أخذته المرازب، فيضربه الملك ضربة إلى أن يصل إلى الأرض السابعة، ثم يأخذونه بعنف.
وهكذا يبقى إلى يوم العرض على الله يوم القيامة وروحه تعذب ويزداد عذابها وتمتحن ويزداد امتحانها، وهكذا كل كافر عاش كافراً ومات كافراً.
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم:8]، فليتفكروا بعد أنفسهم في هذه السموات ما هي؟ وكيف رفعت بغير عمد؟ وما الذي فيها؟ ولم كانت؟ وكيف كونت؟ ومن خلقها؟ وهذه الأرض التي نحن عليها من حملها؟ وكيف حملت؟ وأين العمد التي حملت عليها؟ وكيف جاء هذا الخلق الكثير من الإنس والجن والطير والحيوانات؟ وما هو البر؟ وما البحر؟ وما في البحر من غرائب وعجائب من أشكال زاحفة وماشية ومفترسة وصغيرة وكبير يأكل الصغير فمن خلقها؟ وما الحكمة من خلقها؟ وكيف هذه المياه لا تفيض على اليابسة وتغرقها كلها كما غرقت أيام طوفان نوح؟ وكيف تسير هذه السفن الصغيرة في البحر وهي كالرياش في مهب الرياح؟ وكيف تقطع المسافات الطويلة من شرق إلى غرب ومن شمال إلى جنوب؟ وما بين السماء والأرض خلق لا يحصيهم إلا الله، كهذه الكواكب وهذه المجرات التي تعد بالملايين.
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} [الشورى:29]، فمن آيات قدرة الله ووحدانية الله وجلال الله خلق السموات والأرض، وكل ما علاك فهو سماء، فالأفلاك العلوية سماء بهذا المعنى، وما سفل فهو أرض، فما تحتنا هو أرض إلى سبع أرضين، {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} [الشورى:29] أي: في الأفلاك العلوية وفي الأفلاك السفلية من دابة، والدابة: هي كل ما يدب على وجه الأرض برجلين أو أربع أو يزحف على بطنه، وحتى الطائر الذي يطير فهو في البر يمشي على رجليه، ومعنى ذلك: أن في الأفلاك العلوية كذلك دواب تمشي كما تمشي دواب الأرض، لأنه قال: {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} [الشورى:29] أي: في الأفلاك العلوية وفي الأفلاك السفلية.
{وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ} [الشورى:29] وأعاد الضمير جمع عقلاء مما يدل أن من بين هذه الدواب دواب عاقلة كعقلاء بشر الأرض.
{وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29] (إذا) عندما تدخل على المضارع يصبح بمعنى الماضي، وإذا دخلت على الماضي حولته مضارعاً مثل: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1] فمعناه: عندما تقع، فهي لم تقع بعد، والواقعة: القيامة.
(إذا يشاء) إذا شاء، أي: سبق في علم الله أنه مقدر ذلك وأراده وشاءه، وسيكون يوماً من الأيام، هل نحن الذين سنلتقي بهم عندهم أم هم عندنا؟ أم أولادنا أم أسباطنا؟ الله وحده العليم بذلك.
والله يلفت أنظارنا في الكثير من آيات القرآن عند ذكره للسماء والأرض، فعلينا أن نتدبر السموات والأرض وما بينهما من هذه النجوم وهذه الأفلاك كالشمس، والقمر، والمشتري، والزهرة، وعطارد وغيرها، وهي ملايين الملايين لا يحصي عددها إلا الله، فكيف حملت في الفضاء؟ ومن حملها؟ كل هذا لم يفكروا فيه.
فالطائرة التي نركبها لو ذكرت قصتها لأجدادنا الذين لم يروها لما صدقوها، ولقالوا: إنك مجنون كيف يطير الحديد في الهواء؟ وكيف يطير بقليل من الماء؟ فهذا لا تقبله العقول ولكنه حدث، فآمنا به لرؤيتنا له.
وإذا سألتهم: كيف كان ذلك؟ فإنهم يذكرون لك خزعبلات وفلسفات، فيقال لهم: وكيف أحياناً تقع الطائرة ما دام الأمر كذلك؟ فهو كلام اخترعوه وحاولوا أن يذكروا فيه جهلهم، وما زادهم الجهل إلا عماية وضلالة على ضلال.(172/6)
معنى قوله تعالى: (إلا بالحق)
قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الروم:8].
فلم يخلق ذلك إلا بحق وعلى حق، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فالعبرة والغاية من خلق هذا العالم أن نعبد الله، فإذا خرجنا ولم نعبده فلم حياتنا؟ ولم وجودنا؟ ولم نضيّق على عباد الله المحتاجين؟ فموت هذا الذي لا يعبد خير من حياته، فعيشته في الأرض سبهللاً، فحياته إنما تكون حجة عليه في عذابه ومحنته وانتقام الله منه.
وما سخر الله هذه الأكوان إلا لهذا الإنسان العاقل، فأباح له ما في الأجواء وما في البحار وما على البراري وما بينهما، فكان سيد الأرض وخليفة الله في الأرض، والله عندما أراد خلق آدم أبينا قال لملائكته: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، وقال لداود نبي الله: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26].
فالإنسان خليفة الله في الأرض يحكم بحكمه، فإذا خرج عن العدل زاغ وضل واستحق العقوبة، وما هذه الأرزاق التي يمتع بها إلا له، فإن حمد الله عليها زيدت عليه وزاده الله الجنة، وإن كفر بها انتزعها فعذبه الله في النار دواماً وسرمداً، فلم يخلقه إلا بالحق وللحق وللعدل، وبالحق نزل القرآن، وبالحق أرسلت الرسل، وبالحق خلق الإنسان، ولعبادة الله خلق.(172/7)
معنى قوله تعالى: (وأجل مسمى)
قوله: {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم:8]، ومع ذلك لم تدم سماء ولا أرض ولا ما بينهما، ولا إنس ولا جن ولا ملك، ولا النفس التي لفت نظرنا لمعرفتها ومعرفة كنهها ودخائلها، وإنما ذلك لأجل مسمى عنده وإلا فستنتهي هي والدنيا كلها فلا يبقى على الأرض شيء، فالسموات تدهده والأراضي تدهده ويصبح الكل كالعهن المنفوش، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
فلا يبقى إلا وجهه جل جلاله، فالكل ميت والموت لا بد منه، وقد خاطب الله سيد الخلق فقال له: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، البر والفاجر، والصالح والطالح، والنبي والرسول، {إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم:8].(172/8)
معنى قوله تعالى: (وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون)
قوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم:8].
كثير من الناس، أي: الكفار كلهم، وأكثر الناس كافرون بلقاء ربهم وبالبعث بعد الموت وبالجنة والنار، وبالحساب والعقاب، وبالعرض على الله.
فهؤلاء الذين علموا ظاهراً من الحياة الدنيا كفروا بكل ما سوى الدنيا، فكفروا بالآخرة، وهم غافلون عنها وعن علومها ومعارفها، والدنيا لم يعلموا إلا شيئاً من ظاهرها، وسيقص الله علينا بعدُ أن الأمم التي مضت كانت أشد قوة من هذه الأمم، وأعظم سلطاناً، وأكثر حضارة، وأكثر قوة، وأكثر زراعة، وأكثر بناء.
فهم يريدون اليوم أن يقولوا للناس: بلغت الدنيا اليوم ما لم تبلغ بعصر من العصور، كذبوا على الله وأفكوا، بلغت اليهودية في ظلمها وطغيانها منتهاها، بلغت الصليبية بلغت الشيوعية بلغ الكفر بكل أشكاله وملله ونحله، أقصى ما يمكن أن يصل إليه هو ما ادعوه من حضارة ومن مخترعات ومن مستحدثات كل ذلك ليس إلا جزءاً قليلاً مما كان عليه الأمم السابقة والشعوب الماضية من حيث قوة البدن، وقوة العمل، وسلطان السلاح، والتغلب على الخلق والبشر.
فالله تعالى في هذه الآية يأمرنا بالتفكير في أنفسنا وبالتفكير في هذه السموات العلا، وذلك رحمة بنا لعلنا نؤمن ولعلنا نصْدُق مع أنفسنا، فليس في الدنيا كل شيء، فهناك علوم أخر لا يعلم هؤلاء عنها شيئاً، فيمرون عليها وهم عنها غافلون، {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198]، {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، ولهم قلوب لا يعقلون ولا يفقهون بها، فهم كالأنعام بل هم أضل، فالأنعام تستفيد من حليبها ومن أولادها ومن شعرها، ويركب على ظهورها للسفر وقطع الآفاق، وأما الإنسان الكافر والإنسان الضال فموته خير من حياته، فهو يضيق على الناس أرزاقها، ويضيق على الناس مساكنها، فلا يظهر من دون الخلق إلا الشر والأذى، وإلا الطغيان والجبروت وإعلان الكفر ومحاربة الإسلام وأحباء الله من الدعاة إلى الله.(172/9)
تفسير سورة الروم [9 - 15]
يلفت الله تعالى أنظار الكفار ليتفكروا فيما خلق، ويسيروا في الأرض فينظروا في آثار من سبقهم من الأمم ممن كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالاً، لكن لم ينفعهم شيء من ذلك، بل كان عاقبة الذين أساءوا السوأى، ويوم القيامة يدخل المؤمنون الجنة والكافرون النار.(173/1)
تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:9].
يكشف الله جل جلاله عن هؤلاء الذين يعاصروننا ممن لم يعلم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، والسورة تسمى سورة الروم.
والقضية متعلقة بالروم وهم سكان أوروبا وسكان أمريكا بعد ذلك، فهؤلاء الروم النصارى وصفهم الله بأنهم لا يعلمون، وإذا علموا فعلمهم سخيف تافه ليس إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، وأما الباطن من الدنيا فلا يعلمونه، فهم لا يعلمون أسرار هذا الكون سماء وأرضاً، بشراً وخلقاً، طيراً وجناً، وحيوانات ودواب، وهم وإن كانوا يرون ذلك ويمرون عليه، فإن مرورهم مرور الغافلين.
أما من أين أتينا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين نسير بعد الموت؟ فهذا مما غفلوا ويغفلون عنه، فهم لا يعلمون ظاهره ولا باطنه، ولا يعلمون اسمه ولا حقيقته.
ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الذين لا يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، فقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم:9] أي: لماذا لم يسيروا بأنفسهم سائحين ومنتقلين ومتعلمين، ومطلعين عن أحوال تلك الأمم السابقة والشعوب البائدة، وأنها حين كفرت بالله وكذبت رسله ولم تؤمن بما أنزل الله من كتب من السماء دمروا ولم تبق إلا خرائبهم ودورهم التي لم تعمر إلا قليلاً، وأهلكهم الله نتيجة كفرهم، ونتيجة إبائهم الإيمان والإسلام والعلم بما يجب أن يكون عليه الإنسان الذي خلقه الله في الأرض، وأن الله ما خلقه إلا لعبادته، ولا تكون العبادة إلا بالعلم.
وما العلم إلا علوم الآخرة وعلوم الدنيا التي تكون موصلة للآخرة نعلم منها أسرارها وبواطنها، كما أن العلوم الأخرى قد تكون علوماً موصلة للأخرى إذا قصد بها الله والدار الآخرة، وإذا علم منها ومن حقيقتها ومن باطنها أنها من الله، وأنها لخدمة عباد الله، فإن تكلمنا عن الطب مثلاً وقلنا: إن الله الخالق لهذه الجوارح وأن الطبيب ليس بيده خلق قطعة قد زالت، ولكن بيده الترقيع، فهذا لا بأس به، وقل نفس ذلك عن المهندس: إنه لا يعلم إلا خطوط البناء والعلو وما يحتاج إلى عمق الأرض، وقل مثل ذلك عن الصيادلة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما خلق الله داء وإلا وخلق له دواء إلا السام).
ففي كل عشبة من هذه الأعشاب، وفي كل نبتة من هذه النباتات التي خلقها الله بقدرته دواء من أدواء أمراض الناس، علمها من علمها وجهلها من جهلها، ثم الله ينذر هؤلاء الكفرة ويأمرهم أن يأخذوا الحقائق وما يمكن أن يستفيدوا منه، وذلك بالضرب في الأرض، فينظروا عواقب من مضى من الأمم والخلق كيف كانت نتائج كفرهم، كانت خراباً ودماراً، ولم تبق إلا خرائبهم لتدل عليهم، وإلا البوم والغراب ينعق في خرائبهم، وهم بين يدي الله يحاسبون على الشاذة والفاذة بسبب خلافهم وكفرهم.
والاستفهام في قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم:9] جوابه المقدر: هو أنهم كانوا كفرة، فكانت العاقبة دمارهم وخرابهم واندثارهم وبوارهم.
ثم أخبر الله عن أولئك الماضين فقال: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9]، أي: كانوا أكثر قوة في أبدانهم، وأطول أعماراً في سنيهم، وأكثر ذكاء في أعمالهم وصنائعهم، وأكثر شدة في بأسهم وسلطانهم، وتغلبوا على الشعوب من أمثالهم، واستطاعوا التصرف في الأرض والحضارات، وأثاروا الأرض وعمروها وزرعوها وحرثوها واستنبتوها، وغرسوا فيها الأشجار والبساتين والرياض، وشقوا فيها الأنهر والغدران، وصنعوا على البحار الموانئ التي يستطيعون الوقوف بالبواخر والبوارج والسفن عليها.
فقوله: {وَأَثَارُوا الأَرْضَ} [الروم:9] أي: استخرجوا معادنها وخيراتها وذهبها وفضتها، وما فيها من ثروات وكنوز، كل ذلك عملوه بقوتهم وبذكائهم، فكان لهم من القصور ما لا نزال نرى آثاره إلى اليوم، فهذه أهرامات مصر شاهدة على ذلك، وقد مضى عليها الآلاف من السنين، والصخرة الواحدة من هذه الأهرامات تزن الآلاف من الأطنان، فكيف قطعت من جبال سيناء وجبال الطور؟ وكيف قطعت على هذا الشكل؟ وعلى أي الآلات حملت؟ وكيف رفعت بعد ذلك على هذه البنية؟!! وكذلك قل عن آثار بابل في أرض العراق، وقد أراد هارون الرشيد يوماً أن يبني قصوراً في مكانها، فقال له وزراؤه من البرامكة: يا أمير المؤمنين! هي خرائب لا تخرب ولا يؤثر فيها الحديد والفولاذ، قد تهدمها سنوات ولم تهدم، ويصعب علينا أن يقال: بنى الأولون ما عجزنا عن تخريبه، والخراب أيسر من البناء.
فلم يلتفت الرشيد إلى كلامهم وأمر بهدم ذلك، وبعد سنتين من الهدم والتخريب لم يكادوا يخربون إلا جزءاً لا يتجاوز الأمتار من الجدران، فاضطر لأن يترك ذلك، وهو إلى الآن لا يزال كذلك، أما كيف بنوه، ومن أي مادة صنعوه؟ فلا نعلم حقيقة ذلك، فتلك من الآثار التي يشير إليها القرآن الكريم.
وينبغي أن يعلم هؤلاء المعجبون بأنفسهم وبقوتهم وبحضاراتهم أن من مضى من الأمم كانوا أكثر منهم وأشد قوة، ومع ذلك قد بادوا وذهبوا واضمحلوا.
وقوله: {وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9] أي: زرعوها وغرسوها ونبشوا عن المعادن واستفادوا منها، وبنوا على الصخور الآثار والقصور الرفيعة والمدن والقرى.
فهم صنعوا كل ذلك مما جعل المعاصرين يعجبون من ذلك ويعجزون أن يصنعوا مثل ذلك أو ما يقاربه.
وقوله: {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [الروم:9] فهؤلاء مع شدتهم وقوتهم وحضارتهم ومدائنهم وسلطانهم عندما جاءتهم الرسل بالبينات وبالدلائل الواضحات على صدق رسالتهم غفلوا وتغافلوا أو كذبوا، فكانوا لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، وإنما جاءهم أنبياؤهم المرسلون إليهم ليعلموهم وليرشدوهم ويعطوهم من بواطن الدنيا كما علموا من ظواهرها، ومن علوم الآخرة التي جهلوها، لكنهم أبوا إلا الجحود والكفران والمخالفة والعصيان.
وإذا بالله الكريم يعاقبهم في الدنيا والآخرة، وكان عذاب الآخرة أشد وأنكى، أما عذاب الدنيا فقد ظهر جلياً بما تركوا من آثار وخرائب تدل على ما أصابهم من غرق وصعق وقلب الأرض عاليها سافلها، وصيحات وزلازل وصواعق من الأرض والسماء لا تزال آثارها في مختلف بقاع الأرض.
قال تعالى: {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:9]، أي: لا يليق بعدل الله وجلاله أن يظلم أحداً، قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، وهؤلاء ظلموا أنفسهم بكفرهم وبكونهم لم يصدقوا أنبياءهم وما جاءوا به من رسالات وكتب، فكانوا ظالمين لأنفسهم بما أصابها من لعنة وخراب ودمار.(173/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى)
قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} [الروم:10].
(عاقبة) بالضم على أنها اسم كان، وقرئت: (عاقبة) بالفتح على أنها خبر كان مقدم، والسوأى: هو المبتدأ.
فقوله: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم:10] أي: الذين أساءوا وكفروا، وما ظهر منهم إلا السوء والإجرام والكبر والكفر والعصيان، والسوأى تأنيث الأسوأ، كالحسنى تأنيث الأحسن، أي: أتوا جرماً أعظم ما يكون سوءاً وهو الكفر بالله وبرسل الله، فكان عاقبة هؤلاء الكافرين أن أصيبوا بذلك البلاء وتلك العقوبة؛ نتيجة كفرهم وجحودهم وعصيانهم، وكان ذلك عاقبة أمرهم ونهاية حياتهم، والقضاء المبرم على وجودهم.
وليست (السوأى) مفعولاً لأساءوا.
وقوله: {وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} [الروم:10]، أي: كانوا يستهزئون بأنبياء الله، ويستهزئون بالكتب المنزلة من السماء عصياناً وتمرداً.
وهذا تهديد ووعيد للكفار الذين لم يؤمنوا برسول الله عندما جاءهم، سواء كانوا من كفار العرب أو غيرهم، فقد هددوا وأنذروا وأوعدوا بعاقبة كعاقبة الذين سبقوهم، وبنهاية كنهاية تلك الأمم التي عوقبت في الدنيا قبل الآخرة غرقاً وتدميراً وصعقاً وزلازل وقلباً للأرض عاليها سافلها، مما لا تزال الآثار في الأرض بعضها ظاهر وبعضها يظهر بالحفريات والكشف عن الأثريات.(173/3)
تفسير قوله تعالى: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون)
قال الله تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم:11].
يقول الله لخلقه وعباده: يا هؤلاء لقد رأيتم أنفسكم وقد خلقت وأوجدت من العدم من غير أي شيء سابق، ألا تأخذون ذلك دليلاً وبرهاناً على أن من بدأ الخلق قادر على أن يعيده وهو أهون عليه؟ والكل هين عليه جل جلاله فهو لا يحتاج لأكثر من أن يقول: كن فيكون، ولا يحتاج لأكثر من إرادة، فيكون ما يريد جل جلاله.
فقوله: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} [الروم:11]، أي: هو الذي أنشأ الخلق على غير مثال سابق، أوجدنا من العدم، ونحن نرى أنفسنا ونعيش في واقعنا، ونرى الخلق في كل أشكاله وأنواعه، فمن خلقهم؟ من دبرهم؟ من رزقهم؟ من أحياهم وأماتهم؟ من أحياهم وأماتهم قادر على إعادتهم ونشأتهم النشأة الثانية في الحياة الآخرة.
عندما يضرب الله للناس الأمثال والأشباه والنظائر؛ ليتعلموا بالمعلوم المجهول، وبالواقع المستقبل، وبالدنيا الآخرة، {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
وقوله: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم:11]، أي: هو الذي يعيد الخلق مرة أخرى فينهي الدنيا ويفنيها، ويعيد الحياة الثانية يوم البعث والنشور، فيوم العرض على الله في الآخرة التي لا فناء لها ولا موت، فمن دخل الجنة فهو خالد فيها أبد الآبدين، ومن دخل النار فهو خالد فيها دهر الداهرين، لا موت ولا فناء، وإنما الموت والفناء لدار الدنيا وما فيها ومن عليها.
إذاً: نحن نرى أن الله قد بدأنا بواقعنا وحياتنا، ومن قدر على ذلك قدر على الإعادة، فهو كما ابتدأنا سيعيدنا إعادة ثانية، وهذه دعوة للإيمان بالبعث، فمن لم يؤمن بالبعث بقي على كفره، ويكون قد كذب الأنبياء جميعاً السابقين واللاحقين وخاتمهم صلى الله عليه وسلم، ويكون قد كذب بالرسالات والنبوءات والكتب السماوية جميعها، فالبعث حق والحياة الثانية حق، كما أن الإنسان حق أن يعاد يوم القيامة مرة ثانية؛ ليعرض على الله ويحاسب على عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم:11]، أي: إلى الله يرجع الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم، رجالهم ونساؤهم، إنسهم وجنهم.(173/4)
تفسير قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون)
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم:12].
أي: عند قيام الساعة يوم القيامة في الدار الآخرة يبلس المجرمون، والإبلاس هو السكوت في ذهول وتيه وضياع، فهم يجدون أنفسهم في واقع لا ينكرونه وذلك عندما يسألون: أليس هذا الذي وعدتم في الدار الآخرة، كيف كذبتم به في الدنيا، ها أنتم الآن قد بعثتم بعد الموت؟ فلا يحيرون جواباً، ولا يتحركون ولا ينبس أحدهم ببنت شفة.
وفسروا الإبلاس باليأس من رحمة الله ومنه سمي إبليس، فهو يئس من رحمة الله، والإبلاس الكفر، والإبلاس الشرك والجريمة، وبكل هذه المعاني تفسر هذه الفقرة من الآية الكريمة، فيوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ويخرسون فلا يحيرون جواباً؛ لعجزهم عن إيجاد الدليل والبرهان، فهم لا يجدون برهاناً ولا دليلاً يعتذرون به عن سابق كفرهم وشركهم.(173/5)
تفسير قوله تعالى: (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء)
قال الله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} [الروم:13].
أي: عند ذلك يتركهم الشركاء الذين عبدوهم جهلاً وفساداً في الأرض، وقالوا: ثالث ثلاثة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ومنهم من جعل العجل إلهاً، ومنهم من جعل مريم وعيسى إلهين، ومنهم من جعل الأخشاب والأحجار آلهة، ومنهم من جعل من الجن والملائكة والبشر آلهة، وكل أولئك سيتخلون عنهم يوم القيامة، ولا يشفعون لهم عند الله بعدم دخولهم النار وإطلاق سراحهم من اللعنة والغضب، هيهات هيهات، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، ولن تكون شفاعة إلا لمن أذن له، ولن يأذن للشفاعة إلا لمن رضي عنه من الملائكة والرسل وصالحي الناس.
أما أن يشفع كافر فلن يكون ذلك ألبتة، ومعاذ الله أن يكون لله شريك ومعه شريك، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23].
وقوله: {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} [الروم:13] أي: وكان هؤلاء الشركاء والأصنام كافرين بعبادتهم، كما يكفر المتبوع بالتابع ويتبرأ منه، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، أي: تقطعت أسباب المودة التي كانت في الدنيا، والصلة التي كانت بينهم المبنية على الكفر والشرك، ولن يدوم في الآخرة إلا الود في الله والحب في الله، قال الله تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، لن تدوم خلة ولا صداقة ولا مودة إلا مودة الأتقياء، أما من كانت مودتهم مبنية على الفسق والعصيان والشرك والجحود فهؤلاء ينقلبون أعداء لبعضهم يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض.(173/6)
تفسير قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون)
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14].
أي: يوم تقوم الساعة يوم القيامة في ذلك اليوم يتفرق المؤمنون والكافرون، يصبح المؤمنون في أعلى عليين، والكافرون في أسفل سافلين، وتجمع النار الكافرين كما تجمع الجنة المؤمنين، ولا تصبح هناك صلة ولا اجتماع بينهم، بل تكون فرقة أبدية كما قال الحسن البصري بياناً وتفسيراً لكلام الله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14]، قال: يتفرق المؤمنون إلى الجنة، والكافرون إلى النار، ويفترقون عن المؤمنين فرقة أبدية.
ويميز المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، وتحشر كل طائفة وكل ملة مع نظيرها ومثيلها في نار جهنم، فلا يجتمع مسلم بكافر ولا كافر بمسلم، وإن كان أهل الجنة يحاورون أهل النار ممن حاول أن يضلهم في الدنيا، فيحمد الله أن أنقذه الله من فسق هذا الكافر ومن دعوته الباطلة، ومن شركه المزيف، وأن فرق بينه وبينه.(173/7)
تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم:15].
(أما) أي: اضرب عن القول السابق في عذاب الكافرين وعقباهم من لعنة في الدنيا ونار دائمة يوم القيامة ومن فرقة بين المؤمنين والكافرين هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار.
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الروم:15]، يعني: أما الذين آمنوا بالله رباً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالمؤمنين إخوة وبالكعبة قبلة، ثم بعد هذا الإيمان القولي صدق الخُبر الخبر، فصدق الجنان اللسان، وصدقت الأركان الجنان، فصلوا لله جل جلاله خمس صلوات في اليوم والليلة، وصاموا شهر رمضان، وحجوا بيت الله الحرام إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وأدوا زكاة أموالهم إن كانوا يملكون النصاب ومضى عليه الحول، وتركوا المنكرات بكل أشكالها، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).
والفعل يفعل قدر الطاقة والاستطاعة، وأما النهي فيكون باتاً كاملاً، فيتركون المنكرات والفواحش ظاهرها وباطنها، فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات {فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم:15].
والحبور: السرور وحضور النعمة.
والروضة مفرد الرياض، أي: الجنة والجنان.
فهم في الجنان مسرورون منعمون مكرمون، قد رحمهم ربهم لعبادتهم ولتوحيدهم ولعملهم الصالح، وفرق بينهم وبين أولئك الذين كانوا في دار الدنيا يهزءون بهم وبدينهم وبكتابهم وبنبيهم، وكان نتيجة كفر أولئك النار وغضب الله، وكان نتيجة صبر هؤلاء واستمساكهم بالدين الحق والإيمان والعمل الصالح أن أنعم عليهم وكرمهم في سرور وحبور ونعم دائمة، كما قال تعالى: {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:33]، وقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:71]، وقال صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).
وسنة الله في كتابه أنه يذكر رحمته مع غضبه، وغضبه مع رحمته، ويذكر الجنة ثم النار، والنار ثم الجنة، ويذكر المؤمنين وأعمالهم، ثم الكافرين وأعمالهم، بين الرجاء والخوف؛ حتى إذا رجا كثرت طاعته وابتعد عن الشرك، وإذا خاف ترك المنكرات ظواهرها وبواطنها، فتارة يصنع ذلك، وتارة يعرض عليه صور كأنه يراها رأي العين، وضرب الأمثال سنة الله في كتابه.(173/8)
تفسير سورة الروم [16 - 22]
خلق الله الخلق ليبتليهم وبين لهم طريق الخير والشر، فمن كفر وكذب فجزاؤه النار خالداً فيها، وقد ذكر الله لعباده في كتابه العزيز آيات وبينات تدلهم على كمال قدرته واستحقاقه للعبادة كخلق السماوات والأرض وخلق الأزواج، وجعل المودة والرحمة بينهم، واختلاف الألوان والألسن وغير ذلك.(174/1)
تفسير قوله تعالى: (وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا)
قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم:16].
أي: الذين كفروا بالله رباً، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وكفروا بكون القرآن كلام الله، وكفروا بالمؤمنين إخوة، وبالكعبة قبلة، ثم كذبوا آيات الله وكذبوا قدرته وكتابه ودلائل وحدانيته والمعجزات التي أتى بها أنبياؤه، وكذبوا بيوم القيامة ولقاء الآخرة ولقاء الخلق مع الله يوم القيامة ويوم العرض عليه -مع أن الإيمان به أصل من أصول كل دين سماوي حق- فهم لم يؤمنوا بيوم البعث والقيامة وأننا نبعث بعد الموت بأجسامنا وأرواحنا بأعمالنا الصالحة وغيرها؛ ليرحم من عمل الصالحات وآمن بالله، ويعاقب ويعذب من كفر بالله وعمل الطالحات، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم:16]، فهؤلاء الذين أشار إليهم من الكافرين والمكذبين والمنكرين ليوم البعث يحضرون للعذاب يوم القيامة ويجمعون للعذاب في النار، ومن هنا قيل عن الميت وقت موته: المحتضر، أي: يحتضر للموت، ويحتضر لحقائق الأشياء، وتحضره ملائكة الموت؛ لينقل إما إلى الرحمة وإما إلى العذاب، فإن كان في الجنة فقد أحضر للنعيم، وإن كان في النار فقد أحضر لعذابه.(174/2)
تفسير قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون)
قال تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17].
فالله جل جلاله يسبح نفسه ويعظمها، وهنا يعلمنا جل جلاله كيف نسبحه ونقدسه ونعبده ونمجده، فهو سبحانه له الملك والألوهية والربوبية، وهو خالق كل شيء والمنفرد بالعبادة جل جلاله، وهذا خبر في معنى الأمر، فهو يسبح نفسه ويمجدها وينزهها عن كل النقائص ويعزها ويجلها، وهو العزيز الجليل جل جلاله وعز مقامه؛ لنتعلم كيف نعزه ونمجده، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل والترمذي وقال: حسن صحيح عن جماعة من الصحابة: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بمثل ما أتى إلا أحد قال مثل قوله أو زاد عليه).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام -وهو آخر حديث من صحيح البخاري -: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
فسبحان الله وبحمده أي: إنه يحمد نفسه في السموات وفي الأرض وعشية وحين نظهر، فهو يحمد نفسه ويعلمنا كيف نحمده، ويسبح نفسه ويعلمنا كيف نسبحه، وقد روي: (أنه خرج يوماً صباحاً صلى الله عليه وسلم وترك أم المؤمنين جويرية بنت الحارث تسبح الله وتذكره، ثم عاد ضحى فوجدها لا تزال في مجلسها وهي تذكر الله وتسبحه، فقال لها: ألا تزالين في مسجدك؟ -أي: مكان سجودك وتسبيحك وتحميدك- قالت: نعم، قال: لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، ثلاث مرات)، وسبحان: اسم مبني على الفتح، وهو اسم مفعول ومعناه: أسبح الله.
وكتب نافع الأزرق الخارجي إلى ترجمان القرآن عبد الله بن عباس يسأله: يا ابن عباس! هل الصلوات الخمس مذكورة في القرآن؟ قال: نعم، ثم تلا قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17]، قال: حين تمسون: صلاة المغرب، وحين تصبحون: صلاة الفجر.(174/3)
تفسير قوله تعالى: (وله الحمد في السموات والأرض)
قال تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:18].
وعشياً: صلاة العصر، وتظهرون: صلاة الظهر، وصلاة العشاء مذكورة في آية ذكر العورات وإخفائها، في قوله تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58] فالصلوات الخمس مذكورة في القرآن إجمالاً ومذكورة تفصيلاً، وقد أجملها الله في آيات أخرى مثل قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فالصلوات الخمس أمر بحفظها وبرعايتها وبالقيام بأركانها.
واختلف الأئمة في الصلاة الوسطى من الصبح إلى الظهر إلى العصر إلى المغرب إلى العشاء، وقال الشافعية: هي العصر، والنص معهم ولا عبرة ببقية الآراء؛ لأنه جاء في صحيح مسلم في غزوة بني قريظة قوله صلى الله عليه وسلم عن اليهود: (ملأ الله قبورهم ناراً، شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر).
وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قولاً فليس لأحد معه قول من صحابي فمن دونه، وثبت في صحيح مسلم: (أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر).
فقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم:17]، أي: وقت المساء، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17]، أي: وقت الصباح، والمساء من المغرب إلى الليل، ولذلك بعض الأئمة أدخل في المساء المغرب والعشاء، وأما الإصباح فقد ذكره الله في قوله: {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17]، أي: حين الصباح ويكون ذلك في الذكر والمذاكرة والصلاة، ولما كان التسبيح صلاة سمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة: (سبحة)؛ لأنها تشتمل على التسبيح والتحميد والذكر والتلاوة، وعلى الحركات من قيام وركوع وسجود وجلوس وقيام، وعلى التكبير في الحركات، وعلى الذكر في كل حالات، فهي تسبيح لله ثم هيئة المصلي هي تسبيح بلا خلاف.
وقد صلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً فلم يقرأ فاتحة ولم يقرأ سورة، فقيل له: كيف ذلك يا أمير المؤمنين؟! فقال: ألا يستكفى في العبادة أني سبحت فقد قمت وركعت وسجدت وجلست فتلك في حد ذاتها تسبيح لله؛ لأن الركوع والسجود لا يليقان إلا بالله، فلا يركع ولا يسجد إلا لله، ولا توضع الجباه ولا الأنامل ولا الركب ولا الأيدي ولا أصابع الرجلين وخاصة إن وضعت مجتمعة إلا لله الواحد.
قال تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17 - 18].
وتقديم المعمول على العامل يفيد أن الحمد الكامل المطلق الحقيقي له تعالى، ولذلك نقرأ الفاتحة في كل ركعة أئمة ومأمومين كما هو المذهب الحق، ولا تجوز الصلاة إلا بفاتحة الكتاب، فمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصلاته خداج خداج خداج، أي: ناقصة غير كاملة، ولا تجزي ولا تكفي ولا تصح ولا تقبل إلا بفاتحة الكتاب.
وأيضاً في تقديم المعمول على العامل إفادة الحصر، أي: حصر الحمد في الله وانفراده به؛ إذ هو صاحب النعم الظاهرة والباطنة وليس لغيره نعمة.
إذاً: ففي قوله سبحانه: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ} [الروم:18] يحمد نفسه جل جلاله وهو على عرشه استوى، وتحمده ملائكته وأنبياؤه في السموات كما يحمده كل من على الأرض جناً وبشراً وحيواناً وطيراً، فالكل يسبحه ويحمده ويعبده، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
وقال النبي عليه الصلاة والسلام عن الملائكة في السماء: (أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم).
ولله الحمد في السموات والأرض فلا تخلو الأرض مشارقها ومغاربها من مخلوق من إنسان أو جن أو ملك إلا وهو يعبد الله، وتجده إما مسبح باللسان أو عابد بالأركان.
{وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا} [الروم:18] والعشي: ما بعد الظهر إلى غروب الشمس، والمساء: ما بعد المغرب إلى الشفق.
{وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:18] والإظهار هو: وسط النهار، ونحن نسميه الظهر، ووقت الظهر يسمى عشياً، وقالوا: هو صلاة العصر، وتظهرون قالوا: صلاة الظهر، وهي كذلك، ولكن المعنى أعم؛ والعبادة لله تستحب فيه وتكون أقرب للقبول سواء التسبيح باللسان أو التسبيح بالطواف أو التسبيح بالسعي أو التسبيح بالصدقات أو التسبيح بكل أنواع العبادات، فهي في حد ذاتها مطلوبة ومستحبة، ويزداد استحبابها عشياً وآصالاً وصباحاً وعشياً وفي الأوقات التي ذكر الله، وهي أوقات الصلوات الخمس، ولله الحمد.(174/4)
تفسير قوله تعالى: (يخرج الحي من الميت)
قال تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19].
فقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الروم:19].
أي: ومن يقدر على ذلك إلا هو، فهو الذي يخرج الإنسان من النطفة وهي ميتة، ويخرج الدجاجة من البيضة وهي ميتة، ويخرج النبت والشجر من الأرض وهي ميتة.
{وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19]، أي: ويخرج الجنين ميتاً من رحم أمه وهي حية، ويخرج الكافر من بطن أمه وهي مسلمة وهو كافر، ويخرج البيضة من الدجاجة، ويخرج الحبة من السنبلة، ويخرج الزرع والحبة والقمح من السنابل ومن الأشجار والنباتات وكلها حية.
فالله وحده القادر على ذلك، هذا من حيث المحسوس، ومن حيث المعنى: خرج أنبياء الله الصالحون وخرج الصحابة الكرام والتابعون من بطون كانت في جاهليتها غير مؤمنة، وخرج كفار من أرحام مؤمنة.
ومن قدر له الله الخير أدركه، سواء كان البطن الذي احتواه بطن مؤمن أو بطن كافر، قال تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:19]، فتجد الأرض وقت الشتاء قد يبس نبتها وتحات شجرها وأصبحت جدباء، فإذا بالله الكريم يمطرها ويغيثها بالمطر، فإذا بها تهتز وتربو وتنبت أشكالاً وألواناً ومن كل زوج بهيج، فهذا أخضر وهذا أحمر وهذا أصفر وهذا أبيض، ومع أن الماء واحد إلا أن الزهر ألوان، ولو كان ذلك من الطبيعة فكيف يخرج من ماء واحدة وتربة واحدة أنواعاً من الثمار والأشجار والنباتات والطبيعة من خلقها؟ ولكن الكفر ألوان وأنواع.
{وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19].
أي: كما أخرج الحياة من الأرض الميتة وجعلها تربو وتهتز حياة، فبعد أن كانت يابسة وجدباء إذا بها تدخلها الحياة فتنبت أشجاراً ونباتات وبراعم وزهوراً وثمرات خضراء، وكما أخرج من الحبة الميتة الحياة فسيخرجكم ويبعثكم بعد موتكم أحياء كذلك مرة ثانية لتعرضوا عليه للحساب إما إلى جنة وإما إلى نار.(174/5)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب)
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20].
أي: ومن آياته ودلائل قدرته ومعجزاته ووحدانيته وعلامة إرادته ووحدانيته بالإرادة.
قوله: {أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم:20].
فقد خلق آدم من تراب وهو أصلنا وأبونا الأعلى، ثم جعلنا منه، فكنا في الأصل تراباً، ثم خلق منها زوجها، وخلق منهما نطفة ومن النطفة علقة ومن العلقة مضغة ومن المضغة عظاماً ثم كساها لحماً، ثم أخرجها بشراً سوياً إلى هذه الدنيا، وكان جسماً ضعيفاً لا يعقل ولا يعي ولا يبصر ولا يدرك، ثم إذا بهذا الإنسان الذي أصله تراب وماء مهين يتجبر على الله ولا يذكره ويسفك الدماء الحرام ويستبيح الأعراض الحرام، ويقول: أنا ربكم الأعلى، وينسى أنه بعد ذلك سيعود إلى شيب وضعف، ثم إلى تراب، ثم يحيا مرة أخرى ويعرض للحساب فيعاقب أو يكرم حسب عمله من الصالحات أو الطالحات.
وقوله: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20]، ونحن قد انتشرناها في الأرض مشارق ومغارب، جبالاً ووهاداً، أجواء وتراباً، ونحن على ما نحن عليه، فمن أكرمه الله عاش مؤمناً ومن سبق عليه كتاب الله في الأزل وغضب عليه كفر بكل ذلك وأشرك.(174/6)
خلق الإنسان من جميع تربة الأرض
وفي صحيح مسلم ومسند أحمد والسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع تراب الأرض، فجاء بنوه على قدر ذلك، منهم الأبيض والأسود والأحمر وما بين ذلك، وكان منهم الطيب الخبيث، وكان منهم السهل والحزن).
ومعنى الحديث: إن التراب الذي خلق منه آدم صنعه الله جل جلاله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وجعل تربته وطينته من تراب جميع الأرض، أي: من تربة خصبة منبتة وتربة جدباء لا تنبت، وتربة نتنة، وتربة صحراوية لا تكاد تبنت شيئاً، وتربة حمراء، وتربة سوداء، وحين ولد لآدم خرج أولاده على مقدار ذلك الجنس، فما كان من جنس التراب الأسود كان أسود، ومن كان من جنس التراب الأجدب الذي لا ينبت بليداً، ومن كان من جنس الأرض الخصبة المنبتة كان زكياً، وهكذا، فاختلاف بني آدم في ألوانهم وألسنتهم وعقولهم وفهومهم وذكائهم حسب التربة التي ورثوها عن أبيهم آدم، فآدم جمع في تربة خلقه وقيامه ووجوده جميع أنواع تربة الأرض، وقال في هذا المعنى صلى الله عليه وسلم أيضاً: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيرهم في الجاهلية خيرهم في الإسلام إذا فقهوا)، فالأرض التي فيها المعادن من الذهب والفضة من ملكها ملك الثروات الأموال الطائلة، وأرض ليس فيها معدن ولا نبات لا خير فيها.(174/7)
قيمة الإنسان بحسب إيمانه
وهكذا الإنسان لا قيمة له إلا إذا كان مؤمناً عالماً داعياً إلى الله في خدمة إخوانه المسلمين، وأما ماله فليس له منه إلا ما لبس فأبلى أو أكل فأفنى أو تصدق فأمضى.
وإما إن كان قارون عصره يجمع أنواع الزكوات والكنوز والثروات والأموال ثم يتخذ طغياناً وجبروتاً وتألهاً على الله ويأكل مال هذا زيادة على ماله ويطغى على ذاك وماله لا يستفيد منه فقير ولا قريب ولا محتاج ولا سائل فإنه عند الله لا وزن له أمام ذاك، والنبي صلى الله عليه وسلم مر أمامه في المسجد مسلم مروراً عابراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحاضرين: إذا طلب هذا الصهر أتصاهرونه؟ وكان يملك قامة وشكلاً ولوناً وهيئة ولباساً حسناً، قال: إذا طلب المعاملة أتعاملونه؟ قالوا: نعم، ثم مر غيره رجل مسكين عليه آثار الوهن والاحتياج في ملابس بالية لا يكاد يرفع رجله من الأرض إلا زحفاً فقال لهم: وهذا؟ قالوا: إذا حضر لم يعرف، وإذا غاب لم يفتقد، وإذا طلب الصهر لم يصاهر، فقال لهم نبي الله عليه الصلاة والسلام: (لهذا خير من ملء الأرض من مثل ذاك)، وهذا كما يقال في المثل: واحد كألف وألف كواحد.
إذاً: فهؤلاء الكفار المشركون بالله بأجمعهم لا يساوون قدم مسلم أسود مصل يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، بل قدمه أشرف منهم كلهم بملايينهم وملياراتهم.
وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هذا الذي أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام منافقاً.(174/8)
معنى قيمة الإنسان الحقيقية في هذه الأرض
إذا نسينا أصلنا الترابي أخذنا نتعاظم ونتكبر على بعضنا.
وقد حضرت مرة محاضرة لطبيب كيماوي قال فيها: إنه حلل إنساناً تحليلاً كيماوياً بعد أن وزنه وأتى بوزنه تراباً، ثم حلل ذلك التراب، فوجد ذلك الجسم الذي وزن ذلك التراب نفس المعادن التي في التراب من مياه وكبريت وملح وسكر وماء.
إذاً: فنحن تراب وإنما تغيرنا فقط، وهذا كما يأتي شخص إلى حب القمح فيطحنه فيصبح القمح دقيقاً ثم يعجنه فيصبح عجيناً ثم يخبزه فيصبح خبزاً أو حلوى أو غيره على ما يريد، وأصله تلك الحبة وتلك الزرعة وليس سواها، وهكذا الإنسان، ومن هنا قال الحكيم العربي: خفف الوطء يا صاح ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجساد أي: يا من تتعاظم على الله وتمشي في الأرض خيلاء متعاظماً خفف وطأك وامش قليلاً قليلاً ولا تتكبر وتتعاظم؛ فإن هذه الأرض التي تدوسها وتمشي عليها بقدمك هي من تراب آبائك وأجدادك، وكم فيها لك من أب وأم أصبحوا تراباً؟ يوشك أن تصبح أنت تراباً مثلهم، ويأتي أولادك بعدك فيدوسون عليك في خيلاء وتعاظم، فلم التعاظم وأنت من تراب وعائد إلى التراب.
وفي هذه الآية تتجلى القدرة الإلهية المفردة، فهذا التراب قد أصبح إنساناً سوياً وبشراً عاقلاً ورسولاً كريماً وعالماً صالحاً وصاحباً تابعاً وإماماً مرجحاً مرفوعاً إليه، وقد يكون العكس، فيصبح بطاشاً فرعون الأرض متكبراً خائناً، والكل من أصل واحد ومن تراب واحد.(174/9)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً)
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
أي: ومن آيات الله وقدرته أن خلق لنا من أنفسنا زوجة لنجد السكون والطمأنينة والراحة بعد الشغل والتعب والعمل في الخارج، وجعل بين المرأة وزوجها مودة وهي: المحبة، ورحمة وهي الشفقة والرأفة، بعد أن لم يكن بينه وبينها نسب ولا صلة، ولا يسمح بوجودها قبل أن يتزوجها، ولا تسمح بوجوده قبل أن تتزوجه، ثم أصبحت له سكناً ومطمأناً ومرجعاً يجد عندها راحته وموضع أسراره وموضع شكواه ولا يحل محلها أحد على عظمة الأب وحرمة الأم وما يقال لها لا يقال للأب ولا للأم ولا للولد، فهي موضع السكن والمودة، فيودها وتوده، ويرحمها وترحمه، ويرؤف بها وترؤف به، ويشفق عليها وتشفق عليه.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الروم:21]، أي: في هذا، {لَآيَاتٍ} [الروم:21] وعلامات على قدرة الله الواحد، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، أي: لهم عقول يديرونها في الفكر، ويفكرون بها ويخمنون ويحدثون ولا يعيشون سبهللاً كالدواب، بل يسألون أنفسهم: من خلقنا وأخرجنا إلى هذا العالم؟ وما هو أصلنا؟ وإلى أين نذهب؟ وهذا التفكر والاعتبار فرضه الله على كل إنسان، فهو في حق المؤمن واجب، وأما الكافر فلا يقبل منه إلا بعد أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد خلق الله حواء يوم خلق آدم من ضلعه الأيسر، كما في الصحيحين: (إن الله أخذ ضلعاً من أضلاع آدم وقال له: كن أنثى فكان أنثى على صورة آدم)، ولكن يفترق عنها بأنها لا لحية لها ولا شارب، وأن آلة الأنوثة غير آلة الذكورة، وما سوى ذلك فالذكر والأنثى خلقة واحدة، فلكل واحد منهما عينان وشفتان وأذنان وعقل وسمع وبصر، ثم هذا الذي خلقه من أنفسنا جعل بيننا وبينه مودة ورحمة، وكل ذلك من علامات قدرة الله وآياته الدالة على ألوهيته ووحدانيته، وأنه القادر على كل شيء.(174/10)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض)
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22].
أي: ومن علامات قدرة الله والدلائل القاطعة على وحدانيته وقدرته خلق السماوات والأرض وما بينهما، ومن الذي يستطيع أن يخلق مثل هذه السماء ويرفعها بغير عمد؟ أو مثل هذه الأرض بجبالها وأنهارها وبحارها وما عليها من إنس وجن وطير وحيوان، فمن خلقها وكونها غير الله جل جلاله؟ وهؤلاء البشر الذي كان أصلهم واحداً اختلفت ألسنتهم وألوانهم، ولا يشبه فيهم لون لوناً ولا لسان لساناً، فالألوان على تعدد البشر بالمليارات لا تجد أحدهم يشبه الآخر شبهاً كاملاً، بل لا بد أن يكون هناك فرق، وكذلك اللغات والألسن، فهذا عربي وهذا أعجمي وهذا فارسي وهذا أفغاني إلى غير ذلك، بل حتى اللسان الواحد في اللغة الواحدة في الأسرة الواحدة في الأب والأم والأولاد، تجد لصوت هذا لهجة خاصة ولصوت هذا لهجة خاصة، فإذا نادت الأم أو البنت دون أن تقول: أنا فلانة تعرفها بنبرة لسانها.
وهذا الاختلاف من يقدر عليه إلا الله، فنحن نصنع مصنعاً ونخرج منه ثياباً وأشياء بالملايين، وهذه الملايين كلها يشبه بعضها بعضها، بحيث إن الإنسان الخبير إذا أخذ ثوباً قال: هذا صنع إنجلترا، وهذا صنع فرنسا، وهذا صنع الشام وبلاد العرب، وهو لا يختلف عن بعضه بشيء، وفي الإنسان هذه الخطوط الموجودة في الأصابع لا تشبه أصبع أصبعاً، حتى أصبحوا يعتقدون أن التوقيع بالأصبع أصدق توقيع؛ لأن التوقيع يزور، وأما توقيع الإبهام فلا يزور.
لذلك بعض الدول أخيراً زورت جوازاتها وهوياتها فجددتها، وجعلت للقارئ ولغير القارئ أن يضع في ملفه بصمات الأصابع العشرة مع اسمه وصورته؛ حتى لا يدخلها التزوير بحال، فقد تزور الصورة ويدخلها تعديل، وقد يزور الاسم والتوقيع، وأما هذه البصمات فلا تزور.(174/11)
تفسير سورة الروم [22 - 27]
يذكر الله تعالى دلائل قدرته ووحدانيته تباعاً، وذلك حتى يعبده الناس وحده فيدخلهم جنته، ومن ذلك آية النوم بالليل والسعي بالنهار وخلق السماوات والأرض وأنه يبدأ الخلق ثم يعيده، وكل شيء قانت له سبحانه.(175/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم)
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22].
لا نزال نتتبع آيات الله جل جلاله في دلائل قدرته ووحدانيته، وفي نسق الآيات الكريمات خطاب للعقل والفهم والوعي، ولا يعرض عنها إلا من فقد دينه وعقله وفهمه ووعيه وإدراكه.
ومن آيات الله وعلامات قدرته ومعجزات بيانه ومخاطبته لقوم عالمين سامعين أن الله جل جلاله خاطب الناس بلغة عقولهم وبفهمهم، فلفت الأنظار بقوله: (ومن آياته) أي: ألا يرون هذه الآيات فيتساءلون: من خلق السماوات والأرض؟ ومن الذي يستطيع خلق هذا؟ فهذه السماء في علوها، والكواكب وأفلاكها وما فيها من خلق، أطت السماء من أجل ذلك وحق لها أن تئط، ومن الذي يستطيع خلق هذه الأرض بما عليها من جبال راسيات، وبحار جاريات، وخلق الخلق من كل لون وشكل جناً وإنساً، وطيراً وحيواناً؟ فمن الذي يستطيع رزقهم والقيام عليهم، وإحياء من يحيا وإماتة من يموت؟ وهذه الألسن المختلفات من عرب وعجم إلى مختلف لغات الأرض ولهجاتها، كيف لا يشبه بعضها بعضاً؟ واختلاف الألوان من أبيض وأصفر وأحمر وأسود، من خلقها ونوعها؟ إنه الله جل جلاله.
هذا خلق الله فأروني ماذا خلق العباد؟ وهم يكادون يعجزون حتى عن فهم خلق الله وقدرة الله وآياته المنوعة.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22]، قرئ (العالَمين) والعالِم من علم ما جهل، وعمل بما علم، والعالِمون هم العارفون بالله وبقدرته وآياته ومعجزاته وأنبيائه ورسله وكتبه.(175/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار)
قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم:23].
لو لم يخلق الله جل جلاله هذا الليل لينام الإنسان فيه ويستريح، ويسكن من أشغال النهار وتعبه جسداً وأعضاء وروحاً ونفساً، لعجز عن الحياة بعد بضع سنوات، وبالتالي لكف عن العمل، ولما قدر أن يقوم بما يجب عليه أن يقوم به عياءً وجهداً وتعباً، ولكن الله جل وعلا خلق الليل للمنام والراحة، وخلق النهار للتجارة والعمل والسعي والضرب في الأرض.
فمن آياته الدالة على قدرته أن خلق لكم الليل لتناموا وتستريحوا فيه، قالوا: وفي الآية تقديم وتأخير، {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:23]، أي: يكون النهار للتجارة، والعمل والسعي والضرب في الأرض، فجعل النهار ليبتغي الإنسان فيه ما يرجوه من فضل الله من نماء ومال وعمل وحياة، فكان النهار معاشاً وكان الليل لباساً سباتاً، ذكر النهار عن ابتغاء الفضل لفهم ذلك من خلال الكلام، ويصح التقديم والتأخير إذا لم يحدث لبس في المعاني، والتقدير: وابتغاؤكم من فضل الله بالنهار.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم:23]، (لآيات) أي: لدلائل وبراهين قاطعة لقوم يعون ويتفكرون ويسمعون، يعني: السمع الذي يكون معه وعي وفهم وإدراك.(175/3)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً)
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:24].
أي: من قدرة الله وآيات وحدانيته ودلائل ألوهيته فيما خلق وذكر من نسق هذه الآي المتتابعات: البرق الذي يرى في أجواء السماء، الذي خلقه خوفاً وطمعاً.
فالإنسان حين يرى البرق يخاف أن يكون بداية لصواعق، أو زلازل ومصائب، فتجده يخاف ويرهب من شكله ووميضه، كما يكون هذا البرق رجاء وطمعاً حيث يكون بداية مطر وغيث، يكسو الأرض بالخضرة بعد جدبها وجفافها، فيحيي الله به بلدة ميتاً قاحلاً، فتصبح الأرض وقد اهتزت بأنواع الأرزاق والحبوب والفواكه والثمرات.
وهكذا يلفت الله جل جلاله أنظار من له عقل وسمع وفهم وإدراك بالنظر في هذه الطبيعة، التي هي من خلق الله ليلاً ونهاراً، سماء وأرضاً، برقاً ومطراً، حياة للأرض بعد الجدب، ثم هي بعد ذلك تؤتي أكلها من كل زوج بهيج.
إذاً: الله سبحانه يخاطب من يدرك ويعقل ويعي بعرض هذه الآيات منسقة متتابعة، لعل السامع يكون ممن يعي ويدرك، ويؤمن ويأخذ العبر، فهذه الأمطار تنزل إلى الأرض وقد أجدبت ويبست ولا نبات فيها ولا خضرة ولا ماء، وإذا بها حية بأمر الله، وإذا بالشجر يورق ويخضر، وإذا بالثمار تزهر، وإذا بها تبدو أشكالاً وأنواعاً وألواناً من الحب الذي نأكله والحيوان والطير، ومن الفواكه أشكالاً وأنواعاً، ومع أن الماء واحد إلا أن الزهر والثمرات أنواع.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:24]، أي: إن في ما أراد الله مما تراه العين وتسمعه الأذن ويعيه القلب لآيات بينات لمن رزق العقل والوعي والفهم، أما من مشى في الأرض بعين لا يرى بها، أو سمع لا يسمع به، أو قلب لا يفقه به فهو كالأنعام، بل هو أضل.(175/4)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره)
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25].
أي: ومن آيات الله وعلامات قدرته ووحدانيته وأنه القادر على كل شيء وحده هذه السماء التي نراها فوقنا، وهذه الأرض التي نحن عليها، فمن الذي أمر بقيام هذه السماء بلا عمد تحملها وتتكئ عليها وتعتمد عليها؟ إنه الله جل جلاله القادر على حملها وخلقها وبقائها بغير عمد، ما دام يريد ذلك إلى أن تنتهي السماء والأرض بالقيامة، بأن تصبح كالعهن المنفوش، ويفنى كل شيء إلا وجه ربنا ذو الجلال والإكرام، فيفنى الخلق ويبقى الخالق وحده.
وهذه الأرض وما عليها من جبال راسيات، وبحور جاريات، وأرزاق متتابعة، وخلق فيها من كل شكل ونوع، ومن إنس وجن، وطير وحشرات، من الذي قام بذلك؟ وبأمر من قام كل ذلك؟ وكيف بقي ذلك كل هذه القرون وإلى أن تفنى الدنيا؟ إنه الله جل جلاله الذي خلق ذلك ودبره ونظمه جل جلاله، فلا يقدر أحد أن يفعل ذلك سواه، فكل ذلك يدل على وحدانيته وقدرته وإرادته، وصور هذه الحقيقة ذلك الشاعر العربي الحكيم: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد في كل شيء من إنسان وحيوان، ومن جماد سماء وجماد أرض، ومن فصول مختلفة، ومن أمطار وجدب، ومن غيث وصواعق وزلازل، وكل ما تراه العين وتسمعه الأذن ويعيه القلب، كل ذلك يدل على قدرة الواحد الأحد الذي لا شبيه له في ذات ولا في صفة ولا في فعل، تعالى الله وجل، فهو القادر على كل شيء.
وقوله: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25]، أي: ثم بعد الموت والفناء والذهاب والاضمحلال يدعو الله الخلق بما فيهم عباده، فيأمرهم بالعودة بعد الموت، وبأن يخرجوا من الأرض التي عاشوا عليها وخلقوا منها ثم رجعوا لها تراباً، ثم إذا بهم يخرجون منها كما ماتوا في حال الدنيا قوة وضعفاً، وذكورة وأنوثة، وصغراً وكبراً، فيمتثل الكل أمام الله للعرض عليه، فيجازي المحسن على إحسانه بالجنة، والمسيء على إساءته بالسوء والعذاب والنقمة.(175/5)
تفسير قوله تعالى: (وله من في السماوات والأرض كل له قانتون)
قال الله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم:26].
أي: أن الخلق كلهم لله، و (من) اسم موصول يطلق على العاقل فقط، ويطلق على العاقل ومعه غير العاقل، كما أن (ما) تختص بغير العاقل وقد تطلق على غير العاقل مع العاقل، فالله عندما يقول لنا: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:26] أي: من عاقل وغير عاقل، من ملك وإنس وجن وحيوان وطير وحشرات ودواب، الكل لله، فالأرض والسماء وما بينهما وما عليهما وما فيهما لله وحده، الكل آت عبداً له وملكاً من أملاكه وخلقاً من خلقه وعبيداً من عبيده، يتصرف فيها كما يتصرف المالك في ملكه فلا يسأل عما يفعل، فكل ذلك لله، وهو الذي ما في الكون لعباده المؤمنين، بل لبني آدم جميعهم كافرهم ومؤمنهم، فيجازي المؤمن على شكره وحمده، ويجازي الكافر على جحوده وكفره بهذه النعم المتتالية، ولتبقى حجة الله عليه هي البالغة.
وقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم:26].
(كل) هذا التنوين يسمى في لغة العرب تنوين العوض، ويعوض به عن كلمة مفردة أو عن جملة، والمعنى: كل خلقه المذكورين من سماء وأرض ومن فيهما قانت لله، والقانت: هو المطيع، فكل خلق الله مطيع له سبحانه طاعة كونية، وإنما تكون معصية الكافر في الطاعة الشرعية، وإلا ففي سوى ذلك يكون الكل مطيعاً، المؤمن والكافر، فإذا قيل للكافر: مت فإنه يموت، وإذا قيل للكافر: قم بإذن الله فإنه يقوم، وحين ينزل الكافر نطفة من صلب أبيه إلى رحم أمه وأمر أن يتخلق بعد النطفة مضغة فعلقة فعظاماً فلحماً فجنيناً كاملاً فوليداً ثم يخرج للوجود ثم يكون شاباً، ثم يكون شيخاً، ثم يعود إلى الأرض ليكون تراباً، ثم يقوم مرة ثانية كان في كل ذلك سميعاً مطيعاً.
وهذه الكلمة (قانتون) إذا وردت في القرآن فهي بمعنى (مطيعون)، سواء كانت مفردة أو جمعاً أو مصدراً، والآية تحمل على أن كل من في السماوات والأرض هم ملك عبيد له، وأن الكل طائع له، وأنهم تحت أمره ونهيه وتحت جلاله وقهره.(175/6)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه)
قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27].
أي: هو الذي أنشأنا وأنشأ أمثالنا من خلقه وعباده على غير مثال سابق، بل أخرجهم للوجود من العدم، فالذي بدأهم سيعيدهم تارة أخرى، فلا يعجزه أن يعيد حياتنا بأشباحنا وذواتنا وأجسامنا وأرواحنا.
وقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]، أي: أهون بالنسبة لله جل جلاله، وأهون بمعنى: هين، فالبدء عليه هين، و (أفعل) هنا ليست على بابها؛ لأن (أفعل التفضيل) في لغة العرب تقتضي المشاركة والزيادة، أي: بدء الخلق هين على الله ويسير وسهل، وعودته بعد الفناء أهون وأيسر عليه، فقد يكون بالنسبة لعمل الخلق هذا هين وهذا أهون، وهذا صعب وهذا أصعب، وهذا كبير وهذا أكبر، أما بالنسبة للخالق الكبير المتعال، فإن خلق كل شيء هين عليه بداية وإعادة.
وقد تكلم قوم فقالوا: (أهون عليه) أي: الخلق، فالمعنى: خلقنا مرة ثانية أهون علينا من المشقة الأولى والتعب، ويعنون بذلك: ما لقيناه في الخلقة الأولى من كوننا خلقنا في أصلاب الآباء وتسلسل ذلك إلى الأب المباشر، ثم نزول النطفة في رحم الأم، ثم تخلق بعد ذلك في أطوار ومراحل فكان علقة فمضغة فعظاماً، ثم خلقاً سوياً كاملاً، فذلك أصعب على الإنسان ولكن في الحياة الثانية سيكون أسهل على الخلق، فما أن يأمر الله الأرض بأن تخرج ما في بطونها ويأمر الخلق أن يعودوا مرة ثانية إلا قاموا مستجيبين لله دون حاجة لتلك الأطوار الأولى من نطفة فعلقة، ومن حياة صلب فرحم فحمل فبيت فأسرة مستقلة، فعودة إلى التراب، ولكن هذا الذي قالوه نحن لا نشعر به سواء كان هيناً أو كان أهون، أو كان صعباً أو كان أصعب، والمعنى هنا كما قال ابن عباس: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] الكلام متعلق بالله جل جلاله.
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم:27]، أي: هو خالق الخلق وخالق كل شيء من الليل، والنهار، والنوم في الليل، والسعي في النهار، والمطر، والرعود والبروق، والسماء والأرض، ومختلف الألوان واللغات، ومما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وهو الله الموصوف بالخلق والإيجاد والإعادة سبحانه وتعالى.
وقوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:27].
المثل: الشبه، ولا شبه لله، وإنما المعنى: (وله المثل الأعلى)، أي: له الصفة العالية في أنه الواحد في ألوهيته وربوبيته وصفاته، وهو المثل الأعلى الذي لا يصل إليه خلق من خلقه، ومنه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، والمعنى: لا كفء له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
وقوله: {فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:27]، أي: هو الله في السماء، وهو الله في الأرض لا إله إلا هو، له خلق السماوات كما له خلق الأرض، وهو المنفرد بتدبير السماوات كما انفرد بتدبير الأرض، وإلا فهو مستوٍ على عرشه، كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27]، أي: العزيز الذي لا يغالب ولا ينازع، وهو ذو العزة والجبروت، الخاضع لعزته ولجلاله كل من في السماوات ومن في الأرض، الحكيم في خلقه وأمره ونهيه، والحكيم هو من يضع الأمور في مواضعها، فالله هو الحكيم جل جلاله في سماواته وفي أرضه، وفي أوامره ونواهيه جل جلاله.(175/7)
تفسير سورة الروم [28 - 32]
يثبت الله لنا وحدانيته لا شريك له بطرق متعددة، ومن ذلك ضرب الأمثال التي تقرب المعنى، وقد ضرب لنا مثلاً فيما ملكت أيماننا وأننا لا نجعلهم شركاء في أرزاقنا، ولذا يجب في حقه تعالى أن نقيم وجوهنا للدين حنفاء ولا نكون من المشركين الذين فرقوا دينهم.(176/1)
تفسير قوله تعالى: (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء)
قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:28].
يضرب الله لنا الأمثال والأشباه والنظائر ليقرب لنا المعنى وييسر لنا الفهم، كما أن القرآن نزل بلغة العرب، ولغة العرب من تمام بلاغتها وبيانها وفصاحتها أنها كلها أمثال، وقد نقل عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل).
فقوله: (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم)، أي: ضرب الله لنا شبيهاً ومثيلاً من نوع أنفسنا ومن خلق كخلقنا، وهذا الشبه والمثال فيما ملكت أيمانكم.
والمراد بقوله: (من ما ملكت أيمانكم) أي: العبيد والإماء الذين تملكونهم، فهل تعتبرون عبيدكم شركاء في أرزاقكم وأموالكم، فأنتم في هذا المال سواء تتصرفون منه تصرفاً واحداً، وتملكون ملكاً واحداً؟ وقوله: {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [الروم:28].
أي: تخافون عبيدكم ومواليكم وإماءكم كما تخافون أنفسكم أيها الأحرار في أن ينازعوكم الشركة في مال، أو تجارة أو زراعة، أو ينازعوكم الشركة في إرث، هل عبيدكم كذلك.
وإذا لم يكن الأمر كذلك فلم تجعلون لله ما تكرهون، فجعلتم لله البنات سبحانه، فقلتم عن الملائكة: بنات الله، في حين أنكم إذا بشر أحدكم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على ظلم وهوان ومذلة، أم يدسه في التراب ويدفنه حياً؟ فأنتم تريدون الأولاد وتنصبون لله البنات، ولكم عبيد لا يملكون معكم شيئاً، بل أنتم تملكونهم وأملاكهم، وإذا رزقتم رزقاً فلو حاول أحدهم أن ينازعكم ملككم أو يشارككم فيه لغضبتم من ذلك، ولو حاولوا أن يجعلوا أنفسهم معكم في الرزق لأغضبكم ذلك ولكرهتموه، فكيف تقبلون وأنتم خلق الله وعبيد الله وإماء الله أن تكونوا شركاء مع الله في ملكه أو في وحدانيته أو في إرادته؟! وقوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:28].
أي: نبينها ونوضحها، فنذكر مجملها وتفاصيلها، ونبين مفرداتها وجملها؛ لعلكم تعون وتعقلون، فتقولون يوماً: ربنا الله، فتموتون موحدين، فتفوزون بالرضا وبالرحمة والجنان.(176/2)
تفسير قوله تعالى: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم)
قال الله تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم:29].
(بل) إضراب، أي: اضربوا عن الكلام الماضي، فمن فهم من ضرب أمثاله واعتبر فقد فاز، ومن وقف أمامها أعمى لا يبصر، أصم لا يسمع، مغمى القلب لا يفقه، كان كالأنعام، بل هو أضل.
{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم:29].
فقوله: (الذين ظلموا) الظلم هنا الشرك، والمعنى: بل هؤلاء ظلموا أنفسهم فأشركوا بالله، وتجاوزوا حق الله في أن يوحدوه، فالله غني عن خلقه، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [فاطر:15]، أي: الغني عن العباد وعبادتهم.
قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37].
فقوله: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم:29]، أي: بل هؤلاء الكافرون الظالمون اتبعوا أهواءهم ونزعاتهم ومعتقداتهم التي ليس الدافع لها إلا الهوى والغرور، ولا حامل لهم عليها إلا النزوة والشهوة بلا منطق من عقل، ولا كتاب من الله، ولا رسالة من نبي، وإنما بدا لهم أن يقولوا ما لم يعملوا، فقالوا الظلم والباطل، وقالوا ما لا يقبله عقل سليم؛ اتباعاً لأهوائهم، وامتداداً لظلمهم وشركهم بالله.
وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم:29].
أي: لا علم لهم من سماء ولا من أرض، ولا دليل لهم من كتاب ولا سنة ولا عقل.
وقوله: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [الروم:29].
أي: هؤلاء الذين أبوا إلا الضلالة فضلوا وأضلوا، من الذي يقدر على هدايتهم وقد أضلهم الله؟ يقول الله لنبيه ولأتباعه وللعلماء بالله وبالسنة: إن من أضله الله لن يصلحه ولن يهديه أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا صالح من الصالحين، وليست الهداية على الرسل ولا غيرهم، إنما على الرسل إلا البلاغ، {أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]، وقال سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وقال عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272]، لكن على الرسل والعلماء أن ينشروا علم الكتاب والسنة، ويبينوا ذلك ويشرحوه ويفسروه للناس، فمن قبل فذاك، ومن لا فقد قاموا بما عليهم، وتبقى الحجة البالغة على هؤلاء الضالين المضلين.
وقوله: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم:29]، أي: لا ناصر لهم غير الله، ولا لهم منقذ من الضلال إلا الله، ولو علم الله في أنفسهم خيراً لآتاهم خيراً، ولكنهم أبوا إلا الضلالة والإصرار عليها، فزادهم الله ضلالاً على ضلال؛ لأنهم أرادوا ذلك، فأصموا آذانهم عن الوحي وأعرضوا عن الإسلام.(176/3)
تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها)
قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
فقوله: (فأقم وجهك للدين حنيفاً)، أي: أقم وجهك يا محمد! فاجعله متفرغاً مسدداً إلى الدين، والحنيف المائل للحق، والمائل عن الباطل، والحنيفية ملة أبيكم إبراهيم، وأتمها الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فرائض وأركاناً، وواجبات وسنناً.
والخطاب للنبي تدخل فيه أمته، والمعنى: ولتقم أمتك معك وجهها ودينها وطاعتها وعبادتها لله، فتتجه للدين الحنيف، دين الإسلام، دين الحنيفية السمحة، هذا الدين الذي خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله فقم عليه أنت مدة حياتك، فاجعل نفسك ووجهك واتجاهك لله وحده مخلصاً له الدين، دون مراءات ولا تسميع، وكما أنه أمر للنبي صلى الله عليه وسلم فهو أمر للناس جميعاً، فمن آمن فقد آمن ونفسه هدى، ومن لم يؤمن فنفسه أضل وما أضل غيرها.
فقوله: {لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم:30].
الدين هو ما دان به الإنسان، وخضع له، وتمسك بحقائقه، وجعله معتقداً ينطوي عليه قلبه وجنانه، ولذلك لا يقال عن الأمور الدينية: نظريات أو صور أو دراسات لا يقول ذلك إلا شاك أو مرتاب، ولكن الدين ما أدان الإنسان به قلبه ونفسه، واتجه إليه بكليته ولم يشرك به أحداً، بل كان خالصاً لله وحده بقلبه ظاهراً وباطناً، واستمر على ذلك حياته كلها.
وقوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ} [الروم:30].
أي: هذا الدين فطرة الله، و (فطرة) مفعول مطلق من فطر، ومعناها: أن الله فطر الخلق على الإيمان، فخلقهم بفطرتهم مؤمنين موحدين، يوم خلق آدم وذريته في صلبه، وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172].
ثم عندما نفخت الأرواح في الأجسام فمن كان مؤمناً طائعاً آمن جسمه كما آمنت روحه، ومن كان كافراً بقيت روحه على فطرتها وأبى إلا الكفور والجحود والعصيان.
قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] أي: فطر الخلق كلهم، وفي الحديث الوارد عن جابر بن عبد الله وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم وغيرهم كما عند أحمد في المسند وفي الصحيحين والسنن الأربع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يوم خلق الخلق خلقهم وفطرهم على الإيمان فاجتالتهم الشياطين).
وفي الحديث القدسي: (خلقت الخلق وفطرتهم على الإيمان فاجتالتهم الشياطين فبدلوا أديانهم)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام ومعنى اجتالتهم: أبعدتهم، فغيرت وبدلت.
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فطرة الله التي فطر الناس عليها هي الإسلام)، أي: هي الدين، فالله فطر العباد يوم فطرهم على الإيمان.
وقال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء ليس فيها جدعاء)، أي: كما تلد البهيمة فصيلها سالماً من الجدع، وهو: قطع الأذن أو قطع الأنف، كما كان أهل الجاهلية يفعلونه في الحيوانات، ويجعلون لله ما يكرهونه، ويقولون: هذا لله في زعمهم، وهذا لشركائهم، والله خلقها يوم خلقها سالمة ليست جدعاء.
وهكذا خلق الخلق جميعاً موحدين ليس فيهم يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، فإذا كبر الوليد فأبواه ينصرانه أو يكفرانه أو يهودانه أو يمجسانه، وكان عمر رضي الله عنه أيام خلافته يكتب لسفرائه وأمرائه وقواد جيوشه بألا يدعوا النصارى ينصرون أولادهم، وألا يدعوا اليهود يهودون أولادهم، وألا يدعوا المجوس يمجسون أولادهم، فكل مولود يولد على الفطرة -والفطرة: الإسلام- ولكن الوالدة والبيئة والنشأة هي التي تغيره، فتجد أن الولد يولد مؤمناً، ويعيش معك في البيت مؤمناً، فإذا أرسلته إلى أمريكا أو أوروبا أو إلى اليهود أو النصارى أو الشيوعيين أو الاشتراكيين إذا بهم يغيرون دينه من إيمان بالله إلى إيمان بشياطين الدنيا والآلهة الكذبة والمتنبئين الكذبة مثل: ماركس ولينين وأمثالهما من الطواغيت أعداء الله والرسل الكرام وأعداء الأديان كلها وخاصة دين الإسلام.
فالإسلام هو فطرة الله التي فطر الله الناس عليها جميعاً مؤمنهم وكافرهم، ولكن الكافر أضله أبواه، والمؤمن بقي على إيمانه، فإن وجد أباً وأماً صالحين فذلك من حسن حظه وسعادته، وإن كان غير ذلك فمن شقاوته ومما قدر الله عليه في سابق أجله في اللوح المحفوظ.
وقوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، (لا تبديل) خبر بمعنى الأمر، أي: لا تبدلوا خلق الله، ولا تغيروا التوحيد إلى الشرك، ولا تغيروا الإسلام إلى النصرانية أو اليهودية أو المجوسية أو الشيوعية التي تعبد ماركس ولينين.
وجميع هذه الأديان المستوردة باطلة، وهي مجوسية جديدة وفساد وباطل جديدين، فقد كانوا يعبدون النار والظلمة، وما زالوا كذلك، ولكن في كل عصر يجعلون لذلك مظهراً، فجعلوا في هذا العصر مظهر الظلم والكفر والشرك وتبرج المرأة والبعد عن الله، حتى أصبح هذا العصر عصر الذين يخرجون من دين الله أفواجاً وعصر المجوسية الجديدة في الشرك بالله وعبادة أناس جمعوا الأقذار والأوساخ والظلمات، مثل: ظلمة الشرك والعقل والحياة وظلمة الإنسانية والكرامة والشرف، وهؤلاء هم آلهتهم الجديدة التي عكفوا على عبادتها من دون الله.
قال تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، أي: لا تغيروا خلق الله من الإيمان والتوحيد الذي خلقكم عليه، ومن يفعل ذلك فلا يلومن إلا نفسه، وما هي إلا أعمالكم يجمعها الله لكم يوم القيامة، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]: بقيت دهراً لا أفهم هذه الكلمة (فطرة)، إلى أن سمعت بدوياً يقول لآخر مثله: أنا الذي فطرتها، يعني بذلك: هو الذي زرعها، وهو الذي وقف على قيامها إلى أن أينعت وأثمرت وأنتجت، قال: ففهمت المقصود بقوله: (فطرة الله)، أي: الذي ابتدأ خلقها من غير مثال سابق، فهو الذي أنشأها أول نشوئها، فهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده.
قال تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30].
أي: ذلك دين الحنيفية والفطرة التي فطر الله الناس عليها يوم خلقهم وفطرهم وأنشأهم، وهو الدين الذي يجب أن يدين به كل إنسان.
و (القيم): ذو القيمة والسداد والحق والصواب، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
فالإسلام هو الدين الذي نسخ الأديان السابقة وكانت قد غيرت وبدلت دخلتها الوثنية وعبد فيها عيسى ومريم والعجل، وقال اليهود عن أنفسهم: إنهم أبناء الله، فأصبحت اليهودية والنصرانية وثنيتين كبقية الأوثان، ثم صنفت طبقات الكفار إلى وثنيين من أصل كتابي، ووثنيين من أصل أصيل كالمجوسية.
قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
وهم جميع الكفار وهم أكثر الناس، وأكثر الناس لا يعلمون أن الإسلام هو الدين الحق، وأنه الدين القيم الحنيفي، وأنه دين إبراهيم الذي ارتضاه الله للناس عندما أرسل له مجدداً خاتم الأنبياء محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهم لا يعلمون ذلك، بل قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
فأكثر الناس لا يعلمون، وأكثرهم كافرون ومترددون وشاكون ومرتابون في الإسلام، والشك في الإسلام كفر؛ لأنه يشك بأن الإسلام ليس ديناً صحيحاً، فهو يعيش ضالاً وإن بقي كذلك فسيموت ضالاً.(176/4)
تفسير قوله تعالى: (منيبين إليه واتقوه)
قال تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31 - 32].
يأمر تعالى خلقه وعباده بالتعلق بهذا الدين القيم الحنيفي دين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فقال تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم:31]، أي: راجعين إلى الله.
فهؤلاء الذين آمنوا بالدين القيم وبالحنيفية السمحة وبالفطرة التي خلق الله الناس عليها يوم فطرهم وخلقهم وأنشأهم هم منيبون إليه راجعون تائبون خارجون عما عندهم من شكوك وأوهام، ومن باب أولى عما عندهم من شرك وكفر، فهم راجعون إلى الله، وإلى دينه الحق، تائبون مما كانوا عليه من وثنية وشرك.
وقوله: (منيبين إليه) من الإنابة، وهي: العودة والرجوع، أي: العود إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي الإسلام، فهو خلقهم يوم خلقهم مؤمنين مسلمين، ثم بدلها الآباء والأمهات والبيئات فأفسدت دين الإسلام والإيمان في نفوس الكافرين ممن رضوا الكفر، وأما الدين في نفسه فهيهات هيهات، لقد صانه الله عن كفر الكافرين ونفاق المنافقين، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فحفظه الله في الصدور والكتب، وحفظه قرآناً وسنة وشريعة ولغة، ونحن نجده اليوم وبعد مضي ألف وأربعمائة عام وكأنه لا يزال غضاً طرياً، فالقرآن الذي كان يتهجد به صلى الله عليه وسلم ويدعو قومه إليه نتهجد به نحن، وندعو إليه، والسنة التي كان بها يأمر صلى الله عليه وسلم الخلق كذلك نحن ندعو إليها اليوم، فما بدل شيء ولا غير، وحتى اللغة هي هي لغة القرآن الكريم، ولغة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: (واتقوه) أي: اتقوا الله من الكفر به، أو من الكفر بكتابه أو بنبيه، واجعلوا بينكم وبينه وقاية من الطاعة تقون بها أنفسكم من النار ومن عذاب الله ومن المخالفة والمعصية، كما قال تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
ثم قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم:31].
أي: بعد التقوى التي هي التزام باللسان، يأتي الالتزام بالعمل بعد الشهادتين، وهو إقامة الصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها بأركانها وبشرائطها وبواجباتها وبسننها وبتلاوتها وبأذكارها وبقيامها وبركوعها وبجلوسها وبسجودها وبتكبيراتها وبالسلام منها، فحافظوا عليها دواماً وأبداً إلى لقاء الله، فلا عذر في تركها إلا للمجنون أو الصغير غير البالغ، وغير البالغ أيضاً يلزم بها من قبل أوليائه إذا بلغ سبع سنين، ويضرب على تركها وهو ابن عشر.
وهذه الصلاة إن استطاع صلاها قائماً، فإن لم يستطع فجالساً، فإن لم يستطع فعلى جنب، وإن لم يستطع بالماء فبالتراب، فإن لم يستطع ماء ولا تراباً فبلا ماء ولا تراب ولا تترك.
ولو سمح الله بترك الصلاة لأحد لسمح بتركها للمجاهدين وهم مقبلون على الموت، وعلى بذل أرواحهم رخيصة لله، ومع ذلك أمروا بأن يصلوا صلاة الخوف، بأن تقوم جماعة ثم تتلوها جماعة، فيقاتل هؤلاء ويصلي هؤلاء، فتؤدى الصلاة ولو بتكبيرة أو بتسبيحة أو بالعين كما يصلي المريض والمشلول الذي لا يستطيع حركة، فإنه يحرك عينه ويصلي بقلبه ولا تترك الصلاة بحال من الأحوال، فلا يتركها إلا كافر أو معتوه أو صغير غير بالغ.
ثم قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31].
أي: ولا تكونوا يا أيها الناس! ممن أشركوا بالله في وحدانيته وفي ألوهيته وفي ربوبيته وعبوديته، بل وحدوا عبادته.
قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} [الروم:32].
فالدين واحد كما أن النبي واحد، وكما أن الرب واحد، فمن حاول أن يجعل من الدين دينين فقد أشرك بالله، فلا تتفرقوا في الدين، ولا تكونوا كالنصارى واليهود والمجوس وبقية ملل الكفر، ولا تفرقوا دينكم الإسلامي فتنقسمون إلى سنة وشيعة وخوارج ومعتزلة وقاديانية وبهائية، وإلى كل تلك الفرق الضالة، بل كونوا على ما كان عليه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت النصارى على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت اليهود على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! ومن هي؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي).
ومن هنا كانت دراسة السيرة النبوية هي الحل للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في المنام واليقظة وفي الجهاد والسلم، منذ خرج صلى الله عليه وسلم من هذه البطاح المقدسة وهو يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، فمنذ ذلك الوقت فما دعا إليه صلى الله عليه وسلم وكان عليه أصحابه من المهاجرين والأنصار فهو الدين الحق، فيجب دراسة سيرته النبوية، ليعلم الإنسان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم ودراسة تراجم الصحابة الكرام، ليعلم الإنسان كيف يهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، ويعلم هدي الصحابة؛ ليكون على طريقتهم ومنهجهم، وهذا هو من أطلق عليه منذ العصور الأولى أهل السنة والجماعة ونحن منهم، ونرجو الله أن يجعلنا معهم ويحشرنا على دينهم، دين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه الأول.
فقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم:31 - 32]، أي: كانوا أحزاباً وأنواعاً، مثل قولهم: هذا خارجي، وهذا يهودي، وهذا نصراني، وهذا شيعي، بل وهذا شيوعي، وهذا ناصري، وهذا اشتراكي، وهذا وجودي، وكلها ملل باطلة ومذاهب ضائعة، فهي مذاهب للشيطان ولتفريق الدين، والدين الحق هو القرآن الكريم والسنة المحمدية المطهرة التي طبقها صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين الأولين والأنصار السابقين، والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين.
ثم قال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32].
فهذه الأحزاب والملل الكافرة المكشوفة والمذاهب التي تدعي الإسلام وهي ضالة مضلة الإسلام؛ بريء منها، وهي كلها فرحة بطرة تائهة ضائعة ضالة، تظن نفسها على شيء، فكل حزب من هؤلاء وكل شيعة منهم وكل طائفة منهم تظن أنها على شيء، فتفرح بطراً وتيهاً وتشتم غيرها وتذمه وتنتقصه؛ في حين أن النقص والضلال هو الذي هي فيه وتعيش على أساسه وأصوله.(176/5)
تفسير سورة الروم [33 - 39]
الإنسان محتاج إلى ربه مفتقر إليه؛ لكن المشرك إذا أصابه ضر وبلاء أناب إلى الله وحده، فإذا كشف البلاء تذكر أوثانه وعاد إلى شركه، والله تعالى يعالج هذه المعضلة في كتابه، فيدعو إلى الرجوع إليه، فإنه الباسط للرزق، الضار النافع وحده.(177/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم)
قال الله جلت قدرته: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33].
يقول الله تعالى عن هؤلاء المشركين الضائعين: إنهم إذا أصابهم ضر وبلاء نسوا شركاءهم وأصنامهم وأوثانهم ودعوا ربهم راجعين إليه منيبين إليه وضارعين راجين له.
{ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} [الروم:33]، أي: أصابهم بالرحمة وأجاب دعاءهم وأزال ما بهم من ضر، {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33]، أي: إذا طائفة وجماعة منهم يشركون بربهم، وكأنه لم يصبهم يوماً بلاء أو فتنة، ونسوا ما كانوا فيه من ضر وبلاء، وعادوا إلى الشرك والكفر، فهذا شأن الناس في جحودهم وكفرهم، إذا أصابهم الضر والبلاء تضرعوا إلى الله ودعوه راجين رحمته وإنقاذه، حتى إذا أنقذهم واستجاب لهم إذا فريق منهم -وهم الكافرون بالله- يعودون بعد ذلك إلى الشرك والكفر والجحود وعلى ما تربوا عليه ونشئوا عليه.(177/2)
تفسير قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم)
قال تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الروم:34].
أي: جعلوا ذلك ليكفروا، وهذه اللام عند النحاة هي: لام العاقبة، أي: لتكون عاقبتهم الشرك والكفر والجحود، أي: أنهم بعد أن أنقذوا استجيب لهم فبدلاً من أن يشكروا الله تعالى ويحمدوه على ما أعطاهم إذا هم يشركون بربهم ويكفرون بما آتاهم من إنقاذهم.
فتوعدهم الله وتهددهم بقوله: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل:55].
أي: مهما عشتم وطالت أعماركم فمآلكم إلى الله ورجوعكم إليه، فسوف تعلمون ما سيصيبكم إذ ذاك مما أنذركم به رسلكم وأنبياؤكم وما تهددوكم به من عقاب ربكم الأليم.
فقوله تعالى: (فتمتعوا) أي: اصنعوا ما شئتم، فليس هو أمراً بأن يتمتعوا بالخير، ولكنه وعيد وتهديد بعد أن لم يستجيبوا، فمآلهم إلى الله، وسيعلمون ما هيئ وأعد لهم من نار وعذاب أليم.(177/3)
تفسير قوله تعالى: (أم أنزلنا عليهم سلطاناً)
قال تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم:35].
أي: هؤلاء الذين أشركوا بالله هل لهم دليل على ذلك الشرك من عقل أونقل؟ فهؤلاء الكفار يتصرفون كما لو أنزل عليهم سلطان ودليل وبرهان من ربهم، والسلطان: الدليل والبرهان.
فهم يفعلون ذلك وكأن الله أمرهم بذلك، ومعاذ الله له أن يأمر بالفواحش والمناكر، أو أن يأتي عنه ما يدعو إلى الكفر والشرك به، ولكن ضياع عقولهم أفهمتهم ذلك بدون دليل أو برهان يتكلم على لسانهم بكفرهم وبشركهم.(177/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة)
قال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:36].
فهؤلاء الناس أمرهم عجب، إذا أصابتهم رحمة الله وذاقوها، وذاقوا الخصب والرفاهية، فرحوا بذلك وبطروا، وأخذهم التيه والخيلاء والتعاظم على الله؛ لما أعطاهم من الأعمار وقوة الأبدان والأرزاق والرفاهية.
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الروم:36].
أي: إذا أصيبوا ببعض أعمالهم وذنوبهم وجرائمهم، {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:36].
وإذا: للفجاءة، أي: إذا بهم يفاجئون أنفسهم والناس بأنهم قد قنطوا ويئسوا من رحمة الله ومن الرجوع إليه، فتجدهم دائمي التشتت واليأس والتبرم من الحياة والقنوط مما هم فيه، فإذا جاءت الرحمة والخصب والغنى والجاه والرخاء فرحوا وبطروا وتكبروا وأخذتهم الخيلاء على الناس، وإن أصابتهم مصيبة ببعض ما قدمت أيديهم -والباء للسببية، أي: بسبب ذنوبهم ومعاصيهم- إذا بهم يفاجئونك بالقنوط واليأس.(177/5)
تفسير قوله تعالى: (أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم:37].
أي: ألم يعلم هؤلاء من ذواتهم وعقولهم وفهومهم وواقع حياتهم: أن الله رزق أقواماً وأغناهم وبسط لهم الرزق والنعم والخيرات، وآخرين قدر عليهم رزقهم فعاشوا في ضيق وفقر، وقد فعل ذلك لحكمة هو يعلمها، ويعلمها من أكرمه بالفهم والوعي والإدراك.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الروم:37]، أي: في غنى الغني وفقر الفقير، {لَآيَاتٍ} [الروم:37] ودلائل وبراهين على معجزة الله وقدرته ووحدانيته لقوم آمنوا به وأسلموا وجوههم له.
وفي الأثر النبوي: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأفسدهم، وإن لله عباداً لا يصلحهم إلا الغنى، ولو أفقرهم لأفسدهم) وكثيرون هم الذين يكونون على حالة طيبة مرضية على فقرهم، فإذا استغنوا تعاظموا وتكبروا على خلق الله، وقد يتركون الأوامر والواجبات، بل وقد يشركون إن لم يكونوا قد أشركوا فعلاً، فكان الغنى بالنسبة لهم ضرراً عليهم وعلى إيمانهم ومستقبلهم.
وكثير من الناس الآخرين الذين في غاية الفقر والضيق وقلة الدين إذ أغناهم الله تعالى إذا بهم بعد ذلك يئوبون إلى الله ويعودون إليه، فيكثرون من الصدقات ومن العبادات ومن فعل الخيرات، ولكن هؤلاء قليل ما هم، والمعروف ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا)، أي: وزع ماله وفرق فضول أمواله للقريب والبعيد والسائل والمحروم في صدقات ونفقات واجبات، وصدقات تطوع ونوافل، وأما غير ذلك ممن كثرت أموالهم فقد أمسكوا أيديهم عن العطاء والبذل، فهؤلاء يا ويلهم! فقد هلكوا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هلكت أديانهم، هلكت حياتهم، هلكت سعادتهم)، فقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الروم:37]، أي: ألم يروا واقع الناس رجلاً غنياً وآخر فقيراً، ودولة غنية وأخرى فقيرة، وإذا كانت في فقرها تكون إلى المسكنة والطاعة أقرب، وإذا استغنت تتكبر على خلق الله وتستعمر البشر وتأخذ أموالهم بغير حق، فالله الذي يبسط الرزق والعطاء والخيرات يرزق بعضهم كثرة وبعضهم قلة، ولا يعطي بعضهم إلا القليل القليل مما يسد الرمق، وفي ذلك آيات بينات لمن آمن بالله.(177/6)
تفسير قوله تعالى: (فآت ذات القربى حقه)
قال تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم:38].
يقول تعالى آمراً: آت ذا القرابة من أرحامك وأقربائك الأقرب فالأقرب، أمك وأباك، ثم أختك وأخاك، ثم أدناك أدناك ممن هم في حاجة لك فآته من العطاء والنفقات والزكوات والصدقات ما يكفيه ويغنيه عن الناس، وعن مد اليد إليهم، وذاك حق من حقوقه، فحق على القريب ألا يدعه يمد يده للناس إذا احتاج، فإن أحوج أقاربه وأرحامه بأن يمد يده للغير وكان غنياً ساءت حاله وهلك دينه، وعليه أن ينتظر العذاب والنقمة من الله؛ لأنه قد أذنب وأساء.
والمسكين هو: الذي لا يجد ما ينفق، والمحتاج هو: من ليس له طعام يومه ولا كفايته فيما يطعم ويشرب ويلبس ويسكن، فهذا المسكين له حق على أغنياء الناس بأن يعطوه حقه، فـ (إن في المال حقاً سوى الزكاة)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19].
فمن صفة المؤمن حقاً أن في ماله حقاً للسائلين المحتاجين وللمحرومين المساكين، فإن لم يكن كذلك فإما أن يكون ناقص الإيمان، أو عديمه البتة.
وأما ابن السبيل فهو: ابن الطريق العابر الذي ليس من أهل البلد، وإنما هو سائح لمصلحة من المصالح فاحتاج ولو كان غنياً في بلده، ولكن بلده بعيدة عنه وماله ليس تحت يده، فله حق على من كان عنده غنى وفضول مال، فيجب أن يعطى ما يغنيه عن الناس طعاماً وشراباً وسكناً ولباساً إلى أن يعود إلى بلده.
وبعضهم فسر ابن السبيل: بالضيف الذي نزل عليك، فهو ابن سبيل؛ لأنه ليس مقيماً البتة ولا فرداً من العائلة، وإنما هو عابر، وللضيف حقوق، وقد كان ذلك عند العرب في الجاهلية، وكان ذلك من محاسنهم ومن مكارم أخلاقهم، فجاء الإسلام بتأكيد ذلك والإلزام على التمسك به ديناً وخلقاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وهذه من مكارم الأخلاق التي أتى النبي عليه الصلاة والسلام ليتممها ويكملها؛ حتى تصبح ديناً وخلقاً للمسلم.
وحق الضيف ثلاثة أيام بلياليها، وعلى المضيف في الثلاثة الأيام ألا يسأل الضيف عن اسمه ولا عن عشيرته، وإنما ذلك للضيافة في حقها، وأما السؤال فيأتي بعد ذلك، فإن وجده -ولم يكن قد ذكر له اسمه قبل- ذا عشيرة ماسة ورحم قريبة زاد من صلته، وكذلك يزيد من صلته إن كان ذا جوار سابق أو ذا صلة بالآباء والأجداد.
ومن الود أن يكرم الرجل أهل ود أبيه، فالضيف وعابر السبيل لهما حقوق مضاعفة وواجبات مترادفة، والله يعلمنا في هذه الآية الكريمة وأمثالها مكارم الأخلاق ومحاسن المعاملات مع القريب والبعيد، وقد أخبر تعالى بأن الرزق رزقه في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الروم:37].
والذي بسط له رزقه أوجب عليه فيه واجبات من صلة الأرحام والمساكين والصدقات لعابري السبيل، وأوجب في ماله حقاً للقريب.
{ذَلِكَ خَيْرٌ} [الروم:38]، أي: لا يريد بذلك إلا الدار الآخرة والثواب من عند الله، لا رياء ولا سمعة، ولا للصلة الماسة فقط، ولكنه يفعل ذلك لأن الله أمر به ودعا إليه وحض عليه، فهذا خير له، والخيرية المقصودة هي رضا الله عنه، وهي رحمته التي هي دخول الجنان يوم القيامة.
{ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم:38]، أي: لأولئك الذين يريدون بأعمالهم وجه الله والإخلاص له دون رياء أو سمعة أو ثواب هدية أو مبادلة ومقارضة في الهدايا والعطايا والصدقات، فهم لا يريدون بأعمالهم إلا الله والدار الآخرة وامتثال أمر الله.
{وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم:38]، أي: الذين أفلحت وجوههم بالرضا الإلهي وبالرحمة الإلهية وبالدخول إلى الجنان، خالدين فيها أبداً سرمداً.(177/7)
تفسير قوله تعالى: (وما آتيتم من رباً ليربوا في أموال الناس)
قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39].
وهذا الربا هو الربا الحلال، وقد قال السلف: الربا ربوان: رباً حلال، ورباً حرام، والربا الحلال هو: أن تهدي لأحد هدية وتقصد بذلك ثوابه، ومقارضته، وتسمى في الفقه: هدية الثواب، وعطية الثواب، وهذا يسمى بأسامٍ مختلفة في كل قطر من الأقطار العربية والإسلامية بحسب لهجاتهم الخاصة، فبعضهم يقولون له: نقود، وبعضهم: صواف، وبعضهم: هدية مناسبة، وهو: أنه إذا تزوج صديق أو قريب لك ذهبت تهدي له وتعطيه ولا تريد بذلك إلا ثوابك في المستقبل بأن يهدي لك في هذه المناسبة مثل ما أهديت له، وأن يعطيك مثل ما أعطيته، فهذه تسمى هدية الثواب والفضل، تريد بذلك مجاملته، ليجاملك في المستقبل بهدية أكثر وعطاء أكبر، وقالوا: إن هذا العطاء ليس حراماً ولا حلالاً، ولا ثواب فيه ولا إثم؛ لأنك أعطيته من أجل شخص من الأشخاص ولم ترد بذلك الله والدار الآخرة، فإن أعطاك مثله فذاك، وإلا فتلك على نفسك.
وبعض الفقهاء يقولون: هذه حقوق وعطايا مرجوعة، بمعنى: أن من أهدى هدية ثواب وكان من أعراف وتقاليد البلد إنك أهديت له ثم جاءتك مناسبة ولم يعطك مثلها أن لك أن ترفع ضده قضية بأن يعيد لك الهدية التي أهديتها له فهذه حقوق مرجوعة، ولكن الفقه المالكي يقول: لا يحكم له برد الهدية إلا بليد، ولكن يحكم له بأنه ذميم إن كان ذلك عرفاً، وهو عرف في الأوساط العربية والإسلامية، فتجد الشخص يعطي هذا وهذا إلى المناسبات، ويتوق أن تأتيه مناسبة عرس أو ولادة أو عقيقة أو ما أشبه ذلك؛ حتى تتجمع له تلك العطايا؛ لأنها تكفيه وزيادة.
وبعض هؤلاء قد يعطون مثل هذه العطايا ولا ترجع لهم ولا يثابون عليها، فإن أرادوا رفع قضية فبعض الفقهاء يحكمون لهم بها مع دناءة، وليس لهم أجر من الله؛ لأنهم لا يفعلون ذلك لله، ويسمى ذلك ربا الثواب، وقالوا: إنه رباً حلال، فهو يعطيك عشرة مثلاً وينتظر منك غداً أو بعد غد عشرين، وليس هذا بيعاً، والربا الحرام إنما هو في البيوع، وأما المعاملات كأن يكون عليك عشرة ديناً وترد أحد عشر أو أكثر من ذلك فليس هو من الربا الذي تهدد الله فاعله بحرب منه.
قال ابن عباس: حرب الله للمرابي أن يقتل، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى.
وفي قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} [الروم:39] سماه الله رباً ولم يحرمه ولم يذكر عليه ثواباً ولا أجراً، ومن هنا قال السلف: الربا ربوان: رباً حلال، وهو الذي يسمى في الفقه بعطية الثواب، وبهدية الثواب، ورباً حرام.
وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ} [الروم:39] قرئت هكذا، وقرئت: (وما أتيتم)، والمعنى واحد.
وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم:39].
أي: مهما أعطيتم من مال تريدون بذلك أن تزداد أموالكم، {فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} [الروم:39].
أي: فلا ثواب عليه عند الله، ولا يزداد عنده شيئاً ما دام الذي فعله لم يرد بذلك إلا ثواب الناس ووجههم، ولم يرد بذلك الله ولا الدار الآخرة ولا وجهه الكريم.
وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم:39] قرئت هكذا، وقرئت: (لتِرْبُوا في أموال الناس)، والمعنى واحد، أي: لتكثروا أموالكم بذلك، فهذا الذي يكون أساسه ذلك، {فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} [الروم:39] أي: لا ثواب عليه، كما لم يذكر عليه إثماً وعقوبة.
قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39].
أي: وما أعطيتم من عطية، والعطية تسمى زكاة وهبة وصدقة وهدية، فإذا أراد بزكاته وجه الله الكريم وثوابه وأجره وامتثال أمره في النفقة والإنفاق والعطاء، (فأولئك هم المضعفون) أي: هم الذين يضعف الله أموالهم وحسناتهم، بمعنى: يضاعف لهم العطاء الواحد إلى عشرة إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله من الأضعاف، وهو الربا الذي يقبله الله ويثيب معطيه، فمن أعطى عطية لا يريد بها إلا الله والدار الآخرة فذاك الذي يقبل الله منه، ويكثر أمواله وينميها ويكون من المضعفين ومن الذين يثيبهم الله على زكاتهم وعطاياهم رحمات وبركات من عنده في الدنيا والآخرة بما لا يعد ولا يحصى كما يريد الله ويعلم من نية المعطي، وهل أعطى ذلك راجياً فضل الله وكرمه وامتثال أمره، أو قصد بذلك الرياء والسمعة؟ فلا يقبل الله إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم.(177/8)
تفسير سورة الروم [40 - 45]
الله تعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت المستحق للعبادة وحده لا شريك له؛ لكن الناس يعملون بخلاف ذلك فتجد الفساد قد ظهر في البر والبحر، ولذا ينبغي أن يتمسك المرء بالدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله.(178/1)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلقكم ثم رزقكم)
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:40].
يقول ربنا جل جلاله: الله رب الأرباب وإله الخلق، وهو الذي انفرد بهذا الاسم الكريم وانفرد بالوحدانية والقدرة والإرادة، وهو الذي خلقنا يوم خلقنا وليس لنا من الدنيا ولا من الفهم شيء، بل خلقنا كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن الله يخلق الوليد من بطن أمه يوم تلده وهو أحمر لا كسوة عليه ولا رزق له)، ثم بعد خلقه وخروجه إلى الدنيا يرزقه ويكسوه ويعطيه.
وفي الأحاديث النبوية: إن الله يخلقنا في بطون أمهاتنا خلقاً بعد خلق، فبعد أربعين يوماً تنفخ الروح، ثم بعد ذلك يأتيه الملك فيسأل ربه: أشقي أم سعيد؟ ويسأله عن رزقه وحياته وأجله، فيكتب رزقه قبل خروجه إلى الدنيا، فهو يخرج عارياً فيكسوه الله، ويخرج جائعاً فيرزقه الله وينعم عليه، فالله هو الذي انفرد بخلقنا، فقد خلقنا من تراب، ثم من ضلع أعوج من صدر أبينا آدم حين خلق أمنا حواء، ثم بعد ذلك من نطفة من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم من عظام، ثم كسا العظام لحماً، ثم أخرجنا بشراً سوياً، وبعد أن نخرج إلى الدنيا فإنه هو الذي ينفرد برزقنا وعطائنا، فيبسط الرزق لمن يشاء منا ويقدره على من يشاء، ثم بعد الحياة طالت أم قصرت، وبعد الغنى والفقر طال أم قصر يميتنا بآجالنا، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49].
ثم بعد الموت يبعثنا بعثة أخرى، ويحيينا حياة ثانية، وهي حياة الآخرة والعرض على الله، فهذه أطوار ثلاثة من الخلق: الأول: من العدم إلى الوجود، والثاني: من الحياة إلى الموت، والثالث: من الموت إلى الحياة.
ثم قال الله للمشركين: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم:40].
أي: هل يوجد أحد ممن أشركتموه واتخذتموه إلهاً ورباً بلا دليل ولا منطق من يفعل كفعل الله من خلقكم ورزقكم وإماتتكم وإحيائكم؟! والجواب واضح في تسبيح الله وتنزيهه لجلاله وعظمته في قوله تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68].
أي: تعالى الله عن شركائهم، وتنزه وتمجد وتقدس وتعظم من أن يكون له شريك أو وزير أو معين، فهو القادر على كل شيء وحده، وليس محتاجاً إلى معين أو شريك، فسبح نفسه ومجدها وعظمها عن هذا القول، وتعالى الله عن قول المشركين والكافرين.
وهو يعلمنا أن نقول كذلك: سبحان الله وتعالى الله عن الشركاء وعن كذب الكاذبين وشرك المشركين وفجور الفاجرين!(178/2)
تفسير قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر)
قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
يقول ربنا جل جلاله: الفساد لم يبق خفياً أو مضمراً أو بين الإنسان وبين نفسه، بل تكاثر وظهر في البر والبحر.
والآية بينة لا تحتاج إلى بيان، ومع ذلك اختلفوا في معناها خلافاً طويلاً لا معنى له، فقالوا: ظهر الفساد في البر: نزل القحط والجدب فلم تعد الأرض تعطي من خيراتها ومعادنها وأرزاقها.
وقالوا: البر: الصحاري والفيافي، والبحر: المدن والقرى المشرفة على البحار، أي: الموانئ والمرافئ، وتركوا البحر مع أن الله ذكر البحر، ولم يذكر شاطئاً ولا مرفأ، والشاطئ هو: المدينة نفسها، وهي البر، فكلمة البر شملت الشواطئ والجبال والصحاري والأرض الخصبة والجدبة سواء، وكل ما يطلق عليه بر، وذلك ظاهر لا يحتاج بيان، وليس هو من عصرنا والعصور الماضية فقط، بل هو من أيام آدم عليه السلام، عندما قتل قابيل هابيل وأزهق حياته ظلماً وعدواناً وحسداً؛ لأن الله قبل من هابيل ولم يقبل من قابيل، فهو عندما قتل أخاه من أبيه وأمه ظلماً وعدواناً وحسداً من نفسه كان قد ظهر فساده ولم يبق سراً، وبقي أخوه مقتولاً على الأرض إلى أن جاف وانبعثت منه الروائح الكريهة حتى بعث الله غراباً يبحث في الأرض؛ ليري ذلك الظالم كيف يواري أخاه ويدفنه.
فمنذ ذلك الوقت ظهر الفساد في البر، ثم توالى بعد ذلك إلى أن جاء نوح وبقي في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وعاش بينهم بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة أخرى، وكان قد بعث وهو ابن خمس وأربعين عاماً، فعاش بينهم نحواً من ألف وخمسمائة عام.
وانتشر الفساد بينهم وطال وامتد إلى أن استحقوا بجرائمهم أن يفيض الله عليهم البحار فتغمرهم وتقتلهم غرقاً، وما ذلك إلا لظهور الفساد.
وقد قص الله علينا قصص عاد وثمود وقوم لوط وقوم إبراهيم وقوم موسى وهارون وفرق بني إسرائيل مع جميع أنبيائهم، وفي كل ذلك كان الفساد ظاهراً واضحاً يراه القريب والبعيد، ويراه الصغير والكبير، ويراه من يعلم ومن لا يعلم، وقد ظهر الفساد في البحر، فالبحار فيها السفن التي تقطع الشواطئ والقارات مشارق ومغارب، وقد حكى الله لنا في ذلك قصة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح الذي قيل عنه: نبي، وقيل عنه: ولي، وذلك عندما خرق السفينة فاستنكر ذلك موسى عليه السلام وقال له: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف:71]، وبعد أن غضب ولم يصبر وحكم على نفسه إن سأله بعد ذلك فلا يعود إلى مصاحبته وقد فعل، أخذ يحكي له حكم ما صنع، فقال عن هذه السفينة: إنه كان في البحر ملك يأخذ كل سفينة غصباً، فإذاً: كان الغصب واللصوصية وقتل الأرواح في البحر، وكان هذا منذ العهد الساحق، ثم تطاول ذلك وامتد، وهو في عصرنا أكثر مما كان في عصر نوح.
والله عز وجل وعد نبينا صلى الله عليه وسلم بأن لا يهلك أمته بما كان يهلك به الأمم السابقة من الغرق والمسخ والصرع والزلازل والصواعق، على الرغم من أن الأرض قد استحقت ذلك منذ زمن سحيق؛ لكثرة ما عليها في براريها وأقطارها وبحارها من الظلم والفساد، ومنه فساد الشرك بالله وفساد إزهاق الأرواح ظلماً وعدواناً وفساد أكل أموال الناس بالباطل وفساد تكبر الجبابرة والطغاة على عباد الله المؤمنين من أكل أموالهم وسفك دمائهم وقتل شبابهم واستحياء نسائهم، إلى غير ذلك من أنواع الفساد من كل شر.
وهو في البحر كما هو في البر، فمن الفساد في البحر أنه عندما يركب الناس في هذه السفن الماخرة ويقطعون البحار مشارق ومغارب فإنهم في البواخر وعلى ظهر البحار يمارسون أنواعاً من الفساد، فتجد السفن ممتلئة بالخمور والحشيش والزنا وكل أنواع الباطل، وفي الأجواء كذلك فإنهم وهم في الطائرات يشربون الخمور ويأكلون الحشيش ويظلمون ويعتدون ويفعلون من المنكرات ما الله به عليم.
فالله يفسد عليهم دنياهم وأجواءها وبراريها وبحارها ومشارقها ومغاربها، حتى إن الإنسان لا يكاد يجد رقعة في الأرض فيها عدل وحكم للشريعة ودين يرجع إليه ويستكين له، وما ذلك إلا عقوبة للخلق؛ ليعاقبوا ببعض الذي عملوا، ومع ذلك فإن فيها فئة صالحة لم تنقرض ولن تنته ما دامت الدنيا، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم وهم على ذلك إلى قيام الساعة).
والطائفة أفراد، وقد تكون جماعة متكتلة باسم دولة، وقد تكون جماعة متفرقة باسم أفراد وجماعات أحدهم في المشرق والآخر في المغرب، ولكنهم على كل حال حجج الله في الأرض على أن الحق قائم، وأن حجة الله دائمة، وبأن كلام الله يتلى على البر والفاجر؛ لتبقى حجة الله البالغة يوم القيامة، ولا يدعي أحد عندما يسأل في القبر: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ أنه لا يعلم ولم يسمع بدينه ولا برسوله ولا بكتابه؛ لأنه يكون قد سمعه سواء كان في المشرق أو في المغرب وفي أي مكان من أرض الله من برار وبحار وأجواء.
والباء في قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ} [الروم:41] للسببية.
وقوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41].
أي: لينزل بهم بعض أعمالهم وليس كل أعمالهم من ظلم وكفر وشرك، مثل عذاب الله لقوم نوح وقوم هود وقوم صالح، فإن الله تعالى لم يعاقبهم إلا ببعض أعمالهم لا بها كلها، وهذا العذاب إنما هو في الحقيقة نقمة لمن يفهم عن الله.
قال تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
أي: يفعل ذلك بالناس لعلهم يوماً يتفكرون ويقولون: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ومن الغافر والراحم والمتجاوز عن سيئات عبيده وخلقه غيره سبحانه، وهذه فيها التهديد والوعيد لعلهم ينتبهون ويتيقظون ويعودون عما هم فيه، فهي لطمات ولكمات إلهية للناس؛ لعلهم يعودون إلى الله ويقولون: ربنا اغفر لنا وتب علينا، إننا إليك راجعون وإليك منيبون، ولكن مع كل ذلك طالت الجرائم وطال الكفر والفساد، ولا يزيدهم الله عذاباً وامتحاناً إلا وزادوا كفراً وفسقاً وعصياناً، فعندما كنا مستعمرين للنصارى في مشارق الأرض ومغاربها بكى من بكى وتضرع من تضرع وجاهد من جاهد، فإذا بالله الكريم يستجيب لدعوة داع وصلاح صالح؛ رحمة منه.
ثم بعد أن استقلينا من عدونا وملكنا المال والسلاح والجيوش والدول وغير ذلك وعدنا القهقرى إلى أقبح ما كنا أيام الاستعمار كفراً وشركاً بالله ونشراً للمنكرات بكل أنواعها من زناً وفساد وحكم بغير ما أنزل الله، وتركنا كتاب الله وراء ظهورنا، وعدنا لأحكام الكفار وقوانينهم وأخلاقهم ولغاتهم، وكل ما كنا نفعله قهراً في وجودهم أصبحنا نفعله عن ارتياح وبهجة وسرور، وظننا أننا قد تحضرنا وارتقينا وتجددنا وأصبحنا كذا وكذا بعد أن لعب بنا الشيطان وسخر منا، فأصبحنا عبيداً له.
ثم كان البلاء الأخير استعمار ألعن الأمم وأذلها، وهو استعمار اليهود، يقتلون من يقتلون، ويستبيحون أعراض من يستبيحون، ويهدمون البيوت على ساكنيها، ويدوسون المسلمين بسياراتهم ودباباتهم، والعالم كله معهم يصفق لهم ويساعدهم حتى العرب، أفليس هذا ذلاً وهواناً وعقوبة سماوية جعلها الله على أيدينا مكراً بنا وعقوبة لنا؟ والقرآن الكريم ما ترك شيئاً يعود علينا نفعه إلا ولفت أنظارنا إليه ونبهنا عليه، وما من شيء يضرنا في حاضرنا ومستقبلنا إلا وبينه لنا وكشف لنا حقائقه، ولكننا نعيش بأذان صماء وبقلوب غلف، مثل عيشة البهائم أو أقبح وأذل.
وفي قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41].
أي: بسبب كسب الناس وبسبب جرائمهم، والكلام صريح ولا يحتاج إلى بيان أكثر من هذا البيان، أي: بسبب ظلم الناس وفجورهم وفسقهم وكفرهم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قادهم إلى العز ألف عام متصلة متوالية، فلما تركوا قيادته وإمامته وذهبوا يجرون خلف كل يهودي ونصراني ومنافق، بدل الله حالهم إلى غفلة وضياع وزيغ وضلال، وإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! اللهم لا تعاملنا بما فعل السفهاء منا، اللهم أعدنا إليك، اللهم وعليك بكل ظالم زائغ، أنهه واقض عليه، واسلبه حياته وأخلده في النار.
إذاً: فقوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
أي: ليصيبهم ببعض ذنوبهم، وببعض الذي فعلوه من المعاصي، لا نقمة منهم، ولكن لعلهم يرجعون إلى الله، فعندما لم يرجعوا بالبيان وبالبلاغ وبدعوة الرسل والعلماء فليأتوا قهراً بتسلسل العذاب والآلام والمصائب والفتن من الأرض والسماء ومن كل جهة من جهات الأرض ومن كل البشر من يهود ونصارى ومنافقين، بل ومسلمين كذلك، و (لعل) في القرآن للتحقيق.(178/3)
تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا)
قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم:42].
يقول تعالى: اسمعوا بآذانكم، فإن لم تكن لكم آذان فانظروا بأعينكم، وسيروا في الأرض وسيحوا وابتغوا من فضل الله، واعلموا أن هذه الأرض قد كان عليها قبلكم خلق من خلق الله، أشد أبداناً وأقوى سلطاناً وأطول أعماراً، لهم من الحول ومن الطول ومن القوة ما ليس عندكم جزء منه، فانظروا إلى آثارهم وإلى مساكنهم وأين هم؟ فقد ذهبوا بجمالهم وبحطامهم وبقوتهم وأصبحوا تراباً، وعادوا إلى التراب كما كانوا، فأصبحوا وكأنه لم يكن هناك جاه ولا سلطان ولا مال ولا تيه ولا جبروت ولا طغيان.
فانظروا إلى ذلك وخذوا منه العظة والعبرة، واعلموا أن الذي فعل ذلك بأولئك هو الله، وهو لا يزال قادراً على أن يعذبكم ويعاملكم معاملة أولئك، فتوبوا إلى الله ما دمتم أحياء، وانتهزوا حياتكم قبل موتكم.
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم:9].
أي: عاقبة السابقين الأولين الذين كانوا قبلكم وما الذي جرى عليهم؟ وما هي الزلازل التي زلزلت أقدامهم؟ فقد نزلت عليهم الصواعق من فوقهم وجاءتهم الصيحات من كل جهة فأصبحوا في مكانهم جاثمين، وكأن لم يغنوا بالأمس، فقد عم البلاء البر والفاجر، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]، أي: إن هناك قلة ليست بمشركة، ولكن عمهم البلاء لمجاورتهم ومساكنتهم ومخاللتهم.
وقوله: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم:42]، أي: كفرة بالله متخذين مع الله الشريك.(178/4)
تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين القيم)
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43].
أي: اجعل وجهك لله وأقبل به وبنفسك وبروحك له.
والدين القيم: الدين المستقيم، وهو الإسلام دين العوالم كلها الذي اختاره الله للبشر، منذ ظهر نبينا في هذه البطاح المقدسة يدعو الناس للإيمان بالله خالقاً، وبه عبداً ورسولاً وخاتماً، فمنذ ذلك الحين والخلق كلهم إنسهم وجنهم مكلفون ومأمورون من الله أن يدينوا بالإسلام ويتخلقوا بأخلاقه، وأن يعبدوا الله الواحد ويدينوا بالدين الذي أرسله إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
وأما ما سوى ذلك من يهودية ونصرانية ومجوسية ومختلف ملل الأرض فإنها قد غيرت وبدلت وحرفت من قبل ظهور النبي عليه الصلاة والسلام بدين الإسلام، ثم أصبح كل الخلق إنساً وجناً مأمورين باتباعه، والله يقول لهم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم:43].
واليوم الذي لا مرد له هو يوم الآخرة، يوم يدعونا من الأرض فننتصب قياماً حفاة عراة غرلاً، أي: حتى الجلدة التي قطعت عند الختان تعود، فنقف أمام الله ننتظر الأمر والنهي والحساب، في يوم عند ربك كألف سنة مما تعدون، وقد قال الله عن ذلك اليوم: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
فهذا اليوم الذي لا مرد له إذا وصلناه وكان منا المقصر ومنا المشرك ومنا العاصي ومنا الكافر فلا ينتظر أن يرد ويعود إلى الدنيا؛ لعله يتدارك ما ضيع وما عصى فيه وخالف، ولن يكون ذلك أبداً، وإذا قامت الآخرة وكان العرض على الله فذلك اليوم الآخر، الذي لا مرد له من الله، وهو يوم يحاسب فيه كل إنسان على عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43].
أي: يفترقون، فريق في الجنة وفريق في السعير، فلا يبقى مؤمن مع كافر، ولا كافر مع مؤمن، ولكنهم يفترقون كل طائفة مع جنسها ومثيلها، ومنه الصداع الذي هو نوع من المرض يكون في الرأس في جانب منه فقط وليس فيه كله، ويكون أشد أنواع صداع الرأس وألمه، فهم هكذا يصدعون ويتفرقون ويوزعون، فيميز المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].(178/5)
تفسير قوله تعالى: (من كفر فعليه كفره)
قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44].
فالكافر الذي سيأتي يوم القيامة في اليوم الذي لا مرد له من الله يكون كفره عليه، فيحاسب عليه وحده ويخلد في النار وحده.
وقوله تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44].
أي: والذين جاءوا بالصالحات فلأنفسهم يمهدون، أي: يفرشون ويتبوءون المنازل ذات الفرش العاليات والأرائك المتقابلة في روضات الجنة الدائمة، دواماً مستمراً دهر الداهرين وأبد الآبدين، ولا موت في الحياة الآخرة، بل حياة دائمة خالصة، فمن كفر فكفره يحاسب عليه وحده، ومن آمن فإيمانه ورضاه ومغفرة ربه تعود عليه، فهو بإيمانه وبصلاح أعماله يكرس لنفسه القصور العلا في الجنان.(178/6)
تفسير قوله تعالى: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم:45].
أي: يفعل ذلك ربنا بالمؤمنين الذين لأنفسهم وبعملهم الصالح يمهدون؛ ليجازيهم ويكافئهم من فضله، بمعنى: أنه سيعطيهم جزاء أعمالهم، ويفضل عليهم الكثير الكثير، الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا حد له مما يشاء الله من الإضعاف.
وقوله: (إنه لا يحب الكافرين)، وما لا يحبه الله ملعون محرم، وما لا يحبه الله فله اللعنة والعذاب والنار خالداً فيها أبداً دائماً.(178/7)
تفسير سورة الروم [46 - 50]
نعم الله على الناس متوالية، وآيات قدرته متكاثرة، ودلائل وحدانيته ونصره لرسله والمؤمنين عظيمة باهرة، فمن ينظر في آثار رحمة الله تدله على ذلك.(179/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات)
كان أسلافنا في السنوات الماضية لا يسافرون إلا بواسطة الرياح، ولا يبتغون الرزق والتجارة إلا بها.
فإن جاءت الرياح موافقة حيث شاء الركبان والمسافرون فهي المباركة، وإن وقفت الرياح وقفت السفن، فلا رحلة ولا سفر ولا تنقل.
وإن جاءت معاكسة لاتجاه السفن جاء البلاء، فقد تعود بالسفينة من حيث خرجت، وقد تكون قد قطعت شهراً أو أكثر في البحار وإذا بها وقد أتتها الرياح معاكسة تعود بها من حيث بدأت، وخرجت من حيث كانت.
ومن هنا يقول الشاعر: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
والرياح تجري عادة بمشتهاها ومبتغاها، فقد تكون مشرقية أو مغربية، جنوبية أو شمالية، فإذا جاءت معاكسة لخط السير وجريان السفن فهو البلاء والخطر على السفينة، وأقل ذلك البلاء أن تعود السفن من حيث خرجت.
وأشد البلاء أن تقف بها الرياح فتتلاعب بها الأمواج وتتلاطم، وإذا هو الغرق أو الخطر والإنذار بالغرق.
وقوله تعالى: {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} [الروم:46] الله تعالى يرسل الرياح ليذيق الناس من رحمته، وهي خيره وبركته ورزقه.
ويرسل الرياح لتجري الفلك بأمره، وإذنه وإرادته حيث شاء من مشرق أو مغرب.
وقوله تعالى: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:46] أي: بواسطة هذه الرياح المبشرة تبتغون من فضل الله؛ من تجارة، وزراعة، وكل ما يكون الإنسان محتاجاً فيه إلى الرحلة والسفر، والجري في الأرض، والسفر يكون براً وبحراً، وقد أصبح جواً كذلك.
والبحار لا بد من قطعها للسفر لما وراءها لبغية التجارة وللكسب وللمعاش وللحياة، فعندما تأتي الرياح موافقة لسير السفن تكون مبشرات بإذن الله وبأمره.
فالرياح تأتي لخير الناس وخصبها، لإنبات الأرض بالزرع، ولسقيها بالأمطار، ولتجري الفلك بأمر الله، وليبتغي الناس من فضله.
وقوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم:46].
أي: ولعلكم يا هؤلاء العباد تشكرون الله على نعمه، وأرزاقه، وعلى ما أكرمكم به من مختلف ما خلق لكم على وجه الأرض وفي السماء وما بين السماء والأرض.
والذي من ذلك الرياح، فهي تأتي مبشرات بالغيث والمطر، وبجريان السفن، وبابتغاء الفضل، وهو التجارة والأرزاق والأرباح لعلكم بعد ذلك تشكرون الله على نعمه الظاهرة والباطنة، ما لو ظللتم كل حياتكم ساجدين وراكعين لله لما أديتم جزءاً من شكر نعم الله.(179/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
أي: ولقد أرسلنا -يا محمد- من قبلك رسلاً إلى قومهم وعشائرهم.
وهذه الآية تعزية وتسلية للرسول عليه الصلاة والسلام في أنه إذا وجد من بعض قومه أو من بعض أمته من لم يطعه لم يؤمن به، بل وعاكسه وقاومه وكفر بما جاء به، فلقد أرسل قبله أنبياء، فكذبهم أقوامهم وكفروا برسالتهم، فعاقب الله من عاقب، ورحم من رحم، وقليل هم الذين آمنوا وأسلموا، قال تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14].
وكان الأنبياء قبل البعثة المحمدية يرسلون إلى أقوامهم خاصة، فأديانهم قومية وليست بعامة عالمية، أما الرسالة المحمدية فقد اختصت بكونها عامة وعالمية للخلق كلهم في مشارق الأرض ومغاربها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في بيان هذه المعاني التي جاء فيها آيات كثر: (كان الأنبياء قبلي يرسلون إلى أقوامهم خاصة وأرسلت إلى الناس عامة).
فليست اليهودية والنصرانية ديانتين عالميتين، إنما هما ديانتان إسرائيليتان خاصتان باليهود والنصارى من بني إسرائيل، فمن آمن بأحدهما في عصرها لم يطلب منه إلا ذلك، ولم يرسل الرسل الآخرين إليه، وبموت الرسل انتهت رسالاتهم.
وبظهور النبي عليه الصلاة والسلام كانت هاتان الرسالتان قد بدلتا وغيرتا وحرفتا وبالظهور المحمدي نسختا برسالة الإسلام فأصبح الدين الحق والمقبول عند الله هو الدين الذي أتى به نبينا عليه الصلاة والسلام وحده.
قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
أي: إن الدين الحق والمقبول عند الله هو الإسلام لا سواه ولا غيره.
وقوله تعالى: {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [الروم:47].
أي: فجاء هؤلاء الرسل قومهم بالبينات والمعجزات والدلائل القاطعات على صدق رسالتهم، وصدق ما بعثوا به من وحي حق، ومن كتب سماوية حق، فآمن من آمن وهم قليل.
ولذلك قال الله بعد ذلك: {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [الروم:47].
أي: آمن قلة ولكن الكثير أجرموا، فارتكبوا أعمال المجرمين، فكذبوا رسلهم وكذبوا الوحي الذي جاءوا به، وكذبوا الكتب السماوية المنزلة عليهم فكانوا مجرمين بذلك، فانتقم الله منهم وسلط عليهم أنواع العذاب والنقمة والشدة بما نسوا به ما كانوا عليه، حتى إذا بعثوا يوم القيامة كان عذاب الله أشد وأكثر نقمة، وأدوم عذاباً ومقاماً.
وقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
جعل الله على نفسه حقاً واجباً أوجبه على نفسه، ولا يجب عليه شيء جل جلاله، فالملك ملكه والخلق خلقه، يتصرف فيه كيف يشاء، ولا يقال للمالك: لم تصرفت في ملكك؟ ولكن الله جل جلاله حرم الظلم على نفسه كما حرمه على عباده، ففي الحديث القدسي: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا).
فكان من ذلك أنه أوجب على نفسه حقاً هو نصر الرسل والمؤمنين، فقد كان الرسل مبلغين عن الله، ناطقين بالوحي عن الله، وأتوا برسالات وكتب سماوية ومعهم آيات ومعجزات تؤيد صدقهم عما جاءوا به من عند الله وعدم كذبهم.
فجازى الله من آمن بالثواب وبالنصر على الأعداء وبالخلود في الجنان بعد ذلك، وانتقم من المكذبين المجرمين بالعذاب في الدنيا وفي الآخرة.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يذب عن عرض أخيه المسلم إلا دافع الله عنه أو ذب الله عنه يوم القيامة عذاب النار.
ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]).
فالمؤمنون الصادقون من آمن جنانهم وصدق، ونطق لسانهم بما يحقق ذلك الإيمان بالقلب، وعملت الجوارح والأركان حسب الاعتقاد والقول، فعملت الصالحات والواجبات من شهادتين وصلاة وزكاة وحج وصيام.
فهؤلاء هم المؤمنون حقاً إن كانوا كذلك، والله جل جلاله جعل عليه حقاً واجباً نصرهم على أعدائهم، والعاقبة للمتقين.(179/3)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي يرسل الرياح)
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم:48].
أي: أن الله يرسل الرياح فتثير السحاب، أي: تزيله من مكانه، وتبعثه ليجتمع في السماء.
قال غير واحد من أعلامنا القدامى، وقال المحدثون تقريباً: إن الرياح تثير السحاب من البحار، فعندما تتبخر من البحار تأخذها هذه السحب فتصفيها كالمصفاة من ملحها وأجاجها، وتصعد بها إلى الأجواء العالية فيصفيها الله تعالى فينزلها كما ينزل الحليب من ثدي النوق والبقر والأغنام.
وتنزل الأمطار على شكل قطرات، تسقي الأرض بكل أجزائها، فالأرض الخصبة التي تنبت والتي يصلح الزرع فيها فتأتي من كل زوج بهيج، من أنواع الحبوب والخضر والثمار وغير ذلك، مما يتغذى به الإنس والحيوان والطير.
وهذا السحاب الذي نراه داكناً أحياناً، وأسود حالكاً أحياناً، وأصفر أحياناً يشبه الزرع الأصفر الذي ابتدأ يحترق، أو ييبس، وأعظمه وأكثره غيثاً هو السحاب الأسود الغدق لكثرة الماء فيه، ولثقله بالماء الذي يحمله.
أما إذا كان أصفر فهو الريح العقيم الذي ما أتى على زرع إلا وأيبسه، ولا على أرض إلا وأجدبها حتى ولو كانت ذات فواكه ونبات فإنه ييبس كذلك ويصفر، ولا يأتي الريح العقيم إلا بالهلاك والعذاب، والقحط والجدب.
قال تعالى: {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم:48] أي: أن الله جل جلاله يبسط السحاب، ويكون مقدار ذراع، وإذا به يتمدد ويستطيل حتى يكاد يغطي المدينة كلها وأحياناً القطر كله.
وإذا اشتد واسود وعم يرسل الله منه غيثه ورحمته، فيسقي الأرض بعد جدب ويغيثها بالمطر، فيسقي الإنسان وهو أول ما يحتاج إليه الإنسان، ثم يسقي الأرض وما عليها من الدواب والطيور وكل ما خلق.
ولذلك عندما يشتد الجدب والقحط بالناس يستغيث المسلمون ويستسقون الله تعالى، يستحب لهم أن يخرجوا جميعاً نسائهم ورجالهم وأطفالهم، حفاة كاشفي الرءوس وبألبسة مقلوبة، ويخرج معهم أهل الذمة، ويخرجون دوابهم وحيواناتهم، فالكل في حاجة إلى رحمة الله، وغيث الله، وبركات الله.
فتجد الجمال والغنم والبقر وغير ذلك تصيح، كل يدعو بلغته، والإنس كذلك مؤمنهم وكافرهم، ولا يستغني عن رحمة الله مخلوق، فالكل في حاجة لذلك، فإذا جاء الجدب والقحط جاء البلاء والعذاب وعم كل الخلق.
وقوله تعالى: {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم:48] أي: يمدده ويطيله ويكثره حتى يعم الإقليم كله.
وقوله تعالى: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} [الروم:48].
كسفاً: جمع كسفة، أي: قطعاً، قطعة هنا وقطعة هناك، يسقي البساتين والفيافي والغابات، فما لم يستفد من على سطح الأرض يستفيد منه الماء في جوفها، لتكثر مياه الآبار وتجري الأنهار وتزداد بعد أن كادت تيبس.
وكثيراً ما حصل ذلك فجفت الآبار، ونشفت المياه في الأنهار، فإذا وصل الحال لذلك اشتد العذاب بالناس فهو الموت، إلا أن يغيثهم.
وقد زرنا أقطاراً مضت عليها سنون عديدة لم تسق قط، فوجدنا الدواب ميتة، والبحار قد جفت، والأنهار قد وقفت، والأشجار قد يبست، والناس إلى الموت أقرب.
والماء الذي يشربونه لا يكادون يجدونه، ثم أتى الله بالغيث بعد ذلك، فعوضاً عن أن يشكروا الله على نعمه كفروا وارتدوا ووقع فيهم انقلابي ماركسي، شيوعي، إلحادي.
وطردوا اللغة العربية والمدارس الإسلامية من البلاد، وذهبوا لعبادة هؤلاء الأشخاص القذرين الوسخين، واتخذوهم أرباباً من دون الله.
ومن عجيب أمر الله في عباده، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من استعان بظالم سلط عليه).
وإذا بهؤلاء الذين دانوا بدينهم، وارتدوا بردتهم، وكفروا بكفرهم سلطهم الله عليهم، فضربوهم من السماء بأنواع العذاب من طائرات وصواريخ، وبدبابات وبأسلحة فتاكة مدمرة من الأرض، وهم يستغيثون منذ دهر فلا يغاثون؛ لأن الله لم يغثهم، لأنهم كفروا بأنعمه وأبوا إلا الجحود والعصيان والردة، مع أن الله وحده الذي أغاثهم، ولن يستطيع مخلوق إذا أجدبت الأرض أن يأتي بالماء من السماء.
وقوله تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم:48] أي: ترى المطر يخرج من وسطه وأثنائه، وأركانه، ومن نواحيه كلها، وكأنه ثدي الناقة أو ثدي الأم ينزل قطرة قطرة بما يكفي الوليد وما يعيشه بهذا الحليب.
ولو نزل المطر على غير شكل قطرات لخرب الأرض، ولقلع الأشجار، ولكنه ينزل خفيفاً قطرة قطرة فيأخذ كل عرق وكل جذر وكل نبتة وكل شجرة كانت كبيرة أو صغيرة حاجتها من الري، وحاجتها من الغيث، فيسقي الله ويغيث العباد بذلك.
وقوله تعالى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم:48].
فمن عجيب صنع الله أن تجد أرضاً قد أحاط المطر بجوانبها الست ولم ينزل عليها المطر، فإذا بحثت عن سبب ذلك وجدت صاحب تلك الأرض أو تلك المزرعة لا ينفق من ماله، ولا يؤدي حق الله فيها، وإذا بالله الكريم قد جعل لما عمله من سنوات هباءً منثوراً، وجعل عمله كأن لم يكن.
فإذا أصاب الله بهذا المطر الذي ينزله من السحب من شاء من عباده، إذا بهم يفاجئون برحمة الله وغيثه فيستبشرون ويفرحون ويسرون.
وبعض هؤلاء الذين فرحوا واستبشروا يؤدون شكر ذلك من نفقات وزكوات، والبعض الآخر اتخذوا فرح ذلك بطراً وتيهاً وخيلاء وطغياناً في ما ملكوا وما زرعوا، فهؤلاء لا تفرح لهم، ويوشك أن يأتيهم الله بعذاب من عنده.
قال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم:49].
أي: وإن كان هؤلاء الذين أمطروا وأغيثوا من قبل أن ينزل عليهم هذا المطر كانوا من قبله آيسين، قانطين، متألمين، باكين أو كالباكين، ما صرفوه في الأرض من عمل ومن زمن لم يأت بشيء، بل كل ما زرعوه وما حرثوه ضاع زيادة على الجدب والقحط في أصله.
فإذا جاء هذا الغيث فجأة وأصابهم الله برحمته إذا بهم يفاجئون بالرحمة ويسرون بما أصابهم، إذ جاءهم على قدر من غير انتظار، وإن كانوا من قبل ذلك لآيسين قانطين من الرحمة.
و (قبل) في الآية كررت مرتين وذلك للتأكيد.
وقراءة ابن عباس بقبل الأولى فقط: (وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم لمبلسين) إنما كررت الثانية: {مِنْ قَبْلِهِ} [الروم:49] تأكيداً لقنوطهم الأول وما كانوا عليه من أحزان، وإذا بهم يفاجئون بالاستبشار والفرح بنزول المطر، فذكرت قبل مرتين لتأتي بالاستبشار وتأتي باليأس قبل ذلك.(179/4)
تفسير قوله تعالى: (فانظر إلى آثار رحمة الله)
قال تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50].
أي: فانظر يا محمد ولتنظر معك أمتك نظر تدبر، ونظر اعتبار، ونظر قلب إلى آثار رحمة الله، فرحمة الله هنا الغيث والمطر، وآثار ذلك أن الأرض التي كانت يابسة أينعت واخضرت وأثمرت ورعى فيها الدواب والطير، وأكل من نبتها وحبها الإنسان، وأتت بالثمرات من كل زوج بهيج، فعاشوا على ذلك، وصحوا على ذلك، وانتشر الخصب والخير.
ولا يستطيع أن يفعل ذلك إلا الله، وهو وحده المشكور على ذلك، والمحمود عليه.
وقوله تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:50].
أي: انظر كيف كانت الأرض يابسة قد سقط شجرها، وثمارها قد يبست، وأوراقها قد تحاتت، وإذا بها أصبحت ميتة، فما كاد ينزل هذا الغيث إلا وظهر أثر رحمة الله فيها، فاخضرت الأرض وأينعت وأتت من حبها وثمراتها ما أغيث به كل حي إنساناً وحيواناً وطيراً.
وقوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [الروم:50].
ضرب الله ذلك مثلاً لمنكري البعث، يقول لهم: خذوا الدليل على الغائب بالشاهد، قد رأيتم الأرض ماتت ويبست وأجدبت وتحات شجرها فتساقط ثمرها، وجاع الخلق إنساناً وحيواناً وطيراً، وإذا الأرض بأثر رحمة الله من مطره وغيثه آتت من كل زوج بهيج، فاهتزت وربت وحيت، وعادت حية بعد أن كانت ميتة.
فالذي أحياها بعد الموت هو محيي الموتى بعد كذلك، فانظروا الشاهد فخذوا منه المثال للغائب.
فيا هؤلاء الذين تتعجبون وتكادون تنكرون بأن الإنسان بعد أن يصبح رمة، وتراباً كما كان، كيف يعود؟ قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79].
فالذي أوجد الإنسان من العدم أهون عليه - والكل عليه هين - أن يعيده تارة أخرى كما كان وأكمل وأصح.
وكذلك الذي أحيا الأرض وقد أصبحت ميتة قادر على أن يحيي الموتى من الناس ومن غيرهم من خلق الله.
وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50] أي: الله الخالق لذلك، ذو الآيات البينات والبراهين القاطعات، هو القادر على كل شيء، القادر على أن يحيي الموتى، كما أوجدهم من العدم بعد أن لم يكونوا.
وقد مضى دهر من الزمن لم يكن الإنسان فيه شيئاً مذكوراً، لا وجود له لا شبحاً ولا روحاً، وإذا به قد وجد على غير مثال سابق، الذي أوجده على غير مثال سابق وأحيا الأرض بعد موتها، قادر على أن يعيد حياة الإنسان للحياة مرة ثانية، فهو القادر على كل شيء جل جلاله.(179/5)
تفسير سورة الروم [51 - 60]
مهما رأى المجرمون من آيات بينات فهم لا يزالون على عنادهم، ولو تفكروا في الظواهر المناخية وما يرسل الله من رياح تسوق السحب بالأمطار ولها منافع كثيرة كالإبحار بالسفن ونحو ذلك؛ لكان ذلك دافعاً لهم إلى الإيمان.(180/1)
تفسير قوله تعالى: (ولئن أرسلنا ريحاً)
قال تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم:51].
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا} [الروم:51] ذكر الريح مفرداً في القرآن للعذاب وللجدب وللعقوبة.
وإذا ذكر مجموعاً فهو للخيرات، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم:46]، فالرياح مبشرات بالخصب والبركات.
وقوله تعالى: {فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا} [الروم:51] أي: أثر هذا الريح رأوه مصفراً، وما أثره إلا الشجر والنباتات وأوراق الشجر القائم بنفسه.
فإذا رأوه مصفراً فيعني ذلك يبسه وموته وعدم إثماره ونهاية حياته، فإذا رأوا ذلك كفروا بالنعم السابقة، وضلوا من بعد هذا الريح الذي اصفر له الأشجار والنباتات والزروع والثمار والخضروات بجميع أشكالها، وزادهم كفراً وزادهم معصية وجحوداً وضلوا من بعده يكفرون، أي: ضلوا من بعد إرسال هذه الريح الصفراء التي كان من أثرها أن اصفرت الأشجار وكل شيء أخضر على وجه الأرض.
فلما رأوا هذا المنظر لم يحمدوا الله ولم يصبروا ولم يرجوا رحمته ويخافوا عذابه، بل أعلنوا بالكفر والجحود ونسوا ما سبق ذلك من خيرات وبركات، ومن أمطار مغيثات.
وهذا شأن الكافر يؤمن على حرف، فإن آتاه الله خيراً وجد ذلك وكأنه من نفسه، وإن وجد غير ذلك تجده يائساً مبلساً، يعلن الكفر بلسانه وحاله، وهذا بخلاف المؤمن.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
فهو على كل الأحوال صابراً وشاكر، شاكر على نعمه، وصابر على بلائه، إن ابتلي رجى الله ودعاه أن يرفع عنه بلاءه وهو مع ذلك صابر، وإن أنعم عليه شكر الله بلسانه وزاد الشكر بالعمل والنفقات وكثرة الصدقات للعائل وللمحروم وللسائل وللقريب في الدرجة الأولى.(180/2)
تفسير قوله تعالى: (فإنك لا تسمع الموتى)
قال تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:52].
أي: يا محمد! هؤلاء موتى فحياتهم لم يستفيدوا منها، وأسماعهم لم يسمعوا بها، وأعينهم لم يبصروا بها، وقلوبهم لم يفقهوا بها فكانوا أمواتاً، ولو أنهم على شكل أحياء.
والميت لا يسمع ولا يفهم، وعلى ذلك فأنت لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء، أي: النداء، إذا ناديت ودعوت لم يسمعوك، ولم يستجيبوا لك؛ لأن لهم قلوباً لا يفقهون بها، وآذاناً لا يسمعون بها، وأعيناً لا يبصرون بها، فهم كالأنعام بل هم أضل.
والأنعام تستفيد من بطنها حملاً ومن ظهرها ركوباً ورحلة، ومن ضرعها حليباً.
وأما هذا الميت فيضيق على الحي من الناس بطعامه ولباسه وسكنه وقد لا يكتفي بذلك، فيؤذي الناس الصالحين الأخيار، فموته خير من حياته، وأصلح للبشر من وجوده.
وقوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:52] الموتى جمع ميت.
فقوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:52] أي: إذا دعوت الموتى لم يسمعوك، والصم جمع أصم، وإذا دعوتهم فلم يسمعوك.
فقوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:52] الصم يتفاهمون بالإشارة، والأصم إذا ولى لا يرى إشارتك ولا يسمع نداءك، فهو في ضياع وخراب، وهو في إعراض عن الحق وعن سماعه البتة.
ولذلك كان الكفار إذا سمعوا رسول الله يتلو القرآن ويدعوهم إليه، يدعو بعضهم بعضاً ويقولون: الغوا فيه ولا تسمعوا إليه.
فكان البعض يغلق آذانه عن السماع، والبعض يصيح ويفر كما يفر الشيطان إذا سمع الأذان وله ضراط حتى لا يسمع الله أكبر، ولا يسمع الشهادتين.
وكون الميت لا يسمع هذا الشأن المعروف، ولكن مع ذلك فإن سماع الميت قد ثبت بالتواتر، ففي غزوة بدر بعد أن هلك من هلك من الكفار والأعداء، تركهم النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام على التراب إلى أن جيفوا، ثم أمر بقذفهم في القليب وهو بئر، ثم وقف على شفير البئر فنادى: (يا أمية بن خلف، يا عتبة بن أمية، يا عمرو بن هشام، وإذا بـ عمر يقول له: يا رسول الله! أتدعو أقواماً قد جيفوا؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يستطيعون الجواب، وأخذ يقول لهم: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ أما نحن فقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً).
والحديث اشتهر بحديث عبد الله بن عمر عن عمر، ولكن عائشة رضوان الله عليها الشابة العالمة كانت تحاول أن تجتهد في كل شيء حتى في الرواية المسموعة، فهي ترد على الكثير من الصحابة، فقد ردت على عبد الله بن عمر وقالت: لم يقل رسول الله: لستم بأسمع منهم، وإنما قال: هم الآن يعلمون ما أوعدوا به.
وهذا الذي قالته ليس بصحيح، فلم يرو هذا الحديث عبد الله بن عمر فقط، فقد رواه الكثير من الصحابة، فقد سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم أهل بدر وكان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر مجاهداً، فكلهم سمعوا قوله، إذ كان يرفع صوته في مخاطبتهم، والأحاديث بذلك في الصحاح والسنن وفي جميع أمهات السنة وغير ذلك.
وعندما نسلم على رسول الله فإننا نقول: السلام عليك، إذ نخاطبه بكاف الخطاب، وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم عندما نزور الموتى أن نقول لهم: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون، رحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، وأسأل الله العافية لي ولكم).
وهذا الخطاب لكل ميت ولرسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرجة الأولى، فقد تواترت الأحاديث بأن الميت يسمعنا ولكنه لا يجيبنا، لأن الشبح الذي سيجيب قد فني وصار إلى التراب.
أما الروح فباقية، وقد ثبت بالتواتر أن الأرواح تسر بسرور أهلها في دار الدنيا، وتتألم بألمهم في دار الدنيا، وترد السلام على المسلم عليها، ومن ذلك: تلقين الميت عندما ندفنه ونقول له: يا فلان ابن فلان، إذا سألك الملكان: من ربك؟ فقل: الله.
ومن نبيك؟ فقل: محمد رسول الله.
وهذا التلقين كذلك ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإذا كان الميت لا يسمع فما الفائدة من التلقين ولكن الآية معناها أنهم موتى في الحياة لم يموتوا بعد، وموتهم في الحياة أنهم عطلوا أسماعهم وأبصارهم وأعينهم، عطلوا حواسهم عن السمع والرؤية والفقه، فكانوا كالموتى الذي كان الشأن فيهم ألا يسمعوا ولا يعقلوا ولا يروا.
فروح كل ميت تسمع وتجيب، واختص النبي عليه الصلاة والسلام بأن كلف الله له ملكاً يرد السلام على من مسلم عليه.
ويستحب استحباباً مؤكداً وخاصة يوم الجمعة أن نكثر الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه عشراً.
فمعنى قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:52] أي: لا تسمع الدعاء الموتى والصم.
وقوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:52] أي: لا تسمع الدعاء إذا قد أدبروا، فلا يرون إشارة وبالتالي لا يفهمونها لأنهم لم يروها.(180/3)
تفسير قوله تعالى: (وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم)
قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم:53].
أي: إنك يا محمد! لن تهدي العمي ولن تهدي الصم وإنما تهدي من يبصر ويسمع، والذي يسمع هو من يؤمن بآياتنا، هو الذي ألقى السمع وهو شهيد، أي: سمعه لما تدعو إليه من كتاب ربك المنزل عليك، ومن حديثك المفسر لذلك، ومن هديك الذي يبين حقائق ذلك.
والذين آمنوا بالله فنظروا واستفادوا بالنظر، وسمعوا واستفادوا بالسمع، وعقلوا واستفادوا بالقلب، هؤلاء هم المؤمنون وحدهم الذين يسمعون دعاءك، ويسمعون دعوتك فيستجيبون لها، ويؤمنون بها.
وهم مسلمون قد أسلموا وجوههم لله واستسلموا لدين الله ولأمر الله، فلا يخرجون عنه، فإن خرجوا استعاذوا بالله وتابوا من السيئات وعادوا بالشكر، وبالتوبة إلى الله.
هؤلاء المؤمنون التائبون المسلمون هم الذين يسمعونك، أما أولئك فلا سمع لهم ولا بصر ولا فقه ولا رؤية.(180/4)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلقكم من ضعف)
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54].
الله جل جلاله يدلنا بمنطق العقل والوعي والإدراك على قدرته وعلى الأطوار التي خلقنا فيها.
وتقديم العامل وهو لفظ الجلالة (الله) على المعمول -أي المفعول به- يفيد الحصر، أي: الله وحده هو الذي خلقنا في جميع هذه الأطوار، فلا الأوثان ولا الشركاء ولا الآلهة المزيفة الكاذبة شاركت أو أعانت بشيء من ذلك.
فقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الروم:54] أي: الله خلقنا ضعافاً يوم خلقنا، خلق الأصل وهو آدم من تراب -وما عسى أن يفعل التراب؟ - ثم خلقنا من ماء مهين فهو أضعف من ضعيف، ثم خلقنا بعد ذلك من أضعاف متتالية.
وأطوار خلق الإنسان: النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم يكسى لحماً ثم ينشأ خلقاً آخر، ثم يخرج إلى الدنيا وهو ضعيف لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ذباباً، ولا حشرة صغيرة.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:54].
أي: ثم جعل بعد الضعف قوة وهو سن الشباب، فابتدأ الله بالبداية، ثم سن المراهقة، ثم سن الشباب، ثم إلى أن أصبح الشاب رجلاً قد بلغ أشده في القوة العضلية والفكرية والعملية.
وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54].
أي: ثم عاد بنا للبداية، من القوة إلى الضعف في الظواهر والبواطن، ضعفت الحواس عن وظائفها، وضعفت حركة المعدة في الهضم، وهكذا في جميع أعضاء الإنسان، فصارت بعد القوة ضعفاً وشيبة، وشيباً وشيبة بمعنىً واحد.
فانتقل سواد الشعر إلى البياض، وقوة البدن إلى ضعف، وشيخوخة ثم إلى موت وفناء، كان الله ولا شيء معه وهو على ما كان عليه.
قال تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54].
فالله جل جلاله الخالق لما يشاء، فهذا خلقه قوياً، وهذا خلقه ضعيفاً، وأدام ضعفه إلى الموت.
وهذا خلقه ضعيفاً ثم قواه وأدام قوته إلى الموت، كم من شيوخ شابت شعورهم ولا يزالون أقوى من الشباب؟ وكما لا يزالون شباباً.
وكثير من الأصحاب والمعاصرين تجاوزوا المائة فلم تشب منهم إلا شعرة أو شعرات، ولم تسقط لهم سن، ولا يزالون يذهبون الأميال على أرجلهم، ويحملون الأثقال التي يعجز عن حملها الشباب، ويعملون في كل الأوقات بما يعجز عنه الشباب، يخلق الله ما يشاء، والله انفرد بالخلق والقدرة، يفعل ما شاء كيف يشاء، لا يسأل عن ما يفعل.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54].
أي: العليم بخلقه وما ينفعهم من الضعف أو القوة، يعلم أن هذا ينفعه الضعف والآخر ينفعه القوة، ويعلم أن من منفعة هذا أن يميته صغيراً وينفع الآخر أن يميته كبيراً، وهو القادر على كل شيء، لا يعجزه شيء جل جلاله وعز مقامه.(180/5)
تفسير قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة)
قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم:55].
يخبرنا ربنا جل جلاله عن هؤلاء الكفار المكذبين للآخرة، أنه يكذبهم في الدنيا والآخرة.
فقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [الروم:55] أي: يوم القيامة.
وقوله تعالى: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم:55] أي: المشركون الكافرون الذين مضت حياتهم وكلها جرائم، فهم يقسمون أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة، أي: لم يعيشوا دنياهم وسنواتهم وأعمارهم إلا مدة ساعة، فهم بذلك أنكروا الرسالات والرسل والكتب، وأنكروا الأوامر والنواهي، وقالوا: عشنا ساعة وماذا عسى أن تكفي ساعة للعبادة وللعمل؟ وقوله تعالى: {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم:55].
الإفك: الكذب، أي: أنهم يصرفون عن الحق إلى الكذب.
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ} [الروم:55] أي: كما كانوا في الدنيا كذبة، فجرة، لا ينطقون بالحق ولا يعرفونه، كذلك عندما بعثوا وعادوا للحياة الثانية عادوا كذبة فجرة، فكان الكذب خلقهم في الدنيا والآخرة، ولكن هيهات أن يتركوا لحالهم ولأنفسهم.(180/6)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان)
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:56].
يجيب العلماء والمؤمنون المجرمين ويكذبونهم، هؤلاء المؤمنون الذين آمنوا بربهم ونبيهم في الدنيا، وعندما بعثوا علموا أنهم قد عاشوا دهراً، وأنهم بعثوا من جديد، وأن هذا اليوم يوم البعث والنشور والحياة الثانية.
وقال أهل العلم: العلماء أيضاً من الملائكة والرسل وعموم المؤمنين.
وقوله تعالى: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الروم:56].
أي: في ما كتبه الله وقدره، أي: في جنس الكتاب، وهو الكتب السماوية المنزلة على أنبيائكم من صحائف إبراهيم، ومن زبور داود، ومن توراة موسى، ومن إنجيل عيسى، ومن القرآن المنزل على خاتمهم محمد صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين، فأنتم قد بلغتم وعلمنا ذلك في كتاب الله وقدره السابق أننا سنعيش دهراً ونحن نبعث بعد ذلك.
ومعنى: {لَبِثْتُمْ} [الروم:56]: أقمتم.
وقوله تعالى: {إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم:56].
أي: عشتم في دنياكم زمناً ثم متم بعد ذلك، وبقيتم في قبوركم إلى يوم البعث.
وقوله تعالى: {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} [الروم:56].
أي: هذا الذي أنتم فيه هو يوم البعث الذي كنتم تنكرونه، فأنتم تعيشون في واقعة حقيقية، وما كنتم تنكرونه قد رأيتموه رأي العين وسمعتموه بالآذان وعشتم في واقعه.
وقوله تعالى: {وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:56].
أي: كنتم في حياتكم الدنيا مشركين كفرة لم تعلموا علماً، ولم تعلموا إيماناً، ولم تدركوا يقيناً، عشتم كفرة كذبة وبعثتم كفرة كذبة، ولا تزالون تكذبون إلى الآن عندما تقسمون أنكم ما لبثتم في دنياكم إلا لحظات لا تكاد تدرك.
وقال البعض من العلماء: معنى قوله تعالى: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55] بأنهم أقسموا أنهم ما أقاموا في قبورهم إلا ساعة.
وقال من قال تعليقاً على هذا الفهم: إن كانوا قد أقسموا على أنهم لم يقيموا في القبور إلا ساعة فأين عذاب القبر وهو حق؟ وتواترت به الأحاديث، فكيف لم يشعروا وهو عليهم وفي أرواحهم؟ فكان جواب البعض ممن حاول أن يقر هذا الفهم وهذا المعنى بقوله: عذبت الأرواح والآن قد بعثت الأشباح.
والأشباح لم تكن ذات روح لم تشعر بالعذاب، ولكن الذي شعر بالعذاب هي الروح، فلو أنهم شعروا بالعذاب وعلموا به ثم كذبوا، فإنهم كذبة في الدنيا ثم كذبوا في الآخرة مرة ثانية.
وهذا المعنى في القرآن في غير ما آية، من أنهم أقسموا على أنهم ما لبثوا في الدنيا غير ساعة، وأن عذاب القبر حق، والعذاب للروح لا للشبح.(180/7)
تفسير قوله تعالى: (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون)
قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم:57].
معنى قوله تعالى: (يومئذ) أي: يوم القيامة.
و {لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الروم:57] أي: لا ينفع الذين كفروا.
و {مَعْذِرَتُهُمْ} [الروم:57] أي: أنهم أخذوا يعتذرون ويقولون: لم نعش في الدنيا إلا ساعة، ولم تكفنا للإيمان ولا العلم بالإيمان، فقد كنا جهلة، لم نعلم الحقيقة إلا الآن، ولكن الله لم يقبل عذرهم، فقد قامت عليهم الحجج المتوالية والمتظافرة من أنبيائهم ورسلهم، ومن علمائهم، ومن كتب الله التي أنزلت على رسلهم وأنبيائهم.
وقوله تعالى: {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم:57].
أي: لا يقبل عتابهم، يقال: فلان استعتب فلاناً إذا طلب منه أن يزيل عتبه عليه، ويعذره، ويسامحه، ويغفر له.
فالكفار ما هم بمستعتبين، فعتابهم يضرب به على وجوههم ولم يقبل منهم، وعتاب الله لهم كان عذاباً، ونقمة، وناراً خالدة دائمة أبدية لكل من مات ظالماً لنفسه بالشرك والكفر.
لا يقبل زوال عتبهم، ولا تقبل معذرتهم، ولا يقبل قولهم الكاذب أنهم لم يقيموا في الدنيا غير ساعة.(180/8)
تفسير قوله تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن للناس من كل مثل)
قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} [الروم:58].
أي: ضرب الله للناس مسلمين وكافرين الأمثال، والأشباه والنظائر ليعلموا، وليدركوا، وليفهموا.
فبين الله لهم في القرآن الكريم الحلال والحرام ليتركوا الحرام كله، وليفعلوا من الحلال ما يطيقونه حسب قدرتهم ورغبتهم، وضرب به الأمثال للعلم والمعرفة والإيمان.
وقوله تعالى: {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم:58].
أي: من كل شبيه ونظير، لعل الناس يدركون ويعون.
وقوله تعالى: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} [الروم:58].
أي: ولو جئتهم يا محمد مع هذا القرآن الذي ضربنا فيه للناس كلهم أمثالاً وأشباهاً ونظائر مما تراه أعينهم على الغائب، وما تسمعه أذنهم مما لا يسمعونه، ليعلم الغائب بالحاضر والحاضر بالماضي والمستقبل بالحاضر.
ومع ذلك مهما أتيتهم به من آية ومن معجزة ومن بينة تدل على صدقك، قالوا: بل أعانك عليه قوم آخرون كما زعم الكافرون الضالون، وقالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} [الروم:58].
أي: تعيشون في باطل، فما تزعمونه باطل وما أتيتم به باطل، فكذبوا الصدق إذا جاءهم، وافتروا على الله بما ليس واقعاً فما ازدادوا إلا كفراً وجحوداً.(180/9)
تفسير قوله تعالى: (كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون)
قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:59].
أي: كما طبع على قلوب هؤلاء الكافرين فلا يفهمون، وطبع على أسماعهم وعلى أبصارهم، فأغلقت عن السماع وعن الرؤية وعن الفهم بإغراقهم في الكفر والظلم، ولجحودهم المتواصل أصبحوا كالحجر الأصم الذي لا يعي ولا يعقل.
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ} [الروم:59] أي: كما فعل بأولئك.
وقوله تعالى: {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:59].
أي: يطبع على قلوب الجاهلين الذين لا يريدون علماً بالله، ولا بكتاب الله، ولا برسول الله، ولا بسنة رسول الله، ولا علماً بالحقائق ليميزوا بينها وبين الباطل.
طبع الله عليهم وأبعدهم عن الفهم؛ لأنهم لم يريدوا فهماً ولا علماً ولا إيماناً.(180/10)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق)
قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60].
أي: فاصبر يا محمد على كفر هؤلاء وعلى شتمهم وجحودهم، وذلك قبل أن يفرض الجهاد.
فهذه السورة مكية، والجهاد لم يؤذن به في مكة، إن هو إلا الصبر، يأمر الله به رسوله، ويأمر به رسوله الناس، فكان رسوله عليه الصلاة والسلام يمر على أتباعه وهم يعذبون، ولا يجد لهم أكثر من أن يقول: (صبراً آل ياسر؛ إن موعدكم الجنة).
يأتون إليه يريدون الحرب والقتال فيقول لهم: (لم أومر بهذا بعد)، ولم يؤذن بالقتال إلا في المدينة المنورة عند نزول أول آية في الأمر بالقتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39].
فعندما استأذن المؤمنون رسول الله للقتال وكرروا ذلك أذن الله لهؤلاء الذين شهد بأنهم قد ظلموا، وأخرجوا من ديارهم بغير حق، وقوطعوا، وأخذت أموالهم وأولادهم وأملاكهم وطردوا من بيوتهم إلى بيوت غريبة وأرض غريبة، إذ ذاك أذن الله لهؤلاء المظلومين أن يقاتلوا فنصرهم.
فقوله تعالى: {فَاصْبِرْ} [الروم:60] وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك.
وقوله تعالى: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم:60].
أي: ما وعدك الله به يا محمد من نصر، وتفوق، وسحق للأعداء، وعودتك لمكة فاتحاً منتصراً معززاً، إذ أنزل عليك وأنت لا تزال في الطريق إلى المدينة مهاجراً: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] فهو رادك لا محالة، وستحكم فيها كيف شئت، وتتصرف في رقابهم كيف شئت.
فما وعدك الله به من نصر ونشر للإسلام في مختلف بقاع الأرض مشارق ومغارب، شمالاً وجنوباً، كل ذلك واقع لا محالة، فالذي وعد بذلك الله الذي لا يخلف الميعاد.
وقوله تعالى: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60].
الأمر له لأمته كذلك، أي: لا يدعوك للخفة: خفة العقل والعمل والقرار المتسرع، وإياك أن تتبعهم أو أن تسايرهم في سلوك أو في دعوة أو في عمل.
وقوله تعالى: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60].
أي: الذين لا يوقنون بيوم البعث، ولا يوقنون بك نبياً رسولاً، ولا يوقنون بأن الإسلام دين حق، وبأن القرآن كلام الله الحق، هؤلاء لا تهتم بهم ولا تلتفت إليهم، وإياك أن يستخفوك بأن تكون خفيف العقل، والسمع، أو تغتر أمتك بالكافرين، ويتبعون أعمالهم ويقولون بفلسفتهم ويتأثرون بدينهم.
وبهذا نكون ولله الحمد قد ختمنا سورة الروم، ودخلنا في سورة لقمان.(180/11)
تفسير سورة لقمان [1 - 7]
أنزل الله القرآن الحكيم هدى ورحمة للمحسنين؛ أما الجاحدون الكافرون فإنهم يعرضون عنه ويعارضونه باللهو واللغو والمزامير وغيرها من لهو الحديث الباطل الذي يجعلهم خاسرين في دنياهم وأخراهم.(181/1)
تفسير قوله تعالى: (آلم)
قال الله تعالى: {الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان:1 - 3].
هذه سورة لقمان الحكيم رحمه الله ورضي عنه، آياتها (34) آية، نزلت آياتها على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم وهو بمكة المكرمة، فهي بذلك سورة مكية.
قال تعالى: {الم} [لقمان:1]، هذه الحروف المقطعة هي حروف الهجاء في لغة العرب، فمنها ركب القرآن وانتظم، وعليها قام، وهو مع ذلك معجز، أعجز الخلائق منذ نزوله وإلى يوم القيامة، وتحدى الله الخلق يوم نزوله أن يأتوا بمثله أو بسورة منه أو بآية فقط، فعجز الكل، ولم يستطع أحد من ذلك العصر إلى يومنا وإلى يوم القيامة.
وأتى السخفاء بكلام يضحك الثكلى ويحمل على الهزء والسخرية وأرادوا به معارضة القرآن، فأتوا بالسخيف من القول وبالسقط من الكلام مما لا معنى له قط.
وفي الغالب أنه عندما تذكر هذه الحروف تختم بالإشارة إلى آيات الله، فقال تعالى هنا: {الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان:1 - 2]، والضمير يرجع عادة إلى أقرب مذكور، ولا أقرب من {الم} [لقمان:1]، أي: تلك الأحرف الألف واللام والميم آيات الكتاب الحكيم.
وقال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ} [البقرة:1 - 2]، والإشارة كذلك تعود إلى أقرب مذكور، وهي الألف واللام والميم.
وبعض السور لم تعقب بهذا كما في سورة الروم: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:1 - 3].
فإن الأمر يتم بالكلمة الواحدة، فإذا تكرر مرتين وثلاثاً وأربعاً وما فوق ذلك فقد تقرر، وكما يقولون في الأمثال: الشيء إذا تكرر تقرر، وقد تكرر ذكر الإشارة بتلك وبذلك عقب هذه الحروف، فكان ذلك تقريراً بحيث أصبح مثل القاعدة العامة، فإذا لم يذكر في بعض فمعنى ذلك أنه قد مضى وتقرر، والتكرار بعد أن يكرر مرات ومرات يصبح لا حاجة إليه.(181/2)
تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب الحكيم)
قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:2 - 4].
قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان:2].
تلك الآيات الكتابية والأحرف الهجائية التي ترتب منها كتاب الله وكلامه المعجز هي بينات الله وأحكامه في الحلال والحرام وفي الإعجاز وبيان القدرة والآيات الدالات على الوحدانية والقدرة الإلهية.
الحكيم: في أوامره ونواهيه، والحكمة: وضع الشيء في محله، والقرآن كذلك، فلا يضع أوامره ونواهيه إلا في محلها، فكان في ذلك البلسم الشافي لهداية الخلق إلى مصالحهم وإلى معاشهم ومعادهم وفي دنياهم وآخرتهم.
قال تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان:3].
أي: حال كون تلك الآيات نزلت هداية ورحمة من الضلال ومن العذاب إلى طريق الحق المستقيم، والطريق الحق هي الإسلام ودين محمد عليه الصلاة والسلام، والقرآن الكريم هو الذي بين ذلك وأوضحه؛ فلذلك وصف بذلك على أنه حال له.
وقرئ: (هدى ورحمة) بالرفع على أنه كلام مستأنف، أي: هذا الكتاب الكريم الحكيم هو هدى للناس ورحمة لهم، يهديهم من الضلال ويرحمهم من العذاب.
وقوله: (لِلْمُحْسِنِينَ)، أي: للمؤمنين الذين أحسنوا طاعة ربهم والقيام بدينه، والإحسان يأتي في المرتبة الثالثة في بيان الإيمان والإسلام، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فذكر المعتقدات فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)، وسئل عن الإسلام فذكر الشريعة المطهرة: أن تصلي خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن تصوم شهراً من كل عام، وأن تزكي مالك، وأن تحج بيت الله الحرام ثم سئل عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
فالإحسان هو: أن تعبد ربك العبادة الخالصة له كأنك تراه ببصرك، فإن لم يمكن ذلك ببصرك فليكن ذلك في ضميرك ونفسك، وما تصل له بيقينك فعلى الأقل أن تعتقد اعتقاداً جازماً قاطعاً بأنك إن لم تره فإنه يراك، فإذا كان العبد يعبد الله تعالى ويعلم بأن الله يرى عبادته وقيامه وقعوده ويراه في ليله ونهاره ويستحضر هذا في نفسه فإن عبادته تكون خالصة من أن ينالها رياء أو سمعة أو إشراك بغير الله، وذاك المراد.
قال تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:3 - 4].
فهؤلاء المحسنون هم الذين يقيمون الصلاة، ونرى ذكر الصلاة يأتي دائماً بعد الشهادتين والعقائد والإيمان بالله وبكتابه وبرسله.
وإقامتها: إتيانها في أوقاتها بأركانها وواجباتها وشرائطها مع الخشوع والاطمئنان والأذكار المذكورة والمطلوبة في الصلاة، تلاوة وتسبيحاً وتعظيماً وتكبيراً وقياماً وركوعاً وجلوساً وسجوداً، والصلاة هي: أفعال مخصوصة مبتدأة بالتكبير منتهية بالتسليم.
فالمقيم لهذه الصلاة بكل أركانها وآدابها هو من المحسنين.
قال تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [لقمان:4]، أي: يزكون أموالهم، والزكاة في لغة العرب: التنمية والنماء والزيادة، وظاهر الفعل أن الزكاة: النقص، أي: أنك ستنقص من مالك قدراً تؤديه لمن ذكر الله من الفقراء والمساكين ومن إليهم، ولكن هذا النقص هو زيادة في الحقيقية، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276].
فالزكاة تنمي المال وتضاعفه وتكثره ما دمت تؤدي حق الله فيه، وحق الفقراء والمساكين، وحق القرابة وذوي الأرحام كما أمر الله جل جلاله.
قال تعالى: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4]، كررت (هم) للتأكيد، أي: هم يوقنون بالآخرة دواماً واستمراراً، وإيمانهم بالآخرة وبيوم القيامة والبعث وعودة الأرواح إلى أجسادها يوم عودة الحياة ثانية لا شك فيه ولا ريب ولا تردد، وذلك يقين في القلب، وهذه عقيدة يوقن ويؤمن بها المسلم وإلا لكان شاكا ًمرتاباً متردداً، والشك والارتياب كفر، وقد بنيت عقيدة المسلمين على اليقين القاطع الذي ليس فيه شك ولا ارتياب.
فهؤلاء المحسنون الذين يقيمون الصلاة ويؤدون الزكاة مع إيقان ذلك في أنفسهم عقيدتهم ثابتة بأنهم فعلوا ذلك لله ولما أمر به، وما نزل على نبينا عليه الصلاة والسلام من وحي ورسالة، وهم يوقنون بأن يوم الآخرة يوم حق، فهم يعملون لذلك، حتى إذا عرضوا على الله وسئلوا عن أعمالهم كانوا موقنين متأكدين غير شاكين ولا مرتابين في يوم البعث.(181/3)
تفسير قوله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5].
أي: أولئك الموقنون بيوم القيامة المصلون المزكون المحسنون في عبادة ربهم على هدى من ربهم، فهم على هداية وعلى بيان وحق وعلى نور من أمرهم.
قال تعالى: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، الذين أفلحت وجوههم وطابت أعمالهم وزكت عبادتهم فقبلها الله منهم، فكانوا مفلحين بالفوز والنجاة من النار، وبالنجاح يوم القيامة عند العرض على الله يوم الحساب، وبالانتقال من النار ومن غضب الله إلى الجنة خاتمة المطاف.
فهؤلاء المحسنون المصلون المزكون الموقنون على هداية وعلى فلاح، وهم الذين يقبل الله أعمالهم وعقائدهم، ويجعلهم من الفائزين يوم القيامة حقاً.(181/4)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله)
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6].
يقول ربنا جل جلاله: من الناس ناس يشترون لهو الحديث ويدعون الحق في حديثهم، ويتركون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم يذهبون يبذلون مالهم ووقتهم يشترون به اللهو والباطل؛ (ليضل عن سبيل الله بغير علم) أي: لتكون عاقبة عملهم ونهاية مطافهم فاللام للعاقبة، أو يفعلوا ذلك من أجل أن يضلوا، وتكون اللام لام العلة.
وإن كانت للعاقبة فإن ذلك بالنسبة للمسلمين، أي: إن فعلوا ذلك فإنما يفعلون ما تكون عاقبته ضلالاً ومعصية وباطلاً.
وإن كانت اللام للتعليل فالمعنى أنهم فعلوا ذلك لعلة شراء الباطل واللهو؛ وليضلوا بذلك عن سبيل الله، أي: فعلوه عن نية سابقة وقصد ثابت؛ ليتخذوا من الضلالة هداية مستهزئين بدين الله وبكتابه، أي: ليتخذوا ذلك هزواً ولعباً.
قال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6]، فالله يعذبهم العذاب المذل المهين؛ جزاء ما لعبوا في الدنيا واستهزءوا بالحق واشتروا اللهو والباطل.
وعن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وجماهير التابعين والأئمة وأقسم ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات بأن اللهو هنا هو الغناء والمزامير وما يلهيك عن الله وكتابه وعبادته، واستشهدوا على ذلك بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فالقينات والمغنيات والجواري لا يجوز شراؤهن لهذا المعنى، قال ذلك الصحابة، وممن قال ذلك من التابعين سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب في طائفة من كبارهم وجماهيرهم، فقالوا: إن اللهو هو المزمار وآلات الغناء، وهو الغناء المشغل عن الله الذي تشغل به زمانك وحياتك كلها من الصباح إلى المساء ومن الليل إلى النهار، وتشتريه ببعض المال؛ لتضل عن سبيل الله، ولتنتقل من الهداية إلى الضلال، وتتخذ ذلك هزواً بالآيات وبالإسلام وبالحق الذي جاء عن الله، فهذا الغناء والمجون إذا اشتريتها بمالك فقد اشتريت اللهو بمال وثمن، وعندما تعكف عليهما ليلك ونهارك والناس يعبدون الله ويصلون ويصومون ويتلون ويتهجدون، وأنت من رواية فاسقة إلى مغنية داعرة إلى كلام يدعو إلى الباطل والفحشاء إلى أنواع من الخنا ومن الفحش، ومما لا يجوز من هتك الأعراض وذكر المرأة ومداخلها وبواطنها فقد اشتريت اللهو الباطل بالمال وبالزمن، تركت الحق والعمل بالحق، وذاك باطل ولهو يشغلك عن الله وآياته والدين الحق.
والله عندما يقول: (ومن الناس) أي: من الناس الذين يزعمون الإسلام ومن الناس الكافرين كذلك من يتخذ الغناء والطرب وآلاتهما بكل أشكالها مع المغنيات وكشف أعراضهن وأصواتهن المتخنثة المتكسرة وكلامهن الفاحش، من ذكر محاسن المرأة التي لا تربطك بها رابطة، ورؤيتك لشعرها وخصرها وهتكها لبطنها ولعبها بجسدها، وذاك الباطل الذي لا يجوز أن تشغل به نفسك، زيادة على أنك تدفع فيه المال وتشتريه، فالمال في ذلك حرام أخذه أو دفعه، مع ضياع المال والوقت، وترك عبادة الله وتلاوة القرآن والصلاة والصيام والزكاة والذكر والتهجد والاعتكاف وكل أنواع العبادات، فيدع هؤلاء الناس الذين قال الله عنهم: (ومن الناس) كل ذلك، ويشترون الباطل بالمال، ويضيعون الزمن في سبيل ذلك.
ولهو الحديث هو: الحديث الباطل والذي ليست نتيجته ونهايته إلا الإفساد، من إفساد الرجال والصبيان والنساء والبنات والخدم عن الحق، وشغلهم بالباطل، وتهييج أفكارهم وما في نفوسهم للفاحشة وما يرتبط بها قولاً وعملاً.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6] فهو يفعل ذلك وهو لا يعلم أن الله حرم ذلك، ومنع منه، مع أن العقل السليم يأمرك ألا تبذل المال فيما يضر فكرك ومالك وزمانك وما يضيع عليك ما ينبغي أن تشتغل فيه بالحق لتدخره ليوم القيامة عند الله، كما قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]، وهذا الزاد الذي ستقدمه بين يديك يجب أن يكون عبادة وتلاوة وذكراً وأنواعاً من العبادات منوعة ومشكلة، فلا تذهب فتتزود بالباطل وباللهو، فإنك بذلك تجهد نفسك يوم القيامة؛ لأنك قد تزودت بكل غث وباطل وزهيد بما لا تعود عليك نتائجه إلا بالكفر والإفساد والباطل الذي لا حق فيه ولا نور ولا ضياء.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6].
أي: ليكون ضلالة، فاللام لام العاقبة في تفسير وقول، أي: لتكون العاقبة والنتيجة لمشتري الباطل والضلال والفساد والظلمات بعضها فوق بعض بغير علم من الله ولا دليل له ولا برهان من عقل أو نقل، فهو يتصرف تصرف الجاهل البعيد عن الحق عملاً وقلباً، والبعيد دليلاً عقلياً ونقلياً من الكتاب والسنة.
قال تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان:6]، أي: يتخذ آيات الله ودينه ورسالته هزواً يهزأ بها ويشتغل بالباطل، ويهزأ بالعبادة الدائمة ليلاً ونهاراً، وفي كون الإنسان يركع ويصلي، فمن وصل إلى هذا فقد وصل إلى الكفر والشرك، وليس بعد الكفر ذنب، وقد يكون ذلك عن جهالة، ولكن العاقبة تكون انتقاله من الهداية إلى الضلال ومن النور إلى الظلام.
قال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6]، أولئك الذين يشترون اللهو الباطل بالمال؛ ليكونوا مستهزئين بالحق وبالنور لهم عذاب مهين، أي: يهينهم الله بعذابه ويذلهم، فيتحملون أنواع المهانة؛ جزاء ما كانوا يظنون أنهم في دار الدنيا يشترون السرور والعزة والراحة وما ظنوه حقاً وسلواً وإذا به العذاب المهين يوم القيامة.
ويدخل في ذلك كل ما يلهي عن الحق وعن الصلاة والتلاوة وعن العبادة، فما شغل الإنسان عن وقت الصلاة وكان حاملاً على السباب والشتائم وكان سبباً إلى القطيعة بين الأرحام والأصدقاء يدخل في الآية، وما آل للباطل فهو باطل، وما آل للحرام فهو حرام، فقطيعة الأرحام وما يوصل إليها حرام، ومقاطعتك المسلم لدنيا ولباطل حرام، فما يوصل إلى ذلك فهو حرام، ومن ذلك الشطرنج.
وبعض السلف أباح لعب الشطرنج وهم قلة قليلة، وروي ذلك عن الإمام الشافعي وإبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن أبي وقاص من علماء المدينة وأئمتها وعن الكثيرين، وقالوا عن الشطرنج: يعلم الرأي والفكر والسداد، ولكن ذلك إذا كان لا يشغلك عن الصلاة والعبادة وتعلم العلم وما يكفيك في حياتك للمعيشة ولا يحوجك للناس ولا يبذل ماء وجهك للناس.
على أن أكثر الذي ولعوا بلعب الشطرنج يشتغلون به الليل والنهار، ويشغلهم عن الصلوات، فيصلونها جميعاً وينقرونها نقراً، ولا يفكرون بعد ذلك في مصلحة دينية ولا دنيوية، ونعلم من ذلك الكثير الكثير مما كان سبباً لخصامه مع أهله والافتراق بعد ذلك والطلاق، وأحدهم كان يغيب عن زوجته الليالي ذوات العدد، فإذا عاتبته ولامته صاح في وجهها، فنشأ عن ذلك الخصومة والغث من القول، وكانت النتيجة الطلاق.
فإذا كان الشطرنج أداة باطل ولهو وتمزيق الأسرة وقطيعة الرحم فهو مما حرمه الله وأجمعت عليه الكتب السماوية والرسل في جميع رسالاتهم، وزاد ذلك بياناً خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم في كتابه الخاتم للكتب، فهو يدخل في هذه الآية.(181/5)
سبب نزول الآية
وقال قوم: إن سبب نزول هذه الآية أن النضر بن الحارث أحد المشركين من كفار مكة الذين عاندوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وقد خرج أخيراً في غزوة بدر يقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فأسر، فقتله صلى الله عليه وسلم صبراً كما قتل عقبة بن أبي معيط.
كان يرحل إلى فارس والروم فيأتي بقصص عن ملوك الروم وأكاسرة الفرس وخرافاتهم وحكاياتهم إلى مكة، فإذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكعبة وهو يعلن للناس كتاب الله ويقرأ عليهم من آياته يقول لهم: لا تذهبوا إلى محمد، وائتوا إلي فأنا كذلك أحفظ من القصص، وقد أتيتكم بقصص الفرس والروم وفيها من الغرائب والقصص ما يسليكم أكثر من ذلك، فكانوا يجتمعون إليه، وكان أحياناً يبذل على ذلك مالاً، وكان يأتي بالقينات والمغنيات، ويدعو إليه هؤلاء الذين يريدون الإسلام فيقص عليهم من تلك القصص، ويأمر الجواري بأن يغنين له، ويعارض بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلاوته للقرآن وذكره القصص التي أتى بها عن الأنبياء والأمم السابقة، ويقول لهم: إن حدثكم محمد عن عاد وثمود فأنا أحدثكم عن فارس والروم.
وهذا السبب والنقل لو كانا صحيحين فقد قال علماؤنا في جميع آيات القرآن والأحاديث النبوية: العبرة في عموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالعبرة من الآيات ومن القرآن والسنة بما يؤديه اللفظ، وأما السبب ومن نزلت الآية فيه فذلك تاريخ لا دخل له في المعنى، إلا إذا احتيج لمعرفة البيئة والوقت الذي قيل فيه ذلك، ولعله يفيدك فائدة لم تكن في العموم، فتبقى الآية عامة.(181/6)
من أنواع لهو الحديث في هذا الزمان
ومن لهو الحديث هذه الأفلام ودور السينما وأنواع الإذاعات والمسلسلات والروايات الضالة الباطلة التي تنشر الفاحشة والكذب والباطل.
وهذه الأفلام العارية الداعرة الفاسدة ينفق عليها المال، وهذه الصحف والمجلات ما أكثرها! وما أقل أن ترى جريدة أو مجلة منها في أرض العرب والمسلمين لا تنشر من الفاحشة ومن الضلال ومن الكفر ومن المعصية ما تحارب به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم! وهناك صحف ومجلات خصصت لهذا فقط، وفيها ما فيها من أنواع الفاحشة والدعوة إليها والسعي عليها، ويقرؤها فتياننا وفتياتنا، وفي ذلك من نشر الفاحشة والسوء والباطل ما تكون هذه الآية في شرحها وبيانها كأنها أنزلت من أجلها وهي كذلك.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6] فذاك لهو الحديث يشتريه وقد يبالغ فيسافر من أجله ويشتري تلك الأفلام ويجعل لها عرضاً في بيته، ويدعو الناس للتفرج والسهر عليها، وعباد الله المؤمنون في بيت الله يتهجدون لله قائمين وساجدين وذاكرين وعابدين وأولئك مع الشيطان، يهنيهم بفحشهم، وهكذا ليلهم ونهارهم، ويزداد هذا في شهر رمضان، ويجعلون ذلك من السرور واللهو، ويقولون عنه: اللهو البريء، وليس من البراءة في شيء، وإنما هو اللهو الباطل الفاحش الداعر الذي حرمه الله وتضيع فيه الأوقات.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان:6] حتى إذا جاءه مؤمن في تلك الحالة وقال له: يا فلان! إلى متى وأنت تعتكف على هذه الأصوات، ومتى تتزود للآخرة؟ سخر منه وقال له: خذ أنت ذلك الزاد، واربح أنت ذلك الرزق، فلا حاجة لي فيه، فهذا هو الهزء بآيات الله وكتابه، وقائل ذلك مرتد كافر، قد خرج عن الإسلام بذلك.
أما الكافر من أصله فلا يستغرب ذلك منه، إذ ليس بعد الكفر ذنب، وهو بكفره فعل ذلك أو لم يفعله خالد مخلد في النار أبداً سرمداً.(181/7)
حكم الألعاب الرياضية
والألعاب الرياضية إن قصدت للجندية؛ لتقوية البدن وإعداد النفس للجهاد في سبيل الله، ومن ذلك الكرة واللعب بالسيف والفروسية على الخيل وضرب الإشارة والأهداف والجري عدواً، فكل ذلك مطلوب شرعاً، بشرط ألا يشغلك ذلك عن وقت الصلاة، ولا يكون فيها باطل من سباب وشتائم وخصومات قد تصل إلى الضرب أو إلى القتل، فإن وصل إلى ذلك فهو مما حرم الله ونهى عنه.
ولكل شيء بداية ونهاية، فلا يجوز تجاوز الإنسان معاني الرياضة من الألعاب الرياضية التي تقوي البدن وتعين الشخص على الجهاد والقتال، وقديماً قالوا: العقل السليم في الجسم السليم، فإذا فعلتها ليسلم بدنك وتكون أعضاؤك لينة قابلة لحمل السلاح براً وبحراً وجواً مستطيعاً للركوب على الخيل إن احتجت إلى ذلك للجهاد وللقتال، فهو بهذه النية لمن يفعله يعتبر عبادة وأجراً وثواباً، وأما أن يشغلك عن الصلاة حتى يخرج وقتها فهذه كبيرة من الكبائر، ولقد قال علماؤنا وسلفنا الصالح: من ترك الصلاة كفر، وتركها أن تخرج فرضاً واحداً عن وقته بلا عذر شرعي، ففاعل ذلك يعتبر متهاوناً في الصلاة وتاركاً لها، فإن أداها فقد ارتكب كبيرة فليستغفر الله ولا شيء عليه غير ذلك، فإن كرر ذلك عزر، والتعزير عند بعض الأئمة عشر جلدات، وقد تزيد على ذلك إن أصبح ذلك سمة وعادة وخلقاً لهذا المتهاون بالصلاة المخرج لها عن أوقاتها.(181/8)
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها)
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:7].
وإذا تتلى على هذا الإنسان الذي يشتري لهو الحديث والباطل بماله {وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:7].
أي: هؤلاء الذين يشترون الباطل ولهو الحديث بالمال إذا ذكرتهم بالله وتلوت عليهم كتاب الله وذكرتهم بالحلال والحرام قاموا في وجهك وابتعدوا عنك كأنهم لم يسمعوا، ولغوا في كلامك واستهتروا بك وولوا وابتعدوا وأدبروا عن سماع كلامك.
قال تعالى: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان:7].
أي: كأن ثقلاً وصمماً في آذانهم، فهم يهزون أكتافهم مستهترين لاهين متلاعبين، وكأنك لم تقل وكأنهم لم يسمعوا.
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} [لقمان:7]، أي: أعرض في حال تكبره وتعاظمه عن سماع الآية والدعوة الحق والموعظة الحسنة وأنه خلق للعبادة لا للهو، ولكل شيء قدر، وحتى اللهو، فإن كان فيكون بمقدار لا يبعدك عن العبادة بعد ذلك، ولا يكون الوقت والزمن كله لهواً وباطلاً.
قال تعالى: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:7] فهؤلاء الذين يصنعون هذا يرفضون أن يسمعوا الكلمة والموعظة الحسنة، وإذا قيلت لهم أعرضوا عنها مستكبرين متعاظمين، وإذا سمعوها أظهروا أنهم لم يسمعوها، وكأن في أذنهم ثقلاً وصمماً وأنهم لا يسمعون بشرهم بعذاب أليم.(181/9)
تفسير سورة لقمان [8 - 11]
وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات النعيم، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك من فضل الله الذي خلق هذا الكون بسماواته وأرضيه، فيجازي المؤمنين من فضله، والكافرون لهم عذاب شديد.(182/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [لقمان:8 - 9].
يقرن الله العذاب بالرحمة ويقرن الرحمة بالعذاب، حتى تسمع الأذن في آن واحد عذابها ونذارتها إن هي عصت، وتسمع نعيمها وبشرياتها إن هي أطاعت وعبدت حقاً بلا رياء وكبر وشرك، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [لقمان:8].
الذين آمنوا بالله رباً وبالقرآن كتاباً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وعملوا الصالحات، فأقاموا الصلوات الخمس في أوقاتها بأركانها وشرائطها، وصاموا شهر رمضان من كل عام، وأدوا الزكاة التي عليهم، وتركوا الباطل والمعاصي بكل أشكالها تركاً تاماً، فهؤلاء {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} [لقمان:8]، أي: يملكهم الله يوم القيامة الجنة، وليست جنة واحدة، بل جنات يتنعمون فيها، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين خالدين فيها خلوداً أبدياً.
قال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} [لقمان:9] وعد الله ذلك وعداً حقاً، فهو منصوب على المفعولية المطلقة، أي: قد وعد الله ذلك المؤمنين، فوعدهم بجنات النعيم الخالدة الدائمة أبداً، لا موت فيها ولا انقراض ولا نهاية لنعيمها ولذائذها وسعادتها، وذاك وعد الله الحق الذي ليس بالباطل ولا بالكذب، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111]؟ لا أحد.
قال تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [لقمان:9] الله العزيز الذي لا يغالب ولا يقاوم، وليس لأحد في الأرض ولا في السماء أن يغالب ربه، لا من المؤمنين ولا من الكفار، فالجبابرة الطغاة لا يمكنهم ولا يستطيعون ذلك.
والحكيم هو: الذي يضع الأمور في مواضعها، فما أحل أو حرم فكل ذلك بحكمته لصالح العباد، وكما قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: إن هذه العبادات التي قد نتعب فيها ونبذل لها من أوقاتنا وأزماننا وصحتنا لا ينال الله منها شيء، قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، فهي كلها لكم أيها الناس! فلكم أجرها وثوابها، وأنفسكم خدمتم ولها قدمتم، فإن كفرتم فإن الله غني عن العالمين، فلا يضر الله كفر الكافرين ولا ينفعه إسلام المسلمين.(182/2)
تفسير قوله تعالى: (خلق السماوات بغير عمد ترونها)
قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان:10].
يقول جل جلاله: هذه السماوات التي ترونها الله هو الذي خلقها جميعاً بغير عمد، وهي قائمة بقدرته وبإرادته، وأنتم ترونها بأعينكم بغير عمد، فمن الذي حملها على ثقل جرمها وأطباقها طبقاً عن طبق؟ ومن الذي حملها في هذا الفضاء الواسع؟ ومن حمل ما بين السماء والأرض وحمل هذه الأرض وهي بغير عمد نراها؟ قوله: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان:10].
الرواسي جمع راسية، والراسية هنا الجبل، أي: ألقى فيها وثبت جبالاً في مختلف قارات الأرض وبقاع العالم في مشارق الأرض ومغاربها في جميع القارات، فهذه الجبال كانت لحكمة إرساء الأرض أن تميد بكم، أي: كي لا تميد بكم ولا تضطرب وتميل براكبيها والمقيمين عليها، فتصير تارة بطناً وتارة ظهراً، فلا تكاد تقيم بناء بل ولا يستطيع أحد القيام على رجليه، فأرسى الله الأرض بالجبال؛ لكي لا تميد ولا تضطرب ولا تميل بساكنيها وبالمقيمين عليها، فالله خلق الجبال لحكمة، وهو قد وصف نفسه بالحكيم، والحكيم هو: الذي يضع الأمور في مواضعها.
والعمد: جمع عمود، وهو الذي بناها فلم يحتج فيها إلى عمد، ونحن كذلك نراها محمولة بغير عمد، وهذه لا تحتاج إلى دليل لا من عقل ولا من كتاب، ونحن نراها رأي العين، ومثل ذلك الأفلاك العلوية جميعها والتي لا يحصي عددها إلا الله، ومثل ذلك الأرضين من الأولى إلى السابعة حملها ثم خلق عليها الجبال وأرساها بها كي لا تميل ولا تضطرب وإلا لمادت بنا واضطربت ولما حملت بناء ولا قائماً على رجليه، فالأرض تحتاج إلى من يرسيها، وقد خلق الله لها الجبال فأرستها وأقامتها حتى لا تضطرب.
قال تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [لقمان:10].
أي: بعثر وشتت ووزع في مختلف بقاع الأرض من جميع ما يدب على وجه الأرض ممن يمشي على رجلين وعلى أربع وعلى بطنه، ولم يذكر الطائر؛ لأنه قبل أن يطير كان يمشي على رجليه، ولا يبقى طائراً دوماً، بل يمشي على رجلين ثم يطير فينزل، ثم يطير، وهذه الدواب التي تدب على وجه الأرض من كل شكل ومن كل نوع لا يحصي عددها إلا الله، ولا يعلم أنواعها وأشكالها من الطير والحيوانات والحشرات إلا الله.
وقد ذكروا في الصحف أنه اكتشف في أرض الفلبين تسعة آلاف جزيرة، وأكثر هذه الجزر خالية لا يذهب إليها أحد، ولا حياة فيها، فنزلوا في جزيرة فوجدوا فيها براكين قد طفئت ووجدوا في فوهتها حفرة حفرها بعض البشر من العصور الحجرية، وهم أناس يلبسون جلوداً من جلود النمور والضباع، ولا يفهمون لهم قولاً ولا كلاماً، وهم أشبه بالحيوان منهم بالإنسان وإن كانوا أجساداً كاملة بيدين ورجلين وسمع وبصر، ويعيشون على ما يصطادونه من البحر ومن الطير وحشرات الأرض، وقد حاولوا بكل ما يملكون أن يتفاهموا معهم فلم يتفاهموا، وذكروا أن أعدادهم عشرات وليسوا بالكثير وهذا أشبه بما قص الله علينا من قصة ذي القرنين الذي بنى السد، وذكر الله أنه وصل إلى أقوام لا يكادون يجيدون القول ولا الكلام، ولا يكاد يتفاهمون.
ولا تزال أرض الله فيها من الغرائب والعجائب، وكل مرة يقولون: قد علمنا، ثم يجدون أنفسهم لا يعلمون شيئاً، وهذا كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، فقد علموا بعض الظواهر وخفيت عنهم جميع البواطن والكثير الكثير من الظواهر كذلك.
وأما إذا جئنا إلى البحار وما في أعماقها وإلى الأجواء وما بين الأفلاك والأنجم والكواكب فهم أجهل بذلك، وأما معرفتها فكما قال الله: {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] فما الذي أغفلهم وأبعدهم عن العلم الحق والمعرفة بالله وإلى ما تئول بهم الحياة؟ قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان:10].
أي: وأنزل تعالى من السماء غيثاً مطراً فأنبت بهذا المطر من كل زوج كريم، ومن كل شيء زوجين.
وهكذا خلق الله الخلق ذكراً وأنثى، لا يدومون إلا إذا كان الذكر مع الأنثى، الذكر يلقح والأنثى تتلقى، وهكذا يدوم النوع باللقاح وباللقاء بين الذكر والأنثى، وهكذا قل في النبات وفي الحيوان وفي الحشرات وفي الإنسان، فإذا اندثر فرع فمعناه لم يبق ذكر وأنثى بسبب انقراضهما، وكما يذكرون فقد انقرضت أنواع كثيرة من الحيوانات التي وجدوا آثارها قديماً في الحفريات التي حفروها، وهي لا تعرف اليوم، ويتخوفون أن يندثر الكثير الكثير من أنواع الحيوانات التي كانت بكثرة في الأرض، ثم قلت نتيجة الصيد والتجارة والحيوانات التي يصادونها في اللعب والفرجة وجمع المال بذلك.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان:10].
قال الشعبي: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان:10] إنسان وحيوان ونبات، فالإنسان أيضاً من الأرض، وخلق من الأرض، وأصلنا من التراب، ومن التراب تكونا بعد ذلك، وخلقت أمنا حواء من ضلع أبينا آدم كما أخبر القرآن وبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجميع النباتات والحيوانات وما يدب على الأرض خلق الله منه زوجاً، أي: اثنين ذكراً وأنثى، ونوح أخذ معه في السفينة من كل شيء زوجين، ذكراً وأنثى من أنواع الدواب والحيوانات وغيرهما؛ حتى تعود الحياة بعده مرة ثانية على وجه الأرض.
وكريم أي: مبهج، كما قال تعالى: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]، أي: يبهج النظر، وهو الأحسن في النظر والأكرم في نفسه حسناً وبهاء وبهجة.(182/3)
تفسير قوله تعالى: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه)
قال تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [لقمان:11].
أي: يا هؤلاء! ويا أيها المشركون! ويا أيها الكافرون! هذا خلق الله، فهذه السماوات مرفوعة بغير عمد، والدواب المبثوثة في مختلف بقاع الأرض والأمطار التي تنزل غيثاً لكل زوج كريم بهيج في الأرض هي خلق الله، خلقها بقوله: (كن) فكانت.
قال تعالى: {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11]، أي: هؤلاء الذين تشركونهم مع الله وتجعلونهم شركاء معه أخلقوا خلقاً مثل خلقه؟ أم لهم سماوات انفردوا بخلقها أو أعانوا في خلقها؟ وهل هناك إنسان خلقوه؟ وهل أنتم ممن خلقوه؟ وهل رزقوكم أو أطعموكم أو أحيوكم أو شفوكم من مرض؟ وهل نفعوكم أو ضروكم؟ فإذا كان الأمر كذلك {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11]، فهؤلاء الشركاء الذين جعلتموهم شركاء مع الله ماذا خلقوا؟ ودع عنك هذا الكلام أيها السامع! فهو إنما يجادل به هؤلاء ليقفوا على جهلهم، وليقف المؤمنون ويزدادوا إيماناً ويقيناً بأن هؤلاء كفرة لا منطق لهم من عقل ولا من نقل ولا من فهم ولا من رسالات سماوية ولا من فلسفات أرضية، وإنما هي جهالات لا يقولها إلا مجنون ذاهب العقل والفهم.
قال تعالى: {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [لقمان:11].
أي: بل المشركون، والظلم هنا: الشرك، والمعنى: بل الكافرون في ضلال وضياع وظلام، في كفر وشرك مبين ظاهر لذي عينين وعقل وفهم وإدراك، فهم لا دليل لهم على شركهم ولا برهان لهم على أعمالهم ولا شركائهم، فهم لم يخلقوا خلقاً كخلق الله أو يعينوا في خلق الله، فهم أبعد وأذل وأجهل من ذلك، وهم خلق من خلق الله، ولكن هؤلاء ضلوا فأضلوا، واتخذوا من الحجارة ومن خلق الله شركاء: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23].(182/4)
تفسير سورة لقمان [12 - 15]
من عباد الله الصالحين لقمان عليه السلام، فقد آتاه الله الحكمة فكانت تتفجر من بين ثناياه، وله وصايا عظيمة كثيرة، ومنها ما ذكر في القرآن من موعظته لولده بالتوحيد والحذر من الشرك، ثم طاعة الوالدين.(183/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله)
قال الله جل جلاله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12].
لقد نوه الله بذكر لقمان وأشاد باسمه وخلده مع الخالدين وكأنه نبي من الأنبياء، وما هو عند الجماهير إلا ولي من الأولياء وصالح من الصالحين وحكيم من الحكماء.
فـ لقمان جعل الله منه مثلاً لمحاسن الأخلاق والحكمة، ولنشرها وإذاعتها بين من يجب عليه أن يتحلى بمكارم الأخلاق التي جاء بها الإسلام، وجاءت بها قبل الإسلام الأديان السابقة، ولكن الإسلام أتمها وأكملها، وقال صاحب الرسالة المحمدية: (إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق).
اختلف العلماء في حقيقة لقمان: من هو؟ وفي أي عصر كان؟ وهل هو نبي أو ولي؟ فجماهير العلماء على أنه صالح من الصالحين، وحكيم من الحكماء.
وهناك رواية عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس أنه قال عنه: إنه نبي، والطريق إليه لا تصح، ولو صحت لكان قد انفرد بقول لم يقل به غيره.
ولم يذكر الله عنه نبوة ولا رسالة، وإنما ذكر أنه آتاه الحكمة.
وقيل: إن لقمان حفيد ابن عم إبراهيم خليل الرحمن وأبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقيل: هو ابن أخت أيوب نبي الله، وقيل: هو ابن خالته.
وعلى هذا فهو حر من الأحرار ذو نسب معلوم، إما من عشيرة إبراهيم، أو هو من حكماء بني إسرائيل، وكل هذا قد نقل عن بني إسرائيل ولا يعتمد، ولم يأت فيه شيء صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي صح هو ما في الآية الكريمة، وأنه حكيم من الحكماء أنطقه الله بالحكمة فتفجر بها لسانه، وأصبح ينطق بها بما لو جمع لملأ مجلدات ضخمة منذ العصور الساحقة إلى يوم الناس هذا.
وقال قوم: هو حبشي، وقيل: نوبي.
وقيل: هو عبد كان لبني حسحاس يرعى إبلهم ويخدمهم خدمة الموالي لساداتهم، ووصفوه بالسواد وبالمشافر وبالشعر المفلفل وبشق القدمين وبالفطس.
ولو كان كذلك لم ينقصه ذلك شيئاً في مقامه وفي حكمته، فالإسلام لم يفرق بين الألوان والأجناس: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم)، وقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وقد كان المولى من سادات الصحابة كـ بلال مؤذن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك جهجاه أجير عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان هكذا الكثير من السلف، وما زادهم ذلك إلا ذكراً وصلاحاً واتباعاً وقدوة بين المؤمنين.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان:12] يقول ربنا جل جلاله بأنه آتى لقمان ومنحه وأكرمه بالحكمة.
والحكمة هي: الفقه والفهم والعلم، وإصابة المحز في القول والفعل، ولقد كان لقمان حكيم اللسان والقلب، حكيم النصائح والمواعظ، والله جل جلاله سيقص علينا في هذه السورة التي سميت به نصائح منه ومواعظ لولده.
فقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12] أي: آتيناه العلم والفهم والإصابة فيما يقوله ويفعله ويدعو له، قالوا: رآه مرة عبد زنجي فقال له: ألست كنت معي راعياً لأغنام بني فلان، قال: بلى، قال: بم نلت ما نلت؟ قال: لأني لم أشتغل إلا بما يعنيني، ولم أر يوماً فيما يعتبر لهواً وباطلاً، وأقول القول إذا علمته، وأسكت عما لا أعلم، وأحترم من سبقني بالعلم والسن والفضل، ومع ذلك أعترف لله بالفضل وبالإكرام، فهذا الذي أنزلني ما تراه! وهكذا: العلم يرفع بيتاً لا عماد له والجهل يخفض بيت العز والنسب {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان:12] أي: أن تشكر لله على ما أعطاك يا لقمان، والشكر يكون باللسان وبالجنان وبالأركان، فالشكر على المال الإعطاء منه نفقات وصدقات وزكوات واجبات ونوافل، والشكر على الحكمة أن تؤديها كما ملكتها لمن لا يعلمها، فتعلم الناس الحكمة وتوجههم إلى الخير، تلك زكاتها وذلك شكرها، مع القول باللسان: أشكر الله على ما تفضل به.
وقوله: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان:12] أي: من شكر ربه وحمده على ما أعطاه فهو في الحقيقة يشكر نفسه، ولها قدم، ومن أجلها عمل، فثمرة الشكر أن يكون صاحبه من أهل الخير ومن أهل الجنة، ممن رحمهم ربهم ورضي عنهم، ورفعهم إلى درجات الصالحين والصديقين والحكماء.
إذاً: الشكر على الحكمة والشكر على المحاسن والمزايا والمكارم هو شكر الإنسان لنفسه، وأجره وثوابه له، والعاقبة للمتقين.
وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12] أي: ومن جحد النعمة وكفرها ولم يعترف بها ولم يشكر الله عليها فإن الله غني عنه، وهو المحمود في السماوات والأرض، وهو صاحب الحمد المطلق على ما أولى به وأنعم وما خلق ورزق وهدى.
فكفر الكافرين لا ينقص من ملك الله شيئاً، وإيمان المؤمنين لا يزيد في ملك الله شيئاً، وإنما من كفر فنفسه أضر ومن شكر فنفسه نفع.(183/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
أي: اذكر يا محمد وتذكر لقمان عندما أخذ يعظ ولده بالحكمة ويعلمه إياها، وكان أول ما قال له: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
فأول حكمة علمها لولده بألا يجعل مع الله شريكاً ولا نداً، وإنما يعبد الله الواحد الذي لا ثاني له في ذات أو صفات أو فعال، وبأن يمحص الله الوحدانية وأنه الرب والإله الواحد الخالق الرازق، لا ثاني معه ولا مؤازر ولا شريك، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً.
قال وهو يعظ ويعلم ويرشد ولده: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، أي: الشرك أعظم أنواع الظلم، ولا ظلم أكبر ولا أعظم منه؛ لأنك ظلمت الحق فأزلته عن مكانه وأعطيته باطلاً لما ليس له ولا يستحقه، ونزعت الألوهية برأيك الضال وأعطيتها مخلوقاً مرزوقاً، وأعطيتها من لا يضر نفسه ولا ينفعها، وأعطيتها لمن خلقه الله، ثم أنت ظلمت نفسك بابتعادك عن الحقائق، بأن جعلتها وصنفتها مع المشركين الكافرين، ومن صنع ذلك بنفسه فقد أهلكها وأوردها المهالك، وقد أخلدها مع المشركين والكافرين وابتعد عن عباد الله الصالحين.
ومن أجل ذلك كان الشرك ظلماً، بل كان أشد أنواع الظلم، والله تعالى عندما يقص علينا قصة لقمان الحكيم بمواعظه وحكمه لولده إنما يرشدنا لأن نتخذ من تلك المواعظ حكمة وعلماً وفهماً، وأن لقمان قد وصفه الله بالحكمة وآتاه الحكمة، وأن ما علمه ولده يجب أن يتعلمه كل الناس كباراً وصغاراً رجالاً ونساء، فحكمته هذه التي قصها الله علينا في كتابه ينبغي أن نتخذها حكمة لنا، ونتخذ لقمان في ذلك أستاذاً ومرجعاً في مثل هذه المحاسن من الأخلاق والإيمان بالله، والكفر بالمشركين ممن لا وجود لهم ولا حقيقة لهم ولا ثبات.
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ} [لقمان:13] (يا بني) قرئت: (يا بنيي) وقرئت مسكنة (يا بنيْ) وكلها في القراءات السبع المتواترة، وكلها بمعنى واحد.
فهو ينادي ولده متحبباً مدللاً له بالتصغير: (يا بني)، وبني تصغير ابن، فقد يكون صغيراً، وهو صغير على أي اعتبار بالنسبة لوالده، وقد يكون شاباً كبيراً ولكنه يصغره تدليلاً له وتحبباً، لينقل عنه الحكمة ويعمل بما جاء فيها، والولد بدوره ينقلها لأولاده عندما يكونون، وهكذا تتسلسل الحكمة في سلالة لقمان ومن يسمعها فيتعظ بها.
وقوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] من الشرك بالله ما زعم اليهود والنصارى عندما قالت اليهود: عزير ابن الله، وعندما قالت النصارى: الله ثالث ثلاثة، فهؤلاء أشركوا بالله وجعلوه ثلاثة، وأولئك أشركوا بالله وجعلوه اثنين، تعالى الله عن شركهم علواً كبيراً.(183/3)
تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن)(183/4)
معنى قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه)
قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
قيل: إن هذه الوصية هي من الله تعالى ذكرها بين وصايا لقمان لابنه وموعظته له، وقيل: هي من مواعظ لقمان، والسياق يقتضي ذلك وإن لم يكن التعبير مما يؤكده.
قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ} [لقمان:14] أي: أي إنسان من سلالة آدم وحواء ابتداء من أولاده لصلبه وأولاد حواء لرحمها.
فالله أوصى وأمر وفرض ووجه وأرشد بقوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:14] أي: أوصى الله الإنسان بوالديه حسناً، أمر ببرهما وطاعتهما فيما لم يكن فيه معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وأمر بالإحسان إليهما بالقول وبالعمل، وبخفض الجناح والصوت الهادئ، وبالكلمة اللطيفة، وبالإنصات والامتثال لكل ما أمرا به، حتى لقد قال فقهاؤنا: لو نادى الأب أو الأم الولد وهو في صلاته يجب أن يقطع الصلاة ويجيب الأب المنادي أو الأم المنادية، وقصة جريج العابد الصالح العارف مع أمه معروفه، قد قصها علينا النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه جاءته أمه تناديه وهو يصلي، وكان يقول في نفسه: اللهم أمي وصلاتي، فلم يجبها، فدعت عليه بألا يموت حتى يرى وجوه الفواجر والعواهر.
وإذا بدعوتها قد استجيبت، وإذا بـ جريج على صلاحه وعلى اعتزاله الناس للعبادة في برج من الأبراج في مكان منفرد به يتهم بالفاحشة، حيث تأتي امرأة حامل وتقول: زنى بها هذا الصالح.
فيجر الصالح إلى الحاكم مسبوباً ملعوناً مضروباً، وتهدم صومعته، وهم يسألونه: كيف تدعي الصلاح وتزني ببنات الناس، وعندما شددوا عليه قال: اسألوا الطفل الوليد، فقالوا له: أتسخر بنا؟ قال: ائتوا به، وإذا به يقول للطفل: من أبوك؟ فيقول: فلان الراعي.
في هذه القصة كرامة للأم حيث دعته فلم يجبها، وعقوبة له حيث لم يجب أمه التي أوصى الله بها وبالأب، وجعل درجتهما تأتي بعد التوحيد، ولذلك يكثر الله في الكتاب الكريم ذكر التوحيد والدعوة إليه، ويعقب ذلك مباشرة بذكر البر والطاعة والإحسان بالوالدين: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14].
قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:14] ثم أكد على الأم فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] أي: حملته ضعفاً على ضعف ومشقة على مشقة، كان الضعف الأول والوهن عندما حملت به في أيام الأشهر الأولى، ثم كلما ازداد وكبر في بطن أمه ازداد وهنها وازدادت مشقتها، حتى ولدته بألم ومشقة وضعف، ثم أرضعته بضعف ووهن إلى أن يتم رضاعه، وتبقى ضعيفة وقتاً بعد وقت وزمناً بعد زمن، حال الحمل وحال الرضاع وحال الحضانة، إلى أن يشب ويقف على رجليه، وحتى بعد أن يشب تشب معه المشقة والتعب وتكبر مع جميع الأولاد، فهم عندما يكبرون لا تنقضي مشاقهم ومتاعبهم، ولكنها تكبر بكبرهم.(183/5)
معنى قوله تعالى: (حملته أمه وهناً على وهن)
فقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] أي: حملته في بطنها وفي رحمها ضعفاً مضاعفاً وزمناً بعد آخر ووقتاً بعد آخر؛ ولذلك جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه سئل: (من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، فأوصى بالأم ثلاث مرات وبالأب مرة واحدة، لأنها من جنس ضعيف ومن ضلع أعوج كما يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام، فهي في بنيتها وفي فكرها ضعيفة، وجعل الله الوهن والضعف في الحمل عليها، فهي التي تحمل وهي التي تلد وهي التي ترضع وهي التي تحضن وهي التي تنشئ وتربي، فكان للوالدة على الوالد مزية في هذا؛ لأن الرجل قائم بنفسه، ومهما يكن من الولد فيجب أن يكون باراً بأبيه، ولكن الأب في الغالب هو مستغن عن الأولاد وليس كذلك الأمهات؛ لأنهن يتنقلن من ضعف إلى ضعف إلى ضعف إلى آخر أعمارهن.
فالأم محتاجة إلى بر الأولاد وإلى رعاية الزوج، بل ومحتاجة إلى رعاية الأب إن بقي؛ فأوصى الله تعالى بالوالدين، وجعل الوصاية بهما بعد الدعوة لتوحيده والإيمان به، ومن هنا نعلم أن البر يأتي في الدرجة الثانية بعد التوحيد، والعقوق يأتي في الدرجة الثانية بعد الكفر والشرك بالله، (وسئل النبي عليه الصلاة والسلام: أي العمل أعظم؟ قال: لا إله إلا الله، قيل: ثم أي؟ قال: برك بوالديك).
وظواهر الآي المتكررة بمختلف المعاني في كتاب الله تؤكد ذلك وتحض عليه، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] هي متعبة بحمل وكبر بطن ومشقة تتبعها أخرى إلى أن تضعه، وقد تموت قبل أن تضع، وقد تموت عند الولادة.(183/6)
معنى قوله تعالى: (وفصاله في عامين)
وقوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، أي: فطامه عندما يفصل عن رضاع أمه وثدي أمه يكون تمام ذلك عامين.
وخلال العامين تتعب الأم فهي تأكل لنفسها وتأكل لولدها؛ لكي يكون في ثديها لبن؛ ليتغذى الوليد ويعيش، فهي إنسان مكون من إنسانين، وقد يكون الحمل توأماً، فهي تتكون من ثلاثة، فتراها تأكل لتطعم نفسها ولتطعم وليدها معاً.
وفطامه في عامين كما قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233]، وفي هذه الفقرة من الآية الكريمة يقول: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، أي: فطامه، وفي الآية الأخرى يقول: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233].
فالرضاع نهايته عامان لمن أراد أن يرضع وليده عامين، وإلا فمن لم يرد لسبب أو بغير سبب أن يكتفي بأكثر من عام أو أقل منه فله ذلك، ولكن رضاع الطفولة يعتبر في هاتين السنتين السنة الأولى والثانية، فبناء على ذلك يقول تعالى في آية ثالثة: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15].
مر علي كرم الله وجهه يوماً على عثمان في مجلس تحاكم فيه امرأة ولدت من ستة أشهر، يقولون: لم تتزوج إلا منذ ستة أشهر فكيف تلد لستة أشهر؟ وكانت تبكي وتصيح وتقول: والله ما كشف علي إلا زوجي وما عرفت الفاحشة في حياتي، وإذا بـ عثمان يأمر برجمها.
فقال علي بن أبي طالب لـ عثمان: ألا تقرءون القرآن؟ قال: بلى، قال: إن المرأة تحمل لستة أشهر، قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، وقال عن فصاله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، فالعامان أربعة وعشرون شهراً فبقي إلى الثلاثين ستة أشهر، فإذا بـ عثمان يقول: قضية ولا أبا حسن لها فأصبحت مثلاً.
وعلي رضي الله عنه أوتي العلم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)، وهناك من يحاول أن يطعن في الحديث مع أنه قد ورد عن عشرات من الصحابة.(183/7)
معنى قوله تعالى: (أن اشكر لي ولوالديك)
وقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، لقد قرن الله شكره بشكرهما، وشكر الله توحيده، وشكر الله في الدرجة الأولى النطق بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وقد شكر الله من وحده، وشكر الله من عبده، وشكر الله يكون باللسان وبالجنان وبالأركان، وكل ذلك شكر لله.
وشكر الوالدين طاعتهما وخفض الجناح لهما وبرهما في كل ما يقر أعينهما، وكذلك فيما يتعلق بسكناهما وبمعيشتهما، وفيما يتعلق بالأدب معهما، ذاك شكرهما الواجب الذي لا يجوز لإنسان ما أن يقصر فيه.
وقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، أي: إلي النهاية وإلي ستصيرون وتعودون في الحياة الثانية، وهذا فيه معنى الوعيد ومعنى البشرى، فمن صار إلى الله وبعث وهو موحد لله كافر بالطواغيت بار بوالديه فالله يجازيه بالخير، ومن جاء مشركاً عاقاً لوالديه أو جاء مؤمناً ولكنه عاق لوالديه فسيجزى الجزاء الأوفى يوم القيامة بعذاب السعير وبالآلام، إلا أن يغفر الله له أو يتغمده الله برحمته ويعفو الأب والأم عنه، فذاك موقوف عليهما.
وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن شاباً يحتضر للموت ويريد أن ينطق بالشهادة فيعجز، فسأل: لم؟ فقيل له: كان عاقاً لأمه، وطلب الناس منها أن تسامحه وهو الآن يموت فترفض، فجاء عليه الصلاة والسلام إلى الشاب، وقال لأمه: سامحيه لعل الله ينقذه بك من النار، فقالت: لا أفعل، فكرر ذلك مراراً، فقالت: لا أفعل، فقال: إذاً نحرقه في الدنيا؛ فذاك أهون عليه من حريق النار يوم القيامة، فعندما رأت النار تشتعل وحمل ولدها بما أوهمت بأنه سيلقى في النار منعتهم، وقالت: أغفر له وأسامحه، فانطلق لسانه وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله).
انظروا البر بالوالدين أخرس من أجله اللسان فلم ينطق بالشهادتين والتوحيد! وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) وأول الناس الواجب شكرهم أبوك الذي كان سبباً في خروجك إلى هذه الدنيا، وأمك التي حملتك في بطنها تسعة أشهر وأرضعتك سنتين، وتحملت الكثير من أجلك، فيجب أن تُشكر الأم ويجب أن يُشكر الوالد، ويأتي شكرهما بعد شكر الله.(183/8)
تفسير قوله تعالى: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما)
قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15].
أي: إذا أمرك الوالدان بمعصية الله وأمراك بالكفر والشرك فلا تطعهما، حتى وإن جاهداك وأجهدا أنفسهما وبذلا كل قدرة وطاقة على أن تشرك بربك وتكفر بدينك وتتنكر لنبيك فهنا لا يطاعان، بل يجب أن يعصيا؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، هذا أصل ودستور من دساتير المسلمين الذي هو في المادة الأولى من دستور المسلمين العام، فلا يطاع حاكم ولا ملك ولا رئيس ولا أب ولا أم فيما إذا أمروك بالكفر بالله، أو بشرب الخمر، أو بإلغاء أحكام الله وبجعل القرآن خلفك ظهرياً، وبعدم الاهتمام بدينك.
وعلى ذلك فهؤلاء الحكام والدول التي تسمي نفسها دولاً إسلاميه وهي تبيح الربا وتبيح الخمر وتبيح المعاصي وتبيح الفواحش وتلغي أحكام الله أمراً ونهياً في محاكمها لا تطاع ولا كرامة، وإن أحلفوك بأن كنت قاضياً مثلاً -فإنهم يحلفون القضاة على القرآن وبالله بطاعة أحكامهم والخضوع لأحكامهم- فلا يمين ولا طاعة لمكره، على أن القضاء لأمثال هؤلاء حكم بالباطل، وتعاون على الشر والكفر، وتعاون على معصية الله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
فقوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] أي: إن بذل الوالدان الجهد من أنفسهما على أن تشرك بالله وتكفر به فلا تطعهما ألبتة، فإن أنت فعلت كنت في النار وبئس المصير؛ لأن الطاعة هنا تقف، الطاعة لا تكون إلا في معروف من شئون الدنيا، أما إذا بلغت أن تكون الطاعة في معصية الله فلا، فالله المطاع أولاً، والواجب أن يطاع الله في كل ما أمر به، وأن يترك كل ما نهى عنه.
وسبب نزول هذه الآية كما قال سعد بن أبي وقاص: إنها من أجله نزلت هذه الآية، فقد آمن سعد وهو من الرعيل الأول من قريش من أهل مكة، وكان باراً بأمه في الجاهلية، فعندما أسلم وآمن امتنعت أمه عن الطعام حتى يعود إلى دين آبائه، فأبى ذلك، ثم عادت أمه فأكلت.(183/9)
تفسير سورة لقمان [20 - 26]
من نعم الله على ابن آدم أن سخر له ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليه نعمه الظاهرة والباطنة، فكان عليه أن يعبد الله وحده، خاصة أنه يعلم أن خالق ذلك هو الله، لكن من الناس من يجادل في الله ويعبد غيره.(184/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض)
قال الله جلت قدرته: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان:20].
لا نزال مع ربنا جل جلاله وهو يعلمنا من حكمة لقمان، ومن مواعظه، وما تخلل ذلك من آيات الله وبيناته، فمن ذلك قوله تعالى: (ألم تروا) والرؤية هنا المقصود بها رؤية القلب، التي تساعد على التدبر والتمعن.
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [لقمان:20] أي: يا أيها الخلق! ويا أيها الناس! من مؤمنين وكافرين، (ألم تروا).
والاستفهام في الآية استفهام تقريري للبيان والتأكيد، أي: ألم تروا هذه السماوات السبع العلا، وهذه الأرضين السبع، وأن الله سخر ما فيها لكم، فسخر الأمطار لتنبت ما في الأرض والقمر والشمس يشعان على الناس وعلى النبات والأشجار، وسخر لكم الأجواء فأنتم تطيرون من إقليم إلى إقليم، ومن قارة إلى قارة، فتقطعون الأجواء، وتقطعون القارات من مكان إلى مكان، وسخر لكم الأرض بنبتها وزرعها وشجرها ومياهها وبحارها ودوابها، فكل ذلك مذلل ومسخر لك أيها الإنسان! ألا يكفيك ذلك دلالة على ربك، وعلى قدرته ووحدانيته وجلاله جل جلاله وعز مقامه؟! ألا يحملك ذلك على شكر الله آناء الله وأطراف النهار.
قوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20]، أي: أن الله جل جلاله أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة بمعنى أنه أتمها، ومنه إسباغ الوضوء، أي إتمامه أركاناً وأعضاءً واجبات ووسنناً.
وكذلك أسبغ الله عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، فالظاهرة نراها، والباطنة نحس بها ونشعر بها، تلك التي سخرها لنا في السماوات والأرض، وسخر لنا ما عليها وما بينها على أن نعم الله لا تحصى، ألا يدعونا ذلك إلى شكر الله وحمده؟ وألا يدلنا ذلك على أن الله جل جلاله هو الواحد القادر على ذلك، ولا أحد غيره؟ قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} [لقمان:20]، أي: مع كل هذا يوجد من الناس من يجادل في ربه، ويقول القول بغير دليل ولا برهان، ولذا قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان:20] أي: يجادل في ربه جاهلاً، لا علم عنده، سواء كان علم دنيا أو علم آخرة، فيجادل في الله بلا هدى، فهو لم يكن مؤمناً ولا مهدياً وإنما ضلاله وظلماته هي التي أوحت له أن يقول ما قال، وأن يجادل بما يجادل.
فلا كتاب عنده يوضح الحقائق وينير البصائر، ويبعده عن الباطل، فالذين يجادلون في الله -وما أكثرهم- يجادلون في علم الله وقدرة الله ووحدانية الله، وهم مع ذلك في جهل وظلام وكفر، وفي إصرار على الجهل والباطل، ومعنى هذا أن الله جل جلاله يحذرنا ويعلمنا ألا نفعل ذلك، وإلا كنا من الضالين المبعدين، وكنا ممن يرى ولا يبصر، ويسمع ولا يدرك، وممن لا يعي بقلب ولا بفهم ولا بإدراك.(184/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله)
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:21].
أي: ومن الناس فئة أخرى، إذا وعظوا بأن يتبعوا ما أنزل الله في كتابه، وبينه رسوله من حلال وحرام، وآداب ورقائق، وعقائد وقصص، رفضوا ذلك بحجة تقليد الآباء وقالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان:21].
أي: إنما نتبع ونقلد ما وجد عليه آباؤنا من ضلال وكفر، ومن خروج عن الحق، ويفعلون ذلك بلا دليل ولا كتاب ولا إنارة قلب ولا علم ولا معرفة، وهذا هو التقليد الباطل للآباء وإن كانوا يعملون عمل الشيطان، ولو كان الشيطان هو الموحي لهم والذي يدلهم، وقد تركوا بذلك كتاب الله وسنة رسوله إلى الشيطان وإلى سنن الآباء غير المؤمنين.
يقول ربنا جل جلاله: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:21].
أي: حتى لو كان يدعوهم الشيطان إلى الضلال والباطل، ويدعوهم ليفعلوا ذلك، ويتركوا الكتاب المنزل، ويتركوا النبي المرسل صلى الله عليه وعلى آله، حتى ولو كان الشيطان إمامهم والداعي لهم، ولا يدعوهم الشيطان إلا إلى عذاب السعير، أي: العذاب المسعر الذي يحرقهم في جهنم وبئس المصير.
تلك نتيجة اتباع دعوة الشيطان، وما يوحي إليهم به الشيطان، وهؤلاء استبدلوا الهدى والحق بالباطل، وأبوا اتباع الرحمن وما يوحي به.(184/3)
تفسير قوله تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن)
قال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22].
يقول الله جل جلاله: أما أولئك الذين يجادلون ويخاصمون في ربهم بلا علم ولا كتاب ولا دليل ولا برهان، ولا نور من الله، فإنهم مع ذلك إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، وما أوحى به الله، وما أرسلت به الأنبياء وخاتمهم صلوات الله وسلامه عليه أعرضوا، فتلك فئة الشيطان.
قوله: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [لقمان:22] أي: من أسلم واستسلم لله مطيعاً له مؤمناً به، فاستسلم له في فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:22].
وهذا الذي أسلم وجهه لربه كان ذلك حال كونه محسناً، والإحسان الدرجة الثالثة بعد الإسلام والإيمان، والإيمان أن تؤمن بربك وبالدار الآخرة وبيوم البعث، وأن تؤمن بالرسل، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، وأن تؤمن بالجنة والنار.
والإسلام: أن تصلي خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن تصوم شهراً من كل عام وهو شهر رمضان، وأن تؤدي زكاة مالك إذا بلغ الحول، وأن تحج مرة في عمرك إلى بيت الله الحرام، وأن تترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن تمتثل أمر ربك جهد طاقتك وجهد قدرتك، والضابط في ذلك ما قاله عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا)، فالباطل يترك كله، والخير يفعل منه ما في قدرة الإنسان.
فالذين يسلمون وجوههم لله، وهو الإسلام ومنه اشتق اسم المسلم، فالمسلم من أسلم وجهه لله سميعاً مطيعاً، لا يخرج عن أمره، ولا يخرج عن نهيه، يمتثل أوامر ربه وأوامر نبيه حال كونه محسناً عاملاً بالصالحات، وأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
أي: أن نعبد الله مخلصين له وكأننا نراه، وإن لم نكن نراه فهو يرانا، فإن كانت العبادة كذلك فستكون أكثر إخلاصاً وأكثر اطمئناناً وخشوعاً.
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:22]، العروة: الحلقة التي يدخل فيها العقد، ثم أصبح معنى الاستمساك بالعروة الوثقى: أن يستمسك بعهد الله الوثيق، وبدينه الكامل، وبالعهد الذي تركه لنبيه وما أمر نبيه الناس به من الإيمان بالله وبرسل الله وبعمل الصالحات في خشوع واطمئنان وإخلاص، فمن فعل هذا فقد استمسك بالعهد الوثيق، وبالدين المتين، وبعهد الله جل جلاله وبالإسلام والعمل به، إلى لقاء الله ليفي الله بوعده وبعهده، قال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] وعهد الله أن يجازي بالجنة وبالرحمة من أطاعه، وأن يعذب من عصاه وخالفه.
{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22]، أي: إلى الله العاقبة، وإلى الله النهاية في أمرنا كله، وفي أمر الله وخلق الله، وقدر الله وما أمر به، فيوم القيامة عندما نكون عنده يجازي المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته، فله العاقبة والمعاد، ولله الرجوع والمآب، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها.(184/4)
تفسير قوله تعالى: (ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم)
قال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [لقمان:23].
فنبينا عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على هداية الناس، ولكن الله لم يكلفه بالهداية، وليست الهداية هي رسالة الأنبياء والرسل، وإنما رسالتهم أن يبلغوا الناس ما أمرهم الله بتبليغه.
وأما الهداية فهي على الله، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272]، وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56].
وكان نبينا عليه الصلاة والسلام يجهد نفسه أحياناً في سبيل هداية الناس، فقال الله له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، أي: لعلك مهلكها ومؤذيها، وهذا لم يكن الأمر ولا الرسالة التي ابتعثت بها، وهذه الآية كتلك، {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان:23].
أي: من كفر بعد البلاغ والرسالة، وبعد وحي الله الذي سمعه، وبلغه حلالاً وحراماً، وعقائد وآداباً، وقصصاً ورقائق، في هذه الحالة إن بقوا على كفرهم، وأصروا على شركهم، فلا يحزنك ذلك، فلهم عذابهم، ولهم كفرهم، وهم لم يضروا أحداً إلا أنفسهم، وليس عليك الهداية وإنما عليك البلاغ.
{وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان:23]، أي: من كفر بعد البلاغ والتبليغ وبعد إسماعه كتاب الله وما أرسلت به فلا تحزن عليه، ولا تكرب من أجله، ولا تحمل نفسك ما لم تؤمر به مما لا طاقة لها به.
{إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [لقمان:23]، أي: إلينا مرجع هؤلاء ومآبهم، فهم سيحيون بعد الموت، ويبعثون إلى الله، ويعرضون عليه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وسيعلمون عند ذاك ما قدمت أيديهم، وما أسوأ فعالهم، فلكل نفس عملها وما سعت إليه، فسيعلمون عند ذلك من المحق من المبطل، وماذا كنت تأمرهم به، وهل كنت تدعوهم إلى صلاحهم وإلى جنتهم وإلى رحمة الله بهم أم إلى غير ذلك.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [لقمان:23]، الله جل جلاله العليم بما تخفي الصدور، وهو عليم بالضمائر، وبما لم ينطق به لسان، وبما ينوي به إنسان، فالله يعلم المعلن ويعلم السر وأخفى من السر، فالسر هو ما أسررت به لواحد، والأخفى من ذلك ما لم تنطق به وأضمرته فالله يعلم ما أسررت به لواحد أو أكثر أو أعلنت به بين الملأ، أو كتمته في نفسك فلم يسمع به أحد.
وهذا إنذار من الله وتهديد ووعيد للذين كفروا، وأن مآلهم إلى الله، ورجوعهم إلى الله، فسيعلمون أن أعمالهم قد سجلت عليهم، فمن أوتي كتابه بيمينه فقد اهتدى، ومن أوتي كتابه بيساره فقد ضل، وكان قد أبى الهداية وهو لا يزال حياً في دار الدنيا، والله عالم بأسرارهم، وعالم بضمائرهم، وعالم بما تخفي الصدور وبذوات الصدور.(184/5)
تفسير قوله تعالى: (نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ)
قال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:24].
وهذا التمتع القليل هو هذه الحياة الفانية، ومهما عاش فهي متعة قليلة، ولو عاش عمر نوح، فأين نوح وأين عمره؟ وأين الألف سنة والنيف التي عاشها، فقد مضى بعدها الآلاف والآلاف من القرون، وقد انتهى وكأنه لم يكن، وقد سبق أن قلنا: إنه عندما جاءه ملك الموت وسأله: كيف ترى حياتك هذه الطويلة؟ قال: كرجل له دار لها بابان، دخل عندما عاش من باب، ثم خرج عند الموت من الباب الآخر، وليس أكثر من ذلك.
فمتعة الحياة التي يعيشها الإنسان قليلة مهما عاش منعماً، ومهما عاش في عز وسلطان وصحة وخدم وحشم وجاه ومال، فإن بعد ذلك الموت والقبر، فمن التراب أتينا وإلى التراب نصير، وهي متعة بين ذلك لا تكاد تذكر.
وقد شبه صلى الله عليه وسلم الدنيا كلها كمسافر آذاه حر الشمس فاستظل تحت ظل شجرة، حتى إذا زالت الشمس أخذ طريقه وذهب في سبيله، هكذا الدنيا كلها.
وهكذا عندما يبعث الكفار الضالون يوم القيامة، ويسألون: {كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف:19] فيجيبون: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19] فيحسبون الدنيا كلها بما مضى فيها من القرون كيوم أو كبعض يوم.
قوله: {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:24]، يضطرهم أي: يكرههم ويدعوهم بالضرورة إلى العذاب الغليظ، وإلى العذاب المؤلم الذي لا يطاق وإلى العذاب المهين الموجع، وهي جهنم، أعاذنا الله من حرها وعذابها.(184/6)
تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)
قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25].
وهؤلاء على كفرهم آمنوا بالله، ولكنهم أشركوا معه غيره، فلئن سألتهم عن السماوات المرفوعة بغير عمد، وعن هذه الأرض التي أرسيت بالجبال، والتي يعيش عليها من كل دابة: إنساناً وجناً وحيواناً وطيراً، فإن سألتهم من خلق ذلك ليقولن الله: أي: ليقولن مقسمين؛ فاللام لام التوطئة للقسم، ومؤكدين ذلك بالنون المؤكدة، فليقولن: الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وخلق ما بين ذلك.
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [لقمان:25]، أي: الحمد لله على أنه المنفرد بالخلق، الحمد لله على أن الله لم يكن له شريك في الملك، ولا في الخلق ولا في الأمر، فالحمد لله الذي جعل المشركين والأعداء، والذين جحدوا دينهم، وجحدوا وحدانية ربهم، يعترفون أن الله وحده الذي انفرد بخلق السماوات والأرض.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25]، أكثر الناس -وهم المشركون- لا يعلمون أن الله واحد لا ثاني له، ومع اعتقادهم، ومع اعترفاهم بأن الله الخالق للسماوات والأرض تجدهم يشركون مع الله غيره، ممن لم يخلق أرضاً ولا سماءً، ولم يخلق خلقاً كخلق الله ولا قريباً من خلق الله.
إذاً فلم تعبدون ما لا يخلق وما لا يضر ولا ينفع، ومن ليس بيده حياة ولا موت؟! ليس هذا فعل العقلاء ولا فعل من خلق الله له هذه الدنيا، وسخر له السماوات والأرض، وسخر له الشمس والقمر، فهو مع هذا يسوس كل ما خلق وسخر له، فيأبى إلا الشرك بالله، وعبادة ما لا يضر وما لا ينفع، وهذا فعل من لا عقل له ولا سمع ولا بصر، وهؤلاء كما وصفهم الله: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].
قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25] فأكثر الناس كافر مشرك، والمؤمنون ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، وقد قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، فأكثر الناس ما بين مشرك وكافر.
ومن هنا نعلم بطلان تلك القاعدة التي يجعلونها في البرلمانات وفي المجالس الدولية، وفي المجالس الحكومية وهي: القول بالأكثرية، فليست الأكثرية مصيبة دائماً، بل الأكثر أن الأكثرية ضالة ومبطلة، وأن الحق ليس بقلة ولا بكثرة، إنما الحق بالدليل والبرهان، وقد ظهر نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه البقاع المقدسة وهو يدعو الخلق إلى عبادة الله الواحد ويقول بما أمره الله به: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158].
قام وهو وحده الموحد المؤمن في الأرض وهو الذي جاء بالحق ومعه الحق، وبعد أن جاء بالتوحيد وأنزلت عليه الرسالة، آمنت معه امرأة ورجل وغلام، آمنت خديجة، وآمن أبو بكر، وآمن علي رضي الله عنه، فكان هؤلاء وحدهم هم أهل الحق والثواب الأعظم، ومن يجب على الخلق كلهم أن يهتدوا بهديهم، ويؤمنوا إيمانهم، ويسلموا إسلامهم، وينيبوا إلى الله إنابتهم، والإنابة إلى الله الرجوع إليه عبادة وديناً، والرجوع إليه في الأوامر والنواهي، وفي الآداب والرقائق.
فالله جل جلاله عندما يأمرنا بطاعته، وعندما يدلنا على دلائل وحدانيته، ودلائل قدرته إنما يدلنا لخيرنا ولمستقبلنا، ولكي نأتي الله يوم القيامة مؤمنين منقذين من عذابه؛ ولكي لا نصنف مع الكفرة والمشركين.(184/7)
تفسير قوله تعالى: (لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد)
قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان:26].
وهل غير الله في الأرض، فلله ما في السماوات والأرض ملكاً وخلقاً وقدراً، وله ما في السماء وما عليها وما فيها، ولله الأرض وما فيها وما عليها وما في باطنها، وما بين السماوات والأرض، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، فالكل عبد وملك لله فكيف يصبح المملوك شريكاً للمالك؟! تلك خصلة لا يؤمن بها من رزق عقلاً وفهماً، فهؤلاء الذين يجعلون مع الله شركاء إنما يجعلون عباد الله وخلق الله الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، بل هم عبيد الله وخلقه.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان:26]، أي: إن الله هو الغني عن عبادة خلقه، وعن أعمالهم، وهو المحمود الذي يحمده الكل بحق، طائعين ومكرهين بما رزقهم وخلقهم، ودبرهم وأعطاهم.
فالله جل جلاله هو المنفرد بالحمد والمنفرد بالخلق، وهو الغني عما سواه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].
فلا يوجد مخلوق على الأرض إلا وهو فقير لغيره، فالملك -على سبيل المثال- فقير للخباز، وفقير للبناء، وفقير للمرأة لكي تلد له، والفقير محتاج لكل شيء، فلا غني إلا الله، والكل فقير إليه.
خرجنا من أرحام أمهاتنا لا نملك شيئاً فكسانا بعد عري، وأشبعنا بعد جوع، وملكنا بعد عوز، وعلمنا بعد جهل، وأعطانا بعد منع، جل جلاله وعز مقامه، هو الله الغني الحميد.(184/8)
تفسير سورة لقمان [27 - 31]
الله جل جلاله المتفرد بالخلق والرزق، لا يحيط الإنسان بعلمه ولا يدرك عظمته وجلاله، ومن ذلك أن كلماته لا تنفد ولو كتبت بماء البحار وأغصان الأشجار، ومن ذلك أن خلق الناس وبعثهم ليس إلا كنفس واحدة، ومن ذلك أنه يولج الليل في النهار والنهار في الليل.(185/1)
تفسير قوله تعالى: (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر)
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27].
نبينا عليه الصلاة والسلام هو الذي أوتي جوامع الكلم، وهو أفصح العرب وأبلغهم، وقد حمد الله بمحامد لا يقدر أحد من الخلق أن يحمده مثلها، ومع ذلك اعترف بالعجز والقصور أمام نعم الله، وأمام مقام وآلاء الله فقال: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، أي: فأنت وحدك القادر على أن تثني على نفسك، أما الخلق فهم عاجزون مقصرون.
ولذلك عدد الله جل جلاله آلاءه، فذكر إجمال نعمه الظاهرة والباطنة، من تسخير السماوات والأرض للإنسان وتسخير الشمس والقمر، ثم بعد ذلك عمم فذكر ما لا يجمعه قلم، ولا يكتبه قرطاس، ولا يحفظه صدر فقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان:27].
يقول الله للناس: مهما علمتم عن الله فأنتم به جاهلون، فلو أن شجر الأرض جميعها بريت أقلاماً ثم جعلت البحور التي في الأرض عموماً -ولا مفهوم للعدد هل هي البحور المحيطة أو غيرها- فكل بحار الأرض لو كانت مداداً لهذه الأقلام، وكتبت الأقلام ثناءً على الله وصفاته وجلاله وعزته ومقامه لجفت الأقلام وانتهت الشجر من الأرض ولانتهت البحار مداداً، ولو صب بعضها في بعض سبع مرات، مرة بعد مرة إلى السابعة.
وليس معناه أنه إذا أصبحت أكثر من سبع استطاعت أن تحصي كلمات الله، وعلم وجلال الله، فلا مفهوم للعدد، ولن يتم ذلك ولن يحصيه إلا هو.
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} [لقمان:27].
أي: يزيده ويمدده من خلفه (سبعة أبحر)، وكما تقول لغة العرب التي بها نزل القرآن: إنه لا مفهوم للعدد، فلو انتهت وجفت وحفيت الأقلام لما نفدت ولا انتهت كلمات الله وعلوم الله وجلال الله جل جلاله وعز مقامه.
وفي قصة موسى والخضر، أراد الله تعالى تعليم موسى وتأديبه عندما سئل: من أعلم الناس؟ قال: أنا، فقال الله له: الخضر أعلم منك، والخضر ليس نبياً عند الكثيرين، وإنما هو صالح من الصالحين، وولي من العارفين، فعجب موسى ورجا ربه أن يجمعه به ليراه ويتعلم من علمه، فتعب ورحل من المشرق إلى طنجة وهي مجمع البحرين، كما يقول أبو هريرة وغيره من الصحابة ومن التابعين، فلقي عناءً وتعباً أثناء رحلته إليه إلى أن كانت الأمارة فوجد الخضر وتعلم منه، وكان مغزى القصة: التأديب والعلم من الله لموسى عليه السلام.
ومما تعلمه موسى من الخضر أنه ذات مرة وقف طائر صغير على البحر فأخذ بمنقاره قطرة، فقال الخضر: يا موسى! والله ما علمي وعلمك أمام علم الله إلا كهذه القطرة التي أخذها هذا الطائر من البحر.
ولذلك يقول الله عن علم الخق: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، فما علم كل الناس من الدنيا إلا ظاهراً منها والقليل القليل، وبواطنها وأسرارها ومعارفها المستتمة التي لا تراها عين، لم يعلم منها شيء.
أما علم الآخرة فعلم منه الرسل، وعلم منه الصحابة، وعلم منه العلماء كل حسب درجته، وكل حسب مقامه، أما كلمات الله فلا تحصى، ولا يحصيها أحد؛ قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، إلى أن يصل العلم إلى الله جل جلاله المنفرد بالعلم المطلق.
{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27]، العزيز الذي لا يغالب ولا ينازع، له الأمر وهو القاهر فوق عباده، والحكيم في أمره ونهيه، الذي يضع الأمور في مواضعها، وهو الحكيم جل جلاله الحكمة المطلقة، وما الحكمة بالنسبة للناس، إلا صفة مقربة للمعاني.(185/2)
تفسير قوله تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة)
قال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان:28]، يخاطب الله الذين جهلوا جلاله ومقامه، ولم يعرفوا قدرة الله ولا برهان الله ولا آيات الله فجعلوا له شركاء وجعلوا له آلهة من دونه، قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23].
فالخلق كلهم منذ آدم إلى آخر إنسان تقوم عليه الساعة، فخلق الله لهم ثم بعثه لهم مرة ثانية ليس إلا كنفس واحدة، أي: كما يقول للنفس الواحدة: كوني، فتكون.
فيوم القيامة يقول للخلق كلهم: قوموا لله، فيقومون جميعاً، فالحياة الثانية لن تكون كالحياة الأولى فإنه في الحياة الأولى خلقنا أطواراً، وخلقنا مراحل، فقد كنا تراباً، ثم كنا ضلعاً من ضلع آدم والذي خلق الله منه أمنا حواء، ثم كون الخلق بعد ذلك من ماء مهين، ثم من نطفة فعلقة فمضغة فعظام بلا لحم فعظام مكسوة لحماً، فخلق سوي في بطن الأم، ثم بعد ذلك طفل يرضع ثم يحبو ثم يفطم، ثم يصبح غلاماً مميزاً، ثم يافعاً، ثم مراهقاً، ثم شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، ثم يموت.
أما يوم القيامة فستطوى هذه المراحل كلها، وإنما يأمر الله إسرافيل الذي نفخ في الصور أول مرة فمات كل من على الأرض، وكل من على السماء، ولم يبق إلا هو وملك الموت، فأمر الله الكل أن يموتوا فماتوا، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، سيفنى الجن والإنس والملك ولن يبقى إلا الله.
وعندما يأمر الله بالبعث في الحياة الثانية يأمر إسرافيل بالنفخة الثانية وإذا بهم قيام ينتظرون أمر الله، ولا حاجة لما كان في التطور الأول، بل إننا نبعث كما متنا، صغاراً أو كباراً، أصحاء أو مرضى، عراة حفاة حاسري الرءوس غرلاً أي: أن تلك الجلدة التي تزال عند الختان والتطهير تعود وترجع.
سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، عندما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا، قالت: (يا رسول الله! أنكون عراة يرى بعضنا بعضاً؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الأمر أفظع من ذلك) لن يرى أحد أحداً، لانشغالهم بأهوال يوم القيامة.
وعندما تذهب الأمم كلها مبتدئين بأبيهم آدم أول الأنبياء وأبي البشر قاطبة يقولون له: يا نبي الله يا أبانا! استشفع لنا فيقول: نفسي نفسي، ويقال ذلك لنوح فيقول: نفسي نفسي، ويقال ذلك لإبراهيم فيقول: نفسي نفسي، إلى أن يصل الأمر إلى نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام فيقولون: يا رسول الله! اشفع لنا عند ربك.
فيقول: أنا لها أنا لها! فيخر ساجداً تحت العرش ويدعو ربه بدعوات يلهمه بها ربه إذ ذاك، أي: أنه لم يكن يعلمها في دار الدنيا، فيدعو الله ما يشاء، ثم يقال له: ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، وهو المقام المحمود الذي يحمد به على رءوس الخلائق يوم القيامة، فيشفع حتى في الأمم الماضية لفصل القضاء.
قوله: (إن الله سميع بصير): أي: سميع لأقوالكم سواء كنتم مؤمنين أو كافرين، بصير بأحوالكم سواء كنتم محسنين أو مسيئين، فهو السميع لكل شيء، البصير بكل شيء جل جلاله وعز مقامه.(185/3)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل)
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان:29].
لا يزال الله جل جلاله يلفت أنظار خلقه: ألم تروا إلى قدرة الله المتنوعة العجيبة التي لا يقدر قدرها، ولا يستطيع مثلها إلا هو جل جلاله.
وقوله: (ألم تر) المقصود: رؤية البصيرة ورؤية القلب، فهي رؤية علمية إدراكية.
{أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} [لقمان:29] أي: يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، ويتضح ذلك: أن اليوم والنهار في معتدل الأرض أربع وعشرون ساعة، والشهر تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً، والسنة اثنا عشر شهراً، وهذا في أكثر بقاع الأرض، وليس فيها كلها، ففي جزء منها في الشمال عند الجزء المتجمد تكون السنة ستة أشهر ليلاً وستة أشهر نهاراً، وجاء سكان هذه المناطق حجاجاً -فإن هناك مسلمين- قالوا: كيف نصوم ونصلي؟ فقيل لهم: قدروا الشهر، وقدروا اليوم، وقدروا العام بأقرب الأراضي والأقاليم إليكم، وليس هذا اجتهاداً، ولكنه تنفيذ للنص النبوي، فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما قال لنا عن الصيام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له)، وهناك يغم في السنة كلها على أنها يوم، فيقدر بأقرب الأقاليم وهكذا وأكثر من ذلك.
وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام في علامات الساعة الكبرى أنه سيكون عندما ينزل الدجال اليوم كالسنة، واليوم كالشهر، واليوم كالجمعة، واليوم كالومضة من النهار، قيل: يا رسول الله! كيف نصلي عندما يكون اليوم كالسنة وكالشهر؟ قال: اقدروا له، أي: قدروا الصلوات كما تقدر في البلاد الطبيعية بالنسبة للشروق وللغروب، والمعتاد من الأرض أن اليوم -الليل والنهار- أربع وعشرون ساعة، ولكن اليوم في الشتاء يقصر حتى يصبح النهار أقل من سبع عشرة ساعة، بين ثلاث عشرة وأقل، ويصبح اليوم في الصيف سبع عشرة ساعة وقد تزيد، وإن كان اليوم أخذ ينقص قليلاً، فالإيلاج: هو نقصان الليل من أجل النهار، وزيادة الليل لأجل النهار.
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} [لقمان:29]، يطيل الليل ويقصر النهار، ويكون ذلك شتاءً، ويقصر الليل ويكون النهار طويلاً، ويكون ذلك في صدر الصيف، والذي يفعل ذلك هو الله جل جلاله الخالق المدبر، وكل ذلك لأجل الناس ومصالح الناس، ولزراعة وراحة الناس، وكل ذلك قد مضى مفصلاً، ويأتي بمناسباته كذلك.
فهل الذي أولج الليل في النهار وأولج النهار في الليل الشركاء الذين زعموهم من دون الله؟! وهل هم الوثنيون الجدد من عبدة ماركس ولينين وأمثالهم من الشيوعيين والاشتراكيين والماسونيين والوجوديين، وما إلى ذلك من الملل الكافرة، والنحل الباطلة المعبودة من دون الله، والمشركين لها مع الله؟! فهل هم الذين يولجون الليل في النهار، ويولجون النهار في الليل ويسخرون الشمس والقمر؟!
الجواب
بكل تأكيد إنه الله الذي سخر للناس ما في السماوات وما في الأرض، وما بينهما، فسخرها وذللها للناس، وللعمل بما في منافعها ومزاياها.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [لقمان:29].
فعندما تغيب الشمس تكون قد طلعت في جانب من الأرض، وهي لا تغيب على الأرض كلها، وإنما تغيب في جانب وتظهر في جانب، وتشرق في جانب وتغرب عن جانب، ولذلك يقال عن العالم الإسلامي: لا تغرب عنه الشمس لحظة ولا ثانية، فالعالم الإسلامي يعد ملياراً من الخلق، وإن كان كغثاء السيل لنزع الشجاعة وحب الموت وقذف الوهن في قلوبنا، مما جعل الأعداء يتشجعون على حساب رجولتنا وشجاعتنا، وعلى حساب ديننا.
والشمس والقمر آيات تمور فتختفي تارة وتظهر تارة في رقعة من الأرض، ولم تختف من الأرض كلها، فالقمر باستمرار يوجد في جزء من العالم الإسلامي، وكذلك الشمس، ويجري ذلك لأجل مسمى وهو يوم القيامة إلى أن يفنى الكل، وإلى أن تصبح الجبال كالعهن المنفوش، إلى أن تبدل السماوات والأرض، ويموت كل من فيها، ويبقى الله وحده ذو الجلال والإكرام.
قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان:29] أي: ألم تروا أن الله خبير بأعمالكم، فيجازي المحسن يوم القيامة على إحسانه جنة، ويجازي المسيء على إساءته ناراً.
فالله جل جلاله عندما يلفت أنظارنا للبعث إليه، وللحياة بعد الموت، فذلك لنتعظ ونعتبر، ونعلم أننا لم نعش سبهللاً، وأن الحساب والبعث بعد ذلك، وأنه لابد لكل حي أن يعود مرة ثانية.(185/4)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل)
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30].
أي: أن الله هو الحق وما سواه الباطل، فالله هو الذي جاء بالحق، وأمر به وأنزل كتابه وأرسل رسله بالحق، ودعا الناس للحق، فالمؤمن يعيش بحق، ويموت بحق، ويبعث على حق، ويؤمن بالحق الذي هو الله جل جلاله، فالله هو الحق لا سواه، وكل ما عداه باطل في باطل، كان عدماً ثم أصبح في الوجود ثم سيعود للعدم مرة ثانية، ويبقى الله وحده ذو الجلال والإكرام، ثم سيعود المخلوق ثانية بقدرة الله، لا بوجوده ولا بشركائه، فلا شريك له ولا ثاني معه.
قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30].
أي: أن الله هو العلي فلا أعلى منه، وأن الله الكبير فلا أكبر منه، وشعار المؤمن: الله أكبر، يقولها في اليوم عشرات المرات، يقولها في الأذان خمس مرات وفي الإقامة كذلك، وفي ركعات الصلاة يتنقل بالله أكبر، وندخل الصلاة بالله أكبر، فالله أكبر من كل كبير، فهو الكبير الذي لا كبير معه فضلاً على أنه الأكبر، فالأكبر صيغة تفضيل فلا كبير مع الله، هو الكبير المتعال، هو الأكبر الذي لا كبير معه.(185/5)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله)
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان:31].
أي: ألم تر يا محمد! وكل تابع له بل وكل إنسان، ألم ير بقلبه ويعتبر ويفكر ويعي كيف أن هذه الفلك تجري في البحر، وهذا الاستفهام استفهام تقريري يقرر الله تعالى به أن هذه الأفعال لا يستطيع أحد غيره أن يفعل منها شيئاً.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} [لقمان:31].
أي: هذا البحر المتلاطم الأمواج، وقد كان عمر بن الخطاب يتهيب البحر، وقد فتح الأمصار، وبلغت مملكته إلى الشام وإلى العراق وإلى فارس وإلى مصر وإلى المغرب، وزادت بعد ذلك، فطلب جنده أن يغزوا ما بعد البحار فتوقف عمر وتخوف عليهم من البحر، فكتب يسأل من ركب البحر، وهو عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين! راكبه مقصود، والخارج منه مولود، والموجود فيه دود على عود، فقال: والله لن يركبوا فيه ما دمت حياً! فتهيب عمر ولم ينشئ أساطيل بحرية، وكان في انتشاره في البر وفي فتحه ما يكفي ويكفي، لقد فتح كل ما اتصل به، وذهب إلى أعماق أرض الروم وقضى على فارس ألبتة حتى أصبحت كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: (لا فارس بعد فارس ولا كسرى بعد كسرى) وذهبت أرض مصر، فلم يبق قبط، ولم يبق مقوقس بعد ذلك، وأصبحت جزءاً من أرض الإسلام، وما حدث بعد ذلك كان من خلاف الخلفاء، وإبقائهم الأقليات بغير دليل ولا سلطان من الله.
ثم ذهب إلى أرض البربر إلى المغرب، وكل ذلك يحتاج فيه إلى بحر، فلم يركب بحراً أحمر، ولا بحراً أبيض، ولم يصل إلى المحيط، وإنما كان ذلك بعده في أيام عثمان، ثم بعد ذلك تتابع الفتح واسترسل.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} [لقمان:31].
ألم تر أيها الإنسان هذا الدود الذي يركب العود في أعماق البحار، والأمواج تتلاطم به، وكأنها الجبال، ومع ذلك تمشي هويناً، ومهما قطعت من أشهر، ومن أسابيع، ومن أيام هي واصلة لبر السلامة أي: واصلة لمبتغاها وهدفها، في عالم الأحياء بأمر الله وقدرة الله، وإرادة الله، ذلك من نعم الله على الناس، فكما سخر لهم البر سخر لهم البحر ليريهم من آياته، وليطلعوا على آيات الله وقدرته، وآيات وحدانيته، وآيات جلاله، وآيات انفراده بالألوهية وبالربوبية جل جلاله وعلا مقامه.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان:31].
إن في كل ما مضى ذكره من تسخير الشمس والقمر، وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وخلق الله الخلق كلهم، وأنهم عنده ليسوا إلا كنفس واحدة إذا قال لها: كوني، كانت، فالكل عليه هين، لا يعجزه شيء جل جلاله، وجري السفن والفلك في البحر؛ كل ذلك آيات ودلائل بينات، ومعجزات واضحات لكل صبار شكور.
والصبار هو: المؤمن يصبر على أمر الله في أداء الواجبات والطاعات والعبادات، لا يعجزه عن القيام بالصلاة برد ولا مرض، ولا علة، إن استطاع قائماً فقائم، أو جالساً فجالس، متوضئاً إن وجد الماء أو بالتيمم إذا لم يوجد.
فهو يصبر على أداء الصلوات، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام، وزكاة أمواله.
ويصبر عن الباطل والشهوات والفحشاء كلها، فلا يقربها على قدر طاقته، وهو يذكر الله باستمرار.
وصبار: صيغة مبالغة، على وزن: فعال أي: كثير الصبر.
وشكور: صيغة مبالغة، أي: كثير الشكر، فهو يشكر الله على كل شيء، حتى على ملح طعامه، حتى على شسع نعله، يشكره صباحاً ومساءً.
ونحن نشكره في كل صلاة من خلال قراءتنا سورة الفاتحة فعندما نقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، هو الشكر المنفرد الله به، ونقول عقب الصلوات: الحمد لله الحمد لله، ونقول عند النوم ثلاثاً وثلاثين: الحمد لله، ونحمده آكلين وشاربين، وأصحاء وعلى كل ما أنعم به علينا، فتلك هي صفة المؤمن، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عجبت لأمر المؤمن، كل أمره له خير، إن أصابه ضر صبر فكان خيراً له، وإن أصابه خير شكر فكان خيراً له) فهو بين صبر وشكر، فكل حياته في خير.(185/6)
تفسير سورة لقمان [32 - 34]
نعم الله كثيرة لا تحصى، وهي أدلة قاطعة على قدرته ووحدانيته واستحقاقه العبادة، لكن المشركين يأبون إلا الكفر به وعبادة الأصنام معه، حتى إذا غشيهم الموج في البحر وحدوا وأخلصوا فإذا أنجاهم عادوا للشرك، مع علمهم أن الله هو الذي ينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما سيكون غداً.(186/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين)
قال الله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان:32].
أظهر الله جل جلاله امتنانه ونعمته على خلقه فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان:31].
وقد ذكر الله الفلك والسفن البحرية وكيف تجري في البحار بأمره، وهذه نعمة من الله، ترى السفن كيف تطوف بين القارات والأقاليم، ويعلم ذلك كل صبار على دينه، شكور لنعمة ربه، فهؤلاء الذين يركبون السفن والفلك منهم مقتصد مؤمن، ومنهم كافر ختار غدار.
قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:32] فهؤلاء إذا ركبوا البحر وتلاعبت بهم أمواجه حتى أصبحت كالجبال علواً، وكأنها الظلل التي تظل من الشمس، دعوا الله وأخلصوا فإذا غشي الإنسان الموج وغمره وستره حتى يكاد يشعر أنه سيغرق وسيموت دعا الله مخلصاً له الدين، فيخلص في الدعاء ويرجو ربه ويطلب منه أن ينجيه من هذه الأمواج التي هي كالظلل وكالجبال تكاد تغشاه وتغرقه، ولا يذكر إذ ذاك صنماً ولا شريكاً، وإنما يذكر الله مخلصاً له دعاءه ودينه، فهو عند الشدة وعند الضرورة ينسى الشركاء، حتى إذا أكرمه الله وأنجاه إلى البر تجد منهم مقتصداً.
وفسروا كلمة (مقتصد) بأنها كفر دون كفر، أو ومنهم من يقتصد في الكفر يقول بلسانه كلمة الإسلام ويعتقد الكفر بقلبه.
ولكن كلمة (مقتصد) جاءت في القرآن الكريم صفة للمؤمن الذي يقتصد في الذنوب والآثام؛ أي: يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهو مؤمن موحد.
فأما المؤمن الموحد فيشكر الله على ما أنجاه وأنقذه من الغرق وجبال الموج.
وقوله: ((وَمَا يَجْحَدُ)) أي: ولا يكفر، والجحود: هو كفر النعمة بعد العلم بها، فهو يجحد الحق وقد عرفه، ويجحد النعمة وقد عاش فيها.
وقوله: ((وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)) الختر: منتهى الغدر وعدم الوفاء بالعهد والذمة؛ والإنسان إذا كان كلما عاهدته وواعدته خدعك فغدر عهدك ووعدك يقال له: ختار، من ختر الذمم وختر العهود والمواثيق.
وختار صيغة مبالغة، أي: كثير الختر والغدر، وعدم الوفاء بالعهد، فمن كان كذلك فالله جل جلاله يعامله معاملة المشركين الغادرين، ويعاقبه بما هو أهل له من عذاب السعير.
وقوله: ((كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)) أي: يكفر بالنعمة ويجحد بها، وقد دعا الله مخلصاً له دينه عندما كانت الأمواج تتلاطم في سفينته، حتى إذا أنجاه الله إلى البر إذا به يأبى إلا الجحود والكفر، ونكران ما أكرمه الله به.(186/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
يخاطب الله ويدعو الناس مؤمنهم وكافرهم: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ)) أي: آمنوا وأسلموا واجعلوا بينكم وبين الله وقاية بطاعته والإيمان به، تقيكم عذابه ونقمته وغضبه.
وقوله: ((وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ)) أي: خافوا يوماً وهو يوم القيامة، اليوم الذي يبعث فيه كل الخلق، اليوم الذي يقول فيه كل إنسان: نفسي نفسي، فلا والد يجزي عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، يقول الولد: نفسي، ويقول الوالد: نفسي، حتى لو حاول الولد أن يفدي والده بنفسه لا يستطيع ولا يقبل ذلك منه.
في يوم القيامة لا يتكلم أحد ولا يشفع إلا بإذن ربه، على أن الولد والوالد كل واحد منهما في غم وفي كرب، وكل يقول: رب رب، كل يدعو لنفسه فقط، فلا الولد يجزي ويغني عن الوالد، ولا الوالد يجزي ويغني عن الولد، كل مشغول بنفسه وبمحنته، وبالكرب الذي يجد نفسه فيه.
فالله جل جلاله يقول لعباده وخلقه: اخشوا يوم القيامة، هذا اليوم الذي يأتي فيه كل إنسان ويقول: نفسي، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] يوم لا يغني الوالد عن ولده، والولد يغني عن والده، كل مشتغل بنفسه.
وقوله: ((وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)) أي: ولا شيء، حتى كلمة شفقة وكلمة حنو وكلمة شفاعة، إذ لا يشفع أحد عنده في هذا اليوم العصيب الشديد إلا بإذنه.
يقول تعالى: ((إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) أي: وعد الله باليوم الآخر ووعده يوم القيامة، ووعد الله بالبعث بعد الموت، والعرض على الله يوم الحساب إما إلى جنة وإما إلى نار، وعد الله حق لا مرية فيه.
قال تعالى: ((فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)) أي: لا تغتروا ولا تعيشوا في غرور، يقول سعيد بن جبير: لا تذنبوا وتعصوا وتقولوا: سيغفر لنا، المغفرة تكون بالعمل، والسماح يكون بالطاعة، ثم بعد ذلك اطلب من الله المغفرة، أما لا طاعة ولا دين وأنت تنتظر المغفرة وتنتظر الجنة، فهيهات هيهات!! والغرور أن يمني الإنسان نفسه بشيء هو هباء وباطل وخيال لا حقيقة له في نفس الأمر والواقع.
والغرور هو الشيطان الذي اغتر في نفسه وغر غيره من الخلق.
فلا تغتر بالحياة الدنيا، ولا يغرك الشيطان فتأتي المعصية ثم أنت مع ذلك تنتظر مغفرة وتنتظر جنة لا يكون ذلك إلا بالطاعة، ولا يكون ذلك إلا بقيامك بالأوامر واجتنابك للنواهي، ثم بعد ذلك تب إلى الله مما عسى أن يكون منك بغير قصد، أو قصدته ثم ندمت فتبت إلى الله، فالله يتوب على من تاب.(186/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34].
هذه الخمس هي مفاتيح الغيب التي لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وإنما هي مما انفرد الله بعلمه فلا يعلمها إلا من يعلمه، وقد أعلم بعضها، فهو عالم الغيب لا يطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول، فقد ارتضى محمداً صلى الله عليه وسلم، فأعلمه كثيراً مما قد أخبرنا عليه الصلاة والسلام بما يكون في غده؛ كما أخبر بالفتن الحادثة بعده؛ فأخبر باستشهاد عمر، وعثمان وعلي وباستشهاد الحسين عليهم رضوان الله جميعاً.
وأخبر بالفتن الحادثة إلى قيام الساعة، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام خطب يوماً عقب صلاة الصبح إلى صلاة الظهر فنزل فصلى، ثم صعد المنبر وخطب إلى أذان العصر، فنزل فصلى، ثم عاد فصعد المنبر وبقي إلى أذان المغرب، فقال في خطبته كل ما كان وما يكون إلى قيام الساعة، يقول حذيفة: علمه من علمه ونسيه من نسيه، حتى إنه أخبرنا بالطائر يطير في السماء، حتى إنه أخبرنا بكل قائد فتنة متى يكون وما اسمه وما اسم أبيه، وفي أي عصر سيكون ومن معه.
والنبي عليه الصلاة والسلام كذلك أخبرنا بأن موته في المدينة وأنه سيدفن حيث يموت، وذلك عندما أعطى الأموال المؤلفة قلوبهم بعد غزوة حنين، وكان في نفس الأنصار شيء من ذلك، وقالوا: (لا تزال سيوفنا تقطر من دماء هؤلاء وهو يعطيهم ويدعنا، فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فجمعهم في مكان وحدهم وقال لهم: ما كلام بلغني عنكم؟ ثم قال لهم: ألا ترضون أن يعود هؤلاء بالشاء والبعير وتعودون بمحمد صلى الله عليه وسلم في رحالكم، المحيا محياكم والممات مماتكم، ولو لم أكن من قريش لكنت امرأً من الأنصار)، فهو قد أخبر عليه الصلاة والسلام أن بقية حياته سيقضيها في المدينة، وأن موته سيكون في المدينة صلى الله عليه وعلى آله، وكذلك كان.
وقبل أن يموت قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، فكانت الروضة هي قبره عليه الصلاة والسلام، فهو قد أخبر وحدد المكان الذي سيدفن فيه، وأنه بين منبره وبيته، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (القبر إما حفرة من حفر النار، وإما روضة من رياض الجنة)، ولا يزالون في المغرب اليوم يسمون المقبرة الروضة؛ تفاؤلاً أن تكون روضة وجنة على المسلمين.
قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ))، وأما علم الساعة فلم يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، مما يدل على أنه لا يعلمه، وفي حديث عمر عندما جاءه جبريل فسأله عن الإيمان فأجابه، وسأله عن الإسلام فأجابه، وسأله عن الإحسان فأجابه، وسأله عن الساعة فقال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي: لست بأعلم بها منك، وسأله عن أشراطها، فذكرها، فهذا يدل على أن الله تعالى استأثر بعلمها، ولم يخبر بها ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً.
قال تعالى: ((وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ)) لا يعلم أحد متى ينزل الغيث ومتى ينزل المطر الذي يغيث العباد، فهو سبحانه الذي يرسل الغيث رحمة بعباده، يغيثهم من محنتهم وجوعهم وعطشهم، أما متى سيكون ذلك، ومتى سينزل فلا يعلم ذلك إلا الله جل جلاله.
قال تعالى: ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ)) أي: لا يعلم ذلك إلا الله، والملك المكلف عندما يأمره الله بنفخ الروح في الجنين يقول لربه: أشقي أم سعيد؟ أذكر أم أنثى؟ فهو عند ذلك يعلمه ربه بما أمره به.
قال تعالى: ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا)) أي: لا يعلم أحد عن الغد ماذا سيكون فيه من خير أو شر، حياة أو موت، فالغد غيب استأثر الله بعلمه جل جلاله.
قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فالإنسان لا يعلم متى يموت، ولا في أي أرض يموت، لا يعلم الإنسان هل سيموت حال الشباب أو حال الشيخوخة؟ انفرد الله بذلك، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح والسنن: (إذا قدر الله للإنسان موتاً في أرض جعل له إليها حاجة)، وإذا به تجده ينتقل لتلك الأرض لتكون وفاته فيها.
ويحكى عن أحد الصالحين من بني إسرائيل، أنه أدرك ملك الموت ورآه بعينه الباصرة ورآه ينظر إليه شزراً، وإذا به يأتي لأحد أنبياء بني إسرائيل وكان هذا في المشرق فقال له: يا نبي الله! رأيت ملك الموت ينظر إلي وكأنه يريدني، فادع الله أن يحملني إلى الهند، وفي لحظات كان في الهند، فجاءه ملك الموت إلى الهند وقال: عجيب أمرك، أمرت بموتك وأخذ روحك في الهند، فقلت في نفسي: ما الذي سيأتي بك إلى الهند لآخذ روحك كما أمرني ربي وأنت هناك.
قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن والمسانيد عن جابر بن عبد الله، وعن أبي هريرة، وعن عبد الله بن عباس، وعن عبد الله بن مسعود، وعن بريدة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مفاتيح الغيب خمس لا يعملها إلا هو، ثم تلا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34])، فهذه الخمس لا يعلمها مع الله ملك مقرب ولا نبي مرسل، والآية لا تدل على الحصر.
ولا تزال عادة المنجمين والكهنة في ادعاء معرفة الغيب والاطلاع عليه جارية، ويتخذون حركات يزعمون أنهم يعلمون بها الغيب، فيقولون: سيكون غداً كذا ويكون بعد غد كذا، وقد ينظرون في خطوط الكف، وقد ينظرون في الرمل، وقد ينظرون في النجوم، وكل ذلك كهانة ورجم بالغيب وكذب على الله، فلا علم لأحد بما في الغد، ولا علم لأحد بما في الغيب، والله وحده عالم الغيب والشهادة، ولكن الله جل جلاله إذا أراد إطلاع نبيه على غيبه أطلعه، فهو عالم الغيب لا يطلع على غيبه أحداً، إلا من ارتضى من رسول، وقد أطلع أنبياءه، وأطلع إمامهم وخاتمهم صلى الله عليه وسلم على الكثير من الغيوب مما أخبر به ودون في كتب الصحاح، وكتب السنن، وكتب المسانيد، وسائر كتب السنة التي دونت ما أخبر به عليه الصلاة والسلام مما كان ويكون إلى قيام الساعة.
وقد خطب النبي عليه الصلاة والسلام مرة من طلوع الفجر إلى أذان المغرب لم يقطع خطبته إلا بصلاة الظهر وصلاة العصر، فحدث بما كان وما سيكون، روى ذلك عنه عمر، ورواه حذيفة، ورواه ابن عمر، ورواه الجم الغفير من الصحابة رضوان الله عليهم، والأحاديث في ذلك تواترت واستفاضت وأيد بعضها بعضاً حتى أصبح ذلك علماً يقينياً، فتلك الغيوب هي من الله أطلع عليها عبده، وإلا فليس أحد من الخلق يعلم شيئاً من الغيب، ولكنه الغيب الذي يطلع الله عليه من شاء من ملائكته ورسله وأنبيائه ومن تبعهم من صالحين وعلماء.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]، فالله هو العليم بكل شيء، الذي يعلم دبيب النملة السوداء في الصخرة الصماء في الليلة الظلماء حيث لا قمر ولا نجوم، يعلم ما كان ويكون، وكل كائن هو خلقه وهو أمره، يعلم ما خلق وهو اللطيف الخبير.
فالله خبير بما يصلح عباده، وعليم بما يصلح خلقه، وبما ينبغي أن يجازى به المحسن ويجازى به المسيء، فمن آمن بالله إلى أن لقي ربه مؤمناً فله الرضا والجنة، ومن بقي جاحداً كافراً بالله فعليه اللعنة وغضب الله، فإذا تاب تاب الله عليه، والإسلام يجب ما قبله.
وبهذا نكون قد ختمنا سورة لقمان، ولله الحمد والمنة!(186/4)
تفسير سورة السجدة [1 - 3]
سورة السجدة سورة مكية، ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ بها في الركعة الأولى من صلاة الفجر من يوم الجمعة، وقد افتتحت السورة بذكر الحروف المقطعة التي استفتح الله سبحانه بها بعض السور ليبين لمشركي العرب أن هذا القرآن المعجز من جنس الحروف التي يتكلمون بها.(187/1)
بيان فضل سورة السجدة
سورة السجدة سورة مكية اشتملت على ثلاثين آية، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بسورة السجدة في فجر يوم الجمعة في الركعة الأولى، ويقرأ في الركعة الثانية بسورة الإنسان.
وروى الإمام أحمد في المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يديم كل ليلة عند إرادته النوم قراءة السجدة وقراءة سورة الملك، فكان يلتزم -حسب رواية الإمام أحمد - قراءة هاتين السورتين على فراش النوم.
والسورة مكية، أي: نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام وهو في مكة المكرمة، وقيل: إن فيها ثلاث آيات -سيأتي بيانها- نزلت في المدينة المنورة، قال تعالى: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1 - 2].(187/2)
حكم قراءة البسملة مع الفاتحة
قد سبق الحديث عن البسملة ومشروعيتها عند كل سورة، وأن البسملة المقطوع بها هي البسملة المذكورة في سورة النمل في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، وفي غير ذلك تذكر البسملة في أول كل سورة تيمناً وتبركاً واستفتاحاً بذكر رحمة الله الرحمن الرحيم.
وقراءة البسملة في أول الفاتحة مذهب الشافعي، والأحاديث بذلك ثابتة، وحصل خلاف: أيجهر بها أو يسر؟ وقد ثبت الجهر كما ثبت الإسرار، والمثبت مقدم على النافي.
وبعض الأئمة يقولون: تقرأ الفاتحة بغير بسملة، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأها في فريضة ونافلة، جهراً وسهراً، حتى إن الإمام الشافعي وغيره يعدون قراءة الفاتحة بلا بسملة في الصلاة كنقص آية من الفاتحة، والصلاة بذلك باطلة.(187/3)
قراءة الفاتحة في الصلاة
وأما قراءة الفاتحة فواجبة على المصلي، سواء كان إماماً أم مؤتماً أم منفرداً، ففي الحديث المتواتر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج) أي: ناقصة، وأمر أبا هريرة بأن يخرج إلى أسواق المدينة وينادي: (ألا لا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب).
ومن أصول الفقهاء العمل بما يخرج من الخلاف إلى الاحتياط، وهو مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة وأكثر الفقهاء المجتهدين.(187/4)
حكم الاستعاذة في الصلاة
وأما التعوذ فقد أوجبه قوم، ودليلهم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، فعمم ليشمل ذلك القرآن في صلاة وفي غير صلاة، والخروج من الخلاف والاحتياط لصحة الصلاة عند كل المذاهب أن يتعوذ الإنسان في صلاته ويبسمل ويقرأ الفاتحة، سواء كان إماماً أم مؤتماً أم منفرداً.(187/5)
تفسير قوله تعالى: (الم)
قال تعالى: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1 - 2] إن أكثر السور التي ابتدأت بهذه الحروف المقطعة يذكر فيها بعد تلك الحروف كتاب الله، كقوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ} [البقرة:1 - 2].
فقوله تعالى: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1 - 2]، أي: تنزيل الكتاب الذي اشتمل على (الم) وأخواتها من حروف الهجاء التي بنيت عليها اللغة العربية في مفرداتها وجملها وبني عليها كتاب الله في سوره وآياته منظوماً ومنسقاً وقائماً على هذه الحروف الهجائية لم يخرج عنها قط.
والله قد تحدى الخلق جناً وإنساً في أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ثم عاد فتحداهم في الإتيان بسورة من القرآن، وقد مضى على هذا التحدي ألف وأربعمائة عام والخلق لا يزالون عاجزين وسيبقون عاجزين إلى يوم النفخ في الصور، فهو معجز في اللفظ ومعجز في المعنى، فإعجازه في اللفظ يدركه المتكلمون بالعربية، وإعجازه في المعنى يدركه كل الناس، وقد كتب أحد الفرنسيين بعد أن آمن كتاباً سماه (العلوم في التوراة والإنجيل والقرآن)، ويعني بالعلوم العلوم التطبيقية التي يسمونها التكنولوجية، يقول: كل ما ورد في التوراة والإنجيل ليس صحيحاً ولا مطابقاً للعلم، مما يدل على أن التوراة غيرت وأن الإنجيل غير، ولكن ما جاء من ذلك في القرآن الكريم قد أكده العلم الحديث، كالكلام على السموات، وعلى النجوم، وعلى البحار، وعلى الطبيعة، وعلى الجبال، وعلى الطب، فالعلم الحديث على تحقيقه لذلك وتأكيده له قد سبقه القرآن، وسبق إلى الكثير مما لم يصلوا إليه بعد، وذاك هو الإعجاز، فشيء لم يكتشف ولم يعرف إلا منذ سنوات قد تحدث القرآن عنه وتكلم عنه منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، فذلك هو الإعجاز، وذلك من علامات صدق النبي عليه الصلاة والسلام في رسالته، وتلك الآيات التي طالما لفت القرآن الكريم إليها أنظارنا وبصائرنا مما يؤكد كونه كلام الله لم يأته باطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو الحق، والله هو الحق وما دونه الباطل، فالحقائق والمعجزات إنما نزلت وحياً على قلب محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الحروف المرتبة، وذكرت مفردة في أوائل السور إشارة إليها، أي: إن استطعتم الإتيان بمثله فهذه الحروف تعلمونها، وأنتم -أيها العرب- أفصح الناس وأكثر الناس بياناً وشعراً ونثراً، فاصنعوا مثله إن شئتم، وقد حاولوا، ولكن هيهات هيهات، فقد أتى بعضهم بالكلام المضحك الذي لا يكاد يسمع إلا ويهزأ الإنسان به وبقائله ويعقبه بالضحك لسخافة قائله ولغرابة قوله، وما خطر بباله أنه لا يستطيع أن يضاهي القرآن إعجازاً وبلاغة، قال هذا الزمخشري متحمساً له، وأكده من المعاصرين بالأدلة اليقينية التي تتبعها واستقرأها في جميع السور التي ذكرت فيها، وهو الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى، كما في كتابه في التفسير (أضواء البيان).(187/6)
تفسير قوله تعالى: (تنزيل الكتاب لا ريب فيه)
قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:2] كلمة (تنزيل) في كل القراءات السبع مرفوعة، وفي غير القرآن لو شئت لقلت: (تنزيلَ)، أي: بالنصب على الحال، أي: حال كونه تنزيل الله، ولكن القراءات أجمعت وتواطأت واستفاضت على رفع تنزيل.
يقول تعالى: {الم} [السجدة:1]، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن كل حرف في تلاوة القارئ بعشر حسنات، وقال: (لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، أي: القارئ للقرآن والتالي لكتاب الله له بكل حرف عشر حسنات، وأتى بهذه الحروف الثلاثة المقطعة فقال: للألف عشر، وللام عشر، وللميم عشر، أي: من قال: {الم} [السجدة:1] فله ثلاثون حسنة، وكم في القرآن من حرف! وكم يترتب على ذلك من حسنات! ولا يترك مثل هذه الحسنات إلا محروم، ولو اعتبر القرآن تجارة مادية وانتقل لأجلها المرء إلى مختلف أقطار الأرض لكان الرابح دون غيره، فكيف بالربح في التجارة مع الله والتزود ليوم الآخرة؟! قال تعالى: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1 - 2] نزل هذا الكتاب من الله الذي استوى على عرشه، أمر به جبريل الذي يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما نعد، فنزل به على قلب نبينا عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: (لا ريب فيه) أي: لا ريب في أنه كتاب الله، ولا شك فيه أنه الحق، وأنه الصدق، وأنه الوحي، وأنه كلام الله ليس كلام أحد من البشر، ولا كلام ملك من الملائكة، ولا رسول من الرسل، ولكنه كلام الله المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قال تعالى: (من رب العالمين) أي: تنزيل من رب العوالم ومدبرها وسيدها ومولاها وإلهها وخالقها، والعالمين: ما سوى الله، كعالم السماء والأرض والملائكة والجن والإنس والطير وكل ما تراه العين وتسمعه الأذن، فهو رب الكل جل جلاله لا شريك له ولا ثاني له في إرادة، ولا في قدرة، ولا في خلق، ولا في حياة، ولا في ممات، وتعالى الله عن قول الكاذبين، وشرك المشركين، وكفر الكافرين.(187/7)
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه)
قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة:3]، (أم) بمعنى: (بل)، أي: أن الكفار الجاحدين أعداء الله المعاندين مع هذا البيان وهذه الحقائق التي دل عليها العقل ودل عليها المنطق وفطر عليها الخلق يقولون: هذا القرآن مفترى افتراه محمداً، حاشاه عن ذلك، وتعالى الله عن ذلك.
يقول تعالى: (أم يقولون افتراه) هذا استفهام تقريعي توبيخي، أي: أيقول هؤلاء الكذبة المفترون على الله: افتراه محمد صلى الله عليه وسلم؟! وكلمات الكفر التي نسمعها والتي نقرأها ليست جديدة قالها يهود أو قالها نصارى أو قالها منافقون ومرتدون بين أوساطنا، بل لقد قالها الكفار قبل، وذكرها القرآن في آياته ليرد عليها بمنطق العقل، وبمنطق البيان، وبمنطق الوحي، فكفر الكافرين المعاصرين ليس إلا تقليداً بغبغائياً قردياً، حيث أعادوا كفر من سبقهم بالقول، فقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه، وقالوا: أعانه عليه حداد وجد في مكة لا يكاد يبين نطقاً ولا فهماً، والقرآن في غاية الفصاحة والبيان، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: قال الله يكون كلامه معجزاً، ويكون كلامه في منتهى ما يكون من الفصاحة والبلاغة، حتى إذا قال كلامه نزل عن درجة ذلك البيان، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يقول مثله، مع أنه خاتم الأنبياء وسيد الفصحاء وأوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكن الرب رب والعبد عبد، فكلام الله كلامه بينه وبين كلام المخلوقين كما بين الخالق والمخلوق.(187/8)
معنى قوله تعالى: (بل هو الحق من ربك لتنذر قوماً)
قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [السجدة:3] أي: أعرض عن قولهم وأضرب عنه، ولذا يقولون: (بل) حرف إضراب، أي: عودة ورجوع عن القول، فدع هراءهم وأكاذيبهم (بل هو الحق من ربك) بل هو الحق، وجاء بالحق، وجاء من الحق، بل هو الكلام الموحى به، بل هو كلام الله الذي لا شك فيه ولا ريب ولا ميل.
قال تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة:3] أي: أنزلنا إليك هذا الكتاب لتنذر وتخوف وتوعد قوماً لم يأتهم قبلك نذير، أي: نبي ولا رسول، (لتنذر قوماً) أي: لتنذر العرب أولاً ثم لتنذر العالم، وقد انتهت نبوة الأنبياء قبله؛ لأن الأنبياء السابقين كانوا أنبياء لأقوامهم فحسب، وبعد رفع عيسى عليه السلام بقي العالم كله في فترة لا نبي له فيها ولا رسول؛ إذ الرسل السابقون كانوا رسلاً لبني إسرائيل، وكانوا رسلاً مدة حياتهم، فانتهت نبوآتهم في أقوامهم، وانتهت نبوآتهم بموتهم، ولذلك انفرد نبينا عليه الصلاة والسلام من بينهم بأن كانت نبوءته في حياته وبعد مماته وإلى يوم القيامة، وبأن نبوءته للأبيض والأسمر والأحمر، وفي المشارق والمغارب منذ ظهر في الديار المقدسة وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، فلزم البشر كلهم بجميع لغاتهم ومللهم وألوانهم وأوطانهم وأعصرهم أن يؤمنوا بالله واحداً وبمحمد عبداً ورسولاً وخاتماً للرسل صلى الله عليه وعلى آله.
يقول تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة:3]، فكانت الرسالة أولاً لهم، كما قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] ثم أمر بأن ينذر الناس كلهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي) وذكر من الخمس أن الأنبياء السابقين أرسلوا إلى أقوامهم خاصة وأرسل هو إلى الناس كافة، وقال: (ولو كان موسى حياً لما وسعه إلا أن يتبعني)، وعيسى سينزل في آخر الزمان وهو على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ومن مات على الفطرة فإنه لا يعذب ولا يحاسب، يقول تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فإذا لم تكن بعثة فلا عذاب، ولا يعذب الله إلا بعد أن يبين للناس ما نزل إليهم، وما يجتنبون، وما يفعلون، وما يقولون، وما يدعون.(187/9)
تفسير سورة السجدة [4 - 6]
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في سورة السجدة أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام من أيام الله، وقد خلقها في هذه المدة لحكمة أرادها سبحانه، وإلا فهو إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: (كن) فيكون.(188/1)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما)
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4].
يخبرنا الله جل جلاله في هذه الآية من سورة السجدة المباركة المكرمة كيف خلق الخلق، فقال: (الله) أي: وحده، (الله الذي خلق السموات) أي: الأولى والثانية إلى السابعة وما بينهما، (والأرض) الأولى والثانية إلى السابعة وما بينها، وما بين السموات والأرض من أنجم وكواكب وأقمار وشموس، مما لا يحصي عدده إلا الله.
وبيننا وبين السماء خمسمائة عام، وهي أطباق، ولها أبواب، فعندما أسري بنبينا عليه الصلاة والسلام كان جبريل يطرق كل باب في كل سماء، فيقال: من؟ فيقول: جبريل، فيقال: ومن معك؟ فيقول: محمد، فيقال: هل أذن له؟ فيقول: نعم.
فيفتح الباب، والوصول إلى السماء لا يقوله عاقل ولم يدعه أحد، وما وصل الناس اليوم إلا إلى بعض الأفلاك التي هي مصابيح في سماء الدنيا، وإن كان كل ما علا فهو سماء في لغة العرب.(188/2)
المراد بالستة الأيام
يقول تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [السجدة:4] خلق ذلك في ستة أيام ولم يعنه أحد، ولم يستشر أحداً، ولم يكن معه في ذلك شريك ولا وزير ولا مساعد، تعالى الله عن كل ذلك، وكان كل ذلك هيناً عليه، لا يحتاج لأكثر من (كن) فكان، وكونه خلق ذلك في ستة أيام لإرادته، وليس ذلك لكثرة العمل أو كثرة الخلق، فلا يحتاج الله إلى ذلك، ولا يحتاج لأكثر من (كن) فيكون بإرادة الله جل جلاله.
يقول تعالى: (في ستة أيام) قال ابن عباس: اليوم عند ربك كألف سنة مما تعدون، وسيأتي في الآية التالية: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] أي: خلقها في ستة آلاف عام بعدد أعوام الأرض، فهي ستة أيام من أيام الله التي عنده، أما يوم الأرض في حسابنا فهو أربع وعشرون ساعة مشتمل على ليل ونهار، والشهر مشتمل على تسعة وعشرين أو ثلاثين يوماً، والسنة مشتملة على اثني عشر شهراً، ولكن اليوم عند ربك ليس كذلك، والكل خلقه والكل أمره والكل بإرادته، فاليوم عند ربك كألف سنة مما تعدون، أي: خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة آلاف سنة من سنوات الأرض التي نعد بها، هكذا قال ابن عباس، واستدل بقوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] والدليل ظاهر واضح.(188/3)
معنى قوله تعالى: (ثم استوى على العرش)
قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4] قالوا: (ثم) ليست للترتيب، ولكن معناها الواو، أي: واستوى على العرش أما الاستواء فلا نقول فيه إلا ما قاله سلفنا الصالح وأئمتنا رضوان الله عليهم؛ إذ القرآن نزل بلغة العرب، واللغة العربية وسعت كل شيء في الكلام، ولكن الحقائق الأزلية الإلهية تعجز عن جمعها جميع لغات الأرض.
سئل الإمام مالك رضي الله عنه فقيل له: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ما معنى استوى؟ فأطرق ملياً ثم رفع رأسه فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة، يا شرطي خذ بهذا إلى خارج المسجد؛ لأنه اعتبر سؤاله بدعة، فالصحابة ما كانوا يسألون مثل هذه الأسئلة؛ لأن الجواب عنها لا يمكن أن تجمعه كلمة ولا لغة، فكلمة (استوى) كيفيتها؟ الله أعلم بها، ولذلك قال له: الاستواء كما في لغة العرب معلوم، والكيف مجهول، فمن اعتقد تكييفه كفر، ولذلك قال: والكيف مجهول، فكيفية ذلك لا يعلمها إلا الله، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فلا يشبه الله أحد من خلقه.
ولذلك يقول علماؤنا: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله.
فالعقول لا تقبل ذلك ولا يمكن أن تتصوره، فإن حاولت أشركت وضلت وكفرت، وقد حاول النصارى أن يفعلوا ذلك، فتصوروا إلههم إنساناً صلبوه وتغلبوا عليه، فضاعت عقولهم وانحرف دينهم.
وعلماء الكلام المتأخرون يؤولون، فيقولون: الاستواء الاستيلاء، وهذا تحريف للكلام عن مواضعه؛ لأن (استوى) لغة ليس بمعنى (استولى)، ثم إن معنى استولى أنه كان بينه وبين غيره نزاع فتغلب فانتصر فاستولى، ولا يقول بهذا مسلم، فقول السلف في هذا أحكم وأسلم وأقرب إلى ما يريده الله جل جلاله، ولم نكلف بسوى ذلك، ومن هنا قال مالك: السؤال عن هذا بدعة، وأمر شرطياً في المسجد بأن يخرج ذلك السائل من المسجد حتى لا يؤذي الناس بضلالاته وجهالاته.(188/4)
معنى قوله تعالى: (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع)
قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة:4] أي: ما لكم أيها الناس وأيها الخلق مهما طلبتم وسعيتم وراء الشريك والكفر بالله ولي من دون الله، فلا ناصر لكم ولا راحم لكم من دونه، فليس لكم من دون الله من يتولاكم، ولا من ينصركم، ولا من يأخذ بأيديكم، ولا من يغفر ذنوبكم، فلا نصير إلا الله، ولا ولي إلا الله، فأسلموا تسلموا.
فقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4].
أي: ليس لهم ولي ولا ناصر غير الله، ولن يشفع فيهم أحد بغير إذن الله، بأن يأذن لخلقه ملائكة أو رسلاً أو صالحين بالشفاعة، فيشفع الملائكة، ويشفع النبي، ويشفع الأب، ويشفع الولد، ويشفع الصالح، ويشفع الشيخ والتلميذ، ولكن بعد إذن الله، وبعد إرادة الله، وبعد أن يأذن الله لمن شاء أن يشفع أو يتكلم، وإلا فلا شفيع بغير إذنه.
قال تعالى: (أفلا تتذكرون) هذا استفهام تقريري.(188/5)
تفسير قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض)
قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5].
قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض)، أي: يأمر ملائكته، فملك الموت للموت، وملك الرياح للرياح، وملك الأجنة للأجنة، وملك الأنهر للأنهر، وقد جعل الله لكل عمل جنوداً قائمين به وجعل عليهم جندياً كبيراً مسئولاً، كما كلف بعض البشر بدعوة الناس إليه ودفع الشرك والأوثان، والإيمان بالله وباليوم الآخر، فالله يدبر أمر السماء وأمر الأرض خلقاً ورزقاً، وحياة ومماتاً، من السماء إلى الأرض.(188/6)
معنى قوله تعالى: (ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة)
وقوله تعالى: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] أي: ثم بعد تدبير الأمر في السموات والأرض تعرج الملائكة إليه جل جلاله إلى سدرة المنتهى.
قال تعالى: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، فالصعود إلى السماء خمسمائة عام، والهبوط منها خمسمائة عام، وهذا بالنسبة إلى البشر، أما بالنسبة للملائكة فهذه الألف سنة تكون كيوم من أيامنا، فيقطعون ألف عام في يوم.
فالملائكة تصعد إليه جل جلاله لتبلغه عملها وما كلفت به، ومن المعلوم أن لكل إنسان ملكين عن اليمين وعن الشمال، يحصي من عن اليمين الحسنات ويحصي من عن اليسار السيئات، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)، فهؤلاء يذهبون إلى ربهم بما كتبوا خلال ذلك اليوم في ليله ونهاره ثم يأتي غيرهم، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، فقرآن الفجر تشهده الملائكة، فالملائكة عندما يصعدون إلى ربهم في يوم كان مقداره ألف سنة من أيامنا يذهبون من عندنا ونحن نتلو القرآن، ويأتي الفوج الثاني عند الفجر ونحن نقرأ القرآن، فيشهدون لنا عند ربهم، فيقولون: أتينا فلان ابن فلان وهو يقرأ القرآن، وتركناه وهو يقرأ القرآن، فهي شهادة ما أزكاها من شهادة وما أعلاها من شهادة! فهو يقرأ القرآن بين طرفي النهار، فتلك شهادة يفوز بها من شهد له بها.(188/7)
تفسير قوله تعالى: (ذلك عالم الغيب والشهادة)
قال تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة:6].
أي: أن خالق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، الذي يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما نعد في أيامنا، والذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض (عالم الغيب والشهادة)، أي: هو عالم الغيب والشهادة، والإشارة إليه جل جلاله بأنه هو عالم الغيب يعلم ما غاب عن الخلق، ويعلم الشهادة، ولا فرق عنده بين الشهادة والغيب، يعلم كل ذلك علماً يقينياً، علم الخالق الرازق المدبر، في الوقت الذي لا يعلم ذلك سواه.(188/8)
معنى قوله تعالى: (العزيز الرحيم)
قال تعالى: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة:6] العزيز الذي لا يذل ولا يغلب، القاهر في كل شيء جل جلاله، الرحيم بمن لا يحاول أن يغالبه أو يشرك به أو يعاند رسله، أو يخرج عن طاعته، رحيم به يدخله الجنة، ويغفر ذنبه، ويرضى عنه.(188/9)
تفسير سورة السجدة [6 - 11]
بعد أن أخبرنا الله سبحانه وتعالى في سورة السجدة أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام أخبرنا عن خلقه للإنسان وبدايته ومراحله وإنكار الكافرين للبعث، وشبهتهم في ذلك، وليس هذا الإنكار إلا كفراً بالله سبحانه وتعالى.(189/1)
تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه)
قال الله جل جلاله: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:6 - 7].
قوله تعالى: (ذلك)، الإشارة إلى خالق السموات والأرض، الذي على العرش استوى، الذي يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون.
أي: أنا الله عالم الغيب والشهادة، عالم ما غاب عن الخلق، وما شهدوه، المنفرد بالخلق، العزيز الذي لا يقام له، الرحيم بخلقه وعباده المؤمنين، الذي أحسن كل شيء خلقه.
فهذه الصفات كلها صفات لله تعالى، فهو خالق السموات والأرض، وهو عالم الغيب والشهادة، وهو العزيز الرحيم، الذي أحسن كل شيء خلقه، أي: الذي أحسن خلق كل شيء وأتقنه على حسب مراده، وحسب أمره، مهما اختلفت الألوان، واختلفت الأنواع من جن وأنس وحيوان ودابة وطائر، قد أتقن خلقهم جميعاً طعاماً وشراباً، وبصراً وسمعاً، وأدوات يعيش عليها ويعيش بها، حتى تلك الحشرة التي لا تكاد ترى بالعين الباصرة خلقها وأتقن خلقها وأحسنه، فجعل لها لساناً، وسمعاً وبصراً ومعدة، وخصها بذكورة وأنوثة للتوالد والتناسل، كل ذلك أتقنه، وكل ذلك أحسنه، وكل ذلك انفرد الله جل جلاله بخلقه.(189/2)
معنى قوله تعالى: (وبدأ خلق الإنسان من طين)
فالله كما أخبر بخلقه للسموات والأرض يخبرنا هنا جل جلاله كيف بدأ خلق الإنسان، فقال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7].
فبدأ خلقه للإنسان من طين أخذه من مختلف بقاع الأرض، أسودها وأحمرها، ومجدبها، ولهذا خرج الإنسان متلوناً بين أبيض وأسود، ومتنوعاً بين بليد وذكي، وقصير العمر وطويله، وكل ذلك يرجع إلى الطينة الأولى.
فبدأ خلق الإنسان من طين جمعه من أنواع أتربة الأرض وطينها جل جلاله، وبقي بعد ذلك زمناً الله أعلم بقدره، وكان الشيطان يرى ذلك ويدور حوله ويدخل في جوفه ويقول: لأمر ما خلق هذا! فمن اليوم الأول أنكره، وانتظر منه شراً عليه، ووبالاً على حياته ومستقبله، وهكذا كان.
فكان الأصل الأول والبداية الأولى في خلق الإنسان الطين، فكذلك خلق أبونا الأول آدم، وبعد ذلك خلقت منه زوجه من ضلع من أضلاعه أعوج كما قال النبي عليه الصلاة السلام كما في الصحاح، فلذلك قال عليه الصلاة السلام عن المرأة: (إن استمتعت به استمتعت به على عوج، وأن أنت ذهب تقيمه كسرته).(189/3)
تفسير قوله تعالى: (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين)
قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8] أي: ذريته وأولاده {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8].
أي: من ماء مهين يخرج من صلبه، ومن ترائب حواء بعد ذلك، فأخرج منه ماء مهيناً لا يأبه به، أي: نطفة ضعيفة لا تكاد تلفت نظراً، فهي من الضعف في المكان الذي قال الله عنها: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ} [السجدة:8 - 9].
أي: ثم سوى هذا الخلق، وهذه النطفة التي خرجت من صلب آدم وترائب حواء وتسلسلت بعد ذلك، فكانت السلالة والذرية، سلالة آدم وحواء، وذرية آدم وحواء، فهذه النطفة سواها الله تعالى بشراً سويا، وسواها خلقاً كاملا، من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام غير مكسوة لحماً ثم إلى عظام كسيت لحماً، إلى أن نفخ فيه الروح، إلى أن أصبح جنيناً تاماً إلى أن خرج إلى الوجود بشراً كاملاً له ما للكبار من حواس ومن أدوات حياة، وهكذا من طور إلى طور، فهذا خلق الله للإنسان وذاك خلقه للسموات والأرض.(189/4)
تفسير قوله تعالى: (ثم سواه ونفخ فيه من روحه)
قال تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَِ} [السجدة:9].
كما نفخ في آدم من روحه تشريفاً له نفخ في هذا الماء، فعندما تنتهي تلك الأطوار كلها يأمر الملك فينفخ فيه الروح، فيصبح بشراً سوياً كاملاً لا فرق بينه وبين الكبير، إلا أن هذا لا يزال ضعيفاً ولا تزال أمامه أطوار يتنقل فيها ليصبح رجلاً أو امرأة كاملة.
يقول تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:9] فما الروح؟ يقول ربنا جل جلاله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].
فالروح مما استأثر الله بعلمه مع مفاتح الغيب، فلا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم بأي أرض يموت الإنسان إلا الله، ولا يعلم ما في الأرحام إلا خالق ما فيها، ولا يدري الإنسان متى تقوم الساعة إلا الله، فتلك علوم استأثر الله بها لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل.
وكذلك الروح، لا يعلمها إلا خالقها، فنحن نرى آثارها ولا نراها هي، ولا ترى، نرى الجسم يتحرك كلاماً ونظراً وسمعاً وبصراً وذوقاً ومشياً وما إلى ذلك من الفهم والعقل والتدبر، ثم يخرج منه شيء وإذا به يصبح جثة هامدة لا حراك بها، وإن تركناه مكشوفاً جيف، ولذلك يسرع أقرب الأحباء إليه إلى دفنه، وإلى تغييبه في الأرض.
فالروح إذا دخلت الجسم وعاشت حسب إرادة الله لا يجيف الجسد ذلك، ولا يخرج منه ما يكره، إلا إذا كان المرء قذراً لا يتنظف.
أما الميت فمهما غسلته لا بد من أن يجيف؛ لأن الروح قد خرجت عنه.
يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] فاستأثر بعلمها.
والإنسان في هذا العصر وفي العصور الماضية طالما أغرى نفسه بمعرفة الروح، وهناك طوائف من الكفار زعموا أنه في قدرتهم أن يصنعوا الروح كما صنعوا الطائرة والدبابة، ولكنهم يضربون في حديد بارد، ويفكرون تفكير المجانين، وتفكير من لا عقل له ولا إدراك.
فذهب بعضهم فأخذ النطفة البشرية وجعلها في قارورة، وانتظر بها الأيام وإذا بالنطفة تكبر فتصبح مضغة، ثم تصبح قطعة لحم، ثم مضى عليها الشهور فلم تتغير ولم تشكل ولم تسو، فقامت قيامتهم في الأرض، فقالوا: ها نحن استطعنا أن نبتدئ خلق الإنسان، وإن أخطأنا الآن أو فشلنا فسنصيب مستقبلاً، وسيزول فشلنا.
وهم بهذا مجانين، إذ لو فرضنا أن هذه البذرة استطاعوا أن يكونوها؛ فإنها ليست خلقهم، وليست من إيجادهم، فهي كالحبة من النبت نزرعها في الأرض فإذا بها شجرة، وإذا بها نخلة في أجواء السماء، فمن الذي خلق تلك البذرة، وجعل لها التراب والسماد والشمس والقمر والمياه التي كانت بها تتغذى؟! لا جواب إلا أن فاعل ذلك هو الله، فما الذي صنعه الإنسان؟ فلو جاءنا إنسان معه سنبلة قمح أو جريدة من نخل، فقال: أنا خلقت هذه، فسألناه: كيف خلقتها؟ فقال: جئت إلى النواة فوضعتها في تراب خصب، وسقيتها فأشرقت عليها الشمس، وأضاء عليها القمر، وهكذا إلى أن نمت، لأخذناه إلى مستشفى المجانين وقلنا: قد فقد عقله مع فقده لدينه، فما الذي صنعه؟! وقد تحدى الله الخلق في أن يخلقوا ذبابة، ولو اجتمعوا على خلقها من أقطار السموات والأرض لعجزوا ولما استطاعوا، بل لو سلبهم الذباب شيئاً لما استنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب.
فالله هو الخالق وحده، وما صنعناه من طائرات وسفن وما إلى هذا من المخترعات التي رآها الإنسان، فطغى بها وتجبر وأشرك بالله ليس له فيه غير التركيب.
فالطائرة -وهي أعظم ما يتفاخر به- هي عبارة عن شيء من الحديد والأخشاب تطير بشيء من السوائل خلقه الله نسميه النفط، والأجواء هي خلق الله، تحمل الجسم إذا طار فيها.
والعقل الذي جاء بهذه الأشياء من حديد وخشب ونفط وضم بعضها إلى بعض لم نخلقه نحن، ولكن الله الذي خلقه، وما أصدق عبارة القائل: إذا أراد أن يظهر فضله عليك خلق ونسب إليك.(189/5)
معنى قوله تعالى: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة)
قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [السجدة:9].
فنحن كلنا على اختلاف ألواننا وأشكالنا ولغاتنا وأدياننا، والأصقاع التي نعيش فيها، كلنا فينا ما في أحدنا، حيث جعل الله لنا السمع لنسمع، وخلق لنا الأبصار.
والإبصار: جمع بصر، والأفئدة: جمع فؤاد، وهو العقل، فهو الذي خلق لنا العقل لنفهم به، وعلى أساسه يجعل الحساب والعقاب، والتكليف قبل ذلك، فمن أطاع فله الجنة، ومن عصى فله النار.
فهذا الإنسان الذي يطغى ويشرك مع الله غيره، ويؤذي الناس بأنواع من الطغيان والجبروت، كسفك دم، وأكل مال، وهتك عرض، لا يزيد في الخلقة عن غيره ولا ينقص شيئاً، وقد يكون هذا الظالم -في أغلب الأحيان- أقبح من المظلوم، وأذل منه وأشقى، وذلك المظلوم أشرف منه بما لا يعد ولا يحصى.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في نفر من أصحابه، فمر بهم رجل، فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: هذا حري إن خطب لا ينكح، وإن قال لا يسمع، وإن شفع لا يشفع.
ثم مر آخر فسألهم عنه فقالوا: هذا حري إن خطب أن ينكح، وإن قال أن يسمع، وإن شفع أن يشفع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك خير عند الله من ملء الأرض من مثل هذا).
ومعنى ذلك أن ذاك الذي كان يدل شكله وظاهره على إنه إنسان عاقل مؤمن كان منافقاً، وأن ذلك المسكين الذي ازدرته العين كان صالحاً، وكان مؤمناً صادقاً، ولكنه كان من الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، كان من عباد الله الصالحين الذين إذا لم يعرفهم الناس كفاهم أن الله خالقهم يعرفهم، ويرزقهم, وأكرمهم بالمعرفة، وأكرمهم بالصلاح، وفي الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
وقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فالكريم على الله التقي المتقرب إليه بأنواع الطاعات والعبادات.(189/6)
معنى قوله تعالى: (قليلاً ما تشكرون)
قال تعالى: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9].
أي: قلما تشكرون ربكم على هذه النعم الظاهرة والباطنة، فقد خلقكم الله ليكرمكم بالجنة وبالرحمة وبالرضا، ولكنكم كفرتم بهذه النعمة، ففقد من فعل ذلك مستقبل دنياه وآخرته.
فالله تعالى خلق لنا الأسماع والأبصار والأفئدة والحواس، وخلق العوالم مسخرة ومذللة لهذا المؤمن الذي يقول: (لا إله إلا الله)، فإن هو قام بما وجب عليه من أداء حقوقها، وعاش على ذلك إلى أن لقي ربه؛ كان من المؤمنين القانتين الذي يرجى لهم الخير والرحمة والرضا، وإن أهدر حياته فلم يستفد منها، ولا من شبابه، وأضاع كل ذلك فقد خسر، فيفجأ بالملكين يسألانه في القبر: ما دينك؟ من ربك؟ من نبيك؟ وإذا به يقول: قال الناس قولاً فقلت قولهم، قالوا الصليب فقال الصليب، كان إمعة حتى في الكفر، يقول ما قاله الناس بلا علم ولا معرفة ولا كتاب من الله منير.
فالخلق أكثرهم كفرة، والكافر لو شكر الله لآمن به، فهو جاحد دوماً، كافر بنعم الله، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ولهذا كان الشاكرون قلة.(189/7)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد)
قال تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة:10].
قال هؤلاء المشركون الذين لا يشكرون الله على نعمه، ولا يذكرونه، ولا يقول الواحد منهم يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، قالوا: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10].
وهو استفهام إنكاري من جاحد كافر.
ومعنى: (ضل في الأرض) غاب فيها، وهلك فيها، فلم يبق له وجود ولا كيان، يقال: ضل الماء في اللبن: إذا غاب فيه، ولم يبق له أثر من حيث النظر.
فهم يستفهمون منكرين جاحدين قائلين: أئذا غبنا في الأرض وهلكنا {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10]؟! أي: هل يمكن أن نرجع مرة أخرى، ونخلق ونبعث خلقاً جديداً وبعثة جديدة؟! قالوا ذلك لكفرهم، ولو فكروا قليلاً واستعملوا عقولهم قليلاً لعلموا أن القادر على النشأة الأولى قادر على الإعادة، قال تعالى عن جاحد كافر: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79].
فمن الذي أنشأها على غير مثال سابق؟ ومن الذي أوجدها من عدم لا مخرج من أن يقولوا: الله، وإذا كان كذلك فالذي قدر على إيجادها من عدم، وأنشأها بلا مثال سابق، أهون عليه -والكل هين عليه- أن يعيد حياتها ووجودها وكيانها مرة ثانية، فذاك منطق العقل لمن له عقل، وأين العقل من الكافرين المشركين الذين قال الله عنهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]؟! لقد فكروا في الأكل والشرب، وفكروا في البطن والفرج، وفكروا في الزوجة والولد، ولم يفكروا يوماً في خلقهم، وكيف سيموتون، ولماذا يموتون، وماذا بعد الموت، على أن الأنبياء طالما قرعوا أسماعهم بما سمعوه عن الخلق جيلاً بعد جيل، وعصراً بعد عصر بالكتب المنزلة عليهم، وبما سجله علماؤهم، والمؤمنون منهم، فأعرضوا عن كل ذلك، وأبوا إلا الجحود والكفر والضلال، فهم يتعجبون قائلين: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة:10]، أي: غبنا في الأرض وهلكنا وفنينا: {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10].
أي: أنكون خلقاً جديداً؟ أيمكن أن نبعث كما يقول ذلك محمد صلى الله عليه وعلى آله؟! وطالما ضرب الله الأمثال على هذا، أرانا الأرض وهي ميتة جدباء قاحلة ليس فيها نبت ولا حياة، وإذا بالله جل جلاله يمطرها بالغيث، فإذا بها تهتز، فتخرج من داخلها أنواع من الخضراوات ومن الثمار مما يعيش عليه الحيوان والناس.
فهذه الأرض كانت ميتة، رأينا موتها بأبصارنا، ثم بعد ذلك اهتزت بقليل من الغيث وربت وتحركت، وأنبتت من كل زوج بهيج، ومن كل زوج كريم، أليست هذه حياة جديدة؟ فالنخلة تعطي ثمرها كل سنة، فتعطينا بلحاً، وتعطينا رطباً، وتعطينا تمراً، أليس هذا خلقاً جديداً يتجدد كل عام، ويتجدد حسب الفصول والأعوام؟! وهكذا نحن، فأمنا الأرض، منها خرجنا ومنها خلقنا، وإليها سنعود، ومنها سنخرج مرة ثانية عندما ينفخ إسرافيل في الصور، وإذا بنا قياماً بين يدي رب العالمين.(189/8)
معنى قوله تعالى: (بل هم بلقاء ربهم كافرون)
قال الله تعالى: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة:10].
هذا إضراب عن قولهم السابق، لأن (بل) حرف إضراب، فهؤلاء قالوا كفرهم كأنهم يستدلون وكأنهم يناقشون وكأنهم يحاورون، ولا حوار ولا استدلال ولا سلطان ولا دليل في الحقيقة، إن هو إلا الكفر بالله، والشرك به، فقال تعالى: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة:10].
أي: بل قد كفروا بيوم البعث، وبلقاء الله يوم العرض عليه، وبالدار الثانية التي لا تفنى ولا تزول، فمن دخل الجنة فإلى أبد الأباد، ومن دخل النار فإلى أبد الأباد، لا موت بعد ذلك لمن كان في نعيم ولا لمن كان في جحيم.
فكفر هؤلاء، وتقليدهم للآباء والأجداد، أدى بهم إلى قول ذلك بغير دليل ولا سلطان، فهو كلام كرروه تكرير القردة والببغاوات بلا منطق ولا دليل.(189/9)
تفسير قوله تعالى: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم)
قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11].
أي: قل -يا رسولنا- لهؤلاء: نحن خلقناهم، ونحن سنميتهم، ونحن سنبعثهم تارة أخرى.
وقوله تعالى: {مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم} [السجدة:11].
هو الذي جعله الله جندياً عبداً مكلفاً بذلك، كما كلف رسل البشر بتبليغ الناس كتاب الله، ودين الله، وما يصلحهم في الدنيا وما ينجيهم في الآخرة.
وأرسل رسوله من الملائكة لقبض الأرواح، وهذا لحياة الأجنة، وهذا للمطر, وهذا للتراب، وهذا للبحار، كلٌ مكلف، وكل موكل بأمر يقوم به، والفاعل لكل ذلك هو الله جل جلاله.
فقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11].
أي: قل -يا رسولنا- سيتوفاكم ملك الموت، يقال: توفى كذا، أي: استوفى عدده.
والعدد هنا الأجل المسمى الذي خلق الله الإنسان عليه، فلكل منا أجل مسمى عند الله، وإن كنا لا نعلمه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان:34].
فلا نعلم ما يأتي غداً، ولكننا نرجو خيره، ونعوذ بالله من ضرره، فلا يعلم ذلك إلا الله جل جلاله.
فالملك المكلف بالموت يتوفاكم، فيستوفي الأجل الذي ضرب لكم، والله هو الذي يعلمه.
يقول تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11] أي: يميتكم {الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11]، فقد جعله الله وكيلاً مكلفاً بقبض الأرواح.
والملك المكلف الذي يعتبر رئيساً في قبض الأرواح سمي في بعض الآثار (عزرائيل)، وتعني كلمة عزرائيل (عبد الله)، ومعه ملائكة وجند لا يحصي عددهم إلا الله، هم تحت أمره وتصرفه، يأمره الله جل جلاله بالقبض، فيأمر جنده فيعاونونه على ذلك.
ولذلك فلا حاجة إلى استغراب كونه واحداً، ويقبض في اليوم الواحد أرواح عشرات الآلاف من الخلق.
وكذلك الملك المكلف بنفخ الروح في الجنين في رحم أمه، فليس هو واحداً، بل هو ملك مكلف، وله جند وأعوان.
فهناك جند وأعوان تحت تصرف ملك الموت، يقبضون الأرواح بأمر الله، والله هو القابض في الحقيقة، فهو المحيي وهو المميت، وإنما وكل بذلك ملك الموت ومن معه من جند ومن أعوان.(189/10)
معنى قوله تعالى: (ثم إلى ربكم ترجعون)
قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11].
فبعد ذلك ترجعون إلى الخلق الجديد الذي أنكرتموه، فستعودون إلينا، فنحاسبكم على مثل هذا القول، وعلى هذا الكفر والجحود إن أنتم متم عليه.(189/11)
تفسير سورة السجدة [12 - 16]
يبين الله سبحانه وتعالى لنا حال الكافرين والمجرمين يوم القيامة بعد عودة أرواحهم إلى أجسادها، ووقوفهم بين يدي ربهم منكسي الرءوس، وأنه لو شاء لهدى الناس أجمعين، لكن سبق القول منه سبحانه بأنه سيملأ جهنم من الكافرين المعاندين المتكبرين، الذين أبوا إلا الكفر والطغيان.(190/1)
تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم)
قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12].
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: لو ترى هؤلاء المجرمين المشركين الكافرين بعد أن عادت إليهم الأرواح يوم القيامة، فوقفوا يبين يدي ربهم منكسي الرءوس.
وكل خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم هو خطاب كذلك لأمته ولأتباعه من الجن والإنس.
فالله تعالى يقول: لو رأيت هؤلاء المجرمين المشركين الكافرين وقد عادوا للحياة الثانية التي أنكروها في دنياهم، واقفين في ذل وفي خجل وفي حياء يكاد يزيل عن وجوههم جلودها، خجلاً من كفرهم وتكذيبهم في دار الدنيا، فهاهم أولاء قد عادوا وبعثوا خلقاً جديدا، وقد كانوا في دنياهم ينكرون ذلك، ووقفوا بين يدي ربهم منكسة رءوسهم، تكاد رءوسهم تكون على الأرض، وقد فسر بعض الأئمة الآية بهذا، وهو أن رءوسهم أصبحت أرجلاً، وأرجلهم هي التي فوق رءوسهم في الأرض، خجلاً من ربهم، فهم يصيحون ويجأرون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12]، فقد رأينا الإعادة والخلق الجديد، وسمعنا ما كنا نكذب به أنبياءنا ورسلنا.
هؤلاء المجرمون بعد أن رأوا ما كانوا ينكرون، وسمعوا ما كانوا يعرضون عن سماعه، قالوا: ربنا! أرجعنا للدنيا لنعمل الصالحات، ولنوقن كما أيقنا الآن، ولكن هيهات هيهات، فقد كانت الحياة فلم ينتهزوها، وكان الشباب فلم يستفيدوا منه، وكان الثراء فلم يجعلوه في طاعة، وهكذا إلى أن انتهت أيامهم، فكانت كيوم أو جزء من يوم.
أما الآن فهم يحاسبون ويعاقبون، فيتمنون أن يعودوا مرة ثانية، وهيهات هيهات، فلن يكون ذلك أبداً.(190/2)
تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها)
قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13].
فالله بيده الخلق، وبيده الجنة والنار، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، فهو القادر على كل شيء، قد أرسل رسله، وخلق لكل إنسان عقلاً، ليميز به، ويكتسب به، ويختار ما يشاء، فجاءت رسل الله من البشر، فبلغوا عن ربهم كتبه، وبلغوا رسالاته، وعلموا الناس الأوامر والنواهي، وأخبروهم بقصص الأنبياء، ليتخذوا منها العبر، فأضاعوا كل ذلك، واستهتروا بكل ذلك، وكانوا يهزءون من الأنبياء ومن خلفاء الأنبياء من العلماء ومن الصالحين المؤمنين، يقول تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13]، ولكن هؤلاء أعطيناهم عقولا، فلم يفكروا، ولم يعقلوا، فكان كسبهم كسب الكافر، وكسب الضال، وكسب أهل النار، ولو شئنا لأجبرناهم، ولكن الله لا يجبرهم، بل جعلهم يكتسبون ما شاءوه، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، وذاك في سابق علمه وقدره في اللوح المحفوظ، ولذلك كانت عقيدة أهل السنة والجماعة أن الهداية وسط بين قول الجبرية بأن العبد مسير، وقول المعتزلة بأن العبد يخلق أفعاله، فالأفعال يخلقها الله، والإجبار غير قائم، فنحن نحس ونحن في دار الدنيا بأننا إذا شئنا الصيام صمنا، وإذا شئنا أن نفطر أفطرنا، فالكافرون شاءوا الإفطار فأفطروا، وشاءوا الكفر فكفروا، فمن شاء الكفر قد كفر، ومن شاء الإيمان آمن، وهذه الإرادة خلقها الله لنا.
وعلى أساسها كان الحساب والعقاب، وكانت الجنة والنار، فلنا ضمن الإرادة الإلهية والمشيئة الإلهية كسب نختاره، ونعمل بمقتضاه.
ومن هنا كان العقاب وكان الحساب وكان النعيم على الأعمال، فلأجل أعمال المؤمنين دخلوا الجنة، ولأجل (لا إله إلا الله) التي قالوها وأيقنوا بها خرجوا من الكفر إلى الإيمان، وأولئك الذين أشركوا مع الله من أجل شركهم وكفرهم خرجوا من الفطرة من الإيمان إلى الكفر والشرك.
فلسنا نخلق أفعالنا، ولسنا مجبرين، بل هناك مشيئة وهناك كسب.
فمن قال بقول الجبرية هلك، ومن قال بخلق الأفعال كاد يشرك، لأنه جعل مع الله من يخلق ومن ينشئ ومن يوجد، والله الخالق لكل شيء، وهو النافع والضار جل جلاله.
ولقد قال الله لنا في خلق الإنسان ونشأته: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [السجدة:9]، فخلق لنا عقولاً وأسماعاً وأبصاراً لنميز بين الحق والباطل، وبين الغث والسمين، وبين الكفر والإيمان، وإلا فلم خلقت العقول؟! إنها لم تخلق إلا للتمييز، فمن ميز الحق كان من أهله، ومن أبى إلا الباطل كان من أهله.(190/3)
معنى قوله تعالى: (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم)
قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13].
كان هذا القول عندما أبى إبليس إلا الكبرياء عندما أمره الله بالسجود لآدم، فأبى السجود وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].
أي: خلقتني من نار وخلقته من تراب، فاعتبر النار التي خلق منها أشرف من التراب.
فتألى على الله وتكبر، فطرده الله من الجنة، وطرده من رحمته ورضاه، وإذا بالشيطان يطلب من ربه أن يرجئه إلى يوم البعث، فأرجأه امتحاناً للخلق، وللتمييز بن الحق والباطل، فذهب يتوعد بأنه سيضل الناس والخلق عن الله ليكفروا به، وليخرجوا عن طاعته، فتوعد الله بأنه سيدخله ومن تبعه النار، فكان هذا هو العهد.
قوله تعالى: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13].
اللام في قوله تعالى: (لأملأن) للقسم، وأكد الفعل بنون التوكيد، فأقسم تعالى على أنه سيملأ من هؤلاء الكفرة الجاحدين الذين خيروا بين الحق والباطل، فأبوا إلا الباطل، وخيروا بين الإيمان والكفر، فأبوا إلا الكفر، فكان ذلك برغبتهم، فعلى أساس ذلك عذبوا، وعلى أساس ذلك عوقبوا، وهكذا مآل كل كافر.(190/4)
تفسير قوله تعالى: (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا)
قال ربنا: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة:14].
يقول الله لهؤلاء الذين أبوا إلا الكفر والجحود والعصيان: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} [السجدة:14].
والذوق منه الحسي الذي يكون باللسان، كذوق الطعام والشراب، ومنه الذوق المعنوي كالسعادة والشقاوة.
فقوله تعالى: (ذوقوا) أي: حسوا بعذاب الله، واشعروا به، وعيشوا في واقعه.
وقوله تعالى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [السجدة:14] النسيان هنا: الترك، وهو لازمه، فالإنسان إذا نسي شيئاً تركه.
أي: بترككم الاعتقاد واليقين والإيمان بيومكم هذا، فأنكرتم أن تكون هناك حياة ثانية، فذوقوا العذاب.(190/5)
معنى قوله تعالى: (إنا نسيناكم)
{إِنَّا نَسِينَاكُمْ} [السجدة:14] أي: تركناكم، فالله لا ينسى جل جلاله، وعز مقامه.
أي: تركوا من الرحمة، وتركوا من العفو، وتركوا من دخول الجنان {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]؛ لأنهم تركوا طاعة ربهم، وتركوا الإيمان بما أوجبه تعالى مما كلف به أنبياءه أن يبلغوا خلقه من الجن والإنس.(190/6)
معنى قوله تعالى: (وذوقوا عذاب الخلد)
قال تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة:14].
فذوقوا هذا العذاب الخالد الذي تعذب به الأبدان والأرواح: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة:14].
والباء باء السببية، و (ما) موصولة، أي: بسبب الذي كنتم تعملون، والذي كانوا يعملونه هو الشرك بالله، والكفر بأنبيائه وتكذيبهم فيما جاءوا به.
ومن هنا كان الحساب وكان العقاب، فالأعمال تركت لعقول الناس، فلهم أن يختاروا وأن يكتسبوا، ومن هنا نشأ العذاب ونشأت الرحمة.(190/7)
تفسير قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً)
قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة:15].
يقول ربنا جل جلاله: إنما يؤمن بآيات الله، وبعلامات قدرة الله ووحدانيته، وصدق أنبيائه ومعجزاتهم، ودلائل رسالاتهم، ودلائل إلهية الله إيماناً صادقاً، {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة:15].
فالذي يؤمن بآيات الله هو الذي إذا ذكر بها -فتليت عليه، أو فسرت له- تراه يبادر ساجداً لله، إيماناً بتلك الآيات، وخضوعاً لجلال ربه.
قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة:15] أي: وقعوا على الأرض سجداً على جباههم وعلى أنوفهم وعلى أكفهم وعلى ركبهم وعلى أصابع أرجلهم، على السبعة الأعضاء، فهؤلاء هم الذين يؤمنون بالله، وبآياته وبكتابه، ويؤمنون بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
فالإنسان في حياته في شغل شاغل في الصباح والمساء، وفي الحضر وفي السفر، فيبقى ذاهلاً، فإذا ذكر وكان مؤمناً تذكر، والذكرى قد تكون بالأذان، وقد تكون بالإقامة، وتكون بالتكبير، وتكون بالدخول في الصلوات.
وقد يكون التذكير برؤية أمر غريب في طائر أو في إنسان أو في حيوان، فالمؤمن إذا رأى شيئاً أعجبه يقول: ما شاء الله، ويسبح الله الذي لا يخلق مثل هذا سواه، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وتجد المؤمن الحق كل كلامه ذكر، وكل كلامه تذكير، حتى إذا غلبته عينه ونظر النظرة الثانية ورأى جمالاً لا يقول: أشتهيه، ولا: أريد الخلوة به، بل تجده يقول في كل مكان: سبحان الله، فتجد منه هذه اللهجة في المشرق، وتجدها في المغرب، والمؤمن مؤمن حيث كان.(190/8)
تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)
قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:15 - 16].
هذه صفات المؤمنين الصادقين الذين يسجدون لله سجود القلب وسجود الجوارح، سجود الإيمان وسجود اليقين بغير كبر كما يفعله الكفار والمشركون، فهؤلاء -أيضاً- تتجافى جنوبهم عن المضاجع في الليل والناس نيام، أي: تبتعد وتزول جنوبهم، فالعبد ينام تارة على جنبه الأيمن، وتارة على الجنب الأيسر، وتارة على ظهره، فجنوب بدنه كلها يبعدها عن الفراش وعن الدفء وعن الزوجة وعن الراحة في ذلك الوقت، وقد لا يكون نام إلا ساعة أو ساعتين.
والمضاجع: جمع مضجع، وهو مكان النوم الذي ينام فيه المرء ويأخذ راحته، فهؤلاء تزول جنوبهم فتصبح بعيدة عن المضاجع.
قال تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16].
يدعون الله جل جلاله خائفين من ناره ونقمته وعذابه، راجين رحمته ورضاه وجنته، يبكون في الثلث الأخير من الليل، حيث ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فيقول: هل من داع فأستجيب له؟ هل من مريض فأشفيه؟ هل من جائع فأشبعه؟ هل من عار فأكسوه؟ فيجيب الله تعالى سؤل هؤلاء الذين نبذوا فرشهم وزوجاتهم وراحتهم، وابتعدوا بجنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم وهم بين ساجد وراكع، فتارة يسجدون وتارة يركعون، وتارة يدعون، وتارة يتلون، يعبدونه خوفاً وطمعاً، خوفاً من ناره، وطمعاً في جنته.(190/9)
معنى قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون)
قال تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16].
فالله جل جلاله يقرن كثيراً بين النفقة والعبادة البدنية، فهؤلاء الذين يقومون والناس نيام داعين ربهم مصلين راكعين ساجدين، مسبحين تارة، ومعظمين أخرى، هؤلاء وهم في هذه الحالة لا تكون عبادتهم مقصورة على أنفسهم فقط، بل مما رزقهم الله ينفقون، فيوزعون أموالهم بحسب قدرتهم هكذا وهكذا وهكذا.
فتارة ينفقون أموالهم للزكاة الواجبة، وتارة للصدقة، وتارة للنفقات الواجبة، وتارة للنفقات غير الواجبة على الأقارب والأدنيين من غير الزوجة والأولاد، والوالدين إن لم يكونا محتاجين، فإن كانا محتاجين فهما كالأولاد، فتجب النفقة عليهم.
ولذلك رتب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ونظمه وسنه فقال: (ابدأ بنفسك، ثم من تعول).
فزوجتك وأولادك الذين كنت سبب خروجهم إلى هذا العالم، لا يجوز أن تتركهم وهم لا يزالون ضعفاء عاجزين عن أن يقوموا بأنفسهم.
والزوجة هي التي أتت بهؤلاء الأولاد، وهي التي جعلتها وعاء لترزق بهؤلاء الأطفال، ولا يجوز أن تشغلها في وظيفة وتقول لها: ائتيني بالفلوس لتعينيني فلا يفعل هذا رجل فيه شرف أو نخوة.
فيكفي المرأة أنها تقوم في بيتك خادمة ومربية وحاملاً، فهي التي تقوم برعاية الولد ونظافته، ولا يستطيع الرجل ذلك.
ودور الرجل في تربية الولد وتعليمه، والنظر إلى مستقبله والتخطيط له.
فالوالد والوالدة هما طرفان لا تتم حياة الأولاد في الغالب إلا بهما، فإذا ذهب أحدهما -والله هو المختار في خلقه- هيأ تعالى لألئك الأولاد من يقوم مقام الأم إن غابت، أو مقام الوالد إن غاب.(190/10)
تفسير سورة السجدة [17 - 20]
بعد أن أخبرنا الله سبحانه وتعالى بصفات الذين يؤمنون بآيات الله، أخبرنا بما أعد لهم من قرة أعين، وأنه أخفاه سبحانه عن كل نفس، حتى يلاقوا جزاء إيمانهم يوم القيامة، وهذا الحال لا يساوي حال الكافر لمن له أدنى بصيرة.(191/1)
تفسير قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم)
قال الله جل جلاله عن عباده الصالحين: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
ذكر الله جل جلاله الذين إذا ذكروا بآيات ربهم خروا سجداً، ثم سبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون، كما أنهم يتهجدون ليلاً، فيتركون مضاجعهم وراحتهم ونساءهم، ويدعون ربهم خوفاً وطمعاً، ومما رزقهم ربهم ينفقون.
فهؤلاء المؤمنون القانتون المتهجدون ليلاً والناس نيام يقول الله عنهم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17].
فالضمير يرجع إلى أولئك الموقنين المؤمنين العابدين القانتين الصالحين المستجيبين لله ولرسوله، فهؤلاء لا تعلم نفس.
{مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] والنكرة تدل على العموم.
فأخفى الله لهم ما تقر به عيونهم، وتسر به نفوسهم، وتفرح له أرواحهم، فيجدون في الجنة سعادة لا شقاء بعدها أبدا.
والقرة أصلها من البرد والاطمئنان، والعين إذا بردت دل ذلك على أنها في سرور وأنها في راحة، فإذا حزنت تجدها في حر وتجدها في اكتئاب، فأصبحت هذه الكلمة في لغة العرب تعني السرور، وتعني الطمأنينة، وتعني الفرح بما يريد الإنسان وتطمئن له نفسه.
قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17].
أي أن الله أخفى لهم ذلك، ولم يظهره ليفاجئهم برحمته وبرضاه، كما أخفوا هم قيامهم ليلاً والناس نيام، فلم ير عبادتهم أحد، فأخفوا هذه العبادة عن الناس، فأخفى الله جل جلاله ما أعد لهم من خير وأعد لهم من رحمة وأعد لهم من نعيم دائم جزاء أعمالهم وطاعتهم.
قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
أي: جوزوا بذلك وكوفئوا به لعملهم وعبادتهم وطاعتهم.
فالله تعالى يحض المؤمنين على أن يعملوا عملهم، ويجتهدوا اجتهادهم، ويتهجدوا تهجدهم، ويحمدوا ربهم حمدهم.(191/2)
تفسير قوله تعالى: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً)
قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18].
وهذا استفهام تقريري، وقد علم الله تعالى أن المؤمن ليس كالكافر بحال من الأحوال، ولذا قال تعالى: {لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18].
فليس هذا وهذا سواء؛ إذ المؤمنون جوزوا بقرة عين، وجوزوا بالجزاء الأوفى رحمة وسعادة ورضا، وأما الكافرون فليسوا كذلك، فهم قد عوقبوا باللعنة والغضب والطرد عن رحمة الله.
قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة:18].
الفسوق: الخروج عن طاعة الله، ويعنى به هنا الكافر، وليس المؤمن كالكافر عند رحمة الله ورضا الله، ولكل عمله.(191/3)
تفسير قوله تعالى: (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى)
قال تعالى: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:19].
{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [السجدة:19].
كان الكلام السابق مجملاً، وهو أن الكافر والفاسق ليسا سواء، ثم فصل تعالى فقال: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا} [السجدة:19].
فالذين آمنوا بالله، وبرسل الله وبكتب الله، وبأن الجنة حق، وبأن النار حق، ثم عملوا الصالحات بعد ذلك، فأقاموا الصلوات، وآتوا الزكاة، وحجوا بيت الله الحرام، وصاموا شهر رمضان، وتركوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وقاموا بالوجبات قدر جهدهم وطاقتهم واستطاعتهم.
هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات المأوى، وليست جنة واحدة، بل هي جنان وبساتين ورياض، جعلها الله لهؤلاء مأوى، أي: متبوءاً ومسكناً وموطناً ومقاماً ونزلاً، أذاقهم وملكهم هذه المنازل مأوى ومقاماً دائماً أبداً سرمداً، يتلذذون بما أنعم الله به عليهم، وأعظم اللذات رؤية الله جل جلاله، ورضا الله عنهم.
قال تعالى: {نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:19].
أي: ذلك المأوى في تلك الجنات التي جعلها الله لهم حال كونها نزلاً وضيافة، هو بسبب أعمالهم.
فهذه الباء يقال لها في لغة العرب: باء السببية، أي: كانت هذه الجنات مأوى لهم ومنازل، بسبب عبادة ربهم وقيامهم بأعمالهم واستجابتهم لدينهم ولما أمرهم به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.(191/4)
تفسير قوله تعالى: (وأما الذين فسقوا فمأواهم النار)
ثم ذكر تعالى الفريق الآخر فقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20].
فالله تعالى يجمع في كتابه بين ذكر الجنة والنار، والعمل الصالح والسيئ؛ ليكون المؤمن بين رغبة ورهبة، وخوف ورجاء، فتارة يعبد الله خوفاً من ناره وغضبه، وتارة يعبده طمعاً في جنته ورضاه ورحمته.
قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة:20].
قوله تعالى: (الذين فسقوا) أي: خرجوا عن أمر ربهم، فهؤلاء الفاسقون الخارجون عن أمر ربهم مأواهم ومنزلهم ومقامهم النار، فكما جعل الله لأهل النعيم والطاعة الجنة مأوى ونزلاً؛ جعل للفاسقين الكافرين النار مأوى ومنزلا.(191/5)
معنى قوله تعالى: (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها)
قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20].
أي أن هؤلاء المعذبين من الكافرين الفاسقين يفرون من مكان إلى مكان، ظناً منهم أن النار لا تصلهم، وأن لهيبها لا يحرقهم، فهم لذلك يحرصون على أن يفروا عنها، فقال الله عنهم: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20]، بأن تلفحهم النار، أو ملائكة العذاب، حيث تضرب وجوههم وأدبارهم، وتسوقهم إلى السعير وإلى النار المؤلمة الموجعة جزاء كفرهم وخروجهم عن أمر الله.
قال تعالى: {أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20].
أي: ذوقوا العذاب كما يذوق الإنسان الشيء بلسانه، فذوقوا بأبدانكم، وذوقوه بخلايا أجسامكم عذاب النار المؤلمة الموجعة التي كنتم تكذبون بها في الدنيا.(191/6)
تفسير سورة الأحزاب [1 - 4]
سورة الأحزاب من السور العظيمة التي بينت حال المنافقين وبينت كثيراً من الأحكام الشرعية، وقد ابتدأت بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم وتحذيره من أن يطيع الكافرين والمنافقين.(192/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1].
سورة الأحزاب سورة مدنية.
وفيها ثلاث وسبعون آية، وسميت بسورة الأحزاب لأن فيها قصة غزوة الأحزاب الذين جاءوا من شتى أقاليم جزيرة العرب لحرب رسول الله عليه الصلاة والسلام والمسلمين.
تألبت قريش وغطفان من خارج المدينة واليهود من داخل المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءوا إلى عقر دار المسلمين يظنون أنهم سيقضون على الإسلام ونبي الإسلام وأهل الإسلام، فخابوا وخاب ظنهم، وعادوا بخفي حنين أذلاء مقهورين.
وتسمى غزوة الخندق، والخندق: هو الحفرة، وبعد أن علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القبائل تحزبت عليه من كل جانب جاء سلمان إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله! كان الفرس إذا حدث لهم مثل هذا يخندقون على أنفسهم، ويحفرون حفراً تحول بين وصول الأعداء وبينهم، فهلا حفرنا مثلهم وخندقنا مثلهم، فقبل صلى الله عليه وسلم هذا الرأي، وأمر المهاجرين والأنصار بحفر الخندق، فحفر الخندق)، وحيل بين هؤلاء الأحزاب وبين دخولهم المدينة المنورة.
واشتملت هذه الغزوة على غزوة بني قريظة، إذ هؤلاء غدروا بالنبي عليه الصلاة والسلام، وألبوا عليه أعداءه، وحاولوا أن يحاربوه من الداخل.
وقد نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين نصراً عزيزاً مؤزراً كما سنرى تفصيل ذلك.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) من كرامة نبينا صلى الله عليه وسلم على الله أن أكثر ما يدعوه بالنبي والرسول، بخلاف ما كان يدعو الأنبياء قبله، فهو يقول: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وأنبياء بني إسرائيل، فإذا كان الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: (يا أيها النبي)، (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)، (يا أيها الرسول)، وهكذا دواليك، وقد نبه على ذلك الشيخ ابن تيمية بأبين وأفصح عبارة كما في كتابه القيم الذي يعتبر الأول بين كتبه: (الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وعلى آله).
وقوله: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ)) أي: هو نداء مفرد مبني على الضم ينادى به الواحد، والهاء للتنبيه، يعني: يا هذا، والنبي نعت لهذا النداء، أي: يا هذا المنادى، أو يا أيها المدعو، أو يا نبي الله.
وقوله: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ)) يأمر الله عبده ونبيه وإمام أنبيائه بالتقوى، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يؤمر بالتقوى هو تنبيه بالأعلى على الأدنى، إذا كان النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا يعصي يؤمر بتقوى الله وطاعته فكيف بالعصاة مثلنا؟ وكيف بغير المعصومين مثلنا؟ فذلك نداء للنبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهو للناس كلهم بأن يتقوا الله، وأن يعبدوا الله ويوحدوه.
والتقوى: هي طاعة الله على نور من الله يرجو رضا الله، والتقوى: هي أن يطيع الإنسان ربه بفعل أوامره وترك نواهيه على نور من ربه، وعلى برهان ودليل، لا أن يطيعه بالهوى، ولا بالخواطر، ولا بالفلسفات الباردة، ولكنه يطيع الله على نور من الله، كما يريد ربنا عز وجل ويرضى.
وأن تكون الطاعة ابتغاء رضوان الله، ورجاءٍ رحمة الله، لا لمجرد الهوى والعادة.
والتقوى من الوقاية، وهي أن يجعل المؤمن وقاية بينه وبين عذاب ربه، وبين غضب ربه، وبين ما لا يرضي ربه، فالله جل جلاله يدعونا إلى طاعته وإلى البعد عن معصيته؛ ليكرمنا برضاه وبالجنان خالدين مخلدين فيها.
وقوله: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ)).
يعني: يا نبي الله، اتق الله طاعة، واتق الله رضاء، واتق الله بعداً عن المخالفة، وإياك أن تطيع الكافر في قوله أو فعله، وأن تطيع المنافق في قوله أو فعله، هذا أمر للأعلى تنبيهاً للأدنى، فهو أمر للنبي الله المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا يعصي الله ما أمره، وهذا فيه تنبيه العصاة غير المعصومين من عموم الناس، أي: يا أيها الناس تبعاً لنبيكم وما أمر به رسولكم اتقوا الله ولا تطيعوا الكافرين بالله، ولا تطيعوا المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام كذباً وزوراً، ويخفون معصية الله، ويخفون الكفر بالله، فهؤلاء المنافقون إياكم وإياهم، وهؤلاء الكافرون إياكم وإياهم.(192/2)
سبب نزول قول الله تعالى: (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين)
قال البعض من مفسري الآية الكريمة: وكان سبب نزول هذه الآية لما هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً في تلك المدة من السنوات التي هادنهم فيها، وجاء إلى المدينة أبو سفيان، وجاء عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وجاء جماعة منهم، ونزلوا على رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول، وواجهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين له: (يا محمد، لو تركت عيب آلهتنا لتركناك ودينك، وتبعهم في هذا القول المنافقون وناصروهم وأضافوهم وأكرموهم، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، لو أمرتني أن أقتل هؤلاء جميعاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: والعهد الذي بيننا؟!) أي: بيننا وبينهم عهد عشر سنين، فكيف نغدر بهم ونقتلهم.
فأمر بطردهم، فقام عمر وأخرجهم من المدينة المنورة ملعونين خزايا؛ لطلبهم هذا الطلب السخيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ)) أي: في أن تنصت لمثل هذا القول الباطل.
((وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ)) أي: فيما طلبوه منك من مهادنة آلهتهم المزيفة، وتركهم على كفرهم ونفاقهم.
وقوله: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)) أي: له العلم جل جلاله فيما يجري، وفيما سيكون بعد ذلك من أن هؤلاء مقهورون، ومغلوبون على أمرهم، وذاهبون وآلهتهم المزيفة، وأنت منصور عليهم النصر العزيز المؤزر، فلا تلتفت لأقوالهم، ولا تقبل كلامهم ولا كلام المنافقين الذين ساندوهم، فهو سبحانه عليم بباطل قول هؤلاء، وفساد ما يدعون إليه.
وهو حكيم في أفعاله، ما أمرك بقتالهم إلا وقوله منزل منزلة الحق يعود بالخير عليك وعلى المؤمنين من أتباعك، والله ناصرك وناصر أتباعك ومذل عدوك، ومذل كل كافر ومنافق، فقد علم الله ذلك في سابق علمه وهو الحكيم في أقواله وأفعاله.(192/3)
تفسير قوله تعالى: (واتبع ما يوحى إليك من ربك)
قال الله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:2 - 3].
أي: دع قول هؤلاء الكافرين، ودع قول هؤلاء المنافقين، ولا تلتفت إليهم، ولا تهتم بهم، ولكن الذي تتبعه وتطيعه هو ما أوحاه الله إليك.
والأمر من الله لنبيه أمر للمؤمنين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة، ولا يليق بالمؤمن أن يستشير في دين الله كافراً أو منافقاً، فضلاً عن أن يعمل بقول الكافرين والمنافقين، ولكن المؤمن أمر بأن يعمل بما أوحى الله به وأنزله على نبيه وهو القرآن الكريم، وبما نطقت به السنة المطهرة، التي جاءت مبينة لكتاب الله.
وقوله: ((وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)).
أي: اتبع الوحي الذي جاءك به جبريل عن الله.
وقوله: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)).
أي: كان الله بقولكم أيها المؤمنون خبيراً عليماً، فهو يعلم ما تقولون، وهو خبير بما تفعلون، فمن فعل خيراً فله، ومن فعل شراً فعليه، فهو الخبير بأعمالنا وبأقوالنا، فمن أطاع فله الجنة، ومن عصى فله النار.
والله جل جلاله يلزمنا بأن نطيعه، ومن عصاه قد أنذره، وتهدده وتوعده بعذابه وعقابه، وهو يعلم ما يعمل وما يحدث به نفسه إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:3].
أي: يا محمد اتق الله في نفسك، وأمر أتباعك المؤمنين بأن يتقوه، وألا يطيع أحد من أتباعك منافقاً ولا كافراً، بل قل لهم: اتبعوا ما أوحى الله إليكم وأنزله عليكم، وتوكلوا على الله في طاعتكم له، واجعلوا الله وكيلكم، وابتعدوا عن كل منافق وكافر، ومن جعل الله وكيلاً له كفاه كل شر وكل سوء، ونصره على أعدائه، وأيده في أعماله، وكان له كما يكون لأوليائه المتقين.
وقوله: ((وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)) أي: يكفيك الله عدوك، ويكفيك شانئك، فلا تخرج عن طاعة الله، فذلك خير لك في دنياك وفي آخرتك، وكل هذا ديباجة وتمهيد لما أوحى الله به على نبيه في هذه السورة من غزوة الأحزاب غزوة الخندق، وما حصل فيها من إذلال عدو الله، ونصر رسول الله وأتباعه.(192/4)
تفسير قوله تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)
قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4].
اشتملت هذه الآية الكريمة على أحكام، واشتملت على أوامر ونواه، وجعلت لها مقدمة وديباجة، قال تعالى: ((مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)).
أي: ما خلق الله إنساناً وخلق له قلبين في جوفه، قلباً حاضراً وقلباً غائباً، وقلباً سميعاً، وقلباً عاصياً، وقلباً مشرقاً وقلباً مغرّباً، بل جعل الله لكل إنسان ولكل مخلوق قلباً واحداً، فلم يجعل الله لإنسان قلبين في جوفه وفي باطنه، وهو ضرب مثال لما يأتي في بقية الآية، أي: كما لم يجعل للإنسان قلبين لم يجعل للمولود والدين، ولم يجعل الزوجة أماً والأم زوجة، فهي ديباجة ومقدمة لقوله تعالى بعد ذلك.
وقوله: (من) هي حرف جر للاستغراق وللعموم، أي: عموم الخلق، ولا مفهوم للرجل أو الذكر، وإنما المعنى: ولم يجعل لواحد من الناس قلبين في جوفه.
وقوله: (وما جعل) هذه هي النتيجة من المقدمة، قال تعالى: ((وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ)) أي: كما لم يجعل الزوجة المظاهر منها أماً، كما كانوا يقولون في الجاهلية، ولا تزال هذه الجاهلية يقول بها الكثير من الناس، إحياء للجاهلية الأولى، وقولاً للباطل والزور والمنكر من القول، فنجد من يقسم على زوجته ويقول: هي عليه كظهر أمه، ويكفي أن يقول: هي عليه كظهر واحدة من محارمه بأن يذكر أماً أو بنتاً أو أختاً أو عمة أو خالة، فكون الرجل يحرم نكاح زوجته على نفسه، فيقول: هي عليه كظهر أمه، أو أخته، أو عمته، أو خالته، أو أي حريم ممن حرم الله عليه، فعندما يقول الجاهل هذا فهو قول باطل ومنكر وزور، ولن يكون حقيقة ولا واقعاً، ولا تحرم زوجته عليه حرمة أبدية بذلك، فهي زوجة وستبقى زوجة، ولكن مقابل هذا القول الباطل جعلت له عقوبة وهي مفصلة في سورة المجادلة، وأن من قال ذلك لا يحل له أن يعود لها مرة ثانية ما لم يعتق عبداً، فإن لم يجد فليصم ستين يوماً متتابعة، فإن لم يستطع فليطعم ستين مسكيناً، فتلك عقوبته وذلك جزاؤه، وإلا فلا يحل له أن يتصل بها بعد ذلك ما لم يقم بالعقوبة التي عاقبه الله بها.
وقوله: ((وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ)).
أي: لم تكن الزوجة أماً في حال من الأحوال، ومن قال ذلك فعليه الكفارة: عتق رقبة أو صيام ستين يوماً أو إطعام ستين مسكيناً، فكما أن الرجل لن يكون له قلب في جوفه لن تكون الزوجة أماً أو الأم زوجة في حالٍ معاً.
وقوله: ((وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ)).
(أزواجكم): جمع زوجة، والظهار: أن يقول: هي عليه كظهر أمه، لن تكون هذه المظاهرة وهذا القول الباطل ليجعل الزوجة أماً أبداً.
وهذه الفقرة من الآية لها سبب نزول.
وقوله: ((وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ)): الأدعياء: جمع دعي، كان الناس في جاهليتها يأتي الواحد إلى الولد فيقول: هذا ولدي يرثني وأرثه، ويصبح كولد الصلب، وتحل له الخلوة بالأخوات من هذا المتبني، ويحرم عليه ما يحرم على الابن الذي هو من الصلب والرحم، فالله حرم ذلك وأبطله، وجعله زوراً من القول وباطلاً من الكلام.
وقوله: ((ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ)).
أي: ليس ذلك بقول حق ولا بقول صدق، ولن يكون للولد أبوان قط، كما لن يكون للرجل قلبان في جوفه.(192/5)
سبب نزول قوله تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)
إن سبب نزول قوله تعالى: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) هو ما كان يفعله الناس قبل الإسلام، وفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك حين تبنى زيد بن حارثة، وكان قد أسر في الجاهلية واشتراه حكيم بن حزام بن خويلد، ووهبه لعمته خديجة بنت خويلد، وخديجة بنت خويلد بعدما تزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإذا بأبيه وعمه يبحثان عنه، فقيل لهما: إنه بمكة، فجاء إلى مكة فوجداه عند محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وهذا كان قبل النبوة وقبل الإسلام، فجاءا إليه وقالا له: يا بن عبد الله، يا بن عبد المطلب، تكرم علينا بولدنا، فقال لهما رسول الله: خيروه، فإن اختاركم فهو لكم، فقالا له: يا زيد، أتختار أبيك وحسبك ونسبك أو تختار الرق والعبودية؟ قال: لن أختار على محمد أحداً.
وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي هذا الحب من زيد، فقال لأبيه وعمه: اشهدا أنني أتبناه وألحقه بنسبي، فهو بعد اليوم زيد بن محمد، فقرت عين أبيه وعمه عندما رأيا أن زيداً ارتفع نسبه إلى نسب قريش، وأصبح ابناً لمحمد وحفيداً لبني هاشم وسبطاً لـ عبد المطلب.
وكان التبني عادة العرب من قوم محمد صلى الله عليه وسلم وغيرهم، ولكن عندما جاء الإسلام أبطل التبني، وجاء الوحي من الله ونزل قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4].
فحرم الله التبني، وألغاه، وألغى نتائجه، وجعله قولاً من الزور، وعملاً من الباطل.
إذاً: التبني دعوى لا أصل لها، ولا يكون الرجل ولداً لأبوين في آن واحد، إما هو ابن صلبك ورحم زوجتك، وإما هو رجل بعيد لا صلة لك به.(192/6)
تفسير سورة الأحزاب [6 - 8]
سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم أولى بنا من أنفسنا، وأزواجه رضي الله عنهن أمهاتنا، وقد كان صلى الله عليه وسلم أول النبيين خلقة وآخرهم بعثة، وهو خيرهم والمقدم عليهم، والأخوة في الدين الذي جاء به أقوى رابطة حتى لقد كان يقع بها التوارث ثم نسخ.(193/1)
تفسير قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)
قال الله عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:6].
فالله جل جلاله يقول: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)).
أي: الله جل جلاله يعلم المؤمنين الأدب مع النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه أولى بهم من أنفسهم وبأن تطاع أوامر النبي صلى الله عليه وسلم وتجتنب نواهيه، وتقدم رغباته على رغبات الإنسان نفسه، فالنبي عليه الصلاة والسلام عزيز عليه عنت قومه، حريص على إيمانهم، رءوف رحيم بهم أكثر من أنفسهم لأنفسهم.
ولذلك فإن الله جل جلاله جعل النبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم أمراً ونهياً، تحليلاً وتحريماً، وقال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] أي: لن يتم إيمان المؤمن ما لم يجعل النبي عليه الصلاة والسلام الحكم المفوض له، يأمر وينهى بما يراه، إشارته أمر، وإشارته نهي، وطاعة الله في طاعته، ومن عصاه فقد عصى الله.
ونبينا خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام هو أولى الناس بالمؤمنين، أولى الأنبياء بالطاعة والولاء والإخلاص، وهكذا جعل الله جل جلاله نبينا محل القدوة والأسوة، ومحل التحريم والتحليل، وينبغي أن يقدم على نفس الإنسان ورغباته وخواطر نفسه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، ومن ولده ووالده ومن الناس أجمعين، فقال عمر: إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال: لن تكون مؤمناً حتى أكون أحب إليك حتى من نفسك، قال: ومن نفسي يا رسول الله أنت أحب إلي، قال: الآن فنعم).
والنبي عليه الصلاة والسلام عندما يكون أولى بالناس من أنفسهم وأولاهم بالطاعة، وأولاهم بالحب والولاء، عند ذلك يكون المؤمن مؤمناً حقاً، مطيعاً حقاً، تابعاً حقاً.(193/2)
معنى كون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين
قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6].
أي: أن زوجات النبي عليه الصلاة والسلام هن بالنسبة لكل مسلم كالأم احتراماً وكالأم براً وكالأم تقديراً، ويحرم الزواج بهن بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام في أنفسهن فقط، وليس أخواتهن ولا بناتهن كأخوات وبنات الأم الحقيقية؛ لأن الأم الحقيقية أخواتها خالات لولدها، وليس كذلك زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، فزوجاته يحل الزواج ببناتهن منه ومن ربائب النبي عليه الصلاة والسلام، كما يحل الزواج بأخواتهن وليس كذلك الأم الحقيقة؛ لأن الزبير بن العوام تزوج أسماء بنت أبي بكر وهي أخت عائشة أم المؤمنين، ولم يقل عنها: هي خالة، وتزوج هند بن أبي هالة من بنات المسلمين، وهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم المؤمنين الأولى خديجة، ولم يقل أحد: إنه خال المؤمنين، كما لا يقال لأخواتهن: خالات، ولا لأولادهن أخوال.
ومن هنا لم يقل لـ معاوية: خال وهو أخو أم حبيبة، كذلك من كان أخاً لبقية أمهات المؤمنين كإخوة عائشة محمد وعبد الرحمن لم يقل لهما أحد: يا خال، أو أنت خالي، وإنما الأمومة هي في كونهن لا يزوجن لأحد قط بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يحل الخلوة بهن، ولا يحل كلامهن إلا من وراء حجاب، وقد قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53].
ولم تكن أماً للمؤمنين إلا التي دخل بها صلى الله عليه وسلم، أما التي طلقت قبل الدخول فهي لا تعتبر أماً، وليست لها حرمة الأمهات في تحريم الزواج بها.
وفي قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وهو أب لهم).
وكون النبي صلى الله عليه وسلم أباً للمؤمنين إنما هي أبوة احترام وتعظيم وعطف، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام ليس أبا أحد من الرجال أبناء الصلب؛ فأولاده ماتوا أطفالاً، مات القاسم طفلاً، ومات إبراهيم طفلاً ولم يبلغا مبلغ الرجال، {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، وإن كان يقال للأحفاد وللأسباط: أبناء، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام عن الحسن بن علي عليه السلام: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).
وقال عن الحسن والحسين: (ابناي هذان ريحانتي من الدنيا، وهما سيدا شباب أهل الجنة)، وهذا أمر مجمع عليه، فإنه يقال لأولاد فاطمة الحسن والحسين وأم كلثوم: أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنوة سلالة، بنوة ابن البنت، بنوة السبط.
وقد قال عليه الصلاة والسلام لـ أنس بن مالك خادمه: (يا بني)، وقال لغلمة من بني عبد المطلب: (أنتم بني)، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (أنا لكم كالوالد أعلمكم).
فالنبي عليه الصلاة والسلام هو أب للمؤمنين أبوة احترام وتعظيم، مع أن من عادة العرب أن تقول للكبير عماً، وتقول للكبير أباً، أبوة احترام وعمومة احترام، والنبي أولى بذلك من عموم المؤمنين.(193/3)
نسخ التوارث بالأخوة الدينية وجعل التوارث بين الأرحام
قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب:6].
أي: كان التوارث في صدر الإسلام بالأخوة وبالحلف، وذلك عندما هاجر المؤمنون من مكة للمدينة، وكان قد سبقهم بالإيمان بعض سكانها من الأوس والخزرج ممن أطلق الله عليهم بعد ذلك الأنصار، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100].
فسمى الله المهاجرين بدينهم من مكة للمدينة مهاجرين؛ لأنهم هاجروا إلى الله ورسوله، هجروا الأوطان والمساكن والأموال، فراراً بدينهم من الكفر وأعداء الله.
فعندما هاجر أهل مكة للمدينة آخى النبي عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار أخوة خاصة زيادة على الأخوة العامة، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وكانوا بهذه الأخوة يتوارثون، فيرث المهاجري الأنصاري، ويرث الأنصاري المهاجري، وكان هذا في صدر الإسلام، ثم نسخ الله جل جلاله ذلك وقال: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:6].
الأرحام: الأقارب كالأولاد بالنسبة للأب والأم، والأبوان بالنسبة للأولاد، فهم أولى بالإرث من بقية الأرحام والعصبة، وهم أولى بالإرث مما كان في صدر الإسلام من التوارث بالإيمان وبالأخوة الدينية، وهذه الآية نسخت ما كان قبل.
قال تعالى: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:6] أي: كان هذا الأمر في التوارث بين ذوي القرابات وذوي الأرحام هو الأصل في كتاب الله في اللوح المحفوظ، ولكن ذلك نسخ بعد هذا، وكما سبق أن قلت أكثر من مرة: الكتاب كتابان: كتاب من قبل الحق، وكتاب من قبل الملائكة، فما كان من قبل الله لا يبدل ولا يغير، قال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:29]، وما كان من قبل الملائكة يبدل ويغير، قال تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] وأم الكتاب هو أصل اللوح المحفوظ، وهو ما كان من قبل الله جل جلاله، ولا يراه غيره.
والملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون إنما يرون اللوح الذي من قبلهم، فيمتثلون ما وجدوا فيه من تحليل وتحريم، ومن أمر ونهي، من التوارث بين المؤمنين من أنصار ومهاجرين قد كان ذلك في الكتاب الذي من قبل الملائكة فأمروا به ونهوا، ونزل جبريل على النبي عليه الصلاة والسلام في الأمر بذلك، ولكن الذي في أم الكتاب هو ما قال الله عنه: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:6].
أي: في اللوح المحفوظ الذي هو من قبل الله أن التوارث لا يكون إلا بين الأرحام، بحيث يرث بعضهم بعضاً، ويتولى بعضهم بعضاً غرماً وغنماً، والغنم بالغرم، فعلى الأولياء أن يقوموا بأوليائهم عند الحاجة، ومن هاهنا يقع التوارث بين الأرحام.
فقوله: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب:6] فلا يجوز التوارث بين الأباعد بمجرد الإيمان وأخوة الإسلام، وإنما التوارث يكون بين الأرحام، ((وَأُوْلُو الأَرْحَامِ)) أي: من المؤمنين؛ ولذلك لا توارث بين دينين كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يرث مؤمن كافراً، ولا يرث كافر مؤمناً) وإنما التوارث بين الأرحام من المؤمنين.
وقوله: ((إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا)).
أي: إلا أن يأتوا إلى الأولياء الأقارب، ويفعلوا إليهم معروفاً، والمعروف: هو الوصية بالثلث، أو العطية يداً بيد، والإحسان والنفقة، إن كان ميتاً فوصية، وإن كان حياً فعطية ومنحة وهبة، ولم يمنع الله الوصية والمعروف والعطية والمنحة بين الأرحام المؤمنين الأقارب، وإنما حرم التوارث بالإيمان والإسلام مع البعد عن الرحم، وعن القرابة.(193/4)
الأحكام المستنبطة من قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)
هذه الآية الكريمة فيها أحكام لا بد من القيام بها والعمل لها وهي من صلب الإسلام، وهذه الأحكام هي: أولاً: كون النبي صلى الله عليه وسلم أولى بنا من أنفسنا أمراً ونهياً، وتحليلاً وتحريماً.
ثانياً: كون زوجات النبي عليه الصلاة والسلام هن أمهات المؤمنين رجالاً ونساء، فبالنسبة للنساء هي أمومة محبة وتقدير وتعظيم، وبالنسبة للرجال كذلك مع تحريم الزواج منهن ألبتة، احتراماً لمكانة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لا يجوز الخلوة بهن، ولا يجوز الكلام كفاحاً مواجهة، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53]، وقال سبحانه: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] أي: لا تخضع الأم من أمهات المؤمنين بالقول اللطيف اللين للرجال من المؤمنين.
والتحدث بغير لين ولا تكسر في القول هو أمر لجميع الأجنبيات مع الرجال، ويزداد ذلك ويتأكد من زوجات النبي عليه الصلاة والسلام مع عموم المؤمنين.
وقالت امرأة لـ عائشة: يا أماه، أي: يا أمي، فقالت لها السيدة عائشة: لست لك بأم إنما أنا أم الرجال، وهو رأي لـ عائشة ورأي لجماعة من الصحابة والتابعين والأئمة، ولكن عموم الآية يدل على أن الأمومة هي أمومة الاحترام والتقدير، وهي تعم الرجال والنساء، بدليل القراءة التي هي خارجة عن السبع: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) فالأبوة أبوة احترام وتقدير، كالأمومة أمومة احترام وتقدير، وعدم الزواج للتقدير والاحترام ولحفظ مكانة النبي عليه الصلاة والسلام.
ثالثاً: تجوز الوصية والمنحة والعطية للأباعد من المؤمنين، والذي لا يجوز هو التوارث فقط، ولا تجوز الوصية بأكثر من الثلث، بل كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الثلث والثلث كثير).
وعندما أراد سعد بن أبي وقاص أن يوصي بجميع ماله، وكان إذ ذاك مريضاً يظن الموت، ولم يكن له وارث إلا ابنة له، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام: (أأوصي بجميع مالي؟ قال: لا، فإن كان لا بد فالثلث والثلث كثير، لأن تترك أولادك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
وفي هذا إشارة إلى أن سعداً لن يموت إلا وله أولاد وورثة، وكان الأمر كذلك، وكان هذا الخبر لـ سعد من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام، ومن الإخبار بالغيب.
رابعاً: أن عدم التوارث إلا بالقرابات والأرحام هو ما كان في الكتاب المحفوظ، وهو الذي كان مسطوراً ومكتوباً، وهو الأصل، وإنما أبيح التوارث بالأخوة لوقت خاص لحكمة ظاهرة، وهي أن الذين آمنوا كانوا قلة في الصدر الأول، وكان أكثر أقربائهم وأرحامهم لم يسلموا، ولا توارث بين مؤمن وكافر، فالمال سيبقى بلا وارث، إذ الورثة من الأنصار أو المهاجرين أكثرهم لم يؤمنوا بعد، وأكثرهم لا يزالون على دين الكفر، فالله جل جلاله أذن بالتوارث بالإيمان وأذن بالتوارث بالأخوة الدينية، وكان ذلك موقوتاً إلا أن أصبح الأقارب والأرحام مؤمنين كبقية مورثيهم ووارثيهم.(193/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح)
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7].
يقول تعالى: اذكر يا محمد إذ أخذ الله من النبيين ميثاقهم وعهدهم ألا يتوارث إلا الأرحام، وألا توارث بين مؤمن وكافر، واذكر يا محمد إذ أخذ الله من النبيين مواثيقهم بالوفاء بالتبليغ، وبالدعوة إلى الله، ومن ذلك التوارث بالأرحام لا بالأخوة الدينية.
فقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ}.
أي: كما أخذ من النبيين قبلك عهودهم ومواثيقهم المؤكدة المشددة المحلوف عليها المجتمع عليها أن يبلغوا دين الله، وألا يتوارث كافر مع مؤمن، وألا يتوارث بعيد مع وجود القريب، وأن يبلغوا دين الله الحق، وأن يوفوا بما أمروا بتبليغه.
كذلك فقد أخذ منك العهد المشدد المؤكد باليمين الثابتة على أن تبلغ دين الله، وأن تدعو إلى الله، وأن تحرم ما حرم الله، وأن تحل ما أحل الله، وأن المؤمنين إخوة بعضهم أولياء بعض، وأن الكفرة أعداء للمؤمنين وبعضهم أولياء بعض.
إذاً: أخذ منك العهد والميثاق كما أخذ من نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم.
وهؤلاء الخمسة الذين ذكروا في غير ما آية هم أولو العزم من الرسل، وهم أصحاب الشرائع والرسالات، وقد تكبدوا في دين الله ما لم يتكبده غيرهم من الرسل، وهؤلاء كانت لهم رسالات خاصة دعوا إليها أقوامهم، فقد دعا نوح بشريعة خاصة، ودعا بعده إبراهيم، وبعده موسى، وبعده عيسى، ودعا بعدهم محمد صلى الله عليه وسلم، أما الأنبياء الآخرون فقد كانت شرائعهم ورسالاتهم بعضها مأخوذ من بعض، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48].
أما الدعوة للتوحيد فدعوتهم جميعاً واحدة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات أبونا واحد، وأمهاتنا شتى).
أبناء العلات هم أبناء الضرائر الذين تكون أمهاتهم شتى متعددات ويكون الأب واحداً، وهو ما يعبر عنهم بالإخوة غير الأشقاء؛ والأب واحد، أي: الدين واحد، والدعوة إلى توحيد الله واحدة، فكلهم أتوا يدعون الناس إلى عبادة الله الواحد الذي لا شريك له: أن اتقوه، وأن وحدوه، وأن خصوه بالعبادة ولا تعبدوا معه غيره.
أما الشرائع فقد تكون مختلفة حسب الزمان والمكان، وحسب الإنسان وعصره، فقد كانت بعض الشرائع متشددة، وبعضها سهلة، ودين الإسلام أقرب الأديان يسراً، وأبعدها عن العسر، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] وكذلك كانت ملة إبراهيم لم يكن فيها عسر، بل كانت كلها يسراً.
قدم الله تعالى في هذه الآية الكلام مع النبي عليه الصلاة والسلام قبل نوح وقبل إبراهيم وموسى وعيسى.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ} [الأحزاب:7] ثم ذكر بعد ذلك: {وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الأحزاب:7] فما الحكمة في تقديم ذكر نبينا على غيره وكلهم أولو العزم من الرسل، وكلهم صلوات الله عليهم أصحاب شرائع خاصة وديانات خاصة؟ أقول: كان ذلك لأفضلية النبي صلى الله عليه وسلم عليهم جميعاً، ولإمامته عليهم جميعاً، وقد قال الله جل جلاله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] وكان أفضل الكل محمداً صلى الله عليه وعلى آله؛ ولذلك قال في هذه الآية: (ومنك ومن نوح) فقدم ذكره على نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وهم كلهم أولو العزم من الرسل.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث) أي: كان النبي عليه الصلاة والسلام المخلوق الأول في صلب آدم، خلقه الله قبل خلق بقية الأنبياء، وإن كانت بعثته آخر البعثات، وهذا معنى إمامة النبي عليه الصلاة والسلام بالأنبياء ليلة أسري به في المسجد الأقصى.
إذاً: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7].
هذه المواثيق المشددة والعهود المؤكدة والأيمان المغلظة على الوفاء بالعهد وبلاغ الرسالة وأدائها كما أمر الله، وأخذ الله ذلك من الأنبياء عموماً ومن أولي العزم الخمسة خصوصاً، ومن نبينا عليه الصلاة والسلام نبي الكل، وهو الرسول المرسل إلى الخلق كافة، والأنبياء حتى أولو العزم الخمسة لم يكونوا أنبياء إلا إلى أقوامهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خصصت بخمس: كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة).
وقوله: ((وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)).
أي: أخذ منك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى المواثيق المغلظة المؤكدة المشددة بالوفاء بالعهد وتبليغ الرسالة كما أمر الله، وكان من ذلك: ألا توارث إلا بين الأرحام من المؤمنين، وكان من ذلك بقية الأوامر والنواهي، وتبليغ الرسالة في الحلال والحرام والآداب والرقائق، وكل رسالة بحسبها، وكل على طريقته ومنهاجه.(193/6)
تفسير قوله تعالى: (ليسأل الصادقين عن صدقهم)
قال الله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الأحزاب:8].
أي: أخذ العهود المؤكدة المغلظة؛ ليكون ذلك سبباً لسؤال الأنبياء والرسل عما بلغوه وعمن بلغوه، من آمن ممن بلغوه ومن كفر.
فقوله: ((لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ)) أي: ليسأل الأنبياء الصادقين الذين لا يعصون الله ما أمرهم عن صدقهم الذي أرسلوا به، وعن الرسالات والشرائع.
وما الحكمة من سؤال الله جل جلاله لأنبيائه وهو يعلم صدقهم ويعلم تبليغهم؟ أقول: الحكمة من ذلك ظاهرة إذ كذبهم الكثير من أتباعهم وممن أرسلوا إليهم، فعندما يسألون ويجيبون بما أرسلهم الله به يكون ذلك تبكيتاً لهؤلاء الكفرة من الأتباع الذين كذبوا، والذين لم يصدقوا، والذين أبوا إلا الجحود والكفران.
وقد فسرت الآية: ((لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ)) أي: ليسأل الأتباع من المؤمنين: هل صدقوا الله ما وعدوه عندما آمنوا وأسلموا؟ هل صدقوا الرسل وما جاءوا به؟ هل بلغوا ذلك بدورهم؟ وفي الحديث: (والعلماء ورثة الأنبياء).
وفي آخر: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع).
والآية تشمل أن الله يسأل الرسل والأنبياء تبكيتاً لمن كذبهم ولم يؤمن بهم، ويسأل المؤمنين من الأتباع زيادة في الإحسان إليهم، وأن من آمن فله الجنة والرضا والرحمة، ومن لم يؤمن فله الجحيم واللعنة والغضب.
وقوله: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الأحزاب:8]، أي: أعد للكافرين الذين كفروا بالرسالات وجحدوها، ولم يعملوا بما جاء به الأنبياء، أعد الله لهم يوم القيامة العذاب الأليم.
وقد يكون العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، في الدنيا عذاب الأسر والعقوبة، والأمراض، والقحط، والذل والغلبة والقهر، ويوم القيامة أشد وأنكى من دخول النار ولعنة الله وغضبه الدائم.
إذاً: هؤلاء الذين لم يؤمنوا بالرسالات التي أرسلوا بها فإن الله يعد لهم ويهيئ لهم العذاب الأليم في الدنيا بما شاء، وفي الآخرة العذاب الأليم الخالد الدائم، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56].(193/7)
تفسير سورة الأحزاب [9]
غزوة الأحزاب من أعظم الغزوات النبوية التي اشتملت على الدروس والعبر، وكان قد اجتمع على المدينة الحصار، وتألب عليها الأحزاب من قريش وغطفان وغيرهم من الكفار، وغدر اليهود فنقضوا العهد وصاروا مع الأعداء، وحينئذ نزل الاختبار والابتلاء فثبت الصحابة رضي الله عنهم ثبات الجبال.(194/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9].
ابتداء من هذه الآية ندخل في قصة غزوة الأحزاب، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله: اذكر نعمة الله عليك إذ غزتكم جنود في عقر داركم، ونصركم الله عليهم بالصبر، ونصركم الله عليهم بريح زعزعتهم، وقلعت أوتادهم، وأكفأت قدورهم وتركتهم يفرون خوفاً وهلعاً، وكفى الله المؤمنين القتال.
وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) بصيراً بأعمالكم، وبصيراً بما استقبلتم به هؤلاء الجنود.
وهؤلاء الجنود هم من تحزبوا على المسلمين من كل جانب، وهم قريش جاءوا في عشرة آلاف محارب، وأهل نجد وغطفان، وكذلك اليهود الذين غدروا ونقضوا العهد والميثاق الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه الأحزاب من قريش بقيادة أبي سفيان بن حرب، ومن نجد بقيادة عيينة بن حصن الفزاري النجدي، ومن يهود المدينة بقيادة كعب بن أسد القرظي وحيي بن أخطب النضري.
واليهود من بني قريظة ومن بني النضير ممن جاوروا النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة، وعاهدهم، ليختبر ما عندهم، ولكن اليهود هم اليهود سواء في تاريخهم القديم أو الحديث هم أهل غدر وخيانة وكذب، وعدم وفاء بالعهد، فقد ذهبوا إلى مكة يؤلبون قريشاً على النبي عليه الصلاة والسلام، وذهبوا إلى نجد يؤلبون غطفان على النبي عليه الصلاة والسلام، ويعدونهم النصر والحلف، وأنهم سيحاربون النبي صلى الله عليه وسلم من خلفه ويغدرون به، وستكون الحرب من أمام ومن خلف ومن فوق ومن أسفل، وأخذوا يدعونهم ويحرضونهم ويهونون لهم أمر حرب النبي عليه الصلاة والسلام، إلى أن استفزوهم واستثاروا أحقادهم، ونقلوا إليهم ما بينهم من عداوات سابقة، فقررت قريش وغطفان غزو النبي عليه الصلاة والسلام في عقر داره داخل المدينة المنورة.
ولم يكن إذ ذاك الجيش النبوي يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل، على مبادرة هؤلاء الذين جاءوا غزاة إلى عقر الأرض النبوية والوطن الإسلامي، وجاءوا من مسافة خمسمائة أو أربعمائة ميل.
وبلغ الأمر النبي عليه الصلاة والسلام كما بلغ المؤمنين، وإذا بهم في حالة من الرعب والخوف، خاصة أن من يساكنهم كفار ووثنيون وأهل كتاب ومخادعون وغدارون ومنافقون ممن ادعوا الإسلام من الأوس والخزرج، فجمع النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه المؤمنين وشاورهم فقال: ماذا ترون معاشر المؤمنين، هؤلاء قد تألبوا وتحزبوا وهم في الطريق إليكم، وهم كثرة كثيرة بالنسبة لكم، فالمواجهة لا تنكي، فما عندكم من رأي؟ فقام سلمان الفارسي رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! كنا بفارس إذا هوجمنا وكان المهاجمون أكثر عدداً منا كنا نحفر خندقاً نتحصن خلفه.
فأعجبت النبي صلى الله عليه وسلم الفكرة وأمر بها، وقام المهاجرون والأنصار والنبي صلى الله عليه وسلم على رأسهم يحفرون الخندق من أمامهم من جهة مكة، وكذلك من جهة نجد، وتركوا الجهة التي فيها الجبال أحد وسلع، وجاءوا من أمكنتهم التي هي مفتوحة فحفروا فيها خندقاً، وحوطوا المدينة من ثلاث جهات، على أنهم توقعوا أن يأتي المكيون من جهة المغرب، ويأتي النجديون من جهة المشرق، فخندقوا المغرب والمشرق معاً، وانتظروا مجيء العدو، وعمقوا الخندق بحيث لا يمكن القفز عليه أو النزول إليه، ولو نزلوا إليه لكان موضع نبال المسلمين، وموضع قتالهم وغلبتهم.
فأخذ صلى الله عليه وسلم يحفر الخندق بنفسه، كما هي عادته معهم في أن يعمل عملهم ولا يدعهم يقومون بشيء دونه، إلى أن واجهتهم صخرة صعب عليهم كسرها وزوالها فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بها، (فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول بيده الشريفة وضربها ضربة ذاكراً الله ومستعيناً به، فطار ثلثها، وقال عليه الصلاة والسلام: فتحت بلاد الشام، إني لأرى قصورها، فضرب الثانية فكسر الثلث الثاني من الصخرة إلى أن أضاءت، فقال عليه الصلاة والسلام: فتحت لي فارس، ورأيت قصرها الأبيض، ثم ضربها الثالثة فقال عليه الصلاة والسلام: فتحت لي اليمن ورأيت دورها كأنها أنياب الكلاب).
ويأتي النبي عليه الصلاة والسلام من يخبره أن اليهود من بني قريظة غدروا وخانوا، وتحالفوا مع كفار قريش وغطفان على قتال النبي عليه الصلاة والسلام من خلفه.
وهذه الغزوة لها ثلاثة أسماء سميت بـ (غزوة الأحزاب) لتحزب أهل مكة من قريش مع قبائل نجد وغطفان ويهود المدينة من بني قريظة لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفه، فكانوا من فوقه ومن أسفل منه.
وقد أرسل النبي عليه الصلاة والسلام من يتأكد له من غدر اليهود وقال له: إذا رأيتهم غدروا كما بلغنا عنهم فعرض لي ولا تصرح، حتى لا يفت الخبر في عضد المؤمنين.
وقد ترك النبي عليه الصلاة والسلام النساء والأطفال والشيوخ العجزة في الآطام والحصون، وجعل لهم حراسة خفيفة، فلو بلغ المؤمنين أن العدو خلفهم يريد أولادهم ونساءهم وشيوخهم لفت ذلك في عضدهم، ولانزعجوا انزعاجاً كبيراً، فوق ما هم فيه من انزعاج، كما وصف القرآن الكريم.
فيأتي من أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليتأكد من نقض يهود بني قريظة للعهود ويقول: (يا رسول الله! عضل والقارة) يعني: أنهم غدروا كما غدر أهل عضل وأهل القارة بـ خبيب ومن كانوا معه، حيث عاهدوهم على الأمان إلى أن صدقوهم وإذا بهم يغدرونهم ويقتلونهم، فشبه الغدر من هؤلاء اليهود بغدر عضل والقارة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أبشروا أيها المسلمون بنصر من الله)، أو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
استشار النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين قبل غزوة الأحزاب، وهذا من عادته، وذلك الأدب الذي أدبه عليه الله جل جلاله، فقال له: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، وأثنى على المؤمنين وقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] وكان يكثر أن يستشيرهم صلى الله عليه وسلم في الحروب والغزوات، وفي المعاملات، وفيما يتعلق بأرزاقهم وغير ذلك.
وكان الخندق قد اتسع عرضه وحصلت عنده مناوشات استشهد فيها بعض أفراد من جند المسلمين، وقتل فيه عمرو بن عبد ود من قريش حين قفز من فوق الخندق وأثار الرعب بين أوساط المسلمين، فيقف أمامه علي رضي الله عنه، وبيده السيف والترس وناداه: يا عمرو تقدم وبارز، قال: لا حاجة لي بقتلك يا ابن أخي، قال: أما أنا فوالله إني لفي حاجة شديدة إلى قتلك.
وإذا بـ عمرو تنتفخ أوداجه وتأخذه العزة بالإثم، ويتقدم إليه ضرباً من هنا وضرباً من هنا، وإذا بـ علي بطل الصحابة يجندله تحت قدميه، ويطعنه طعنة كان فيها هلاكه، مما جعل الآخرين خافوا أن يقفزوا، ومع ذلك تقدم ثلاثة أو أكثر وإذا بهم يقعون داخل الخندق فقتلوا، وأخذت خيولهم وسلاحهم غنيمة للمجاهدين من المسلمين.(194/2)
دور نعيم بن مسعود في غزوة الأحزاب
هذا رجل من أهل نجد من بني أشجع من قبائل غطفان اسمه نعيم بن مسعود الغطفاني الأشجعي، جاء سراً إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله إني أسلمت، ولا يعلم أحد بإيماني، فمرني بأمرك، قال: ما عسى أن تعمل وأنت واحد، ولكن خذل عنا، قال: أفعل يا رسول الله، فذهب نعيم وكان جيشاً بمفرده، وكان من نصر الله للمسلمين.
فجاء نعيم إلى اليهود من بني قريظة، ونادى حيي بن أخطب وكعب بن أسد زعيم بني قريظة وقال لهما: تعلمان ولائي لكم وحلفي وإياكم، وقد حملني ذلك على نصحكم، فقالوا: لست عندنا بالمتهم، قال: إن اليهود يساكنون محمداً وهم منه على مرمى حجر، وقريش بعيدة عنه، إذا رءوا خذلاناً أو رءوا هزيمة فروا وهم بعداء عن يثرب بمئات الأميال، وتبقون أنتم تحت نقمة محمد وأصحابه، فالذي أرى لكم أن تطلبوا منهم رهائن؛ حتى لا يتركوكم لمحمد وأصحابه، فقالوا: نعم الرأي! وذهب بعد ذلك إلى قريش، وقال لهم: بلغني أن اليهود يقولون: لا نثق بكم أنتم بعداء عن محمد ونحن قريبون منه وكيف نقاتله وأنتم بعداء ونحن منه قريبون، فنحن نريد منكم رهائن حتى إذا غدرتم انتقمنا من رهائنكم.
وإذا باليهود يرسلون إلى قريش يطلبون الرهائن، فتقول قريش: صدق نعيم! وعندما رفضت قريش قال اليهود: صدق نعيم! وأصبحوا من ساعتها يعيشون في خلاف وهلع، والأمر لا يزال بأيديهم.(194/3)
تخذيل المنافقين للمؤمنين
وكان الجيش النبوي مشتملاً على ضعاف النفوس من المؤمنين، وعلى المنافقين ممن دخلوا الإسلام وهم كذبة، وهؤلاء من الأوس والخزرج.
وكان هؤلاء المنافقون في أوساط المسلمين الصادقين يخذلونهم، ويقولون لهم: يزعم محمد أنه ستفتح له أرض الروم وأرض فارس وأرض اليمن، وأحدنا لا يستطيع أن يخرج لقضاء حاجته! وأخذوا يختلقون الأعذار ليرجعوا إلى بيوتهم خوفاً على الأولاد، وجاء كما سيقص الله علينا من يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13]، وجاء من يقول من المنافقين: اتركوا يثرب ليست لكم بمقام.(194/4)
تفسير سورة الأحزاب [10 - 13]
أحاط الكفار بالمدينة في غزوة الأحزاب إحاطة السوار بالمعصم، واشتد الأمر على المسلمين حتى زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وحينئذ ظهر ضعفاء النفوس فظنوا بالله الظن الذي لا يليق، وإذا بهم يقولون يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويعتذرون بأن بيوتهم عورة، وما هي بعورة، إن يريدون إلا فراراً!(195/1)
تفسير قوله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم)
قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10].
الذين جاءوا من قريش كانوا من أسفل الوادي، والذين جاءوا من نجد كانوا من فوقكم، واليهود من الخلف، فأحاطوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إحاطة السوار بالمعصم.
ثم وصف الله حال المؤمنين بأبلغ صفة فقال: ((وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ)) أي: مالت وتزلزلت، حتى صار بصر المدهوش المرعوب الخائف لا يكاد يزول عن المكان الذي يأتيه منه الخوف، من أسفل الوادي ومن أعلاه ومن فوقه، فأبصارهم زاغت وصارت مصوبة تجاه مكان الخوف من المشرق والمغرب.
وقوله: ((وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ)) يقولون في وصف الجبان: إذا استبدى خوف الجبان تنتفخ رئته، فإذا انتفخت الرئة صعد القلب حتى يكاد أن يخرج من مكانه ويصل إلى الحلقوم.
أي: أن القلوب كادت أن تصل إلى الحناجر من شدة الخوف والجبن والهلع.
وهكذا كان الأصحاب بين خوف وهلع، فالمؤمن منهم ينتظر أمر الله في رضا وطواعية، أما المنافق فينتظر سبباً ليقوم وينقلب على النبي صلى الله عليه وسلم مع أعدائه.
ويقوم المنافقون فيأتون إلى ضعاف الأنفس وضعاف القلوب من المؤمنين فيخوفونهم، يصفهم الله تعالى في الآية: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] أي: بلغت ووصلت قلوب المقاتلين والمجاهدين إلى الحناجر؛ لشدة الهلع والخوف على أرضهم وعيالهم وأموالهم.
وقوله: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا))، كان المنافقون يقولون: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]، وكرر ذلك معهم ضعاف النفوس وضعاف القلوب، وظنوا كذلك، فعوتبوا وقيل لهم: أتظنون أن الله سيترك نبيه والمؤمنين؟! انظروا إلى من سبقكم فقد {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
فالنصر مع الصبر، والصبر معه الفرج، ولذلك ورد الصبر في كثير من آي الكتاب الكريم، وخصص بسورة هي: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
فالمؤمنون مع صلاتهم وصلاحهم وتقواهم لا بد لهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الصبر، فقد قص الله علينا قصة لقمان عندما أمر ولده بالصبر، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين له أنه ما من داعية إلا أصيب في نفسه، وأصيب في شيء عزيز عليه.(195/2)
تفسير قوله تعالى: (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً)
قال الله تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11].
قوله: ((هُنَالِكَ))، يقال للإشارة البعيدة: (هنالك)، وللوسطى (هناك)، وللقريبة (هنا).
هذه الآية نزلت بعد غزوة الأحزاب؛ لأن الإشارة أصبحت إليها بعيدة، يعني: عند تلك الحالة وإتيان الجنود بما زاغت به الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وكثرت الظنون السيئة من المنافقين، أو من المسلمين الصالحين، وظنوا بأن الله متخل عن عبده وجنده، ويفعل الله ما يشاء، {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11].
أي: بعد أن بلغت الحال ما بلغت إليه ابتلى الله المؤمنين واختبرهم وامتحنهم بهجوم الأحزاب من أعداء الإسلام من مشرق الجزيرة ومغربها، حتى يفوضوا أمرهم إلى الله، وحتى يستسلموا لقضاء الله، أو يظهر منهم ما لا يليق بمؤمن صادق ويتأثروا بالمنافقين وبضعاف القلوب.
قوله: ((هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ)) أي: اختبروا وامتحنوا.
وقوله: ((وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)) أي: اهتزت نفوسهم وقلوبهم، ومالت أبصارهم، وتغيرت نياتهم، فالمنافق قد أعلن نفاقه، والضعيف قد كاد يفعل ذلك، والمؤمن الثابت قال: لعلها القاضية، مع استسلامه لقضاء الله وقدره.(195/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض)
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].
قوله: ((وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ)) أي: الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وكبيرهم عبد الله بن أبي ابن سلول في جماعة من اليهود، فهؤلاء ظنوها القاضية والفاصلة، وخرجوا عن الجيش المحمدي، بل ودعوا غيرهم أن يتركوا يثرب وأنه لا مقام لهم فيها.
وبدءوا يشككون في وعود النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بالنصر، فقالوا: أين الوعود السابقة من أنكم تفتحون أرض قيصر وكسرى وتبع؟ وأخذوا يلغطون في أقوالهم، مما جعل ضعاف القلوب والذين لم يستقر الإسلام بعد في قلوبهم، يصدقونهم ويقولون بقولهم.
وقوله: ((وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) [الأحزاب:12] أي: شك ورعب، فهؤلاء يحسبون كل صيحة عليهم، ويشعرون بزلزلة الأرض تحت أقدامهم.
قولهم: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام وعدهم عندما ضرب الصخرة في الخندق وكسرها ثلاث قطع، فبشرهم في الضربة الأولى بفتح أرض الروم والشام، وفي الثانية بأرض فارس، وفي الثالثة بأرض اليمن، فاعتبر هؤلاء المنافقون كل هذه الوعود مجرد أماني وغرور، وذكروا ذلك صفة لله، وصفة لرسوله، خابوا وخاب فألهم، وصدق الله ورسوله، وتلك شنشنة من المنافقين علمت عنهم قبل وبعد في التاريخ القديم والحديث، {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].(195/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا)(195/5)
معنى قوله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13].
قوله: ((وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ)).
هذه هي الطائفة المنافقة، الطائفة المظهرة للإسلام كذباً وزوراً، والمبطنة للكفر، فهي عندما وصلت الحالة في غزوة الأحزاب ما وصلت إليه، أعلنت هذه الجماعة المنافقة كفرها وقالت: ((يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ)) وعادوا للاسم الجاهلي، وتركوا الاسم المحمدي المدينة النبوية الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام اسماً دائماً ليثرب.
فقوله: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:13].
أي: اتركوا محمداً وأصحابه في الخندق وارجعوا إلى بيوتكم في المدينة.
أو: لن يكون لكم بعد اليوم في هذه البلدة مقام ولا استقرار ولا استيطان، فقد غلبكم عليها محمد وأصحابه فاتركوه واتركوها له، وإلا فستبقون ملاحقين من محمد وأصحابه، فأنتم إذا لم تموتوا في هذه المعركة فسيطالبكم في حروب ومعارك آتية، إذ أنصبته العداء فارس والروم وجميع سكان جزيرة العرب من العرب ومن فيها.
قوله: ((يَا أَهْلَ يَثْرِبَ)) يثرب: اسم المدينة النبوية قبل الهجرة، وسميت باسم رجل من العماليق وهم سكان المدينة القدامى، وكان اسمه يثرب، ويثرب من التثريب، كما قال يوسف لإخوته عندما غدروا به وتآمروا عليه، {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92] أي: لا ملام ولا عتب ولا مؤاخذة عليكم.
والتثريب مأخوذ من هذا المعنى، وهو فعل السوء الذي يستوجب المؤاخذة والعتاب.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة مهاجراً قال: (هي طابة، هي طابة).
وقال: (لا تقولوا: يثرب، هي طابة، هي طيبة، ومن قال: يثرب فليستغفر الله) حديث رواه الإمام أحمد في المسند عن البراء بن عازب.
فإذاً قال المسلم غلطاً وسبق لسان عن المدينة: هي يثرب، فليستغفر الله ولا يعد، إنما هي طابة، إنما هي طيبة.
والمدينة النبوية هي عاصمة الدنيا، وبها استقر الإسلام ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وكانت دار هجرته صلى الله عليه وسلم، ومنها انتصر الإسلام النصر العزيز الساحق في غزوة الخندق، وقبلها في غزوة بدر، وفي فتح مكة، وأصبحت بذلك عاصمة الدنيا جميعها، مما استحقت أن يقول النبي عليها الصلاة والسلام لأهلها: (المحيا محياكم والممات مماتكم، ولو لم أكن من قريش لكنت امرأً من الأنصار).
وكان الأمر كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فإنه منذ هاجر للمدينة أصبحت موطنه، ودار سكنه، وأصبحت مرقده وقبره صلى الله عليه وعلى آله، فهي داره مدة حياته إلى أن لقي الله، وهي داره إلى يوم البعث والنشور.(195/6)
معنى قوله تعالى: (ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة)
وقوله: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13].
هؤلاء جماعة ضعيفة قلوبهم، مزعزعة نفوسهم، ولكنهم ليسوا من المنافقين، استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم بترك المعركة، بعد أن اشتد بهم الحال لمدة شهر كامل، وبلغت القلوب الحناجر، وزاغت الأبصار، فزعموا ما ليس بصحيح، زعموا أن بيوتهم عورة مكشوفة للعدو وللسراق وللمهاجمين، فهم يريدون حماية أولادهم وأموالهم، ولكن الله كذبهم وقال: (وما هي بعورة) أي: ليست مكشوفة، وليست عرضة للعدو وللسارق وللغازي، فإن بين الغزاة الكفار والمجاهدين المؤمنين في المعسكر النبوي الإسلامي خندقاً، ولا يكاد يريد واحد من جيش العدو تجاوزاً إلا تعرض للقتل أو السقوط في الخندق فيهلك.
إذاً: رد الله عليهم وكذبهم بقوله: (وما هي بعورة) أي: ليست بمكشوفة ولا مفتوحة، ويقال: عورة، أي: لا يليق أن يكون على مرأى من الناس.
ومن هنا سمي القبل والدبر من الرجل والمرأة عورة، وسمي ما تريد أن تكتمه عورة، وسميت الدور والأمكنة المفتوحة والمكشوفة للعدو عورة.
وهكذا كان تعبير القرآن الكريم عن الدور في زعم هؤلاء.
فقوله: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13].
كشف الله مقاصدهم، وأظهر أن بيوتهم ليست بعورة حتى عند أنفسهم، وهم لم يقولوا الصدق، أو قالوا ما أوحى لهم به الهلع والرعب الذي به زاغت أبصارهم وبلغت قلوبهم الحناجر، وابتلوا وزلزلوا زلزالاً شديداً، حتى ظنوا بالله الظنون، رعباً وهلعاً، فأخذوا يستأذنون النبي عليه الصلاة والسلام في ترك المعركة، معتذرين بأن بيوتهم مكشوفة للعدو، فكذبهم الله وقال: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} [الأحزاب:13]، ثم كشف مقصدهم وقال: {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13]، أي: يريدون الفرار من الزحف ومن المعركة، والفرار من المعركة كبيرة من الكبائر يستحق الفار به القتل.
فهذا خالد بن الوليد القائد لمعارك الشام والعراق قبل أبي عبيدة عامر بن الجراح سلم نساء المجاهدين سيوفاً وعمداً وأخشاباً وقال لهن: إذا رأيتن أحداً ترك المعركة ويريد الفرار فاقتلنه.
وكم قتل نساء المسلمين من هؤلاء الذين فروا من المعركة، وكان الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه هو القائد الأعلى للمعركة، وهو الخليفة المحمدي النبوي، ولم يستنكر على خالد أمره النساء بقتل الفارين من المعركة، بل ولا عمر الذي كان شديداً على خالد حتى عزله وولى مكانه أبا عبيدة عامر بن الجراح؛ لكنه لم يقل فيما قال عن خالد: إنه قتل أناساً لا يستحقون القتل من هؤلاء الفرارين.
وفي معركة أحد فعل هذا نساء المقاتلين من كفار مكة في جيش أبي سفيان وهو قائد الكفر إذ ذاك، فقد أوقف النساء خلف جنده وذلك عندما رأى البعض يفرون، وكانت المعركة في أوائلها في صالح المسلمين، إلى أن خالف الرماة أمر النبي عليه الصلاة والسلام وتركوا التلال والجبال التي هم عليها، فتركوها فكان ما كان من تمحيص المسلمين، فكان نساء قريش خلف مقاتليهن ومحاربيهن وهن يقلن: نحن بنات طارق نمشي على النمارق إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق فراق غير وامق وبنات طارق هن بنات النجم، أي: لسنا من سكان الأرض، بل نحن أعلى شأناً، كما هو حال الكفار في كل عصر، فهم يمشون على السجاد؛ لأنهم أغنياء رأسماليين مترفين.
فقولهن: إن تقبلوا نعانق.
يرغبن أزواجهن في القتال وعدم الرجوع والفرار.
وقولهن: أو تدبروا نفارق.
أي: إن تحاولوا الفرار والإدبار نفارقكم ونهجركم ونخالعكم.
وقولهن: فراق غير وامق.
أي: فراق غير محب، فالفراق طلاق الخلع، وليس فراق الدلال والدلع.(195/7)
تفسير سورة الأحزاب [14 - 18]
لقد وقف المنافقون في الخندق من رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف التخذيل، حتى إنهم لو سئلوا الفتنة والردة لما تخلفوا، مع أنهم كانوا قد عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار، ثم هاهم يعوقون ويخذلون عن القتال، ثم هم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.(196/1)
تفسير قوله تعالى: (ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها)
قال الله جل جلاله: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14].
لا نزال مع المجاهدين في مقاومة الأحزاب الكافرين الذين تجمعوا من كل وثني وكتابي وضال مضل من أعداء الله والإسلام.
فقوله: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} [الأحزاب:14] الكلام على من قال الله عنهم في الآية السابقة: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13].
يقص الله علينا قصص هذه الفئات المنافقة الكاذبة الذين حضروا مع جيوش المسلمين، وهم يتظاهرون بالإسلام وبالجهاد في سبيل الله، لكنهم حينما اشتد عليهم البأس، اشتد هلعهم ورعبهم، فأظهروا نفاقهم، وطائفة منهم تركوا المعركة وفروا من الزحف.
ولم يكتفوا بذلك، بل أخذوا يدعون غيرهم لترك المعركة، بل وترك يثرب المدينة المنورة.
وطائفة منهم أرادوا التوسط فكذبوا في استئذانهم النبي صلى الله عليه وسلم متعللين أن بيوتهم مكشوفة ومفتوحة، وأنها عرضة لكل سارق ومهاجم وغاز، فكذبهم الله وقال عنهم عندما زعموا أن بيوتهم عورة: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} [الأحزاب:13] أي: ليست مكشوفة، وليست عرضة للسارقين والمعتدين والغازين.
وهنا قال تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا} [الأحزاب:14].
أي: هؤلاء لو غزوا ودخل أعداء الإسلام المدينة المنورة، ثم طلب منهم أن يكفروا، وطلب منهم الفتنة في دينهم وفي أنفسهم وعيالهم، لأسرعوا إليها متسابقين.
وقوله: {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14].
أي: لو أن المنافقين استجابوا للفتنة وأعلنوا كفرهم، فهم من الأصل كفرة، ولو سئلوا الفتنة وطلب منهم أن يعودوا للكفر جهاراً علناً لأتوا إلى ذلك مسرعين، ولو فعلوا ما طلب منهم، فإنهم لن يلبثوا بها ولن يلزموها إلا يسيراً من الوقت، ثم ستنقلب عليهم ويكونون وقود نارها وحطب جحيمها، حينها سيندمون ولات حين مندم.
فهؤلاء المنافقون كشف الله حالهم، وحقيقة إيمانهم، والمنافقون يكذبون وليس لهم من الإيمان والإسلام إلا قول اللسان.(196/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار)
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب:15].
أي: هؤلاء الذين تذبذبوا ونافقوا، سبق أن فاتتهم حروب قوية حضرها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، فعندما قاتل عليه الصلاة والسلام في بدر، قالت فئة من بني حارثة: لقد فاتنا الخير الكثير في عدم حضور هذه المعركة، وقد كان قائدها مباشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نعاهد الله إن جاءت غزاة أخرى حضرها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه لنحضرنها، ولنبذلن فيها أرواحنا وأموالنا، وكل عزيز علينا ونحرص ألا تفوتنا.
وهاهم هؤلاء قد حضروا معركة الأحزاب، وكان المشرف عليها النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم قد نقضوه، فهم يفرون من المعركة، وبعضهم يستأذنون في تركها كذباً زاعمين أن بيوتهم مكشوفة، وأن بيوتهم تحت تناول الغزاة والسارقين والمهاجمين، وهم إنما يريدون الفرار من المعركة، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر.
وقوله: (وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا).
أي: هذا العهد الذي قطعوه على أنفسهم من أن يحضروا المعركة ولا يفروا منها، سيسألهم الله يوم القيامة عن خيانتهم لهذا العهد، ولهذا الميثاق.(196/3)
تفسير قوله تعالى: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل)(196/4)
معنى قوله تعالى: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم)
قال الله تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:16].
أي: يا أيها النبي قل لهؤلاء المنافقين الكفرة: {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:16].
فأنتم تفرون من المعركة خوف الموت والقتل، والموت تابعكم وملاحقكم، وفراركم من الموت لن ينفعكم، ولن تفلتوا من الموت، ولو كنتم في بروج مشيدة.
وإن أنتم عشتم بعد ذلك لا تعيشون إلا أياماً وشهوراً معدودات، فمهما طالت وامتدت فلن تكونوا قد استمتعتم فيها إلا تمتعاً يسيراً، وماذا عسى أن يزيدكم هذا التمتع وقد فررتم من الموت أو القتل؛ ظناً منكم أن أعماركم ستطول وحياتكم ستدوم، وهيهات هيهات {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
فكيف تفرون من الموت وهو آتيكم، ومن القتل ولا مفر عنه، ولو عشتم فلن تمتعوا ولن تعيشوا إلا يسيراً قليلاً، مع الخزي وغضب الله.(196/5)
موقف أبي لبابة الأنصاري مع بني قريظة
وقد سألني سائل بالأمس عن أبي لبابة هذا الذي عندما طلب اليهود من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم ليستشيروه، وقد كان حليفهم مع الأوس في الجاهلية، فاجتمع عليه صبيانهم ونساؤهم وأخذوا يجهشون بالبكاء والعويل، والرجال تسأله: ماذا يريد منا محمد؟ وإن استسلمنا له فبماذا سيجازينا ويعاقبنا؟ وقد كان حصرهم في حصونهم لمدة شهر، وهم يأبون الاستسلام، ثم بعد ذلك أرسلوا له يقولون: (ألا تعاملنا معاملة قبائل بني النضير بأن تأخذ أموالنا وأرضنا وتتركنا ونساءنا وأطفالنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لهم: استسلموا دون قيد ولا شرط) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
يعني: لا تشترطوا، بل استسلموا وسأحكم عليكم بما أريد، وبما يلهمني الله عند ذلك، فاستشاروا أبا لبابة.
وإذا بـ أبي لبابة عندما بكت أمامه النساء والأطفال وسألوه: ماذا يراد بنا؟ فأشار لهم بأصبعه إلى حلقه.
أي: الذبح! فعلم أنه خان الله ورسوله، وكشف سراً من أسرار النبي عليه الصلاة والسلام، وهو لم يقل: موت ولا ذبح، ولكنه أشار إليهم بأنه لن يعاقبهم ويجازيهم بما جازى به بني النضير قبلهم، وإنما يريد ذبحهم وقتلهم؛ لأن بني قريظة تزعموا التأليب والتحزيب على رسول الله صلى الله وعليه وسلم بقيادة طاغيتهم وكبيرهم في الكفر كعب بن أسد ومعه حيي بن أخطب الذي تنقل بين قبائل العرب يؤلبهم على رسول الله عليه الصلاة والسلام والإسلام.
ثم إنهم هم الذين أفسدوا بني النضير على النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين، فكان جزاؤهم أشد وأقوى عقوبة من بني النضير.
فالنبي عليه الصلاة والسلام ينتظر أبا لبابة الأنصاري ليخبره خبر بني قريظة، فإذا به يذهب إلى المسجد ويربط نفسه بسارية من سواريها، ويقول: علي عهد الله ألا أعود لأرض خنت الله فيها، وعلى أن أربط نفسي ولا أحلها ما لم يتب الله علي، فبقي ستة أيام مربوطاً في السارية تأتيه زوجته فتحله عند أوقات الصلاة، ثم تعود فتربطه.
وعندما أخبر عليه الصلاة والسلام بخبره قال: لو أتاني لاستغفرت له، أما وقد أبى إلا ذلك فليترك وما أراد، عسى الله أن يغفر له.
وبعد انتهاء معركة بني قريظة كان النبي صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة وإذا به يضحك ويتبسم عليه الصلاة والسلام، وذلك عند السحر، فسألته أم سلمة: ما الذي أضحكك يا رسول الله، أضحك الله سنك؟ قال: قد نزلت التوبة من الله على أبي لبابة بن عبد المنذر، وكان الحجاب لم ينزل بعد، فقالت: يا رسول الله، أتأذن لي أن أبشره؟ قال: إن شئت! وإذا بها تفتح باب غرفتها وتصيح: أبشر أبا لبابة فقد نزلت توبتك من الله، وغفر الله لك.
وإذا بمن كان في المسجد من المؤمنين المنتظرين لصلاة الصبح، يتسابقون إليه مهنئين ومباركين، ويريدون حل رباطه من السارية، فقال لهم: لا، حتى يحلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.
وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام عندما خرج من حجرته لصلاة الصبح يرى أبا لبابة لا يزال مربوطاً فيحله بيده صلى الله عليه وسلم.
وقد نزل في أبي لبابة عندما خان الله بما أشار به لإخوة القردة والخنازير أنه الذبح، نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
وعندما نزلت توبته، نزل قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102].(196/6)
موقف سعد بن معاذ وموته بعد بني قريظة
أما سعد بن معاذ فقد جرح في الخندق ودعا الله تعالى ألا يميته حتى يقر عينه من بني قريظة الذين خادعوا الإسلام والمسلمين، وغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفروا حفرة كانوا الواقعين فيها، وبحثوا عن حتفهم بأنفسهم.
فتم له ما أراد، وحكم في رجالهم بالقتل، وفي النساء والأطفال بالأسر، وفي أموالهم بقسمتها، فخمست ثم قسمت فجعل للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد.
ثم بعد ذلك بزمن قليل انفجر جرحه، وانقطع أكحله، وهو العرق في اليد يتصل بالقلب، فاستفحلت الدماء، فدخل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً له: (يا نبي الله من هذا الذي مات، لقد اهتز له عرش الرحمن؟ فقام صلى الله عليه وسلم مسرعاً من بيته ليرى ما الذي صنع الله بـ سعد وهو عند الجارية السوداء رفيدة تعالجه وتمرضه، وإذا به يجده قد مات)، فكان اهتزاز العرش وحضور الملائكة في جنازته كرامة من الله لهذا الصحابي الجليل الشهيد رضوان الله عليه.
وقد حاول بعض من يطعن في هذا الحديث من حيث المعنى، فقالوا: (اهتز العرش) أي: اهتز السرير الذي حمل عليه سعد، ولكن في الحديث ذكر عرش الرحمن.
قال أبو عمر ابن عبد البر من أئمة المالكية الأندلسيين: ولم لا يهتز العرش وما هو إلا خلق من خلق الله؟! ويقول أبو عمر ابن عبد البر أيضاً: قد تواتر الحديث بهذا عن جمهور من الصحابة.
وممن كتب في التواتر من السابقين واللاحقين السيوطي في القرن التاسع في كتابه (الأزهار المتناثرة من الأحاديث المتواترة)، وجدي محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله في أواسط هذا القرن، وهذا في كتابه (نظم المتناثر من الحديث المتواتر).
إذاً: مشهور ومنتشر بين أهل العلم والحديث خاصة أن سعد بن معاذ رجل عظيم جليل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتز لموته عرش الرحمن، وأن أبا لبابة الأنصاري قد خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً كما نزلت الآية فيه.(196/7)
تفسير قوله تعالى: (قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً)
قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:17].
أي: قل يا محمد لهؤلاء: من الذي يمنعكم من عذاب الله إذا شاء ذلك من هزيمة أو قتل أو أسر، ومن الذي يعصمهم من الله إن أراد بهم رحمة وأراد بهم نصراً، وأراد لهم عزاً وأراد لهم شهادة؟
و
الجواب
لا أحد يعصم من الله ومن مراد الله، خيراً كان أو شراً.
وقوله: {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب:17].
أي: أراد غضباً ولعنة للمنافقين الفارين من القتال، أو أراد رحمة للمجاهدين المقاتلين الصادقين، من الذي يحول بين الله وعباده؟ لا أحد، بل كل عبد لله خاضع لجلاله ذليل بين يديه، لا يد له ولا إرادة ولا رغبة، ولا يستطيع أحد أن يقف بين الله ومراده.
والسوء هنا الغلبة والقهر والذل والموت.
والرحمة هنا النصر والعز والسيادة والشهادة، فمن الذي يحول بين الله وبين عباده المؤمنين أن ينصرهم ويعزهم، أو ينيلهم الشهادة، برحمة الله ورضوانه؟ ومن الذي يستطيع أن يحول بين الله وبين من عصاه من عباده من المنافقين والكافرين، إن أراد لهم سوءاً وذلاً وهواناً وغلبة؟ لا أحد يستطيع أن يتأله ولا أن يغالبه جل جلاله وعز مقامه.
وقوله: {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:17].
أي: هؤلاء المهزومون المنافقون لم يجدوا لهم ولياً يرجعون إليه، ولا قريباً ينتصرون به ويعتزون بسلطانه وقوته، ولم يجدوا نصيراً ينصرهم، ويقف حائلاً بينهم وبين عذاب الله وعقابه، وإنما يخرجون من الدنيا ويلقون في حفرة فرادى بلا أولاد، ولا أنصار، جاءوا إلى الدنيا فرادى وسيذهبون ويخرجون منها فرادى، فلا يحول بينهم وبين مراد الله أحد في الأرض لا ولي ولا نصير، فلا حول مع حول الله، ولا قوة مع قوة الله، إن القوة لله جميعاً.(196/8)
تفسير قوله تعالى: (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا)
قال الله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18].
(قد) في لغة العرب إذا دخلت على المضارع تكون للاحتمال والتوقع، وتكون للتقليل، فإذا دخلت على الماضي تكون للتحقيق، وقد تخالف القاعدة العامة، فتدخل على المضارع فتكون للتحقيق، كما في هذه الآية الكريمة: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ).
والمعنى: أن الله جل جلاله يعلم كل شيء، وهو مطلع على كل شيء، ولا يحول بين علمه وقدرته شيء، وقد هنا دخلت على المضارع، وهي للتحقيق في العلم، لا للتقليل ولا للظن، وهذا من القلة في كلام العرب.
فقوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:18].
يقال: عوق فلان فلاناً، أي: وقف في وجهه وثبطه على ترك عمل من الأعمال.
فهؤلاء المنافقون حاولوا أن يعوقوا المؤمنين عن الحرب والقتال، وقد قص الله علينا في الآية السابقة خبرهم فقال: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:13]، فهم حاولوا أن يعوقوا المؤمنين عن البقاء في المعركة، فهؤلاء المعوقون المنفرون يحولون بين الناس وبين الجهاد، وبين بذل أنفسهم رخيصة في سبيل الله، فالله يعلم حالهم، ويعلم مقاصدهم.
وهذا إعلان من الله جل جلاله بتهديدهم وتخويفهم وتوعدهم بالعذاب الشديد والخلود في النيران إن بقوا على نفاقهم، أما إن تابوا وأنابوا ورجعوا عما هم فيه من التعويق، وإبعاد الناس عن القتال والجهاد وطاعة الله ورسوله، فإن الله يتوب عليهم.
وقوله: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18].
أي: الذين تركوا المعركة خوفاً من اليهود وغيرهم من المشركين المهاجمين، قالوا لإخوانهم الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هلموا إلينا وأقبلوا علينا واتركوا محمداً وأصحابه.
وقوله: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18].
أي: أنهم إذا تظاهروا بالإسلام والقتال لا يحضرون المعركة إلا برهة من الزمن لا تكاد تعد، ولا تكاد ينظر لها، بل لا يكادون يحملون السلاح إلا رياء ونفاقاً، فإذا اشتد هلعهم وزاد خوفهم وبلغت منهم القلوب الحناجر أعلنوا الكفر، وفروا من المعركة، وأخذوا يحضون المؤمنين على ترك القتال، فهم إن أتوا القتال لا يأتونه إلا قليلاً مع النفاق والكذب، وهم يعوقون المؤمنين عن حضور المعارك، ويريدون بذلك انفراد النبي صلى الله وعليه وسلم مع أعدائه ومعه قلة من المخلصين، وهيهات أن يغلب من كان الله معه.
والنبي صلى الله وعليه وسلم كان وحده بين الكفار مع قلة من أصحابه في المدينة النبوية، والكفار من كل جانب، فكلهم يحاولون قتله ويحاولون صده، ويغرونه بالملك وبالمال وبالنساء، ويرهبونه بتعذيب أصحابه وأتباعه، ويشتمونه ويتهمونه، والنبي صلى الله عليه وسلم ثابت ثبوت الجبال الرواسي، وقد تهتز الجبال وتتزلزل ولا يهتز صلى الله عليه وسلم.
وقبل الهجرة جاءته قريش يعرضون عليه الملك والنساء والمال، على أن يترك الدعوة إلى دين الله، حتى كاد أبو طالب أن يغرى بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أدع هذا الأمر ما تركته، حتى يقضي الله أمره أو أهلك دونه).
أي: لن أترك ما أمرني الله به إلى أن أموت أو أنتصر، فهو قد مات عليه الصلاة والسلام كما يموت كل حي، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، لكن لم يلق الله إلا بعد النصر وبعد العز، وبعد الغلبة، وبعد عودته إلى مكة عزيزاً منصوراً مظفراً، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد} [القصص:85] أي: حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً من مكة إلى المدينة وهو في الطريق أنزل عليه يبشره بأنه سيعود إلى مكة منتصراً، فبشر بذلك المسلمين، وما كادت السنة الثامنة من الهجرة تقبل وتهل إلا ودخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة عزيزاً مظفراً منصوراً، دخل القبلة المحمدية، ومكان الحج والمناسك التي فرض الله على كل مسلم في الأرض أن يأتيها حاجاً مرة في العمر إن كان مستطيعاً، ويستحب مرة عند كل خمس سنوات، كما في مسند الإمام أحمد.
وقوله: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18].
(هلم) اسم فعل أمر مبني على السكون دوماً، بمعنى: أقبل إلينا، ويخاطب بها المفرد والمثنى والجمع بصيغة واحدة: هلم يا رجل، هلم يا امرأة، هلم يا رجلان، هلم يا امرأتان، هلم يا رجال هلم يا نساء، وهي بمعنى الإقبال والقدوم.
وقوله: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18].
أي: لا يأتون القتال إن أتوا، والبأس: الحرب والقتال، لا يأتونه إلا قليلاً، بلا رياء ولا صدق ولا إخلاص يحذر الله نبيه والمؤمنين من هؤلاء المنافقين أن يصدقهم وأن يقبل قولهم.(196/9)
تفسير سورة الأحزاب [19 - 21]
لا يزال الله تعالى يسرد أوصاف المنافقين المخذلين للمؤمنين في غزوة الأحزاب، والذين إذا جاء الخوف رأيتهم تدور أعينهم، وإذا ذهب الخوف أظهروا الشجاعة والبسالة.
ثم يأمر الله عباده المؤمنين أن يتخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة في كل أحوالهم.(197/1)
تفسير قوله تعالى: (أشحة عليكم فإذا جاء الخوف)
قال الله تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:19].
لا يزال الله جل جلاله يصف حال هؤلاء المنافقين الذين كادوا أن يحولوا غزوة الخندق أو الأحزاب إلى هزيمة للمسلمين، ولكن هيهات هيهات لا مذل ولا غالب لمن نصره الله وأعزه، فكشف الله كذب المنافقين وأظهر صفاتهم، حتى عرفها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون.
فقوله: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:19].
الشح منتهى البخل، فهؤلاء يبخلون عليكم بالمال وبالأرواح وبالإخلاص وبالصدق وبالإيمان.
وقوله: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ} [الأحزاب:19].
أي: إذا حضرت معركة وجاء خوف على حياتهم وعلى أموالهم، تجدهم في غاية من الهلع، وقد وصف الله ذلك بأبلغ العبارة وأصدق الألفاظ، فقال: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:19].
وصف الله نظرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عندما يشتد خوفهم وهلعهم من الحرب فقال: تراهم يا محمد ينظرون إليك في الظاهر، ولكن أعينهم تدور في محاجرها زائغة، لا يكاد يستقر بصرهم على مرئي لا لك ولا لغيرك، حالهم كحال المحتضر عند الموت عندما يزيغ بصره، تراه ينظر إليك وهو لا ينظر، وهؤلاء تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون، وإنما أبصارهم شاخصة باهتة، شأن المرعوب الذي أصابه الهلع والجزع.
فيصف الله هؤلاء المنافقين بأقبح الصفات، يصفهم بالشح وهو أقبح أنواع البخل، وبالجبن الشديد الذي لا يتماسكون فيه، لا في قول ولا في بصر ولا في حالة، مع أن الرجل عند الخوف يتماسك ويظهر البطولة والشجاعة، أما هؤلاء عند الخوف تجدهم كالنساء.
وكما وصفهم الشاعر أنهم عند الخوف كالنساء العواتق أو كالأطفال الصغار، والنساء العواتق هن ذوات الحيض.
وهؤلاء المنافقون إذا زال الخوف أخذوا يتظاهرون بالرجولة والشجاعة، وإذا جاء الخوف إذا بهم يفرون فرار النعامة.
وقوله: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب:19].
أي: إذا ذهب الخوف من أنفسهم آذوكم وهاجموكم وشتموكم بألسنة حداد شرسة، تسمع منهم الكلمة الرذيلة واللفظة البذيئة، فهم يتفاصحون ويظهرون أنهم لا يهابون ولا يخافون، في حين إذا بدا أمامهم قط ظنوه نمراً، وإذا بهم يعودون إلى هلعهم وإلى وخوفهم.
وقوله: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب:19].
كانوا من قبل أشحة عليكم، أشحة في مشاركتكم في القتال بأموالهم وبأرواحهم وبالكلمات الطيبات، وعند زوال الخوف تجدهم أشحة على الخير، لا خير فيهم ألبتة، يشتد شحهم وبخلهم حتى بكلمة خير أو مساعدة في خير، أو عمل صالح، فهم لا خير فيهم، وهم ليسوا بشجعان، وليس لهم من الرجولة إلا الشكل، وإنما هم كالنساء الحيض.
وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:19]، أي: هؤلاء الجبناء الأشحاء، وهؤلاء الذين لا خير فيهم، وهؤلاء المنافقون؛ لم يؤمنوا ولكن أظهروا الإسلام، ولم يدخل الإيمان في القلب، والإيمان عمل القلب، ففي حديث جبريل فصل الإسلام عن الإيمان، وذلك عندما سأله عن الإيمان، فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى) أي: أن تصدق ذلك بقلبك.
وعندما سأل عن الإسلام، قال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة) إلى آخر الحديث أي: الإسلام هو إعلان ذلك باللسان بأن تنطق بالشهادتين، وهو عمل ظاهر بالجوارح كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
إذاً: الإيمان يكون بالقلب، ولا يتم إسلام بلا إيمان ولا إيمان بلا إسلام، ولا نستطيع أن نعلم أن هذا قد آمن وصدق بقلبه؛ لأننا لا نكشف عن القلوب، ولكن اللسان يعرب عما في القلب، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:19]، أي: أولئك فيما أظهروا من صلاتهم ومن قتالهم ومن إيمانهم كانوا كاذبين لم يؤمنوا بقلوبهم، فأحبط الله أعمالهم، كما قال عليه الصلاة والسلام عن أمية بن أبي الصلت عندما قرئ عليه من شعره في التوحيد والإيمان فقال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (ذاك رجل آمن لسانه وكفر قلبه).
فإذا قال اللسان قولاً لم يصدقه القلب فهو النفاق، وهذا معنى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:19].
أي: أولئك الذين وصفهم الله بالكذب والنفاق، وبالشح والجبن، وبسلاطة اللسان، وبظهور الرجولة عند ذهاب الخوف، وعند ظهور الخوف يكونون في غاية من الهلع والجبن، فهؤلاء الموصفون بهذه الصفات لم تؤمن قلوبهم، وإنما قال اللسان شيئاً لم يصدقه القلب، فأحبط الله أعمالهم، وأذهبها ومحقها.
وهكذا كل عمل لا يكون فيه إخلاص لله، وكل عمل شابه نفاق ورياء وسمعة فهو غير مقبول؛ لأن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً له، قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3].
وقد بين صلى الله عليه وسلم صفات المنافق بقوله: (إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر) أي: ليس له عهد ولا صدق ولا إخلاص.
وقوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:19].
أي: إحباط أعمالهم وإذلالهم وتخليدهم في النار إن ماتوا على النفاق يسير على الله وهين، لأنهم لم يصدقوا في إيمانهم.(197/2)
تفسير قوله تعالى: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا)
قال الله تعالى: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:20].
تفرقت الأحزاب من قريش وغيرها وعادت بخفي حنين، عادت خائبة إلى نجد وإلى مكة، أما اليهود فتوجه لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم في حصونهم إلى أن خضعوا لحكم سعد بن معاذ، فقتل الرجال وسبى النساء والأطفال وأخذ الأموال غنيمة، وكانوا عبرة لكل معتبر من كل منافق وكافر، وكفى الله المؤمنين القتال.
ومع كل هذا الذي رآه المنافقون فهم لا يزالون يظنون أن الأحزاب الذين تجمعوا حول الخندق وحول المدينة المنورة يحسبون ويظنون أنهم لم يذهبوا، وأن قريشاً وغطفان لا تزال محاصرة للمدينة، ولو أن العين قد رأت غير ذلك، ولكنه من رعبهم وهلعهم، وصعود قلوبهم وخروجها من مكانها رعباً وهلعاً ظنوا أن الأحزاب لا تزال ولم يذهبوا.
وقوله: {وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ} [الأحزاب:20] أي: وإن عادوا فهم يظنون أنهم لم يذهبوا أو أنهم ذهبوا ليعودوا.
وقوله: {وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} [الأحزاب:20].
أي: لو رجع الأحزاب فإن المنافقين يتمنون ويحبون ويودون أنهم لا يكونوا في المدينة، وإنما يكونون في البادية خارج المدينة بعداء عن متناول هؤلاء الأحزاب، وهم مع بعدهم يلحقهم الخوف إلى هناك، فتجدهم يسألون يريدون أن يسمعوا أن المسلمين قد هزموا، ليأتوا وقد ذهب الخوف فيؤذوا المؤمنين بألسنة حداد، وهم أشحة على الخير كما وصفهم الله جلا جلاله.
وقوله: {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ} [الأحزاب:20] أي: وعلى فرض أنهم عادوا إليكم ودخلوا صفوفكم وتظاهروا أنهم من جندكم، {مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:20] فهم سيعودون إلى حالهم من الجبن والبخل والهلع والتظاهر بالقتال ولا قتال، فهم لا يقاتلون إلا بالألسن فتراهم ينفرون ويعوقون المؤمنين عن القتال، ويفرون عند أول اللقاء مع العدو.
إذاً: هؤلاء لا خير فيهم سوء كانوا في العصور السابقة أو في العصور اللاحقة، فهم في كل وقت وعصر يقولون عن الإسلام ما لا يليق، فتجدهم الآن يقولون: إن أحكام الإسلام فيها قسوة، أو أنها لا تصلح لزماننا هذا، فقائل هذا القول منافق كافر لم يؤمن قلبه، وإن آمن لسانه فهو كاذب مخادع منافق.(197/3)
تفسير قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)
قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
أي: يا مسلمون في عموم أقطار الأرض لم لا تتخذون محمداً نبي الله الأسوة والقدوة الصالحة؟! فنبي الله عليه الصلاة والسلام قد أوذي في مكة وأوذي في المدينة، وحضر هذه المعارك بنفسه الشريفة عليه الصلاة والسلام فشتم، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، وشج وجهه، وهجر سنوات حتى اضطر مع أصحابه أن يأكل ورق الشجر زمناً ودهراً، وقيل عنه: ساحر، وقيل عنه: كاذب، ومع كل هذا لم يزده ذلك إلا رسوخاً في الله وثباتاً في أمر الله وقياماً بدعوة الله، وهاهو في غزوة الأحزاب شارك بنفسه عليه الصلاة والسلام، وأخذ المعول وكسر الصخور والأحجار، وثبت ثبوت الجبال الرواسي، فلم يبخل بنفسه ولا ماله، ولم يخف عدواً مهاجماً أو مترصباً أو محاصراً، فلم لا تتخذون يا هؤلاء نبيكم محمداً عليه الصلاة والسلام القدوة والأسوة؟! قرئ: (الأسوة) و (الإسوة) وكل ذلك متواتر في القراءات السبع، وهما بمعنى واحد.
(الأسوة) مكان التأسي والاقتداء والاتباع، والله جلا جلاله أمرنا بأوامر ونهانا بنواهٍ، وأنزل علينا الكتاب فيه بيان الحلال والحرام، وفيه بيان الآداب والرقائق، وفيه تفصيل العقائد، وفيه الكلام على الدنيا والآخرة، فيه خبر أهل الجنة وأهل الجحيم، وصفة كل واحد منهم.
ومع ذلك فكل هذه التفاصيل أجملها الله تعالى في أن تتخذوا محمداً نبيكم رسول الله أسوة وقدوة، فانظروا عمله وهديه وعبادته وشجاعته وكرمه فاجعلوه قدوة وأسوة، هذا إن كنتم صادقين في الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر.
أما إذا كان الإسلام باللسان فقط والقلب ينكر ما يقوله اللسان فذاك النفاق، والمنافق لا يأتسي بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقتدي به، ولا يصدق رسالته، ولا يخلص لدعوته.
وقوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ).
أي: يرجو رحمته ويرجو جنته ويرجو رضاه، ويخاف عذابه ونقمته، يخاف عذاب الآخرة، يخاف يوم الحساب ويوم العرض على الله، فهو في الدنيا يعيش بين خوف وطمع، يخاف عذاب الله، ويرجو رحمة الله.
وقوله: (وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).
أي: هو كثير الذكر باللسان، والذكر بالجوارح؛ ليكون مؤمناً حقاً لا شائبة نفاق فيه.(197/4)
تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)
قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} [الأحزاب:21].
هذه الآية الكريمة شرحها النبي عليه الصلاة والسلام عندما ذكر اختلاف الأمم السابقة واللاحقة، فقال عليه الصلاة والسلام: (اختلفت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستختلف أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! ومن هذه الواحدة؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).
أي: ما كان عليه الصلاة والسلام فيه من عقائد، ومن عبادات، ومن آداب، ومن جهاد، ومن كرم، ومن طاعة لله، ومن قيام وتهجد، ومن مختلف أنواع الطاعات.
فالفئة الناجية الصالحة التي على الحق هي من اتخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة والإمام والمتبوع، فلا إمام غيره ولا متبوع سواه، وكل النبوات السابقة ليست لعموم الناس، ولكنها لأقوامهم ولعشائرهم، ولم تكن رسالة عامة لمختلف أنواع البشر والأجناس وفي جميع الأعصار إلا رسالة محمد عليه صلوات الله وسلامه.
ولم يكن موسى وعيسى وغيرهما إلا أنبياء في أقوامهم من بني إسرائيل، ولذلك يقال عنهم: أنبياء بني إسرائيل، وزاد هذا تأكيداً قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي، فذكر منها: أن الأنبياء كانوا يبعثون إلى أقوامهم خاصة وأنا بعثت إلى الناس كافة).
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] فيوم ظهر صلى الله عليه وسلم في هذه البطاح المقدسة أمر أن يدعو كل الناس في مشارق الأرض ومغاربها من عاصروه ومن جاءوا بعده، من كانوا معه ومن كانوا بعيدين عنه، ليبلغ الحاضر الغائب، فالكل مدعو للإيمان بالرسالة المحمدية، والكل مدعو إلى الإيمان بمحمد النبي الخاتم الذي لا نبي بعده ولا رسالة بعد رسالته صلى الله عليه وعلى آله.(197/5)
حكم الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم
اختلف العلماء هنا هل الأسوة بالنبي عليه الصلاة والسلام فرض واجب في الحلال والحرام والآداب وشئون الدنيا والآخرة؟ فقال علماؤنا: الأسوة برسول الله عليه الصلاة والسلام واجب من الواجبات وركن من الأركان، فينبغي أن نرى كيف صلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فتكون صلاتنا كصلاته أركاناً وواجبات، وسنناً، وآداباً، وأوقاتاً، فالتأسي به في ذلك واجب وحق، حتى إذا اختلفنا في آية أو في حديث، أو في مفهومهما، كان المرجع في تحقيق ذلك الأسوة المحمدية النبوية.
من باب المثال: نحن نتوضأ في الليل والنهار مرات، ومع ذلك هذا الرأس الذي نمسحه عند كل وضوء اختلف الأئمة الأربعة فيه هل الواجب مسح جميع الرأس أو ربعه أو بعض شعرات منه؟ قال الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد: يكفي مسح بعض الرأس.
وقال مالك منفرداً من بين الأربعة: يجب مسح جميع الرأس، واستدل بقوله تعالى في الآية الكريمة: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6]، وقال: الباء للإلصاق، يعني: أمر الله أن نلصق أيدينا برءوسنا جميعاً.
وقال الأئمة الثلاثة: الباء للتبعيض، أي: امسحوا بعض الرأس، والآية الكريمة تحتمل التبعيض والإلصاق، وما احتمل واحتمل سقط به البرهان والاستدلال، فما المرجع؟ يقول بعض علماء الأصول: عندما يختلف في فهم النص ويحتمل نرجع إلى الأسوة والقدوة صلى الله عليه وسلم فننظر كيف قال، وكيف فهم، وكيف نفذ ذلك القول، والنبي عليه الصلاة والسلام توضأ مرات بعدد أيام سنينه منذ نبئ وهو ابن أربعين سنة، إلى أن ذهب إلى الرفيق الأعلى وهو ابن ثلاث وستين سنة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فماذا كان يفعل؟ أجمع الفقهاء على أنه كان يمسح جميع رأسه إلا في صورة حكيت: أنه كان به وجع في الرأس من شدة برد المدينة، فعندما حاول مسح جميع الرأس أمال العمامة قليلاً ومسح على الناصية، وأتم المسح على العمامة، فالجمهور قالوا: إنه بهذا الفعل يكون قد مسح بعض الرأس.
فقيل لهؤلاء: إن كان هذا الفهم صحيحاً فما باله مسح على العمامة؟ أي: مادام مسح الناصية كافياً فلم مسح على العمامة؟ فهو لم يمسح عليها إلا وقد اعتبرها نابت عن مسح جميع الرأس، وذلك دليل الإمام مالك، وهو الحق، أعني أن مسح جميع الرأس فرض واجب، وأن الباء للإلصاق؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يتجاوز ذلك.(197/6)
تفسير سورة الأحزاب [21 - 22]
إذا كان موقف المنافقين وضعفاء النفوس في غزوة الأحزاب هو موقف الخذلان والتضعضع، فإن موقف المؤمنين هو موقف الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخاذه الأسوة الحسنة في جميع التصرفات، وقد ثبتوا دونه حتى استشهد بعضهم فقضى نحبه وصدق ما عاهد الله عليه.(198/1)
تفسير قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)
قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
ربنا جل جلاله يؤدب عباده المؤمنين من أتباع نبيه صلى الله عليه وسلم الصالحين منهم والمتذبذبين والمنافقين عندما حضروا غزوة الخندق، فزاغت منهم الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وزلزلوا زلالاً شديداً، فأخذوا يتداعون في أن يتركوا الغزوة ويعودوا إلى يثرب كما سموها، وأخذوا يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الغزوة، ويزعمون أن بيوتهم عورة، وكذبهم الله بقوله: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13].
بعد ذلك قال الله لهم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
أي: لقد كان لكم أيها المؤمنون في رسول الله قدوة حسنة.
وقد صبر عليه الصلاة والسلام على لأواء الغزوة وشدتها، وعلى شدة عداوة الأعداء، فقد شتم وهجر وكسرت رباعيته، وأسيل دمه فداه النفس والولد والمال صلى الله وعليه وعلى آله، وكان في ذلك الصابر المحتسب في أقواله وأفعاله وأحواله، وكما أن الجبال لا تتزحزح فهو عليه الصلاة والسلام كذلك لم يتزحزح، وقد قاد الغزوة بنفسه وبإشرافه، فعندما عجزوا عن الصبر والمصابرة كان عليهم أن يتخذوا رسول الله عليه الصلاة والسلام الأسوة والقدوة، ومكان الإمامة، ومكان التأسي، ولكنهم لم يفعلوا إلا القليل منهم ممن سيصفهم الله جل جلاله ويثني على أفعالهم في الآية الآتية.
وسبب نزول هذه الآية ما حصل في هذه الغزوة، ولكن كما في أصول الفقه: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالله يأمر المؤمنين جميعاً من حضر الغزوة ومن لم يحضرها، من عاصره ومن لم يعاصره، وإلى عصرنا وإلى يوم القيامة، أن يتخذ محمداً صلى الله عليه وعلى آله الإمام القدوة، والأسوة الحسنة في الأقوال والأفعال والأحوال، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلمنا مجامع الدين، حيث علمنا أن نقول: الله ربنا، ومحمد نبينا، والقرآن إمامنا، والإسلام ديننا، والقبلة كعبتنا، والمؤمنون إخوتنا.
فالنبي عليه الصلاة والسلام هو القدوة الحسنة الطيبة لكل مؤمن، فإذا اختلف المسلمون في نصوص من القرآن والسنة، وكانت تحتمل وتحتمل، فالمحتم في الفهم والقول والعمل هو نبينا عليه الصلاة والسلام، ومن أجل ذلك كانت هذه الآية خاصة بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وباتخاذه وحده عليه الصلاة والسلام القدوة والأسوة بين البشر جميعهم في مشارق الأرض ومغاربها، بين العرب والعجم، بين من عاصره ومن أتى بعده وإلى يوم القيامة.
وقوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
أي: من كان يصدق في دينه وفي إيمانه بربه، ولم يكن منافقاً متذبذباً هالكاً ضائعاً، ومن كان يؤمن باليوم الآخر الدائم يوم الحساب، يوم العرض على الله، وكان قد ذكر الله كثيراً في سفره وحضره، في منشطه ومكرهه، كما كان صلى الله عليه وسلم صابراً مصابراً يتحمل كل شيء من الأعداء، وهو لا ينسى ربه على جميع الأحوال، يذكره قائماً وقاعداً، محارباً ومسالماً، يذكره باللسان، ويذكره بالجنان، ويذكره بالأركان.
وهكذا كل من زعم الإسلام وكان مسلماً حقاً يؤمن بالله وحده، ويؤمن بيوم القيامة، ويذكر الله على كل أحواله، فلا يستقيم له ذلك ما لم يتخذ المصطفى عليه الصلاة والسلام الأسوة والقدوة في جميع أحواله، وهذه الأسوة في العبادات وفي الدين واجبة وجوب الإسلام، وتكون سنة، وتكون مستحبة، وتكون أدباً، فنلبس ما كان يلبسه صلى الله عليه وسلم، ونصلي حيث كان يصلي عليه الصلاة والسلام، ونسر بسروره عليه الصلاة والسلام، ونحزن بحزنه عليه الصلاة والسلام، ونزهد في هذه الدنيا التي لا تسوى عند الله جناح بعوضة، كما كان يزهد فيها عليه الصلاة والسلام.
ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يلتزمون كل ذلك في أحوالهم العامة، قولاً وفعلاً وهدياً، حتى لقد كانوا يتتبعون الأمكنة التي حج فيها عليه الصلاة والسلام من حيث القيام والقعود والمنام واليقظة، ومن حيث الحديث بصوت مرتفع وبصوت منخفض، وحين كان يتهجد، ومتى كان يرضى على نسائه، ومتى كان يغضب عليهن، وهكذا في كل الأحوال.
وقد اشتهر عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بأنه كان يلتزم ذلك التزاماً دقيقاً، حتى إنه كان إذا حج يتتبع كل مكان وقف فيه عليه الصلاة والسلام، أو أقام وقعد، وإذا دخل المسجد كان يلتزم أن يصلي فرائضه وسننه وتهجده حيث كان يصلي عليه الصلاة والسلام، والله أمر بأن يجعل نبينا القدوة والأسوة في أقواله وفي أفعاله وفي جميع أحواله، وألا يتخذ سواه في شيء من ذلك إلا ما كان من أصحابه؛ لأن أصحابه التزموا هديه وسيرته، وكانوا ألسنة ناطقة وأحوالاً كاشفة لسنته رضوان الله عليهم.(198/2)
تفسير قوله تعالى: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله)
قال الله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
وصف الله حال المنافقين في الآية السابقة كيف كان قتالهم في غزوة الخندق أو الأحزاب، وفي هذه الآية الكريمة يصف سبحانه حال المؤمنين من الرعيل الأول، من السابقين من المهاجرين والأنصار، كيف كان موقفهم عندما رأوا الأحزاب قد تجمعوا عليهم من قريش وغطفان، ويهود المدينة، لما رأى المؤمنون الصادقون ذلك لم يتزحزحوا ولم يضجروا، بل قبلوا كل ذلك بقلب ثابت وبيقين راسخ، وقالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22].
وقد وعد الله بذلك حيث قال جل جلاله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
فالله سبحانه يبتلي خلقه وعباده؛ ليرى صدق الصادق وكذب الكاذب، وهو يعلم ذلك قبل أن يكون.
فقوله: (أم حسبتم) أيك أحسب وظن المؤمنون أن الله لا يبتليهم ويختبرهم بما اختبر وابتلى به المؤمنين السابقين من أتباع الرسل أولي العزم وغيرهم من رسل الله؟ لقد ابتلوا في أنفسهم، وفي أوطانهم، وفي أموالهم، فما زادهم ذلك إلا إيماناً ورسوخاً وثباتاً، وهكذا أتباع خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم عندما رأوا الأحزاب لم يتزعزعوا ولم يضجروا ولم يملوا ولم يكلوا، وإنما قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22].
وعد الله في كتابه في غير ما آية كما ذكرت كائن لا محالة.
ودعا صلى الله عليه وسلم في العديد من الأحاديث الصحيحة والمتواترة والمستفيضة المؤمنين إلى الصبر والمصابرة والثبات؛ لأن الله يبتلي عباده في هذه الدنيا الدنية الزائلة غير الدائمة، والتي هي الطريق إلى الجنة لمن أطاع وأناب.
وقوله: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22].
أي: لا يقول ربنا إلا صدقاً، ولا يقول نبينا صلى الله عليه وسلم إلا صدقاً، قال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] وقال سبحانه عن نبيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
فما قاله الله كائن لا محالة، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم واقع لا محالة، ذلك من علم الله ومن إخبار الله، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27].
فالمؤمنون قبل ذلك كانوا يهيئون أنفسهم ويعدونها لهذا البلاء والاختبار، فلم يدخلوا الإسلام اعتباطاً، ولم يدخلوا الإسلام على أنهم دخلوا نزهة يلعبون فيها، ولكن دخلوا ليبذلوا النفس والنفيس، والعزيز والحبيب في سبيل الله ونصرة للإسلام ودفاعاً على أوطانه.
قال ربنا في وصف المؤمنين: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
أي: هذا البلاء والاختبار، وهذه المحنة التي من أجلها غزاهم الأعداء إلى عقر دارهم، حتى كادت تتزلزل الأرض من تحت أقدامهم، وحتى ظهر النفاق، وحتى تزعزعت قلوب ضعاف الإيمان، أما الثابتون والراسخون من الرعيل الأول من المهاجرين والأنصار ما زادهم هذا الابتلاء والاختبار إلا إيماناً وتسليماً وتصديقاً بوعد الله، وتصديقاً بالله وبالقرآن كلام الله، وبمحمد خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه.
وهنا في ذكر الإيمان دليل لأهل السنة والجماعة على أن الإسلام والإيمان يزيد وينقص، يزيد بالثبات والطاعة والرسوخ والصبر على البلوى والاختبار، وينقص عند ضعاف النفوس والمزعزعين عندما يرون أي ابتلاء كان، فهؤلاء الراسخون ما زادهم هذا البلاء والابتلاء والاختبار إلا إيماناً ويقيناً وتصديقاً بأن الله مرسل نبيه محمداً ليبلغ عنه الخلق، منذ ظهر في بلاد مكة المقدسة في أرض الحجاز، وإلى يوم القيامة.
وما زادهم ذلك إلا تصديقاً بما أخبروا به في كتاب الله وسنة رسوله، وما زادهم ذلك إلا تسليماً واستسلاماً لله ولقضائه ولأمره ولبلائه، يخرجون من مثل هذا الابتلاء كما يخرج الذهب من النار وقد زالت شوائبه، وهكذا البلاء لا يزيد المؤمن إلا إيماناً، ولا يزيد المسلم إلا تصديقاً واستسلاماً لله ولقضاء الله.(198/3)
تفسير سورة الأحزاب [23 - 28]
إن المؤمنين الصادقين الذين ثبتوا مع الحبيب صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق قد أثنى الله عليهم وكافأهم فنصرهم على عدوهم، ومكنهم من رقاب اليهود الغادرين، فأنزلهم من حصونهم وأورث المؤمنين أرضهم وديارهم.(199/1)
تفسير قوله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)
قال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
لا يزال ربنا يشيد بأحوال الصادقين من المؤمنين الثابتين الراسخين.
قوله: (من المؤمنين).
(من) للتبعيض، أي: من المؤمنين بالله وبرسوله (رجال) مؤمنون صادقون.
وقوله: (صدقوا ما عاهدوا الله عليه).
أي: عاهدوا الله وأعطوه من أنفسهم ذمتها وعهدها والثبات في دين الله، والطاعة لكتابه، والطاعة لرسوله، والاقتداء به صلى الله وعليه وسلم.
فهؤلاء المؤمنون عاهدوا الله على الوفاء، وعلى الثبات، وعلى الإخلاص ما داموا أحياءً.
وقوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ).
أي: من هؤلاء من قضى نذره، ووفى بعهده واستشهد في سبيل الله، عاهد الله ووفى بعهده، وآمن وصدق في إيمانه، وقاتل وثبت في قتاله، وابتلي في نفسه وفي ماله وفي أرضه فثبت في كل ذلك ثبوت الجبال الرواسخ، فمن هؤلاء الصادقين من قضى نحبه، والنحب: قيل: النذر، وقيل: العهد، وقيل: الحياة والموت، وكل ذلك صحيح، فهؤلاء قد وفوا نذورهم، ووفوا عهودهم وعهودهم بالصدق والثبات، وجاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الله، حتى استشهدوا في سبيل الله.
وممن قضى نحبه حمزة بن عبد المطلب عم النبي عليه الصلاة والسلام، ومنهم مصعب بن عمير وغيرهما ممن استشهد في أحد وغيرها.
فجميع الصحابة تحملوا الشدائد والرزايا والبلايا في سبيل الله، ومن أجل إعلاء كلمة الله، فكل هؤلاء ممن صدقوا الله ما عاهدوه، وقضوا نحبهم وعهودهم إلى أن استشهدوا في سبيل الله، ومنهم من بقي على عهده إلى أن مات.(199/2)
سبب نزول قوله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)
ورد في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: (هذه الآية ما أظن إلا أنها نزلت في عمي أنس بن النضر، وبه سميت أنساً، فاتته معركة بدر ولم يعلم بها؛ لأنها لم تحدث إلا اتفاقاً، وعندما لم يحضرها تألم في نفسه وتوجع وقال: معركة يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وأغيب عنها، فعلي عهد الله إن كانت هناك معركة وحضرها الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه ليرين الله مني ما أصنع).
لم يرد أن يزكي نفسه، ويقول: سأقاتل وسأعطي وسأفعل، وإنما قال: (ليرين الله مني ما أصنع)، أي: من قتال وجهاد في سبيله سبحانه، قال أنس بن مالك: فجاءت معركة أحد فبذل من نفسه، ولقي في طريقه سعد بن معاذ فقال: واهاً يا سعد، إني لأجد ريح الجنة دون أحد.
وإذا بـ أنس بن النضر يدخل المعركة ويقاتل قتال المريد للموت والشهادة إلى أن سقط في المعركة شهيداً، وبه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، ومثل به أعداء الله من المشركين الكافرين، حتى قال أنس وغيره من الرواة عندما بحث عنه في الأموات وجثثهم: لم تعرف جثة أنس بن النضر إلا أخته الربيع عرفته ببنانه من كثرة الجراح، ولتمثيل وتشويه جثته من قبل أعداء الله من المشركين الوثنيين.
وورد أن هذه الآية نزلت في طلحة بن عبيد الله كذلك، وقد كانت شلت يده في غزوة أحد؛ دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهاداً في سبيله.
ومنهم أيضاً مصعب بن عمير القرشي الذي كان شاباً مترفاً بمكة، وعندما أسلم وكان من المسلمين الأول أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لتعليم الناس الإسلام والدين في المدينة، فعاش عيشة الزهد، وكان إذا وجد تمرات أكلها وشرب عليها جرعة ماء وحمد الله، حتى عندما استشهد لم يجدوا له ثوباً يكفنونه به إلا نمرة فكفنوه بها، فكانوا إذا غطوا رأسه تنكشف قدماه، وإذا غطوا قدميه ينكشف رأسه، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (استروا رأسه، وضعوا على رجليه الإذخر).
فكان من هؤلاء الصحابة من استشهد في سبيل الله، كما قال الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23] أي: أوفوا بنذورهم وبعهودهم وبذلوا أنفسهم وأرواحهم رخيصة في سبيل الله.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23].
أي: من هؤلاء الرجال المؤمنين الذين صدقوا الله ما عاهدوه من قاتل ولم يمت، ومنهم خالد بن الوليد الذي ما حضر معركة إلا وخرج منها منتصراً مظفراً، فـ خالد بن الوليد جاءه الموت وهو على فراشه، وما من موضع في بدنه إلا وأصابته سهام وأصابته طعون بالسيوف، فأخذ يبكي ويقول: هأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء! قال ذلك تواضعاً وهضماً لنفسه، وإلا فـ خالد قد ارتمى على الموت فأباه الموت، وقذف نفسه في كل معركة ليموت، ولكن الموت لم يرده، إلى أن مات على فراشه، وكان ممن ينتظر مع الكثير من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذه الآية وإن كانت نزلت في غزوة الأحزاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إلا أنها تشمل كل المؤمنين الصادقين الذين صدقوا الله عهودهم، وبذلوا أنفسهم رخيصة في سبيل الله، فذهبوا شهداء في سبيله.
قوله: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
أي: من يوم أن قالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قالوها لساناً وأيقنوا بها جناناً، وعملوا بمقتضاها أركاناً، إلى أن بذلوا الأرواح والأموال، وبذلوا كل عزيز وحبيب على النفس في هذه الحياة الدنيا لم يبدلوا ولم يغيروا، وهذا من أعظم الإشادة بهؤلاء رضوان الله عليهم، وقد قال عنهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).
فما كان عليه صلى الله عليه وسلم هو موضع القدوة بأمر الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] وكذلك السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، فهؤلاء رضي الله عنهم ورضي أعمالهم وطاعتهم، وهم كذلك رضوا عن الله بقضائه ورضوا برزقه، ورضوا بأمره، ورضوا ببلائه إلى أن ذهبوا إلى الله قريرة أعينهم ودخلوا جنان الخلد مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وكذلك صدقوا الله ما عاهدوه عليه إلى أن قضوا نحبهم وأنهوا حياتهم، إلى أن أوفوا بنذورهم وعهودهم، رضي الله عنهم وألحقنا بهم لا مبدلين ولا مغيرين.
وقوله: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
أي: لم يغيروا دين الله، ولم يبتدعوا فيه، ولم يرتدوا عنه، ولم يخرجوا عما عاهدوا الله عليه من الثبات في دينه، والثبات على طاعته وطاعة نبيه صلى الله عليه وعلى آله.(199/3)
تفسير قوله تعالى: (ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء)
قال الله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24].
أي: هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وما بدلوا ولا غيروا، وقضوا نحبهم، فعل الله ذلك بهم، ليجزي الله الصادقين بصدقهم ما وعدوه في دينهم، وفي طاعتهم وفي حياتهم.
فقوله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب:24] أي: بسبب صدقهم، فيجازيهم الله الجزاء الأوفى بدخول الجنان، وبرضاء الله، وبمصاحبة نبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة في الجنة، وفي الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وقوله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24].
أي: ليبتلي هؤلاء وهؤلاء، أما الصادقون فيجازيهم بصدقهم، وأما المنافقون فيعذبهم إن شاء أو يتوب عليهم.
وكيف تكون التوبة على المنافقين والكفار؟ يتوب عليهم بأن يلهمهم التوبة من النفاق والكفر، بالرجوع إلى الله والصدق في الإيمان، والإخلاص في طاعة الله وطاعة نبيه.
إذاً: هؤلاء يتوب عليهم من النفاق، فيخلصون لله، ويعودون لله، حتى إذا تابوا من النفاق تاب الله عليهم ليتوبوا، والنفاق في العقيدة كفر، والكافر لا توبة له في الآخرة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] لكن ما داموا أحياءً لم يموتوا بعد فتوبتهم أن يعودوا من الكفر والنفاق، ويخلصوا النية والعمل لله، فتكون تلك توبة لهم ومغفرة لذنوبهم، فيختم الله حياتهم بخير.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24].
أي: يغفر الذنوب جل جلاله، ويتوب على المذنبين جل جلاله، وهو رحيم بعباده، وقد سبقت رحمته غضبه، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق، فالكافر والمنافق عندما يتوبان من النفاق والكفر في دار الدنيا يختم لهما بخير، والمؤمن المذنب يرحمه الله ويغفر له ذنوبه، ويخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ووسعت رحمته حتى الحيوانات والحشرات، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (دخلت امرأة النار في هرة؛ لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض).
وفي الحديث: رحم الله بغياً وغفر لها برحمتها لكلب وجدته يكاد يموت عطشاً على رأس بئر، فسقته بنعلها.
فراعى الله ذلك لها ورحمها حيث رحمت هذا الحيوان.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
فرحمة الله وسعت كل شيء، الكافر والمؤمن، والحيوان وكل خلق الله.(199/4)
تفسير قوله تعالى: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً)
قال الله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25].
رد الله الذين كفروا من الأحزاب من أهل مكة، ومن أهل نجد، ومن يهود المدينة بغيظهم، ردهم خائبين أذلاء، ردهم بغيظهم يعضون أناملهم ندماً، رجعوا خائبين مما كانوا يطلبونه من النصر، ومن غنيمتهم، ومن قضاء على الإسلام، ومن قتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان ما حصلوه ذلاً لأنفسهم وبلاءً عليهم، وكارثة أصابتهم في الدنيا، فازدادوا توجعاً وألماً وحقداً، ولم ينالوا خيراً في الدنيا ولا وفي الآخرة، لم ينالوا في الدنيا ما كانوا ينتظرونه من نصر، ومظهر، ولن ينالوا في الآخرة إلا الخزي والعذاب والخلود في النار.
وقوله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25]: أي: كفى الله المؤمنين من المهاجرين والأنصار وسيدهم القتال، كفاهم القتال بالريح التي أرسلها عليهم، فشردتهم وشتتتهم، وبالملائكة الذين أرسلهم الله وزعزعوا بهم الأرض، وأكفئوا قدروهم، وخوفوهم وأرعبوهم، وهكذا تولى الله جل جلاله بنفسه قتال هؤلاء وإذلالهم، حتى رجعوا بغيظهم لم ينالوا خيراً.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25].
قوياً في ملكه، قوياً في إرادته، إن القوة لله جميعاً، يهب منها لمن يشاء ابتلاءً أو إكراماً، وينزعها ممن يشاء ابتلاءً أو إكراماً، عزيزاً لا ينال، وهو قد أعطى من قوته للمؤمنين، فقووا على أعدائهم، وأعطى من عزته المؤمنين فعزوا وسادوا، ومن هنا كان صلى الله وعليه وسلم يقول وقت المعركة: (اللهم منزل الكتاب، هازم الأحزاب، سريع الحساب، اهزمهم وانصرنا عليهم).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ولا شيء بعده).
والنبي عليه الصلاة والسلام من تمام إخلاصه في دينه وعبادته لربه مهما بذل من نفسه، فإنه كان لا ينظر لنفسه شيئاً، بل كان يجعل كل ذلك إلى الله، وهكذا يجب أن يكون المؤمن الصادق.(199/5)
تفسير قوله تعالى: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم)
قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26].
الآية السابقة خصت قريشاً وغطفان ممن جاءوا من مكة ونجد من الوثنيين، وهذه الآية خصت أهل الكتاب، والكل كافر ذليل كاذب على الله، وعدو لله ولرسل الله، فقال الله عن أهل الكتاب من يهود المدينة: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب:26].
أي: أنزل الذين ظاهروا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهؤلاء اليهود الذين ظاهروا الأحزاب وساندوهم وعاونوهم أنزلهم من صياصيهم.
والصياصي: جمع: صيصة، وهي القلاع المحصنة، فهؤلاء الذين تحصنوا في حصونهم وقلاعهم، يظنون أن تلك القلاع ستحميهم وستمنعهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأنزلهم الله ذليلين حقيرين.
فقوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب:26]؛ فهم من أول مرة لم يجرءوا على أن يقابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، بل فروا فرار الجراذين والحشرات فتحصنوا بالحصون؛ ورعباً وخوفاً من قوة الله التي قوى بها نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقذف في قلوبهم الرعب، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، وفي رواية: (مسيرة شهرين هكذا وهكذا) يعني: من جميع النواحي مشرقاً ومغرباً وشمالاً وجنوباً.
وهذا لو صدق المسلمون الله في دينهم وعهدهم لنصرهم بالرعب، ولما ذلوا حتى يستبيح بلادهم وأعراضهم وأموالهم إخوان الخنازير والقردة من اليهود أعداء الله.
وقوله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26].
هؤلاء قد قذف فيهم الرعب بين أيديكم، وقتلتم منهم فريقاً وأسرتم منهم فريقاً، كما في غزوة بني قريظة التي سبق أن قصصتها بتفاصيلها، وأعيدها هنا ملخصة.
انتهت غزوة الخندق بفرار قريش وغطفان، بريح سلطها الله عليهم، قلعت خيامهم، وقلبت قدورهم، وأرعبت قلوبهم، وبجيوش من الملائكة زلزلوا بهم الأرض وأرعبوهم وخوفوهم، وإن كان المسلمون والكفار هذه الغزوة لم يتواجهوا بالسلاح، وإنما فر الكفار خائفين كما وصفهم الله، قال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب:25].
بعد ذلك اليهود الذين ظاهروا المشركين وناصرهم وذهبوا يجمعونهم من مشرق الجزيرة وغربها، هؤلاء رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الغزوة وهو يظن أنها قد انتهت وكان في بيت أم سلمة تغسل شعره صلى الله عليه وسلم، وإذا بجبريل يأتيه ويقول: يا رسول الله أوضعت السلاح؟ نحن لم نضع السلاح بعد، اذهب إلى بني قريظة فأدبهم وانتقم منهم لمظاهرتهم للعدو، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يلبس سلاح الحرب وينادي في المؤمنين: أن هلموا، وكان ذلك بعد صلاة الظهر، وقال لهم: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة، فتسابق الصحابة، فبعضهم صلى العصر قبل المغرب في الطريق، والبعض لم يصل إلا بعد العشاء، فلم يعنف هؤلاء ولا هؤلاء، وكان قد جعل ابن أم مكتوم نائبه وأمير المدينة، وأعطى الراية لـ علي بن أبي طالب، وذهب إليهم فحاصرهم، وعندما أرسل علياً للراية عاد إليه علي وقال: يا رسول الله إن شئت لا تحضر، قال: لعلك سمعت شتماً، قال: نعم، قال: إذا رأوني لا يجرءون على شتمي، فجاءهم صلى الله عليه وسلم وهم متحصنون في الآفاق والحصون والصياصي، فقال: يا إخوة القردة! يا إخوة الخنازير! ما هذا الذي صنعتم؟ ستلقون جزاء الله بسبب غدركم وخيانتكم، فقالوا له: يا أبا القاسم لم تكن يوماً جهولاً! ولم يجرءوا على أن يبادلوه بذلك، وحاول علي أن يشتمهم من قبل ولكن الزبير قال له: ما بيننا وبين هؤلاء أعظم من الشتيمة، وبقي أربعة أسابيع يحاصرهم إلى أن طالبوا أن يستشيروا أبا لبابة بن عبد المنذر من حلفائهم في الجاهلية.
فجاءهم فالتف عليه الأطفال والنساء فأخذوا يجهشون بالبكاء، والرجال يستعطفونه ويتمسحون به ويسألونه ماذا ترى؟ فقال لهم: ليس إلا الذبح وأشار بأصبعه إلى حلقه ولم ينطق، وشعر بأنه خان الله ورسوله وفر إلى المسجد النبوي وربط نفسه بسارية.
ثم بعد ذلك عرضوا على رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يخرجوا بنسائهم وأطفالهم وبما حملت دوابهم كما فعل مع بني النضير، فأبى عليهم النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، وإنما يستسلمون.
وإذا بهم يطلبون أن يحكم عليهم حليفهم في الجاهلية سعد بن معاذ، وكان قد أصيب في غزوة الخندق في أكحله -أي: في العرق الذي في يده المتصل بالقلب- فنزف الدماء فدعا الله تعالى ألا يميته حتى تقر عينه من بني قريظة، فرقى الدم ووقف، وبقي جرح خفيف إلى أن أرسل إليه عليه الصلاة والسلام فجاء على حمار، فقال: قوموا إلى سيدكم -أي قوموا إجلالاً وإكباراً واحتراماً- فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: هؤلاء يريدون أن تكون أنت الحكم فيهم، فأخذ العهود والمواثيق من المهاجرين والأنصار ومن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالتفت إلى المهاجرين وقال: آلله إن حكمت بحكم لتنفذنه؟ قالوا: اللهم نعم، والتفت إلى الأنصار وقال مثل ذلك، والتفت من الجهة التي فيها النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ومن هنا؟ وهو يغض البصر حياء من رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: اللهم نعم، وإذا به يقول: أحكم بقتل الرجال وسبي النساء والأطفال وغنيمة الأموال، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (قد حكمت فيهم بحكم الله ورسوله)، فلما تمكن منهم ربط الأعناق منهم والأيدي، وسيقوا إلى خارج المدينة بأميال، وهم ما بين سبعمائة إلى تسعمائة، فحفرت لهم الأخاديد، وقطعت رءوسهم في عشية يوم نصر الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم وأذل عدوه.
وكان الأسرى من الأطفال ومن النساء كذلك ما بين ستمائة إلى سبعمائة، وكان من يشك فيه هل بلغ أو لم يبلغ يكشف عن عانته، إن وجد قد أنبت اعتبر رجلاً فتقطع رأسه، ومن لم ينبت اعتبر طفلاً فيؤسر.
وهكذا حكم الله جل جلاله نبيه في هؤلاء الأعداء، حيث قال ممتناً عليه وعلى أتباعه من المهاجرين والأنصار وعلى المؤمنين إلى يوم القيامة: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26].
أي: هؤلاء الذين ظاهروا وعاونوا الأحزاب على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان من الله سبحانه إلا أن رد كيدهم في نحورهم، فجاء إليهم صلى الله عليه وسلم وحاصرهم فاستسلموا، فقتل رجالهم وسبى نساءهم وأطفالهم، وغنم أموالهم، وكفى الله المؤمنين القتال.(199/6)
تفسير قوله تعالى: (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم)
قال الله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:27].
أي: دورهم وقصورهم.
سبق في علم الله وأخبر بالفعل الماضي وهو كالحاضر والمتوقع والواقع، (أورثكم أرضهم) أي: سيورثكم أرض أهل الكتاب وأرض المشركين والوثنيين كذلك.
وقوله: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27].
قال الحسن البصري: أي: لم تدوسوها بأقدامكم ولم تدخلوها بعد، وهي أرض فارس والروم، وقد فعل الله جل جلاله ذلك في أيام الخلفاء الراشدين ابتداء من أبي بكر رضي الله عنه، فقد توفي عليه رضوان الله وجيوشه على أبواب الجابية في أرض الشام، وكانت أرض الروم.
ثم استكمل الفتح بعد ذلك الضرغام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم فتح الشام والعراق، وفتح مصر وإفريقيا، وفتح أرض فارس، فكان الأمر كما ذكر الحسن البصري.
فقوله: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27]، لم يطأها المسلمون قبل ذلك ولم يدخلوها فاتحين ولم يملكوها يوماً، ولا تعلقت نفوسهم بها حتى جاء الإسلام ووعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الخندق حيث قال في الضربة الأولى للصخرة: (فتحت لكم أرض الروم، وفي الثانية: فتحت أرض فارس، وفي الثالثة: فتحت أرض اليمن ورأيت قصورها كأنها أنياب الكلاب).
وهكذا تم ذلك بعد النبي عليه الصلاة والسلام في سنوات، فذهبت فارس ولا فارس بعد اليوم، كما قال عليه الصلاة والسلام عندما أرسل كتاباً إلى كسرى ملك فارس يدعوه إلى الإسلام، فأخذته العزة بالإثم فمزق الكتاب وأمر جنديين بأن يأتياه بهذا العربي، أي: أن يأتيا إليه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فلما بلغ الخبر النبي عليه الصلاة والسلام قال: (مزق الله ملكه، فلا كسرى بعد كسرى، ولا فارس بعد فارس)، ومضت بضع سنوات وإذا الله يسلط عباده المؤمنين في عهد عمر فذهبوا بفارس وذهبوا بكسرى فلم يعد كسرى الفارسي بعد ذلك وإلى اليوم القيامة، ولم تعد فارس وثنية منذ ذلك اليوم وإلى يوم القيامة، فدخل المسلمون أرضاً لم يطئوها من أرض الروم وأرض فارس.
وقال عكرمة مولى ابن عباس: (وأرضاً لم تطئوها): كل أرض سيفتحها المسلمون بعد ذلك.
فقد فتح المسلمون بعد ذلك أرض الفرس والروم، وفتحوا أرض الهند، وفتحوا أرض المغرب، وفتحوا أرض أسبانيا، وفتحوا أرض برتغاليا، وفتحوا كثيراً من أرض أوروبا، وجابت سفنهم البحار كلها في مشارق الأرض ومغاربها، وجابت خيولهم البراري كلها في مشارق الأرض ومغاربها، وجنوبها وشمالها، وكان ذلك تأكيداً وتفسيراً لقوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:27].
فقوله: ((وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا)) أي: هو القوي جل جلاله، وهو العزيز الذي لا ينال جل جلاله، وهو القادر على كل شيء.
فهؤلاء العرب كانوا يتقاتلون على ناقة أو فرس مدة أربعين سنة، فأعزهم الله بالإسلام فسادوا وحكموا الأرض، وكانوا المعلمين والموجهين والمؤدبين المحكمين بين الخلق، فلما عادوا فبدلوا وغيروا سلط الله عليهم الأعداء من النصارى واليهود الذين هم أذل الخلق وأحقرهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
فإن عاد المؤمنون والمسلمون وغيروا ما بأنفسهم من عصيان، وغيروا ما هو واقع في الأمة من كفر بالله ومن جري وراء اليهود والاستسلام لهم، كما هو الحاصل من الحكام الذين أذلوا الأمة الإسلامية وأهانوها، والإسلام منهم بريء ومن أعمالهم، حينها سينطبق علينا قوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:27].(199/7)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28].
نلاحظ في القرآن الكريم وفي هذه السورة أن الله خص خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم بأنه لا يناديه باسمه وإنما يقول عنه: يا رسول الله، يا نبي الله، وفي أول هذه السورة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1].
وهنا يناديه ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب:28]، وسيقول بعد ذلك: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} [الأحزاب:30]، وما ذلك إلا لمنزلته ولمقامه ولقدره عند الله جل جلاله، فهو سيد الأنبياء وإمامهم وسيد جميع الخلق من ملائكة وبشر.
قد يبدو لأول مرة أن الآيات الآتية ابتداء من هذه الآية لا مناسبة بينها وبين غزوة الخندق أو الأحزاب، فنقول: إن مناسبة الآية مع الغزوة ظاهرة، وهي: أن الغزوة قائمة والرسول بين إذاية المنافقين والمشركين واليهود، وإذا بالنساء يجتمعن حوله ويقلن: يا رسول الله نريد ذهباً، نريد قصوراً، نريد نفقة، نريد رفاهية.
وهذا من الأذى للرسول صلى الله عليه وسلم، وقلن: هؤلاء نساء الملوك من الروم والفرس يتنعمن ونحن في حالة من البؤس لا تليق بنساء الملوك، وكأنهن يتحدثن عن ملك لا عن نبي ورسول وجاء في الحديث: (أن الله تعالى خير النبي عليه الصلاة والسلام بين أن يكون نبياً ملكاً أو نبياً عبداً، فأشار إليه جبريل أن تواضع، فقال: اللهم نبياً عبداً)، وكان بذلك سيد الملوك، وكانت الملوك يشرفها أن تمسح أقدام النبي صلى الله عليه وسلم وأن تنفض الغبار عن نعاله، وكان صلى الله عليه وسلم لا يهاب الملوك، ومن هم حتى يهابهم صلى الله عليه وسلم؟ بل هم الذين يهابونه ويرتعدون بين يديه، ومع ذلك فقد قاد الجيوش وساد في الأرض، وبلغت جيوشه المشارق والمغارب، إلى أقصى المغرب في ديار أوروبا، وأقصى الشرق كالهند والصين.(199/8)
تفسير سورة الأحزاب [28 - 29]
اجتمع أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعزمن على أن يطالبنه بالزيادة في النفق، والتوسعة عليهن في المعيشة، فأنزل الله تعالى عليه آيتي التخيير لهن بين الله ورسوله والدار الآخرة، أو أن يطلقهن ويسرحهن سراحاً جميلاً.(200/1)
تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها)(200/2)
المعنى الإجمالي لقوله: (يا أيها النبي قل لأزواجك)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29]].
يأمر الله جل جلاله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول لأزواجه جميعاً: إن أردتن من الدنيا زينة وزخرفاً ومتاعاً ورفاهية فتعالين إليَّ لأمتعكن متعة الطلاق، ثم أطلقكن طلاقاً جميلاً، وأسرحكن وسراحاً جميلاً بلا عنف ولا كلام يسوء، قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231] فالآية ظاهرة.
والله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخير نساءه إن كن يردن الحياة الدنيا ويردن أن يعشن عيشة الملكات وعيشة المترفات الغنيات فليخبرن بذلك النبي عليه الصلاة والسلام؛ ليمتعهن متعة الطلاق، ثم يسرحهن سراحاً جميلاً بلا كلام مؤذ لا منهن ولا من النبي عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29].
أي: إن كانت نساؤك يفضِّلن طاعة الله ورسوله، ويفضِّلن رسوله صلى الله عليه وسلم زوجاً، إن كن كذلك {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29].
فالمحسنات الطائعات العابدات الصابرات على التقشف مع النبي صلى الله عليه وسلم، أعد الله لهن أجراً عظيماً، والأجر الكبير هو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.(200/3)
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها)
هاتان الآيتان لهما سبب، وسبب نزولهن أن نساء النبي عليه الصلاة والسلام عندما هاجر للمدينة وانتصر على أعدائه وأعزه الله، وأصبحت الجزيرة العربية تحت سلطانه وأمره ونهيه، رأين أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح في شئون الدنيا ذا رتبة عالية، وبلغهن كيف تعيش، ملكات فارس والروم، وأردن أن يعشن عيشة الملكات، ونسين أن النبي عليه الصلاة والسلام عبد نبي آثر الفقر والمسكنة والحاجة عن رضاً منه وطواعية، وقد عُرض عليه أن تكون جبال مكة ذهباً وفضة، وعُرض عليه أن يعيش نبياً ملكاً فآثر أن يعيش نبياً عبداً، يجوع يوماً فيصبر ويشبع يوماً فيشكر.
فعندما قلن ذلك وطلبن الحلي والحلل وأكثرن على رسول الله من هذا القول هجرهن شهراً كاملاً، وترك الدخول عليهن، واعتزل في علية من الدار، وشاع الأمر وذاع بين أصحابه، وخاصة عند أصهاره أبي بكر والد عائشة، وعمر والد حفصة.
في هذه الحال قال عمر كما في الصحاح: كنت أسكن العوالي -عوالي المدينة-، وكنت أتناوب أنا وجار لي الحضور والصلاة والاجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بيوم، يوماً ينزل جاري فيجالس النبي عليه الصلاة والسلام ويسمع حديثه، وما نزل عليه من آي، وما سئل به، وما أجاب عنه، فيأتيني ويخبرني بذلك، ويوماً أنزل أنا فأسمع ذلك وأبلِّغه لجاري كما بلغني.
قال: وفي يوم من الأيام يأتيني بعد صلاة العشاء فيطرق عليَّ الباب طرقاً شديداً فأخرج إليه وأقول: ماذا هناك؟ قال: أمر عظيم! قال: قلت: هل غزتنا الروم؟ قال: الأمر أعظم من ذلك.
وكان شاع بين الصحابة أن الروم تريد غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن غزته قريش وغطفان ويهود المدينة، فعجزوا عنه ورجعوا أذلة خائبين يجرون الخيبة والذل والهوان، فأرادوا أن يقوموا بذلك عنهم، هكذا شاع، وإن لم يكن لهذا أصل! فقال له جاره: الأمر أعظم من ذلك، طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه.
وإذا بـ عمر ينتظر أذان الفجر، فيخرج إلى المسجد عند الأذان، وينتظر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام وصلى بالمسلمين الفجر، وتركهم رسول الله عليه الصلاة والسلام وصعد العلية فتبعه عمر، وكان هناك غلام على باب العلية، فقال له عمر: استأذن لي على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فدخل الغلام ثم خرج وقال: ذكرتك له فلم يجبني، فذهب عمر وغاب ملياً داخل المسجد، ثم عاد فقال للغلام: استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل ثم خرج وقال: ذكرتك له فلم يجب.
وإذا بـ عمر يعيش عيشة القلق والانزعاج ولا يعلم ماذا هناك، وكان قد دخل على ابنته حفصة فوجدها تبكي، وسمع بكاء أمهات المؤمنين، ووجد من الأصحاب في المسجد من يبكي، فقال لها: طلقكن رسول الله؟ قالت: لا أدري، فعاد وطلب من الغلام أن يستأذن له على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فخرج وقال له: استأذنت لك فلم يجب، فذهب عمر حزيناً مكروباً مغموماً، وجلس في المسجد كعادته في انتظاراته، وإذا بالغلام يناديه: يا عمر قد أذن لك رسول الله! فصعد عمر فسلّم فرد عليه السلام وسكت.
ونظر عمر في الغرفة فلم ير تحت رسول الله إلا حصيراً ومعه مخدة من ليف، وقربة ماء قد قدم عهدها، وإذا بـ عمر يقول: يا رسول الله! فارس والروم يعيشون في رغد من العيش وأنت تعيش في هذا الشظف، وكانت مشكلة رسول الله مع نسائه في نفس الموضوع، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً يجلس ويقول: يا ابن الخطاب أفي شك أنت؟ أولئك عجِّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا.
فقال عمر: فاغفر لي يا رسول الله.
وأراد عمر أن يجعله يبتسم فقال: يا رسول الله لو رأيت زوجتي كيف أخذت تطلبني الرغد في المعاش، وتطلبني الزينة، وإذا بي أقوم إليها فأنهرها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما رأى تبسمه قال: يا رسول الله، أطلقت نساءك؟ قال: لا، قال: أتأذن لي أن أُخبر القوم؟ قال: إن شئت.
فأشرف عمر من العلية ونادى بأعلى صوته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، فقال له عليه الصلاة والسلام: إن أمهات المؤمنين أكثرن عليّ في طلب الحلي والحلل وزينة الدنيا وليس عندي ما أُعطيهن، ولا أرغب أن يكون عندي ما أعطيهن، بل أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر.
فنزل عمر ووجد أبا بكر فقص عليه القصة، ودخل كل منهما على ابنته فقال لها: لم تطلبين رسول الله ما ليس عنده؟ ونهر أبو بكر ابنته، ونهر عمر ابنته، وقال كل واحد منهما: ما شئتِ فاطلبيني ولا تطلبي رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وزاد عمر فقال لابنته: لا يغرك أن تكون جارتك أصبح منك وجهاً فقد سبق أن طلقكِ رسول الله وما ردّكِ إلا من أجلي، فإن طلقكِ هذه المرة فلا والله لا ترجعين أبداً.
فبقي رسول الله عليه الصلاة والسلام شهراً، وإذا به ينزل من العلية، وقد نزل عليه الوحي بهاتين الآتين، فذهب تواً إلى عائشة وكان قد أقسم أن يهجرهن شهراً، قالت له: يا رسول الله! أنا أعد الأيام ولم يمض من الشهر إلا تسع وعشرون يوماً، فقال لها صلى الله عليه وسلم: الشهر هكذا وهكذا وهكذا -أي: قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعة وعشرين يوماً- ثم قال لها: لم أحنث وقد أتممت شهراً، وكان شهري هذا تسعة وعشرين يوماً.
ثم تلا عليها هاتين الآيتين الكريمتين، وقال لها: شاوري أبويك قبل أن تختاري، قالت: أفيك أشاورهما يا رسول الله! فلن يختارا الطلاق، ولا والله لا شاورتهما، وإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة، يا رسول الله، إنك ستطوف على نسائك وتخيّرهن كما خيّرتني فلا تقل لهن: إنك خيّرتني فاخترت الله ورسوله والدار الآخرة، فقال لها رسول الله عليه الصلاة والسلام: إن سألنني سأخبرهن.
وإذا به يطوف على بقية نسائه التسع، على حفصة بنت عمر وعلى أم سلمة وعلى زينب بنت جحش وعلى ميمونة الهلالية وعلى صفية بنت حيي وغيرهن، فقلن كلهن: بل نريد الله ورسوله والدار الآخرة، فسرّ رسول الله عليه الصلاة والسلام أن اخترن الله ورسوله عن زينة الدنيا وزخرفها ومتاعها.(200/4)
أقوال العلماء في حكم تخيير الزوجة
اختلف الفقهاء اختلافاً طويلاً هل يلزم من التخيير طلاق؟ وإذا لزم الطلاق فهل يعتبر طلقة واحدة أم ثلاثاً؟ وإن كانت واحدة فهل هي طلقة رجعية أو بائنة؟ بكل ذلك قد قال فقيه وفقهاء، وكل ذلك لا معنى له في هذه الآية الكريمة، فهو ليس تخييراً في الطلاق، ولكنه تخيير بين قبول حياة رسول الله على ما فيها من زهد، وعلى ما فيها من عدم رفاهية وغنى، وبين إرادة زينة الدنيا وزخرفها، فهن إن أردن الدنيا وزخرفها وزينتها فليخبرن رسول الله أن يفعل ما قاله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب:28] ومتعة الطلاق لها كلام آخر سنعود إليه.
وقوله: {وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب:28].
أي: بعد أن تأخذ كل واحدة منهن متعتها، فهذا يدل على أنه ليس في الطلاق ألبتة، ولكن هو تخيير بين الله ورسوله والدار الآخرة، وبين الدنيا وزينتها وزخرفها، فإن اخترن الزينة والحياة الدنيا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيطلق، وإن اخترن الله ورسوله فالأمر على ما هو عليه، فلا حاجة لهذا النزاع ألبتة كما قال القرطبي.
وكما قال المحققون من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة، إن التخيير ليس في الطلاق، ولكنه تخيير بين الدنيا والآخرة، وبما أنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة فلم يكن هناك طلاق لنقول: هي طلقة رجعية أو بائنة أو ثلاث طلقات، ولم يذكر أحد من المفسرين على الإطلاق أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر ذلك طلاقاً ثم ردّهن، وكأن أحداً قال لـ عائشة ذلك فأجابت بقولها: (اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولم يكن شيء) أي: لم يكن فراق ولا طلاق، والأمر واضح.(200/5)
أنواع المتعة
وقوله: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب:28].
المتعة ثلاث في الفقه: متعة الحج، ومتعة النكاح، ومتعة الطلاق.
أما متعة الحج فهي أن يعتمر الحاج في أشهر الحج -شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة- ثم يحج من عامه، فالمتمتع لا يمنع مما يمنع منه المفرد والقارن، فالمتمتع بعد أن تنتهي عمرته يفعل ما يفعله الحلال حتى يحرم للحج.
والحج ثلاثة أنواع: حج متعة، وحج إفراد، وحج قران.
وأما متعة النكاح فهي المتعة التي أبيحت في صدر الإسلام بسبب الحاجة والضيق مع الحروب، ومع وجود الجند بالآلاف خارج مدينتهم بعيدين عن نسائهم، وأخذ نسائهم معهم يكلفهم الكثير، وهم لا يملكون ذلك؛ فأذن لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يتزوجوا زواجاً مؤقتاً ينتهي بنهاية الوقت الذي اتفق عليه مع مهر، ومع الحفاظ على الولد إن كان، ولكنه لا يحتاج إلى طلاق، فبمجرد نهاية الوقت الذي اتفقوا عليه ينفسخ النكاح، وما سوى ذلك فالولد يلحق والمهر قائم، ولا يصح للمسلم أن يتزوج بمن تمتع بها إلا بعد أن تستبرئ إن كانت جارية بحيضة، وإن كانت حرة بثلاث حيضات.
ثم حرمت المتعة بعد ذلك، كما في صحيح مسلم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولا تحل إلى يوم القيامة)، فحرّم الله ورسوله المتعة ولن تحل أبد الآباد.
ونسب حل ذلك لبعض الصحابة مثل ابن عباس وغيره، وذلك أنهم لم يبلغهم الحديث في تحريم ذلك تحريماً أبدياً، وقد ثبت رجوعهم بعد إخبارهم، ومن يتمسك بذلك من غير أهل السنة يتمسك ببدعة وبشيء قد حرم عليه.
وأما متعة الطلاق فهي إعطاء شيء من مال توطئة للطلاق وتخفيف وقعه على المرأة، كما قال تعالى في آية أخرى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236] أي: الموسع عليه حسب توسعته وغناه، والفقير المسكين حسب فقره وما عنده، وقد قدروا ذلك بنسبة الصداق والمهر، والبعض فسّره بالمهر نفسه، والبعض بجزء من المهر، وبعض الفقهاء أوجب المتعة، وجمهورهم قالوا: إنما هي سنة مستحبة وليست بواجبة، وليس هناك سوى المهر والصداق.(200/6)
قبول زوجات النبي بالعيش معه مع الزهد والتقشف وشظف العيش
قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29].
أي: إن كنتن يا هؤلاء الزوجات تفضّلن ربكن في طاعته، فطاعته في طاعة نبيه، ونبيه قد آثر الحاجة والفقر يجوع يوماً ويشبع يوماً، آثر أن يعيش نبياً عبداً لله دون أن يعيش عيشة الملوك كما عاش أنبياء سبقوه من أنبياء بني إسرائيل كسليمان وداود وغيرهما.
والنبي عليه الصلاة والسلام لم يرد أن يعيش عيشة الملوك في الغنى والرفاهية، ومع ذلك فقد كان سيد الملوك وكان ملكاً بالفعل، فالملك هو رئيس الدولة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان رئيس دولة، فقد ظهر في جزيرة العرب في بطحاء مكة وجبالها ثم انتقل إلى المدينة المنورة وبطحائها وجبالها، ولم تكن في جزيرة العرب دولة، ولم يكن لهم رئيس ولا ملك، فعندما آمن المؤمنون من المهاجرين والأنصار، أو بقي من لم يؤمن إما منافقاً أو محارباً مكسوفاً ولكنهم ذلوا وخنعوا وخضعوا بعد الحروب المتوالية التي نصر الله فيها نبيه عليه الصلاة والسلام والمسلمين، وكان يتصرف فيهم تصرف رئيس الدولة يأمر وينهى ويُطاع، ومن خالف يُعاقب، وكان يقطع ويرجم ويقتل في الحدود، وكان يرسل القادة، ويعد الجيوش، ويفتح الأقطار، ومن خالف حاربه وقاتله ومن هاجمه قام بمواجهته، وهذا فعل الدولة.
والله تعالى حرّم علينا أن نناديه أو نسميه بما نسمي بعضنا البعض، فمن الآداب في الإسلام أن يلقّب الإنسان ويسمى بأحسن أسمائه، وقد قال الله لنا في أدبنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63].
ننادي بعضنا البعض بالملك والأمير ورئيس الدولة والقائد والحاكم، أما النبي صلى الله عليه وسلم فنقول: يا نبي الله، ونقول: يا رسول الله هذا لمن صاحبه، أما نحن فنختم هذه الكلمة بصلى الله عليه وسلم، ولا تقال لغيره، ولا نبي بعده، وإن تحدثنا عنه فكذلك نقول: قال رسول الله، وقال: نبي الله صلى الله عليه وعلى آله، ولا نقول: قال ملك العرب، وإن كانت الروم وفارس ومشركو قريش وجزيرة العرب يقولون عنه: ملك العرب، وأبو سفيان عند فتح مكة أخذ أسيراً في ضواحيها، وتركه النبي صلى الله عليه وسلم عند عمه العباس وقال: دعه يرى عرض جند الله وهم يدخلون مكة فاتحين، فأخذ أبو سفيان يسأل: من هؤلاء؟ من هؤلاء؟ من هؤلاء؟ ودخلوا مكة في عشرة آلاف جندي شاكي السلاح باللأمة الكاملة وهو يسأل فيقول: ما لي ولقبائل فلان، لم تكن بيني وبينهم حرب، كان يتكلم كما لو كان أمير مكة، ويتكلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما لو كان ملك العرب، إلى أن قال للـ عباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً يا عباس! قال: ويلك إنها النبوة، قال: والله لا يزال في نفسي من هذه شيء.
فهو رأى ما يكون للملوك من جيوش وأمر ونهي وطاعة؛ وهكذا كان رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان نبي الله، وكان رسول الله، وما عمل الملك والرئاسة إلا بعض وظيفته في النبوة والرسالة، ولا ينادى بذلك ولا يلقّب.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29].
كن جميعاً محسنات، وكن جميعاً صادقات، وجميعهن آثرن الله ورسوله والدار الآخرة.
وبعدما نزل ما نزل من وحي تبن لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، وخضعن لما أراده من شظف العيش والزهد في الدنيا، وأصبحن يعشن كما يعيش عليه الصلاة والسلام، حتى لقد كانت عائشة تقول: (يمر علينا الشهر والشهران ولا توقد في أبيات النبي صلى الله عليه وسلم نار، إنما الأسودان: التمر والماء).
عشن رضي الله عنهن تبعاً لزوجهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمر عليهن الشهر والشهران ليس هناك إلا الماء والتمر، ويحمدن الله ويشكرنه؛ لأنهن زوجات رسول الله عليه الصلاة والسلام، لأن الله أكرمهن وسماهن أمهات المؤمنين (وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) كما روى ابن عباس وزيد بن ثابت فيما سبق أن فسّرنا في الآية السابقة في هذه السورة المباركة.(200/7)
تفسير سورة الأحزاب [30 - 33]
يوجه الله زوجات نبيه صلى الله عليه وسلم بما يجب عليهن من الأدب، وأن الله تعالى قد فضلهن على غيرهن من النساء، فمن أتت منهن بفاحشة ضوعف لها العذاب؛ وإذا اتقين الله ولزمن بيوتهن فلهن الأجر العظيم.(201/1)
تفسير قوله تعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين)
قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:30].
بعد أن اخترن الله ورسوله نزلت الآيات في نسق واحد، فقد توعدهن الله وأنذرهن أن يؤذين رسول الله من غيرة بعضهن من بعض، حتى لقد كانت عائشة تهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم كله، وكلهن يهجرن رسول الله اليوم واليومين والثلاثة؛ لشدة غيرتهن، بل لقد كانت عائشة تهجر الحديث معه، فقال لها يوماً عليه الصلاة والسلام: (يا عائشة إني لأعلم عندما تكونين عني راضية وعندما تكونين عني غضبى، قالت: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا غضبت قلت: لا ورب إبراهيم، وإذا رضيت قلتِ: لا ورب محمد، فقالت: والله يا رسول الله لا أهجر إلا اسمك).
فهن يردن الدلال عليه، وهذا حق الزوجات على الأزواج، ولكن لا يصل الدلال إلى الإيذاء لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
وكان شيخ أعرابي متزوجاً صغيرة ففرت منه وذهبت عند أهلها وامتنعوا أن يردوها عليه، فجاء يشتكي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام بقطعة شعرية بليغة ختم القصيدة والشكوى الشعرية بقوله: وهن شر غالب لمن غلب، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يكرر معه هذا الشطر من البيت فيقول: (وهن شر غالب لمن غلب).
فهو صلى الله عليه وسلم قد قاسى من غلبة فيهن، ومن كثرة دلالهن عليه لكن الله غار عليه أكثر من غيرته على نفسه صلى الله عليه وسلم، فأدبهن وأنذرهن، وأمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يراجعهن فيما إذا أصررن على أن يعشن ملكات مترفات أن يطلقهن ويمتعهن، ويذهبن إلى حال سبيلهن، ولكنهن رضي الله عنهن كن جميعاً من التقوى والإيمان ومن الحب لله والطاعة لرسول الله في الدرجة القصوى، بحيث لم تستشر إحداهن أباً ولا أماً، ومن أول مرة قلن له: أفيك نستشير أبوينا يا رسول الله؟ نحن نختار الله ورسوله والدار الآخرة، وبعد هذا لم يعدن أبداً إلى طلب شيء من رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فالله يتوعدهن بقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ} [الأحزاب:30].
والفاحشة هنا فسرت بالنشوز على رسول الله، وبمخالفته المخالفة الدلالية التي تكون بين الزوج والزوجة، لا المخالفة التي تكون بين المؤمن ورسول الله فهي ردة وكفر، وهي خروج عن طاعة رسول الله، وخاصة عندما يأمر كفاحاً ومواجهة فيعتبر ذلك تمرداً، لكن فسّروا الفاحشة هنا بسوء الخلق والنشوز والإيذاء بكثرة المطالب وشدة الغيرة.
وننقل ما قاله القرطبي وغيره: حتى لو كان الإنذار بالفاحشة المعروفة من الفساد والزنا وحاشاهن من ذلك، فالشرط لا يلزم منه الوقوع، وقد قال الله لنبيه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] ورسول الله معصوم من الذنوب صغارها وكبارها، ولكن إذا قيل هذا للرسول عليه الصلاة والسلام فغيره ممن ليس معصوماً من باب أولى.
ولم يكد يموت رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى ارتد الكثير من العرب، وتنبأ أربعة من الكذبة وادعوا النبوة، وامتنع الكثيرون من أداء الزكاة ممن بقوا على الإسلامه، وقد أنذرهم الله قبل أن يكون ذلك فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].
أعني أن الشرك والكفر يكون من غير الأنبياء وقد كان، أما من الأنبياء الذين عصمهم الله فلا، وتكريماً للأنبياء ولرسول الله في الدرجة الأولى لم تصدر الفاحشة من إحدى زوجاته، ولن يكون ذلك، وهو يبقى شرط، والشرط لا يلزم منه الوقوع، وأمهات المؤمنين لا يأتين الفاحشة، وبالتالي لا يعاقبن لا ضعفاً ولا ضعفين، ولا مرة ولا مرتين، ولكنه وعيد وإنذار ليعلمن أنه لا يوجد عبد من عبيد الله من الأنبياء فمن دونهم فوق حساب الله وعقاب الله، وأن الخروج عن أمر الله جزاؤه العذاب.
والله أراد أن يجعل من أمهات المؤمنين مثالاً لباقي المؤمنين والمؤمنات، فقال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30] أي: يضاعف فيما لو فعل مثل ذلك غيرهن مرتين في الدنيا والآخرة.
وقوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:30].
أي: أن مضاعفة العذاب لهن -إن صدر منهن ذلك- هين على الله ويسير عليه؛ لأنهن إن فعلن ذلك لم يكن لهن عند الله مقام ولا اعتبار، فيعذبهن ويضاعف لهن العذاب في الدنيا والآخرة، ومن إكرام الله للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن إكرامه لهن لم يصدر ذلك عنهن، وبالتالي لم تكن عقوبة لا مرة ولا مضاعفة.
نكون قد ختمنا من كتاب الله واحداً وعشرين جزءاً ولله الحمد والشكر والمنة، أي: بقي علينا تسعة أجزاء، وهي أقل من الثلث، وندعو الله ونرجوه ضارعين كما أعاننا على تفسير كتابه إلى حيث وصلنا، أن يعيننا على إتمامه، وأن يقبله فضلاً منه وشكراً له جل جلاله.
وقد مضى على هذا تسع سنوات، ومما أشكر الله عليه وأشكر عليه أخانا الشيخ محمد ناظرين؛ لأنه قد سجّل جميع ما مضى معنا من تفسير في أشرطة، فأصبح لنا تفسير منطوق به، وكون القرآن سجِّل متلواً فهذا عرفه كثير، أما أنه سجِّل التفسير من البداية إلى النهاية لم أسمع بهذا، وتسجيل واحد وعشرين جزءاً نعمة أشكر الله عليها.
وقد كنت أكتب التفسير في أيامي الأولى وكتبت بضعة أجزاء، ثم توقفت عن الكتابة عندما شعرت بأن أخانا الملازم لنا منذ تسع سنوات يسجّل ذلك ويتكلف له مالاً، ويتكلف له زمناً وعملاً، فحمدت الله أولاً، ثم شكرته على صنيعه.(201/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين)
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:31].
أي: يا نساء النبي! من عاشت منكن مطيعة لربها ومطيعة لزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاملة للصالح من الأعمال، نؤتها أجرها مرتين.
وطاعة الله طاعته في كتابه، وطاعة رسول الله طاعته في سنته، وفعل الصالح القيام بالأركان وما يتعلق بها من واجبات وسنن وآداب ومستحبات.
والواجب لا يترك بحال أبداً، والسنة مأجور فاعلها، قد يعاتب تاركها إن تركها ألبتة، والمستحبات زيادة نوافل، والإحسان: هو الرتبة العليا كما في حديث جبريل الذي رواه عمر وغيره عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان، فقال: (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ومن يعبد الله يره بعين القلب والبصيرة: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد عندما يرى نفسه وخلقه يرى الله في ذلك، ويقول: كيف خلقني ربي؟ من الذي يستطيع أن يخلق مثل هذا الخلق الناطق الناظر السامع المتحرك العاقل المدرك؟ عندما يريد الضالون أن يصنعوا تماثيل من أحجار أو أخشاب أو من أي شيء تجد أنهم بعد أن يصنعوها يتباهون بعملهم، وأن فلاناً مبدع؛ لأنه صنع هذه الصورة الجميلة، ولكن مع ذلك قل له: دعها تنطق أو تتحرك أو تعقل، ومن صنع ما حرمه الله عليه فسيقال له يوم القيامة: أحي ما صنعت؟ ولن يفعل، وأين ذاك من خلق الله، عندما يخلق إنساناً أو حيواناً أو أي شيء، كيف ترى حركات هذا المخلوق ووعيه وإدراكه، من الذي يستطيع أن يفعل ذلك سوى الله جل جلاله؟! فأمهات المؤمنين يحضهن الله على فعل الخيرات وأعلاها، فيقول: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} [الأحزاب:31] وفعل الصالحات وفعل الإحسان يأتي من المحسنات، قال سبحانه: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29].
والمحسنات هن القائمات بالإسلام حركات وأركاناً وعبادة وواجبات، والقائمات بالإيمان تصديقاً قلبياً لا شائبة شك فيه، والقائمات بالإحسان اللاتي يعبدن الله كأنهن يرينه، فإن لم يصلن لهذه الدرجة فليعبدنه وهن يعلمن أنه يراهن، ومن عبد الله هكذا تجده على غاية ما يكون من الخشوع ومن السكون ومن الحضور ومن الفكر فيما يتلو ويقرأ، وهو على غاية ما يكون من الهيبة والأدب مع الله.
{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} [الأحزاب:31] (من): اسم موصول يطلق على المفرد المذكر والمؤنث، وعلى المثنى المذكر والمؤنث، وعلى جمع الذكور والإناث، فتقول: من جاء من الرجال؟ من جاء من النساء؟ وهكذا هنا.
فقوله: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} [الأحزاب:31] أي: من أطاعت الله ورسوله وعملت الصالح، فإن الله أعد للمحسنات منهن أجراً عظيما.
وقوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:31].
أي: يؤتيها الله أجرها مرتين: أجر الدنيا ببقائها زوجة في عصمة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأجر كونها قدوة للمؤمنات والمؤمنين بسماعها لرسول الله ولحكمته، وبسماعها للآيات المنزلة عليه صلى الله عليه وعلى آله.
وأجرها يوم القيامة في الدار الآخرة بجعلها في أعلى مقام مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، وأي أجر وأي ثواب أعظم من أن يكن مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في الفردوس الأعلى.(201/3)
تفسير قوله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول)
قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32].
قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} [الأحزاب:32]: يخاطب الله جل جلاله نبيه بالنبوة والرسالة، فإذا كان الله يقول ذلك ويتكلم بذلك جل جلاله مع رسوله صلى الله عليه وسلم فنحن من باب أولى، والله سبحانه يعلمنا بذلك ويؤدبنا، فمن ينطق ويتكلم عن رسول ويقول: قال محمد وذهب محمد فقد خالف نهج القرآن وفعل الله جل جلاله في كتابه، والأدب الذي يجب أن يكون مع الرسول، والصواب أن يقول: قال رسول الله، ونطق نبي الله، وسمعت رسول الله، ورويت عن نبي الله، وذلك الله جل جلاله مع ألوهيته وعبودية عبده محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يخاطبه بالنبوة ويدعوه بالرسالة، ويتكلم عن نسائه بمثل ذلك: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32]، أي: يا نساء النبي درجتكن وفضلكن ومقامكن ليس كأحد من النساء.
وأحد أبلغ من إحدى، وأحد يدخل على المذكر والمؤنث، وإحدى لا تدخل إلا على المؤنث.
وقوله: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32].
أي: ويا نساء النبي أنتن في درجات لا يوازيكن فيها أحد من نساء العالمين، فأنتن أفضل الخلق بعد الرسل والأنبياء، وأنتن في أعلى الدرجات، وأنتن في رفقة نبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة في الفردوس الأعلى، وكنتن في الدنيا معه صباحاً مساءً، تسمعن ما يتلى عليه وتسمعن ما ينطق به من الحكمة.
ومن فضلهن على الله وكرامتهن في أنفسهن أنهن جميعاً اتقين الله، ولم يأتين بفاحشة لا مبينه ولا غير مبنية، وهن عندما اتقين الله استحققن باستمرار أن يكن أمهات للمؤمنين، وأن تذكر الواحدة منهن بالرضا، كأن نقول: عائشة رضي الله عنها، وأم سلمة رضي الله عنها، وحفصة رضي الله عنها، وهكذا لا يذكرن إلا بالتبجيل والاحترام والترضي، وبأنهن أعلى طبقات النساء في الأرض.
فقوله: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32] علق الله ذلك الفضل بالشرط، والشرط التقوى، والتقوى هي القيام بالحلال وترك الحرام، والتقوى هي الإيمان بالله وبرسوله، وطاعة الله وطاعة رسوله، وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن كن على هذا المنوال وعلى هذا المنهج تقى وصلاحاً، فقد قمن بالشرط خير قيام؛ لأنهن سيدات نساء المسلمين على الإطلاق والشمول والاستغراق.
ثم أخذ الله يعلمهن الأدب، ويعلمهن ما يكن به القدوة والأسوة للناس جميعاً، إذ هن أمهات المؤمنين، فقال الله لهن: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32].
والخضوع بالقول: هو اللين فيه وتكسيره وترقيقه، فالله منعهن من ذلك ألبتة، وألا يكون ذلك إلا لزوجهن أو محارمهن المحرمية الدائمة كالأب أو الابن أو الأخ أو العم، أما المحرمية المعلقة على المصاهرة غير الدائمة فليست بهذه الدرجة.
فقوله: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] أي: لا تتكلمن بلين مع الأجانب ولا برقيق الكلام، وهذا أمر لهن وهو أمر لجميع المسلمات.
وقد أذن الله لهن بعد حجبهن في الكلام من وراء حجاب، فقال ربنا لنا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] والسؤال يحتاج إلى جواب.
وقال لهن هنا: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] لم؟ {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] أي: الناس ليسو سواء؛ لأن القلب المريض الفاجر إذا سمع الأنثى تتكسر في قولها وتلين وتترقق فيه قد يدعوه ذلك إلى الطمع وإلى الغزل وإلى ما لا يليق.
فكون هذا تأديباً لأمهات المؤمنين هو في الحقيقة تأديب لمن يأتي بعدهن ولمن عاصرهن من نساء المؤمنين، فالمرأة يحرم عليها تحريماً باتاً أن تتحدث مع الأجانب متكسرة في قولها لينة في كلامها، وهذا يعتبر فجوراً وفساداً وقد حرمه الله جل جلاله، فتكون المرأة بترقيقها كأنها عرضت نفسها على شهوات الفجار وعلى نزوات الفساق وعلى أمراض القلوب.
وقوله: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32].
القول المعروف: هو ما عرفه الله وما عرفه رسوله عليه الصلاة والسلام وعرفته الآداب العامة الإسلامية، لا ما عرفه ما يسمى بالحضارة الزائفة، وما يسمى بالأخلاق الكاذبة، وما يسمى بالأدب الاجتماعي حتى ولو كان فاسداً، وحتى ولو كان فاحشة وفحشاً، ولذلك قيد وقال: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] أي: قلن القول الذي يعرفه القرآن وتعرفه السنة وتقره، ويعرفه المسلم المتدين ويقره.(201/4)
تفسير قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)
قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33].
أمر الله نساء رسوله صلى الله عليه وسلم بلزوم الإقامة في البيت، والأمر لهن أمر لنساء المسلمين قاطبة.
فقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33].
قرن: من القرار والملازمة والإقامة، أي: لا تخرجن من دياركن إلا لما لا بد منه، ولذلك أذن بعد ذلك، وهو مفهوم قوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] أي: إن كان هناك داع للخروج كالخروج للصلاة في المسجد أو الحج أو لزيارة رحم أو لسبب من الأسباب الشرعية الواجبة فلا بأس.
أما سوى ذلك فكما قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] أي: الزمن بيوتكن وأقمن فيها، ولذلك أخذ النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع نساءه جميعاً فحججن معه، ثم قال لهن عليه الصلاة والسلام: (هذه ثم ظهور الحصر) أي: هذه الخرجة للحج فقط، وبعد ذلك الزمن الحُصُرَ في بيوتكن فلا خروج ألبتة.
وكانت أم سلمة لا تخرج من بيتها أبداً إلى أن لقيت الله، وكذلك كن أمهات المؤمنين، وما كان من خروج عائشة في معركة الجمل إنما كان ذلك قضاء وقدراً، وكان عن اجتهاد منها، ثم ندمت وبكت واستغفرت.
وعندما طلب عمر رضي الله عنه منها مكاناً ليدفن فيه بجوار صاحبيه، وكانت الغرفة التي فيها النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر هي مسكنها وغرفتها، أرسل ولده عبد الله وقال له: اذهب إلى أم المؤمنين عائشة فاطلب منها أن أكون مع صاحبي فكان الجواب أن قالت: سأوثر أمير المؤمنين به وكنت أريده لنفسي.
فعندما حضرت معركة الجمل ورجعت وندمت قالت: أدفنوني مع أمهات المؤمنين، ادفنوني مع أخواتي من أزواج رسول الله عليه الصلاة والسلام في البقيع، فما صدر عني لا يصح أن أكون فيه معه رسول الله، قالت هذا لنفسها، وهي إنما فعلت ذلك اجتهاداً، وما أرادت إلا الخير، وما قصدت إلا الإصلاح، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، ولكنها عاقبت نفسها بأن منعت نفسها من أن تدفن مع رسول الله وصاحبيه.
فقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] أي: لا يخرجن إلا إلى المساجد أو إلى أمر يجب عليهن الخروج له، قال نبي الله عليه الصلاة والسلام: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ومع ذلك قال لهؤلاء الإماء: (صلاة المرأة في بيتها خير لها من الصلاة في المسجد، وصلاتها في مخدعها خير لها من صلاتها في بيتها)، ومع ذلك قد أذن لها بالصلاة في المسجد بشروط: قال عليه الصلاة والسلام: (فليخرجن تفلات) أي: غير متزينات ولا متبرجات ولا متعطرات، فإن كانت ستخرج إلى المسجد متزينة متبرجة كاشفة زينتها ففي هذه الحالة تحرم عليها الصلاة في المسجد، لما يصدر منها من التبرج، ولذلك لما قال الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] قال بعد ذلك: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] أي: أذن لهن بالخروج إلى الصلاة، لكن بلا تبرج، وإنما يخرجن تفلات غير متعطرات وغير متزينات وغير متبرجات، وأذن لهن في الخروج لصلة الرحم وللضرورة الماسة التي لا بد منها، أما الخروج إلى الأسواق والتلاعب في الشوارع وما نرى عليه عصرنا الفاسد فتلك الجاهلية الثانية.
فقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].
التبرج من الظهور، ومنه سمي البرج برجاً؛ لكونه متبرجاً ظاهراً بارزاً، والمرأة عندما تريد أن تظهر زينتها لرجل تبرز ذلك بزينة وعطر وكشف ما لا يجوز من محاسن ومن شعر ومن جيد أو أي شيء حرمه الله عليها.
قال: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] أي: الجاهلية التي قضى عليها الإسلام وجاء بعدها، ومنه سمي العصر عصر جاهلي والشعر شعر جاهلي، والعمل عمل جاهلي، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال لبعض أصحابه عندما قال لعبد: يا ابن السوداء قال: (إنك امرؤ فيك جاهليه) أي: عندما عيره بأمه ولونه، وما الفرق بين الأبيض والأسود وكل ذلك خلق الله؟ وكم من أسود هو أتقى وأشرف وأقرب إلى الله من كثير من البيض!(201/5)
تفسير سورة الأحزاب [32 - 34]
في سورة الأحزاب أفرد الله تعالى جزءاً عظيماً لمخاطبة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بما يجب عليهن من الآداب والأحكام، وما ينبغي أن يكن عليه من حفظ وتلاوة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتبليغهما، وأن يلازمن بيوتهن ولا يتبرجن.(202/1)
تفسير قوله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء)(202/2)
تأديب أمهات المؤمنين وذكر فضلهن
قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:32 - 33].
هذه آيات على نسق واحد في أمر أمهات المؤمنين رضوان الله عليهم بآداب وأخلاق تليق بأمثالهن؛ لأن الله سيجعلهن قدوة يقتدي بهن أمثالهن من النساء.
فالله جل جلاله هدد أمهات المؤمنين وأوعدهن إذا صنعن ما لا يليق بهن، ثم أمرهن بالأخلاق العالية وحضهن عليها فقال: (من يقنت منكن) أي: من تطع الله ورسوله وتعمل الصالحات نؤتها أجرها مرتين في الدنيا والآخرة، ونهيئ لها الرزق الكريم في الدنيا بحيث لا تتعب في ذلك، وفي الآخرة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
ثم إن الله رفع من شأنهن فقال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32] أي: أنتن أشرف النساء إطلاقاً، وأعلى النساء مقاماً، هذا إذا اتقيتن الله، وعملتن من الصالحات ما يليق بأمثالكن.
ثم قال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32].
أي: فلا تلن الكلام ولا ترققنه، ولا تتكسرن فيه، فيطمع ويرغب ويمني نفسه من في قلبه مرض من الفساق والفجار وأمراض القلوب، ولكن إذا تحدثتن فتحدثن بالقول المعروف الذي يرضي الله ورسوله، من أمر بمعروف ونهي عن منكر، بكلام هو إلى الخشونة أقرب، من غير تكسر ولا تغنج.(202/3)
تفسير قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)
ثم عاد فأمرهن بقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33].
أي: الزمن بيوتكن لا تكثرن خروجاً ولا دخولاً، فإن كان ولا بد من الخروج فإلى المساجد وأنتن تفلات غير متعطرات ولا متبرجات.
وقد أمر الله الرجال بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) أي: لا تمنعوا النساء إذا أردن الصلاة في المساجد، ومع ذلك قال لهن صلى الله عليه وسلم: (صلاتكن في مخدعكن أفضل لكن من صلاتكن في بيوتكن، وصلاتكن في بيوتكن أفضل لكن من صلاتكن في المساجد)، لكن إذا خرجن إلى الصلاة وأبين إلا ذلك فلا يخرجن وهن متعطرات، بل يخرجن تفلات بلا عطر ولا تبرج ولا إظهار زينة، {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].
إذاً: الزمن بيوتكن ولا تخرجن منها إلا لضرورة دينية أو دنيوية، فالضرورة الدينية مثل الخروج إلى المساجد، على أن يخرجن غير متبرجات ولا متعطرات ولا سافرات ولا متغنجات، أو يخرجن للحج على نفس الحال، أو خروجاً دنيوياً لصلة أرحامهن كالأب والأم ومن لا بد أن يزرنه من أقاربهن المحارم، لا يكون في هذا الخروج تبرج كتبرج الجاهلية.(202/4)
التبرج في القديم والحديث
قال الله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].
التبرج هو: إظهار النساء المحاسن، وخروجهن متبخترات، متعطرات، متكسرات في مشيتهن، فالله منعهن من ذلك، وحرم عليهن ذلك، وقال لهن: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].
وكما قال ابن عباس: (ما كانت جاهلية أولى حتى كانت جاهلية ثانية).
وقال قتادة بن دعامة السدوسي: (لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، والجاهلية الثانية ستأتي في آخر الزمان).
فما أصدق ابن عباس في فهمه وقد أوتي حسن التأويل، وما أصدق قتادة بن دعامة في فهمه كذلك لكتاب الله.
والجاهلية الأولى هي التي كانت قبل الإسلام، عندما كان النساء يخرجن متبرجات، متعطرات، مبرزات محاسنهن، متعرضات للرجال في ثياب هي إلى العري أقرب ويمشين في تكسر وميلان.
وهذه الجاهلية الأولى التي حرم الله على النساء أن يفعلنها عاد إليها النساء في زماننا هذا الفاسد، كما فسر ابن عباس وكما صرح قتادة بن دعامة، فلقد عادت النساء للخروج وهن متبرجات متكسرات متغنجات، مبرزات للمحاسن ساقاً وفخذاً وصدراً وظهراً وعنقاً وخداً وشعوراً، من غير خوف من الله ولا خشية من الناس، وهذا ما قد حرمه الله في كتابه على أمهات المؤمنين، وعلى غيرهن تبعاً لهن، فالأمر للنساء عموماً.
وقد روى مسلم في الصحيح، والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة وعن أبي سعيد الخدري قالا: قال عليه الصلاة والسلام: (صنفان من الناس لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف، يأتين أبواب المساجد على المياثر، لا يرحن ريح الجنة، وإن بينهن وبينها مائة عام، ورجال).
فقوله عليه الصلاة والسلام: (صنفان من الناس) أي: نوعان من الخلق أو فئتان: فئة من النساء لم يرهن بعد، وفئة من الرجال لم يرهم بعد، أي: لم يكونوا في عصره ولا زمانه، بل لم يكونوا بعد عصره بأكثر من ألف عام، إلى أن كانوا في عصرنا هذا، العصر اليهودي الفاسد الفاجر.
فقد وصف صلى الله عليه وسلم النساء بأنهن كاسيات عاريات، يلبسن ألبسة هي إلى العري أقرب، تظهر منها جميع محاسنهن، من ظهور وصدور وشعور وسوق، وتكاد تكون عارية، مع التكسر والتبختر والتعطر، وعرض أنفسهن على الرجال، فهؤلاء يخرجن في الشوارع وهن إلى العري أقرب، يلبسن على رءوسهن برانيط وقبعات، ويضعنها تارة على اليسار وتارة على اليمين، يملن على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف.
أسنمة: جمع سنام، كما يكون عادة سنام الجمال الهزيلة المائلة يميناً وشمالاً، وهي عادة ذات سنامين، يأتين على هذه الحالة إلى أبواب المساجد، مما يدل أنهن في الأصل محرمات.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن: (لا يرحن ريح الجنة) أي: لا يشممن لها ريحاً، مع أن ريحها يشم من مسيرة مائة سنة، فإذا كانت المرأة على هذه الحالة لم تقبل لها صلاة، ولا يقبل لها صيام، ولا يقبل لها حج ولا عبادة، ما لم تتخل عن هذه الفواحش والبلايا والمصائب، وقديماً قالت الحكمة: التخلية مقدمة على التحلية.
فبدل أن تذهب المرأة وتزف لزوجها وقد تعطرت ولبست الحلي والحلل، تذهب لتغسل بدنها وتتنظف، ثم بعد ذلك تزف.
وهكذا المؤمنة قبل أن تذهب للطاعة من صلاة وحج وصيام فلتتطهر من الأرجاس والأدناس والعري والتبرج، وما لا يليق بالمسلمات.(202/5)
حض أمهات المؤمنين وغيرهن على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
قال تعالى: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} [الأحزاب:33].
أمرهن الله كما أمر النساء عموماً بأن يقمن الصلاة، وإقامة الصلاة المحافظة عليها أوقاتاً وطهارة وحشمة وستر عورة، وواجبات وسنناً ومستحبات، وأن يقمن الصلوات الخمس في أوقاتهن في كل حياتهن، كذلك إن كان لكن ما تتصدقن به، وجوباً أو سنة نافلة فافعلن ذلك، وزكين أموالكن، وتصدقن على كل سائل ومحروم.
وقوله: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33] خصص ثم عمم جل جلالة، فأمر بالتزام البيوت، وأمر بالحياء والحشمة وعدم التبرج منهن، إلا أن يخرجن لزيارة رحم كأب أو أم أو لمسجد أو لحج بشرط ألا يتبرجن، وأمرهن بملازمة الصلاة بأركانها وواجباتها وسننها، وبأن يؤدين الزكاة الواجبة والنافلة، ثم عمم عموماً فقال: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33]، وطاعة الله طاعته في كتابه، وطاعته في طاعة رسوله، بأن يقمن بكل الأركان، من شهادتين، وصلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وأن يتركن كل حرام حرمه الله، وأن يقمن بكل واجب أوجبه الله، ما أمرن به فليفعلن منه ما استطعن، وما نهين عنه فلينتهين عنه ألبتة.
كذلك أمر الله أمهات المؤمنين بأن يطعن رسول الله في سنته، وفيما يأمرهن به كفاحاً ومواجهة، يطعنه في كل أمر ونهي؛ لأنهن سادات النساء، ولأنهن لسن كأحد من النساء.(202/6)
معنى الرجس الذي أذهبه الله عن أهل البيت
قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33].
(إنما) أداة حصر، أي: ما أمر الله به أمهات المؤمنين مما ذكر في الآيات السابقة، إنما أراد الله بها أن يطهر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الرجس، وهن من أهل البيت.
والرجس: هو السوء والشهوة، وهو عمل الشيطان، وهو كل ما نهى الله عنه ورسوله.
إذاً: الرجس كل سوء من النواهي، وكل شر من الأعمال، وكل أعمال الشيطان.
فقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} [الأحزاب:33] أي: ليذهب الشر والإثم والفاحشة والسوء وما لا يليق بكن يا أهل بيت رسول الله.
{وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] أي: أن تطهرن من السوء والفحشاء، ومن الذنوب والمعاصي.(202/7)
حقيقة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم
من هم آل البيت؟ الخطاب في الآية لأمهات المؤمنين، وهي صريحة بأن أمهات المؤمنين من آل بيت رسول الله.
وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33] أي: يا أهل البيت.
ولكن النبي عليه الصلاة والسلام عندما نزلت هذه الآية، فيما ترويه أم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين أم سلمة، وفيما يرويه أبو هريرة وأبو سعيد وزيد بن أرقم رضي الله عنهم وغيرهم كما في الصحاح والسنن، قالوا: (عندما نزلت هذه الآية الكريمة: نادى عليه الصلاة والسلام علياً وفاطمة والحسن والحسين، ثم أخذ كساء أسود كان يلبسه، وغشاهم به، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً).
فكان هذا الحديث زيادة بيان وتفسير وشرح لمعرفة آل البيت، فآل البيت هم في الدرجة الأولى بناته عليه الصلاة والسلام، ثم سلالته من فاطمة، ولم يكن له سلالة من غيرها.
وفي الحديث المتواتر الذي صححه أئمة الشام، والشاميون إذا صححوا حديثاً عن آل البيت وعن بني هاشم فعض عليه بالنواجذ، كما إذا صحح أهل الكوفة والعراق أحاديث في أبي بكر وعمر فتمسك بها؛ لأن الحديث الذي صح عادة بشهادة من اتهم في هؤلاء واتهم في هؤلاء يكون صحيحاً.
فعن زيد بن أرقم وعمر بن الخطاب وعن جماهير من الصحابة قالوا: عندما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع في اليوم السادس والعشرين من شهر ذي الحجة، وهو عائد للمدينة المنورة مع من معه من الحجاج أقام ونزل في الجحفة ودعا: الصلاة جامعة، فحضر من معه من الحجاج، فصلى بهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم وقف خطيباً بعد ذلك، فأشاد بـ علي بن أبي طالب وأشاد بآل بيته رضوان الله عليهم جميعاً، ثم قال: (علي مولاي، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وتركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي آل بيتي، ولن يختلفا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟!).
نص الإمام ابن كثير والإمام الذهبي والمزني وكلهم من الشام على تواتر هذا الحديث، وأنه كان في يوم مشهود عند غدير خم في الجحفة، وقد انجحفت وذهبت واندثرت، وهي أقرب ما يكون إلى ما يسمى اليوم رابغ.(202/8)
تفسير قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة)
قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34].
قال ربنا لأمهات المؤمنين: (واذكرن) إما من الذكر والتلاوة، وإما من التذكر والاعتبار، وإما أن يذكرن ذلك ويأمرن غيرهن بالمعروف، وينهين عن المنكر، وإما أن يذكرن نعمة الله عليهن بما أولاهن وأكرمهن به، وكل ذلك صالح في تفسير هذه الكلمة.
وقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:34].
أي: يا أمهات المؤمنين اذكرن الذي يتلى في بيوتكن ويقرأ من كتاب الله، ومن أوامر الله ونواهيه، ومن العقائد والقصص، من أخبار الأمم السابقة واللاحقة، ومن أخبار الآخرة جنة وناراً، ومن يوم الحساب والعقاب عندما يحيي الله الأمم ويعيد الرمم كما كانت عليه في الحياة الدنيا، وما يضمه القرآن وتجمعه دفتاه.
واذكرن ما يتلى كذلك في بيوتكن من الحكمة، والحكمة هي سنته صلى الله عليه وعلى آله، فالله يأمر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلن من هذا البيت الطاهر جامعة ومدرسة يتعلمن فيها ما يوحي الله به من كتابه الكريم على زوجهن عليه الصلاة والسلام، وما يتلى في بيوتهن من سنة رسول الله وحديثه وبيانه، ومن كتاب الله شرحاً وتفسيراً وبياناً، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فهو صلى الله عليه وسلم مكلف بالبيان والشرح والتفسير، مكلف بأن يبين للناس ما نزل إليهم من كتاب، ومن هنا يقول الإمام الشافعي: السنة كلها شرح وبيان لكتاب الله.
والسنة أجمع بياناً وتفسيراً للقرآن، ولا يسع أي مسلم فرداً كان أو جماعة، شعباً كان أو حكومة، إلا أن يلتزم بالقرآن دستوراً، وبالسنة قانوناً وشريعة وبياناً، ومن لم يفعل ذلك لا يكون مسلماً ألبتة.
كما أمر آل بيت النبوة بأن يتعلمن ويدرسن ويحفظن ما يتلى في بيت النبي عليه الصلاة والسلام، من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من كتابه الخالد الدائم، من كتابه المهيمن على الكتب السابقة، كذلك يتعلمن ويعين الحكمة والبيان من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن جمع بين الكتاب والسنة فقد جمع بين خيري الدنيا والآخرة، وجمع بين جميع العلوم والمعارف، علوم الشرع، وعلوم الأمر والنهي والحكم والإدارة والدولة، علوم الدنيا والآخرة، سعادة الدنيا والآخرة.
ومن هنا وجدنا نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين بين رواة السنة، فقد روينا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهي عالمة النساء التي كانت أعلم بكثير من الرجال، فلقد روينا عنها أكثر من ألفي حديث.
وكما كانت عالمة محدثة فقد كانت بليغة وخطيبة، وكانت فقيهة، فلقد استنبطت من كتاب الله ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لو سجل في صحائف وجمع لزاد على سفر ضخم، وفيه فقهها وفهمها واستنباطها واجتهادها، وهو ما أعمل له عملاً في جامعة الملك عبد العزيز في جمع فقه الصحابة ابتداءً من الخلفاء الراشدين إلى أمهات المؤمنين، وقد جمعت من فقهها ما يزيد على مجلد، وأطمع أن يكون ذلك في مجلدين.
قال ابن حزم: يمكن أن يجمع من فقه الصحابة سفر ضخم لكل واحد من سبعة، وسمى السبعة فقال: هم: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وأم المؤمنين عائشة.
فقد ذكر من فقه عائشة ما لو دون وسجل لخرج سفراً ضخماً، أي: مجلدات عديدة.
ونحن نعرف المراجع في ذلك، فلا نكاد نجد تفسيراً يعتني بالأحكام إلا نجد فيه فقه عائشة، وذلك ككتاب الجامع للقرطبي، وكتفسير ابن كثير، وكتفسير البغوي، وغيرهما من التفاسير التي تعتني بالأحكام، ونقلها عن مختلف الأئمة من صحابة وتابعين وأئمة مجتهدين.
ونقل الاستنباط في فقه القرآن والسنة عن أزيد من ثلاثمائة من الصحابة، رجالاً ونساءً، مهاجرين وأنصاراً، ورويت السنة والحديث عما يزيد عن عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفاً من الصحابة رضوان الله عليهم، ولكل واحد منهم ترجمة، وقد ترجم لهم على التوالي ابن عبد البر الإمام الأندلسي المالكي، في كتابه (الاستيعاب) في مجلدين، وقد طبع أكثر من مرة، وترجم لهم ابن الأثير الجزري في (أسد الغابة) وهو في خمسة أجزاء، وترجم لهم وهو آخر من ترجم في القرن التاسع الحافظ ابن حجر العسقلاني سيد الحفاظ، وإمام العلماء والمحدثين: إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام وذلك في كتابه (الإصابة) في أربع مجلدات ضخام، أوصل تراجمهم إلى اثني عشر ألف صحابي وزيادة، وذكر روايتهم، وأين توجد، وهو من أعظم كتب الإسلام، ومن أعظم كتب الحافظ رحمه الله وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.
إذاً: أمر الله أمهات المؤمنين أن يذكرن ويقرأن ويتعلمن ويعلمن ما يتلى في بيوتهن من كتاب الله، ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد امتثلن الأمر الإلهي والأمر النبوي، وتفاعلن معه وذكرن ودرسن وروين ذلك، فنحن منذ عصر النبوة إلى عصرنا هذا نرويه ويرويه معنا رفاقنا، كما رويناه عن شيوخنا، وهم عن شيوخهم، عن شيوخهم من مشارق الأرض ومغاربها، إلى الأئمة المجتهدين، إلى أتباع الصحابة، إلى الصحابة، إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى جبريل، إلى رب العزة جل جلاله وعلا مقامه.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34] أي: كان لطيفاً بكن، حيث أكرمكن بأن تكن من أزواج رسول الله سيد الخلق والبشر، سيد الجن والإنس والملائكة، حيث شرفكن وأعلى مقامكن، ولطف بكن فجعلكن أمهات المؤمنين، الراويات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شريعته الداخلية التي لا يراها سواكن، وهذا ما اختصصن به، فالرجال رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعماله خارج بيته، أما عندما يدخل بيته، وعندما ينام في بيته، وعندما يتهجد في بيته، وعندما يعامل زوجاته، وعندما يأمرهن وينهاهن، فمن الذي روى لنا السيرة العطرة الداخلية؟ رواها لنا أمهات المؤمنين، ومن هنا كان فضلهن على المسلمين كبيراً، وهن شيوخنا في الإسلام، شيوخنا في كتاب الله، شيوخنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.(202/9)
من أسرار تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وكثرتهن
من أسرار تعدد زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تسع وإلى ما ملكت أيمانه بغير عد ولا حصر يتبين مما يلي: كأن من عادة الرؤساء والقادة والزعماء قديماً وحديثاً أن يكون لهم وجه أمام الناس ووجه داخل بيوتهم، يكونون مزدوجي شخصية، ولا يليق هذا بنبي، بل ولا يليق بخاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليهم جميعاً، فكانت أمهات المؤمنين زيادة على كونهن زوجات للرسول صلى الله عليه وسلم وأمهات للمؤمنين، كن رقباء على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الداخلية، فعندما رويناها عنهن وجدنا النبي عليه الصلاة والسلام ظاهره كباطنه، ما يعلنه يبطنه، وما يبطنه يعلنه، هو في تقوى من الله، وطاعة لله، وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، أمام الناس في خارج بيته، وأمام نسائه في داخل بيته، في حضره وسفره، لم يتغير ظاهر عن باطن، ولم يتبدل باطن عن ظاهر، من الذي بلغنا ذلك، وما حكمة كون أمهات المؤمنين تسع نساء؟
الجواب
مهما كتمن عنه، ومهما سترن عنه فلا بد أن تقول واحدة أو اثنتان ما يمكن أن يعد عيباً أو نقصاً، ولكن العيب والنقص لا يوجد، فقد أكرم الله ظاهره كما أكرم باطنه، وكانت سيرته سيرة عطرة تصلح للأئمة المسلمين علماء وقادة ورؤساء.
ويجب أن تكون السيرة النبوية هي القدوة الحسنة لأئمة الاجتهاد، كما يجب أن تكون القدوة للأب وللأم وللولد وللسيدة وللخادم وللكل.
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان إماماً نعم الإمام، وكان زوجاً نعم الزوج، وكان أباً نعم الأب، وكان جداً نعم الجد، وكان براً رحيماً رءوفاً، وكان لطيفاً بأصحابه، حريصاً على هدايتهم، عزيزاً عليه خروجهم عن أمر الله وطاعة الله، حريصاً على أن يكونوا جميعاً مؤمنين، قال الله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3].
من الأدلة القاطعة والبراهين التي لا ينكرها عقل سليم أن النبي عليه الصلاة والسلام منذ ظهر في هذه البقاع المقدسة وهو يأمر الناس بأنه رسول الله المتكلم عن الله، المبلغ لرسالات الله، منذ أمر أن ينذر أقربائه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، إلى أن أمر أن يأمر الناس جميعاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، لمدة ثلاث وعشرين سنة إلى أن ذهب إلى الرفيق الأعلى، وهو عليه الصلاة والسلام في ليله ونهاره، في حضره وسفره، في حربه وسلمه، بين نسائه وأصحابه، بين أصدقائه وأعدائه، كان الإمام وكان النبي الذي لم يتغير ظاهره عن باطنه.
ومن هنا فحق أن يجعله الله مثالاً أعلى عندما يقول للمؤمنين: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، فهو القدوة والأسوة في أعمالنا الظاهرة وأعمالنا الباطنة، أعمالنا الأبوية، وأعمالنا الزوجية، وأعمالنا القضائية، وأعمالنا العسكرية، وأعمالنا الإخوانية، وأعمالنا مع الصديق والعدو.
هذا إذا أكرم المؤمن بأن يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوته الظاهرة والباطنة، وأن يجعله وحده صلى الله عليه وسلم الآمر الناهي، والمقتدى به في الحلال والحرام، في الآداب والأركان، وفي جميع أعمال الحياة إلى أن يلقى الله.(202/10)
تفسير سورة الأحزاب [35]
إذا ذكر الله المؤمنين في القرآن دخل المؤمنات فيهم بالتغليب، وقد صرح الله بذكرهن في كثير من الآيات الكريمة، وهنا يثني الله تعالى على المسلمين والمسلمات المتصفين بالأوصاف الحميدة اللائقة بهم.(203/1)
تفسير قوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات)(203/2)
سبب نزول قوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات)
قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35].
سبب نزول هذه الآية التي ذكر فيها النساء مع الرجال في كل فقرة: أن أمهات المؤمنين أم سلمة وعائشة وزينب بنت جحش والكثيرات من النساء الطاهرات من المهاجرات والأنصاريات جئن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن له: (يا رسول الله ما لنا لا نذكر مع الرجال في كتاب الله)، ألا خير فينا؟ ألا نصلح لشيء؟ مع أنهن ذكرن في عدة آيات، من ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} [النساء:124]؛ ولكن هؤلاء النساء تطلعن وتشوفن أن يذكرن في كتاب الله كما يُذكر الرجال، فنزلت هذه الآية الكريمة: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35].(203/3)
معنى قوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات)
قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35].
المسلم من أسلم وجهه لله جل جلاله، واستسلم لأمره ونهيه، واستسلم لقضائه.
والإسلام قد يعم الإيمان كما يعم الإيمان الإسلام، ولكن يذكر الإسلام في أعمال الجوارح الظاهرة، كما في حديث جبريل عندما جاء سائلاً رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام: (ما الإسلام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) إلى آخر الأركان، ثم سأله عن الإيمان؟ فقال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته).
فكان تعريف الإسلام أنه العمل بالجوارح الظاهرة، من نطق باللسان، وعمل بالأركان من صلاة وصيام وزكاة وحج، وهي كلها أعمال ظاهرة بارزة تُعمل بالأركان.
والإيمان: التصديق، وهو عمل القلب، ولا إسلام بلا إيمان ولا يتم إيمان إلا بالإسلام، فقد نافق أعراب وجاءوا نبي الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له: آمنا، {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] كانوا كذبة.
والمنافقون قالوا: أسلمنا باللسان، وجلسوا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحضروا معه الجمع والجماعات ولكن قلوبهم لم تكن موافقة لأركانهم، فالجنان لم يتفق مع اللسان، وإنما آمن اللسان وكفر الجنان، فكشفهم الله وفضحهم، ولذلك ذكر الله هنا المؤمن والمؤمنة والمسلم والمسلمة، وذكر الإسلام الذي هو عمل الأركان وعمل الحواس، وذكر الإيمان الذي هو عمل القلب؛ ليكون ذلك كاملاً تاماً.
فقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35].
أي: هؤلاء أسلموا بأن فعلوا الأعمال بالجوارح من يد ولسان وسمع ورجل وغير ذلك، ثم أكدوا ذلك بالإيمان والتصديق به، فكان الإسلام كاملاً وكان الإيمان كاملاً.
وقد يؤمن الإنسان ولا ينطق به، فالإيمان غيب من عمل القلب، كما أن من يظهر لنا الإسلام بذكر الشهادتين وبدخول المساجد وبالقيام بالأركان نقول له: قد آمنت حقاً، وإن لم يفعل ذلك نعتبره كاذباً، إلا إذا منع من القول بسبب خرس أو ما إلى ذلك، فالأخرس تكفي إشارته، وتكفي كتابته إن كان يكتب، ويعتبر معذوراً، فيكون مسلماً بالجوارح بما نراه من صلاة، وقد ورد في الحديث: (أن رجلاً نذر أن يعتق رقبة مؤمنة، فجاء إلى رسول الله بجارية فقال: يا رسول الله أتصح هذه أن أعتقها وقد نذرت أن أعتق مؤمنة؟ فسألها عليه الصلاة والسلام من أنا؟ قالت له: أنت رسول الله، فسألها النبي عليه الصلاة والسلام عن الله؟ فأشارت إلى السماء، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة)، فاكتفى منها بالإشارة، حيث أشارت بيدها إلى العلو، والله تعالى قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فاعتبر صلى الله عليه وسلم إشارتها إسلاماً كافياً في أن تُعتق، وأن يحقق هذا الذي نذر أن يعتق مسلمة، فكانت هذه مسلمة بالإشارة.(203/4)
معنى قوله تعالى: (والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات)
قال الله تعالى: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:35].
قال تعالى في الآية السابقة: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب:31] والقانتون هم الطائعون الله في كتابه، والطائعون النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، فمن أطاع الله في كتابه وأطاع نبيه في سنته وحكمته فهو من القانتين.
قال تعالى: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب:35].
أي: صدقوا الله عندما أسلموا وآمنوا، وصدقوا الله عقيدة وأعمالاً وإسلاماً، وصدقوا الله في كل ما يظهرونه، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) فالصدق سمة المؤمن ولا يليق بالمؤمن أن يكذب.
والكذب شيمة الكافر والمنافق: (علامة المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) فكان من صفة المنافق الكذب، ولا يزال يكذب حتى يكتب كذاباً.
وقد عُرف من الصحابة رضوان الله عليهم أنهم لا يكذبون، بل كان العرب في جاهليتهم قل ما يكذبون، وخاصة منهم قريش، فقد كان الرجل يفخر وهو في إسلامه أنه ما كذب في جاهلية ولا إسلام، فهذا عثمان عندما اتهمه خصومه وأعداؤه قال: (والله ما كذبت منذ عرفت الدنيا ولا مست يميني ذكري).
إذاً: صفة المؤمن الصدق.
(وقد سأل أبو ذر الغفاري رسول الله عليه الصلاة والسلام: أيزني المؤمن؟ أيسرق المؤمن؟ فكان يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38] أيكذب المؤمن؟ قال: لا) فالمؤمن ليس بمعصوم في الصفات التي لا تليق به، ولكن سرعان ما يتوب إذا وقع في الخطيئة، وسرعان ما يندم عما كان منه، ولكنه لا يكذب؛ لأن الكذب ذُل وهوان، وقد قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].(203/5)
معنى قوله تعالى: (والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات)
قال الله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} [الأحزاب:35].
أي: الصابرين على عمل الأوامر، وعلى ترك النواهي: الذين صبروا على الطاعات فقاموا بها صلاة، وصياماً، وزكاة، وحجاً، وجهاداً، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر.
وصبروا على ترك المنكرات فلم يفعلوها.
وصبروا على قضاء الله إن أصيبوا فاستسلموا لأمر الله.
فكانوا صابرين في الطاعة، صابرين عن المعصية، صابرين على قضاء الله وقدره.
قال الله تعالى: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} [الأحزاب:35].
أي: الذين خشعت حواسهم وأركانهم لله تعالى حال صلاتهم، وحال عبادتهم، وسكنت جوانحهم ونفوسهم واطمأنت ثقة بالله وبوحدانيته وقدرته، وخشعت حواسهم وآمنت من غير شك ولا ريب بصدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين، ما قال إلا صدقاً، وقد بلّغ ما أمره الله به، وكان الصادق في حديثه وفي رسالته وفي جميع أعماله.
فالخاشعون به خشعت له نفوسهم وحواسهم، وكانوا متواضعين لله غير متعاظمين ولا متعالين، ولا متكبرين على عباد الله مهما كان منصبهم وحالهم، فهم عبيد من عبيد الله، إن كانوا أغنياء فالغنى من الله، وإن كانوا علماء فالذي علمهم رسول الله، وإن كانوا ملوكاً ورؤساء فالملك لله والأمر لله يعز من يشاء ويذل من يشاء، والله هو ملك الملوك، وإن كانوا فقراء فليس ذلك بمسبة ولا بعيب، فهم مع ذلك مؤمنون سادة من سادات الخلق والبشر بإيمانهم وإسلامهم، فلم تقلق نفوسهم ولم تنزعج حواسهم.(203/6)
معنى قوله تعالى: (والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات)
قال تعالى: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} [الأحزاب:35].
هؤلاء الذين إذا أعطاهم الله يعطون الناس من مال الله الذي أعطاهم، فهم يتصدقون زكاة واجبة، ويتصدقون نفقة واجبة، ويتصدقون صدقة نافلة وكان من وصف المؤمن أنه لا يمنع السائل والمحروم {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19]، فهم ينفقون من المال على الزوجة والولد والوالدين إن كانا في حاجة إليه، وعلى الإخوة وأبناء العم والأعمام إن كانوا في حاجة إليه، ويعطون السائل والمحتاج والمحروم، ولا يبخلون بما آتاهم الله، وكما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا) وأشار إلى الجهات الست، أي: الذين كثرت أموالهم وجمعوا بعضه إلى بعض، فهؤلاء هلكوا إلا أن يصرفوا هذا المال في فضوله وزوائده في جميع الجهات، فيصرفونه في الأقارب، والسائلين، والمحرومين، وفي الزكاة الواجبة وزكاة الفطر، وصدقات التطوع؛ هكذا صفة المسلم.
قال تعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} [الأحزاب:35].
أي: الذين صاموا الفرض، صاموا شهر رمضان، وأمسكوا عن شهوات الفرج والبطن واللسان.
وصاموا النوافل صاموا الإثنين والخميس، وصاموا من كل شهر أيام البيض، وهي اليوم الثالث عشر واليوم الرابع عشر واليوم الخامس عشر.
ومن صام رمضان وصام ثلاثة أيام من كل شهر كتب في الصائمين والصائمات.(203/7)
معنى قوله تعالى: (والحافظين فروجهم والحافظات)
قال تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب:35].
أصل كلمة (فرج) الشق، وهي في الأصل كلمة قيلت تكنية عن قبل المرأة والرجل، ودبر المرأة والرجل، فكانت بذلك كناية فقط، ولكن مع كثرة الاستعمال نُسيت الكناية وأصبحت تعتبر تعريفاً أصلياً للعورتين والسوءتين.
وقوله: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب:35] معناه: أنهم يحفظون فروجهم عن الحرام، وكما وصفهم الله تعالى في غير ما سورة فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6] حفظ الرجال والنساء الفروج عن الحرام، أما على الزوجة والأمة فلا يلام الزوج في زوجته ولا يلام السيد في أمته، ولا تلام الزوجة في زوجها؛ ذاك شيء جعله الله سنة البشرية، سنة الأنبياء والرسل منذ أبينا الأول آدم إلى أبينا المباشر، وبذلك نشر الله تعالى خلقه وعباده من أبناء آدم وحواء، فتناسلوا وكثُرت الذرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.(203/8)
معنى قوله تعالى: (والذاكرين الله كثيراً والذاكرات)
قال الله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35].
الذكر يكون باللسان، بأن تقول: لا إله إلا الله، قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله).
والذكر يكون بالجنان والقلب، بأن تتذكر قدرة الله، وتتساءل في نفسك وأنت صامت: من الذي خلق هذه السماوات العلا؟ من الذي خلق هذه الأراضي جبالاً ووهاداً وبحاراً، أشجاراً وغابات وصحاري؟ فتجد نفسك تقول: الإنسان والملائكة والجن مخلوقون لا يستطيعون، فتقول في نفسك: الخالق هو الله المستحق للعبادة.
هذا هو الذكر بالجنان والذكر باللسان.
ويشمل الذكر جميع وأنواع العبادات، فالمصلي ذاكر، والصائم ذاكر، والحاج ذاكر، والطائف ذاكر، والمزكي ذاكر، ذكر أمر الله في عبادته فامتثل أمره وقام بها، ففعل الطاعة ذكر، وترك المنكرات ذكر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا قام الرجل ليلاً أو قامت المرأة ليلاً فأيقظ أحدهما الآخر فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين والذاكرات).
قال تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35].
هؤلاء المجموعة من النساء والرجال من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات إلى آخره، أعد الله لهم مغفرة لذنوبهم، وأجراً عظيماً يوم القيامة بدخول الجنان التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.(203/9)
تفسير سورة الأحزاب [36 - 37]
إذا قضى الله ورسوله أمراً فالواجب على المؤمنين أن يلتزموه ويعملوا به ولا يخالفوا فيه ولا يختاروا، وقد وقع ما وقع في قضية زواج سيدنا زيد بن حارثة بزينب بنت جحش رضي الله عنها، حيث انتهى الأمر بطلاقها منه وزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(204/1)
تفسير قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].
قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب:36].
أي: لا ينبغي ولا يليق بأي مؤمن وأي مؤمنة إذا قضى الله في كتابه قضاءً وأمر أمراً ونهى نهياً، وإذا قضى رسوله أمراً أو نهياً، {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
أي: لا خيرة لأحد في أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
فلا يليق ولا ينبغي بكل مؤمن ومؤمنة أن يكون لهم اختيار في جميع أمورهم؛ فالأمر أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يخالف ذلك ويخرج عنه فما جزاؤه؟ قال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].
أي: من خرج عن أمر الله فأحل حراماً أو حرم حلالاً، أو زاد شيئاً في شرع الله، أو حاول أن يحذف شيئاً من شرع الله، بأن يلغي قوانين الإسلام ويعمل بقوانين الكفر، بحجة أن قانون الإسلام قد كان يصلح زماناً قد مضى، وهو اليوم لم يعد يصلح؛ لأنه يخالف الحضارة والعصر والزمن، فإن من فعل ذلك يكون كافراً عاصياً لله وعاصياً لرسول الله، وضالاً عن الحق ضلالاً مبيناً بيناً واضحاً، لا يخفى على ذي فطرة سليمة، ولا يخفى على مؤمن.
وقد يفعل ذلك معصية لا تحدياً فيكون مع ذلك ضالاً فاسقاً، يعني: لا يزال مسلماً مع الفسق والضلال والجهالة البينة.
فهذه الآية الكريمة تعم كل المؤمنين والمؤمنات في العصر النبوي، وما جاء بعد العصر النبوي وإلى عصرنا وإلى يوم القيامة، فكل من حاول أن يخرج عن أمر الله وأمر رسوله، وأن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له، ضارباً بخيرة الله عرض الحائط، كان ضالاً ضلالاً بيناً ظاهراً، وعاصياً لله ولرسوله.
وقرئ في القراءت السبع: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب:36] بالتاء لا بالياء، وهي هكذا ينبغي أن تكون لو لم يفصل بين تكون وبين الخيرة بكلمة، أما إذا فصلت بكلمة فصح أن يقول: (أن يكون لهم الخيرة) وقرئ: (الخيْرَة)، والكل بمعنى واحد.(204/2)
سبب نزول قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً)
سبب نزول هذه الآية الكريمة ما يروى في السنن وغيرها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب يخطب زينب بنت جحش الأسدية بنت عمته، فقالت: حباً وكرامة ونعما، فقال: ليس لي ولكن لمولاي زيد بن حارثة، فقالت هي: ألم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنة عمته الحسيبة النسيبة القرشية إلا مولى، وقال أخوها مثل ذلك، فنزل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب:36]) الآية.
يعني: ليس لمؤمن وليس لمؤمنة ولا ينبغي ولا يليق أن يكون لهم مع أمر الله اختياراً، فعندما نزلت الآية قالت: (سمعاً وطاعة لرسول الله، فليزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن شاء).
وقالوا: بعد أن طلقت زينب منه أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوجه عقيلة من عقائل قريش، فتلك أسدية قرشية ابنة سيد العرب قبل الإسلام من قبل أمها عبد المطلب، وهذه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت من السابقات للإسلام، وأول مهاجرة من مكة إلى المدينة، وكان أبوها عدو الله وعدو رسول الله عليه الصلاة والسلام، وطالما آذاه وألب الناس عليه، خرج أبوها مع الكفار لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة بدر فوقع أسيراً، فكان ممن قتله صلى الله عليه وسلم صبراً، فعندما قال: (لمن تترك الصبية يا محمد؟ قال: للنار)، وكان لـ عقبة صبية فأراد أن يرحمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، ونسي خبثه وسبابه وشتائمه وتحريضه على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعندما خطب النبي صلى الله عليه وسلم أم كلثوم بنت عقبة قالت: إن كان لك فنعم؟ ووهبت نفسها من قبل للنبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (أريد أن أنكحك مولاي زيداً، قالت: ألم تجد من تزوجني إياه إلا عبدك؟ فنزلت هذه الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فقالت: بلى رضيت يا رسول الله).
وقيل في ذلك سبب آخر: وهو أن أحد الصحابة واسمه جليبيب كان إلى الحاجة وإلى المسكنة أقرب، فخطب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كريمة من كرائم الأنصار، فقالت أمها وقال أهلها: رضينا يا رسول الله، فقال: ليس لي ولكن لـ جليبيب، فقالت الأم للأب: أتزوج ابنتنا لـ جليبيب وقد رددنا فلاناً وفلاناً من كرام القوم وكبارهم؟ وإذا بالبنت المخطوبة تسمع هذا وكانت في خدرها فنادت أمها وأباها وقالت: أتردان على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً، زوجوني لمن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يضيعني ما دامت الخيرة من رسول الله في جليبيب فتزوجت به، فما هو إلا زمن حتى حضرت غزوة من الغزوات، فخرج جليبيب مجاهداً مقاتلاً، واستشهد جليبيب وفي نهاية المعركة قال نبي الله عليه الصلاة والسلام: ابحثوا من افتقدتم؟ فقالوا: فلاناً وفلاناً وفلاناً، قال: ولكنني لا أرى جليبيباً ابحثوا عنه بين القتلى، فوجدوه، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يترحم عليه ويضعه بين ساعديه حتى جهزوا له قبراً فدفنه بيديه الشريفتين صلى الله عليه وسلم، بلا غسل ولا صلاة شأن شهداء المعركة.
الشهداء تشهدهم الملائكة ويتولون أمرهم عن البشر، فدعا النبي عليه الصلاة والسلام لزوجته: أن يصب عليها المال صباً، وأن يودها الناس ويخطبوها، وإذا بشباب الأنصار والمهاجرين يتسابقون ويتبارون أيهم تكون من حصته ومن نصيبه، فتزوجت شاباً كريماً ذا وجاهة وكفاية وغنىً، وعاشت في رغد من العيش، كما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها اختارت أمر الله ورسوله.
إذاً: كانت هذه الأمور الثلاثة سبباً لنزول هذه الآية الكريمة، وذلك للعلم فقط، وإلا فالآية تعم السابق واللاحق إلى يوم القيامة، فإذا اختار الله أمراً واختار رسوله أمراً فلا يليق ولا ينبغي ولا يجوز لأي مؤمن ومؤمنة أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يفعل ويقدم خيرته ورأيه على أمر الله وأمر رسوله يكون عاصياً لله وعاصياً لرسوله، ويكون قد ضل الطريق السوي ضلالاً ظاهراً بيناً واضحاً.(204/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك)
قال الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب:37].
هذه الآية الكريمة أشير لها في أول سورة الأحزاب، وهنا بينت ووضحت وذكر فيها اسم زيد بن حارثة مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعاتب الله نبيه على أن أخفى شيئاً أخبره الله به، وسيكون بعد ذلك ظاهراً وواضحاً.(204/4)
إبطال التبني في الإسلام
يقول تعالى لنبيه: (وإذا تقول للذي أنعم الله عليه) أي: أنعم الله عليه بالإسلام فخرج من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهداية.
وقوله: (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) أي: أنعمت عليه بالحرية والعتق بعد أن كان عبداً رقيقاً.
وذلك أن رسول عليه الصلاة والسلام عندما تزوج خديجة أم المؤمنين رضوان الله عليها، كان زيد بن حارثة طفلاً رقيقاً لديها، وعندما رآه النبي عليه الصلاة والسلام أعجب بذكائه وفطنته وطاعته ومحبته لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فوهبته خديجة لزوجها عليه الصلاة والسلام قبل الإسلام.
وكان زيد بن حارثة عربياً أخذ أسيراً في إحدى الغزوات، وبيع في أسواق مكة، وإذا بأبيه في يوم من الأيام يأتي ومعه عمه يبحثان عن ولدهما في أسواق وقرى ومدن وصحاري الجزيرة، إلى أن رآه أبوه وعمه وألقي في روعهما أنه ولدهما، فوقفا عليه يسألانه: من أنت يا غلام؟ قال: أنا زيد، فقالا: من أبوك؟ قال: حارثة، قالا: عند من أنت؟ قال: عند محمد بن عبد المطلب، قالا: أرقيق أنت أم حر؟ قال: بل رقيق.
قال أبوه: أنا أبوك وهذا عمك، وضماه إليه يقبلانه ويشمانه شأن الوالد الذي يفارق ولده لسنوات ويصبح عبداً رقيقاً.
وذهبا معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا ابن عبد المطلب تكرم علينا أكرمك الله هذا ولدنا، طالما بكت أمه عليه، وطالما حزنا عليه، ونحن الآن وجدناه عندك، وأنت بالخيار بين أن تأخذ ثمنه بما تريد وبين أن تعتقه لله، قال: سلوه إن اختاركم فهو لكم، وإذا بهما يجزمان بأنه لا يترك أباه وعمه ويبقى رقيقاً عند مولاه، فقالا له ذلك، فقال: لا أختار على مولاي محمد أحداً، فعجبا واستغربا وقالا: أتفضل الرق والعبودية على الحرية وعلى أبويك؟! قال: نعم إذا كان مولاي هو محمد فأنا أفضل ذلك.
وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يجازيه ويشكره على ذلك فقال: اشهدوا بأني أرثه ويرثني، وأنه من اليوم ابني، فأصبح يقال له: زيد بن محمد، وأصبح يعرف بابن محمد عليه الصلاة والسلام، وكانت العادة في المتبنى أن يكون كابن الصلب في كل شيء.
في الإرث يرث أباه المتبني، ويرثه أبوه المتبني، ويكون واحداً من الأسرة كالابن من الصلب.
والتبني من عادات وتقاليد العرب كلها، وهذا العمل عادت إليه شعوب ودول من المسلمين، فعصوا أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ضالين ضلالاً مبيناً.
والرسول صلى الله عليه وسلم إنما فعله قبل النبوة والرسالة على عادة قومه، فرسول الله وخاتم الرسل والأنبياء تبني زيداً، وإذا بالله يريد أن يبطل هذه العادة على أنها زور من القول، وعلى أنها لا أصل لها ولا حقيقة ولا صحة، فأراد الله جل جلاله أن يجعل النبي عليه الصلاة والسلام هو أول من يبطل هذا التبني، لا بالقول فقط، بل بالفعل، فيطلق زيد زوجته ويتزوجها رسول الله عليه الصلاة والسلام كأرملة مطلقة لرجل أجنبي لا صلة له به ولا محرمية لا من نسب ولا من صهر.
وكان هذا الأمر شديداً على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأخبر الله النبي عليه الصلاة والسلام أن زيد بن حارثة سيطلق زوجته زينب بنت جحش وستتزوجها بعده؛ ليكون هذا الزواج هو الإبطال العملي للتبني؛ لأن كل متبنى ليس ولداً حقيقاً، وإنما الولد هو ولد الصلب.
أما غير ذلك فلا حكم له وهو مردود.
فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما أخبر بذلك من الله جل جلاله عظم عليه الأمر، وعلم بأن المنافقين والكفار سيكثرون فيه القالة والطعن والشتيمة، سيقولون: طمع في زوجة ولده حتى طلقها له وأخذها هو، فقال الله له: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37].
وزينب بنت جحش عندما تزوجت زيد بن حارثة تزوجته تزوج الحر للرقيق، فكانت تتعالى عليه وتتعاظم عليه، وكانت تعتبر نفسها من أعلى الدرجات، لقربها من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن زيداً ليس إلا رقيقاً ومولى أعتق بعد ذلك، وهو على كل حال مولى بعد عتقه، كما هو معلوم.
فكانت تشتم زيداً وتطيل لسانها عليه، وكانت تهرب من فراشه، فكان زيد يأتي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ويشتكيها إليه؛ لأنه هو الذي زوجه بها، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول له: (أمسك عليك زوجك) لا تطلقها (واتق الله) فيها فالنساء هكذا.
وكان يسأله: هل رابك منها شيء؟ فقال: معاذ الله يا رسول الله، هي في منتهى الدين، ومنتهى التقوى والصلاح، ولكنني لم أصبر على لسانها وتعاليها وتعاظمها علي.
مع أن زيداً كان ذا شأن كبير، ولعله أفضل عند رسول الله وأحب منها، كان يقال له: حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: محبوب رسول الله، وكان يقال عن ولده أسامة بن زيد: الحب بن الحب، وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرجة العليا، كما في الصحاح عن النبي عليه الصلاة والسلام أن علياً والعباس سألاه فقالا: (يا رسول الله من أحب أهلك إليك؟ قال: فاطمة، قالا: لسنا نقصد فاطمة، من أحب أهلك إليك من الرجال؟ فقال: أسامة).
قال هذا لعمه العباس ولصهره زوج ابنته وأبي أولاده الحسن والحسين، وقاله لمن انفرد من الصحابة بكرم الله وجهه؛ حيث لم يسجد لصنم قط، هذه كانت رتبة زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى عندما ارتفعت البنوة وسمي باسمه زيد بن حارثة كان ذا مكانة خاصة عند رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعندما ولد له ولده أسامة كان يضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو طفل على فخذه ويمسح أنفه ويقول لـ عائشة وهي ترى ذلك: (لو كان أسامة بنتاً لقرطتها ولقلدتها) أي: لجعلت لها قلادة ولجعلت لها أقراطاً.
إذاً: كانت زينب بنت جحش تتعالى على زيد بن حارثة وتشتمه، كانت تفر من فراشه، فكان يأتي ويشتكي منها لرسول الله عليه الصلاة والسلام فيقول له: (أمسك عليك زوجك لا تطلقها، واتق الله فيها) فعاتب الله نبيه لما قال لمولاه ذلك وهو يعلم بأن الله أخبره بأن زيداً سيطلقها، أي: فدعه يطلقها وأنت ستتزوجها بعده، فلم تقول هذا لشيء تعلمه من قبل؟! وقوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37].
أي: تخفي في نفسك يا محمد ما الله مبديه، أخفى أن زيد بن حارثة سيطلق زينب بنت جحش ويتزوجها بعده، وأن هذا تنزيل الله وسيكشفه وسيعلنه؛ ليكون رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة لكل من تبنى ولداً؛ ليزول أثر التبني بالقول واللسان، ويبقى الولد هو ولد الصلب وما سوى ذلك فباطل.
أما أبوة الاحترام فلا كلام عليها هنا؛ لأننا ذكرنا أن ابن عباس وزيد بن ثابت قرأا وتليا الآية الكريمة: ((وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم))، فهذه الأبوة أبوة احترام وتعظيم من قبل المسلمين، وأبوة علو ورحمة وعناية ورعاية من قبل رسول الله عليه الصلاة والسلام للمؤمنين، لا الأبوة التي هي للولد من الصلب.
كذلك أمومة أمهات المؤمنين للمسلمين ليست كأمومة الأم من الرحم، ولكنها أمومة احترام تقدير، الأمومة التي بها يحرم زواجهن بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام من الرجال، ومع ذلك حرم الله جل جلاله على المؤمنين رؤيتهن إلا للمحارم المباشرين، بل وحرم عليهن أن يتكلمن وهن من وراء حجاب بلين وتكسر في الصوت كما ذكرنا.
والذي نفاه الله هنا هي الأبوة الحقيقية من النبي عليه الصلاة والسلام لـ زيد، وترك أثرها ومردودها، وذلك بأن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بعد طلاق زيد لها، فقال سبحانه: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37]، أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالحرية وبالمحبة وبالدلال: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37]، تخفي الزواج بها بعد طلاقه، والله سيبدي ذلك ويظهره: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]، تخاف الناس وتستحي من الناس، والله أحق أن تستحيي منه وأن تخافه وتخشاه وهو الآمر لك.
قالت عائشة: (لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخفياً شيئاً من القرآن لأخفى هذه الآية)، فالله عاتب نبيه وأنبه بأنك تخشى الناس في إعلان أنك ستتزوج مطلقة زيد الذي زعمت أنه ابنك يوماً وليس كذلك، والله مظهر ذلك ومبديه، وأنت تخشى عشيرتك وقومك وتخاف أعداءك المنافقين أن يقولوا عنك: تزوجت امرأة ولدك، ورغبت في الزواج بامرأة ولدك، هذه الخشية لا محل لها، كان يجب أن تخشى الله الذي أمرك بفعل ذلك، كان يجب أن تخاف الله وتستحيي منه، هذه كانت صورة نازلة وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام كما أخبر عن نفسه قال: (إني لأخشاكم إلى الله، وأكثركم خوفاً منه)، ولكن هذا من باب العتاب والعناية به صلى الله عليه وسلم.
جاءني مرة رجل يطرق بابي وأنا في الساعة الثانية ليلاً وهو يبكي والقرآن بيده ويقول لي عن مثل هذه الآية وعن أمثالها: لقد أكثر الله على نبينا، فقلت له: اسكت يا فضولي، اتق الله في دينك، ألا تقولون في أمثالكم الشامية الدارجة: (ضرب الحبيب زبيب) أي: أن الحبيب مهما ضرب حبيبه بحجر فلن يكون ذلك(204/5)
إبطال الروايات الإسرائيلية في معنى قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه)
هناك خزعبلات وأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان، هي إسرائيليات رويت عن اليهود، والقصد منها التعرض لمقام النبوة وشتم النبي عليه الصلاة والسلام، كعادتهم مع أنبيائهم عندما حرفوا التوراة وحرفوا الإنجيل فملئوهما شتائم وقذفاً في رسلهم، بما لا يفعله المؤمن منا أبداً؛ لأن الأنبياء عندنا مقدسون محترمون، ومن يسب نبياً فهو كمن سب جميع الأنبياء، وجزاؤه القتل، وقد يوصله ذلك إلى الكفر والردة.
وذكر ذلك في غير ما تفسير على عادة الكثيرين من المفسرين، ولكن العالم المفسر المربي يجب أن يختار مما يرويه من الكتب وما يهمله، لقد قال عليه الصلاة والسلام: (ناقل الكذب أحد الكاذبين)، وقال عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع).
فكثيراً ما نسمع ضلالات وقذفاً في صالحين، كما حدث ممن قذف عائشة أكرمها الله وبرأها من فوق سبع سماوات فجلدوا حد القذف، وهؤلاء قالوا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولولا أني أعلم أن هذا ذكر في الكثير من التفاسير لما ذكرته، ولعل بعضكم سمعه أو اطلع عليه فكان لا بد هنا من نفيه النفي القاطع؛ قالوا: طرق النبي عليه الصلاة والسلام باب زيد، وإذا به يرى زوجه زينب فكبرت في صدره، وقال: سبحان الله مقلب القلوب.
وزعموا أن زينب سمعت ذلك وشعرت بأنها ملأت قلب النبي عليه الصلاة والسلام، وجاء زيد فبلغته، وإذا بـ زيد يصرف النظر عنها ويأتي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ويقول: أريد فراقها، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أمسك عليك زوجك واتق الله)، وكان بعد ذلك أن طلقها زيد وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا كذب يكذبه سياق الآية ويكذبه الواقع النبوي؛ لأنه لو أراد نبي الله عليه الصلاة والسلام أن يتزوجها لتزوجها من قبل، فهي ابنة عمته وكانت ترغب فيه، وهي عندما طلبها لمولاه امتنعت كما امتنع أهلها، فما الحاجة بأن يتزوجها زيد ليطلقها بعد ذلك ويتزوجها هو عليه الصلاة والسلام؟! كان يعرفها قبل أن يعرفها زيد أو أن يسمع بها.
وقول الله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37]، ما الذي أبداه الله؟ أبدى الزواج بها، {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37]، هل زوجناكها لحبك ولغرامك ولرؤيتك لها؟ {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب:37]، أي: السبب في ذلك لكي يزول هذا الحكم الباطل، وهذه البنوة الباطلة، وهذا الأثر الذي لا يكفي فيه القول، بل لا بد من العمل والتمثيل، وكان لا بد أن يكون هذا من النبي الأسوة الأعظم عليه الصلاة والسلام؛ ليأتسي به أتباعه والمؤمنون من أنصاره والمهاجرين.
فقوله: ((ما الله مبديه))، الذي أبداه الله هو الزواج بها ولم يبد سوى ذلك.
{وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]، ما الذي خشي واستحيا منه؟ هو الزواج بها؛ لا أنه رآها ولا أنها عظمت في عينه ولا أنه كذا وسياق الآية من البداية إلى النهاية هذا معناه، وهو الذي يتناسب مع المقام النبوي من العصمة النبوية وجلالة رسول الله عليه الصلاة والسلام وتقواه.(204/6)
تفسير سورة الأحزاب [40 - 46]
سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن أباً لأحد من الرجال، وقد أبطل تبنيه لزيد بن حارثة قولاً وفعلاً حين تزوج زينب بنت جحش التي كانت زوجة لزيد، والله تعالى يأمر المؤمنين أن يكثروا من ذكره وتسبيحه، فإن الذكر زاد القلوب والأرواح، وبه يستحق العبد أن يذكره الله ويصلي عليه هو وملائكته.(205/1)
تفسير قوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم)
قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40].
بعد أن أبطل الله تعالى التبني الذي كان قبل الإسلام وكان ممن فعله رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأبطله بالقول وأبطله بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5]، وقال: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5].
والله جل جلاله أمر نبينا عليه الصلاة والسلام بعد أن أبطل بنوة زيد، وطلق زوجته أن يتزوج زينب؛ لكي يكون إبطال البنوة أمراً إلهياً عملياً، فكان عملاً نبوياً.
فأكد الله ذلك في هذه الآية الكريمة فقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40].
أي: لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم أباً لأحد من الرجال، فلم يكن أباً لـ زيد ولا لغير زيد من الرجال، وإنما كان أباً لمثل القاسم والطيب، والطاهر، والحسن، والحسين وكانوا جميعاً أطفالاً، فالثلاثة الأولاد الذين من صلب النبي صلى الله عليه وسلم: القاسم، والطيب، والطاهر ماتوا أطفالاً فلم يبلغوا الحلم؛ أما والداه الحسن والحسين فهما ولدا بنته وهما سبطاه، فقد قال عن الحسن: (إن ابني هذا سيد) ولكن مع ذلك مات عليه الصلاة والسلام وهما صغيران، وإنما كبرا بعد ذلك.
وإنما نفى في عصر زيد وفي الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية أن يكون أباً لرجل، والآية من سورة الأحزاب التي لا نزال ندرسها وهي سورة مدنية، وغزوة الأحزاب التي كانت مناط هذه السورة كانت في السنة الخامسة من الهجرة، أي: نزلت هذه السورة الكريمة في السنة الخامسة من الهجرة.
والنبي عليه الصلاة والسلام مات في بداية السنة الحادية عشرة من الهجرة، فكان الحسن والحسين لا يزالان في الطفولة لم يصلا حد المراهقة.
فلم يكن محمد صلى الله عليه وسلم أباً لـ زيد، هذا هو المقصود من الآية، وأن زيداً يدعى لأبيه، فإن لم تعلموا أباه فادعوه بالأخوة الإسلامية، وبأنه مولى الإسلام، وهكذا كان سالم الذي تبناه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة لا يعرف له أب.
فعندما أبطلت البنوة قيل عنه: سالم مولى أبي حذيفة ودعي زيد بن حارثة باسم أبيه؛ لأنه كان معروفاً، فأصبح يعرف بـ زيد بن حارثة.
قوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40].
ولكنه كان منذ أرسل ونادى في هذه البطاح المقدسة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة هو رسول الله وخاتم رسله وأنبيائه أرسل للناس كافة عربها وعجمها، من عاصروه ومن سيأتون بعده وإلى يوم القيامة.(205/2)
نهاية كل من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم
إن كون النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، أي: طبع فكان خاتمهم، لا نبي بعده، وإذا نفى الله النبوة فقد انتفت الرسالة؛ لأن كل رسول نبي وليس العكس.
والنبي من أوحي إليه بالشرع ولم يؤمر بتبليغه.
والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بالتبليغ، وهو لن يكون رسولاً حتى يكون نبياً، فإذا انتفت النبوة الخاتمة عن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى ختمت الرسالة كذلك به، فلا نبي ولا رسول.
هذا مما أجمع عليه المسلمون ولم يتنازع فيه مسلمان، ومن خرج عنه كان كافراً مرتداً حلال الدم، فمن العقيدة الرئيسية التي يجب أن يؤمن بها كل مسلم وكل إنسان أراد الدخول في الإسلام أن محمداً رسول الله أن يشهد أنه خاتم الأنبياء والرسل، وكل من ادعى النبوة بعده أو الرسالة بعده فهو ضال مضل كاذب فاجر كافر حلال الدم.
وقد ادعى مسيلمة الكذاب النبوة في الحياة النبوية، وكذبه حاله وسيرته وأضاليله وأباطيله، ثم قضي عليه أيام خلافة أبي بكر، وادعى الأسود العنسي النبوة قبل الوفاة النبوية فقاتله أهل اليمن فهلك كافراً.
ومن المعجزات التي شهدناها بعد مرور ألف وأربعمائة عام على الإسلام أنه لم يدع النبوة أحد خلال هذه القرون الأربعة عشر، ومن ادعاها كذبته حاله، وأتى بسخيف من القول والعمل، وعلم الحاضر والغائب من أتى بعده بأنه ضال مضل، ومن ذلك منذ ثمانين سنة في بداية هذا القرن ادعى دجال هندي الذي سمى نفسه غلام أحمد أي: عبد أحمد، فكان عبد الشيطان وكان عبد الإنجليز وكان جاسوساً خبيثاً لعيناً، ادعى أولاً أنه مجدد، ثم ادعى بعد ذلك أنه نبي، ثم ادعى بعد ذلك الألوهية، ووضع لنفسه خزعبلات وكلاماً مضحكاً سخيفاً سماه قرآنه وكتابه، ومع ذلك وجد من الناس قلة آمنت به ولا تزال، ولم يوجد إمام حاكم في الهند يؤدبه وأتباعه، فيفصل جسده عن رأسه هو وكل من آمن به واعتقد نبوته.
وفعلت دولتنا هنا حسناً عندما منعت هؤلاء الأخباث القاديانيين بقرار من رابطة العالم الإسلامي كما يمنع الكفار من الدخول لمكة والمدينة، وكانوا قبل يأتون ويزعمون الإسلام ويحجون، وهم ليس لهم دين ولا حج ولا صلاة، وإنما هم كفرة ودجالون ضالون.
وفي هذه القرون الأربعة عشر كل من ادعى فيها النبوة وهم قلة معدودة على الأصابع كشفوا وافتضحوا في حياتهم؛ لأنهم كذبة فجرة، فكان عليه الصلاة والسلام هو النبي الخاتم والرسول الخاتم، وهذا مما علم من الدين بالضرورة، وكل من اعتقد خلاف ذلك يعتبر كافراً مرتداً حلال الدم، هذا نص القرآن ونص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تجاوزت حد التواتر عن جماهير من الأصحاب رضوان الله عليهم، وكمل ذلك وأتمه إجماع المسلمين بجميع فرقهم على ذلك، من عهد الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى يومنا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فعن أنس بن مالك، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة الدوسي وعن جماهير من الصحابة قالوا: قال عليه الصلاة والسلام: (إنما مثلي ومثل الأنبياء قبلي كقصور بنيت فأتم بانوها بناءها وأحسنوا وأتقنوا، إلا موضع لبنة، فدخل الناس ينظرون في هذه القصور، فقالوا: ما أجملها وما أتقنها إلا مكان هذه اللبنة، قال عليه الصلاة والسلام: فكنت أنا تلك اللبنة).
فبه تم الأنبياء وختم المرسلون، وأرسل النبي عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب وأبا موسى الأشعري أميرين على اليمن وقال لهما: (بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا، فإني أرسلت مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله وخاتم النبيين).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا نبي بعدي ولا رسول).
وقال عليه الصلاة والسلام: (إني لخاتم الأنبياء عند الله وآدم لا يزال منجدلاً في طينته)، أي: كان في علم الله الأزلي أن محمداً سيظهر وهو آخر الأنبياء والرسل، وآدم لم ينفخ فيه الروح، بل كان لا يزال هيكلاً من تراب مطروحاً على الأرض، بقي مدة أربعين عاماً قبل أن ينفخ الله فيه من روحه، وقبل أن يقول له: كن بشراً فكان، ونبوة النبي عليه الصلاة والسلام خاتمة ورسالته خاتمة، وهذا معلوم من الدين بالضرورة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (خصصت بصفة، كان الناس قبلي يبعثون إلى أقوامهم خاصة وأرسلت إلى الناس عامة، وكنت خاتم الأنبياء والمرسلين) وهذه الخصائص النبوية قد تجاوزت المائتين جمعها الإمام السيوطي في كتابه (الخصائص) في مجلدين.
فقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] أي: لا رسول إلا بعد أن يكون نبياً، فكونه لا نبي بعده أي: لا رسول كذلك، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً؛ لأن النبي قد يكون كلف بشرع وأوحي إليه به ولم يؤمر بالتبليغ، كإسحاق ابن إبراهيم أبي النبي وأبي الأنبياء وأبي العرب عليه وعليهم جميعاً صلاة الله وسلامه.
فكان إسماعيل وهو جد النبي الأعلى نبياً رسولاً، وكان إسحاق نبياً فقط ولم يؤمر بالتبليغ، وهو جد أنبياء بني إسرائيل، أما إبراهيم الذي حاول أحفاد القردة والخنازير أن ينتسبوا إليه، ويقولون عنه: قال لنا وقال عنا وأمر بنا.
وقد قال الله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران:67]، {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] وشريعتنا تعتبر تجديداً لشريعة إبراهيم في الأصل وفي السماحة وفي اليسر، مع ما كلف الله به خاتم أنبيائه من تمامها، لتصلح لكل عربي وعجمي من عاصره ومن أتى بعده وإلى يوم القيامة.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40] أي: كان الله عليماً بمحمد قبل أن يخلقه، وبآدم قبل أن يصنعه، وبالناس برهم وفاجرهم، كان الله جل جلاله عليماً بكل شيء، الخالق لكل شيء، المعلم لرسله ولأنبيائه ما يهدون به أنفسهم وأتباعهم من المؤمنين الموحدين.(205/3)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41].
هذه الآية كالآية السابقة في تعداد المؤمنين والمؤمنات وصفاتهم الصالحة نساء ورجالاً، في ذلك النسق المتسلسل الذي ختمه الله في تلك الآية المطولة بقوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35]، وهنا دعا الله المؤمنين وناداهم، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41]، أي: يا من آمن بالله الواحد وآمن بمحمد خاتم النبيين، {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41].
وذكر الله يكون باللسان والجنان والأركان، فالصلاة ذكر والصيام ذكر، والحج ذكر، والتفكر والاعتبار بالقلب ذكر، والنطق باللسان ذكر، وهكذا الذكر يكون بكل خلايا الإنسان وبكل حواسه قال عبد الله بن عباس حبر الأمة رضي الله عنهما: إن الله أمر أوامره فجعل لها حدوداً وأوقات، أمر بالحج وحدد له زمناً، وأمر بالصيام وحدد له وقتاً، وأمر بالصلاة وحدد لها أوقاتاً، إلا الذكر فلم يحد له حداً، قال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103]، أي: اذكروا الله براً وبحراً، واذكروا الله حضراً وسفراً، واذكروا الله في اليقظة وعند النوم، واذكروا الله في الصحة والمرض، واذكروا الله عند الغنى والفقر، واذكروا الله تعالى في الكبر والصغر وفي جميع الأحوال.
فلم يحد له زمناً ولا وقتاً ولا عذر لتاركه، لكن عذر المصلي فأذن له إن عجز أن يصلي جالساً، الحاج إن لم يجد زاداً وراحلة فعذره في تأجيل الحج، وعذر الفطر في الصيام للمريض والحائض والنفساء على أن يؤجلوا ذلك ويرجئوه، أما الذكر لم يعذر فيه أحد إلا من غاب عقله، وإلا فمن عجز باللسان ذكر الله بالقلب، ومن عجز في وقت من الأوقات فالأوقات كثيرة في الحضر والسفر، وعلى ذلك فالذكر يكون في جميع الأحوال.
وتذكر السيرة النبوية العطرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله في جميع أحواله، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اذكر الله حتى يقال إنك مجنون) أي: اذكر الله في نفسك واذكر الله في الملأ، واذكر الله سراً وجهراً.(205/4)
تفسير قوله تعالى: (وسبحوه بكرة وأصيلاً)
قال تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:42].
أمرنا الله بذكره وبتسبيحه وبتمجيده وبتعظيمه في جميع الأحوال، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
وقال عليه الصلاة والسلام: (ألا أعلمكم بخير أموركم، وأرفعها عند ربكم، وأعلاها درجة في آخرتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تضربوا رقاب أعدائكم وأن يضربوكم؟ قالوا: بلى! قال: ذكر الله).
والقتال فيه ذكر الله كذلك؛ لأن المقاتل يقاتل وهو ذاكر، ويبذل حياته رخيصة إعلاء لكلمة الله، ودفاعاً عن المسلمين وعن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان.
وقال نبي الله عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن ستشتد حسرته يوم القيامة عندما ينسى ويترك ذكر الله في مجلس)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وفي الحديث القدسي: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه).
والمسلم إذا ذكر الله متدارساً كتابه وسنة نبيه بينه وبين إخوانه المسلمين يذكره الله في ملأ خير منه، يذكره بين الملائكة ومع الملائكة.
وذكر الله عبادة دائمة لا تحتاج إلى قبلة، ولا تحتاج إلى وضوء، ولا تحتاج إلى زمن، ولا يعجز عن ذلك مريض ولا مسافر ولا شيخ هرم ولا رجل ولا امرأة.
وقد كتب وخصص المؤلفات في الأذكار الإمام النسائي والإمام العمري والكثير منها مطبوع، وأجمعها وأكملها وأشملها كتاب (الأذكار) للإمام النووي.
فقوله: {ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41]، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أيقظ الرجل أو الزوجة أحدهما الآخر ليلاً فصليا ركعتين من الليل كتبا عند الله من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).
قال الله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:42].
التسبيح: هو التعظيم والتمجيد والذكر بصفة عامة، أي: اذكروا الله يا أيها المؤمنون! ومجدوه وعظموه ونزهوه عن المثلية في الذات والصفة والأفعال، وسبحوه صباحاً ومساء، وقالوا: يشمل الصباح صلاة الصبح إلى صلاة الظهر، والمساء من الظهر إلى العصر إلى المغرب إلى العشاء، وكل من صلى هذه الصلوات في أوقاتها بأركانها وواجباتها وسننها يكون قد ذكر الله كثيراً، ولكن الذكر لا وقت له كما قاله ابن عباس، والصلوات تنتهي بأوقاتها، ولا تعاد الصلوات إلا لحاجة أو ضرورة.
والذكر يشمل جميع أنواع العبادات، يشمل الذكر: لا إله إلا الله، والله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
فقوله: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:42]، الأصيل: العشي مفرد آصال، والبكرة بداية اليوم، وكما في الحديث (بورك لأمتي في بكورها) جمع بكرة.
والبركة في البكور والصباح وقت العبادة ووقت الذكر إلى شروق الشمس، فصلاة الضحى، ثم بعد ذلك يذهب كل إلى عمله، سواء كان يدوياً أو فكرياً أو أي شيء كان هذا العمل، وقد يكون العمل إذا كان لله ذكراً؛ لأن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قد حضا على العمل الصالح، فالعمل الصالح هو ما صحبته نية صالحة، حتى إن سائلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أيأتي أحدنا شهوته فيكون له بذلك أجر؟ قال له النبي عليه الصلاة والسلام: أرأيت لو وضعها في حرام هل يكون عليه وزر؟ قال: نعم، فقال عليه الصلاة والسلام: كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر).
وإذا صحبت النية المباحات تتحول إلى عبادات، فمن أكل ليقوى على ذكر الله، ومن سافر ليعتبر ويتفكر في خلق الله في مشارق الأرض ومغاربها يكون ذاكراً لله، وهكذا قل عن جميع أنواع العبادات.(205/5)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته)
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43].
أي: اذكروا الذكر الكثير وكونوا مؤمنين، مسلمين، صادقين، صابرين، خاشعين، متصدقين، حافظين لفروجكم، ذاكرين الله كثيراً، وكل ذلك للرجال والنساء كما مضى.
فإذا كنتم من الذاكرين الله كثيراً، والمسبحين لله بكرة وأصيلاً، فإنه ينشأ عن ذلك أن يصلي عليكم الله جل جلاله، وأن تصلي عليكم ملائكة الله عليهم سلام الله.
وصلاة الله على عبده ذكره والثناء عليه بين ملائكته، كما في الحديث السابق: (من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) أي: أثنيت عليه وأشدت بذكره عند الملائكة.
وقيل: الصلاة على العبد الرحمة.
والمعنى واحد، فمن ذكره الله رحمه، ومن رحمه ذكره ولم ينسه، وأي درجة وأي مقام أسمى وأعظم للعبد المؤمن من أن يذكره الله ويثني عليه وأن يرحمه.
وصلاة الملائكة الدعاء والاستغفار للمؤمنين، فالملائكة تستغفر ربها أن يغفر للمؤمنين وأن يعفو عنهم، وأن يرضى عليهم، وأن يرحمهم، وأن يدخلهم الجنان، وأن يبتعد بهم عن النيران، فهذا جزاء الله ومكافأته لكل من أكثر من ذكره صباح مساء، ولكل من ذكره كثيراً في سره وعلانيته مع الناس ووحده، وفي الصحة والمرض، وفي الحضر والسفر، وفي البراري والأجواء والبحار، وفي كل الأحوال، كما كان عليه الصلاة والسلام يذكر الله على كل أحواله.
وقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب:43].
ما صلى الله على عبد إلا ورحمه وأثنى عليه، وإذا رحمه وأثنى عليه أخرجه من ظلمات الكفر والجهل والشرك والشك والريب والضياع إلى نور التوحيد والإسلام والهداية، وإلى نور الحكمة والموعظة والاقتداء برسول الله خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43].
كان رحيماً بمن آمن به إلهاً واحداً رازقاً لا ثاني له في ذات ولا صفات ولا أفعال، ورحيماً بمن آمن بأنبيائه جميعاً وبنبيه وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا رحم الله العبد أخرجه من الظلمات إلى النور وأدخله الجنان، وغفر ذنوبه ورفع درجاته، والله جل جلاله أرحم بعباده من الوالد بولده، ولذلك أسرت امرأة في غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا بهذه المرأة يراها النبي عليه الصلاة والسلام والأصحاب رضوان الله عليهم ومعها رضيع تأخذه وتضمه إلى صدرها وترضعه وهي وجلة عليه خائفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه تلقي وليدها في النار؟ قالوا: لا، قال: لله أرحم بعباده المؤمنين من هذه بولدها)، والحبيب لا يعذب حبيبه.
إذا رحم الله عبداً أحبه، إذا صلى عليه وأشاد بذكره عند ملائكته فقد أحبه، إذا استغفرت الملائكة للمؤمن فقد أحبته، ومن أحبه الله رحمه، ومن أحبه لا يدخله النار، زعم اليهود والنصارى كما قال ربنا في كتابه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، قال الله لنبيه: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18].
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الحبيب لا يعذب حبيبه)، أي: لو كانوا أبناءه لكانوا أحبابه، ولو كانوا مؤمنين لأحبهم ولو أحبهم لما عذبهم، ولكنهم في العذاب خالدون، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].(205/6)
تفسير قوله تعالى: (تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجراً كريماً)
قال الله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:44].
قوله: (تحيتهم) الضمير يعود للمؤمنين المذكورين في الآية السابقة، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] أي: تحية الله للمؤمنين يوم يدخلون الجنان سلام، يقول الله لهم: (سلام) أي: لكم السلام من الغضب ومن العذاب، ومن الخروج من الجنة ألبتة.
وقد فسر البعض قوله: (سلام) أي: تحية بعضهم لبعض سلام، ولكن الله تعالى قد أعاد هذا المعنى في سورة (يس) فقال: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، فالسلام من الله والسلام هو الله، وقد سلم سبحانه في الدنيا فيما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم على السيدة الأولى أم المؤمنين خديجة رضوان الله عليها، فقال لها رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن ربك ليبلغك السلام، ويبشرك بقصر في الجنة)، فكانت خديجة عارفة بالله، كيف لا وهي تربية بيت النبوة، وأم أولاد النبوة، والزوجة الأولى لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فردت السلام فقالت: هو السلام وإليه السلام ومنه السلام.
فلم تقل كما يقول الناس لبعضهم: وعليكم السلام؛ لأن السلام اسم من أسماء الله، فهو السلام جل جلاله ومنه السلام، هو الذي يسلم عباده الصالحين من العذاب والخلود في النيران.
وقوله: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:44].
أي: أعد للمؤمنين يوم القيامة أجراً كريماً، والأجر هو الثواب والمكافأة والجزاء الكريم، وهو الخلود في الجنة أبداً، ولهم فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، هذه المعاني الكريمة الإلهية والنبوية هي التي استحقت أن توصف بكريمة من الله في كتابه: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:44].(205/7)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب:45 - 46].
ها نحن نرى باستمرار أن الله لا ينادي خاتم أنبيائه إلا بلقب من نبي أو رسول، وعجيب أمر بعض الناس ممن لم يتأدبوا بأدب القرآن مع النبوة، فتجدهم يسمون النبي عليه الصلاة والسلام محمداً دون صلاة ودون سلام، ودون تلقيبه بالنبوة والرسالة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46].
هذه صفات من صفات النبي صلى الله عليه وسلم وأسماء من أسمائه صلى الله عليه وآله، وأسماؤه كثر فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح: (أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي محا الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي لا نبي بعدي) أي: الذي يعقب الأنبياء، فهو خاتمهم، فلا نبي ولا رسول بعده.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب:45]، يخاطب الله نبيه بأنه أرسله للناس شاهداً يشهد عليهم بالتوحيد إذا آمنوا، ويشهد عليهم بالكفر والمعصية إذا عصوا وكفروا، فجعله الله شهيداً عليهم في الخير والشر.
وقد أدى الرسالة كما أمره ربه، وفي حجة الوداع أشهد الحجاج وهم مائة وعشرون ألفاً فقال: (هل بلغت؟ هل بلغت؟ فيقولون: اللهم نعم، فيشير بسبابته إلى السماء: اللهم اشهد ثم يشير بها على من شهدوا بذلك).
وقوله: ((وَمُبَشِّرًا)) أي: يبشر المؤمنين بالجنة وبالرضا وبالرحمة.
وقوله: ((وَنَذِيرًا)) متوعداً بالنار لمن عصاه وكفر به وأشرك، وهو البشير النذير المبشر بالجنة للمؤمنين، والنذير بالنار للكافرين، والشاهد عليهم بالخير والشر.
قال تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]، أي: داعياً يدعو الخلق إلى عبادة الله وتوحيده وطاعته، وإلى العمل بما أمر، وإلى ترك ما نهى عنه، يدعو إلى طاعة الله وطاعة نفسه صلى الله عليه وسلم، فطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله.(205/8)
تفسير سورة الأحزاب [49]
شرع الله للمؤمنين إذا تزوجوا ثم طلقوا قبل الدخول أنه لا عدة على المرأة، وعلى الزوج أن يمتعها ويسرحها سراحاً جميلاً.(206/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49].
هذه الآية وما بعدها من سورة الأحزاب هي سلسلة على نسق واحد في أحكام النكاح والزواج لعموم المؤمنين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وآداب الأسرة والحفلات، والأدب مع رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:49].
النكاح جاء في لغة العرب بمعنى العقد وبمعنى الوطء وبمعناهما معاً، وجاء في القرآن بمعنى العقد والوطء مشتركين، وفي هذه الآية جاء صراحة بمعنى العقد فقط، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:49] أي: إذا عقدتم عليهن بدليل قوله بعد: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] فهو طلاق قبل الوطء فيبقى معنى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ} [الأحزاب:49] أي: إذا عقدتم على المؤمنات عقد زواج وعقد نكاح.
وذكر المؤمنات على الغالب، ويدخل فيها الكتابية الذمية التي هي تحت ذمة المسلمين وأحكامهم، ويخطئ من يفهم أن الكتابية المباح زواجها للمسلم هي الحربية التي ليست تحت حكم المسلمين ولا ذمتهم، فالكتابية من يهودية ونصرانية أُذن للمسلم الزواج بها وهي تحت ذمة المسلمين وأحكامهم، قال هذا ابن عمر، وقاله الواقع الذي يحرص على أن يكون أولاد المسلم مسلمين.
ونرى في عصرنا الكثير ممن أباح لنفسه الزواج بهؤلاء وكلهن حربيات، وكلهن لسن تحت الذمة ولا تحت أحكام المسلمين فيعرِّض أولاده للتهود والتنصر، وما أكثر ذلك في بقاع الأرض، تجد المسلم مسلماً وأولاده يعلِّقون الصلبان في أعناقهم ويذهبون للكنائس مع أمهم، ولا يجد قانوناً يحميه ولا بلداً يدافع عنه ويؤازره، وتلك المرأة بصلتها بدولتها وسلطانها تتسلط على زوجها المسلم.(206/2)
حكم طلاق غير المدخول بها
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49].
أي: يا أيها الذين آمنوا اعلموا أن هذا حكم من أحكام الله: وهو أن زوجاتكم اللاتي عقدتم عليهن ثم بدا لكم طلاقهن قبل المساس وقبل الجماع وقبل الدخول بهن فليس لكم حق في أن يعتددن لكم؛ لأن العدة في الأصل بالنسبة للمطلقة هي للاستبراء، من أن يكون في رحمها ماء للزوج المطلِّق، ولا يجوز أن يلتقي ماءان في رحم مسلمة، بل في رحم امرأة مزوجة مطلقاً، وبما أن هذه لم يدخل بها ولم توطأ فالماء لم يصل من زوجها المطلِّق الذي لم يمسها، فلا معنى إذاً للاعتداد، والعدة تكون للمطلقة ثلاثة قروء، أي: ثلاث حيضات؛ ليطمئن على أنها ليس في بطنها ورحمها جنين لهذا المطلِّق، إلا ما كان ممن مات عنها قبل أن يدخل بها، فعدة من مات عنها زوجها ليست للاستبراء بل هي حداد وحزن على الزوج الميت فرضه الله تعالى على الزوجة، وحرمه على غيرها أكثر من ثلاثة أيام، ولو كان الميت أباً أو أماً.
إذاً: المرأة التي تطلّق قبل الدخول بها وبعد العقد لا عدة عليها من الطلاق، فبإمكانها بمجرد الطلاق أن تتزوج بمن يرغب فيها وبمن شاءت، هذا أمر الله وحكمه في المطلقات قبل المساس بهن.
قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف رضي الله عنهم من صحابة وتابعين: بأن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح.
وهو مذهب الإمام الشافعي ومذهب الإمام أحمد بن حنبل وهو مذهب الجماهير قبلهم وبعدهم.
وبعض الناس تجده يقول: إذا تزوجت فلانة فهي طالق، والبعض يقول: إذا تزوج من المدينة الفلانية فكل زوجة يتزوجها منها فهي طالق، والبعض يتجاوز الحد ويقول: كل امرأة يتزوجها فهي طالق، فالآية الكريمة صريحة بأنه لا طلاق إلا بعد نكاح، فإذا لم يكن هناك عقد فلا طلاق، وقد بين ذلك نبي الله عليه الصلاة والسلام ورويناه عن ثلاثة من الصحابة كما في مسند الإمام أحمد وفي سنن أبي داود وفي سنن الترمذي وسنن ابن ماجة عن المسور بن مخرمة وعن علي بن أبي طالب وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لا طلاق لمن لم تملك، لا طلاق إلا بعد نكاح).
فكان النص صريحاً في كتاب الله وفي حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع هذا وجد قلة من الأئمة ومنهم الإمام أبو حنيفة والإمام مالك قالا: من قال: إن فلانة وعينها إذا تزوجها أو عقد عليها فهي طالق، أو المدينة الفلانية أو الأسرة أو العشيرة إن تزوج منها فهي طالق! وزاد أبو حنيفة فقال: من قال: كل امرأة يتزوجها فهي طالق؛ لا يحل له النكاح ولا يجوز بعد ذلك أبداً، فهو قد طلّق كل نساء العالمين قبل الدخول بإحداهن.
وقال مالك: إن طلّق فأطلق ولم يعين مدينة أو عشيرة أو واحدة بعينها فالطلاق عبث لا أثر له، وذلك مبني على قاعدة أصولية عنده وعند غيره من الأئمة وهي: أن الأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق.
فإذا ضيّق على نفسه وقال: كل امرأة يتزوجها فهي طالق فهذا الضيق ينتهي إلى سعة؛ لأنه حرّم ما أحل الله ولا يحل له ذلك، والزواج فرض عند الكثيرين من الأئمة لمن استطاعه بدناً، أما المال فيقول تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] فليس الفقر عذراً لعدم الزواج.
قالوا: فإذا اتسع الأمر ضاق، فإذا قال: إذا عقد على فلانة فهي طالق، أو العشيرة أو القبيلة أو البلدة إن نكح منها فكل من ينكحها منها فهي طالق؛ هذا يكون قد وسّع على نفسه؛ لأن النساء غير من سمى كثيرات، والعشائر والأسر والقبائل والمدن غير من سمى كثيرة، فهو قد وسّع على نفسه، فضاق الأمر عليه من جهة واتسع من أخرى.
ولكن مع كل هذا فالآية صريحة، والأحاديث صريحة وقد صححها الأئمة الحفاظ ووردت عن ثلاثة من الأصحاب عن الخليفة الراشد علي وعن المسور بن مخرمة وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه لا طلاق فيما لا يملك العقد، ولا طلاق إلا بعد نكاح) وهذا مذهب جماهير السلف من صحابة وتابعين.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] أي: من قبل الوطء والجماع، {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] وهذا إجماع.
قال تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49]، قال الجمهور: متعوهن إذا لم يفرض لهن مهر، فإن فرض فلها نصفه وعليها أن ترد نصفه، قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237] يعني: إذا كان هناك فرض أو أداء لمهر قبل الدخول وطُلِّقت فلها نصف المهر وعليها أن ترد النصف، وإن كانت فوضت أمرها لهذا الذي تزوجها، فبعد الدخول عليه أن يعطيها مهر أمثالها، فإن أرجأته فلا بد أن يكون ذلك بعد موته ولا أجل بعد ذلك، ويدخل في الدين، وإن كان قد ذُكر لها المهر فلها النصف إن طلقها قبل الدخول بها، فإذا لم يذكر لها مهر فتمتع على الموسع قدره وعلى المقتر قدره حسب غنى الزوج وفقره، ويمتعها بمال، وقد طلّق النبي صلى الله عليه وسلم امرأة هي أميمة بنت شراحيل قبل أن يدخل بها، وقد تأبت عندما دخل عليها ودعاها للمجيء إليه فقالت: الأمراء لا يأتون للسوقة، فطلقها وقال: (الحقي بأهلك) وأمتعها بثوبين زارقيين؛ لأنها لم يفرض لها مهر.
وهناك قلة من الفقهاء يوجبون المتعة مع المهر قبل المساس وبعد المساس، سواء طُلِّقت بعد الدخول، أو طُلِّقت قبل الدخول، سواء أخذت مهراً أو لم تأخذ، فمع نصف المهر لمن لم تمس، ومع المهر لمن دُخل بها، لا بد عند الطلاق من متعة هي عوض عن الطلاق، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، قالوا: حتى في هذه الآية إن ذُكر لها مهر فلها نصفه ولها مع ذلك متعة الطلاق، فمتعة الطلاق شيء زائد عن مهر الزواج والعقد.
وقوله: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49] السراح الجميل: هو الطلاق بلا كلمة مؤذية ولا صخب ولا نزاع ولا مرافعات للمحاكم، {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] والإحسان أن تأخذ حقها كاملاً من مهر ومتعة أو من نصف مهر أو جميعه.(206/3)
تفسير سورة الأحزاب [50 - 51]
امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فأحل له أن يتزوج من بنات العمومة والخئولة، واختصه بأن أجاز له زواج الهبة رغم أنه لم يفعله، وأباح له الزواج من غير حد بأربع، ويسر له سبحانه أموره.(207/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن)
قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:50].
هذه الآية الكريمة هي أحكام متتابعة متعلقة بنبي الله عليه الصلاة والسلام، وكما أنه رسول إلى الناس كافة فهو مرسل إلى نفسه كذلك، فما أمره الله أمراً خاصاً فعليه أن يقوم به، وإذا لم يذكر في الأمر أو النهي على أنه خاص به كما ذُكر في هذه الآية الطويلة، فكل الأوامر والنواهي تشمله عليه الصلاة والسلام كما تشمل المؤمنين من أتباعه.
فقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50].
أي: أحل الله له من النساء من آتاهن مهورهن وصدقاتهن، هذا نوع وفئة من زوجات النبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوج كما يتزوج المؤمنون بمهر وولي وبشاهدي عدل، {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50] أي: من دخل بهن ومن يرغب فيهن بعد، وقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام ثلاث عشرة زوجة، اجتمع عنده منهن تسع، وماتت إحداهن، وطُلِّقت إحداهن قبل الدخول، وواحدة من الأصل ذُكرت ثم تركها، عُرضت عليه فقبلها النبي عليه الصلاة والسلام، فأخذت أمها تثني على جمالها وعلى كمالها وعلى صحتها وقوتها إلى أن قالت: لم تصرع قط ولم تمرض قط، فقال لها: (لا حاجة لي فيها) فالمؤمن يُشاك شوكة ويمرض ويكون ذلك كفارة له، والذي ليس كذلك قد يكون ذلك استدراجاً كما يستدرج الكفار والمنافقون، ويجمع الله له العذاب إما في أخريات أيامه عند الموت أو يوم القيامة.
وكان عنده من القرشيات ست: خديجة أم المؤمنين الأولى، وعائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة، وأم سلمة وكان عنده زينب بنت جحش الأسدية بنت عمته.
وأخذ من أسرى خيبر صفية بنت حيي بن أخطب فأعتقها وجعل عتقها صداقها، وجاءت أمة كان ملكها في الأسرى وهي جويرية بنت الحارث المصطلقية الخزاعية فكاتبت مالكها ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه أو ابن عم له فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أو خير من ذلك أُؤدي عنكِ كتابتك وأتزوجكِ؟ قالت: نعم).
وهؤلاء كان مهرهن ما يعادل خمسمائة درهم، أي: ما يعادل أربعمائة ريال تزيد قليلاً، إلا أم حبيبة فأنكحه إياها النجاشي ملك الحبشة وأصدقها عن نبي الله عليه الصلاة والسلام أربعمائة دينار، وجويرية وصفية أعتقهما صلى الله عليه وسلم وكانتا أمتين، وجعل عتقهما صداقهما.
وكان له من الإماء مارية القبطية وريحانة وغيرهما.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50] أي: مهورهن وصدقاتهن.
{وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب:50] كما أحل الله له ملك اليمين، وهن الإماء والجواري اللاتي يؤخذن نتيجة معركة ظفر فيها المسلمون وأخذوا النساء جواري وإماء، بعد موافقة رئيس الدولة الإمام.
وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم مع نبوته إمام المسلمين ورئيس دولتهم، وقائد جيشهم، والحاكم لمحاكمهم، والمعيّن والعازل لموظفيهم، ولكنه يسمى بأحب الأسماء إليه وأشرفها، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] أي: لا نناديه إلا نبي الله ورسول الله، وإذا ذكرناه لا نذكره إلا ونصلي عليه: (البخيل من ذكرت عنده ولم يصل عليَّ) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
فقوله: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب:50].
ملك اليمين كلمة تقال في التملك، وإلا فهي ملك لليمين ولليسار وللشخص كله، لكن جرت العادة أن يقال لغة: فلان ملك بيمينه كذا، وعقد بيمينه على كذا، والقرآن نزل بلغة العرب.
{مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب:50].
أي: مما أعاده الله إليك، والفيء: هو العودة والإعادة، ومعناه أن الله جعل الكون يوم خلقه للمؤمنين الموحدين، فإن خرج بعض ذلك عن أيديهم فلمعصية أو خلاف منهم، فإذا عادوا إلى الله وقاتلوا وانتصروا فما يعود لهم من أرض وعقار وأموال وإماء وجوار فذلك قد عاد إلى أصله وعاد إلى المؤمنين.
ثم قال ربنا: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} [الأحزاب:50].
أي: أباح له الله جل جلاله أن يتزوج من شاء من بنات عمه وبنات عماته، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يتزوج من بنات عمه المباشر الملاصق، ويقال لكل كبير من العشيرة: عم، ولكل كبيرة منها: عمّة، أي: قد أبحنا لك زواج القرشيات، فبنات عمه قرشيات وبنات عماته قرشيات، فأذن الله له أن يتزوج من هذه الفئة من القرشيات من بنات العم وبنات العمة.
ثم قال ربنا: {وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب:50].
أي: كما قد أذن له في بنات العم وبنات العمّة، أذن له في بنات الخال وبنات الخالة، وأمه آمنة كانت من بني زهرة بن عبد مناف، فيكون قد أباح الله له أن يتزوج من بنات خاله وخالاته من بنات زهرة بن عبد مناف، وهن قرشيات.
فقيّد الله كل ذلك بقوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب:50] وفسّر بعض المفسّرين ذلك بالمسلمات، أي: لا يحل لك أن تتزوج من هؤلاء إلا مسلمة موحدة؛ لقوله تعالى: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب:50] ولا تهاجر معه إلا من أسلمت، أما من بقيت على كفرها فهي لم تهاجر، ومن يقبل هجرتها؟ فتفسير ذلك بالإسلام اللازم للهجرة على أن المعنى أعم من ذلك؛ لأن بعض المضطهدات من بنات عمه وبنات عمّاته، وبنات خاله وبنات خالاته، بقين في مكة، وفي هذه الحالة لم يأذن الله له ولم يحل له الزواج بهن؛ لأنه قيّد ذلك بالهجرة معه، فإذا لم يهاجرن معه فهن محرمات عليه، وكان هذا عندما كانت مكة لا تزال دار كفر، أما بعد أن فتحت وأصبحت دار إسلام فهذا الشرط قد سقط بطبيعة الحال؛ لأنها أصبحت دار إسلام وسكانها مسلمون، وأرجئوا قبل ذلك أربعة أشهر ثم فر وهرب منها من هرب وأسلم الباقون.
ومن خصائص مكة ومسلميها أنه لم يكن فيهم منافق لا ذكر ولا أنثى، وإن كان فيهم بعد الإسلام الطلقاء الذين قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام يوم الفتح: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) فسمح لهم وعفا عن ذنوبهم فأصبحوا من ساعتها يقال عنهم: الطلقاء، ولم يكن فيهم منافق ولكن فيهم المؤلفة قلوبهم الذين لم يدخل الإسلام ويتمكن من القلوب، وبقي هذا زمناً ثم حسن إسلام الكل.(207/2)
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم قبول الواهبة نفسها له بدون ولي ولا شهود
قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50].
كما أحل له بنات العم وبنات العمة، وبنات الخال وبنات الخالة إن هاجرن معه، وما ملكت يمينه بلا حد، أباح له خاصة دون غيره من الناس -وهذا من خصائصه- امرأة مؤمنة وموحدة مسلمة.
{إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50] أي: جاءت تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أهبك نفسي.
{إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا} [الأحزاب:50] السين والتاء للطلب، أي: إن وافق وقبل الزواج بها والعقد عليها، ولذلك هناك شرطان في هذا: الشرط الأول: أن تكون مؤمنة.
الشرط الثاني: إذا وافق.
إذا لم تكن مؤمنة فلا تحل له وإذا لم يقبلها لا يجبر ويكره عليها.
قوله: {خَالِصَةً} [الأحزاب:50] أي: حالة كون هذه الواهبة نفسها خالصة لك من دون المؤمنين، فللنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج من وهبت نفسها له بلا مهر ولا ولي ولا شهود.
أما المؤمنون فلا بد من مهر قليلاً كان أو كثيراً، ولا بد من ولي يعقد عليها، ولا بد من شاهدي عدل؛ ومن هنا كانت الخصوصية أن تهب نفسها حال كونها مؤمنة، وحال كون النبي عليه الصلاة والسلام قد أراد ذلك، وفي حال الموافقة والإيمان لا حاجة لمهر ولا لموافقة ولي ولا حاجة لشهود عدول.
(كان النبي عليه الصلاة والسلام في مجلسه فجاءته امرأة وقالت له: يا رسول الله إني أهبك نفسي، فصعّد فيها البصر وصوّبه وسكت عنها فطال مقامها، وكان في المجلس أحد فقراء الصحابة، فبادر وقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها قال: ما معك لتصدقها؟ قال: إزاري، قال: وما يغني عنك الإزار، هل معك غيره؟ قال: لا يا رسول الله، قال: التمس ولو خاتماً من حديد، فذهب وعاد وقال: يا رسول الله لم يوجد ولا خاتم حديد، قال: فما معك من القرآن؟ قال: أحفظ سورة كذا وسورة كذا وذكر سوراً قال: قد زوجتك بما معك من القرآن) معناه: قد زوجتها لك على أن تعلمها هذه السور، وكان مهرها وصداقها هو أن يعلمها هذه السور، وكفى بذلك مهراً وصداقاً.
إذاً: هذه الخصوصية هي أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج من وهبت نفسها له، قال ابن عباس والزهري والمفسرون: هذا الحق لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم قط، ولم يتزوج امرأة وهبت نفسها له أبداً، والكثيرات عندما تلون هذه الآية تشوفن وتطلّعن بأن يصبحن أمهات المؤمنين وزوجات سيد البشر أجمعين عليه صلوات الله وسلامه، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأبى ولم يفعل.
وزعم البعض أن منهن زينب أم المساكين، ولكن كل ذلك ليس بصحيح، فإنه لم يقبل من وهبت نفسها له، وتنازل عن هذا الحق الذي خصه الله به.
وكان أنس بن مالك يتحدث بقصة هذه المرأة وفي مجلسه إحدى بناته وقال: (إن امرأة جاءت النبي عليه الصلاة والسلام فوهبت نفسها للنبي وإذا بابنته تصيح وتقول: أوه ما أقل حياءها، أتعرض نفسها زوجاً؟ قال: اسكتي يا قليلة الأدب، إنها رغبت في رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبت نفسها له) أي: ومن لا يرغب في رسول الله عليه الصلاة والسلام والصلة به بأي شكل من الأشكال؟ أما إذا جاءت امرأة لإنسان ما وقالت: أهبك نفسي تعرض نفسها للزواج به، فعليه المهر وعليه ولي وعليه الشهود، وبغير ذلك لا يصح نكاح ولا زواج.(207/3)
الحكمة من كثرة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب:50] أما بقية المسلمين فقد استثناهم الله من جواز الزواج بالهبة فقال عنهم: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب:50].
أي: قد علمنا وعلّمنا المؤمنين ما جعلنا من فرائض وأحكام وواجبات في زواجهم، وذلك أنه حصر زواج المسلم بألا يزيد عن أربع، وحرّم عليه الواهبة نفسها بلا مهر ولا ولي ولا شهود، في الوقت الذي أباح للنبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوج بلا حد وبلا حصر، ولم يجتمع عنده أكثر من تسع.
وفي ذلك حكم بليغة، فنقول لأعداء الإسلام وللمنافقين من أدعياء الإسلام، الذين حاولوا أن يتكلموا في رسول الله عليه الصلاة والسلام: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتزوج حتى بلغت سنه خمساً وعشرين سنة، وكان في منتهى القوة والجمال، فلو كان شهوانياً -وحاشاه من ذلك ولعن الله من زعم ذلك- لتزوج قبل العشرين، ولتزوج على عادة قومه العشر والعشرين لكنه لم يفعل، وعندما تزوج وهو ابن خمس وعشرين سنة لم يكن هو الراغب الطالب الخاطب، ولكنه كان المرغوب فيه والمقصود والمطلوب، وكل ذلك قبل النبوة بخمسة عشر عاماً، وكان متولياً التجارة للسيدة خديجة إلى أرض الشام فربحت وبلّغها غلامها ميسرة عن حالات النبي عليه الصلاة والسلام في رحلته للشام في تجارتها، فغبطته، وأرسلت له بأنها ترغب التزوج به، فخطبها له عمه أبو طالب فرضيت؛ لأنها كانت حريصة ومغتبطة بالزواج منه.
وعندما تزوجها كانت ابنة أربعين سنة، فبينه وبينها خمسة عشر عاماً، وكونها عجوزاً أقرب.
وأقول مبيناً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عما زعموه: لقد قنع صلى الله عليه وسلم وهو شاب قوي رائع الجمال أن يتزوج أرملة سبقه إليها زوجان وولدت منهما كليهما، وعندما تزوجها صلى الله عليه وسلم قنع بها ولم يتزوج عليها قط، وقد ماتت في السنة الثامنة من النبوة أو السابعة، ومعنى ذلك: أنها ماتت وسن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد شارف الخمسين، أي: عاشت معه خمساً وعشرين سنة، أي: أن زهرة شبابه وزهرة قوته وزهرة جماله قصرها على هذه الأرملة، ولم يتشوف للزواج عليها قط وإنما تزوج بعد موتها وبعد الهجرة، ومن هنا ندرك ونعلم أنه صلى الله عليه وسلم ليس شهوانياً وحاشاه من ذلك.
وهو لم يتزوج بكراً قط إلا عائشة، وزوجه الله بها، نزل إليه جبريل وهي مصورة في قطعة حرير فقال: (هذه زوجتك، فلما بحث عن الصورة وجدها بنت أبي بكر) كما زوجه الله زينب بنت جحش.
وكان زواجه بهؤلاء النسوة ليربط العلائق مع العشائر العربية والقبائل العربية؛ ليكون ذلك داعياً إلى إسلامهم وإلى كسر عداوتهم، ولقد قلنا أكثر من مرة إن أبا سفيان وكان الحاقد الناقم على رسول الله وعلى دينه وعلى جميع بني هاشم، ومع ذلك عندما آمنت ابنته أم حبيبة وهاجرت الهجرة الأولى للحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش، فارتد هذا الزوج وبقيت متمسكة بإسلامها، فخطبها النبي عليه الصلاة والسلام من النجاشي وكان قد أسلم، وكان هو الولي للمسلمين في الحبشة، فعندما تزوجها صلى الله عليه وسلم وأرسلت إليه إلى المدينة بلغ ذلك أبا سفيان وهو على غاية ما يكون من الحرب والعداوة، وإذا بـ أبي سفيان يقابل ذلك بارتياح وبسعادة وغبطة ويقول عن النبي عليه الصلاة والسلام: هو الفحل.
فكان هذا الفعل من رسول الله عليه الصلاة والسلام جمعاً له وكسراً لعداوته وتأليفاً لقلبه، وكانت النتيجة أن أبا سفيان بن حرب آمن وأسلم، فتزوج صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرها من قبائل العرب، وكل هذه القبائل آمنت وأسلمت وآزرت النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الحكمة من تعدد زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، وهي واضحة وضوح الشمس، ولا ينكرها إلا مشرك أو منافق ومن في قلبه مرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دين الإسلام.
قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب:50] أي: قد علم الله ما فرض عليهم وهو الآمر وهو الذي علمهم ذلك وحصر الزواج بالنسبة لعموم المسلمين في أربع حرائر، أما ما ملكت يمينهم فلا عد ولا حصر.
وتتبين الحكمة من كون ملك اليمين بلا عدد إذا عرفنا المثال الآتي: في الحربين العالميتين اللتين جرتا في هذا القرن، وقع من الأسرى عند الدول التي انتصرت على ألمانيا ما يزيد على خمسة وعشرين مليوناً من الخلق.
فهؤلاء الأسرى كان ثلاثة أرباعهم من النساء ولم يقاتلن، فماذا يصنع بهؤلاء النساء، خربت بيوتهن، وقتل آباؤهن وأولادهن وإخوتهن وأزواجهن، فأخذوهن ووزعوهن على العالم للبغاء والزنا والفساد، فانتشر في العالم عشرات الآلاف من أولاد البغايا، وأدخلوا الفساد لكل دار وكل بلدة وقطر، وأصبحت ألمانيا بعد ذلك ثلاثة أرباع سكانها من النساء ممن سلمن من الأسر، فهؤلاء النسوة لم يجدن زواجاً ولم يجدن حتى الحرام لا خليلاً ولا زانياً، وأصبن بسعار الجنس وشدته فقمن بالمظاهرات، وطلبت فئة منهن بتعدد الزوجات كما عند المسلمين، فالبعض حصر ذلك في أربع كالمسلمين، والبعض الآخر طلب أن يكون ذلك بلا حد، واكتفت فئة منهن بإعارة الأزواج كما يعار الفحل للبهائم.
وكتب كبير ألمانيا إذ ذاك إلى رؤساء العالم الإسلامي، وطلب تقارير عن تعدد الزوجات في الشريعة الإسلامية، ومع الأسف كان المسلمون قد تراجعوا عن تعدد الزوجات، وأصبحوا يستحون أن يذكروا تعدد الزوجات، وأخذوا يقلدون الكفار في عدم التعدد ومنعه حلالاً وإباحته حراماً، كقوانين دول الكفر كلها، ودخل ذلك في قوانين جميع المسلمين، سوى بلادنا المقدسة هذه.
فجميع القوانين التي يتحاكم إليها المسلمون أباحت الزنا من المرأة والرجل إذا بلغا سن الرشد، إذا تراضيا على ذلك، ولا حق لأحد أن يشتكي، إلا إذا اشتكى الزوج بالزوجة أو الزوجة بالزوج، فلا حق لأب ولا لأخ ولا لزعيم ولا لنائب ولا لمجتمع.
وقد جاء الإسلام من الله وهو أعلم بالحكمة التي تصلح المسلمين، وقد فرض الجهاد لإعزاز دين الله، وللدفاع عن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وهو يعلم سبحانه أن الحروب لا تنتهي إلا بالقتل والتدمير والخراب وموت مئات الآلاف وعشرات الملايين من البشر، فنساء هؤلاء الملايين ستؤخذ أسرى فما يصنع بهن؟ إنهن يحتجن للأكل والشرب واللباس وإلى ما تحتاجه النساء من الشهوة، فعندما أباح الله التسري والتملك بلا عد ولا حصر فمعنى ذلك أن يقوم الناس متضامنين لخدمة هؤلاء الأسرى نفقةً ولباساً وسكناً وكفايةً وشهوة تكفهن عن الشر وعن نشر الفساد في الأرض، ولا يترك ذلك كما ترك لأوروبا في أسراها في الحربين.
فهؤلاء الأسرى كانوا يعاملون أقل من معاملة الكلاب، فكانوا يقتلون لأي سبب، ويذلون لأي سبب، ويجاعون إلى حد الموت، وتنتهك حرمات الأسيرات ضرباً وإيذاءً وتفنناً في التعذيب، ولا أحد يرفع صوته.
أما الإسلام فقد أباح ذلك خدمة لهن ورعايةً لمصالحهن، والوصايا في هذا كثيرة جداً، ومنها قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إخوانكم خولكم)، أي: خولكم إخوانكم، وهذا يستشهد به في النحو من تأخير المبتدأ على الخبر وكلاهما معرفة، وأن المعنى يدل على أن هذا مبتدأ وهذا خبر.
(إخوانكم خولكم) لو ذهبنا نعرب (إخوانكم) مبتدأ، و (خولكم) خبراً، فإن المبتدأ مسند إليه والخبر مسند فيكون المعنى: إخوانكم أشقاؤكم هم عبيدكم وخولكم، والإسلام لا يريد هذا، لكن معنى الكلام فيه تقديم وتأخير فتكون الجملة: (خولكم إخوانكم) أي: خدمكم.
وقد منع النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول الإنسان: عبدي أو أمتي بل يقول: فتاي وفتاتي، كلمة أشبه بالدلال: يا غلامي كأنك تنادي: يا ولدي، ويا بنيتي عندما يقول لها: يا فتاتي، والإسلام اعتبر الإنسانية في الصلة.
فقال صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم، أطعموهم مما تطعمون، وألبسوهم مما تلبسون، وإذا كلفتموهم ما لا يطيقون فأعينوهم)، أي: اعتبرهم صلى الله عليه وسلم إخواننا، فأمر أن يطعموا معنا مما نطعم، وأن يأكلوا من أكلنا، ويلبسوا من لباسنا، ويسكنوا سكنانا، ويعيشوا عيشتنا، وإذا حملناهم ما لا يطيقون أن نعينهم كما نعين أولادنا لأصلابنا.
من الذي أتى بهذا؟ حضارة ماركس خاب وخسر هو وأنصاره وأتباعه! أم حضارة نابليون، وهو الذي وضع القانون الذي نسب إليه! أم أمريكا وأوروبا خابوا جميعاً وخسروا، فبلادهم بلاد الفواحش والمنكرات والفساد والظلم والقسوة وسفك الدماء، وبلاد نشر الفواحش بجميع أشكالها، ومع ذلك نرسل أولادنا إليهم بلا رقابة ولا إشراف ورعاية ولا عناية، يذهبون بدين الإسلام ويعودون بلا دين، يذهبون برجولتهم ويعودون بلا رجولة، يذهبون أصحاء الأبدان ويأتون منهوكين ضائعين، ترى ابن العشرين وكأنه ابن الستين والسبعين، نتيجة إسرافه على نفسه، هذه هي الحضارة الأمريكية والأوروبية.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب:50] هذه متعلقة بالكلام الأول عن النبي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ} [الأحزاب:50] إلى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50] فقوله: ((لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ)) أباح له ذلك ووسعه عليه، ليتبع حكمته وسياسته وطريقة دعوته.(207/4)
الحكمة العظمى من تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
إن الحكمة الأخيرة الكبيرة جداً من تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم هي: أن السيرة النبوية داخل البيت سترويها لنا زوجاته، فهو يصلي العشاء عليه الصلاة والسلام ويدخل البيت من العشاء إلى صلاة الفجر ماذا يصنع في بيته؟ وعندما يدخل البيت نهاراً ماذا يصنع؟ هل سيرته الباطنة بين نسائه كسيرته الظاهرة؟ ليس كذلك رؤساء الأرض قديماً ولا حديثاً، بل تجد لهم شخصيات مزدوجة، فأمام الناس يتظاهرون بالتقوى وفي داخل دورهم فسقة فجرة، وأمام الناس يتظاهرون بالإسلام وفي داخل دورهم منافقون دجالون أعداء الإسلام والمسلمين.
والنبي عليه الصلاة والسلام بدا لغير المؤمنين أنه ملك وزعيم للعرب، وهؤلاء كانوا يراقبون حركاته ويراقبون سكناته، وقد فعلوا، فقد كان مع أصحابه في الحرب والسلم في السفر والحضر، في المساجد وبين أتباعه، أما داخل الدار فكيف يعرفون سيرته؟ فكان هؤلاء النساء التسع من قبائل شتى ومن أسنان مختلفة هن اللاتي يحكين لنا سيرته الداخلية، ولو رأين ما يسوء وما يؤذي لتكلمت إحداهن.
وقد قالوا في الأمثال: إذا أردت أن تذيع سراً وأن ينتشر بين الناس فاذكره لامرأة وأوصها بالحفاظ على السر، فهي بطبيعتها سواء كانت أماً أو زوجةً أو بنتاً، تنشر ذلك السر؛ لأن الإيصاء بالسر كأنك تحضها على الإعلان، وهؤلاء النساء كن يتخاصمن كالنساء، فلو رأين من رسول الله ما يسيء وما يخالف الظاهر لذكرن ذلك.
وعلى كثرة أعدائه عليه الصلاة والسلام، وعلى كثرة المتربصين به في عصره وبعد عصره وإلى عصرنا هذا، وعلى كثرة الأكاذيب التي كذب بها عليه صلى الله عليه وسلم لم يدع أحد قبل ولا بعد أن النساء رأين عليه شيئاً داخل البيت، لا خديجة الأولى ولا عائشة الصغيرة ولا الزوجة المسنة ولا ولا، فكلهن لم يذكرن إلا خيراً وأكثر من ذلك، فنشرن شريعة الله داخل الأسر، كيف يعيش أباً في داره؟! كيف يعيش زوجاً في داره؟! كيف يعيش جداً بين أحفاده؟! ما الذي يصنع في داره؟! هل كل ذلك نوم وراحة؟ لا، بل مما بلغننا عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يقوم أكثر الليل يتهجد فيه، وكان يعين نساءه على شئون البيت عليه الصلاة والسلام، فقد كان يرقع نعله، ويكون في مهنة أهله، وكان يذبح الشاة ويسلخها بيده ويجعلها في أواني الطبخ والعمل، وكان إذا كلفهن لا يكلفهن بما يعجزن عنه.
هذا الذي تواتر وهذا الذي نشر، وهذا الذي رواه المؤمن والكافر، ورواه المخلص والمنافق، فأي كلام بقي لمن يقول: لم تزوج النبي تسع زوجات؟ فهؤلاء قبل أن يفقدوا الدين والشرف والكرامة فقدوا العقول، فعقولهم لا تدرك، ونفوسهم لا تعي، يهرفون بما لا يعرفون، ومن كان كذلك فما جزاؤه إلا الإغفال والإهمال والدوس بالأقدام.
والقافلة سائرة، ودع الكلاب تنبح.
قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب:50] هذه الآية بخصوصيات النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أباح له ما أباح لكيلا يتحرج ولا يضيق ولا يتبرم ولا يظن أن في ذلك إثماً، بل كل ذلك فعله الله له للتوسعة عليه.
ثم قال: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:50].
أي: كان الله غفوراً لعباده، غفوراً لذنوبهم وإساءاتهم، مع ما فرض لهم من أربع زوجات ومن مهر وشهود وولي، ومن إماء إن شاءوا بلا حصر، ومع ذلك قد يقصرون وقد يخالفون، لكنهم إن تحروا الأسوة برسول الله فيما كان عاماً، وأطاعوا ربهم ونبيهم، ثم ما يصدر عنهم بعد ذلك من شيء لم يقصدوه أو جاء عن جهالة ثم تابوا وأنابوا فالله يغفر ذلك ويرحمهم، ويلحقهم بالرعيل الأول من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه.(207/5)
تفسير قوله تعالى: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء)
قال الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب:51].
قوله: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ).
الإرجاء التأخير، ومعناه: أن الله جل جلاله رفع الضيق والحرج عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأباح له عدم القسم بين نسائه، وأن له أن يختص واحدة بليال وأن يترك واحدة ألبتة، وأن يعطي هذه ولا يعطي هذه، فالأمر له وهو المخير بين كل ذلك.
فقوله: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) أي: تؤخرها ولا تجعل لها نوبة، أو تنام معها قليلاً.
(وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) أي: تضم إليك منهن من تشاء وتقرب.
(ومن ابتغيت عزلت فلا جناح عليك) أي: ومن أردت وطلبت ممن عزلت وأرجأت منهن وشئت أن ترجع إليها مرة أخرى فلا حرج ولا مانع من ذلك.
قال ربنا: ((ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ)) أي: هذا العمل في الإرجاء والتأخير وذلك العمل في أن تضم إليك من شئت ومن ابتغيت ممن أبعدت عندما يعلمن أن هذا أمر الله وأن النبي عليه الصلاة والسلام يفعل ما أمره الله به دون قيد ولا شرط يكون ذلك أقرب لأن تقر أعينهن بأن يكن مسرورات، وقرار العين برودتها، ولا تبرد العين إلا عند السرور والانشراح، أما من سخنت عينه فقد اشتد حزنه، أي: دمعت عينه حتى سخنت.
وقوله: (ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن) أي: لا يدخلهن حزن عندما يعلمن أن هذا أمر الله.
وقوله: (ويرضين بما آتيتهن كلهن) أي: يقبلن ذلك عن رضاً وعن انشراح وارتياح.
وقوله: (والله يعلم ما في قلوبكم) أي: يعلم ما في قلوب العباد من محبة وكراهة، ومن ميل وعدم ميل، ومن طاعة ومخالفة.
وقوله: (وكان الله عليماً حليماً) أي: عليماً بأحوال عباده الظاهرة والباطنة، حليماً بهم، يغفر زلاتهم ويشفق عليهم، ويتوب عليهم إن تابوا وأنابوا.
وهذه الآية لم يفعلها النبي عليه الصلاة والسلام وهي خاصة من خواصه، بل كان يعدل بين نسائه، تفضلاً منه وتكرماً، وكان يبيت كل ليلة عند واحدة، وإذا زار إحداهن نهاراً يمر على الكل ويزورهن، وكان يقسم بينهن بالعدل والسوية، ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، أي: في القلب.(207/6)
تفسير سورة الأحزاب [51 - 52]
مما فضل الله به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أباح له ترك القسم بين أزواجه، وأن يرجي من يشاء منهن ويؤوي إليه من يشاء، وأما الإماء فهن مباحات له ولأتباعه من غير حد.(208/1)
تابع تفسير قوله تعالى: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء)
قال الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب:51].
لا نزال مع أوامر الله في سورة الأحزاب في حقوق الزواج وآدابه، في مباحاته وممنوعاته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، قال تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب:51]، أي: من زوجاته.
عندما طلب زوجاته صلى الله عليه وسلم النفقة ولم تكن عنده نفقة غضب عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرهن شهراً كاملاً كما مر معنا، ثم بعد ذلك نزل ودخل عليهن، وخيرهن كما أمره الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29]، فعندما قال لهن ذلك اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وقد مضى كل ذلك.
ولكن بعد أن أبقاهن واخترن الله وما هو عليه صلى الله عليه وسلم من الزهادة والتقشف رضاً وطواعية أسقط الله عليه القسم بينهن فقال له: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب:51] أي: تؤجل وتؤخر من تشاء فلا تقسم لها قسمة ولا تجعل لها يوماً إن شئت، وتؤوي وتضم إليك منهن من شئت.
قوله: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51] أي: من طلبت وأرادت منهن بعد أن عزلتها عنك وشئت العودة إليها مرة أخرى فلا إثم ولا جناح ولا ملامة عليك.
قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب:51].
أي: هذا الإرجاء والتأجيل أو التقريب والضم أمام طلاقهن وفراقهن هو أقر لأعينهن وأكثر سروراً لهن وأبعد عن حزنهن.
وقرار العين برودتها، ولن تكون كذلك إلا لشيء سار، وبالعكس إذا حزن الإنسان سخنت عيناه.
إذاً: كونهن يبقين زوجات لرسول الله عليه الصلاة والسلام مع تقريبهن أو إبعادهن أو عزلهن أو ابتغائهن فذلك أقر لأعينهن، وأبعد ألا يحزنن ولا يأسفن وأن يرضين كلهن.
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [الأحزاب:51].
أي: الله أعلم منكن ومنكم ومن غيركن وغيركم بما في القلوب من الميل وعدمه ومن الحب والكراهة.
ثم قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب:51] أي: عليماً بأحوالكن حليماً بكن في مغفرة الذنوب ورفع الدرجات والإحسان إليكن وإلى زوجكن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله.
والرسول صلى الله عليه وسلم مع كون الله تعالى أباح له عدم القسم بين زوجاته، لكنه كان يقسم بينهن، وكان يؤدي لكل واحدة منهن ما للأخرى دون فارق بينهن، لكل واحدة ليلتها وكسوتها ومخدعها ونفقتها.
وكان عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح يقسم بينهن ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) أي: هذه قسمتي فيما أملكه وأطيقه من النفقة والليلة والسكن واللباس وما إلى ذلك، فأنا أقسم بينهن بلا فارق، أما الميل القلبي فالقلب ليس بيدي، وكان ميله عليه الصلاة والسلام أيام خديجة لها وحدها، حتى إنه لم يتزوج معها ومكث معها ربع قرن، وفي أيام اجتماع النسوة التسع كان يميل لـ عائشة عن غيرها من بقية النساء.
وليس ذلك نزوة ولا شهوة، ولكن كانت عائشة رضوان الله عليها تمتاز عنهن بالذكاء البالغ وبالعلم الواسع، وبالفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرضيه، وفيما لا يرضيه وكانت عند أمره ونهيه، وكانت بنت أحب الناس إليه خليفته وأفضل الخلق بعد الأنبياء أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكان يشعر بهذا الميل ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) أي: الميلان القلبي، وهذا معنى الآية الكريمة: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:129] أي: لا تستطيعون أن تعدلوا بين النساء عدل القلب وعدل الميل والمحبة، وهذا الميل ليس بيد الإنسان بل هو بيد الله، ومع ذلك قال الله للزوج: إن كان عندك ميل لواحدة دون الأخرى فلا يكن هذا الميل سبباً لظلمها وعدم القسمة لها، وعدم أخذها لحقوقها، بحيث تبقى مائلة ضائعة، وكأنها معلقة لا مزوجة ولا مطلقة.
هذا الذي نهى الله عنه، وليس ما زعمه الزنادقة والجهلة أن الله أباح الزوجات ثم أمر بالعدل وحكم به، ثم قال: إنكم تعجزون عن العدل، ولذلك فلا زوجة ثانية فهي محرمة، نقول: هذا كذب على الله، وقائل ذلك مفتر عليه؛ لأنه قال ما لم يكن له أصل، وإلا سيكون قوله طعناً في الصحابة وطعنًا في النبي عليه الصلاة والسلام وطعناً في السلف الصالح، فكلهم تزوجوا اثنتين وثلاثاً وأربعاً، وسيد البشر تزوج تسعاً.
وقال عليه الصلاة والسلام: (خيركم أكثركم أزواجاً).
وقال الله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، قال علماؤنا ومفسرو الآية: إن الله لم يذكر الواحدة فقد ابتدأ بالثانية ثم الثالثة ثم الرابعة، فالأولى رخصة للضعاف من الرجال، الضعيفة مسئوليتهم، القليلة ذات يدهم، أما الرجال التامون رجولةً فالله يخاطبهم بأن يتزوجوا اثنتين فثلاثاً فأربعاً.(208/2)
تفسير قوله تعالى: (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج)
قال الله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب:52].
لا نزال مع هؤلاء اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة تكرمة لهن، فالله حرم على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن يتزوج غيرهن، فقال سبحانه: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب:52] أي: بعد هؤلاء التسع اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، واخترن زهادتك وتقشفك وصبرك على شظف العيش فلا تتزوج عليهن بعد، فكما أعطيناك عدم القسمة بينهن وعدم الحرج في ذلك، كذلك لا تتزوج عليهن بعد: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب:52]، أي: من بعد هؤلاء التسع.
وقال المفسرون: لم يكن الأمر كذلك وإنما تفسير الآية: أن الله أباح له أصنافاً من النساء، فقال له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] أي: هذه الأصناف من النساء اللاتي آتيت أجورهن ومهورهن من بنات عمك وعماتك القرشيات، ومن بنات خالك وخالاتك الزهريات، ومؤمنة وهبت نفسها لك بلا مهر ولا ولي ولا شهود، كل هؤلاء لا يباح لك ولا يجوز أن تتزوج غيرهن من بقية العرب، ومن باب أولى ألا تتزوج سوى مسلمة من هؤلاء، فلا يحل لك الزواج من نصرانية ولا يهودية ولا من لم يذكر الله في هذه الأصناف، وأباح له الإماء، وقد ذكرت الحكمة في ذلك.
سئل أبي بن كعب القارئ المفسر العالم بالقرآن: لو مات نساء النبي عليه الصلاة والسلام أيحل له أن يتزوج بعدهن؟ فأجاب: وما يمنعه من ذلك؟ قال: قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52].
قال: ليس معنى الآية كما فهمت، ولكنهن ضروب من النساء أباحهن الله له من بنات العم والعمة والخال والخالة من المسلمات المهاجرات معه ومؤمنة وهبت نفسها له، هذه الضروب هي التي أباحها له، ولا يحل له سواها، وهؤلاء لو متن فعنده كثير من القرشيات وكثير من الزهريات وكثير ممن يمكن أن تهب نفسها، وإن كان النبي عليه الصلاة والسلام لم يتزوج بالمرأة التي وهبت نفسها له.
إذاً: قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب:52] أي: هؤلاء النسوة بعد أن اخترن الله ورسوله حرم الله عليه أن يتزوج بعد غيرهن؛ تكرمة لهن على أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة عندما خيرن.
قال الله تعالى: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52] أي: ولا أن تبدل واحدة بواحدة بأن تطلق زوجة من هؤلاء وتتزوج مكانها أخرى، أو تطلقهن كلهن وتتزوج غيرهن، وإن كان الطلاق لم يحرم عليه.
وقد قيل: إنه طلق حفصة بنت عمر ثم راجعها، وعلى كل اعتبار فقد راجعها فلم تطلق واحدة منهن ألبتة، ولم يتزوج عليهن بعد ذلك، ومن وهبت نفسها لم يقبلها، ولم تكن عنده واحدة ممن وهبن أنفسهن له، كما نص على ذلك ابن عباس والإمام الزهري.
وقوله: (ولو أعجبك حسنهن) أي: قد يرى النبي عليه الصلاة والسلام امرأة تأتيه فتكون عذراء أو أرملة أو واهبة فيلفت جمالها نظره، فقال له الله تعالى: لا تتزوج على هؤلاء ولا تستبدل واحدة منهن بغيرها، ولو كن جميلات في نظرك.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم رآهن أو يمكن أن يراهن لم يحدث هذا، ولكن من باب الفرض، والله قد أحل له ذلك وأباحه، وهذا مصرح به من النبي عليه الصلاة والسلام فقد جاءه المغيرة بن شعبة وقد خطب فقال له: (هل نظرت إليها؟ قال: لا، قال: لو نظرت إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً)، قيل: كان في أعين الأنصار صفر، وقال عليه الصلاة والسلام: (من أراد أن يتزوج فلينظر إلى من يريدها فإن ذلك أدوم للنكاح بها، أو آدم).
وفي حديث آخر: (من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إليها)، أو: (فلينظر إلى ما يعجبه منها).(208/3)
حكم نظر الخاطب لمخطوبته وضابطه
اختلف أئمة المذاهب ما الذي يجوز للخاطب أن يرى من المخطوبة؛ واختلفوا هل يجوز له النظر إليها بغير إذنها؟ ذهب الجمهور ومعهم في ذلك النص إلى أن هذا حق أعطاه له رسول الله عليه الصلاة والسلام، فله أن ينظر إلى المخطوبة بغير إذن ولا موافقة منها ولا من أهلها، فهو لم يرد ريبة وإنما يريد تحصين نفسه، ويريد أن يضمها إليه؛ ليكوّن بها أسرة وأولاداً يشهدون أن لا إله إلا الله.
ما الذي يجوز له أن يرى منها؟ فالجمهور قالوا: يرى منها وجهها ويديها.
وقال الأوزاعي وغيره: يرى منها إن شاء مواضع اللحم، أي: الساقين والفخذين والذراعين.
وقالت الظاهرية: له أن يراها عارية لا بالاتفاق معها، ولكن بأن يتحايل ليصل إلى ذلك.
وهذا القول شاذ، وهم أخذوا هذا الحكم من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أراد أن يتزوج فلينظر إلى ما يعجبه منها) قد يقول: يعجبني منها قوامها، ويعجبني صدرها، وكل محاسنها.
وهم بنوا هذا الكلام إذا كان صادقاً في الخطبة لا يريد أن يتلاعب ببنات الناس وينظر إلى عوراتهن، فإن كان غرضه التلاعب فهو فسق ودعارة، وهو قلة دين، وإن علم به يعزر.
وهناك قوم من معاصرينا من المنتسبين للدين والصلاح يفهمون الدين أحياناً فهماً أعرج، يمشي على رأسه لا على رجليه، فتجد عندما يأتيهم الخاطب ويقول: أريد أن أتزوج ابنتك وأريد رؤيتها، فتجد الولي ينادي: يا فلانة تعالي فيراها، لم يقل هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام وليس هذا من الشرع، بل هذا أشبه ببيع الجواري، فالولي الذي يفعل ذلك سواءً كان أباً أو غير أب لا يؤتمن على بناته ولا على ولياته، ويحدث هذا كثيراً، فلو رآها ولم تعجبه ماذا ستكون النتيجة؟ لا يتزوجها، ويقال: فلان رأى بنت فلان أو أخته أو وليته فلم يتزوجها، فيقولون: لم تعجبه، لعله وجد عيباً أو نقصاً فيكون ذلك فضيحة لها، ويكون ذلك تنفيراً من زواجها، وطعناً في كرامتها، ولا يليق هذا بمسلم، ولا يليق بوليها أن يفعل ذلك بوليته، ولكن الذي أذن به عليه الصلاة والسلام أن يراها دون إذن الولي ولا الأب، فمثلاً البنت تدرس في مدرسة أو جامعة له أن يتعقبها إلى أن يراها، وذلك مأذون فيه في هذه الحالة، وإن علم الأب والولي وأن الذي يجري لرؤيتها بهذه الطريقة فلا يتكلم ولا يمنع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد أعطاه هذه الحق، فإن تزوجها فذاك، وإن لم يتزوجها لم يدر أحد بما حصل، فلا يقال: فلان خطب ورأى بنت فلان ولكنها لم تعجبه، فيذهب يطعن فيها، ليس هذا عمل العقلاء ولا الأولياء المخلصين لبناتهم ومولياتهم، إنما يفعل هذا من يبيع الإماء والجواري والعبيد.(208/4)
الحكمة من تعدد الإماء بلا حد
قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52]، أي: تتبدل، حذفت إحدى التائين للتخفيف أي: أن تستبدل واحدة بواحدة، وأن تطلق واحدة وتتزوج أخرى، فالله حرم عليه ذلك.
وقوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب:52] هذا الباب مفتوح؛ إحساناً لهؤلاء الأسرى وضماً لهن، وتحصيناً لهن، وعناية بنفقتهن وبكسوتهن وبسكناهن، ويؤجر من فعل ذلك.
وقد قلت في درس مضى: في الحربين العالميتين اللتين مضتا حصل فيهما كثير من الفضائح ومن الكوارث ومن البلايا، ومن إذلال النساء اللاتي أسرن، فقد عذبن وأذللن وجعن وعرين وبقين مشردات، لا حفظ ولا كرامة ولا رعاية، فالإماء في الإسلام هن تحت سلطاني كبناتي وكأخواتي، بل النبي عليه الصلاة والسلام جعل الرقيق كالإخوة فقال: (إخوانكم خولكم)، أي: خدمكم إخوان لكم.
ثم قال: (أطعموهم مما تطعمون، وألبسوهم مما تلبسون، وإذا كلفتموهم ما لا يطيقون فأعينوهم)، هذا هو الذي قال به دينك، فالله جعل لأمتك من الحق ما لأقاربك، بل أبناء الإماء ملكوا العالم الإسلامي، فدولة بني أمية كان الكثير من خلفائها أبناء الإماء، فأصبحت الأمة ملكة في الدولة على سعتها وسعة أرجائها، وكان ملوك بين العباس أكثرهم أبناء الإماء فملكن وحكمن وكان للأمة أم الخليفة من النفوذ والسلطان أحياناً ما ليس للخليفة نفسه، وكان هذا أيام خلفاء بني عثمان، ويتكرر باستمرار.
وفي هذا العصر حصل الاضطهاد والإذلال والاستعباد للأحرار والحرائر قبل غيرهم، فالغرب حرموا الرقيق أفراداً وأباحوه شعوباً وأمماً، فشعوب العالم الإسلامي اليوم على ما يبدو أنها تحكم أمرها بنفسها، وهي في الحقيقة مستعبدة ومستعمرة استعماراً جديداً.
أزال الله هذا الذل والهوان عن المسلمين، وسحق أعداءهم يهوداً ونصارى ومنافقين.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب:52] أي: يا أمهات المؤمنين ويا أيها المؤمنون: اعلموا أن الله رقيب وشاهد وناظر لكل أعمالنا، فلنحرص على أن تكون أعمالنا أعمالاً ترضي الله، وترضي رسول الله، وأن تكون حسب أمره ونهيه، وأن تكون حسب أمر رسول الله ونهيه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاتركوه).(208/5)
تفسير سورة الأحزاب [53 - 55]
يؤدب الله المؤمنين ويعلمهم كيف يتعاملون مع بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسائه، فنهاهم عن دخول بيوته من غير إذنه، وأن يسألوا أزواجه إلا من وراء حجاب وغير ذلك من الآداب.(209/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53].
هذه الآية الكريمة هي آية حجاب نساء وبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحجاب المؤمنات من كل لون وفي كل أرض وفي كل عصر، وبهذه الآية تم صراحة تحريم زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم والزواج بهن، فكما يقال عنها: آية الحجاب، يقال عنها: عدم إيذاء رسول الله في زواج نسائه بعده، ويقال عنها: آية الدخلاء.
قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ)).
إذا قال الله: ((يا أيها الناس))، فالخطاب يشمل كل بني آدم رجالاً ونساءً، وإذا قال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، فهو خطاب للمسلمين فقط؛ لا لأن غير المسلمين ليس بمخاطب؛ ولكن لأنه إذا قال الله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، ففي الأغلب يكون الخطاب في فروع الشريعة، وإذا كان: ((يا أيها الناس))، في أصولها، مثل: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والفروع من الأركان الأخرى: صلاةً، وزكاةً، وصياماً، وحجاً، يخاطب بها كل إنسان، ولكنها لا تصح إلا من المؤمن الذي شهد لله بالوحدانية، ولمحمد بالرسالة وختمها، ولذلك عندما يقول ربنا: ((يا أيها الذين آمنوا))، فلن تقبل الفروع إلا منهم إذا قاموا بها حق القيام.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53].
حرم الله على المؤمن أن يدخل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وغرفه وعلى نسائه وعياله بغير إذنه، وكان العادة في الجاهلية قبل الإسلام أن يدخل الناس الدور ولا يغلقونها، يبقى باب الدار مفتوحاً فيدخل كل إنسان سواء كان الرجل في البيت أو لم يكن، فبقي هذا زمناً بعد الإسلام إلى أن حرم الله ذلك، وفي الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال: (وافقت ربي في ثلاث: قلت لنبي الله عليه الصلاة والسلام: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزل قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]، وقلت: يا رسول الله إنه يدخل بيتك البر والفاجر فلو حجبت نساءك عن الناس، فما كان يجيبني أو يستجيب لي، فنزل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] وقلت لنسائه في قصة الغيرة وطلب النفقة وهجره لهن شهراً كاملاً دخلت عليهن فقلت لهن: والله لا تزلن على حالكن حتى يطلقكن أو يبدله الله خيراً منكن، فقالت أم سلمة: يا عمر أما كان لرسول الله أن يعظ نساءه وأن يأمرهن وينهاهن غيرك، فخجل عمر وخرج، فنزل قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم:5]).
والإمام الحافظ العسقلاني له رسالة في موافقات عمر لله في كتابه، فعد منها أربعة عشر قضية، ومنها: قصة أسرى بدر.
فقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب:53] كان هذا في شهر ذي القعدة في السنة الخامسة من الهجرة في غزوة الأحزاب ونزول هذه السورة الكريمة.
وقوله: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53] أي: إلا أن يؤذن لكم في الدخول للطعام، أو إلى اجتماع إن طلبكم لسبب فادخلوا، وإلا فالمسجد هو النادي وهو دار الندوة وهو المجتمع.
فقوله: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53] من آن يئين إذا أدرك واستوى، أي: لا تدخلوا حتى إذا دعيتم لطعام إلا إذا نضج واستوى وأعد، أما أن تجلسوا عنده الساعات الطوال وتضيقوا عليه، أو تأتوا بلا دعوة تنتظرون نضج الطعام فلا، وهؤلاء اسمهم في اللغة العربية: طفيلية، والآية كذلك يقال عنها: آية التطفيل.
وللإمام الخطيب البغدادي رسالة مطبوعة في التطفيل والمتطفلين ذكر فيها غرائب وعجائب من هذه الآية إلى أحداث في عصر النبوة وبعده إلى القرن الخامس.
وقوله: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53]، أي: حال كونكم غير منتظرين ولا معدين الأنفس إلى أن تدخلوا قبل نضجه، بل لا تدخلوا إلا بعد النضج، فالله قال للمؤمنين يؤدبهم ويهذبهم ويدافع عن النبي عليه الصلاة والسلام الذي كان أكثر حياءً من العذراء في خدرها، قال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب:53]، يعني: يأذن لكم النبي عليه الصلاة والسلام، {إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53] أي: غير منتظرين نضجه.
وقوله: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} [الأحزاب:53] أي: إذا دعيتم لدخول البيت للطعام فادخلوا.
{فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:53] أي: لا تجلسوا بعد الطعام يأنس بعضكم ببعض، وتتذكرون الأحداث والقصص وعلل وهموم أولادكم وأزواجكم وأنتم في بيت رسول الله مثقلين عليه وعلى نسائه.
{وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53] أي: إذا أكلتم فاخرجوا، هذا أدب مع رسول الله، وأدب الدعوات عند جميع المسلمين، فالجلوس بعد الطعام والحديث قلة أدب وتثقيل على المسلمين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من دعي فليجب)، عرساً أو غيره، (ولكن إذا دخلتم فخففوا)، أي: خففوا على أهل البيت حتى إذا طعمتم فانتشروا، {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} [الأحزاب:53].
أي: أن دخولكم البيت بغير إذن، ومجيئكم للطعام بلا دعوة، وإتيانكم للطعام قبل نضجه بساعة أو ساعات، وبقاءكم بعد الطعام مدة طويلة أو قصيرة، كل هذا كان يتأذى منه النبي عليه الصلاة والسلام بليغ الإيذاء، قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب:53]، إذا كان الكلام مع جماعة فالإضافة لاسم الإشارة يكون جماعة: ((إن ذلكم))، أي: يا هؤلاء الجماعة ذلك العمل من الدخول والمكث والانتظار طويلاً، وانتظار النضج والدخول قبله، {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} [الأحزاب:53].
أي: كان يتأذى منه، ولكنه كان يستحيي أن يقول لهم: اخرجوا؛ لأن الدار داره، والنبي صلى الله عليه وسلم كان سيد الكرماء، وكان كعادة قومه ضرب بهم المثل في الكرم، فكان يصعب عليه أن يقول لهم: اخرجوا عني، فكان يتحمل ذلك، ولكنه كان يتأذى في نفسه الأذى البالغ، ولا يتكلم ولا يشتكي حتى لا يبلغهم ذلك فيؤذيهم.
{وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53]، أي: الله لا يستحيي أن يعلن الحق، فهو الآمر والناهي جل جلاله، وإن كان النبي له هذا الحق يأمر ويوجب وينهى ويحلل ويحرم بإذن الله وأمر الله، ولكن بما أن الأمر يمسه وفي داره وعلى طعامه كان يجد حياءً من نفسه أن يبعدهم فيقولون: طردنا رسول الله من بيته، وكان ذلك يؤذيه، وقد يفسرون ذلك تفسيراً قبيحاً فيصفونه بالبخل وما إلى ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم ضرب به المثل في الكرم، فقد كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، طالما أعطى المائة من الإبل وأعطى أكثر من ذلك وأقل صلى الله عليه وسلم، ولا يكاد يمسك بيده شيئاً.
ونزول هذه الآية في هذا وفي الحجاب، وذلك عندما تزوج النبي عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش الأسدية مطلقة زيد بن حارثة أولم عليها رسول الله عليه الصلاة والسلام باللحم والخبز، فهو عليه الصلاة والسلام عندما أصبح متزوجاً زينب أرسل أنساً وقال له: (ادع لي فلاناً وفلاناً وفلاناً للطعام في البيت لوليمة زينب، وادع كل من وجدته، فدعا جميع من وجده، وطاف في الأسواق فجاء معه بثلاثمائة مدعو، فملئوا الغرف النبوية وملئوا ساحات الدار، وقبل أن يقدم الطعام دعا به فوضع عليه يده، يقول أنس: ولقد كان الطعام قليلاً فوضع عليه يده فأكل هؤلاء الثلاثمائة عشرة عشرة، قال: فوالله عندما رأيته لا أدري هل كان بعدما أكلوا أكثر منه عندما وضعته، أو كان في الأول أكثر، فكل الأواني لم تفرغ من الطعام لا لحماً ولا خبراً) وهذا من معجزات رسول الله عليه الصلاة والسلام المشهور بها، وكان الله يبارك له في كل ما يضع يده عليه من ماء أو طعام.
فعندما أكل الناس من الطعام جلسوا يتحدثون، فتضايق منهم النبي عليه الصلاة والسلام والحجاب لم ينزل بعد، وكانت العروس جالسة في المكان الذي سيدخل فيه الرجال ووجهها إلى الحائط، وبقيت ساعات على هذه الحال.
فالنبي عليه الصلاة والسلام خرج بعد أن انتهت الوليمة ليشعرهم بذلك فيخرجون، يقول أنس:(209/2)
أمر الله نساء النبي بالحجاب وبيان صفته
قوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53].
أي: إذا أردتم ما يتمتع به من آنية أو آلة أو أردتم فتوى أو سؤالاً علمياً فاسألوهن من خلف الحجاب، والحجاب يجب أن يكون كاملاً بحيث يحرم رؤية نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شخوصهن من وراء النقاب، فلا ترى شخوصهن ألبتة، لا بد أن يكن مستورات خلف حائط أو ستار، ولذلك أمرهن الله بعدم الخروج، ولذلك عندما ذهبت عائشة إلى الكوفة وقصدها الصلح ركبت على هودج، فكانت مستورة لا يرى منها شيء.
وفي حياة عمر رضي الله عنه ماتت سودة فأمر عمر ألا يحضر جنازتها إلا محارمها؛ لكي لا ترى جثتها تحت الكفن؛ لأنه يحرم على الرجال أن يروا من نساء النبي عليه الصلاة والسلام حتى شخوصهن وهن متسترات، ولو تحت النقاب، فالتفتت إليه أم حبيبة وكانت في أرض الحبشة فقالت له: يا أمير المؤمنين لما كنا في الحبشة مهاجرين رأيناهم يضعون النساء عند موتهن في صندوق من خشب، فلو فعلت ذلك، فأعجبت الفكرة عمر، فوضع سودة في صندوق من الخشب، ووضع الصندوق في التراب ودفنت به؛ لكي لا ترى ألبتة.
وهذه العادة أن المرأة تكون في صندوق ويحمل الصندوق الرجال ولا يرون جثة المرأة، لا تزال في المغرب إلى اليوم منذ ألف وأربعمائة عام، منذ عهد المؤسس الأول للدولة الإدريسية: إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي، وفاطمة عليهم السلام، وأخذ هذه العادة من الحجاز، وهو مدني أخذها من المدينة المنورة، ولا تزال هذه العادة هنا كذلك، ولكن لا أدري هل تدفن بصندوقها أو إنما توضع على النعش كذلك مستورة ولا تدفن في صندوقها؟ أما المغاربة فهم أكثر اهتماماً بهذه السنة لأمهات المؤمنين.
وقوله: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] أي: أطهر أكرم وأشرف وأبعد عن الريبة والسوء والأطماع، سواء كان هذا في الحياة النبوية أو بعده، خاصة وستذكر المعاني المسندة لهذا في آخر الآية.
بعد أن نزل الحجاب قال البعض: لماذا نحجب عن بنات عمنا وعن بنات عشيرتنا؟ لو مات رسول الله لتزوجنا عائشة وكل صار يقول كلاماً، فحرم الله الكلام معها ومع غيرها من أمهات المؤمنين، قال تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] أي: أطهر لقلوب السائلين والرجال المتكلمين، ومن تكلم معهن من أمهات المؤمنين أطهر وأبعد عن الريب والقيل والقال.(209/3)
النهي عن إذاية الرسول وتحريم التزوج بنسائه من بعده
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب:53].
زعموا أنه عندما نزل الحجاب قال طلحة بن عبيد الله وهو تيمي من عشيرة عائشة: لم يحجب عنا بنات عمنا؟ لو مات رسول الله لتزوجت عائشة.
فكان هذا القول عظيماً، وإن كان هذا الكلام عن طلحة نفاه البعض من السلف والإمام السيوطي ذكر: أن رجلاً يسمى طلحة بن عبيد الله وليس هو طلحة بن عبيد الله الذي هو أحد الستة المرشحين للخلافة، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وهو الذي شلت يده يوم أحد دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقيت معطلة لم يستفد بها.
وقال بعضهم: عندما قال طلحة هذا إنما قاله على العادة من أن العرب المسلمين كانوا يتزوجون من مات عنهن أزواجهن ومن طلقهن أزواجهن، فاعتبروا هذه حسب العادة، ولكن عندما نزلت الآية وقال الله عن هذا إنه إذاية لرسول الله، وأن الزواج بنسائه بعده أمر عظيم وخطر عظيم وبلاء عظيم في الإسلام، تركوا هذا القول وتابوا إلى الله منه.
وفي حياة أبي بكر تزوجت امرأة طلقها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الدخول بها، فانزعج أبو بكر وهم بقتلها وقتل من تزوجها، فقال له عمر: أربع على نفسك، لم ينزل عليها حجاب ولم يدخل بها رسول الله، ولم يتم له عقد عليها ولم تسم بأم المؤمنين، وبالتالي فليست زوجة لرسول الله.
بعد هذا هدأت نفس أبي بكر.
أما لو حاولت إحداهن وحاشاها من ذلك أن تتزوج أو حاول أحد أن يخطبهن لقتله أبو بكر والمؤمنون.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب:53] سواء الإذاية بالإثقال عليه بالكلام أو بقلة الأدب معه، أو بمخالفته وعصيانه، أو غيرها من أنواع الإيذاء.
ومن الإيذاء الزواج بإحدى أمهات المؤمنين، وما سماهن الله أمهات للمؤمنين إلا لأنهن محرمات على الرجال تحريم الأم أدباً واحتراماً، ولسن بأمهات حقيقة، ولا يجوز للمؤمنين أن يجلسوا معهن أو أن يكلموهن إلا من وراء حجاب.
{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب:53] والنكاح يقصد به العقد والخطبة وما سوى ذلك، فكل ذلك قد حرمه الله.
وقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53]، أي: كان هذا الأمر شيئاً فظيعاً عظيم الإثم، من الكبائر ومن الجرائم لمن فكر فيه، فضلاً عن أن يطلبه أو يسعى فيه، سواء من الرجال أو من أمهات المؤمنين أنفسهن.
هل هذا الحجاب خاص بأمهات المؤمنين أو عام لكل المؤمنات؟ الحجاب عام لكل المؤمنات، ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر إلا وكان ذلك أمراً عاماً لجميع الرجال والنساء، إلا ما خص الله به نبيه دون المؤمنين، كما قال عن الواهبة نفسها، وكما خصه الله بتسع نسوة، وكما خصه الله بالتهجد ليلاً فرضاً، وكما خصه بتحريم أكل الثوم والبصل والكراث وما فيه رائحة كريهة، وهو حلال لكل المؤمنين، ولكن إذا أكلوه وكان نيئاً وكانت رائحته ظاهرة يخرجون من المسجد إن دخلوه، حتى تنقطع منهم تلك الروائح الكريهة.
إذاً: الحجاب حسب هذه الآية يشمل بدن المرأة، وكما قال ابن عباس وابن مسعود: (المرأة كلها عورة، وإنما أذن لها بكشف عين واحدة أو عينين للنظر).
ومن باب أولى إن خرجت لشغلها أو للضرورة من الدين والدنيا أن تخرج غير متبرجة ولا متعطرة ولا متزينة ولا مظهرة محاسنها لأحد، ولا متكسرة في مشيتها في الشوارع، شأن من يعرضن أنفسهن على الرجال من الفساق والفخار.(209/4)
تفسير قوله تعالى: (إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً)
قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:54].
قالوا عن طلحة عندما ذكر ما ذكر وقال ما قال: من التزوج بـ عائشة رضي الله عنها بعد موت رسول الله: إنه بعد نزول الآية حج على رجليه وهو كبير يتجاوز الأربعين توبة لله ورجاء مغفرته، وإنه أعتق جميع عبيده وإمائه طلباً للمغفرة من الله من هذه القولة التي قالها، وفعل الكثير من الحسنات عسى الله أن يتوب عليه وأن يغفر له قولته، إن كان قالها فهي قولة عظيمة، ولكن الله يتوب على من تاب، على أن السلف قالوا: لم يقل ذلك طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
وقد ذكرنا أن السيوطي أكد في رسالة مستقلة أن الذي قال ذلك رجل اسمه طلحة بن عبيد الله وهو غير طلحة بن عبيد الله الذي هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، والذي شلت يده يوم أحد دفاعاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ} [الأحزاب:54] أي: إن تظهروا ما أضمرتم في نفوسكم أو تخفوه عن الله، فإن الله بكل شيء عليماً.
فمن أخفى الزواج بأمهات المؤمنين، ومن أخفى الرغبة فيهن، ومن حدثته نفسه بما لا يليق مع رسول الله ومع مقام رسول الله عليه الصلاة والسلام فالله عالم بذلك لا تخفى عليه خافية جل جلاله وعلا مقامه.
وهذه الآية خرجت مخرج التهديد والوعيد والنذير لمن تحدثه نفسه بأمثال هذه الأشياء من إيذاء رسول الله فيما لا يرضي رسول الله، سواء كان حياً أو ميتاً؛ لقولة يقولها أو بعمل يعمله، أو بمخالفة له في أوامره ونواهيه، فالله يعلم ذلك من نفس الإنسان أخفى ذلك أو أعلنه.(209/5)
تفسير قوله تعالى: (لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن)
قال الله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب:55].
أي: بعد أن منع الرجال من أن يتكلموا مع أمهات المؤمنين إلا من وراء حجاب، استثنى هؤلاء فقال: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} [الأحزاب:55] أي: لا إثم ولا ملامة ولا حرج أن يراهن آباؤهن، أن يرى عائشة أبو بكر، وأن يرى حفصة عمر، وهكذا بقية نساء النبي عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {وَلا أَبْنَائِهِنَّ} [الأحزاب:55].
كان لأكثر أمهات المؤمنين أولاد، وكلهن أرامل سوى عائشة وكان لبعضهن أولاد من غير رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأذن الله لهن ولهم أن يرى بعضهم بعضاً؛ لأن هؤلاء محارم.
وقوله: {وَلا إِخْوَانِهِنَّ} [الأحزاب:55].
أي: الأخ من الأب والأم أو من الأب فقط أو من الأم فقط، لا مانع من أن يرى محمداً وعبد الرحمن عائشة، ولا مانع من أن يرى معاوية بن أبي سفيان أخته أم حبيبة، وهكذا قل في بقية أمهات المؤمنين.
وقوله: {وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ} [الأحزاب:55].
أي: أبناء محمد بن أبي بكر، وأبناء عبد الرحمن بالنسبة لـ عائشة، وأبناء معاوية وأبناء الباقي من الإخوة الذكور بالنسبة لـ أم حبيبة.
وقوله: {وَلا أَبْنَاءِ أِخْوَاتِهِنَّ} [الأحزاب:55] أبناء الأخوات كأبناء أسماء أخت عائشة وهم عروة وإخوته.
وقوله: {وَلا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب:55] قال أكثر المفسرين: لا يحل لأمهات المؤمنين كما لا يحل للمؤمنات عموماً أن يتكشفن أمام امرأة غير مسلمة، ويعتبرنها كالرجل تماماً؛ كي لا تصف هذه المرأة المشركة أمهات المؤمنين.(209/6)
تفسير سورة الأحزاب [55 - 56]
يبين الله في كتابه المحارم الذين لا جناح على المرأة أن تظهر أمامهم، وذلك بعد أن ذكر الحجاب المفروض على أمهات المؤمنين، وبين أيضاً ما شرف به عبده محمداً صلى الله عليه وسلم من أنه وملائكته يصلون عليه، ثم فرض على المؤمنين أن يصلوا عليه ويسلموا تسليماً.(210/1)
تابع تفسير قوله تعالى: (لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن)
قال الله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب:55].
نحن لا نزال مع سورة الأحزاب وما فيها من أحكام الحلال والحرام، وأحكام النكاح للمؤمنين جميعاً ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وما في السورة من آداب ورقائق وتهذيب، آداب الأسرة في أدبها في بيوتها وفي ولائمها ومع الناس.
عندما أنزل الله سبحانه الحجاب وكان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة في شهر ذي القعدة حيث كانت غزوة الأحزاب التي سميت بها السورة، نزل قوله تعالى فيما نزل من آية الحجاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] ولو بقيت هذه الآية وحدها لفهم أن الحجاب عام في المحارم وغير المحارم، ولكن الله جل جلاله استثنى من ذلك المحارم بعد أن فرض الحجاب على أمهات المؤمنين وتبعاً لهن نساء المؤمنين، وجعل ذلك فرضاً واجباً على كل امرأة مسلمة قد بلغت الحلم.
فاستثنى الله بعد ذلك بقوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ} [الأحزاب:55] أي: لا جناح ولا إثم ولا حرج على أمهات المؤمنين ونساء المؤمنين في الكشف لآبائهن، أو أبنائهن، أو إخوانهن، أو أبناء إخوانهن، أو أبناء أخواتهن، كل ذلك قد أباح الله لأمهات المؤمنين وللنساء المؤمنات، أباح لهن عدم الحجاب منهم؛ لأنهم محارم.
وقوله: {وَلا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب:55] فسر المفسرون النساء هنا مع الإضافة إليهن أي: النساء المسلمات، أما المرأة غير المسلمة فلا يباح للمؤمنة ولا لأمهات المؤمنين أن يكشفن لهن.
ولكن بعض المفسرين من المحققين يقولون: إن معنى قوله: {وَلا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب:55] أي: لا يحتجبن من النساء مطلقاً كما لا يحتجبن من ذوي المحارم أو ما ملكت أيمانهن.
وقوله: {وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [الأحزاب:55] أي: ولا حرج ولا إثم في ملك اليمين، قالوا: ملك اليمين هنا النساء، ولا دخل للرجال في الموضوع؛ لأن الرجال قد خرجوا في الآية السابقة: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:53] فهنا الخطاب لكل الرجال سواء كانوا أحراراً أو عبيداً.
فقوله: {وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [الأحزاب:55] أي: ما ملكت اليمين من الإماء لأمهات المؤمنين فلا حرج في عدم الحجاب منهن.
وهذه الآية لم يذكر فيها أبناء الأزواج، والربائب.
وفي قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] ذكر البعولة، أما هنا فالبعل هو النبي عليه الصلاة والسلام، وأيضاً لم يذكر أبناء البعولات، من هنا كان الحسن والحسين أبناء فاطمة وأبناء علي، أسباط رسول الله عليه الصلاة والسلام، بما أن أبناء البعولة أبناء الزوج الذي هو رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يذكروا هنا في الآية، فـ الحسن والحسين كلاهما: بالنسبة لأمهات المؤمنين كغيرهما من الرجال، وبقيا على عموم الحجاب، فلم يكن الحسن ولا الحسين يدخلان على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكونا يوماً يريدان رفع الحجاب بينهما وبينهن، وأمهات المؤمنين أقررن كذلك أن الحسن والحسين وهما أبناء رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ولكن الحسن والحسين عليهما السلام فهما الآية فهماً ظاهرياً، ومن أدلة الظاهرية داود وابن حزم ورجال مذهبهما أن النص يفهم على ظاهره، فـ الحسن والحسين لأنهما لم يذكرا في هذه الآية حسبا أنفسهما أجانب عن أمهات المؤمنين، فيجب عليهن أن يحجبن منهما، وبقيا هكذا مدة حياتهما رضي الله عنهما.
لم يذكر في الآية كذلك ما ذكر في إبداء الزينة كما في سورة النور: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] وإنما ذكر الباقي من أبناء الإخوة وأبناء الأخوات والنساء وملك اليمين.
ولم يذكر الخال والعم لا في الآية الأولى ولا في الآية الثانية، ومن هنا كره بعض الأئمة أن تكشف البنت خمارها وشعرها أمام عمها أو خالها؛ لأنهما قد يصفان بنت الأخ وبنت الأخت لأولادهما، والأمر ليس كذلك، فالعم محرم والخال محرم، ولكن العم دخل في ذكر الأب: {أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31] فالعم أب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (العم صنو الأب) أي: هو أب وأخ للأب وفي رتبة الأب.
ولم يذكر الخال؛ لأنه في معنى الخالة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الخالة أم).
هذه الآيات الكريمات لم يذكر الله فيها ابن العم وابن الخال؛ لأنهما أجنبيان، والزواج بهما صحيح جائز بإجماع المسلمين.
وقد جاء الإسلام وسطاً بين اليهود والنصارى، فالنصارى حرموا الزواج بابنة العم وابنة الخال، واعتبروهما كالأختين إلى سبعة آباء.
واليهود أفرطوا وتجاوزوا الحد فأباحوا زواج بنت الأخ لعمها، وبنت الأخت لخالها، فتزوجوا المحارم.
وقوله: {وَلا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب:55] أي: من كن من جنسهن فلا استثناء، فالنساء كلهن لا يحتجب بعضهن من بعض إلا في العورات، والمرأة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وعورة الرجل من السرة إلى الركبتين، فما سوى العورات يجوز أن يراه المحرم، وما كان من العورة فلا يجوز بحال إلا للزوج.
ومن هنا ذكرت البعولة -أي الأزواج- في قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] فهذا استثناء من الحجاب الذي فرضه الله على نساء النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم أمرهن بالتقوى فقال: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} [الأحزاب:55].
أي: خفن من الله واخشينه، وخفن عذابه وعقابه وأطعنه، أحللن حلاله وحرمن حرامه فيما أمر به في كتابه، وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام طاعة له.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب:55] هذا نذير ووعيد، أي: اعلموا يا هؤلاء أن الله شاهد ورقيب على أعمالكم، إن فعلتم خيراً فمرجع ذلك في الخير والجزاء لكم، وإن فعلتم سوى ذلك فإثمه عليكم، ولكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن كن في منتهى التقوى والصلاح والطاعة والرضا لله ولرسوله.(210/2)