تفسير قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:58].
هذه الآية الكريمة نزلت في الهجرة في سبيل الله، أي: فيمن هجر الأهل والأوطان والأموال ثم انقطع في هجرته فقتل مجاهداً ومحارباً أو مات حتف أنفه كل ذلك سواء، فمن كان هذا حاله فإن الله يرزقه.
قال تعالى: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:58] اللام موطئة للقسم، فالله جل جلاله يقسم بذاته العلية، ويؤكد ذلك بلام القسم وبالنون الثقيلة: بأن هؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله فقتلوا وهم مهاجرون أو ماتوا حتف أنوفهم ميتة عادية، فالله يرزقهم الرزق الحسن، والرزق الحسن هو رزق الآخرة، رزق الجنة، وهو الرزق الدائم منذ قتلهم وموتهم إلى أن يبعثوا وإلى أن يدخلوا الجنة، كما قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] فهم يرزقون رزقاً الله أعلم بحاله، ترزق أرواحهم ونفوسهم الرزق الحسن الدائم الطيب، الذي فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، كما وصف الله جلا جلاله نعيم الآخرة.(77/2)
عدم التفريق بين من قتل أو مات في سبيل الله
كان سلمان الفارسي رضي الله عنه مع جند من الأصحاب في حصن من حصون الروم يحاصرونه، وإذا بأحد الجند يموت ميتة طبيعية وآخر يقتل، فذهب سلمان في جنازة الذي مات ميتة طبيعية وترك الآخر، فقيل له: يا صاحب رسول الله! تركت الشهيد وذهبت لمن مات حتف أنفه، فقال لهم: ألا تقرءون القرآن! {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:58]، فالله لم يفرق فيمن هاجر في سبيل الله بين أن يكون مات قتيلاً أو مات ميتة طبيعية، فأولئك شهداء، وكل أولئك يرزقون في الجنة الرزق الحسن.
وتكرر هذا في جزيرة روس وكان الأمير فضالة بن عبيد الأنصاري، فمضت جنازتان جنازة لجندي قتل وجنازة لميت مات من هؤلاء المرابطين في سبيل الله، فذهب الأمير لجنازة الميت وترك الجنازة الأخرى؛ لأن كليهما دفن في وقت واحد، هذا في جهة وهذا في أخرى، ولم يمكن جمعهما في مقبرة واحدة ولا من طريق واحدة، فقال فضالة: ألا تقرءون القرآن! كل من خرج في سبيل الله فمات أو قتل فهو شهيد في سبيل الله، لا فرق بين قتيل وميت حتف أنفه، وتلا الآية: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:58].
وسبيل الله أبوابه كثيرة، وليس الجهاد والقتال بالسيف فقط، بل من خرج من بيته يريد الحج فهو سبيل الله، ومن خرج يريد طلب العلم فهو في سبيل الله، ومن خرج يدعو إلى الله فهو في سبيل الله، وأي تنقل وسياحة وسفر يريد صاحبها الله بعمله ومن أجل الله فهو في سبيل الله، دفاعاً بالسيف أو نشراً للإسلام بالقلب أو باللسان أو بعمل من الأعمال، فإن كان لا يريد هذا السائح والمسافر إلا وجه الله فإن مات كانت هجرته في سبيل الله، وله من الله الرزق الحسن، وكان مع الشهداء الذين تشهد جنازتهم الملائكة.(77/3)
الهجرة صورها وفضلها
والهجرة -أي: هجرة ديار الكفر والفسق والظلم- هي كذلك، فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما هاجر من مكة إلى المدينة كان مهاجراً في سبيل الله منذ خرج من بيته إلى أن مر على صاحبه أبي بكر، إلى أن اختفى في جبل ثور، إلى أن وصل للمدينة المنورة، إلى أن لقي ربه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن هنا عند فتح مكة ظن الأنصار أنه صلى الله عليه وسلم سيبقى في بلدته ومسقط رأسه ومدينة عشيرته، وإذا به يبقى مهاجراً إلى أن لقي ربه، وتبعه في ذلك أصحابه الذين هاجروا معه، والذين لقبوا من عملهم بالمهاجرين، فكان الذين هجروا دار الكفر إذ ذاك وهاجروا منها يسمون المهاجرين، ومن أسلم في بلدته من الأوس والخزرج في المدينة المنورة يسمى أنصارياً، والهجرة لا تنقطع إلى يوم القيامة، وهي هجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وهجرة من بلاد التقوى والصلاح رحلة إلى ديار التقوى والصلاح، ومن ديار الفسق والظلم والمعصية إلى ديار الدين والاستقامة.
وهكذا وعد الله تعالى الذي يهاجر في سبيله إما بغضاً للكفر والمعصية، وإما للقتال بالسيف أو بالقلم أو باللسان أو بالمال، أو بأي نوع من أنواع القتال، إذا مات ولو مات ميتة طبيعية فميتته وقتلته شهادة، ولكن الشهادة تكون لكل من تغرب عن أهله في سبيل الله، لا يريد بذلك إلا وجه الله، فالأمر يرجع إلى النية.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
ولذلك فالأمور جميعاً بالنية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، فمن هاجر إلى لله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) فمن هاجر إلى الله والدار الآخرة وترك الأهل والأوطان والأموال لأجل الله، فهذا هو الذي ثبتت له هجرته وصدقت نيته، فإن قتل أو مات فكل ذلك سواء، فسيرزقهم الله الرزق الحسن، والرزق الحسن هو نعيم الجنة الخالد.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:58].
أي: الله جلا جلاله هو خير من يرزقك، وإن كان غيره لا يسمى رازقاً ولا معطياً ولا مضيفاً إلا مجازاً، وإلا فالرزق والعطاء الحق من الله، فهو الرزق الخالد الدائم، الذي فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ورزقه خير للإنسان من رزق أهله وحكامه والتجارة له، وخير من أرزاق الدنيا بكل أنواعها، وإن كان ذلك أيضاً يعتبر رزقاً من الله وكرماً وعطاءً منه، إن كان حلالاً نتيجة عرق جبين، ومن باب أولى إن كان رزقاً فيه هجرة صادقة، فيكون الرزق الخالد الدائم في الجنان، والله بذلك خير الرازقين والمكرمين جلا جلاله.
ثم قال تعالى: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:59].
رزق الله جلا جلاله يكون (بالمدخل الحسن) بالضم، أو (المدخل الحسن) بالفتح، وبكل ذلك قد قرئ في السبع.
والمدخل الحسن: هو ما تدخل إليه وترتاح له، وفيه ما يسرك ويقر عينك، وهل هناك مدخل أحسن من المدخل للجنة وللنعيم الدائم؟ والذي أعظمه رؤية وجه الله الكريم.
ذلك المدخل الذي يرضيهم فيه بما تقر له أعينهم، وتطيب له نفوسهم، بما يخلدون فيه الخلود الأبدي الدائم، وما ذلك إلا صفة لنعيم الجنة، ولرزق الله الخالد الذي في الجنة، والتي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:59].
أي: إن الله لعليم بأعمالنا وبنياتنا، وعليم بمن هاجر لا يريد إلا الله ورسوله، وبمن كانت سفرته وهجرته في الحقيقة لزواج أو لمال أو لجاه أو لأي شيء يرجع لشئون الدنيا فقط.
ولذلك يعامل الله جلا جلاله العابد على نيته، فإن كانت نيته الهجرة فيجازى بما يجازى به المهاجرون، وإن كانت الدنيا فهو للدنيا: إن أصابها فذاك، وإن لم يصبها فقد خسر الدنيا والآخرة، وهذا فيما إذا تظاهر للناس بأنه خرج مهاجراً لله، وهو لم يهاجر إلا لدنيا يصيبها، ولكن الله مع ذلك على علمه هو حليم غفور رحيم، فحتى الذي هاجر لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها يغفر له حلماً منه ورحمة ورأفة جل جلاله إن غير نيته من الدنيا إلى النية الصالحة؛ نية الرغبة في الآخرة، والهجرة للخير في سبيل الله.
ولقد قال سفيان بن عيينة: طلبنا العلم لغير الله فأبى الله إلا أن يكون له، يقول سفيان ذلك عن نفسه، تعليماً وتربيه لغيره من الناس سيما طلاب العلم، فإن كنت طلبت العلم لتكون قاضياً، أو لتكون موظفاً أو حاكماً، أو ليقال عنك: عالم، أو ليكون معك كذا وكذا فإن كانت نيتك كذلك فتب إلى الله منها، وغيرها إلى نية صالحة، فتطلب العلم لتدعو الناس إلى الله على بصيرة، أو لتنصر الدين ولتكون خليفة من خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في نشر العلم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) العلماء الذين يدعون الخلق إلى الله، ويعرفون للناس الحلال من الحرام، ليحرصوا على أن يكونوا حيث أمرهم ربهم، وحيث أمرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، فيفعلون من الحسنات قدر طاقتهم، ويتركون المنكرات جميعاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا) فهذا هو الضابط فعلاً وتركاً، وإنما كان الفعل على قدر الاستطاعة؛ لأن الأعمال كثيرة، وطاقة البشر أضعف من ذلك، فالله أمرنا بالصلاة والوضوء بالماء، وبتلاوة القرآن، وباستقبال القبلة، فإن نحن عجزنا -جدلاً- عن معرفة القبلة لسبب ما، أو لم نستطع استعمال الماء أو فقدناه، أو مرضنا فلم نستطع الصلاة قياماً، فالله يقبل منا أن نصلي كما أمرنا في حال المرض، أي: أن نصلي جلوساً، فإن لم نستطع فعلى جنب، وإن لم نجد الماء نتيمم بالصعيد الطاهر، وهكذا.
وهكذا سائر الواجبات، أي: جعلها الله قدر جهدك، وما جعل عليك في الدين من حرج، فلم يأمرنا بما لم نستطع، ولم يكلفنا بما لا تعيه العقول.
وكما أنه عليم بأعمالنا وقدراتنا، فهو حليم بنا، فإذا نحن أسأنا النية أو العمل ثم استغفرنا فهو يغفر لمن تاب، والله غفور لمن يستغفره جلا جلاله وعلا مقامه.(77/4)
تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به)
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60].
أي: كون الإنسان مهاجراً في سبيل الله، لا لدنيا يصيبها، ولا لامرأة ينكحها، بل بذل نفسه رخيصة في سبيل الله، فهجر ديار الكفر والفسق رغبة فيما عند الله، وليتعاون مع إخوانه المؤمنين على عبادة الله والدعوة إليه جل جلاله.
وقوله: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} [الحج:60].
أي: الذي عاقب ظالماً وانتقم منه، فليس له أن يزيد في ظلمه أكبر مما أساء إليه، بل كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40].
وأما الكافر فجزاء حربه وقتاله الموت، أو يستقم ويؤدي الجزية عن يد وهو صاغر؛ لتصبح كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وستبقى كلمة الكافر ذليلة لا سلطان لها ولا ممتثل ولا عامل بها، وتبقى كلمة الله من كتابه ومن دينه ومن هدي الرسول هي العالية المعمول بها، التي تحكم والتي تأمر وتطاع.(77/5)
سبب نزول قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب)
وقالوا: سبب نزول هذه الآية أن الكفار أرادوا أن يهجموا على مسلمين في شهر من الأشهر الحرم، وهو شهر محرم، فناشدوهم وقالوا: لا ترفعوا سيفاً ولا تقتلوا ولا تقاتلوا في شهر حرام، فالله حرم ذلك، وهم جاءوا ليحاربوا المسلمون في شهر حرام، ظناً منهم أن المسلمين في الشهر الحرام لن يقاتلوا، ولن يعاقبوا أو ينتقموا، ولكن الله أذن في القتال وقال: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} [الحج:60] فكان القتال سجالاً، والبغي هنا: هو الظلم الزائد، فالمشركون أبوا إلا القتال في الشهر الحرام.
وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحاً -وكان بعضهم قد قتل، وكان هناك قتال في الجهة التي دخلها خالد بن الوليد -: (إن الله تعالى حرم مكة إلى يوم القيامة، ولم تبح لي إلا ساعة من نهار، ولم تحل بعد اليوم لأحد) هذا إذا كانت الحرب ابتداء كما صنع صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الحرب في شهر رمضان شهر العبادة والطاعة، واسترسلت إلى إلى شوال وذي القعدة وذي الحجة ومحرم، الأشهر الحرم الأربعة، ومكة بلد حرام لا يباح القتال فيها في الأشهر الحرم وفي غيرها، وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لم يؤذن في القتال إلا ساعة من نهار) فالمراد: الابتداء، ولكن ذلك الابتداء كان جزاء لما سبق أن فعله كفار قريش من حرب رسول الله والمسلمين، وإخراج رسول الله، ثم ابتدأ المسلمين مع النبي صلى الله عليه وعلى آله بالقتال، وهذا الذي حرمه الله في مكة وفي المدينة في الأشهر الحرم إن كان ابتداء، لكن لم يكن فعل النبي وصحبه ابتداء، بل المشركون هم البادئون بالاعتداء، والدفاع والكفاح والجهاد واجب على كل من يستطيع حمل السلاح في داخل البلد المحرم وخارجه.
إذاً: فالكفار كانوا قد هاجموا في شهر حرام؛ فقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} [الحج:60] فالكفار قاتلوا فقتلوا رداً على قتالهم.
قوله: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} [الحج:60] أي: ظلم المسلمين زيادة على الحرب بأن قوتلوا في شهر حرام، والقتال في الشهر الحرام اعتبر عند المسلمين في دينهم بغياً وظلماً.
فعندما ظلموا وطغوا على المسلمين أذن الله للمجاهدين من المؤمنين أن يعاقبوهم مرتين للقتال، ثم لما زادوه بغياً بأن كان ذلك في شهر الله الحرام، أذن الله لهم أن يقاتلوا في شهر الله الحرام.
وقوله تعالى: {لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] أقسم الله بأن الذي بغي عليه -ولو في شهر حرام وفي أرض حرام- ثم انتقم جزاء وفاقاً من ذلك الظالم الباغي أن الله سينصره، أي: ينصر المظلوم وقد فعل، فقد نصر الله هذه الفئة المظلومة المبغي عليها نصراً عزيزاً مؤزراً، وهزم أولئك الباغين الظالمين المنتهكين لشهر الله الحرام، فقوتلوا وأذلوا.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60] أي: بعد ذلك قد عفا الله عن هؤلاء؛ لأنهم لم يقاتلوا بغياً وعدواناً في شهر الله الحرام، وإنما قاتلوا جزاءً وفاقاً وانتقاماً، أي: عقوبة لمن ظلمهم مقابل عقوبة.
فالعقوبة الأولى هي: الظلم الأول الذي من المهاجم الكافر، فحق عليهم القتال، وأما لجزاء فهو في قوله: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} [الحج:60]، وإنما سمي عقاباً أو عقوبة للمشاكلة في اللفظ، وهذا من أنواع البلاغة، وإلا فالمقابلة ليست عقوبة وذنباً، أي: من حيث الاسم، وإنما كانت تأديباً، وهي عقوبة نتيجة للعقاب السابق، كما قال الله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] أي: المجازي للمسيء ليس مسيئاً، ولكن سميت إساءة في المقابلة والمشاكلة، وهذا نوع من أنواع البلاغة في لغة العرب التي بها نزل القرآن الكريم.
وقديماً قالوا في قواعد الأصول: الضرورات تبيح المحظورات، فالشهر الحرام ليس فيه حرب، وبلد الله الحرام كذلك، ولكن إن ابتدأ الظالم الحرب في بيت الله الحرام، وكذا إن هاجم في الأشهر الحرم، فعند ذلك يباح للضرورة ولجزاء الظالم وعقوبة المسيء أن يقاتل في المدينة الحرام وفي الأشهر الحرم.
وأما ابتداء القتال فيه فهو عظيمة من العظائم وكبيرة من الكبائر، بل إن بعض الفقهاء يرى أن إقامة الحدود يجب أن تكون خارج الحرم لا في داخله.(77/6)
تفسير سورة الحج [61 - 63]
إن من آيات الله تعالى المرئية أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وأنه يحيي الأرض بعد موتها بهذا الماء الذي ينزله من السماء، فمن كان هو الخالق الرازق المتصرف في الكون فهو المستحق للعبادة وحده، ولا يستحقها من لا ينفع ولا يضر.(78/1)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار)
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61].
(ذلك) أي: ومن قدرة الله ومن أحكامه وأوامره أنه جل جلاله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الحج:61] هذا في قارات الأرض طبيعي إلا ما شذ منها كالقطب الشمالي المتجمد، فإن النهار فيه أربع وعشرون ساعة، وعندما يقول الله لنا: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} [الحج:61] يصبح الليل في ليالي الشتاء قصيراً، ويصبح الليل في الشتاء طويلاً ويصبح النهار قصيرً، وتم ذلك بإدخال وإيلاج الليل في النهار، نقص من الليل وزاده في النهار وأدخله، واليوم الطبيعي اثنا عشر ساعة، والليل مثله، وقد يزيد الليل عن أربع عشرة ساعة، وقد يصل إلى سبع عشرة ساعة، ويعكس في الصيف.
وقوله سبحانه: (يولج) معناه: يدخل، فيدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، فينقص من النهار صيفاً ويدخله في الليل، فيصبح الليل في الشتاء طويلاً والنهار قصيراً، وفي الصيف تكون الليالي قصيرة والنهار طويلاً، ومن هنا يشق الصوم على بعض الناس إن كان رمضان في الصيف، ولكن الله جل جلاله يشاء أن يأتي رمضان تارة قصيراً وتارة طويلاً، حسب الفصل الذي يكون فيه من شتاء أو صيف، وذاك معنى الإيلاج والإدخال.
ومع قصر الليالي والأيام وطولها فالصلاة هي الصلاة والصيام هو الصيام، فالصلوات تكون حسب الشمس، أي: يزيد وقتها أحياناً وينقص، والصيام أيضاً يكون حسب طلوع الفجر وغروب الشمس، ويزيد أيضاً وينقص، ولكن ذلك لا يخرج عن كون الصلاة في اليوم والليلة خمسة فروض، والصيام في السنة شهراً، ابتداء من طلوع الفجر، وانتهاء بغروب الشمس، ذاك حكم الله وأمره في النهار والليل.
ثم قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61].
أي: سميع لمن دعاه، بصير بالمطيع وبالعاصي، وهذا في معنى التهديد والتبشير، أي: البشارة للمؤمن الملتزم بأن الله يعلم عمله ونيته وصدقه فيها، ويبصر عمله الخالص، كما يعلم ويسمع ويبصر عمل العاصي، فالأول يجازيه بالجنة، والآخر بالنار، فهي بشرى للمؤمن، ونذارة للكافر.(78/2)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق)
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
أي: ذلك ليعلم المؤمن والكافر بأن الله هو الحق، فالله هو الحق جل جلاله ويأمر به، فأمر بعبادته، وبامتثال أمره واجتناب نهيه، وأرسل رسله مبشرين ومنذرين، وأمر الناس بطاعتهم، وجعل طاعتهم طاعته، ومخالفتهم مخالفته، كما قال سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
فالحاصل: أن الله جل جلاله أرسل الحق نبياً، وأنزل الحق كتاباً، وجعل الحق ديناً، وما سوى الحق فهو الباطل.
والباطل من الشيطان، وهو يوسوس ويزين الباطل؛ فتنة من الله جل جلاله لعباده، فابتلانا بالخير وبالشر، وابتلانا بالشيطان ليعلم صدق الصادق وكذب الكاذب.
ولذلك فالله جل جلاله هو الحق، وهو من أسماء الله الحسنى، فلنا أن نسمي عبد الحق.
والمؤمن باستمرار في حق منذ أن يخرج لهذا الوجود، وإلى أن يلقى الله، فهو عندما يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قد نطق بالحق، وعندما يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، والإسلام ديني، والقرآن إمامي، والمؤمنون إخوتي، والكعبة قبلتي، يكون قد نطق كل هذا الكلمات والفقرات بالحق الملزم.
والباطل هو ما عند غير المسلم، فاليهود في باطل، ودينهم قد نسخته الديانة المحمدية، فأصبح ديناً باطلاً، والتوراة أصلها من الله، ولكن عندما غيروها وبدلوها، وقذفوا فيها الأنبياء، وتهجموا فيها على الذات العلية، وقالوا عن أنفسهم أنهم أبناء الله، وقالوا عن عزير: هو ابن الله، وقالوا عن العجل كذلك، فأصبحوا يعيشون في باطل: كتاباً وديناً ودعوة ونطقاً، وهكذا قل عن كل كافر.
فاليهود في باطل، والنصارى في باطل، والمشركون في باطل، وكل ما سوى الإسلام باطل، وكل ما سوى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم باطل، إلا ما مضى من نبوة الأنبياء السابقين، وقد أدوا مهمتهم وانتهت.
وهم كانوا رسلاً لأقوام خاصة، ثم نسخت هذه الديانة القومية بالديانة المحمدية العالمية، التي أرسل بها إلى الناس جميعاً، في المشارق والمغارب بيضاً وسوداً وحمراً إلى يوم القيامة، فلا نبي ولا رسول بعده.
وكل دعوة دون الدعوة لله وحده، ودون دعوة محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، النبي الخاتم إلى يوم القيامة، فهي دعوة لغير الله، ولغير دينه، ومن ثم فهي دعوة باطلة شيطانية، فما أوحى بها إلا شياطين الإنس والجن.
ثم قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
الله أعلى من كل علي، وأكبر من كل كبير، لا أعلى منه مقاماً، ولا قدرة سبحانه، ولذلك شعار المسلم الذي ينطق به في اليوم عشرات المرات في صلاته: الله أكبر.
وتعني كلمة (الله أكبر) ألا يجعل المسلم نفسه كبيراً، فلا كبير إلا الكبير المتعال، وألا يهاب أحداً من الخلق إلا الكبير سبحانه، فمهما هدد بالبشر والطغاة والجبابرة فهو عندما يقول: الله أكبر، يكون قد قال: ربي أكبر من كل طاغية وجبار، ومن كل من يريدني بسوء، أو يقف في طريقي وأنا أدعوا إلى الله، وهكذا المؤمن لا يعمر قلبه إلا بالله، ولا يكبر في نفسه ولا يهاب إلا الله، فحينها يكون مؤمناً حقاً.
وأما عندما يكون ضعيف الإرادة والعقيدة، فتجده يخاف من أي شيء، وإذا أنذر بكلمة ارتعد ولم ينم، وينغص عمره وراحته من أجلها.
وأما العامر قلبه بالله بجلاله وعظمته ففي كل شيء يقول: الله أكبر، والله هو العلي الكبير لا سواه، فليس أحد علياً أو كبيراً إلا الله، ومن يجعله الله علياً كبيراً تبعاً لعلوه وكبريائه وجلالته، فهو كبير عندنا.
فالأنبياء والعلماء والصلحاء كبراء عندنا، ولكن ذلك لما أعطاهم الله، وهو من باب تعظيم شعائر الله الذي هو من تمام التقوى، وتعظيم ما عظمه الله وأكرمه، ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول: (اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك).(78/3)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً)
ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج:63].
أي: ألم تر أيها الإنسان، وإن كان الخطاب أولاً لنبينا خاتم أنبياء الله في الأصالة، لكن هو خطاب لجميع الناس، مؤمنهم وكافرهم، وكأن المعنى: ألم تر أيها الإنسان ممن له عين تبصر، وأذن تسمع، وقلب يعي، {أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج:63].
أي: هذه الأرض الميتة الهامدة التي تراها صحراء قاحلة، وتظن أنها لن تنبت، قد أنبتت بإذن الله، وهذه الأشجار التي نرها الآن في مكة والمدينة وفي الكثير من صحاري الحجاز، بل وصحاري الجزيرة العربية، ما كانت تعرف قبل بضع سنوات ولا توجد، ثم نحن اليوم نرى الأشجار، فبعد نزول المطر بضع ساعات ترى الأرض في اليوم التالي مباشرة وأنت في السيارة أو في الطائرة قد أخذت بالاخضرار.
وهذا معجزة إلهية، فالنبي عليه الصلاة السلام قد قال لنا: (لا تقوم الساعة حتى تصبح جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً، وحتى يخرج الرجل بزكاته فلا يجد من يقبلها، ويقول له: أعطها لغيري، أنا لست في حاجة إليها).
وكلا الوصفين النبويين أخذنا نعيش فيهما، ففي الحجاز أصبح الماء يصعد إلى أعلى طبقات بنايات عالية، كأرض الشام والمغرب وتركيا وغيرها من البلاد ذات المياه الغزيرة الفياضة، فقد كان هنا شخص يسمى السقاء، فما عدنا نراه ولا يعرف، وأولادنا لا يعرفونه؛ لأنه مضى عليه أكثر من عشرين عاماً، فندخل البيت وإذا بالمياه تصعد من الأرض إلى أعلى دور، وهكذا وسيزداد ذلك، ولقد قال الخبراء الزراعيون: إن أرض الحجاز بل أرض صحراء الجزيرة يوجد الماء تحت جميع أرضها، فهي أرض على بحر من ماء، وحيثما حفرت تجد الماء.
ويوشك إذا لم يفعل ذلك بها -أي: أن تحفر- أن تنفجر يوماً في كثير من النواحي والجبال، وفي كثير من الصحاري، وهذا شيء لا يكاد يوجد في خارج جزيرة العرب، وهو من إخبار النبي عليه الصلاة السلام بالغيب، ومن المعجزات النبوية التي أدركنها ولم يدركها سابقونا، فسابقونا آمنوا بها تصديقاً، ونحن نؤمن بها واقعاً ومعايشة ومعاصرة.
وقوله سبحانه: {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج:63].
أي: أن الله ينزل الماء على الأرض الميتة التي لا حراك بها ولا تنبت، ولا يكاد يوجد فيها حتى حشرة -لأن الحشرات لا تعيش إلا بالماء- كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30].
فانظروا إلى الأرض الميتة وقد أمطر الله عليها غيثاً، كيف تصبح مخضرة، فتربو وتتحرك بما يخرج منها، وهذا الذي نراه.(78/4)
كيفية إحياء الموتى
ونحن نتساءل كيف يعيش الإنسان بعد الموت؟ ونحن نرى مثاله في الأرض، أي: الأرض الجامدة التي لا حراك بها ولا روح، عندما تنزل عليها الأمطار تربو وتتحرك وتعلو، وتخرج منها خضرة ذات مياه، ويخرج الله منها حباً وزرعاً وثمرات نأكله نحن ودوابنا.
فالماء واحد والفاكهة ألوان، فهذا أحمر وهذا أخضر مع أن المياه الساقية واحدة، فمن الذي صبغ هذا بالأحمر، وهذا بالأخضر وهذا بالأبيض؟! أليس الله جل جلاله، فإذا كان هذا نراه بأعيننا، ونحسه ببشرتنا، ونسمع ما يتعلق به بأسماعنا، وتعيه قلوبنا، فكيف ننكره بعد ذلك ونتشكك في الحياة بعد الموت، ونحن في الأصل قد جئنا من العدم، فإذا كنا شهدنا أولادنا ولم يكونوا، أي: جئنا بالمرأة بلا ولد، فأقامت عندنا بضع سنوات وإذا بمجموعة من الأبناء موجودون بإذن الله.
وأين الآباء الذين كانوا يعمرون البيت، جاءوا من التراب، وذهبوا إلى التراب، وسنلحقهم كما يلحقهم أولادنا وأحفادنا، ويبقى الملك لله الواحد القهار.
ولكن من أخذ الله بسمعه وببصره وبقلبه تجده كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
فمن نزع نور القلب عميت بصيرته، فتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون؛ لأن البصيرة قد عميت.(78/5)
صور من اللطف الإلهي
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج:63].
الله جل جلاله لطيف، فيخرج من الرمال والجمادات والأموات ما فيه حياة، أي: يخرج الحي من الميت، فالأرض الميتة أخرج منها حياة، ويخرج الميت من الحي كذلك، فتجد المرأة وهي في حركاتها ونشاطها يخرج منها ميت، وتجد الكافر وهو ميت في الحقيقة يخرج منه مؤمن صالح يدعو إلى الله، ويقول: ربي الله، والعكس بالعكس.
وهو سبحانه خبير بما ينفع وبما يضر عباده، ولكنه يأمر وينهى ويرسل الرسل مبشرين ومنذرين؛ لتبقى الحجة البالغة لله، فإذا سئل العبد عندما يدخل القبر: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ فيقول: لا أعلم، لم يرسل إلي شيء، ولم أقرأ كتاباً، فكأنه يقال له: أسمعت؟ فيقول: نعم سمعت، فيقال: لماذا لم تبحث؟ ألم يخطر ببالك أن الله جعل هذا من أجلك وخلقت من أجل عبادته؟ أخطر ببالك أنك خلقت في هذه الدنيا سبهللا؟ ألم تسمع يوماً قول الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]؟ فتبقى الحجة لله البالغة، وإذا بهذا تحت المرازب والمقامع والعذاب المقيم، في القبر روحاً، وفي الآخرة جسد وروحاً، أما من مات على لا إله إلا الله فيرجى له الخير على أي حال، ومن مات على الشرك فقد قال الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48].(78/6)
تفسير سورة الحج [66 - 72]
إن لله تعالى صفات الكمال ونعوت الجلال، فهو المحيي المميت، والخالق الرازق، والمتفضل بالنعم، ومع هذا تجد الإنسان يكفر هذه النعم ولا يشكر مسديها، بل وأشر من ذلك يتجه بالشكر والعبادة والتذلل والخضوع لمن لا يضره ولا ينفعه ولم ينعم عليه؛ من الأحجار والأشجار وغيرها.(79/1)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم)
قال الله جلت قدرته: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:66].
هو الله جل جلاله الذي أنشأنا من العدم، وأحيانا بعد أن لم نكن، وأوجدنا على غير مثال سابق، وكانت هذه هي الحياة الأول، ثم بعد إنشائنا وإيجادنا سيميتنا، وبعد هذه الموته سيحيينا مرة أخرى؛ للبعث والنشور والعرض على الله والحساب على ما قدمت أيدينا من خير أو شر، ولا يقدر على هذا إلا الله جل جلاله.
فهو الذي خلق، ثم هو الذي يميت، ثم هو الذي يعيد الحياة كما بدأها أول مرة للبعث والنشور، والله على كل شيء قدير.
والله جل جلاله يلفت أنظارنا ويعلمنا ويهدينا وأنه وحده القادر على الحياة، القادر على البعث، القادر على العرض عليه، والحساب لكل من فعل خيراً أو شراً، فهذا إلى الجنة وهذا إلى السعير.
{إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:66] أي: ولكن الإنسان يكفر نعم ربه، ويجحد ما آتاه الله من نعم ظاهرة وباطنة، ويشرك به، ويعبد معه غيره من الأحجار ومن الإنس ومن الجن، ومن كل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً.
والإنسان وهو يرى بعينه، ويسمع بأذنه، ويعي بقلبه، أن الله وحده القادر على كل شيء، وأن غيره ليس بيده حياة ولا موت ولا نشور، ومع ذلك يجحد نعم الله ويشرك به ظلماً لنفسه وعدواناً على الحق.(79/2)
تفسير قوله تعالى: (لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه)
قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج:67].
يقول جل جلاله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} [الحج:67] أي لكل نبي أمة؛ إذ الوحي يكون للرسول وللنبي ولا يكون للأمة، ولكن الأمة تكون مجال دعوة هذا النبي ومجال شريعته وأمره ونهيه.
{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67] المنسك هو الشريعة والعقيدة والدين والدعوة، يخبرنا ربنا جل جلاله أنه جعل لكل أمة من الناس نبياً، وأنه أرسل إليهم رسولاً دعاهم إلى عبادة الله الواحد، وجعل لهم شريعة تخصهم: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48].
أما الدعوة والعبادة فالكل جاء يدعو إلى عبادة الله الواحد لا شريك له، وبذلك أمر أنبياؤنا ورسلنا ليبلغونا ذلك عن الله، وكما قال المصطفى صلوات الله عليه وسلامه: (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات، أبونا واحد وأمهاتنا شتى).
فدعوة الأنبياء دعوة واحدة؛ دعوة إلى الله الواحد الذي لا شريك له، وإلى عبادته وتوحيده، وأما الشرائع والمناسك وأنواع العبادات فلكل نبي ولكل أمة جعل الله شريعة خاصة بها وبه.
{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67] أي: هم تابعوه وسالكوه، يلتزمون ويعملون بهذا المنسك وبهذه الشريعة، فقد أمروا بالتزامها والعمل بها، وهذا أمر من الله ورسوله.
وفسرت المناسك بالمواعد، بالأعياد، بالمواقع، ومنها مناسك الحج، فإن للحج مناسك تعرض في مكة وما يحيط بمكة، من طواف بالكعبة، ومن سعي بين الصفاء والمروة، ومن وقوف بعرفات، ومن مبيت بمزدلفة، ومن بيات ومقام بمنى ليلتين أو ثلاثاً، ومن إحرام وما إلى ذلك، وعلى هذا فسرت الآية: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} [الحج:67] أي: معبداً وموعداً يتواعدون عليه لعبادة ربهم في أوقات مخصوصة، وأزمان معينة، وشهور معروفه، وليالي وأيام يعرفونها، كما نعرف مناسكنا: من صيام شهر في كل سنة، ومن صلوات خمس في اليوم والليلة، ومن المناسك التي سميت مناسك في الحج الذي فرضه الله على كل إنسان مرة في العمر، وانتدب إليه وسنه مرة كل خمس سنوات.
وعلى كلا المعنيين فإن المعنى قائم وصحيح وواقع، {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67] وأرسل لكل أمة نبياً بموعد، وبشريعة من الشرائع ألزموا بسلوكها وباتباعها وبالعمل بها.
قال تعالى: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ} [الحج:67] أي: لا تدع أهل الكتاب ومن هم على بقايا من أهل الكتاب، وقد بدلوا وغيروا، وقد نسخت أديانهم وشرائعهم، لا تدعهم ينازعونك، أي: يجادلونك في الحق بعد أن أرسل إليهم الحق الصريح، والدين الناسخ لبقية الأديان السابقة، والرسول الذي هو آخر الرسل والأنبياء، فلا شريعة بعد شريعته، ولا رسالة بعد رسالته، ولا نبي بعده ولا رسول، صلى الله عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين.
فلا تنازعنهم، والنزاع يكون بين اثنين، بمعنى: لا تجادلهم، وإنما مرهم أمراً، وعلمهم تعليماً، وربهم تربية، وأخبرهم بنسخ ما مضى، وأنهم قد حرفوه وبدلوه وغيروه.
ونحن أولاء نرى أهل الكتاب السابقين قد بدلوا في توراتهم وفي زبورهم وفي إنجيلهم، وفي الشرائع التي أرسلت إليهم، وفيما يتعلق حتى بالعقيدة، فقد قذفوا الأنبياء، وقلوا من الأدب مع الله، وأشركوا معه غيره، وعبدوا عيسى ومريم، وعبدوا العزير والعجل، وجعلوا أنفسهم أبناء لله تعالى الله عن كفرتهم الصلعاء علواً كبيراً.
قال تعالى: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ} [الحج:67] أي: لا تدعهم ينازعونك ويجادلونك؛ لأنهم إن فعلوا سيفعلون بباطل، وعلى باطل، فليس لهم من الله برهان على ذلك، ولا دليل يمكن أن يجادلوك وينازعوك ويخالفوك به.
والنزاع يكون بين اثنين أو جماعتين، فكل يريد أن يشد الحبل لنفسه، وهنا كل يريد أن يقول: إن الحق معه، وإن الدين دينه، وإن الشريعة شريعته، مع أنك أرسلت إليهم وللناس جميعاً بشريعة مكان شريعتهم، فأنت الحق، وما جئت به الحق، والحق جل جلاله الذي صدر عنه ذلك، وأمر بالحق رسالة ورسولاً وشريعة.
{فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [الحج:67].
أي: لا تبال بهم، ولا تهتم لهم، ولا تقبل جدالهم، فإن استفسروك للعلم وللمعرفة فافعل، وأما أن يجادلوك بأن ديننا كذا، وبأن كتابنا كذا فلا، وإنما علمهم الحق وعرفهم به، ولا تقبل نزاعهم ولا جدالهم، وادع إلى ربك كما أمرك ربك، ادع إلى توحيد ربك وعبادته والعمل بشريعته، وادع لامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وبين ذلك بما أمرت به من البيان في قولك وفعلك وإقرارك.
{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج:67] أي: إنك يا محمد! صاحب الحق، والمحق في الدعوة، والرسول المرسل بالحق.
(إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى) أي: لعلى هداية وطريق وشريعة ونور من ربك مستقيم لا اعوجاج فيه ولا أمت، ولا يقبل نزاعاً ولا جدلاً ولا خلافاً، وكل من حاول أن ينازعك، أو أن يجادلك، أو أن يجر النار لقرصه فهو مبطل ضال مضل، فلا تدعهم ينازعونك ولا يجادلونك، ولكن قم بالدعوة التي أمرك بها ربك من الدعوة إليه وإلى كتابه وإلى رسالته.(79/3)
تفسير قوله تعالى: (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون)
قال تعالى: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج:68].
أي: فإن أبوا إلا الجدال والنزاع في الحق بالباطل، والجدال هو: الإصرار على المماحكة بباطل لا بحق، فيريد أن يفلح ويظهر للناس أن معه دليلاً وبرهاناً، وما هو إلا الجدال، وما هو إلا الباطل، ولا يريد حقاً ولا هداية.
{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج:68]، أي: دعهم في غيهم وقل كلمتك ولا تجعل لهم نزاعاً، ولا تفتح لهم جدالاً، فإن أبوا إلا جدالك فجادلهم فقط ولا تنازعهم.
(فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) فستصلون له يوماً، ويحاسبكم حساباً عسيراً، ومعنى الآية: التهديد والوعيد والنذارة المخيفة المرعبة، ومعنى ذلك: أن أبيتم أن تقبلوا الحق وقد جئتكم به فانتظروا، فستردون على الله وتعلمون الحق، ويتولى الله حسابكم وعقابكم ما دمتم قد أصررتم على الباطل ومخالفة رسول الله وكتاب الله.(79/4)
تفسير قوله تعالى: (الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون)
قال تعالى: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:69].
أي: ما دمتم لم تقبلوا رسالتي، ولا نذارتي ولا بشارتي، ولا بما أتيت به عن الله من الآيات البينات والمعجزات الواضحات، والأدلة الفاضحات، فسأدعكم لربكم، فالله يوم القيامة يحكم بيني وبينكم، فهناك ستردون فتعلمون أنكم على ضلال وباطل، وأن الحق قد جاءكم فأبيتم قبوله، وجادلتم فيه، وهكذا سأدعكم لأنفسكم منذراً مهدداً إلى أن يحاسبكم الله، وإلى أن يعاقبكم، وهو عليكم أقدر وبكم جل جلاله أعلم وأعرف.
{اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:69].
فإن أبوا إلا الجدال والمنازعة فدعهم وما اختاروا لأنفسهم، وقم بواجبك من الجهاد بالسيف، والجهاد باللسان، وعاملهم بما أمرت به من ربك، فمن أبى إلا الإصرار على ما هو عليه من جحود وكفر فدعه إلى أن يحاسبه ربه يوم الحياة الثانية؛ يوم البعثة والنشور.(79/5)
تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض)
قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70].
أي: ألم تعلم يا محمد! -وقد علمت قبل- بأن الله يعلم ما في السماء والأرض قبل خلقهما، وهو العالم بالخفايا، العالم بالسر وأخفى، وقد علم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال ما حدثنا به من أحاديث صحاح وردت في الصحاح وفي السنن وفي المعاجم وفي المسانيد عن جماعة من الصحابة، تبين الآية وتفسرها، فمن ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إن الله قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف عام كتب ما سيكون في اللوح المحفوظ).
وعن جماعة من الصحابة قالوا: قال عليه الصلاة والسلام: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما يكون إلى قيام الساعة).
فجرى القلم بما أمره الله به، وكان ذلك قبل خلق السماء والأرض بخمسين ألف عام، حدثنا بهذا رسول الله عليه الصلاة السلام، وبه علمنا أنه علم ما قاله الله له.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحج:70] قد علم ذلك بتعليم الله له، فهو الذي علمه، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27].
وفي الحديث المتواتر عن جمهور من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوماً بعد صلاة الصبح، أي: صلى صلاة الصبح وصعد المنبر، فخطب فظل يخطب إلى أذان الظهر، فنزل وصلى ثم صعد المنبر فظل يخطب إلى أذان العصر، فنزل وصلى العصر ثم صعد المنبر فظل يخطب إلى أذان المغرب، قال رواة الحديث: فحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان وما سيكون منذ خلق الله السماوات والأرض، وإلى أن يبعث الله الناس إلى جنة أو إلى نار.
وقال بعض الرواة الذين منهم عمر وعلي وأبو عبيدة عامر بن الجراح ومعاذ بن جبل، وكاتم أسرار رسول صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان وغيرهم، قال بعضهم: حدثنا بكل شيء حتى بالطائر يطير بجناحين في السماء، وحدثنا حتى بقائد الفتنة متى سيخرج وما اسمه واسم أبيه، ومن سيكون معه، ما ترك شيئاً إلا وذكرنا به.
وهذه الأحاديث موجودة معلومة في الكتب الستة: عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وعند أحمد في المسند، وعند البزار في المسند، وعند أبي يعلى الموصلي في المسند، وفي معاجم الطبراني الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير، ولا يكاد يوجد كتاب من أمهات السنة إلا وفيه ذلك، ومنهم من خصص هذا بالتأليف، وهذا معنى قول الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحج:70].
قد علم وعلمنا -ونحن نعلم بعلم رسول الله في سنته- أن الله كتب كل ما خلقه قبل خلقه بخمسين ألف عام، وأن ذلك في اللوح المحفوظ.
وكما سبق أن قلت في مناسبات: إن اللوح لوحان: لوح من قبل الحق، ولوح من قبل الملائكة جند الله، فاللوح الذي من قبل الحق لا يراه أحد لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهو الذي قال الله عنه: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:29]، وهذا لا يبدل ما فيه ولا يغير.
واللوح المحفوظ الذي من قبل الملائكة؛ يأتي كل من كلف منهم بعمل فيرى عمله مكتوباً فينفذه ويمتثله، وهذا يقول الله عنه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، فعنده اللوح الأم المحفوظ المرجع لهذا، وذاك لا يبدل القول لديه جل جلاله ولا يغير، وهذا يمحو الله ما يشاء فيه ويثبت.
فالدعاء يمحو، وكل شيء إذا أراد الله جل جلاله أن يمحيه محاه، وذاك أصل الناسخ والمنسوخ، قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106].
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70] أي: أن علم الله -علم السماوات وعلم الأرض- في الكتاب وفي اللوح المحفوظ عند الله، كتبه القلم مأموراً من الله قبل خلق الخلق بخمسين ألف عام، ولا ندري هل الألف يوم هي من أيام الأرض: اليوم واحد أربع وعشرون ساعة، أو من أيام الآخرة الذي اليوم فيه كألف سنة مما تعدون؟ {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70].
علم الأولين والآخرين، وعلم السماوات والأرضين، وعلم ما كان وما يكون إلى قيام الساعة وما بعد قيام الساعة، علم ذلك يسير على الله، والكل على الله يسير، فلا يصعب عليه شيء، ولا يعز عليه شيء جل جلاله وعلا مقامه.(79/6)
تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً)
قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71].
هؤلاء الكفرة والجاحدون يعبدون من دون الله أوثاناً لا دليل عندهم عليها لا من سلطان ولا من برهان، ولا من حق، ولا من كتاب سماوي، ولا من دعوة نبوية، ولا دليل يتصور، فيعبدون من دون الله ما ليس لهم به علم، ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً، وما لم ينزل الله به آية ودليلاً وبرهاناً وحجة على عبادتهم له، وإشراكهم الله فيه، فهم يعبدون ما دون الله جهلاً وإفكاً وافتراء، إن هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم، ما أنزل الله بها من سلطان من دليل ولا حجة.
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71] أي: وليس للمشركين أمثال هؤلاء الذين يعبدون إفكاً وأصناماً، والذين يشركون مع الله غيره، والذين لا دليل ولا سلطان لهم من الله، ولا علم لهم بما يصنعون، هؤلاء الظلمة لأنفسهم، والذين لا يؤدون الحق هؤلاء ليس لهم نصير من الله عند حسابهم، وعند عذابهم، وعند عرضهم على الله يوم القيامة، فقد خرجوا للدنيا فرادى وسيأتون كذلك لا معين لهم ولا مساعد، ولا ولي ولا نصير من غضب الله.
وهيهات! أن يتدخل أحد بين الرب والمربوب، وبين العابد والمعبود، فالناس تفر وتقول: نفسي ونفسي! ولا أحد يهتم بأحد لا زوجاً ولا أباً ولا ولداً ولا شيئاً من ذلك، فكما خرجنا من أرحام أمهاتنا فرادى فسنذهب إليه فرادى لا حول لنا ولا طول إلا حول الله وطوله، فينفع آنذاك الموحد الذي مات على التوحيد، وأما من مات على الكفر والشرك فلا نصير له ولا مساعد ولا ولي من الله.(79/7)
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر)
قال تعالى وهو يصف كفرهم، ويصف علامات حقدهم وبغضائهم لأهل الحق من الرسل والموحدين، قال عن هؤلاء: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحج:72].
يقول الله عن هؤلاء ليعرفهم النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين معه، وليعرفوهم بسيماهم وبلحظاتهم ونضرتهم الشزراء، ليعرفوهم بوجوههم المبتسرة العابسة المتجهمة التي تكاد يبدر منها الإيذاء والشر، عندما يرونك ويرون أدلتك واستدلالك وما تقرأه من آيات بينات، قال ربنا عن هؤلاء: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [الحج:72].
أي: إذا قرأت عليهم أدلة قدرتنا، وآيات كتابنا، ومعجزات رسلنا، وبينات عندهم علموها، وتبينوها، وأدركوها وعلموا ما فيها، {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} [الحج:72] أي: هؤلاء الذين إذا تليت عليهم آياتنا بينات تجد على وجوههم عبوساً جهاماً واكفهراراً، وتجد في نظراتهم شزراً، وتجد في نظراتهم حقداً وعداوة، وتجدهم متأففين متوجعين متبرمين.
{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} [الحج:72] أي: تعرف أنهم أنكروك، وأنكروا آياتك، وأنكروا أدلتك، أنكروك البتة بأدلتك وبراهينك قبل أن يتكلموا وقبل أن ينازعوا أو يجادلوا، فهؤلاء تعرفهم بسيماهم، وتعرفهم بنظراتهم.
{يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج:72].
(يكاد) من أفعال المقاربة، أي: قاربوا أن يسطون بالتالي وبالداعية وبالرسول وبنائب الرسول، وكادوا يضربونه وكادوا يشتمونه ويسبونه وكادوا يثورون في وجهه.
{يَكَادُونَ يَسْطُونَ} [الحج:72] يسطون من السطوة، ومن الطغيان والاعتداء والجبروت باليد أو باللسان أو بكليهما، فهؤلاء عندما يسمعون ذلك، وتقرأ في وجوههم المنكر وهو الاستنكار لما تقول، والحقد والبغضاء بما في نفوسهم عليك، ويكادون يسطون ويظلمون ويعتدون يتجبرون ويطغون بالذين يتلون عليهم آياتنا، وبمن سمعوه يقرأ الآيات، ويدعو إلى الله ويهديهم إليه، فتجدهم يكادون أن يفترسوه بالأعين والنظرات الشزراء قبل اليد وقبل اللسان، وهذه صفة للكفار المعاصرين للنبي عليه الصلاة والسلام، وهي صفة مستمرة لكل الكفار في كل زمان، فنرى هذا في الكفار المعاصرين، ونشعر بهم عندما نقف خطباء، أو مدرسين أو مذاكرين، أو داعين إلى الله، فتجدهم يتبرمون بك، وقد يمنعونك من الكلام، وقد يؤذونك إذا كانت السلطة بيدهم.
فلطالما حدث هذا ولا يزال يحدث من أعداء الله المشركين ومن الطغاة الجبابرة مما يعلمه كل أحد، سواء من الكفرة المكشوفين، أو الكفرة المنافقين الذين يحملون أسماء إسلامية وجغرافية إسلامية، ويزعمون أنهم أبناء المسلمين والمسلمات، وما هم إلا كفرة فجرة يحقدون على الإسلام حقد اليهود والنصارى والمجوس.
قال تعالى: قل لهؤلاء يا محمد: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} [الحج:72] أي: أتريدون يا أيها الحاقدون المشركون الذين تريدون أن تسطوا بمن يريد هدايتكم، وبمن يريد دعوتكم للحق، وبمن يريد لكم الخير، وأنتم تريدون لهم الشر، أؤنبئكم بما هو أشر من ذلك بالنسبة لكم؟ أتريدون أن أخبركم بشر من ذلكم؟ وليس هذا مقابلة؛ فإن أفعال التفضيل حسب اللغة العربية تقتضي المشاركة والزيادة، وشتان بين أن يقارن بين الخير والشر لنقول: هذا أخير، وهذا أصلح، ولكن باعتبارهم فإنهم رءوا للحق إلا شراً، وما رءوا للنور إلا ظلمة، وما رءوا في الهداية إلا ضلالاً.
فهذا الذي اعتبروه شراً قال الله لنبيه: قل لهؤلاء، وليقل بذلك خلفاء رسول الله: خلفاء السيف أو القلم، من ورثته من العلماء: أخبروا هؤلاء الطغاة الكفرة الفجرة: {أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} [الحج:72] أي: بشر من ذلك وبأقبح من ذلك، وبما شره أدوم، وبلاءه عليكم: النار التي ستقعون فيها وسيخلدون فيها، والتي سيبقون فيها، وكلما نضجت جلودهم أبدلهم الله جلوداً غيرها؛ ليذوقوا العذاب ويستمروا فيه.
النار الخالدة التالدة التي لا تفنى وتبقى باستمرار، فقد ذبح الموت؛ ذبح في صورة كبش، فلا موت لأهل النار ولا موت لأهل الجنة، وقد قال الله لهؤلاء: خلود ولا موت، وقال لهؤلاء: خلود ولا موت.
{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} [الحج:72] هذا استفهام إنكاري تقريعي، أي: قل يا محمد: أفأنبئكم بشر من ذلك، أي: بما هو أشر من ذلك لكم، وأدوم بلاء عليكم: النار فهي أدوم بلاء.
(وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (وعدها الله) من الإيعاد هنا، والوعد يكون للخير ويكون للشر، والإيعاد لا يكون إلا للشر، وعدهم الله إياها، وأوعدهم بسعيرها، وأوعدهم بعذاب النار وبئس المصير، بئس مصيرهم وعاقبتهم، فإنهم سيجدون عند العاقبة والمصير الشر والبلاء والعذاب والنقمة.(79/8)
تفسير سورة الحج [73 - 78]
لقد كتب الله تعالى العجز والضعف على خلقه، وهنا جعل يعرف أولئك المشركين والكافرين بذلك، وأن ما يعبدون من دون الله تعالى لن يخلقوا أصغر مخلوقات الله وهو الذباب، بل وإذا سلبهم الذباب شيئاً فإنهم لا يستطيعون أن يستنقذوه منه، فضعف الطالب والمطلوب.
فإذا كان حال هذه الآلهة المزعومة هكذا فكيف تستحق أن تجعل آلهة، وأن تعبد من دون الله؟!!(80/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73].
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الحج:73] الخطاب هنا للناس كلهم، وما كان خطاباً للناس فهو خطاب للمؤمن والكافر والمنافق، وهذه الآية أعظم آية في القرآن في إذلال المشركين وتحقيرهم، وضرب المثل والواضح نظراً وسمعاً ودليلاً وبرهاناً على سخف عقول الظالمين المشركين الضالين المضلين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73] فالله يلفت الأنظار لسماع هذه الآية، فيبتدئها بنداء كل الناس، ثم يقول لهم: أعيروني آذانكم لتسمعوا ضرب الأمثال لهؤلاء المشركين الضالين المضلين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73].
ضرب شبه بكم وبأصنامكم، بكم عابدين وبأصنامكم معبودين، انظروا إلى هذا المثل، يقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73].
يا من له عقل أو لا عقل له ممن يتصرف بحواسه سمعاً وبصراً وقلباً وممن عميت منهم البصائر قبل الأبصار، انظروا واسمعوا وفكروا وعوا، لهذا المثل الذي يضرب بكم وبمعبوديكم.
{ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73] أي: من تعبدونهم مع الله أو دون الله من ملك أو أنس أو جن، وما بالك بحجر وجماد وخشب وحيوان وما إلى ذلك، لو اجتمع هؤلاء كلهم ملائكة وإنساً وجناً متعاونين متكاتفين متواطئين متآمرين على أن يخلقوا ذباباً فلن يستطيعوا ذلك، فهم أعجز من ذلك.
{لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73] أي: لو اجتمعوا جناً وإنساً وملكاً، وكل ما على الأرض سوى الله ليخلقوا ذباباً وليوجدوه من العدم لما استطاعوا ولما قدروا.
وأعظم من ذلك تحقيراً لهم عبدة وعابدين قوله: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73] أي: لو يأتي الذباب إلى فتات حبة ثم يأخذها ويذهب بها فلن يستطيعوا ملاحقته ليستنقذوا ذلك منه، ولن يستطيعوا إنقاذ شيء أخذه.
{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] أي: ضعف وعجز الطالب وهو العابد للأصنام، والمطلوب: المعبودات من الأصنام، سواء كانت الأصنام ملائكة أو بشراً أو جناً، والذباب جمع ذبابة، ويجمع جمع تصغير أذبة، وجمع تكسير ذبان، والذباب كذلك يطلق على الفرد وعلى الجماعة، والذبابة معروفة، ولو كان هناك ما هو أحقر من الذباب لذكره الله.
ونحن نرى الآن في هذا العصر الذي يسمونه عصر الحضارة والمخترعات لم يستطيعوا أن يخلقوا ذبابة في حضارتهم، فالطيارة مثلاً وهي أعظم شيء وجد إذا نظرنا إلى مكوناتها: خشب لم يخلقوه، وحديد لم يخلقوه، وأكثر من ذلك هذه اليد البشرية، وهذا العقل البشري الذي فكر في صنع الطائرة، واليد التي صنعت الطائرة، هل هم الذين خلقوا الأيدي؟! وإذا ذهبت الأيادي فهل يستطيعون الإتيان بمثلها، وهذا العقل الذي به صنعت تلك الطائرة إذا أخذه الله فهل يستطيعون أن يأتون بعقل غيره ليصنع ذلك؟! ومع ذلك هذه الصناعة على ما تدهش الناس ويستغربها الناس وأشركوا بها دون الله، فهل هناك شيء أخترع وأوجد من عدم وكان غير موجود، إنما هو ترقيع، وهو جمع، كمن يأتي إلى حب، هذا الحب خلقه الله في الأرض التي لم نخلقها نحن، بالماء الذي لم نخلقه نحن، بالسماد الذي لم نخلقه نحن، فاستطعنا أن نصنع من هذا الحب حلوى، وأن نصنع منه خبزاً، وأن نصنع منه سميداً أو ما إلى ذلك، فهذا لا يعني أننا أوجدناه؛ لأن أصل الحب أوجده الله.
إذاًَ البشر والخلق كلهم: ملائكة وبشراً وجناً وكل ما على الأرض من إنسان وحيوان وهوام كلها أعجز من أن تصنع ذباباً، أو أن توجد ذبابة، لم يكن لهم أن يوجدوها من العدم، وإن كان ضرب المثل بأذل شيء وأحقر شيء فما بالك بما هو أعظم.
ومثل هذا الذي اغتر بحضارته لم يستطع أن يقضي على الموت ولا على الشيخوخة، ولا استطاع أن يخلد مع الخالدين.
وهذا عندما يقوله الله جل جلاله في العصر الأول فهو يبقى في كل العصور إلى يوم قيام الساعة، فأي إنسان عبدوه، وأي ملك عبدوه، وأي جن عبدوه لا يستطيع أن يخلق شيئاً، ولا أن ينفع ولا يضر نفسه.
ودليلهم وحجتهم في عبادتهم أن قالوا: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22]، {وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:53]، وجدنا آبائنا كانوا يصنعون ذلك، فقلدوا آباءهم في الكفر، فزادوا بذلك ضلالاً، وزادوا بذلك كفراناً وجحوداً.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، أي: عجز الطالب العابد، وعجز المطلوب المعبود من الأصنام دون الله، فهؤلاء أضعف وأعجز وأقل وأذل من أن يخلقوا شيئاً، ولو كان ذباًباً، ولو تكاتفوا واجتمعوا جميعاً ليوجدوا ذلك، فقد ضعف العابد والمعبود، ولن يكون ذلك إلا صفة للخالق الذي يوجد الشيء من العدم، فهو الذي ينشئ الشيء ولم يكن ثم يصبح فيكون.
قال تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:74].
فهؤلاء الضعفة والعجزة من العابدين المشركين، والمعبودين من الأصنام، كانوا أحياء أو كانوا جمادات: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:74] أي: ما علموا قدرته ولا قدروها، وما قدروا وحدانيته ولا عرفوها، وما قدروا صفاته العلا وأسماءه الحسنى.
{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] قوي على كل شيء، قادر على كل شيء، ومن قوته معاقبته لهؤلاء الكفرة الجاحدين الذين يأبون إلا الشرك، ونزع الحق من أهله، والله عزيز لا يغالب، عظيم لا يبارى، ومن يتأله على الله يكذبه.(80/2)
تفسير قوله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير)
قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75].
الله جل جلاله لا يسأل عما يفعل، فيصطفي ويختار رسلاً من الملائكة ورسلاً من الناس، اختار من الملائكة رسلاً الله أعلم بأعدادهم، منهم جبرائيل وهو كبيرهم، ومنهم عزرائيل أرسل لأخذ الأرواح، ومنهم إسرافيل كلف بالنفخ في الصور، وغيرهم.
وهناك رسل الملائكة إلى الناس، فقد كان جبريل يرسل إلى نبينا وإلى الرسل كلهم منذ آدم وإلى خاتمهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
ومن الناس اصطفى الله آدم لأولاده وذريته، واصطفى إدريس بعده، واصطفى نوحاً وإبراهيم وذريته وسلالته: إسماعيل وإسحاق، واصطفى من سلالة إسحاق أنبياء بني إسرائيل، ومن سلالة إسماعيل نبينا صلى الله عليه وسلم إمام الأنبياء وسيد الخلق والبشر عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] وليس الاصطفاء برأي الناس، ولا بهوى الناس ونزواتهم ومحباتهم، فالله يجعل رسالاته حيث شاء، فيرسل من يشاء وإليه عمل كل شيء، وهو القادر على كل شيء: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23]، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124].
{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75] سميع بأعمالنا وأقوالنا، سميع لمن أعلن التوحيد ودعا إلى التوحيد، وسميع لمن أعلن الشرك ودعا إلى الشرك وعمل به، بصير بأعمالنا، فيجازي كلاً حسب عمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وفي ذكر هذين الاسمين في آخر الآية تهديد ووعيد لأهل الوعيد من أهل النار، وبشرى للمؤمنين المتقين بأن الله يسمع أقوالهم ويبصر أعمالهم، فيجازيهم عليها بالرضا والرحمة ودخول الجنان، قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحج:76].
فالله جل جلاله يعلم ما بين أيدينا وما سيتقبل من أعمالنا، ويسمع ويعلم ما نصنعه حالاً، ويعلم ما سنفعله بعد حين ويسمعه ويبصره، يسمع أقوالنا ويعلم أعمالنا مما بين أيدينا ومما هو آت، وما خلفنا مما انتهى وقد عملناه وقلناه، فلا يخفى عليه شيء، فعلمه بالماضي كعلمه بالحاضر والمستقبل لا تخفى عليه خافية جل جلاله.(80/3)
تفسير قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور)
قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحج:76].
قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحج:76] أي: ما بين أيديهم في الحاضر والمستقبل، وما خلفهم مما مضى وانقضى، وعلمه بالحاضر كعلمه بالماضي وكعلمه بالمستقبل.
{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحج:76] أي: أن أمورنا ترجع إليه، فيعامل كلاً حسب عمله، فإلى الله ترجع أمورنا الصالحة، وإلى الله ترجع أمورنا الطالحة، إلى الله خيرنا، وإلى الله ما صنعنا من شر، فيعاقب هذا على عصيانه، ويحسن لهذا على إحسانه، فلا تخفى عليه خافية، والآيات كلها على نسق واحد ونظام واحد: بأن الله جل جلاله دعا الناس إلى توحيده وإلى عبادته، فحبب إليهم الإيمان وكره إليهم الفسوق والعصيان، ودعاهم إلى عبادته وحده، وذم الأصنام والشرك والظلم، وأنذرهم بما حقر من معبوديهم من الأصنام التي يعبدونها دون الله، وأخبرهم بأنه يعلم كل شيء من ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، وإليه المصير، فإلى الله نرجع وإلى الله نصير: إما إلى جنة وإما إلى نار، فإن كان من أهل الخير فإلى الجنة، وإن كان من أهل الشر فإلى النار.(80/4)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77].
سبق أن قلنا في أول السورة: إن من خصائص سورة الحج أن فيها سجدتين، ولا يوجد سورة فيها سجدتان، وهذه السجدة قال بها الشافعية والحنابلة ولم يقل بها المالكية والحنفية؛ لأنهم قالوا: إن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] دعوة إلى الصلاة وليس أمراً بالسجود فقط، ولذلك ذكر الله حركات الصلاة، فذكر الركوع فيها وذكر السجود فيها، ثم عمم وذكر العبادة، وعلى أي حال لا معنى للمذهبية هنا.
فنحن عندما نسجد لله، ونضع جباهنا والمواضع السبعة من عظامنا وجباهنا وما إلى ذلك، فنحن نعبد الله ذاتاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).
فلا معنى هنا لأن يقول مالك: أنا لا أسجد، وأن يقول الحنفي: أنا لا أسجد، ونحن نسجد على أي حال وقد دعانا الله للركوع والسجود، والإمام مالك مع جمهور الأئمة يمنعون الصلاة بعد صلاة العصر بأمر رسول الله المتواتر، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تشرق الشمس).
فالإمام مالك دخل مرة إلى المسجد النبوي بعد صلاة العصر فجلس، وإذا بطفل صغير بجانبه قال له: يا إمام! ألا تركع ألا تصلي؟ فذكره بتحية المسجد، فوقف مالك وركع وصلى تحية المسجد، وإذا بأصحابه يقولون له: يا أبا عبد الله رأيناك اليوم تصنع شيئاً ما سبق أن صنعته، بل دعوت لعدمه وأن الأمر النبوي بخلافه، قال الأمر كما تقولون، ولكن هذا الطفل دعاني للركوع، ودعاني للسجود فخفت أن أدخل في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48]، فإذا كان هذا قول طفل امتثله مالك على غير رأيه واجتهاده، فما بالك والله يقول لنا: اركعوا واسجدوا؟! فنركع.
فقال الآخرون: فنحن نركع بأمر الله، ونسجد بأمر الله، ونقصد الامتثال في كل ما أمرنا به في ذلك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:77] الخطاب هنا للمؤمنين؛ لأن الركوع والسجود لا يقبل إلا من إنسان قبل التوحيد، فقوله: (يا أيها الناس) كانت خطاباً للناس كلهم، وفروع الشريعة دائماً ينادى بها المؤمن؛ لأن الأصول قد أداها واعتقدها وتمسك بها، وهي التوحيد والإيمان بالرسالات.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [الحج:77] أي: لازموا الصلاة وأقيموها، وهي التي فيها ركوع وسجود.
{وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [الحج:77] بكل أنواع العبادات كما أتى ذلك مبيناً في القرآن، وفي السنة النبوية.
{وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [الحج:77] بحسب الأركان الخمسة: من صلاة وصيام وزكاة وحج، ومن أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأنواع العبادات التي لا تكاد تحصى.
{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج:77] ويدخل في الخير كل أخلاق الخير، وكل الحسنات، وكل مكارم الأخلاق، وكل السير الطيبة الصالحة، ولنا الأسوة في ذلك الأعظم نبينا صلى الله عليه وعلى آله، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] أي: لازموا الركوع والسجود، ولازموا عبادة الله حسب أمر الله وأمر نبيه، ولازموا فعل الخيرات وترك المنكرات حسب أمر الله ونهيه، وحسب أمر رسوله ونهيه.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] بعد كل ذلك ترجون الفلاح، ولكن أطلعنا علماؤنا ومفسرو كتاب ربنا بأن (لعل) في القرآن ليست للترجي ولكنها لليقين، أي: إن فعلتم ذلك ستفلحون، ونرجو الله الدوام على ذلك، وتحقيق الفلاح حقاً.(80/5)
تفسير قوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم)
قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78].
قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، الجهاد معناه بذل الجهد الإنساني البشري في عمل من الأعمال، والله عندما قال: جاهدوا في الله، لم يقل بسيف ولا بقلم، قال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، فأمرنا بالجهاد فيه في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله يكون بما أمرنا الله به، وبينه رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى ذلك بذل الجهد جهاداً في سبيل الله عبادة ودعوة له بالسيف واللسان والقلم والمال والحياة وبكل ما يستطيعه الإنسان.
فنجاهد بأنفسنا عندما نطالب بذلك؛ إعلاء لكلمة الله، وصداً للكافرين، وحرباً على المنافقين، ونجاهد في سيبل الله بألسنتنا عندما تكثر البدع وأنواع الشرك والضلالات والمذاهب الوافدة الضالة المضلة، فإننا نجاهد بألسنتنا فنبين الحق ونوضحه نصاً من كتاب الله ونصاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما تؤكده لغة العقول السليمة، والأنفس القابلة الواعية، ونجاهد بأموالنا عطاء للفقير وللمسكين وللقريب وللسائل والمحروم.
فنجاهد في سبيل الله كل حسب استطاعته، فمن يملك المال فبالمال، ومن يملك السلطة والجاه والجيوش والجنود فبالجيوش والجنود والجاه، ومن يملك الولد فبالولد، ومن يملك اللسان فباللسان، ومن ملكه الله كل ذلك فبكل ذلك.
فليكن الجهاد لساناً، وليكن الجهاد قلماً، وليكن الجهاد مالاً، وليكن الجهاد حياة، وهكذا الله قال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78] أي جاهدوا الجهاد الحق، أي: استفرغوا كل جهدكم حسب قدرتكم وطاقتكم، وبعد ذلك لا نلام.
(هو اجتباكم) أي: الله اصطفانا نحن أمة محمد، فكنا خير الأمم، ونبينا خير الأنبياء، وديننا أتم الأديان وأشملها وأدومها، فأديان الناس قبلنا كانت أدياناً قومية، والرسل قبلنا كانوا رسلاً قوميين لأقوامهم خاصة، وانتهت رسالاتهم بموتهم، ونبينا صلى الله عليه وسلم نبي العالمين لكل البشر بشيراً ونذيراً، فقد أرسل لكل من عاصروه ومن أتوا بعده إلى يوم القيامة، للعربي والعجمي، للأبيض والأسود والأحمر، في عصره وما بعد عصره، ودينه قد كمل فلن يأتي بعده دين ولن يكون دين مكانه في التمام، ونسخت به الأديان الأولى.
فاجتبانا ربنا وقال لنا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فكنا خير الأمم للأمم، وخير الإنسان للإنسان، وخير البشر للبشر؛ لأننا أمرنا أن نأمر بالمعروف كما عرفه الله ورسوله، وأن ننهى عن المنكر كما أمره الله ورسوله، وأن ندعو إلى عبادة الله الواحد لا إله إلا الله، ومن لم يفعل ذلك من المؤمنين لا يكون ضمن الخيرية.
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78] أي: هو اصطفاكم واختاركم وانتخبكم من بين الأمم.
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] هذا الدين الذي أمرنا به؛ دين الإسلام، ودين القرآن، ودين محمد عليه الصلاة السلام، لم يجعل فيه حرجاً علينا، فلم يضيق علينا، ولم يشدد علينا، وهكذا قال صلى الله عليه وسلم مبيناً: (بعثت بالحنيفية السمحة).
وأرسل أميريه ليحكما اليمن، أرسل معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري وقال لهما: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا).
فكانت دعوتهما للناس بأن يكونوا مبشرين لا يخوفون الناس، وأن يكونوا منذرين دون أن ييأسون الناس، وأن يكونوا ميسرين ولا يكونوا معسرين، وهي دعوة لكل داعية إلى الله بكلمة أو بكلام، في مجلس أو مجالس أو في جميع الحياة.
ومثال ذلك: أننا نصلي أربعاً في الحضر، ثم يسر الله علينا فنصلي ركعتين في السفر، ونحن نصلي بوضوء وقبلة وإذا بالمريض يسر عليه أن ينتقل من الماء إلى التيمم، وأن ينتقل من القيام إلى الجلوس، وإذا سافرنا عبر الطائرة نصلي ونحن في الطائرة على الرواحل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال وهو يؤذن في الطريق إلى أحد غزواته، وكانت ظلمة وكان طين ومطر، فقال لـ بلال وهو يؤذن أن يقول: (ألا صلوا في الرحال).
وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم فالرحال جمع راحلة، فالطائرة راحلة، والراحلة كل ما يرحل عليها، فنحن نصلي على الرواحل النوافل كما قال الأئمة الثلاثة، وقال أحمد: نصلي الفرائض والنوافل إذا اقتضى الحال، وكان أحمد هنا أبعد نظراً، فنحن الآن عندما نكون في الطائرات لا بد من الصلاة، فقد نركبها لساعات متواصلة: قبل العصر وقبل الظهر إلى المغرب، فيجب أن نعلن كلمة التوحيد، وأن نؤذن ونصلي سواءً كان ذلك في الطائرة أو على الرواحل ونحن جلوس، ونستقبل القبلة عند التكبير ثم ندع الطائرة حيث ذهبت ونحن نصلي، وإلا كنا قد أخرنا الصلاة عن وقتها، وجمعنا الصلوات وهي كبيرة من الكبائر، وخاصة صلاة العصر التي قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم (من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله).
وقال: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله).
فنصلي باستمرار، وندعو من معنا أن يصلي بنا، وأحياناً نأمر من يقف عند المكبر في الطائرة فيؤذن ويقيم ونصلي ونحن جلوس، فإن لم تجد ماء وكان الماء قليلاً للشرب فقط فيمكن أن يتيمم الإنسان بحجر، أو يمسح على الجورب إن كان قد لبسه وهو على طهارة كالخف، ويكتفي بغسل وجهه مرة، ويديه مرة، ومسح الرأس والمسح على الجورب، وهكذا يكون قد قام بدين الله ودعوة الله في الأرض، وفي البحر وفي الجبال، وفي الوهاد، وفي الأجواء، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84].
قال جل جلاله وعز مقامه: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78].
(ملة) أي: كملة، نصبت على حذف الخافض.
{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ} [الحج:78]، والإسلام لم يرسل للعرب فقط، فقد أرسل للعرب والعجم وغيرهم، والقرآن أرسل به نبينا صلى الله عليه وسلم لكل الناس، وأبيكم هنا المقصود بها أبوة الحقيقة للعرب، وهي أبوة للمسلمين عموماً أبوة احترام، كما قال النبي عليه الصلاة السلام للمسلمين: (أنا لكم كالوالد للولد)، وكما قال عن نسائه: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6].
فأزواج رسول الله أمهات جميع المسلمين، وليست أمومة نسب أو دم، ولكنها أمومة احترام وتعظيم وإجلال، وهكذا أبوة إبراهيم فإنها لكل مسلم.
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ} [الحج:78] زعم بعض المفسرين أن المقصود بقوله: (هو سماكم المسلمين) أي: إبراهيم الذي سمانا، والآية لا تسمح بذلك، فالآية تقول: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78] المقصود بقوله: (في هذا) أي في القرآن، وإبراهيم ما سمانا في القرآن، فإن القرآن لم ينزل أيام إبراهيم، ولكن المقصود هو الله جل جلاله، فهو الذي سماكم المسلمين من قبل، أي من قبل محمد، ومن قبل القرآن المنزل على محمد، وفي الأديان السابقة، وهذا من كرامة المسلمين على الله، وكرامة نبيهم على الله: أن ذكرنا الله في التوراة، وذكرنا في الإنجيل، وذكر نبينا محمد باسم أحمد في الكتب السابقة: {يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، وقد حكى الله عن شريعتنا، وعن ديننا، وعن أخلاق أصحاب نبينا، وعن الصالحين الزهاد العباد من المؤمنين.
{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] فالله جل جلاله تكلم عنا في التوراة والإنجيل وفي الأديان السابقة، إشادة بنبينا، وباتباع نبينا وهو إشادة بنا.
{وَفِي هَذَا} [الحج:78] أي: القرآن، فالله سمانا المسلمين في القرآن، والله سمانا المسلمين من قبل، وليس معناها أن إبراهيم سمانا في القرآن، فإن هذا ليس صحيحاً؛ لأن القرآن لم يكن موجوداً أيام إبراهيم، والقرآن ما أنزل إلا بعد البعثة المحمدية، وهكذا أكد ابن جرير، وابن كثير، وجماهير المفسرين تخطئة من قال: إن من سماكم المسلمين هو إبراهيم.
{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] أي: قبل نزول القرآن، وقبل إسلامنا، وقبل بعثة نبينا، سمانا من قبل في الكتب السابقة المسلمين، (وفي هذا) أي: في القرآن الكريم.
والنبي يقول عليه الصلاة والسلام: (دعوها فإنها منتنة) أي الدعوات القومية، وقولوا بما سماكم الله به أيها المسلمون! فالله سمانا مسلمين وسمانا مؤمنين وسمانا عباداً.(80/6)
تفسير سورة الحج [78]
أمر الله تعالى عباده المسلمين بأن يجاهدوا فيه حق الجهاد، فيبذلوا المال والنفس والغالي والنفيس في سبيل نصرة دين الله.
وهو تعالى هو الذي سمى المسلمين بهذا الاسم قبل أن يرسل رسوله، وقبل أن ينزل كتابه، ليكون الرسول شهيداً على هذه الأمة يوم القيامة بتبليغها الدين والرسالة، وتكون هذه الأمة شهيدة على الأمم السابقة بأن أنبياءها قد بلغوها ونصحوا لها.(81/1)
تفسير قوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده)
قال الله جلت قدرته: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78].
قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78] يأ مرنا الله جل جلاله فيه أن نجاهد ونبذل من أنفسنا الجهد في سبيل الله وطاعته وإعلاء كلمته، ويأمرنا أن نجاهد بالألسن والسيوف والأموال، وأن نجاهد أعداء الله الكافرين والمنافقين بكل ما نملك؛ لتكون كلمة الله هي العليا.
قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78] أي: هو اصطفاكم واختاركم من بين الأمم، فخيرها وأشرفها وأكملها أمة خير نبي، وأمة خير دين وأشمله.
قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
فأكثر الأمم دخولاً الجنة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ودينها أشمل الأديان وخيرها وأقربها يسراً وأبعدها عسراً.
قوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي: لم يجعل في دين الإسلام ضيقاً ولا حرجاً ولا شدة، ولم يجعل فيه إصراً كما كان على الأمم من قبل، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (بعثت بالحنيفية السمحة).
وأرسل عليه الصلاة والسلام أميرين على اليمن: معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري، وقال لهما: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا).
قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] أي: كان دينكم الذي بعث به نبيكم محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم بما فيه من اليسر، وعدم الحرج والضيق، كملّة ودين أبيكم الأعلى إبراهيم، أبي عرب الحجاز وأبي المسلمين جميعاً أبوة احترام وإجلال، كما قال تعالى عن أمهات المؤمنين: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]، فهن أمهات المسلمين جميعاً لا لنسب ولا دم، ولكنهن أمهات إجلال وإكبار واحترام، وهكذا أبوة إبراهيم لعامة المسلمين.
قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78].
فهم الكثيرون أن إبراهيم الخليل عليه السلام هو الذي سمانا المسلمين قبل خروجنا، وقبل ظهور نبينا صلى الله عليهما وسلم، ولكن المعنى لا يستقيم؛ لأن قوله: (وفي هذا) أي: في هذا القرآن، وإبراهيم لم يكن وقت نزول القرآن، إذ القرآن لم ينزل إلا على نبينا صلى الله عليه وسلم، فيبقى المعنى كما قال جمهور المفسرين: هو سماكم أي: الله جل جلاله.
إذاً: سماكم الله مسلمين من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم وبروزه نبياً ورسولاً للعالمين، ومن قبل مجيء عصركم، ومن قبل نزول القرآن الكريم، كذلك سماكم الله المسلمين في ملل الأنبياء المتقدمة، وفي الكتب السابقة: الزبور والتوراة والإنجيل، وبشر بنبيكم وسماه أحمد، وبشر برسالتكم وسماها الإسلام، وكان صلى الله عليه وسلم مذكوراً عنه في الكتب السابقة أنه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويرفع الإصر والآثام، ويرفع ما كان من ثقل في الأديان السابقة، يرفع ذلك عن أمته.
قال تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} [الحج:78].
سمانا الله جل جلاله المسلمين؛ ليشهد علينا يوم القيامة نبينا أمام الخلائق كلها عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم بأنه قد بلغنا رسالته، وأمرنا بدينه، وبلغنا ما أوحاه الله من كتابه، وبينه تبياناً كاملاً بحيث لم يترك فيه عوجاً ولا أمتاً ولا جهالة ولا غموضاً؛ ولنكون نحن كذلك، كما قال تعالى: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78] أي: وتكونوا أيها المسلمون شهداء على الأمم السابقة يوم القيامة: بأن أنبياءهم ورسلهم بلغوهم الوحي والدين، وبلغوهم ما أوحي في الكتب السابقة: من صحائف إبراهيم وزبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى.
فالرسول يشهد علينا أنه قد بلغنا الرسالة، وأدى الأمانة، ونحن نشهد بذلك، كما شهد بذلك سلفنا الصالح يوم خطب فيهم عليه الصلاة والسلام خطبة الوداع، يوم ودع الناس وقال وهو يحج: (لعلكم لا تروني بعد عامي هذا) فكان خطيباً مودعاً صلى الله عليه وسلم، ثم قال لهم: (هل بلغتكم؟) فقالوا: نشهد أنك بلغت الأمانة، وأديت الرسالة، فأخذ يرفع صلى الله عليه وسلم سبابته إلى السماء ثم يشير إليهم وهو يقول: (اللهم اشهد اللهم اشهد).
ونحن نشهد شهادة الحق بما بلغنا عنه وعن آبائنا وأجدادنا وشيوخنا، وما وصل إلى أيدينا من الكتاب المنزل عليه، ومن سنته المبينة المفسرة.
قوله: {عَلَى النَّاسِ} [الحج:78] أي: على غيرنا من الأمم السابقة والشعوب الماضية من أتباع الأنبياء السابقين.
قال تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} [الحج:78].
اشكروا نعمة الله عليكم بما أكرمكم به، حيث كنتم خير الأمم لخير نبي، ولخير رسالة وأدومها وأشملها، فاشكروا الله بما أمركم به من عبادته، {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج:78] أي: فلتكن عبادتكم وشكركم لله بإقامة الصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها، والقيام بأركانها وواجباتها وسننها، وبالمحافظة على خشوعها وذكرها وحركاتها، فحافظوا عليها ليلاً ونهاراً؛ شكراً لله على ما اصطفاكم وأكرمكم به.
قوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج:78] أي: قوموا بحق الله شكراً لما أولاكم به، وأدوا حقوق عباد الله شكراً لله، لما أمركم الله به من القيام بحقوق الناس: الفقراء والمساكين والمحتاجين والسائلين والمحرومين، والزكاة لم تجب بحصصها وتفاصيلها إلا في السنة الثانية من الهجرة في المدينة المنورة، وهذه الآية مكية فإن قيل: كيف ذلك {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج:78] والزكاة لم تفرض إلا بعد ذلك؟ ف
الجواب
قال المفسرون: فرضت الزكاة في مكة ولم تقيد بأنصبة، ولا بحول ولا بنوع، وإنما هي صدقات ونفقات للسائل والمحروم، ولذي الرحم وللقريب وللفقير وللمحتاج وللعائل، فكانت أمراً بإحسان، وأمراً بإنفاق.
وعندما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فرضت بحولها ونصابها.
وكذلك تفسر الزكاة هنا بزكاة النفس وتطهيرها من الدنس والشرك والمعاصي، فيصير المعنى على هذا: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الحج:78] أي: عبادة لله، ركوعاً وسجوداً وقياماً وتلاوةً وذكراً، وتكبيراً وتسليماً.
{وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج:78] أي: آتوا زكاة أنفسكم: بتصفيتها عن الزلات، وعن الدنس والشرك والمعاصي، وكل ذلك صحيح، وكل ذلك تشمله الآية.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} [الحج:78] أي: اجعلوا الله عضدكم ووكيلكم واجعلوا الله من تصيرون إليه، ولا تبتغوا عزاً بغيره، ولا ملجئاً من سواه جل جلاله وعز مقامه.
ولا يليق بالمسلم أن يعتز بغير الله، ومن اعتز بغير الله ذل.
قال تعالى: {هُوَ مَوْلاكُمْ} [الحج:78] أي: الله ناصركم ووليكم وحافظكم، ومن كان الله مولاه فلا يخاف ذلاً ولا غلبةً ولا هواناً.
قال تعالى: {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78].
أي: فالله هو نعم الولي للمؤمنين والناصر والمرجع والمعاد والنصير لهم من كل ظلم ظالم وعداء عدو وكفر وكافر وشرك مشرك، و (نعم) أي: ما أنعمه وما أكرمه وما أجله، جل جلاله وعز مقامه.
وبهذا نكون -ولله الحمد والشكر بكل جوارحنا وخلايا أجسامنا- قد ختمنا سورة الحج.
زادنا الله علماً وعلمنا منه ما جهلناه.
وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(81/2)
تفسير سورة المؤمنون [1 - 7]
سورة المؤمنون من السور المكية، سميت بهذا الاسم لما في بدايتها ونهايتها وخلالها من ذكر صفات المؤمنين.
والآيات الأولى من هذه السورة ذكر الله تعالى فيها صفات المؤمنين المفلحين، فذكر من صفاتهم الخشوع في الصلاة، والإعراض عن اللغو، وأداء الزكاة، وحفظ الفروج عن الحرام، والمحافظة على الصلوات، فمن اتصف بذلك فهو من المؤمنين المفلحين الوارثين للفردوس.(82/1)
بين يدي سورة المؤمنون
سورة المؤمنون سميت بهذا الاسم لما في بدايتها ونهايتها وخلالها من صفات المؤمنين حقاً، وأن الإيمان ليس قولاً يقال فقط، بل هو قول باللسان، وعقد بالجنان، وعمل بالأركان، فإن خلا عن الجنان كان نفاقاً، وإن خلا عن الأركان كان فسقاً، وإن خلا عن اللسان كان كفراً، والقلوب الله أعلم بها.
ولا يتم إيمان المؤمن حتى يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يقولها لسانه، ويعتقدها بجنانه، ويصدق القلب اللسان واللسان القلب، وتعمل الجوارح بما يدل على صدقه ويقينه.
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:1 - 3]، وكثيراً ما وصف الله المؤمنين أنهم يعملون الصالحات، وهي القيام بالأركان والصفات الآتية التي سنقولها في العشر الآيات المتتاليات على نسق واحد.
وهذه السورة مكية، أي: نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة، وفيها مائة وتسع عشرة آية، وعرفت أنها مكية بما ثبت عن الأصحاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بها في مكة في صلاة الصبح، وإذا به وهو عند ذكر قصة فرعون مع موسى وهارون تأخذه سعلة، فيقطع بقية التلاوة في السورة ويركع.
وهذه السورة الكريمة المكية قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء عن عمر بن الخطاب فيما رواه عنه أصحاب السنن، قال عمر: (كان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعنا عند وجهه الشريف دوياً كدوي النحل، فنزل عليه مرة فلبث ساعة ثم رفع رأسه وقرأ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11].
فتلا صلى الله عليه وسلم هذه الآيات العشر ثم قال: نزلت علي آيات عشر من قام عليها دخل الجنة).
أي: من أقامها وتخلق بأخلاقها والتزم بها كان المؤمن حقاً، ومكافأته من الله وجزاؤه أن يدخل الجنة خالداً مخلداً فيها.
وسئلت السيدة عائشة رضوان الله عليها: (ماذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت للسائل: ألم تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: إن قرأت فأعد القراءة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] وإلى أن أتمت الآيات العشر، قالت: كان خلق رسول الله القرآن).
أي: كان متصفاً بهذه الصفات النبيلة الكريمة التي وصف الله بها رسله وعباده المصطفين الأخيار، وكان كما قال الله عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وكان كما قال الله عنه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، واذكر مع هذا كل ما ورد ونزل عن الله جل جلاله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
وورد في السنن أن الله يقول في الحديث القدسي: (إني خلقت الجنة بيدي، جعلت لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وملاطها المسك) أي: أن الطين الذين يجمع به كان مسكاً، (ثم قال للجنة بعد أن خلقها بيده: تكلمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]).(82/2)
تفسير قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون)
ووقع التنويه بالمؤمنين في سورة المؤمنين من البداية، وذكرت الآيات العشر صفات المؤمنين الذين هم مؤمنون حقاً منذ البداية، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] (قد): حرف تحقيق وتأكيد، وكانت تكفي: {أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] فأفلح: فعل ماضي دل على أن فلاح المؤمنين قد تم عندما يتخلقون ويتحلون بهذه الأخلاق والنعوت والصفات، ولكن الله جل جلاله أكد هذا المعنى من الفلاح والفوز والظفر بالجنة ودخولها حققه وأكده بأداة (قد)، وما دخلت (قد) على فعل ماضي إلا حققت معناه ومفهومه، ومعنى: قد قامت الصلاة، أي: قد فرض الله قيامها وأوجبه على كل إنسان، ولا تقبل إلا من مؤمن.
فالإيمان شرط صحة في عمل العبادات والقيام بها، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] أي: حقاً وتأكيداً أن المؤمنين قد أفلحوا، والفلاح: هو الظفر والسعد والحظ والنجاح، أي: أن المؤمنين في دنياهم بعد أن تعبوا عبادة وسهراً وعملاً بالحلال وتركاً للحرام، وتعبوا التزاماً بما أمر الله به من أنواع العبادات، وقاموا لله متهجدين والناس نيام، ويقولون: يا رب وهم يسجدون ويركعون، ويضرعون ويخنعون، فهؤلاء عندما يذهبون إلى ربهم يكونون قد نجحوا في عملهم، وفازوا وسعدوا بوراثة الجنة خالصة لهم من دون الناس.(82/3)
تفسير قوله تعالى: (الذين هم في صلاتهم خاشعون)
قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2].
أول صفة صلاح هي الخشوع في الصلاة، وقد جاءت بعد اتصافهم بالإيمان، ويوصف بالإيمان كل من نطق بشهادة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم يأتي بعدها الصلاة.
وقد سئل صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أي عمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قيل: ثم أي يا رسول الله؟! قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي يا رسول الله؟! قال: الجهاد في سبيل الله).
فالصلاة تأتي بعد الشهادتين، وبر الوالدين بعد الصلاة، والجهاد يأتي بعد التوحيد وبعد الصلاة وبعد بر الوالدين، ومن البر إذا كان الولد وحيد أبيه وأمه ألا يحج، وحجه خدمة أبيه وأمه، فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاب يقول له: (يا رسول الله! أريد القتال والجهاد معك، قال: ألك أبوان؟ قال: لي أم، قال: إن الجنة عند قدميها) أي: الزمها، فجهادك وما تريد من شهادة وما تريد من فوز بالجنة هو في ملازمة قدميها خدمة وطاعة وبراً.
{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] وصف المؤمنون بأول وصف بعد الإيمان وبعد النطق بالشهادتين واليقين بالجنان أن يكونوا مصلين، وهم خاشعون في صلاتهم، والخشوع: هو سكون الجوارح، والأدب، واستشعار الوقوف بين يدي الله.
والكثير من البدو والأعراب وممن لا يعلم صلاته ولا دينه لا يتذكر لحيته، ولا يتذكر العقال، ولا يتذكر الهندام إلا وهو يصلي، فتجده يصلي وهو يتلاعب بيديه وبجسمه وبحركاته، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم مصلياً يصلي وهو يعبث بلحيته فقال عنه: (لو خشع قلب هذا لما عبثت يده بلحيته)، ومعنى ذلك أن الخشوع هو السكون.
وكان الصحابة في الصلاة يرفعون أبصارهم إلى السماء، وينظرون يميناً وشمالاً ولو لم يلتفتوا، فورد المنع من ذلك، فالخشوع هو سكون الأعضاء جميعاً، والخشوع هو تفرغ القلب للصلاة وما تصنعه فيها، والخشوع هو النظر إلى مكان سجودك؛ حتى لا يشغل بصرك بغاد ولا رائح، والخشوع هو أن تخشع حواسك؛ لتفهم ما أنت داخل عليه وما أنت حال فيه، فعندما تقول: الله أكبر فإنك تصغر غير الله، فكل مخلوق صغير أمام جلال وعظمة الله، فتتفهم معناها وتتفهم معاني سورة الفاتحة، وهكذا في التسبيح والتعظيم والجلوس والاستغفار، وكل تلاوة الصلاة وذكرها وتكبيرها تخشع فيه؛ لتتفهم معناها، وأن تهدأ أعضاؤك خاشعاً ذليلاً بين يدي ربك، قاصراً نظرك إلى محل السجود.(82/4)
تفسير قوله تعالى: (والذين هم عن اللغو معرضون)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3].
هذه هي الصفة الثانية، واللغو هو الباطل، فيشمل باطل الشرك، ويشمل باطل القول والعمل وكل المعاصي وكل المآثم التي صنعتها يدك أو نطق بها لسانك، فكل المعاصي تعتبر باطلاً، وكل عبث يعتبر باطلاً، وأبطل الباطل وأعظمه هو الشرك بالله، {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:2 - 3] أعرضوا عنه: تركوه خلفهم ظهرياً، ولم يتلبسوا به قولاً ولم يتلبسوا به عملاً، ولم يلتفتوا إليه وشغلوا أنفسهم بالحق، فالله هو الحق، وقوله الحق، وما أرسله الحق، وشريعته الحق، فيشغل نفسه بالحق عن الباطل، فكل ما سوى الله باطل، وليس الحق إلا ما أمر به عبادةً أو رسالةً أو رسولاً أو عملاً صالحاً.(82/5)
تفسير قوله تعالى: (والذين هم للزكاة فاعلون)
{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4].
وكذلك نقول في الزكاة هنا ما قلناه في الآية السابقة في ختم سورة الحج، وهذه الآية مكية كبقية السورة، والزكاة لم تجب في مكة، ولكن فقهاءنا وعلماءنا وسلفنا الصالح من مفسري كتاب الله قالوا: الزكاة كصدقة الزكاة كنفقة الزكاة كعطاء الزكاة كشفقة على الفقير والمسكين والسائل والمحروم وجبت أيضاً في مكة ولم تحد بحد، وما حددت بالنصاب وبالحول وما حددت أنواعها من ذهب وورق وحراثة وتجارة وما إلى ذلك إلا في السنة الثانية من الهجرة.
ويمكن أن تفسر الآية مع ذلك أنهم الذين يزكون أنفسهم، أي: يطهرونها من الدنس ومن الشرك والآثام، ولنقل كلمة عامة تعم كل ذلك: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4] أي: فعلوا الزكاة مالاً وعطاء، وفعلوا الزكاة تطهيراً للنفس، وإزالة لأنجاسها وأرجاسها وآثامها، وذلك من صفات المؤمن التي نوه الله بها في هذه السورة في البداية.(82/6)
تفسير قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون)
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5].
الفروج: جمع فرج، وأصل الفرج الشق، يقال عن الشق في الثوب مثل الجيب أو نحوه، يقال عنه الفرج، والكلمة كانت في الأصل كناية عن سوءة الرجل والمرأة، ولكن مع طول الاستعمال أصبحت علماً بالغلبة.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] أي: حفظوا فروجهم عن الزنا واللواط، وحفظوا فروجهم عن أن يكشفوها إلا لما أحل الله من طلب الذرية، وحفظوها إلا في المكان الذي أمر الله وأذن الله فيه، فلا يجوز إلا في القبل ومن أي جهة شاء الزوج أو شاء السيد والمالك، وأما في الأدبار فلا يجوز في الزوجة ولا الأمة.
وقد ورد في ذلك: (اقتلوا الفاعل والمفعول) إن كان ذلك في غير زوجة وفي غير أمة، وأما إذا كان عند الزوجة أو الأمة فلها الحق أن تمنعه، ولها الحق أن ترفع عليه قضية ليعزر، وما ينقل في جواز ذلك عن بعض الأئمة فهو كذب وزور وبهتان، وهو كذب على الأئمة والسلف الصالح، وما يذكرون من ذلك أن ثم كتاباً لأحد الأئمة اسمه كتاب السر أذن فيه بذلك وأحله، فليس الحلال لأحد، والإمام من الأئمة ومن نسبوه له كذبوا عليه فيه، وقد كذبوا على الأنبياء ألا يكذبون على العلماء! وأما قول الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] فتفسير هذه بالإطلاق في المرأة أن يأتيها الإنسان قبلاً ودبراً جهل وضلال في التفسير، وعدم معرفة بالقرآن ولا بكلمات العربية لا مفردات ولا جمل، قال الله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ} [البقرة:223] وهل الدبر يحرث ويزرع ليلد؟ أين الحرث من المرأة أليس في قبلها؟ أليس الماء والاتصال هو الحرث؟ أليس الولد هو الزرع لذلك الحرث؟ وماذا في الأدبار من حرث ومن زراعة ومن إنبات؟! {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] أي: ائتوا الحراثة كما شئتم من خلف وأمام في مكان القبل؛ لأن اليهود كانوا يقولون في ذلك العصر: من أتى امرأته على هيئة خاصة فإن الولد يخرج أحول، فكان الأنصار: الأوس والخزرج يتأثرون بذلك ويتعبون زوجاتهم في بعض الحركات في ذلك، فبلغوا رسول الله بذلك وسألوه، فنزل قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223].
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] أي: يحفظونها ويصونونها عن الحرام ولوجاً أو سطحاً أو كشفاً أو بأي صفة من الصفات، ومن امتنع من ذلك فالجزاء في ذلك عظيم شديد، من أتى الفروج حراماً إن كان عزباً فمائة جلدة وتغريب عام، وإن كان محصناً متزوجاً وليس من الضروري وقت الفساد ووقت الزنا أن يكون متزوجاً، بل يكفي أن يكون قد تزوج يوماً ثم ماتت زوجته وأصبح أرمل أو طلق، ففي هذه الحالة يعتبر محصناً، وعندها يرجم بالحجارة حتى الموت ولا كرامة، وقد رجم صلى الله عليه وسلم نساء ورجالاً، ورجم الخلفاء الراشدون الأربعة، ورجم السلف الصالح، وقد أقيم الرجم في هذه الديار قريباً، ولعل هذا الحكم قد ألغي فيما ألغي من شريعة الله في بلاد المسلمين، وهو من جهلهم ومن ضياعهم ومن فساد محاكمهم وقضاتهم ومجتمعاتهم.(82/7)
تفسير قوله تعالى: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6].
أي: إلا حفظ الفروج عن الزوجة التي استباحها المؤمن بكلمة الله ورسوله، وبشاهدي عدل، وبولي وبمهر، فحينذاك فالزواج والنكاح سنة الأنبياء والمرسلين، بل قد يكون الزواج واجباً عند الكثير من الأئمة.
{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] الأيمان جمع يمين وهي اليد، وهي كناية عن الإماء المملوكات نتيجة الغزو ضد الكفر فانتصر فيها المسلمون، وأخذوا بناتهم ونساءهم أسرى نتيجة الحرب التي انتصروا فيها، وهذا إن شاء رئيس الدولة والإمام المسلم ذلك ورأى المصلحة في ذلك، فإن لم ير ذلك فلا استعباد ولا أسر، واليوم قد اتفقوا على إلغاء الرقيق ونعم ما فعلوا؛ لأننا في ذلنا وهواننا مع أعدائنا إذا أسرنا منهم الألف فسيأسرون منا المليون، وتكون المصيبة كبيرة والبلية طامة وعظيمة.
إذاً فالأمة تكون نتيجة حرب المسلمين ضد الكفار وليست ضد المسلمين، ولو كان باغياً وشاقاً للعصا فليس في حرب العصاة والبغاة استرقاق، فللمسلم أن يحارب أخاه المسلم ريثما يئوب ويخضع، فإذا خضع فلا يتبع جريح، ولا يغنم غنائم لا من ماله ولا من عياله من باب أولى، وإنما يتخذ الكراع والسلاح، أي: تؤخذ الدواب التي حارب عليها، ويؤخذ السلاح الذي حارب به، وأما المال فلا يؤخذ، وأما النساء فلا يؤسرن، ولا يكون ذلك إلا في القتال مع الكافرين، فإن لم يكن هذا كذلك فهن الحرائر قد أخذن واستبحن زناً وفساداً بما لا يرضي الله، وبما حرفوا فيه الكلم عن مواضعه كتحريف اليهود.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6] أي: إلا حفظ الفروج على النساء الزوجات وعلى الجواري والإماء الرقيق فإنهم غير ملومين، فلا يلام الإنسان أن يأتي زوجته، بل هذا حق من حقوقها إن لم يفعل فإنها ترفع عليه قضية، فليست هي أخته ولا حريمه، وما جاءت إلا لذلك، وبذلك يتم النسل، وتتابع ذلك إلى يوم يريد الله القضاء على الدنيا وفنائها، فهم لا يلامون ولا يعاتبون ولا يمنعون، بل لهم الحق في ذلك.
فالذي أذن الله به، والذي لا يلوم الله عليه أن تأتي زوجتك في مكان الحرث منها ومكان الولادة، وما سوى ذلك فهو اعتداء وظلم وفساد، عليه التعزير فيه، فتأتي زوجتك في المكان المشروع، والزوجات التي أباح الله هن إلى حدود الأربع.
وأما المحارم فإتيانها جريمة مضاعفة يقتل الفاعل، سواء كان عزباً أو كان محصناً، فمن تجاوز الحرمتين، وقد تزوج رجل امرأة أبيه فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم له من أتاه برأسه؛ لأن الزواج بامرأة الأب حرام، فهي جريمتان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من تجاوز الحرمتين فاقتلوه)، وبقي ذلك الشرع الواضح لمن تزوج حريمته عن علم بذلك لا عن جهل ولا عن شبهة، من تزوج حريمته فإنه يقتل، ومن أتاها فإنه يقتل؛ لأنه تجاوز أيضاً حرمتين: فالزنا حرام وإتيان الحريم حرام حرمة ثانية، أي: التي حرمت عليه دماً أو رضاعاً.(82/8)
حرمة زواج المتعة
قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] هنا قال فقهاؤنا: يحرم بنص هذه الآية زواج المتعة؛ لأن زوجة المتعة فيما قالوا: ليست زوجة، فالله أباح الزوجات والإماء، والمتمتع بها ليست زوجة، وزواج المتعة قد أبيح مرة ثم حرم، ثم أبيح ثم حرم، أبيح في غزوة خيبر ثم حرم بعد ذلك، وأبيح في غزوة الفتح ثم حرم بعد ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (حرم زواج المتعة ولا يحل إلى يوم القيامة)، وعلى ذلك إجماع المسلمين من أهل السنة.
وزواج المتعة: هو زواج موقوت، بمعنى أنه يتزوج لشهر أو لشهرين فإذا تمت تلك المدة المقدرة فإنه يفسخ النكاح بعد ذلك بلا حاجة إلى أن ينطق بطلاق، قالوا: ولا توارث بينهما، قالوا: ولا نفقة في ذلك إلا ما يعطيه من مهر، وفيما عدا ذلك هو كالزواج لابد من الاستبراء أولاً والاستبراء ثانياً، فالولد إذا حملت هو لمن متعها وتزوج بها زواج متعة، وأما الزواج فهو في الأصل للديمومة وللأبد، والله قد أحل الطلاق وإن كان قد قال عليه: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، فما دام الطلاق في يده فله أن يطلق في أي وقت شاء، ولا يسأل لماذا طلق؟ فقد يكون طلاقه لشيء إذا ذكره قد يضر بالمرأة، وما يريد اليوم بعض الفسقة ممن يريدون أن يضيقوا الطلاق إلا بطلاق القاضي وإذنه فهذا باطل؟ فهؤلاء يرغبون في أن تكشف أعراض المسلمات، وأن يأتي الزوج ويقول: هو يتهم زوجته، ويقول عنها كذا وكذا فيكون قد قذفها وأفسدها على من يريد زواجها بعده، ويكون قد جعل أولادها سبة وعاراً للأبد أن أمهم طلقت لكذا من أمور الفساد، ومن أجل هذا المعنى فالله يحب الستر، فالطلاق طلاق ولا يسأل لماذا، فقد يكون -وهذا في الأغلب- سبب الطلاق عدم موافقة الأخلاق، وعدم موافقة السيرة، أو تعاظم المرأة على الرجل، أو تعاظم الرجل على المرأة فلا ينفق عليها، وهذا يسمى خلعاً إن هي طلبت الطلاق، ولها ذلك بشروطه وقيوده، وسيأتي تفصيله.
فالزواج السني إذاً هو للديمومة، والطلاق بيد الرجل، وإتيان الجواري بملك اليمين، فالملك نفسه يعتبر محلاً للنكاح، وهو كالزوجة ماؤه خاص بها لابد من الاستبراء أولاً وأخيراً، ومعنى الاستبراء أن تستبرئ المرأة رحمها بأن تنتظر الجارية قرءاً، والمطلقة قرئين أو ثلاثة، والمتوفى عنها زوجها العدة التي تقضيها حداداً، فإن ظهر الحمل فإلى أن تلد؛ ليستبرئ رحمها ويكون بريئاً من ماء غيره ومن حمل غيره.(82/9)
تفسير قوله تعالى: (فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون)
قال تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7].
فمن أراد ألا يحفظ فرجه، وأن يكشف فرجه، وأن يأتي فروج غير الزوجات وغير الإماء المملوكات له، فإنه يعتبر عادياً معتدياً ظالماً فاسقاً مرتكباً للحرام، وعلى فاعل ذلك ما قص الله في كتابه وما شرحه نبيه في سنته: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وورد ما نسخ لفظه وبقي معناه: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، (الشيخ والشيخة) قال الإمام مالك: المحصن والمحصنة، المتزوج والمتزوجة، إذا هما زنيا فليرجما، فقد كانت هذه التي تلوتها الآن آية، فنسخ لفظها وبقي معناها.
والمنسوخ في القرآن أنواع: فمنه ما نسخ لفظه ومعناه، ومنه ما نسخ معناه وبقي لفظه، ومنه ما نسخ لفظه وبقي معناه كهذا الذي قلته، وأكد هذا نطق رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم المحصن فيما تواتر عنه، ورجمه للمحصنات والمحصنين وهم مجموعة من النساء والرجال من المسلمين وأهل الكتاب، ورجم أبو بكر ورجم عمر ورجم عثمان ورجم علي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، فهي شريعة بالكتاب وبالنطق النبوي وبالعمل النبوي وبعمل الخلفاء الراشدين، وما أنكر ذلك إلا الضالون المبتدعون.
{فَمَنِ ابْتَغَى} [المؤمنون:7] أي: فمن أراد ابتغاء، فهذه لغة حجازية: أبغي وما أبغي، {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون:7] أي: فمن أراد ما زاد على ذلك مما ليس بزوجة ولا أمة {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] من عدا يعدو إذا ظلم واعتدى، فأولئك هم الظالمون المعتدون المرتكبون في فعلهم الحرام الذي استوجبوا به الحد، فحد العزب الجلد ونفي عام، وحد المحصن الرجم حتى الموت.(82/10)
حكم الاستمناء
وبهذا أخرج علماؤنا -كما قلت- زواج المتعة، وأخرجوا شيئاً آخر قذراً لو لم يكن ممنوعاً أو حراماً لكان دناءة وخسة، وهو ما يسمى بجلد عميرة، وهو بالاستمناء باليد، وقد حرمه مالك والشافعي وحرمة جماهير من العلماء، واستدلوا بهذه الآية، وإن كان البعض قد حاول أن يتساهل فيه فقالوا: هي جلدتك فالعب بها كما تشاء، وهذا كلام غير مستقيم، زيادة على ما في ذلك من الضرر على البدن والجسم، والعجب أن فعل ذلك قد يفسده في المستقبل على زوجته، وقد يفسده في صحته، وفاعل ذلك عادة يظهر في وجهه، وقد منعه علماء آخرون بقطع النظر عن النصوص، وقالوا: لا يفعل ذلك ذو مروءة، ولا يفعل ذلك إنسان يحترم نفسه ويحترم إنسانيته وآدميته، وسموه ناكح يده، {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7].(82/11)
تفسير سورة المؤمنون [8 - 12]
ذكر الله تعالى في هذه الآيات بعض صفات المؤمنين المفلحين، فذكر من صفاتهم أنهم يرعون الأمانة والعهد ويحفظونهما، ومعلوم أن ترك ذلك من صفات المنافقين.
وذكر من صفاتهم أيضاً المحافظة على الصلوات، فمن قام بتلك الصفات كان من ورثة الفردوس هم فيها خالدون.(83/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8].
هذه الصفات النبيلة الكريمة وصف الله بها المؤمنين حقاً الذين إن فعلوها استوجبوا الجنة، ولا يجب على الله شيء، ولكنه هو الذي أوجب على نفسه ذلك جل جلاله وعز مقامه، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ} [المؤمنون:8] الأمانات: جمع أمانة، وقرئ بالمفرد (والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون)، والأمانة تختلف فهناك أمانة إلهية، وأمانة بشرية، والأمانة الإلهية هي كل ما ائتمننا الله عليه، فقد ائتمننا على كلمة التوحيد، وائتمننا على ما أمرنا به من صلاة وزكاة ومن فعل الأركان الخمسة جميعها، وعندما نقول: أشهد أن لا إله إلا الله كان عهداً بيننا وبين ربنا والتزاماً بيننا وبين ربنا أن نقوم بالأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض فأبينها وأشفقن من حملها وعجزن عن حملها، وحملها الإنسان، فالأمانة هي التوحيد، وهي العبادة والطاعة والعهد.
وكذلك نحن عندما قلنا: لا إله إلا الله فإنها عهد مع الله، وأمانة احتفظنا بها كي نقوم بصفة المؤمن كما وصفه الله، وأن نفعل ذلك جهدنا، كما قال لنا: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، فنبذل الجهد من أنفسنا، ونقوم بذلك قدر طاقتنا وقدرتنا كما أمر الله، ونجتنب ما نهانا الله عنه جميعه دون استثناء، وللضرورات أحكام، والضرورات تبيح المحظورات، ولكل حال حالة، ولكل مقام مقال.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ} [المؤمنون:8] أمانات الناس أمانات إلهية وأمانات بشرية، والأمانات البشرية كالائتمان على الأعراض، والائتمان على الأسرار، والائتمان على المعاملات، والائتمان بينك وبين أخيك المسلم ألا تكذبه وهو يصدقك، وألا تخون ماله وهو قد ائتمنك عليه، وألا تخون عرضه وهو قد وثق بك، وألا تخون ما بينك وبينه بحال من الأحوال، ومن لم يكن كذلك فإنه يكون فيه جزء من النفاق، وجزء من الكفر بكل مخالفات هذه الصفات الكريمة الصفات الإيمانية الإسلامية.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8] فإذا عاهدت إنسان على شيء فلابد أن تفي به وإلا فإنك تكون قد نقضت العهد، وخرجت على العهد، وارتكبت ما لا يليق بالمسلم ارتكابه، وفعلت ما لا ينبغي للمسلم أن يفعله، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)، فتجده في وعوده وعهوده مخالفاً، وتجده في أماناته خائناً، وتجده في حديثه كاذباً، وتلك صفات المنافقين، ومن ارتكب منها واحدة كانت فيه خصلة من خصال النفاق، ومن ارتكبها جميعاً اعتبر منافقاً تاماً.(83/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين هم على صلواتهم يحافظون)
ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9].
فابتدأ بالصلاة وأتم بالصلاة، ابتدأ الصفة الأولى من صفات المؤمن بقوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2]، وختم بهذه الصفات النبيلة الرفيعة العالية الشأن فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]، فتلك للخشوع في الصلاة، وسكون الحواس وسكون الأعضاء، وفراغ القلب للعبادة، وتصورك أنك بين يدي الله تناجيه، وتسجد له، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وتخاطبه بكاف المفرد، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وتقديم العامل على المعمول يدل على الحصر، أي: لا أستعين بغيرك، ولا أعبد غيرك، وينبغي أن تكون صادقاً في ألا تخاف سواه، وألا تعبد مراءاة، وألا تعبد للتسميع وإلا كان بك جزء من الشرك الخفي شعرت أو لم تشعر، ولا يقبل الله إلا ما كان خالصاً له، وما أشرك فيه يضرب صاحبه به على وجهه.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9] أي: يحافظون عليها، ويصونونها ويلتزمونها، والمحافظة على الصلوات إتيانها في أول أوقاتها، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله جل جلاله الصلاة لأول وقتها)، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصلاة في أول وقتها رضوان الله، وفي وسطها رحمة الله، وفي آخرها عفو الله)، وشتان بين الرضا والعفو، فالرضا هو الثناء والإعجاب بما فعلت، فيرضي ذلك المعبود جل جلاله، والعفو إذا كان هناك نوع من المخالفة كأن تأتي بالعبادة في آخر الوقت، ومع أنك قمت بها فقد عفا الله عنك، وأما خروجها عن وقتها فهو كبيرة من الكبائر, وخاصة إن كانت الصلاة التي يخرج عن وقتها هي صلاة العصر، فصلاة العصر هي الصلاة الوسطى كما نص عليها صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره، والذي فاتته صلاة العصر قال عنه عليه الصلاة والسلام: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)، فكأنه فقد أهله وماله، فقد كان ذا أهل ومال وأصبح وقد أفلس من المال، وتفرد وتغرب عن أهله، ومن يقبل ذلك ويرضاه! ومن فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله، وهذا من العظائم، وهذا يدل على أن هذه الصلاة أعظم الصلوات الخمس، فالصلوات الخمس كلها عظيمة ولكنها هي أعظم.(83/3)
حكم تأخير الصلاة عن وقتها عمداً
لقد حضنا الله تعالى على الصلاة فقال: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أي: فرضاً أبدياً لازماً موقوتاً بوقت، فلا تجب قبل وقتها، وبعد وقتها أصبحت قضاء، والكثير من الأئمة يقول: لا تصلى بعد خروج الوقت لا على أنه يعفى عنها، ولكنها جريمة تتابعه إلى القبر إلى أن يسأل عنها؛ لأن وقتها قد مضى، ويقولون: إن قضاء الصلاة بعد خروج وقتها عن عمد كمن يريد أن يحج ويقف في عرفات ويذهب لمنى في شهر محرم أو في شهر رمضان أو في غير وقته من شهر ذي الحجة، وهل الحج يقضى في غير وقته؟ إذا قضي لفساد كما في الحيض فمعناه أنه يعاد في وقته في ذي الحجة من أيامه المعروفة منذ اليوم الثامن وهو يوم التروية إلى يوم عرفة إلى يوم النحر إلى يومين أو ثلاثة من أيام منى، وهكذا فسروا قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أي: لها وقتها الواجب اللازم، فمن أخرجها عنه فقد ارتكب كبيرة من الكبائر، وإذا أداها لا تقبل منه، كمن حج في محرم أو في ربيع أيكون حاجاً أو متلاعباً؟! يكون متلاعباً، ولكن مع ذلك نقول ما قال صلى الله عليه وسلم وما أكده الأئمة الأربعة وما قال به جمهور العلماء: إن الصلاة تقضى ولو بعد خروج وقتها، مع الإثم ومع المخالفة، فتقضى ويستغفر الذي قضاها ويطيل من الاستغفار، وحجة ذلك على من خالف هذا من الأئمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يسمى بحج البدل عندما جاءه نساء ورجال فقال بعضهم: يا رسول الله! أحج عن أبي فإنه لا يحتمل الركوب على الراحلة؟ وقال بعضهم: إن أبانا مات ولم يحج أنحج عنه، وقال بعضهم: إن أمنا ماتت ولم تحج أنحج عنها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، أو قالت: نعم، فقال: فدين الله أحق بالوفاء)، فسمى الله ذلك ديناً فأصبح ديناً في ذمتك لابد أن تؤديه لله المعبود الأزلي جل جلاله.
فمن لم يحج في حياته وقد كان وجب عليه الحج يوماً بوجود الزاد والراحلة، وبالقدرة بدناً فلم يحج فهذا يحج عنه من ماله، يحج عليه أولاده، ومن يريد أن يتطوع عنه فله الأجر والثواب، وإن كان للأئمة هنا آراء لكن الأدلة تؤكد هذا جميعاً، فهذا دين الله.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد ضرب مثلاً وذلك إذا مات الإنسان وعليه دين لإنسان ألا يؤديه؟ فإذا كان البشر تؤدي ماله فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فدين الله أحق بالوفاء)، والدين الذي علينا لله هو ما سبق أن تركناه، ومن هنا تدخل الصلاة كما دخل الحج.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9] أي: يحافظون عليها في أوقاتها، ويحافظون عليها بطهارتها، ويحافظون عليها باستقبال الكعبة المشرفة، فيحافظون عليها بالطهارة البدنية والطهارة المكانية والطهارة المائية، فإن لم يستطيعوا بالماء فبالصعيد الطيب، وهو ما صعد على وجه الأرض.
وهكذا الله تعالى يصف المؤمن زيادة على خشوعه أنه يحافظ عليها في أول وقتها، وتجوز في وسط وقتها، وفي الأخير من الوسط، لكن لا ينبغي أن يكون تأخيرها عن أول الوقت دائماً.
وقد ورد في الأحاديث أن المنافقين يجلسون إلى أن تصير الشمس مصفرة فيذهبون فيصلون صلاة العصر، فلا يذكرون الله إلا قليلاً، ويستعجلون لكي لا يفوتهم الوقت بأذان المغرب، ومن هنا فالأحناف كرهوا صلاة العصر والشمس صفراء وهي على رءوس النخيل ورءوس الجبال.(83/4)
تفسير قوله تعالى: (أولئك هم الوارثون)
{أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون:10].
{أُوْلَئِكَ} [المؤمنون:10] الذين وصف الله: أولئك الخاشعون في الصلاة، والمعرضون عن اللغو، والمؤدون للزكاة، والحافظون لفروجهم {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6]، والمحافظون على أمانات الله وأمانات البشر، والمحافظون على عهودهم ومواثيقهم، والمحافظون على الصلوات في أوقاتها وبأركانها وشروطها، هؤلاء الذين التزموا ذلك وتحلوا بهذه الأخلاق الفاضلة أولئك هم الوارثون، ثم زيادة في التنبيه والتنويه ولفت الأنظار والأسماع: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون:10] يرثون ماذا؟ فالإنسان يتشوف لأول مرة، وعندما نزلت الآية وسمع المسلمون {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون:10] أصبحوا كلهم آذاناً صاغية، فقال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون:10 - 11]، فهم يرثون إرثاً عظيماً إرثاً خالداً إرثاً لا إرث مثله، فلا ملك ولا جاه ولا مال ولا أي شيء يساويه، إنه إرث الرضا الإلهي، وإرث النعيم الأبدي، وإرث النظر إلى وجه الله الكريم، فهو تنعم بما لم تره عين، ولا سمعته أذن، ولا خطر على قلب بشر، إرث ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
{أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون:10] جمع وارث، والإرث معروف أنه يكون عندما يموت للإنسان قريب له فيرث ماله أو بعض ماله حسب الصلة وحسب الحصص إن وجد هناك ما يورث.
{الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:11] الفردوس هي أعالي الجنة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الفردوس أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس)، اللهم إنا نسألك الفردوس بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين! {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11] أنثت بمعناها لا بلفظها، فهي الجنة والجنة مؤنثة بلفظها، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا} [المؤمنون:10 - 11] أي: في الجنة، {خَالِدُونَ} [المؤمنون:11] خلوداً أبدياً لا موت فيه ولا شيخوخة ولا فناء ولا عطش ولا زمهرير ولا مرض، ولا ما يخرج من الإنسان، إن هي إلا اللذائذ والنعم المتنوعة التي هي في كل لحظة تتغير وتتبدل، فينتقل الإنسان فيها من درجة إلى درجة، فيتزاور الأحباب في الدنيا إذا جمعتهم الجنان، ولا يكل ولا يمل ولا يبقى له فرصة للكلل ولا للملل، ويتجلى الله الكريم لعباده المتقين فينظرون إليه، ويكون هذا النظر الكريم ألذ وأنعم ما في الجنة من لذائذ الحور العين، ولذائذ الفواكه، ولذائذ الفرش، واللذائذ التي نتصورها في الدنيا، وكما قال الإمام حبر القرآن عبد الله بن عباس: ونعيم الجنة ليس منه مما في الدنيا إلا الأسماء، فما نسميه في الأرض بكل ما يخطر في البال إنما هي أسماء في الجنة تقرب المعنى، وأما الأشياء فليست كالأشياء، والنعيم ليس كالنعيم، فشتان بين نعيم فانٍ وبين نعيم باق، وشتان بين نعيم تحاسب عليه وبين نعيم تخلد فيه دون حساب ولا متابعة ولا مؤاخذة.
والإرث في معنانا الدنيوي: أن مالاً أو جاهاً لأب أو قريب كان له فأخذناه، فلمن كانت الجنة لنرثها نحن منه؟ قال جمهور المفسرين -وإن كان لا حاجة لهذا التفسير-: إن لكل إنسان في الأرض منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، فالمؤمن عندما يدخل الجنة فإنه يدخل منزله الذي أعده الله له، ومنزله من النار يرثه الكافر ويحل فيه، والكافر إذا دخل النار كان له منزل في الجنة لو مات على الإيمان، فيرث المسلمون منازل الكافرين فيكونوا بذلك ورثتهم، ولا حاجة لهذا التفسير؛ فلم يرد في سنة ولا في آية أخرى.
{يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون:11] الفردوس خلقها الله ليرثها المؤمن، وقد خلقها الله بيده، وغرس شجرها بيده، وخلق نعيمها بيده، ولذلك عندما قال للجنة تكلمي قالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] إلى {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون:10].
وفي رواية قالت: طوبى لمن يدخلني، أنا منازل الملوك حقاً، فهؤلاء الذين سيكونون قد ملكوا ملكاً حقاً دائماً، ففيه من أنواع اللذائذ ومن أنواع النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
{أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - س11] أي: المؤمنون المتصفون بهذه الصفات هم خالدون في الفردوس وفي ذلك النعيم.(83/5)
تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12]، يقص الله علينا قصة خلق الإنسان، وكيف خلق هذا الإنسان ذا اللحم والدم، هذا الإنسان الضعيف، هذا الذي طغى وتجبر وتأله على الله، ونسي وجوده وأنه من تراب يدوسه الناس في أصله، وأنه من ماء مهين تسلسل بعد ذلك، ثم بعد ذلك تفرعن وتجبر {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24].(83/6)
تفسير سورة المؤمنون [12 - 16]
في هذه الآيات يذكر الله تعالى أطوار خلق الإنسان ووجوده حال كونه في بطن أمه وقبل ذلك وبعد ذلك، فذكر خلقه من سلالة من طين، ثم كونه نطفة في رحم الأم، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عندما يصير عظاماً، ثم عندما تكسى هذه العظام لحماً، ثم يصير خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين.
ثم بعد ذلك يخرج إلى الدنيا طفلاً ثم يصير غلاماً ثم شاباً يافعاً، ثم كهلاً ثم شيخاً ثم يموت، ثم يبعث للحساب.(84/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)
قال الله جلت قدرته: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 - 14].
علمنا الله في آيات مضت صفة المؤمن الواجبة: من كونه لابد أن يؤمن بالله لساناً، وأن يعتقد ذلك جناناً، وأن يعمل بذلك أركاناً، ومن الأركان الخشوع في الصلاة، وإيتاء الزكاة، وترك الباطل، واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والقيام بالعهود والأمانات، والمحافظة على الصلوات، وفي هذه الآيات يقص علينا قصة خلق الإنسان، وكيف تطور في أطوار مختلفة منذ خلقه الله من التراب إلى أن صار نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.
فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] السلالة تعني الماء المصفى، والسلالة تعني مني الإنسان، والسلالة تعني الذرية وما ينشأ عنها مسلسلة من تراب فمني فمضغة إلى آخر أطوار بني آدم.
والألف واللام في الإنسان للجنس، أي: جنس الإنسان، أي: بني آدم، وآدم خلق من تراب، والإنسان بعد ذلك خلق من ماء مصفى يخرج من بين الصلب والترائب، أي: من صلب الرجل وترائب المرأة وهي عظام صدرها من الترقوة إلى السندوة، فيجتمعان معاً فينشئ الله منهما خلقاً جديداً، فهي نطفة تصير إنساناً، وفي النهاية تكون ذكراً أو أنثى.
فأصل الخلقة التراب، ثم بعد التراب جاءت سلالة التراب وهو الماء المصفى -المني- الذي كون بعد ذلك من آدم وحواء فكنا جميعاً من ذلك الماء المهين كما قال الله جل جلاله.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] أي: جنس الإنسان، فالإنسان المولد المسلسل من آدم وحواء خلقه من هذا الماء وهذا الماء الذي كون وخلق ونشأ نشأ عن الطين الذي منه خلقة آدم، ومن خلقة آدم خلقت حواء من ضلع أعوج كما قال تعالى بأنه خلق منها زوجها، وقد صرح بذلك صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (أن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن أنت أردت تقويمها كسرتها، وإن أنت صبرت عليها ففيها عوج)، والضلع الأعوج هي ضلوع الصدور، والله قادر على كل شيء وأرانا قدرته في خلق الإنسان، فخلق الإنسان الأول وهو آدم خلقه من تراب، وخلق الإنسان الثاني الأنثى حواء خلقها من جزء من آدم، ثم خلقنا من أب وأم من مضغة من ماء، ثم خلق بعد ذلك عيسى من امرأة بلا رجل، فكانت قدرة الله جل جلاله القادرة على كل شيء، كما خلق بقدرته ناقة صالح من حجر بلا ذكر ولا أنثى بلا فحل ولا ناقة.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ} [المؤمنون:12]، والسلالة ما يسل ويصفى من الشيء، فقد صفي ماء من التراب، وصفيت نطفة من الإنسان الأول، ثم تكون الإنسان من هذه السلالة، ويقال: فلان من سلالة فلان، أي: من ذريته ومن نطفته.(84/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين)
قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13].
أي: هذا الماء وهو المني المخرج من الذكر والأنثى، من الذكر من الصلب ومن الأنثى من الترائب، جعله الله وخلقه ووضعه في مكان مكين، {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13] أي: ثم جعلنا النطفة في قرار مكين، وهذه السلالة تكونت نطفة وتكونت ماء وتكونت قطرة، وهي بذرة الإنسان الثانية، وحفظها في قرار وفي مكان مكين حريز محفوظ وهو الرحم الذي تحمله الأنثى، فهذه النطفة جعل الله لها مركزاً وقراراً حريزاً محرزاً محفوظاً من أن تصاب بسوء إلى أن تتم هذه الخلقة، وتصير أطواراً، فمن الماء إلى النطفة إلى المضغة إلى العلقة إلى المضغة إلى الإنسان السوي، هذا القرار المكين هو رحم الأنثى يحفظ فيه أربعين يوماً ويصبح بعد ذلك علقة، ثم يصبح مضغة، ثم عظاماً بلا لحم، ثم عظاماً مكسوة، ثم طوراً آخر بأشكال وألوان وأطوار.(84/3)
تفسير قوله تعالى: (ثم خلقنا النطفة علقة)
قال الله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون:14].
ثم هذه النطفة التي يتشربها رحم الأنثى لمدة أربعين يوماً خلالها تتخلق وتتكون وتصبح علقة مستطيلة أشبه شيء بالعلقة المعروفة، وتصبح قطعة من ماء فقير، وتصبح أقرب للمضغة ولما تتكون بعد مضغة، بل تكون دماً عبيطاً تكون أشبه ما تكون بالعلقة التي هي معروفة من هوام الأرض، وبذلك سماها الله، فتبقى أربعين يوماً كذلك علقة {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [المؤمنون:14] وبعد أربعين يوماً من تخليق النطفة علقة، وأربعين يوماً علقة ثم تصبح بعد ذلك مضغة، أي: قطعة لحم بمقدار اللقمة التي يمكن أن تمضغ ويحملها الإنسان بيده لفمه، سميت مضغة لصغرها، ولكونها أقرب ما يكون إلى اللقمة في صغرها وحيزها، وهي قطعة لحم.
{فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون:14]، ثم ينقلها الله جل جلاله في الطور الرابع من قطعة لحم إلى عظام بلا لحم، فيبرز رأسها ويديها وعظامها: أضلاعها، وساقها، ويديها، ورجليها، فهي هيكل عظم أشبه ما يكون بهياكل العظام التي عليها الأطباء يتعلمون، وبها يشرحون.
قال تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون:14]، هذه العظام التي هي في الطور الرابع تنتقل بعد أربعين يوماً إلى عظام قد كسيت لحماً كما يكسى بدن الإنسان ثياباً، وفي هذه الحالة تصبح هذه النطفة الأولى جنيناً كاملاً من عظم وعصب ولحم وروح، {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:14] أي: انتقل من كونه جنيناً كاملاً في بطن أمه إلى وليد رضيع لا يكاد يستطيع أن يدفع عنه ذبابة ولا ناموساً، إلى طفل ينتقل من الرضاعة إلى الحبو، ثم إلى الوقوف، ثم إلى الطفولة، ثم إلى اليفوعة، ثم إلى مرحلة الشباب، ثم إلى الرجولة، ثم إلى الكهولة، ثم إلى الشيخوخة، ثم إلى الضعف الذي ابتدأ به ثم إلى الموت، وبعد ذلك إلى البعثة يوم القيامة.
وفي الصحيحين: صحيح البخاري ومسلم وفي مسند أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثني الصادق المصدوق صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك بنفخ الروح فيه، ثم يؤمر بكتابة أربع كلمات: برزقه وعمله وأجله وشقي هو أم سعيد)، ويكون ذلك قبل قد كتب في اللوح المحفوظ، كما كتب كل الخلق ملكاً وجناً وإنساً وغير ذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام كما سبق أن روينا وقلنا في مجالس سابقة وبمناسبات عديدة من تفسير آي الله الكريم وسور القرآن العظيم، وهذا الذي قصه الله جل جلاله قبل1400 عام على نبينا وعلينا هو ما أكده الطب قديماً وحديثاً، وتشريح الإنسان في جميع أطواره ومراحله، ومن هنا كان الإعجاز.
ويتساءل الكثيرون فيقولون: تقولون إن القرآن معجز ومن يدري هذا الإعجاز إلا العرب، فهو معجز بفصاحته، ومعجز ببلاغته، ومعجز بمفرداته، ومعجز بتعابيره وجمله، أي: أعجز البشر عن أن يأتوا بمثله ولو آية ولو سورة ولو أقل شيء منه، وقد تحدى الله الخلق والبشر منذ نزول القرآن في مكة والمدينة على سيد البشر وخاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، وجئنا بعدهم بـ1400 عام وهذا الإعجاز لا يزال قائماً على كثرة بلغاء العرب وفصحائهم شعراً ونثراً ونطقاً ودراسة وكلاماً، ومع ذلك لم يستطع أحد، ولو تواطأ أهل السماء والأرض من الملك والجن والإنس لما استطاعوا.
فأما الملك فلم يفعلوا، وأما الناس والجن فقد حاولوا كثيراً، فحاول مسيلمة الكذاب وحاول فلان وفلان من أدعياء الأدب وأدعياء الفصاحة فأتوا بالغث، وأتوا بغثاء القول، وأتوا بما يكاد الإنسان أن يقذف ما في بطنه بسبب سخافته.
وقد سألنا من لا يعرف العربية وهم كل سكان الأرض باستثناء العرب وبعض المسلمين، والعرب لا يتجاوزون 150 مليوناً والمسلمون يصلون إلى المليار، ولكن القليل منهم من يتكلم العربية، وأقل القليل من يتقنها ويحسنها نطقاً وكتابة، فقالوا: كيف ندرك نحن الإعجاز؟ قلنا: ليس الإعجاز باللفظ فقط، وليس الإعجاز باللغة فقط، وليس الإعجاز لنسق القرآن ونظمه فقط، ولكن القرآن معجز بلفظه ومعجز بمعناه، وهذا من ذاك، فما قصه الله علينا في قصة خلق الإنسان منذ كان تراباً إلى أن أصبح إنساناً سوياً، إلى أن تسلسل وتوالد، إلى أن أصبح ذكراً وأنثى وذريات هذا الخلق ما بين كل أربعين يوماً إلى أربعين يوماً هو من طور إلى طور، من طور الماء العادي يصب من صلب الرجل ومن ترائب المرأة، فيبقى الماءان في الرحم أربعين يوماً فينقلب نطفة، ثم أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة، ثم أربعين يوماً عظاماً، ثم يكسى بعد ذلك اللحم فيصبح بشراً سوياً صغيراً بجميع حواس الكبار، فتكون بما يناسبه في صغره وقلة جثته وصغر حواسه وخلاياه، وهكذا إلى أن يخرج للوجود طفلاً رضيعاً، إلى أن يصبح بشراً سوياً ذا ألوان مختلفة وذكاء مختلف ولسان مختلف ودين مختلف واعتبار مختلف، من خلق ذلك وسواه؟ إنه الله جل جلاله، وإذا اختل نظام بعض ذلك فمن الذي يصنعه؟! الطبيب يقول: أنا أرقع، وأما أن أوجد عضواً بعد تلفه أو أن أزرع روحاً خرجت، أو أن آتي بعين قد زالت فهذا لا يقدر عليه إلا خالق الإنسان إلا خالق الكون جل جلاله، والذين عرفوا بعد الآلاف من السنين نتيجة التجربة وتشريح الإنسان والطب المتتابع منذ الآلاف من السنين وإلى عصرنا إلى الأيام الأخيرة إلى عشرات السنين المتأخرة آمنوا بهذا لا على أن الله قال، ولكن على ما وصلوا إليه علماً وتجربة، وعندما وجدوا أن القرآن قد نطق بذلك مبيناً مفصلاً حسب أطواره وحسب ما يتقلب في بطن أمه من حال إلى حال إلى أن يخرج ذكراً سوياً، أدركهم العجب، وأما الإيمان فهداية وتوفيق، فمنهم من وفقه الله وهداه للدين الحق فوجد ذلك معجزة تدفعه للإيمان بالله، ومنهم من كان الران قد صعد على قلبه فما زاده ذلك إلا كفراً وما زاده إلا عناداً.
ففي دولة شيوعية تتقاسم مع غيرها السيطرة على البشر والأرض في عصرنا هذا حضر طبيب مسلم في أحد المؤتمرات التي تعقد عادة في الدول والشعوب، فوقف هذا بين مجتمع ملحد كافر بالله عدو لله ولرسله وللأديان فوقف يتكلم على خلق الإنسان، فتكلم طبياً واستمعوا إليه وكلهم أسماع وكلهم حاضرون بالسمع والبصر والنظر إلى أن انتهى، فبعد أن انتهى أتى بهذه الآية وأشباهها من كتاب الله فقال: لم آخذ أنا هذا بعلمي ولا دراستي ولا بالتشريح ولا بما قاله الأطباء، بل هذا العلم لم يزد عليه شيئاً، بل ولم يصل إلى حقيقته إلى الآن، والحقيقة كاملة هذه نطق بها ربنا، وأنزله في كتاب على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فما كاد يذكر الدين والقرآن والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام إلا والآخرون كمن أصابهم مس من الشيطان، فأخذوا يقولون له: يكفينا تخريفاً يكفينا رجعية، وعندما كان يتكلم بذلك من عند نفسه أخذوه وقبلوه وعدوه الذروة فيما وصل إليه علمه وبحثه.
وعندما نسب ذلك لربه وخالقه وعندما نسب ذلك للقرآن العظيم المنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام إذا بأحقادهم وعداوتهم لله وكتبه ظهرت فيهم، وأخذوا يتخبطون تخبط من أصابه مس من الشيطان.
{فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:14]، والخلق الآخر هو هذا، فبعد هذه الأطوار وهو لا يزال في بطن أمه خرج للدنيا رضيعاً طفلاً صغيراً، ثم بعد ذلك توالت عليه الأيام وتتابعت وانتقل من طور إلى طور إلى أن أصبح رجلاً سوياً، ثم رجع لضعفه الأول إذا طال به السن وإلا فالكثير يذهب طفلاً أو يافعاً أو شاباً وهكذا والأعمار بيد الله، والخلق كله بيد الله لا شريك معه ولا معين جل جلاله وعلت قدرته وعزته.
{فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:14] أي: خلقاً متطوراً غير التطور الأول، وهو لا يزال جنيناً في بطن أمه، خلقاً آخر ونوعاً آخر مما يتصل عادة بالإنسان عندما يخرج لهذا الوجود من قوة وضعف، ومن ملك ورعية، ومن غنى وفقر، ومن ذكاء وبلاده، ومن بياض وسواد، ومن شرقية وغربية، ومن إسلام وكفر وهكذا.
فهذا الخلق الآخر يبقى متطوراً: لساناً وجسداً وفكراً وقوة وضعفاً إلى أن يذهب الكل بعد ذلك حيث شاء الله وأراد.
{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] تبارك الله وتعالى وجل، يستطيع ذلك غيره، ولا يفعل ذلك غيره، (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) أحسن في لغة العرب يقولون عنها أفعل تفضيل، وأفعل التفضيل تقتضي المشاركة والزيادة، ولكنها هنا على غير أصلها وحقيقتها، فمن الخالق غير الله ليكون الله أحسن خلقاً من غيره؟! ولكن الله هو الخالق المتفرد (أحسن الخالقين)، أي: حسن الخلق، بديع الخلق، عظيم الخلق، المنفرد بالخلق وحده، تبارك وتعالى وتعاظم جل جلاله وعلا سلطانه، وزعم بعض المفسرين فقال: (أحسن الخالقين) أي: أحسن المصورين، فبعض البشر صور حجراً أو صور شيئاً فالله أحسن الخالقين، وهذا كلام باطل من الأول؛ فهل صنع الحجر أو صنع الشجر أو رسم الحواس على ورق يعتبر تصويراً حتى نقول عنه خالق -أي: موجد- والله أحسن منه؟! لا وجود له ولا كيان، وهو إن صنع شيئاً لم يصنعه من نفسه، فلم يخلق ذبابة كما قال ربنا وضرب المثل متحدياً للخلق: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، جل جلاله وعلا مقامه.
فالإنسان الذي يريد أن يصور يأتي إلى حجر خلقه الله، وإلى إنسان يرسم حواسه خلقه الله، وإلى حبة فيطحنها ويجعل منها حلوى وخبراً وما شاء الله خلق ذلك، فلم يصنع هو شيئاً وكيف مع هذا يقارن خلقه بخلق الله ويقال:(84/4)
تفسير قوله تعالى: (ثم إنكم بعد ذلك لميتون)
قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون:15].
أي: بعد هذه الأطوار للجنين، ثم هذه الأطوار بعد أن يخرج للوجود وللعالم من طفولة إلى شيخوخة ثانية إن هو بقي، وبعد ذلك الموت، وهكذا منذ المخلوق الأول أبينا آدم عليه السلام جاءوا وذهبوا، ونحن نتكلم عن الماضي رسلاً وأنبياء وصالحين وطالحين ومؤمنين وكفار، فقد أصبحوا حديثاً وأصبحوا سمراً وأصبحوا أوراقاً معلقة، كانوا وبادوا وبقي الله الخالق المبدع الأول بلا بداية الله الآخر بلا نهاية، فكان كما كان ولا شيء معه سبحانه، {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون:15]، بعد هذه الأطوار المتسلسلة سنموت، فقد جئنا من التراب ونعود للتراب، ولكن الحسن البصري سيد التابعين يقول: خلقنا للأبد، وإنما هي نقلة من دار إلى دار.(84/5)
تفسير قوله تعالى: (ثم إنكم يوم القيامة تبعثون)
قال الله بعد ذلك: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16].
فتلك الفترة بين الحياة الأولى والحياة الثانية ليست إلا رقاداً واستراحة ونوماً، ثم بعد ذلك نبعث ونحيا حياة ثانية، وتلك الحياة أبدية لا موت فيها، فمن دخل الجنة فإلى أبد الآبدين ودهر الداهرين، ومن دخل النار فإلى أبد الآبدين ودهر الداهرين، ثم مع ذلك يقولون: إن الروح لا تفنى، وإن في الإنسان في سلسلة فقرات ظهره ما يسمى بعجب الذنب، وهي قطعة من العظم على قدر العدسة، يقولون: هذه كذلك لا تفنى، وتبقى كالبذرة في التراب حتى إذا سقى الله الأرض عند إعادتها للحياة فإنه يعيد من ماتوا وبادوا وانتهوا عن طريق إنباتهم من عجب الذنب هذا، ومن أجل ذلك يقول الحسن البصري: خلقنا للأبد، وإنما هي نقلة من دار إلى دار: من دار الفناء إلى دار البقاء، من دار التكليف إلى دار الامتحان، وتشريف من شرفه الله وعقوبة من عاقبه الله ممن عصى أو مات على الشرك، {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16].
وهكذا منذ الماء من الصلب والترائب، ومنذ النطفة إلى الوجود إلى الرجولة إلى الموت، ثم إلى البعث والمحاسبة على ما قدمنا في دار الدنيا، فقد رزقنا الله عقلاً وتفكيراً نميز به بين الحق والباطل، وبعد أن أنصتنا إلى كتاب الله الذي يخاطبنا: يا أيها الناس! يا أيها الذين آمنوا! سنسأل بعد ذلك عما استجبنا له لربنا في كتابه، وعما استجبنا له في ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم في رسالته، فإن كان الجواب فوزاً ونجاحاً فسيكون كتابه بيمينه علامة فوزه وعلامة نجاحه بالرحمة والرضا ودخول الجنان، وإن قبض كتابه بيساره وشماله فسيكون ذلك علامة رسوبه وعلامة عدم نجاحه، فإلى النار وإلى غضب الله.(84/6)
تفسير سورة المؤمنون [17 - 23]
لقد امتن الله تعالى على عباده بأن أنزل لهم من السماء ماء يشربون منه، ويسقون به أنعامهم وزرعهم، وأنشأ لهم به جنات من نخيل وأعناب وفواكه شهية.
ثم حذرهم بأنه كما امتن عليهم بذلك فهو قادر على أن يذهب هذا الماء: إما بأن يجعله يغور في الأرض أو غير ذلك فلا ينتفعون به.(85/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون:17].
كثيراً ما يجمع الله جل جلاله بين قصة خلق الإنسان وقصة خلق العالم، كيف خلق السماء والأرض وكيف خلق الإنسان هذا سيد الأرض، الذي جعله الله خليفة عنه، إذ قال ربنا يوم خلق آدم للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، فسماه خليفة، وقال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26]، فسماه خليفة، والإنسان كله خليفة الله على الأرض، بمعنى أن الله رزق الإنسان عقلاً؛ ليفهم ويتدبر ليقبل أو يرفض، ليطيع أو يعصي، وهكذا الإنسان منذ خروجه إلى العالم ومنذ زرع الله فيه العقل والرشد فهو إما سيستجيب فيكون له الجنة والرضا، وإما أنه سيجحد ويشرك فتحل عليه اللعنة والغضب والخلود في النار.
فذكر الله بعد قصة خلق الإنسان بأنه خلق فوقنا سبع طرائق، والطرائق هي السماوات السبع، وهي كالنعل عندما يطرق نعل على نعل، فهي هكذا طبقة على طبقة، فالسموات طباق كما قال تعالى، فهي طبقة على طبقة وسماء على سماء وهكذا إلى سبع سموات إلى سدرة المنتهى إلى العرش، وأشار سيدنا صلى الله عليه وسلم بيده هكذا وأشار كالقبة، وأن العالم هكذا كله كروي، وهذا ما أجمع عليه المسلمون قبل أن يخطر هذا في بال إنسان في الأرض، فخلق الله الأرض كروية والسموات كروية، والعرش فوق الكل كالكرة وأشار بيده هكذا كالكرة، وذكر الإجماع علماؤنا قديماً وحديثاً نص على ذلك ابن حزم وابن تيمية وغيرهما من أئمة المسلمين، ومن نفى ذلك وحاول أن يقول غيره فيكون قد خرج عن إجماع المسلمين.
خلق فوقنا سبع سماوات وجعلها طبقاً على طبق، وطريق فوق طريق، وفسروا طرائق أنها طرائق للملائكة يطرقونها ويمرون فيها، ويجعلونها طرائق لهم لتلقي الأوامر الإلهية وللعبادة، وقد قال سيدنا صلى الله عليه وعلى آله: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما من موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو راكع) أي: صوتت السماء بثقل الملائكة عليها كما يصوت السقف عندما يصنع من خشب ويكون عليه ثقل، فتجده يصوت، فكذا صوتت السماء لكثرة من تحمل من الملائكة التي العبادة لها كالنفس للإنسان، فتعيش ليلاً ونهاراً على الذكر والعبادة ولا تأكل ولا تشرب ولا تتناكح ولا تتوالد ولا تشتهي، فهي في عبادة دائمة مستمرة راكعة أو ساجدة أو تقول: لا إله إلا الله، أو سبوح قدوس إلى أنواع العبادات لساناً ويداً ورجلاً وحواساً وبكل ما يملك الملك، فهذه السموات السبع طرائق للملائكة، فقد كانت يوماً كذلك طرائق لنبينا سيدنا عليه الصلاة والسلام عندما أسري به إلى السموات، فتنقل فيها وسار إليها سماءً بعد سماء، ووجد أباه الأول آدم عليه الصلاة والسلام، كما وجد بعض إخوانه الأنبياء، ووجد أباه إبراهيم عليه السلام كذلك إلى أن وصل إلى سدرة المنتهى إلى أن كان قاب قوسين أو أدنى، {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، لم يذهله ذلك عن ربه، ولم يضعه عن ربه وعبادة ربه وتوحيد ربه، وكونه معه حساً وحواساً.
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون:17] خلقنا السموات وخلقنا فيها ما يصلحها مما يرفعها بغير عمد كما ترونها، ومع ذلك لم نغفل الإنسان عن حاجته من مطر ونبات وطعام وشراب، ومن هداية ورسالة وكتب وأوامر ونواه، فلم يغفل الله البشر، فكان الحي القيوم عليهم يرزق الكل، ويحيي من شاء، ويميت من شاء، وجعل لهم ما ينفعهم في دنياهم، ثم أخذهم إليه، ثم عرضهم عليه سبحانه بعد أن ماتوا؛ ليسألوا ويحاسبوا على ما قدمت أيديهم في الدار الدنيا، فلم يغفلهم عن رسالة، ولم يغفلهم عن رزق، ولم يغفلهم عما هم بحاجة إليه، فقد وسعت قدرته جل جلاله جميع خلقه من ملك وجن وإنسان، ومن هوام ودواب وطير، فقد قام بالكل وقد رزق الكل جل جلاله من غير حاجة إلى معين ولا شريك جل وعز عن كل ذلك.(85/2)
تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر)
قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18].
من جملة حفظ الله لخلقه وللإنسان في الأرض أن أنزل له الماء من السماء بقدر بما يكفيه وينفعه، فلو أنقص الماء عن ذلك لمات الناس عطشاً، ولجفت الأشجار وضاع ثمرها ونبتها وحبها وما تنتفع به، ولو زاد الماء بغير تقدير لغرق الناس كما غرق قوم نوح، ولكن الله جل جلاله أنزل الماء من السماء بقدر كاف بلا زيادة ولا نقصان، بما ينفعهم مدة حياتهم، بما ينفعهم مدة وجود الدنيا: ينفعهم في أنفسهم، وفي مزارعهم، وفي دوابهم، وفي شئونهم كلها بما لا يزيد على الحاجة ولا ينقص.
{فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون:18]، لو أن الأمطار التي تنزل من السماء والغيث لو تجف مع الرياح لو تجف مع السموم لو تجف مع الحر والصيف والشمس لضاعت تلك المياه في حينها، وعندما يحتاج الإنسان للماء في الأوقات التي لا مطر فيها أو الأشهر أو السنين جدباء لما وجد الماء، ولآل أمره إلى الموت والفناء، ولكن الله جعل لذلك الماء الذي أنزله مخازن في الأرض، وهو ما نستفيد منه بعد ذلك، وهي المياه الجوفية تحت الأرض، وذلك إما بآبار نحفرها، وإما بأنهر تتفجر وتبقى جارية، وهي تستقي ماءها من الماء المخزون في الأرض، وإما مياه البحار لنستفيد منها بالركوب في فلكها لنتقل بين مختلف قارات الأرض للتجارة، والسياحة، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، والحكم بين البشر، وكف الظالم عن ظلمه، ونشر العدل بين الخلق، ونستفيد مما فيها من لحم طري ولؤلؤ ومجوهرات، وذلك من فضل الله وامتنانه على البشر، وذلك دليل على كونه لم يغفل عن الخلق، فقد أعطاهم من كل النعم، وكان الحي القيوم لمصالحهم ما داموا أحياء على وجه الأرض.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18] ولو شاء الله أن يذهب به، وأن يجففه وأن ينشفه، وأن يدعه يتبخر في الجو وفي السماء لماتوا عطشاً: إنساناً وحيواناً وطيراً.
فالله ينذر بهذا الكافرين الجاحدين، وينبه به المؤمنين ليزدادوا إيماناً، والكافرين ليتوبوا يوماً ويقولوا: ربنا الله، فالله الذي أعطى هو قادر على أن يمنع، وهكذا من قدر أن يعطي قدر أن يمنع، فالله وحده هو القادر على العطاء والقادر على المنع، ولو شاء الله أن يذهب بمائه وسيذهب به يوماً، وقد يحدث هذا كثيراً فتجد أنهار في مختلف القارات وإذا بها بعد أشهر أو سنوات تجدها قد جفت، وآباراً تجدها قد جفت، وأعيناً تجدها قد غارت، وهذا في التاريخ كثير، فقد حكوا أن أفريقيا وأوروبا كانت أرضاً واحدة متصلة، وإذا بزلازل -كما أراد الله بقدرته- تفجرها إلى أرضين، وجعل بينهما بحراً، ومن سنوات قريبة حدثت زعازع وزوابع في الدنيا الجديدة التي تسمى أمريكا، وإذا بجبال كانت موجودة غارت، وإذا بمدن كانت ودخلت في جوف الماء، وساخت في الأرض، وإذا ببحار عامت على أراضٍ وفاضت وغيرت خريطة تلك الأرض تغييراً كاملاً، وهذا يحدث في الدنيا كثيراً، وقد لا يحدث إلا في آلاف السنين، ولذلك فالتاريخ كثيراً ما يقص علينا العجائب والغرائب مما كان ثم تغير وتبدل، وسيأتي يوم عند فناء الدنيا يتغير الكل ويزول الكل، ويموت كل حي، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].(85/3)
تفسير قوله تعالى: (فأنشأنا لكم به جنات من نخيل)
قال تعالى: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:19].
أي: بذلك الماء أنشأ الله جل جلاله لنا جنات، فهو الذي جعل من الماء كل شيء حي، والإنشاء هو الإيجاد على غير مثال سابق، وهو الاختراع والابتكار والإيجاد من عدم، ولا يقدر على ذلك إلا الله، ومن يقول: اخترعت وابتكرت إما أن يكون متجاوزاً في لفظه، وإما أن يكون كاذباً على الله، فالله وحده هو المخترع والمبتكر، وهو الذي ينشئ ويوجد الشيء على غير مثال سابق.
{فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ} [المؤمنون:19] وليست جنة واحدة، أي: بساتين ورياضاً لنعيش بذلك ونتمتع ونحيا ونشكر الله عليه، فبذلك الماء سقى الأرض فأنبت من كل الأنواع والأشكال.
{فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [المؤمنون:19] خص النخيل بالذكر؛ لأن التمر يكاد يشبه الحليب إلا أنه لا يغني عن الماء، فالتمر فيه من المواد الغذائية ما يغني عن اللحم وعن البيض وعن أنواع الفواكه، ففيه من أنواع التغذية الكاملة، وفي أكثر الأحيان لا فضول له إلا إذا كان الجسم مريضاً، فبكل ما فيه يتغذى بدن الإنسان، ولذلك كانت العرب قبل هذه الرفاهية المحدثة والتي لا تبقى أكثر من بضع سنوات وينتهي ذكرها، ويعود الناس إلى صحرائهم وإلى تمرهم وإلى حميرهم وإلى إبلهم، ولعل الناس بعد ذلك يعودون إلى ربهم تائبين.
هذه الجنات أبرز الله ذكر ما يكون فيه من نخيل وأعناب، وهذه النخلة قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم عمتنا، فمرة كان في مجلس فقال: (ما هو الشجر الذي هو كالمسلم ليس فيه فضول وكله خير في ظاهره وفي باطنه؟ فأخذ الحاضرون -وكانوا من كبار الصحابة- يتنقلون بين الأشجار وبين الفواكه وبين الثمار والحبوب، فلم يقع عليها أحد، وكان في المجلس عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو غلام صغير، وخطر بباله أنها النخلة واستحى أن يقول ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي عمتكم النخلة).
فالتمر يؤكل كاملاً بلا فضول، ونواه تعلف به الدواب، وشجره ينتفع به، وجريده تسوى به الأسقف، وجماره الذي في جذوره يؤكل حلوى شهية، وهكذا لا فضول فيها كلها، وقال عبد الله بن عمر لأبيه: والله يا أبت لقد خطرت ببالي واستحيت أن أقول ذلك، قال: لو قلت ذلك لكان أحب إلي من حمر النعم.
والإنسان يسر بولده عندما ينبغ ويظهر ذكاؤه مبكراً؛ لأن الولد قطعة من أبيه، فحسنته حسنته وسيئته سيئته، كما قال الشاعر: وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض فالأبناء جزء من الإنسان وسلالة منه، وهي جزء من الأب وجزء من الأم، ولن يتم بلا أب ولن تتم بلا أم.
{فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:19] والعنب كذلك كثير التغذية، فهو أعظم من كثير من الفواكه.
((فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ)) ثم عمم الله لنا في هذه الجنات سواء في الأشكال أو الألوان، ولكل قطر وإقليم شكل من الفواكه لا تجدها في قطر آخر، وهذه من عجائب صنع الله وقدرة الله، ونعيم الله الذي أكرم به البشر مؤمنهم وكافرهم.
((لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)) نأكل من حبها القمح والشعير وبقية الحبوب على أشكالها وألوانها، ونأكل من فواكهها ومن تمرها ومن أعنابها، ونأكل من جميع ما تزرع فيه، وبالدرجة الأولى الحب، وهذا الحب هو الذي قيل: بأن آدم عندما أسكنه الله الجنة أباح له أن يأكل من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة قالوا: هي حبة القمح، فكانت الحبة كبيرة كالكلية، زعموا ذلك، ولكن لا ذكر لهذا في القرآن ولا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.(85/4)
تفسير قوله تعالى: (وشجرة تخرج من طور سيناء)
قال الله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [المؤمنون:20].
هي شجرة الزيتون، والطور: هو الجبل، وهو طور سيناء الذي في أرض مصر، رده الله للمسلمين مع العزة والكرامة بلا ذل ولا هوان.
((تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)) قيل: الباء صلة، أي: تنبت الدهن، ودهن شجرة الزيتون هو الزيت، وقد قال صلى الله عليه وسلم عن الزيت: (كلوه وادهنوا به)، وهي الشجرة المباركة التي ليست بشرقية ولا غربية، بمعنى: أن الله أنبتها في مشارق الأرض ومغاربها فلا أحد يستطيع أن يقول: هذا زيت المشرق بمعنى أنه لا وجود له في المغرب، أو هذا زيت المغرب بمعنى أنه لا وجود له في المشرق، فهو في كل الديار وفي كل الأرض إلا في الصحاري؛ لقلة الماء، وحتى هنا قال خبراء الزراعة: يمكن أن تنبت شجرة الزيتون وتعطي الخيرات وتعطي شيئاً لا يكاد يخطر ببال.
((وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ)) سيناء: هو الشجر الملتف، والطور الجبل، فالطور هو الجبل، وسيناء تلك الجهة المخصبة التي فيها الأشجار الملتفة والكثيرة.
((وَشَجَرَةً تَخْرُجُ)) أي: تنبت وتستزرع وتستنبت وتخرج من طور سيناء، ((تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)) أو تُنِبت الدهن، أي: تعطي الدهن، والدهن هو الزيت.
((وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ)) الصبغ: هو الإدام، والإدام هو ما يؤتدم به مع الخبز، وسمي صبغاً لكون الخبز عندما تضعه في الإدام يتغير بتغيره ويصطبغ بشكله، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (ائتدموا، نعم الإدام الخل)، فجعل الخل إداماً، وجعل الزيت إداماً، فالإدام هو ما يؤكل مع الخبز.
وهذه الشجرة فيها من الدهن ما نحتاج إليه لقوام البدن، ولتمام تغذيته، والزيت أشرف شيء للإنسان، وإن كان لا يستغني كذلك عن دهن الحيوانات.
((وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ)) سِيناء فيها قراءتان: بفتح أولها وكسره، (تنبت بالدهن)، إما أن يكون معناها: تنبت مع الدهن، وفسروا الباء بمع، أو الباء صلة، أي: تبنت الدهن، أي: يستخرج منها الزيت، ((وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ)) أي: إدام للآكلين، فيجعل مع الخبز إداماً، ويختلط باللحم بأنواعه، ويختلط بالخضر بأنواعها، فهو إدام يؤتدم به مع الخبز.
وبعد أن ذكر الفواكه والحبوب التي تستنبت من الأرض، والزيت والزيتون عقب بذكر الأنعام.(85/5)
تفسير قوله تعالى: (وإن لكم في الأنعام لعبرة)
قال الله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:21].
الأنعام تطلق على الإبل والبقر والضأن والماعز، فهذه الأنعام خلقها الله لنا، وجعل لنا فيها من المنافع الكثير الطيب.
((وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً)) نعتبر بها، ومن عبرها أننا نعيش بألبانها وبإنتاجها، ونعيش بوبرها وشعرها، ونعيش بها ركوباً لنا ننتقل بها من أرض إلى أرض.
((وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً)) تعتبرون وتتفكرون بها، فيزداد شكركم وحمدكم لله جل جلاله على بديع صنعته، وعلى إكرامه لكم بما أكرمكم به من أنواع الزيوت والأدهان، ومن أنواع الفواكه والحبوب، ومن أنواع اللحوم.
((وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا)) يسقينا مما في بطونها من اللبن، وهذا اللبن أشكال وألوان، فمنه اللبن الحامض المخيض، ومنه الأجبان التي نستعملها منه، والزبدة أشكال وألوان كذلك، فكله يدخل في هذا الذي يخرج من الأنعام.
وكل شيء نقول عندما نأكله ما علمنا صلى الله عليه وسلم أن نقول: (باسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وزدنا خيراً منه) إلا الحليب فإنا نقول فيه: (وزدنا منه) لأنه ليس هناك خير من الحليب، فبالحليب نعيش السنتين الأوليين، فهو الغذاء وهو الشراب، ويعيش المريض به، فيستطيع أن يعيش بالحليب بلا حاجة إلى خبز ولا إدام، فالحليب هو الخبز وهو الإدام، وفيه التغذية الكاملة التي في الشيء الآخر، ومن هنا قال الله تعالى: ((وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا)) أي: في الأنعام، ((مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ)) فننتفع بما فيها، ننتفع بأوبارها وأشعارها وبطونها وظهورها، فنركب الإبل، وفي الهند يركبون حتى البقر، ويروى في الأحاديث الماضية وبعض ذلك قد صح: (أن بقرة ركبها صاحبها أيام بني إسرائيل فإذا بها تنطق وتقول: لست لهذا خلقت، وإنما خلقت للحرث)، فقد خلقت للحليب وخلقت للولادة، ولذلك لا تكاد تجد هذا في بلاد المسلمين، فالإبل للركوب والبقر للحراثة وللحم وللحليب وللأدهان، وهكذا.
((وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا)) من السقي والشراب.
((وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)) نأكلها إبلاً، ونأكلها بقراً، ونأكلها ضأناً، ونأكلها ماعزاً، ونستفيد من كل ما فيها طعاماً وشراباً وكسوة وألبسة من الأوبار والأشعار.(85/6)
تفسير قوله تعالى: (وعليها وعلى الفلك تحملون)
قال الله تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22].
فنسافر ونقطع البراري والقفار والجبال والوهاد ومشارق الأرض ومغاربها، ولم تكن قد وجدت المراكب الجديدة من المراكب البخارية، والمراكب الخشبية، فما كان الركوب إلا على الإبل أو الدواب أو المشي على الرجل، ولذلك كانت الإبل تسمى سفن الصحراء، ولا نزال في حاجة إليها إلى الآن، فلا تزال تركب في كثير من الأراضي القاصية في الجبال وفي الوهاد وفي الصحاري حيث يصعب أن تذهب إلى هناك السيارات وما إليها، وخاصة في الأراضي التي ترابها ورملها يغور فيه من يمشي عليه، فقد يبتلع السيارة كلها، وهذا موجود معنا في المملكة هنا، ففي خلق الله عجائب حتى في التراب وأنواع الأرض وترابها.
ومن معجزات القرآن في هذا العصر أن الله تعالى يقول في كتابه: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4]، والعشار هي الإبل، وأصل العشار النوق الحوامل، ولكن أصبح بعد ذلك يطلق على الإبل كلها عشار.
وجميع المفسرين إلا قلة وهم معدودون على الأصابع ذكروا أن ذلك يوم القيامة، فهناك ستعطل الإبل عن الركوب، قالوا: وإذ ذاك ستقوم القيامة وتنتهي الدنيا، وفي تصورهم أن الإبل لا تعطل إلا إذا عطل الإنسان عن الرحلة وعن السفر، ولا يعطل الإنسان عن الرحلة والسفر إلا إذا فقد ومات، ونحن الآن نعيش وقد عطلت الإبل، فلا أذكر في حياتي أني ركبت إبلاً، وإنما ركبت مرة فرجة، في حين رواكب من سبقنا كانت جميعاً هي إبل، ولو سكنت هنا قديماً لركبت من مدينة إلى مكة في عشرة أيام واثني عشر يوماً كما ركب أبي وأمي، وكما ركب الكثيرون من الحاضرين والموجودين، ولكن اليوم الإبل عطلت، بل أنواع الدواب كلها، وكنا نرى البعض كانوا يخرجون من هنا في رجب على الحمير إلى المدينة المنورة، وقد أدركت هذا، وكان قريباً وأظنه لا يزال، وكنا نستغرب لهؤلاء الذين يركبون أياماً عدة ويتركون الطائرة في نصف ساعة ويتركون السيارة في بضع ساعات ما حملهم على أن يركبوا الحمير؟! قالوا: ولكن عادة لكن ذكرى لكن معنى يحترمونه، ولو رأينا الناس يسافرون في هذا العصر على الإبل لكان استغرابنا أعظم.
((وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ)) فقد عطلت ولم ينته الإنسان ولم تقم الساعة بعد، ولا نزال نرحل أكثر مما كنا بواسطة السيارات، وبواسطة البواخر البخارية، فأصبحت الدنيا صغيرة، وهكذا الدنيا تضيق يوماً عن يوم بسبب هذه المراكب وأنواعها وتشكلها.
وقال لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: (إن عيسى عندما ينزل من السماء سيحج على غير القلوص) يعني: سيحج ولكن ليس على الإبل وليس على البراق، فالنبوءة انتهت لعيسى مع قومه، فعندما سينزل للأرض فإنه سينزل إنساناً مؤمناً مسلماً من أتباع نبينا صلى الله عليه وسلم، وسيحج على غير القلوص؛ إشارة للطائرات، فيحج كما نحج وكما نتنقل اليوم في العالم على الطائرات، وقد مضى أن قلنا من قبل وفسرنا عندما ذكر الله أنواع المركوبات وقال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] أن عبد الله بن عباس قال: ما عطف الله أنواع المركوبات -أي: ما عطف الله بقوله: ((وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)) على أنواع المركوبات- حتى كانت من جنسها.
((وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)) أي: من أنواع المركوبات: من الطائرات والسيارات والبواخر، وسنبقى نقول: ويخلق ما لا تعلمون في تفسير قوله تعالى: ((وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ))، ولم ذلك؟ لو قال النبي عليه الصلاة والسلام يوماً لإنسان: إن الحديد يوماً سيطير بقليل من الماء، وسيقطع الأجواء، وبساط سليمان سيصبح شيئاً عادياً للبشر، لقالوا: جن محمد صلى الله عليه وعلى آله، وقد قالوا عنه من غير شيء: مجنون صلى الله عليه، ومن هنا كان النبي يقول لنا عليه الصلاة والسلام: (خاطبوا الناس بما يفهمون)، فالإنسان إذا حاول أن يخاطب الصغار بلغة الكبار أفسدهم، ودفعهم ليقولوا عنه: مجنون، ولو خاطب الكبار بلغة الصغار لأضاعهم، ولقالوا: أستاذنا لا يزال يعيش معنا عيشة الأطفال، وهكذا لابد للإنسان أن يفرق بين وقت ووقت، وبين كبير وصغير، وبين رجل وأنثى.
{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22] أي: على الإبل منها، والفلك هي السفن التي تمشي على الماء سابحة عائمة، وقد كانت قديماً بالشراع، وكانت تسير بالرياح، ولذلك قال الشاعر: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن وعندما نقرأ رحلات المغاربة والأندلسيين وقد اشتهروا بالرحلة والكتابة فيها دون أكثر بلاد الله، عندما نقرأ رحلة ابن جبير ورحلة ابن بطوطة وغيرهما من المغاربة والأندلسيين نجدهم جاءوا للحج على السفن الشراعية، وعندما كادوا يصلون إلى شواطئ الشام وقد رأوها، وكادوا يصلون إلى شواطئ مصر وقد رأوها إذا بريح معاكسه تعود بهم إلى المغرب، وهم يتغيظون ويكاد ينفجر دمهم، وقد يضيع عليهم الحج، ولو حاولوا أن يعاكسوا الريح لغرقت السفينة ولضاعوا البتة، وكثيراً ما وصلوا إلى الشواطئ فتأتي ريح معاكسة فيذهبون فيعودون مرتين وثلاثاً ولا ييأسون.
وكم من نعم الله علينا في هذا العصر، والكفر في هذا العصر أكثر من كفر أمس، وما زادت هذه النعم الإنسان إلا كفراً وإلا جحوداً، فاليوم نفطر في المغرب ونتغدى في الحجاز، ونتغدى في الحجاز ونتعشى في الهند، وهو بساط سليمان بحاله، ولا يزال الأمر في تطور، فالطيران كما رأيناه كان كالحمار مع الفرس، وحمر الطيران انتهت اليوم، وأصبحنا نطير في أعظم طائرات، وهذه الطائرات تتغير يوماً عن يوم، والطائرة الآن لا تزال تجرب، فتختصر السفر ما بين المشارق والمغارب إلى النصف إلى خمسين في المائة، فإذا كنا نصل إلى المغرب في ست ساعات بالطائرة، فستصل هذه في ثلاث ساعات، ولعلها ستنزل قريباً في خلال هذه الأيام هنا في المملكة، ولا يزال الناس يفكرون، وكما قال ربنا جل جلاله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، فسيرينا الآيات والمعجزات والقدرة الإلهية في الكون وفي أنفسنا، وسنصنع هذا بأيدينا، ولكن من الذي رزقنا ذلك والقدرة عليه؟ ومن الذي رزقنا العلم وقد خرجنا جهالاً؟ ومن الذي رزقنا العلم وقد خرجنا فقراء من بطون أمهاتنا؟ ومن الذي أعطانا بعد ذلك العقل للفكر وللعمل؟ فنحن ليس إلا آلة في يد الله يصنع بها ما شاء، فهو الذي خلقها، وهو الذي يشغلها، فنحن عندما نزعم لأنفسنا الكثير الكثير نكون حمقى بعداء عن الحق والواقع، فالله هو الذي خلق لنا السمع والبصر والقدرة والفهم، وعندما ينسى الواحد منا هذا يزداد إغراقاً في الكفر والحمق والرعونة.
{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22] والفلك اليوم كذلك تطورت تطوراً عجيباً، فقد كانت هناك السفن الشراعية ولم ندركها ولم نركب عليها، وهي توجد اليوم لصيد الحيتان، وأما اليوم فتوجد الباخرة، وتسير الباخرة بقوة البخار، وأيضاً تسير بالبترول وأنواعه، فهذه تعاكس الريح وتذهب، وتعاكس الأمواج، يا ما ركبنا البواخر من ثلاثين سنة فكنا نكون تارة كالريشة في أعلى الموجة، وتارة تنزل الموجة، فنكون بين جبلين من الماء، ونقول: قد ذهبنا، ولكن البواخر مع ذلك ازدادت سعة وعظمة وكبراً، فهي أصبحت تقطع هذه البحار التي كانت تقطع في الشهر والشهرين تقطعها في يومين وثلاثة، ولا يزالون يخترعون، وهذا العقل الذي خلقه الله لا يزال الله يعلمه ما لم يعلم، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113] قالها للأنبياء وهي لنا كذلك.(85/7)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:23].
سيقص الله علينا قصة نوح مع قومه، وقد مضت معنا مرات، وفي كل مرة يذكر الله فيها زيادة حكمة، وزيادة فائدة، وزيادة درس وعبرة، وزيادة آية ومعجزة.
فقد أرسل الله نوحاً إلى البشر وأمره بأن يدعوهم إلى عبادته وتوحيده والإيمان به، فاستجاب نوح، وقال: ((يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ))، فالله خلق الناس يوم خلقهم مؤمنين، فخلق آدم وجعله نبياً لأولاده وسلالته وذريته، وخلقنا مؤمنين، وأنزل أبانا آدم من الجنة إلى الأرض، وتركنا وأعطانا من الإلهام لنزرع ونبحث ونقوم بما يحتاج إليه الإنسان على وجه الأرض، وانتقل آدم من الراحة والنعيم إلى أن أصبح مزارعاً إلى أن أصبح كساراً يبني في داخل الجبال البيت؛ ليفر من الدواب والهوام، ويزرع الأرض ويستزرعها بالحبوب والفاكهة ليعيش، وهكذا مع الأيام عاش الناس مؤمنين، ومضت ألف سنة فيما زعموا ولا نستطيع البت في ذلك، فليس هناك نص في القرآن ولا نص عن نبي الله عليه الصلاة والسلام، وكل الذي نقوله هو الذي قاله القرآن، فأرسل الله نبيه نوحاً فلبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وكم كان سنه؟ لنفرض أنه كان سنه خمسين فقط، فيكون قد أقام فيهم ألف سنة، وبعد قرون نسوا الإيمان والتوحيد، وأخذوا يعبدون غير الله مشركين معه وداً وسواعاً ويغوث.(85/8)
تفسير سورة المؤمنون [23 - 31]
يحكي الله تعالى لنا في هذه الآيات قصة نبيه عليه السلام مع قومه، فقد ظل فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فعصوه وأبوا إلا الشرك، واستهزئوا به، وسخروا منه، وما آمن منهم إلا القليل، فأهلكهم الله تعالى شر هلكة، وأبادهم عن بكرة أبيهم إلا من آمن مع نوح وقليل ما هم.(86/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه)
قال الله جل جلاله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:23].
يقص الله جل جلاله علينا قصة نوح لنعتبر بما فيها من حكم وأمثال، ومن تشابه بين الكفر قديماً وحديثاً، وما جعله الله عقوبة ونقمة من المكذبين للرسل والمشركين بالله، فقال تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ)) أرسل نوحاً إلى قومه؛ ليبلغ عنه، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويرشدهم إلى عبادة الله، ويأمرهم بترك الأوثان والشرك بالله، وليتحلوا بالأخلاق الفاضلة في ظواهرهم وبواطنهم، ويكونوا مسلمين أنفسهم وعقائدهم وحياتهم لله الخالق الرازق.
وقد كان الرسل قبل يرسلون إلى أقوامهم وإلى عشائرهم فقط، وما أرسل للناس كافة بشيراً ونذيراً حال حياته وبعد حياته إلى يوم القيامة إلا نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه، فليست هناك ديانة عالمية إلا دين الإسلام، وليس هناك رسول عالمي إلا محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، ونوح جاء بعد إدريس وآدم، وزعموا أن بينه وبين آدم ألف عام، والقطع بذلك الزمن الذي بينهما لا يتأتى، ولكنه كان أقرب الرسل إلى آدم، فما بينه وبينه إلا إدريس عليهم وعلى نبينا جميعاً السلام.
((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ)) أي: امتثل نوح وأطاع وذهب يبشر وينذر قومه، ((فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ)) فقام نوح منذراً ومبشراً، مبشراً للمؤمنين إن هم آمنوا ووحدوا وتركوا الشرك والأوثان أن لهم الجنة، وبشرهم بأن الله يرضى عنهم ويرحمهم، وأنذر المشركين إن هم استمروا على الشرك والكفر بغضب الله وسعيره.
((فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) دعاهم إلى عبادة الله الواحد لا إله إلا هو، ولا معبود بحق سواه.
((فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ)) ألا تتقون الله وتجعلون وقاية بينكم وبين عذابه ونقمته وتأديبه: فتؤمنون بالله الواحد، وتتركون عبادة الأصنام والأوثان، فكل ذلك ضلال وباطل ما أنزل الله به من سلطان؟(86/2)
تفسير قوله تعالى: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم)
قال الله تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24].
فقام قومه مكذبين ومشركين ومصرين يقولون ويتنادرون مع بعضهم: ((فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ)) وكلهم قد كفر إلا قليل منهم مع كونه ظل في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعوهم إلى الله الواحد، فقال الكفار من قومه: ((مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)) وتصوروا بعقلهم السخيف وشركهم الضائع الضال أن البشر لن يكون نبياً ولن يكون رسولاً! فجعلوا من حججهم ومن دلائلهم على تكذيب نبيهم نوح أنه بشر.
((مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ)) أي: إنما يريد بكذبه -وحاشاه من ذلك- أن يكون أفضلهم، وأن يكون المتبوع لا التابع، وأن يتظاهر عليهم بالرفعة والسؤدد، وهكذا عقول الكافرين تملي عليهم هذا الشيء في الزمان القديم، ولا يزال هذا إلى عصرنا.
((يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً)) أي: لو شاء الله حقاً عبادته، ولو شاء الله حقاً إرسال رسول لما أرسله بشراً، ولما أرسله إلا ملكاً، كانت هذه حجة الكفار منذ عهد نوح إلى عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا ذلك وكرروه أمة بعد أمة، وقالوه لرسلهم رسولاً بعد رسول إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، فكذلك قاله الكافرون الذين عاصروه، وقاله الذين جاءوا بعدهم؛ قالوا: لو أراد الله نبياً ورسولاً لجعله ملكاً.
((مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ)) قالوا مبهتين وكاذبين: ما سمعنا بهذا في عصر آبائنا ومن قبلهم إلى عهود أجدادنا أن الله أرسل نبياً بشراً إلا نوح الذي زعم ذلك لما به من جنة وافتراء، هكذا زعم الكافرون، وهذا الذي قاله قومه هم أول من يعلم أنهم كذبة، وأنهم مبهتون، وأنهم قالوا غير الحق، فلقد كان العهد بهم قريباً إلى إدريس نبي الله، وكان العهد به قريباً إلى آدم نبي الله وإلى أبنائه المعاصرين له، فهم عندما يزعمون بأنهم لم يسمعوا بنبي بشر ولم يسمعوا برسول بشر كذبوا وافتروا، وزادوا على تكذيب نبيهم وشركهم بالله أن استدلوا بالأكاذيب والأضاليل والافتراءات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهكذا شأن الكافرين عندما يعجزون -وهم دائماً عجزة- عن الإتيان بالدليل ليحاجوا به الحق، فيبحثون عن الأكاذيب فيتخذونها أدلة، ولن تكون أدلة لا نقلية ولا عقلية.(86/3)
تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين)
قال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:25].
بعدما افتروا وقالوا إنه: لم يرسل الله في آبائنا السابقين رسولاً بشراً، وزعموا أنه إنما أراد السؤدد والزعامة والبروز عليهم، وزادوا فكذبوا وقالوا عنه: إنه ينطق بما يدل على جنونه وعلى عدم عقله، فتربصوا وانتظروا به إلى أن يموت، وما كانوا يظنون وهم يتمنون ويتربصون بنوح الدوائر أنهم هم سيموتون شر ميتة، فلا يبقى لهم بلد ولا اسم ولا ذكر إلا أحاديث يتحدث بها السمار في المجالس كقصص الأولين، فانتقلوا عن كونهم أناساً أحياء إلى قوم قد فنوا وقتلوا شر قتلة، وأصبح الناس يتخذونهم قصصاً وسمراً.
((إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ)) أي: به حمق وجنون.
((فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)) أي: انتظروا به فسيموت يوماً وتبقى لكم أصنامكم وتبقى لكم دياناتكم وعقائدكم، ومن سخف المشركين وضياع عقولهم أنهم قبلوا أن يكون الحجر إلهاً ومعبوداً واستبعدوا عن بشر أن يكون نبياً رسولاً، فمن الذي يقبل هذا ويجعله حقيقة مسلمة يدافع ويقاتل من أجلها ولو ذهبوا مع الذاهبين وهلكوا مع الهالكين؟! أنكروا على نوح -وهو بشر- أن يكون نبياً رسولاً، وهم في ذات الوقت قد آمنوا واعتقدوا في الحجر أنه إله يعبدونه دون الله ومع الله، أهناك سخافات في العقول وضلال في النفوس أكثر من هذا؟!(86/4)
تفسير قوله تعالى: (قال رب انصرني بما كذبون)
قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون:26].
أي: قال نوح ذلك عندما بهته قومه، وبعد أن انتظر بهم القرون تتبعها القرون وهم بين مكذب ومستهزئ ومشرك مصر على الشرك.
(فقال الملأ) الملأ: هم أشراف القوم وقادتهم وزعماؤهم، وهم الذين يكونون عادة أهل الكفر وأهل الشقاق وأهل الاستعلاء على أهل الحق من الأنبياء والرسل والدعاة إلى الله، فيأخذهم الغرور بما أكرمهم الله به من صحة وجاه وملك وسلطان ومال ورفاهية ونعمة، ويبقى هؤلاء المساكين الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، يبقون هم أهل الحق إلى أن يسودوا بعد ذلك، وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام عن دين الإسلام: (يرفع الله به قوماً ويضع به آخرين)، وكما هو وصف الحال في كل الأديان جميعاً فهؤلاء الذين اعتبروهم أقلهم واعتبروهم دونهم كانوا هم السادة والقادة، وكانوا هم الأئمة، وكانوا هم المبلغين عن الله وعن رسل الله، وذل أولئك وحقروا في الدنيا قبل الآخرة.
((قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ)) قال نوح: يا رب انصرني على هؤلاء؛ بسبب كذبهم وتكذيبهم، كذبهم علي فيما زعموه من جنة، وتكذيبهم للحق حين جاءهم، فانصرني عليهم، واكشف حالهم، وعاقبهم بما أنت أهل له، وأظهرني عليهم، ومكني من رقابهم بما أنت وحدك تقدر عليه؛ لأن الناس كلهم أبوا إلا الشرك والكفر والعصيان، وإذا بالله الكريم يستجيب له بعد اصطباره وبعد محنته مع قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً.(86/5)
تفسير قوله تعالى: (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا)
قال الله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون:27].
بعد أن انتظر نوح ما انتظر، وبعد أن تحمل من قومه ما تحمل، أخذ يطلب من ربه النصرة، ويطلبه الفوز، ويطلبه النقمة على أعدائه، فاستجاب الله له وأوحى إليه أن اصنع الفلك -وهي السفينة- لتحملك أنت ومن آمن معك، فذهب يشتغل بها سنوات، وقال: يا رب لست نجاراً، كيف أصنع السفينة وأنا لا أعرف؟ وزعموا أن نوحاً كان نجاراً بذلك، ولم يكن، وقالوا: إن السفن قبله لم تكن معروفة، ولا شيء يدل على حقيقة ذلك، والذي ترك قومه يستغربون ويتعجبون لا من صنع السفينة نفسها، ولكنه عندما كان يصنعها في أرض ليس فيها بحر ولا شاطئ، فأخذوا يتعجبون وهم يمرون عليه هازئين وضاحكين: أتصنع سفينة وأنت على البر والتراب؟! ماذا تصنع بها؟! فكانوا وهم يهزءون يقول لهم نوح: ونحن كذلك سنستهزئ بكم في العاقبة.
((فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ)) أي: أن اصنع السفينة، فأخذ يصنعها بتعليم الملائكة له، وأخذ لها الأخشاب من كل جانب، وزعموا أن ذلك كان من جبال لبنان ومن غير جبال لبنان إلى أن أتم صنعها وأصبحت قائمة، وجعل لها أبواباً من جوانبها ومن فوقها، وجعل لها طبقات: طبقة للآدميين من المؤمنين أتباعه، وطبقة للحيوانات المفترسة، وطبقة للحيوانات الدواجن، وطبقة للطيور وهكذا، فقال الله له: ((اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)) أي: تحت نظرنا وعوننا وإرادتنا وقدرتنا وتعليمنا، وقد كان ذلك، (ووحينا) أي: بما أوحاه الله إليه من صنعها.
((فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا)) إذا جاء أمر الله بالطوفان وتفجير العيون والأرض عيوناً ومياهاً ليغرق كل من عليها.
((فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ)) تفجرت المياه من التنور، والتنور قيل: هو سطح الأرض، وقيل: أعالي التلال والجبال، وقيل: هو التنور كما يطلق عليه اليوم، وهو مكان طبخ الخبز، وكان ذلك أعجز في التعبير، كما قالوا: إن مواضع النار التي يخبز عليها الخبز -وهي شأنها أن تكون نيراناً متصلة- تفجرت منها الأنهار، على أن الأنهار تفجرت من البراكين وتفجرت من مختلف أقطار الأرض، وفار التنور فوراناً وتفجرت الأرض جبالاً ووهاداً، تفجرت عيوناً وأنهاراً، وتفجرت بحاراً حتى غرق الكل وذهب الكل، وتفصيل ذلك قد مضى في سورة هود وسيأتي في مناسباته كذلك.
((فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا)) أي: أدخل في الفلك، يقال: سلك وأسلك بمعنى واحد، أي: دخل وأدخل، ((فَاسْلُكْ فِيهَا)) فأدخل في السفينة من كل ((زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)) أي: من كل ذكر وأنثى على وجه الأرض، فخذ معك زوجين ذكراً وأنثى وأدخلهما معك في السفينة؛ لتعاد الحياة بعد الطوفان على هؤلاء الكافرين الجاحدين، ((فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ)) أي: وخذ كذلك من آمن بك من أهلك ومن أتباعك، وقد قال الله عنه: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40].
((إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ)) إلا من سبق القول عليه بأنه يبقي على الكفر والشرك، فكفر الولد بأبيه، وكفرت الزوجة بزوجها نوح، وكان له أربعة أولاد أسلم ثلاثة منهم وأصر واحد على الكفر.
((فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا)) علم الله جل جلاله أن نوحاً ستأخذه الرأفة والرحمة بولده وهو يغرق، فيقول: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45]، وكما قال الله عنه فقد طلب إنقاذ ابنه على شركه وكفره، وقد طلب نوح من ولده أن يلحق به، فأخذ يقول: إن الجبل سيعصمني من الماء، فقال له أبوه: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:43]، ولم يرحم الله إلا المؤمن الموحد التابع لنوح في نبوءته ورسالته.
((وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا)) أي: في الذين أشركوا وظلموا أنفسهم من هؤلاء سواء كانوا أهلاً، أو كانوا أتباعاً، أو على أي صفة كانت، ((إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)) سبق في علم الله وإرادته بعد أن دعاهم نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً، وبعد أن أمهلهم الله كل هذه القرون، فكانت إرادته التي لا ترد ولا يقف دونها خلق من خلقه أن يغرق كل هؤلاء، سواء كانوا أقارب أو أباعد لنوح، وكان ممن غرق زوجه وولده.
هكذا قال الله لنوح بعد أن نصره في دعوته، حيث قال لربه: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]، فقد دعا نوح بعد أن صبر ما صبر ألا يدع كافراً على الأرض يملك داراً أو يسكن داراً أو يعيش من أجل ذلك.
{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27] أي: لا خير فيهم ولا في ذريتهم وسلالاتهم، فاستجاب الله دعوته وأغرق الكل وعاقب الكل في الدنيا قبل الآخرة، ولعذاب الله أشد، وهذا قصه الله على قريش، وقصه الله على العرب، وقصه الله على من آمن بالإسلام وبنبي الإسلام بعد ذلك؛ لينبههم على أن الله عندما يأمر عباده بالإيمان به، وبتوحيده، وبعدم ظلم أنفسهم بالشرك وبالوثنية: أنه يمهلهم، ولكن الله يمهل ولا يهمل، فهو يصبر كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أصبر من الله، فهو يرزقهم وهم ينسبون له الولد)، ولكن الله يمهل ولا يهمل، ولا يترك من عقابه مشركاً؛ إذ المشرك لا مغفرة له ولا تقبل له دعوى.(86/6)
تفسير قوله تعالى: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك)
قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون:28].
فأنت يا نوح عندما تستوي على السفينة، وعندما تركبها ويركبها من آمن معك من قومك، وعندما تجد نفسك قد أنقذت من أهلك وأنقذت من قومك وطالما تربصوا بك الدوائر، وعندما يكونون غرقى وأنت قد أنقذت ونجيت فاحمد الله على أن نجاك وأنقذك من القوم الظالمين، الذين ما ضروا إلا أنفسهم ولم يضروا أحداً، وقد أركب نوح معه من كل ما على وجه الأرض من حيوان مفترس وغير مفترس، ومن دابة وطير، وأركب معه من كل نوع زوجين: ذكراً وأنثى، حتى إذا غرق الكافرون وعوقب المجرمون تجددت الحياة بعد ذلك بنوح، ولذلك يعتبر نوح أبانا الثاني بعد آدم.
((فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ)) أي: استقررت وأصبحت مستوياً وقائماً ومستقراً في الفلك وهي السفينة.
((فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))، ولذلك ينبغي على كل مسلم عندما يدعو على أعدائه وأعداء الله ويستجيب الله دعاءه أن يحمد الله على ذلك، وأن يشكر الله على ذلك، وما أمر الله نبيه نوحاً بذلك، وأوحى ذلك إلى نبينا إلا ليكون ذلك لنا أسوة وقدوة، فبهداهم اهتده كما قال الله لنبيه، وهو قول لنا كذلك بالتبع لهم، فعندما يكرمنا الله بفضل، ويكرمنا بمكرمة فإننا نشكره ونحمده؛ لأن الشكر يديم النعم، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، فجحود النعمة يوشك أن يسلبها المنعم عليه، وبالشكر عليها يزيدها الله ويضاعفها.(86/7)
تفسير قوله تعالى: (وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين)
قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [المؤمنون:29].
أي: عندما تستوي على السفينة وتجد نفسك ومن معك قد أنقذك الله ونجاك ونصرك كما طلبت على عدوك الظالم لنفسه المشرك بربه، فاشكر نعمة الله عليك، فإذا غاضت المياه وغارت ونزلت إلى البر مرة ثانية فاطلب من ربك وادعه وقل: ((رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا)) أي نزولاً، وقرئ: (منزلاً) أي: مكاناً أنزل فيه، (مباركاً) أي: تبارك لي فيه وفي ذريتي وذرية من معي، وتبارك لي فيه بالخيرات والأرزاق المتوالية المتتابعة، فقد علمه الله أن يدعوه، واستجاب لدعائه جل جلاله وعلا مقامه، فالدنيا من بعد نوح جددت كما كانت أيام آدم، وزادها الله بركات ويمناً، وزادها خيرات ونماء، فقد أخذ زوجين اثنين من كل نوع وأصبحوا الآن بما لا يعد ولا يحصى عداً لا في البشر، ولا في الحيوان، ولا في الطير، ولا في كل ما خلق الله من قبل.
((وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ)) أي: أنت خير من ينزل، وخير من يكرم، وخير من يجعل للإنسان منزلاً مباركاً يبارك فيه، فالإنسان قد يستضيف والضيافة لا تكاد تكفي مهما كانت، ولكنك القادر على أن تضيف كل خلقك، وأن تنزل كل خلقك، وأن تبارك لهم في الذرية والرزق والعطاء وكل ما هم في حاجة إليه في الحياة الدنيا.
ومن هنا استحب فقهاؤنا أن الإنسان عندما يركب مركباً يقول هذا الدعاء في الركوب، وعندما ينزل يقول: ((رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا))، وقريء: (منزلاً مباركاً) وكلها قراءات متواترة نزل بها الوحي القاطع.
فعند الركوب دعوات منها: باسم الله مجراها ومرساها، ونوح أيضاً قد ذكر ذلك عندما ركب السفينة، وحمد الله على أن أنجاه كذلك، فقال: (باسم الله مجراها) أي: جريانها وسفرها وقطعها لهذه البحار والمياه، {بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود:41] باسم الله والتيمن به أركب وأسير، وباسم الله أنزل وأرسو على البر بعد أن غاضت المياه وظهر وجه الأرض.(86/8)
تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين)
قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} [المؤمنون:30].
((إِنَّ فِي ذَلِكَ)) أي: في قصة نوح وكفر قومه به، وصبر نوح على قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وتحدي قومه له بالشتائم والنقائص والكذب والافتراء، واتهامه بالجنون وبأنه يريد العلو والسيادة عليهم، ثم بكون الله أنقذ نوحاً واستجاب دعوته في نصرته، فعلمه صنع السفينة، وأغرق كل الظالمين المشركين، وعاد فجدد الدنيا من جديد بذرية جديدة، ومنازل جديدة، وخيرات جديدة بما نسي به ما كان قبل نوح، وما كان وقت المشركين من قومه.
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ)) لعلامات على قدرة الله على كل شيء، فالله هو الذي يرزق، والله هو الذي يوقف رزقه، والله هو الذي يحيي وهو الذي يميت، والله هو الذي يأمر، فإذا عصي عاقب بالفناء والدمار وبالغرق وبما يريد جل جلاله.
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)) ولقد كنا مبتلين، أي: مختبرين وممتحنين هل إذا أرسلنا لهم رسولاً منهم يعرفونه ويؤمنون به؟ وهل سيؤمنون بالرسالة والمرسل بها أو سيبقون على شركهم ويصرون على ذلك؟ فالله ابتلاهم، فلم ينجح في الابتلاء والاختبار إلا قلة قليلة، وهم في أكثر ما قال المفسرون لم يتجاوزوا السبعين رجلاً وامرأة، وقال قوم: اثنا عشر أو ثلاثة عشر، أي: دون العشرين، فعلى العموم كما قال الله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، فقد آمنت به قلة، ولكن الله زكاها وزادها، وهم الذين لا يزالون الآن الذين يعدون بالملايين في مختلف أقطار الأرض وفي القارات الخمس، ولكنهم عادوا بعد أزمان إلى الشرك والكفر، ونسوا ما عاقب الله به أجدادهم من الغرق والخسف والتدمير من السماء والأرض.
((وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)) وما كنا إلا مبتلين، وقد كنا مبتلين، أي: مختبرين ممتحنين، وبكل ذلك قد فسر، وكل ذلك تشمله الآية ولفظها.
قال تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [المؤمنون:31] يذكر الله جل جلاله أنه بعد دمار قوم نوح بالغرق وبعد قوم نوح الذين أنقذوا بآبائهم الذين آمنوا انتهوا كذلك وذهبوا في أمس الدابر، وبادوا مع من بادوا، أنشأ الله بعدهم قوماً آخرين، {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [المؤمنون:31] ثم أنشأ الله بعد هؤلاء الذين أنقذوا من الغرق وعاشوا ما قدر لهم ثم ماتوا، هؤلاء بعد موت نوح أرسل الله إليهم كذلك نبياً رسولاً، وقد أشركوا أيضاً وكفروا، وقد نسوا إفضال الله على آبائهم من قبل كما نسي قوم نوح إفضال الله على أجدادهم من قوم إدريس وقوم آدم الأولين.
((ثُمَّ أَنشَأْنَا)) وابتكرنا وأحدثنا، ((ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ)) أي: من بعد هؤلاء الذين أنقذوا من الغرق وماتوا مع من مات وبادوا مع من باد، أنشأ الله قرناً آخر، والقرن يطلق على العدد من السنين وهي مائة عام، ويطلق على الأمة من الناس.(86/9)
تفسير سورة المؤمنون [45 - 50]
لقد أرسل الله تعالى إلى فرعون وملائه نبيين كريمين وهما موسى وهارون، فما كان من فرعون وقومه إلا أن عصوا واستكبروا، وكان من حججهم على عدم الإيمان أن موسى وهارون بشران من البشر، وهذه حجة العاجزين والجاهلين.(87/1)
تفسير قوله تعالى: (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا)
قال الله جلت قدرته: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون:45 - 48].
بعد أن قص الله علينا قصص أمم وقرون مضت وأجمل القول في ذكر أنبيائهم ورسلهم ورسالاتهم والكتب المنزلة عليهم، فقد أبوا جميعاً إلا الكفر وتكذيب كتاب ربهم وتكذيب رسله، وكانت حجتهم التي يكادون يتواطئون عليها: كيف يؤمنون ببشر مثلهم؟ فلم لا يكون الرسل ملائكة يمشون على الأرض؟ ولو كانوا ملائكة لكانوا بشراً، ثم لكذبوهم ولما آمنوا بهم.
ثم قص الله جل جلاله علينا باختصار سبق تفصيله وبيانه وسبقت جزئياته: قصة إرسال موسى وأخيه هارون إلى فرعون وقومه وقومهم من بني إسرائيل.
فقال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} ثم أرسل الله موسى وجعله رسولاً مبلغاً عنه لرسالته، ومبلغاً لكتابه، وعززه وجعل معه أخاه هارون وزيراً، وقد طلبه موسى للكنة كانت في لسانه، إذ كان هارون أفصح منه بياناً، وأقدر على التعبير عما في نفسه وما يريد قوله بفصيح العبارة وبليغها، فاستجاب الله له، وكانت أخوة موسى لهارون لم يسبق ولم يأت بعدها مثلها، فقد دعا لأخيه بأن يكون رسولاً، فاستجاب الله له، فارتفع هارون من كونه بشراً عادياً إلى رسول ونبي كريم.
فأرسل الله موسى وهارون معاً بآياته لبيان الذي يمكن أن يقبله كل من وفق للخير وألهم الإيمان، ولكن فرعون الذي أرسل إليه هذان النبيان الكريمان كان من الكفر هو وقومه ومن الإصرار عليه بما تندى له الجباه، ولم يؤمنوا على كثرة ما رأوا من الآيات البينات والمعجزات الواضحات مما أتى به موسى وهارون، فقد أتيا بالآيات بقدرة الله جل جلاله على ما لم يقدر عليه سواه، مما أكد صدقهما، وأنهما الرسولان الصادقان الكريمان، وأنهما أتيا من الله رسولين بآيات واضحات، وسلطان مبين، ودليل وبرهان واضح بين ظاهر لمن ألقى السمع وهو شهيد، ولمن فتح أذنه، وشرح صدره لقبول الهداية والرسالة.
وقد أرسلهما الله إلى فرعون المتأله الذي أبى إلا أن يستخف قومه ويدعي الألوهية عجزاً وسفهاً، محتجاً بأن له ملك مصر، وأن الأنهار تجري من تحته.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [المؤمنون:45 - 46].
أي: أرسلهما ليقولا لفرعون: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [طه:47]، وإذا به يأبى هو وقومه، واستعبد هو وقومه بني إسرائيل، فقتلوا الشباب واستحيوا النساء، واستخدموهن فيما لا يكاد يطيقه الحيوان الأعجم على ما له من قدرة ومن قوة، ومع هذا أبى فرعون وملؤه أن يستجيبوا لموسى وهارون.
((إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا)) أي: تعالوا على الحق، واستكبروا على موسى، وظنوا أن لهم شأناً وأن لهم قدراً وأن لهم مكانة، واغتروا بما معهم من سلطان زائل ومال ونشب غير باق، وهكذا غروا، وغر بعضهم بعضاً إلى أن عاقبهم الله، فدمرهم وأغرقهم، وملّك ديارهم وسلطانهم لموسى وهارون وملئهما.
((فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ)) استكبر فرعون وقومه وتعاظموا وتعالوا واستنكفوا (وكانوا قوماً عالين) طغاة جبابرة يأبون الحق والخضوع له، ويأبون قبول الهداية بدليلها وبسلطانها وببرهانها، وكانت حجتهم هي حجة من سبقهم من الأمم السابقة الكافرة المشركة التي أبت إلا كفوراً وأبت إلا عصياناً، فقال فرعون وملؤه: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أي: كيف يتصور -وهذا في عقولهم الزائفة السخيفة- أن يرسل لهم بشراً مثلهم؟! ولو كان موسى أول رسول ولو كان هارون أول نبي لقلنا إن القوم جهلوا ولم يروا هذا في سابق الدهور والأزمان، ولكن الأمر ليس كذلك فقد أرسل الله قبلهم رسلاً وأرسل نبيئين، فبلغوا الرسالة، وهدوا القوم منذ آدم إلى إدريس فنوح فإبراهيم فسلالته من إسماعيل وإسحاق إلى موسى وهارون، فلم يكونا بدعاً من الرسل ولا بدعاً من الأنبياء.
ولقد كان الكل بشراً يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويتزوج النساء، ويولدهن الذراري والأسباط والأولاد، فما العجب هنا أن يكونا بشرين؟ ولكنهم مع ذلك أصروا على هذا، وظنوه دليلاً وبرهاناً فقالوا: (أنؤمن)؟ فهم يستنكرون باستفهام استنكاري يعود عليهم وباله، ويعود عليهم جهله، ويعود عليهم ذله.
((أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا)) أي: يأكلون كما نأكل، ويتناكحون كما نتناكح، ويتوالدون كما نتوالد، أيمكن أن يكون هذا؟ واطمأنوا لهذا الدليل السخيف الذي يدل على أنهم عطلوا عقولهم عن الفهم والإدراك والوعي.
((أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ))، وزادوا هنا على قولهم السابق: أن هؤلاء هم من عشيرة ومن قوم هم لنا عبيد، فزادوا واحتجوا بما ظلموا به القوم فاستعبدوهم وجعلوا منهم السراري، وجعلوا منهم العبيد، ولم يكونوا قبل كذلك، وهذا من طغيان الفراعنة، ومن طغيان القبط، وهو من طغيان الكفرة المشركين، وموسى وهارون يتحملان ذلك منهم، والله يعززهم ويؤيدهم بالمعجزة بعد المعجزة، وبالقدرة بعد القدرة، وما يزدادون بذلك إلا عتواً وفساداً في الأرض.(87/2)
تفسير قوله تعالى: (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا)
{فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47].
أي: مستخدمون مستعبدون، ((فَكَذَّبُوهُمَا)) بسبب الحجة الباطلة من كونهما بشرين، ومن كون قومهما لهم عابدين مستعبدين، ((فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ)) كذبوا موسى أن يكون نبياً رسولاً، وكذبوا هارون أن يكون نبياً ورسولاً، فكانوا بذلك مكذبين لرسالة إلههم وللكتاب المنزل عليهم، فازدادوا بذلك إثماً وعتواً وفساداً في الأرض، فحلت عليهم العقوبة وحلت عليهم النقمة، فدمرهم الله وأغرقهم وأصبحوا كأمس الدابر، وملك الله موسى وهارون وقومهما ديارهم، وملكهم جنانهم وخيراتهم وكنوزهم وما اشتغلوا له وعملوا من أجله قروناً تتبعها قرون.
والله حين يعرض علينا هذا يعرضه على من عاصر النبوءة المحمدية، وعلى من جاء بعدهم، وفي معناه الإنذار والتهديد والوعيد، أي: إذا لم تؤمنوا ولم تصدقوا ولم تقبلوا الآيات البينات التي أتى بها محمد صلى الله عليه وعلى آله، فما عوقب له الأولون سيعاقب به الآخرون، فهو نذير ووعيد، وقد كان ذلك ولا يزال لكل أمة ولكل شعب إذا أبى الإيمان وأبى الهداية، وكذب الرسالة، وكذب الرسول فالله جل جلاله يدمره في الدنيا.
ووقف تدمير الناس بعد خروج نبينا صلى الله عليه وسلم عن أن يمسخوا قردة، وعن أن يمسخوا خنازير، وعن أن يضربوا بما ضرب الله به من سبقهم من الصيحة والزلزلة والزعازع التي نزلت من السماء وقامت من الأرض، فكانوا كأن لم يعيشوا يوماً ولم ينبسوا ببنت شفة يوماً، فهذا لا يحدث بعد؛ تكرمة للنبي عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا لا يمنع من أن يستعبدوا أصلاً، ومن أن تؤخذ منهم نساؤهم وأموالهم غنائم، وهكذا حصل فقد عذب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من بقي منهم ولم يؤمن، وزلزلوا في غزوات وخاصة في غزوة بدر، وفي فتح مكة، فقتل من قتل، وأسر من أسر، وأخذت أموال من أخذت منه، واستعبد من استعبد، ولعذاب الله أشد وأنكى لمن أصر على كفره ولم يؤمن قبل أن يموت، ولم يقل يوماً: ربي الله.
وهكذا رأينا الأمم بعد فقد أصاب الله الناس بالحروب الماضية من لدن الصليبيين، إلى التتر، إلى الاستعمار الأوربي، إلى الاستعمار الأمريكي إلى الاستعمار الصيني والروسي، إلى الاستعمار اليهودي، وإذا بقي المسلمون على عصيانهم والكافرون على شركهم فعند الله من أنواع العذاب والنكال ما تتزحزح له النفوس، وتزلزل له الأرواح، ولعذاب الله بعد ذلك أشد وأنكى.
((فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ)) فكانوا من المهلكين بالغرق، مهلكين في النيل بالخنق وبالإذلال وبالضياع وبالبوار بما ضاعت فيه ألوهيتهم الزائفة، وزعامتهم الكاذبة، وملكهم الفاني، وهكذا الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.(87/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون)
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [المؤمنون:49].
بعد أن أنهي القول مختصراً ومضى قبل مفصلاً بتمام القصة بياناً منذ البداية إلى النهاية، فهنا أعاد الله ذلك لتذكير هؤلاء المصرين من قريش ومن العرب ومن الفرس والروم بعد ذلك، وجميع ملل الأرض وشعوبها على الإطلاق ممن أرسل لهم جميعاً محمد العربي صلوات الله وسلامه عليه.
ذكر الله تعالى بعد هلاك فرعون وملئه أنه أرسل لبني إسرائيل الكتاب: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ))، فأنزل عليه التوراة ليبلغه إلى قومه من بني إسرائيل هادياً وداعياً إلى الله وتوحيده وعبادته، وإلى تصديق موسى وهارون في كل ما يبلغانه عن الله، وكانت النتيجة أيضاً أن بني إسرائيل على ما لقي منهم موسى، ولقي منهم هارون من عنت، وعلى ما ذاقوه من ذل واستعباد فرعون لهم، وقهر ملئه إلا أنهم أخذوهم وذهبوا بهم إلى القدس إلى فلسطين، فما كادوا يعبرون النهر ويتجاوزون النيل حتى أخذوا يصنعون الأصنام ويعبدون العجل، فعوقبوا به أربعين عاماً يتيهون في الأرض، فلم يصلوا إلى القدس إلا وهم في ذل، وأبوا الدخول على عادتهم قديماً وحديثاً، فقالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، وأرادوا كما أرادوا اليوم أن تأتي دول الكفر على كل أشكالها ويعطوهم أرضاً بعد فراغها من سكانها وشعوبها، فيعطوها لهؤلاء الضائعين الذين لعنهم الله ومسخهم قردة وخنازير، ولعنوا لعنة الآباد، وإنما يستدرجهم الله بما هو أشد بلاء وأعظم جزاء، وهكذا إلى أن أخذوا الأرض كما أخذت قبل، فلم يحسنوا سابقاً ولم يحسنوا لاحقاً، وكانوا المصدر للفساد، وكانوا الأس لنشر الظلم، وسفك الدماء، وهتك الأعراض قبل وبعد.
((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)) أنزل عليه التوراة فيها الهداية والنور، فأول ما صنعوا أنهم أخذوا يتلاعبون بكتاب ربهم، فبدلوه وغيروه وحرفوه، ونقلوه من كتاب يدعو إلى الله الواحد إلى عبادة العزير وإلى عبادة العجل، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، وكفر اليهود إذ قالوا: العزير ابن الله، كما قال ذلك النصارى عن عيسى ابن مريم، فهم أمم كلما جاءت أمة لعنت أختها، وزادت وتبرت إياها كفراً وشركاً وطغياً وظلماً وعدواناً، وهكذا دمر الله الكل وأصبحوا أحاديث وقصصاً تتلى وعبراً؛ لعل الآتين بعدهم يتعظون بها، ويأخذون منها الحكمة والعبرة، فلا يفعلون فعلهم، ولكنهم مع هذا أبوا إلا أن يفعلوا فعلهم، فعوقبوا عقوبتهم، بل سلط عليهم هؤلاء الأذلون أنفسهم.
{أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83]، والكل بعد ذلك إلى جنهم وبئس المصير.(87/4)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا ابن مريم وأمه آية)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50].
ثم لخص الله جل جلاله أيضاً لنا قصة مريم وقصة ابنها عيسى، وأنه جعلهما آيتين معجزتين يدلان على قدرته وعلى عظيم إرادته، وأنه يفعل ما شاء كيف شاء جل جلاله وعز ومقامه، وقد مضت القصة كذلك مفصلة في غير ما سورة، كما أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون وملئه وإلى بني إسرائيل، وكذلك جعل في الكون للنصارى وغير النصارى، لبني إسرائيل وغير بني إسرائيل، جعل ابن مريم وأمه آية.
وما هي هذه الآية؟ العادة بعد آدم وحواء أن يولد الرجل من نطفة تختلط من ماء الرجل من صلبه، وماء المرأة من صدرها، فيختلط ذلك فينشأ عنه بشر سوي، فخلق الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم سواه رجلاً، فخلق آدم من تراب بلا أب ولا أم، وخلق حواء من رجل بلا أم، وذلك من ضلع آدم، ثم بعد ذلك خلق عيسى من أم بلا أب، والقادر على خلق الإنسان من تراب هو قادر على أن يخلقه من أم بلا أب، كما خلق آدم بلا أبوين وحواء بلا أم خلق بعد ذلك عيسى ابن مريم بلا أب، خلقه من نفخة أمر بها جبريل رسول الملائكة إلى البشر، فنفخ في جيبها فحملت فولدت، فأتت به قومها تحمله، فأخذوا يسألونها ويتهمونها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:28 - 29]، وإذا بالطفل الرضيع ينطق ويقول: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، وإذا به يظهر لهم المعجزة منذ كان طفلاً رضيعاً، وهكذا آمن من آمن من بني إسرائيل، وأصر على الكفر من أصر، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكانت معجزة عيسى وأمه مريم في كونهما آيتين، فهي ولدت بلا فحل، وهو ولد بلا أب.
((وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ)) أي: عيسى ابن مريم وأمه مريم آية، ولم يقل: آيتين؛ إذ إنه عندما ينطق بها: (آية) فالمعنى: جعلنا عيسى آية وجعلنا أمه آية، أو جعلنا النشأة والشأن آية في كونها بلا فحل وبلا رجل ولدت عيسى.
((وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)) آواهما الله وأسكنهما وأنزلهما إلى ربوة، والربوة هي المكان المرتفع من الأرض.
((ذَاتِ قَرَارٍ)) أي: ليست بادية تحتاج إلى التنقل من مكان إلى مكان للكلأ وللخصب وللماء، ولكنها ربوة قارة لما فيها من خصب وخيرات وثمار وأرزاق وماء معين.
((ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)) أي: ماء جار، وأنهر جارية متدفقة، وهكذا كان، فبعد أن اتهم مريم قومها بما اتهموها به أكرمها الله تعالى وآواها وأسكنها في مكان مرتفع ذي أشجار وثمار وخصوبة ومياه جارية دافقة.
واختلف المفسرون أين هذه الربوة وأين مكانها، فيقول الدجال غلام القادياني هذا الجاسوس الإنجليزي الذي تبعه الكثيرون: إن الربوة في أرض الهند، وادعى أنه هو عيسى الذي سينزل وأنه قد نزل، وقد كان دعياً وكان دجالاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن بين يدي الساعة ثلاثين دجالاً) ولا عبرة بالعدد، فهو أحد الدجاجلة.
وزعموا أن الربوة في أرض الهند، وأتوا إلى ربوة مرتفعة ذات خصوبة ومياه فعمروها وسكنوها، ولا تزال قائمة إلى اليوم، وهم يفجرون ويكذبون على الله، ولم يقل أحد من المفسرين بأن هذه الربوة في الهند، ولكنها من جملة أكاذيب الدعي الدجال.
وأما المفسرون فقال بعضهم: الربوة هي دمشق، وقالوا: هي غوطة دمشق، وقالوا: في مصر، وقالوا: الرملة من أرض فلسطين، وقالوا: بيت المقدس، وقالوا: فلسطين، ولكن الآي يفسر بعضها بعضاً، فالربوة كانت على أميال من بيت المقدس، وقد ذكرت في القرآن وأنها ذات مياه وذات خصب، وأن الله قال لـ مريم عندما ولدت عيسى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25]، فالربوة قد ذكرت في القرآن، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فكون في الشام أو في الغوطة قرية اسمها الربوة هذا لا يزيد ولا ينقص، وأما مصر فلم يذكر أن عيسى وصلها، وأما الشام ففلسطين ولبنان والأردن وما يسمى اليوم سوريا، فهي في أرض الشام ولكن على أميال من بيت المقدس، وقد ذكرت غير مرة.
((وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً)) أي: جعلناهما آيتين؛ جعلنا عيسى آية وجعلنا مريم آية، أو جعلنا الشأن فيهما آية دالة على القدرة الإلهية، وعلى المعجزة النبوية لعيسى ومريم، وآواهما وأسكنهما وأنزلهما في ربوة في أرض مرتفعة ذات مياه دافقة، وثمار وأشجار وخيرات متتابعة.(87/5)
تفسير سورة المؤمنون [51 - 62]
لقد أمر الله تعالى عباده بأن يأكلوا من الطيبات كما أمر بذلك الأنبياء والمرسلين، فالمؤمن طيب ولا ياكل إلا الطيب، وأنذر الكافرين بألا يفرحوا بما فتح عليهم من الخيرات، وألا يظنوا أن ذلك محبة لهم أو تفضيل، فإنما هو استدراج.(88/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات)
ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51].
يقول الله لنبيه وخاتم أنبيائه أنه قد سبق أن قال للأنبياء السابقين: ((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ)) أي: كلوا الحلال الطيب ولا تقربوا الحرام بحال، فلا تتخذوه مشرباً، ولا تتخذوه مطعماً، ولا تتخذوه متجراً، ولا تتخذوه ملبساً، وفي الحديث النبوي: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ))، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، يقول الراوي وهو أبو هريرة: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر) أي: أشعث في شعره، أغبر في ثيابه؛ لطول السفر ولطول العبادة ولطول السياحة، ولطول الدعوة، (ثم هو يقول: يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!)، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فالمال الحرام مهما بذله باذله ومهما صرفه صدقة أو عطاء أو هدية أو حجاً أو نفقة فلا يعود عليه إلا بالوبال، فالفاسد لا ينتج إلا فاسداً، والصالح هو الذي ينتج الصالح، فالله لا يقبل إلا طيباً، ولا يقبل من الأعمال إلا الصالح وإلا المال الصالح، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (نعم المال الصالح للرجل الصالح)، وما دون ذلك فهو ثقل يحمله الإنسان، فيتخفف منه من زال عنه، ويعذب به من ابتلي به.
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51] أي: وكما أمرنا من سبقك من الأنبياء نأمرك كذلك يا محمد، وقد ألهم الله عبده محمداً صلى الله عليه وسلم قبل النبوءة برعي الغنم، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم ذلك عن نفسه فقال كما في الصحيح: (ما نبي إلا ورعى الغنم، فقيل له: يا رسول الله وأنت؟ قال: نعم، وأنا رعيت لقومي على قراريط) أي: على هللات.
فهو منذ الطفولة عاش بالحلال وبكد العمل وبعرق الجبين، ثم عندما شب شارك السيدة خديجة في مالها مضاربة، وذهب يتاجر لها في أرض الشام، وبعد ذلك جعل الله رزق محمد صلى الله عليه وسلم في سيفه في غنائم الكفار وفي غنائم المشركين مالاً وأرضاً وفي كل ما يملكون.
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر:7] أي: من أهل القرى المشركة، فملك نبيه صلى الله عليه وسلم قراهم ونساءهم ورجالهم وأطفالهم، فامتن على من شاء منهم، واستعبد من استعبد، وقتل من قتل، وغنم ما غنم، كما عليه الصلاة والسلام: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) أي: في الحرب والجهاد والدعوة إلى الله.
((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا)) وهذا ما يؤمر به أتباعهم: أن يكون طعامهم حلالاً طيباً، وملبسهم كذلك، ومشربهم كذلك، وغذاؤهم كذلك، ومسكنهم ومأواهم كذلك، وأن يعملوا الصالحات، وما الصالحات إلا الطاعة للإله جل جلاله، والطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا)، فافعل من الأوامر ما استطعت، واترك جميع ما نهيت عنه.
((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)).
هذه الفقرة من الآية الكريمة فيها وعيد وتهديد، وإن كان للأنبياء فمن باب أولى لغيرهم ممن ليس بمعصوم، أي: يقول جل جلاله لأنبيائه ويقول تبعاً لأتباعهم: كلوا الحلال، وكلوا الطيب واعملوا الصالح، فإني بما تعملون عليم.
((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)) أي: رقيب عليكم وعلى أعمالكم، فآمر الملائكة المرافقين للإنسان أن يكتبوا الخير والشر، ولكن الرسل أكرمهم الله فعصمهم عن السوء، وعصمهم عن الذنوب، ولكن مع ذلك قال لهم الله بأني عليم بأعمالكم، فاصنعوا ما أمرتكم به ولا تخرجوا عنه، واعلموا أن عيني عليكم رقيبة، وملائكتي الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يكتبون كل شيء عليكم.
((إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)).(88/2)
تفسير قوله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)
قال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52].
قرئ (إن وأن)، (وأن) عطف على الآية قبل: ((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا)) أي: ويا أيها الرسل! إن أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون، معناه: أن الدين واحد، وأن ما أرسلتم به من عبادة الله لم تختلف الرسالات في ذلك، فمنذ أرسل آدم إلى أولاده، وإلى أحفاده وأسباطه، أمرهم الله أن يدعوهم إلى الله الواحد، وإلى عبادته، وإلى عدم الشرك به، وهكذا كل من جاء بعده، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء ديننا واحد وأمهاتنا شتى) أي: الشرائع مختلفة، فلكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، فتختلف الأوامر وتختلف الأحكام وتختلف النواهي، ولكن الدعوة العامة والدعوة الرئيسية الأساسية من كون الله الخالق، وأن الله واحد في ذاته وواحد في صفاته وواحد في أفعاله؛ هي دعوة الرسل جميعاً.
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52] إن الدين واحد، فلم يرسل نبي، ولم يرسل رسول، ولم ينزل كتاب من الله على بشر إلا ويدعو إلى عبادة الله الواحد، وعدم الشرك به.
((أُمَّةً وَاحِدَةً)) حال، أي: أرسل جميع رسله وأنبيائه، وأنزل الكتب المنزلة من الله: صحائف إبراهيم وزبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وقرآن محمد عليهم الصلاة والسلام، كل هذه الكتب الإلهية السماوية ما جاءت إلا للتوحيد ولعبادة الله، وإن وجد فيها غير ذلك فبتحريف الكاذبين وبكذب المشركين وبتغييرهم لما أنزل الله على رسلهم وأنبيائهم.
((وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)) أنزلت حال كونها أمة وديناً واحداً، ورسالة واحدة، وكلها تدعو إلى الله وعبادته.
((وَأَنَا رَبُّكُمْ)) رب الأنبياء، ورب الأديان، ورب الخلق، ورب الملائكة والناس والجن وكل ما خلق الله، فهو ربهم وقاهرهم وخالقهم ورازقهم ومميتهم، ثم محييهم وموجدهم من العدم.
((فَاتَّقُونِ)) أي: اجعلوا وقاية بينكم وبيني من عذابي ومن نقمتي ومن النار والسعير، وما الوقاية إلا طاعة الله، وطاعة رسوله، وتصديق الأنبياء، وتصديق كتب الله، والعمل بما جاء فيها، ومن خرج عن ذلك خرج عن الإيمان إلى الكفر، ومن دخل في الكفر حلت عليه اللعنة في الدنيا، ودخل النار يوم القيامة خالداً مخلداً أبداً.(88/3)
تفسير قوله تعالى: (فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً)
فكانت النتيجة: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53].
تقطعوا، أي: هذه الشعوب التي أرسلت إليها الرسل والأنبياء قطعوا الدين الواحد والملة الواحدة والدعوة إلى الله قطعوها قطعاً.
وزبر: جمع زَبْر أو زبور، وهي القطعة من قطع الحديد والفرقة من الفرق، فجعلوا أنفسهم فرقاً، فهذا يعبد مريم، وهذا يعبد عيسى، وهذا يعبد عزيراً، وهذا يعبد العجل، وهذا يعبد الحيوان، وهذا يعبد الملك، وهذا يعبد الجماد.
((فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ)) قطعوا الأمر، وقطعوا الرسالة، وقطعوا الوحدة، وقطعوا الدين الواحد، والدعوة الإلهية الواحدة وجعلوها فرقاً وأحزاباً.
{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي: كل طائفة من هؤلاء أشربوا الكفر، وانشرحت له صدروهم، ففرحوا بما لديهم، وزعموا أنهم وحدهم هم الذين على الحق، هكذا زعم اليهود، وهكذا زعم النصارى، وهكذا زعم المجوس، وهكذا زعم الضالون المبتدعون من المسلمين عندما فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فميزان الدين الحق والفرقة الناجية التي هي على الحق: هو الأسوة النبوية، وهو السيرة الراشدة النبوية، وهو ما قال الله عنه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، فموضع الأسوة والهداية والاقتداء ما فعله صلى الله عليه وسلم أو قاله أو أقره، فهو الحق المبين الذي لا يختلف فيه مسلمان، ولا يعارض فيه إلا كافر مشرك، فمن ائتسى به كان على الحق، وكان مع محمد على الحوض في الحنة صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما سوى ذلك فباطل وهراء وكذب وزيغ.
وإذا قلنا: الأمة المحمدية فالمراد الأمة التي أرسل لها النبي صلى الله عليه وسلم، والأمة التي أرسل إليها هي كل شعوب الأرض.
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، فمنذ قالها وأرسل بها في هذه البقاع المقدسة وهذه الأرض الطاهرة لزمت كل من بلغته، فهو خاتم الأنبياء، وهو محمد المكي المدني صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأن الدين الحق هو الإسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، فكل من هو على الأرض فهو من الأمة المحمدية، ومن استجاب وكان مسلماً فهو من أمة الاستجابة، ومن أبى وتمرد فهو من أمة الدعوة، والحجة قد قامت عليه بكتاب الله المقروء بالألسنة، والمحفوظ في الصدور، والمكتوب في السطور، والمذاع في أجهزة الإعلام سماعاً وتدبراً، وهكذا في جميع بقاع الأرض: في أرض الكافر وأرض المؤمن وأرض المنافق كل ذلك سواء، فقد قامت الحجة وبلغت الجميع، لكن اليهود والنصارى حرفوا التوراة والإنجيل وغيروهما بأكاذيبهم وضلالهم وانحرافهم، وهكذا غيروا التوراة فهي غير التي أنزلت من قبل، فهذه فيها هجو الأنبياء وقذفهم، والتطاول على المقام الإلهي، وفيها الشرك، وفيها الكذب، وفيها الفسق، وفيها الفساد، وقل مثل ذلك على الإنجيل كما رأيناه، وكما كان وقت نزول القرآن، فقد ألهوا عيسى، وألهوا مريم، وجعلوا الرب ثلاثة، وهكذا غيروا وبدلوا، وجعلوا الزبور كذلك.
وجاء بعدهم آخرون فوضعوا كتباً نسبوها لمن سموهم فلاسفة وسموهم هداة، وسموهم قادة، فغيروا كتاب الله، وغيروا دين الله، فكذبوا وفجروا وأشركوا كل حسب عقله وحسب شركه، وكانت كلها فرقاً باطلة كاذبة، كما قال ربنا جل جلاله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53] أي: يفرحون بالباطل، ويفرحون بالضلال، وفرحوا بتكذيب أصل الدعوة وأصل الكتاب: بأن الدعوة واحدة وهي عبادة الله وحده لا شريك له من ملك أو جن أو إنس أو جماد أو أي شيء، فالمعبود الواحد هو الله جل جلاله، وبذلك أتت الأنبياء من أولهم آدم إلى خاتمهم نبينا صلوات الله وسلامه.(88/4)
تفسير قوله تعالى: (فذرهم في غمرتهم حتى حين)
قال تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:54].
أي: ذرهم يا محمد! وما على الرسول إلا البلاغ، فأنت بلغ وادعهم إلى ربك، واتل عليهم الكتاب المنزل عليك، وبين لهم الرسالة التي أرسلت بها، ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع حريصاً على أن يشهد هؤلاء الخلق الذين دعاهم، وأرسل رسله إلى جميع أقاليم جزيرة العرب، وكانت وحدها إذ ذاك التي أسلمت ولم يخرج الإسلام بعد عن حدود الجزيرة، فأعلموهم أن النبي محمداً سيحج هذا العام، فحضر مائة وعشرون ألف حاج بين رجل وامرأة، وبين شيخ وطفل، فخطب فيهم خطبة حجة الوداع عند جبل الرحمة في آخر يوم عرفة، وهو يشهد الله ويشهدهم، فقال لهم: (هل بلغت؟ قالوا: نعم، اللهم قد بلغت وأبررت وأحسنت)، فكان عليه الصلاة والسلام يرفع أصبعه السبابة إلى السماء ويقول: (اللهم فاشهد، اللهم فاشهد) أي: اشهد على هؤلاء أني قد بلغتهم ما أرسلتني به: من رسالة، ومن كتاب، ومن هداية، ومن دين، وأما الهداية فليست في يد أحد من الخلق، قال تعالى لخاتم الأنبياء: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272].
وهكذا عرض الله جل جلاله على خاتم أنبيائه قصص الكافرين ومواقفهم من الشرك والإصرار على الشرك، والتكذيب لأنبيائهم، وهددهم وتوعدهم، ثم قال له بعد أن أمر بتبليغ الرسالة: ((فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ)) أي: دعهم واتركهم وتخل عنهم، ((فِي غَمْرَتِهِمْ)) في ضلالهم، وفي ضياعهم، وفي هرائهم، وفي ظلمتهم التي يعيشون فيها، ((حَتَّى حِينٍ)) أي: إلى وقت لا محالة في مجيئه، وهو يوم موتهم وهلاكهم، وهو يوم عرضهم على الله ليحاسب كل بما قدمت يداه: إن خيراً فخير وإن شراً فشر.(88/5)
تفسير قوله تعالى: (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين)
ثم قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56].
قال تعالى عن هؤلاء: أيظنون أن ما رزقناهم من أموال، ومن غنىً، ومن ترف، ومن خيل، ومن إبل، ومن قصور، ومن شباب، ومن قوة، أيظنون أننا بذلك نسارع لهم في الخيرات؟! قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} أيظن هؤلاء المشركون الكافرون ((أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ)) نعطيهم إياه لبقاء حياتهم، أيظنون أنا نسارع لهم في الخيرات، ونبتليهم بالخيرات في الدنيا قبل الآخرة، وأنا يوم القيامة سنزيدهم من ذلك؟! قال تعالى عنهم: بل هؤلاء في غوايتهم وفي تيههم وفي ضلالهم، فلا يشعرون بأن هذا الذي أعطيناهم ليس إلا ابتلاء واختبار واستدراج، وسيحاسبون على ذلك بالنقير والقطمير يوم عرضهم على الله يوم البعث والنشور، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن يحب، فمن أعطاه الدين فقد أحبه، وإن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم)، ولذلك فالمجنون الضال هو الذي إذا رزق ووسع عليه وقوي في شبابه وقوي في أولاده، وقوي في سلطانه، ظن ذلك لما له من يد عند الله، فالله تعالى أعطاه ذلك في الدنيا، وأنه سيعطيه غيرها يوم القيامة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة لما سقى منها كافراً شربة ماء).
ونحن نرى اليهود أكثر غنىً، والنصارى أكثر سلطاناً ومالاً، ومع ذلك هم الأمم الخاسرة، والأمم الملعونة، والأمم الوثنية التي تعبد مع الله بشراً، وتجعل له آلهة مزيفة لم تكن يوماً كذلك، ولم يأتوا بالسلطان عليها، وما ذلك إلا ابتلاء واختبار، والمؤمن الصالح هو الذي لا يغتر، بل إذا كثرت عليه النعم يجب أن يستكثر من الصدقة، ومن العطاء ومن العبادة؛ حتى يقبل، وكيلا يكون ذلك ابتلاء واختباراً، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا) هلك: ضل.
فهؤلاء الذين أكثروا من جمع النشب والمال ضالون إلا الذين أكثروا من العطاء يميناً وشمالاً، وأنفقوا على أهليهم وعيالهم وذوي رحمهم، وأخرجوا الزكاة لمن ذكر الله في كتابه: للفقراء والمساكين وبقية الأقسام الثمانية، فيعطون السائل ولو جاء على فرس، وكما وصف الله المؤمنين: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]، للمحروم الفقير والمسكين وللسائل حتى ولو لم يكن محتاجاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (للسائل حق ولو جاء على فرس)، فهذا الذي بذل لك ماء وجهه حتى ولو كان عنده فهو يحرم عليه أن يسألك، ولكنك أنت إذا سألك لا يليق بك أن ترده وقد بذل لك ماء وجهه، وذل لك وقال: أعطني فأعطه، فإن كان فقيراً فقد كان المال في مكانه، وإن كان مستغنياً فقد أجبت السائل كما قال الله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25] وابتدأ بالسائل، وقد الله لنبيه: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10].
فأنت إما أن تعطيه إن استطعت، وإما أن تقول له كلمة طيبة، مثلاً: غداً يأتيني مال وأعطيك، أو أعطاك الله ورزقك، ولا تنهره ولا تصح في وجهه، وما يدريك أن تنقلب الآية فتصبح يوماً أنت السائل وهو المسئول.
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56].
أي: أيظن هؤلاء النوكى والحمقى أن ما نعطيهم ونبتليهم ونختبرهم به من مال أن ذلك سرعة منا لخيرهم في الدنيا قبل الآخرة؟! ((بَل لا يَشْعُرُونَ)) أنه ابتلاء وأنه اختبار وأنه زيادة في النقمة وزيادة في المحاسبة؛ لأنهم عندما ابتلوا بذلك لم يعطوا فقيراً، ولم ينفقوا على من يحتاج نفقة، ولم يعطوا سائلاً، ولم يخرجوا حقوق الله في مالهم، وأول معركة وأول حرب أهلية في الإسلام كانت منذ الوفاة النبوة على من امتنعوا عن أن يؤدوا الزكاة، فحاربهم أبو بكر الصديق بعد مخالفة من بعض الصحابة، فقد احتج عليه عمر وقال: كيف نقاتل هؤلاء وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ فقد أمرنا أن نقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وإذا بـ أبي بكر يعنفه ويصيح في وجهه ويقول له: يا ابن الخطاب أبطاش في الجاهلية خوار في الإسلام؟! أتمم حديث رسول الله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، فأخذ يقول له: أليس من حق لا إله إلا الله أداء الزكاة؟ أليس من حق لا إله إلا الله القيام بالصلاة؟ فقال عمر: والله ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر بما شرحه له حتى شرح صدري، فكان إجماعاً من الصحابة على أنه إذا تواطأت فئة أو أهل مدينة على منع الزكاة فإنهم يحاربون ويقاتلون، فمن قتل منهم فإلى جهنم ودمه هدر، ومن بقي فإنه يجبر على إعطاء وأداء الزكاة رضي أو لم يرض، وكما في الحديث النبوي قال النبي عليه الصلاة والسلام عن الزكاة: (إنا آخذوها أمراً من أمر ربنا، فإن أعطوها عن طيب خاطر وعن رضاً كان لهم أجرها، وإلا أخذناها عن يد وهم مقهورون) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وهذا مذهب الشافعي أن من امتنع من أداء الزكاة فإنها تؤخذ منه قهراً ولا أجر له ولا ثواب، بمعنى أنه تباح أملاكه وما عنده من نشب في أداء ذلك، وترى الضرائب التي تعطى في دول إسلامية غير دولتنا عندما لا يؤدون الضرائب للحكومة فإنهم يبيعون عليهم أملاكهم ونشبهم ودورهم، ويكون التمام إلى السجن والعذاب والمهانة، فحق الله هو في إعطاء الفقراء والمساكين ما ملكهم الله إياه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60]، وقد أجمع مفسروا الآية على أن هذه اللام في الآية هي للتمليك، أي: ملك الله الفقراء والمساكين ومن ذكر الله قدراً من المال في مال الأغنياء.(88/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:57 - 59].
بعد أن قص الله علينا قصص الكافرين الجاحدين الذين يظنون أنهم بما ملكهم الله من أموال ونشب وعرض وقوة أولاد وكثرة خدم وحشم؛ أن ذلك يسارع لهم في الخيرات، فذكر الله: أن الذين يسارع لهم الله في الخيرات وهم يحرصون عليه هم من وصفهم الله فقال: ((إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ)) أي: الذين هم مع عبادتهم ودينهم يخشون الله ويخافون ألا يقبل الله عبادتهم وطاعتهم، وأن يرمى بها في وجوههم، ويقول لهم: قد أشركتم معي غيري مراءاة وتسميعاً، ولا تريدون بذلك الإخلاص ولا وجه الله، فهم يخافون من ذلك وإن كانوا ليسوا كذلك.
وهم الذين لا يكفرون ولا يجحدون بقدرة الله، ولا بمعجزات أنبيائه، ولا بما أظهر الله على أيديهم، فيؤمنون بها ويصدقونها ويضعونها على الرأس، ويجعلونها من العقائد التي لا تقبل الشك ولا الميل.
((وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ)) فلا يشركون بالله ولا يتخذون معه إلهاً ثانياً لا في ذات ولا في صفة ولا في أفعال.(88/7)
تفسير قوله تعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].
(والذين يؤتون ما أتوا) أي: الذين يعطون ويتصدقون ويعبدون ويطيعون وهم مع ذلك وجلون خائفون أنهم إلى ربهم راجعون، فعندما يرجعون إلى الله يوم القيامة يخافون أن يقال لهم: إن عبادتكم كانت مشوبة، وإن صدقتكم لم تكن من طيب ولا حلال، فتجدهم يبالغون في العبادات والطاعات وفي الصدقات والزكاة، ومع ذلك يخافون ألا تقبل منهم.
وقد سألت السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)) أهؤلاء الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر؟ قال: لا يا بنت الصديق! وإنما هؤلاء الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يقبل أعمالهم ولا عبادتهم).
فهم لشدة حرصهم ورغبتهم في أن تقبل طاعتهم يخافون أن تكون هناك شائبة في هذه الطاعة فلا تقبل، أي: يعبدون الله بين خوف ورجاء كما أمر المؤمنين.(88/8)
تفسير قوله تعالى: (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61].
يذكر الله تعالى أن هؤلاء السابقين في الخيرات هم الذين يسبقون إليها لا أولئك الذين رزقوا مالاً ولم يصنعوا به شيئاً، ورزقوا ولداً فلم يصنعوا به شيئاً، فالله هو الذي رزقهم وأعطاهم ومتعهم بالعافية وبالأولاد وبالخدم والحشم، لا لكونهم سادة الناس، ولكن ابتلاء واختباراً، فإن هم عملوا بذلك وأطاعوا بذلك وأدوا الحقوق فذاك، وإلا كان ذلك ابتلاء ومزيداً في العذاب، ولا يظن هؤلاء أننا نسارع لهم في الخيرات، بل الذين نسارع لهم في الخيرات هم يسارعون في الخيرات، والإكثار من العبادات والطاعات، وهم مع ذلك يخافون ألا تقبل منهم، هم هؤلاء الذين يشفقون ويخافون من ربهم مع عبادتهم، والذين يؤمنون بكل آياته وقدرته ومعجزات أنبيائه، والذين لا يشركون مع الله أحداً، والذين يبالغون في العبادة والطاعة والصدقات ومع ذلك يخافون ألا تقبل منهم.
((أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)) فهؤلاء الذين وصف الله هم الذين يسارعون ويتسابقون: من الذي يسبق الآخر فيكون أكثر عبادة وأكثر صدقة وأكثر تهجداً.
((وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)) أي: هم بفعلهم ذلك واعتقادهم ذلك سابقون للناس في العبادة والطاعة والصدقة والخشية من ربهم، فهؤلاء هم الذين نسارع لهم في الخيرات لا أولئك.(88/9)
تفسير قوله تعالى: (ولا نكلف نفساً إلا وسعها)
قال تعالى: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [المؤمنون:62].
يقول الله: مع كل هذا فنحن لا نكلف أحداً بما ليس في طاقته ولا في وسعه، وقد أمر الناس بعبادته والإيمان به وحده، والإيمان عمل عقدي يضمره الإنسان ويجمع جوانحه عليه، فيؤمن بأن الله واحد، وكل ما عبد الناس سواه من جن أو إنس أو ملك أو جماد كل ذلك باطل، بل على العبد أن يمتثل لربه فيما أمر به وما نهى عنه، ولنبيه فيما أمر به وما نهى عنه، وما يؤمرون به كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فلم يكلف الله عبداً إلا بما هو في وسعه وطاقته، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فقد أمرنا بالصلاة قياماً، فإن لم يكن ذلك في وسعنا فنصلي جلوساً، وأمرنا بالصيام فإن لم يكن ذلك في وسعنا أفطرنا، وأمرنا بالحج فإن لم يكن ذلك في وسعنا لا زاداً ولا راحلة ولا قدرة لم نحج، وأمرنا بالزكاة فإن لم يكن عندنا مال نزكي ولم يكن ذلك في وسعنا أسقط الله عنا ذلك.
إذاً: فالله لا يكلف مؤمناً شططاً، ولم يأمره بما يعجز عنه.
لم يمتحنا بما تعيا العقول به حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهم فلم يأمرنا إلا بما في قدرتنا عقيدة، وفي قدرتنا جناناً، وفي قدرتنا أعمالاً، وفي قدرتنا بما نملكه ونستطيعه، وما دون ذلك لم يأمرنا الله بشيء، بل من اعتاد عبادة وهو صحيح البدن كثير المال بحج أو عمرة أو صدقة أو زكاة بقوة من طواف وسعي وحج وأنواعها ثم مرض، فإن الله تعالى يتابع أجره وثوابه كما لو بقي على ذلك إلى لقاء الله إلى الموت؛ لأن الله هو الذي أعجزه وأشاخه، ولأن الله هو الذي أفقره فهو لم يستطع؛ لأن ما كان عنده قد أخذه الله، فهو بذلك معذور، بل وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام فإنه يجازى على ذلك ويكثر أجره وثوابه كما لو كان لا يزال صحيح البدن، مليء الجلد، كثير الحركة والنشاط، فيؤجر على ذلك ثواباً وأجراً مستمرين.(88/10)
تفسير سورة المؤمنون [62 - 67]
لم يكلف الله تعالى أحداً من عباده شططاً، وإنما كلفنا ما نطيق، وجعل هذا الدين يسراً وليس بعسر، ثم يحشر الناس يوم القيامة ويحاسبهم بما كانوا يعملون، فلا يظلم أحداً.
وقد ذكر الله تعالى حال المترفين وأنهم إذا أصابهم العذاب إذا بهم يصيحون ويجأرون، ولكن لا ينفعهم ذلك، فقد فرطوا في زمن العمل والفراغ والصحة.(89/1)
تفسير قوله تعالى: (ولا نكلف نفساً إلا وسعها)
قال الله جل جلاله: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [المؤمنون:62].
بعد أن قص الله علينا صفات المؤمنين من الإيمان بالله والإيمان بآيات الله وعدم الإشراك بالله جل جلاله، والعبادة مع الخوف ألا تقبل وأن تضرب بها الوجوه لنقصانها، ولما يخاف أن يكون فيها من رياء وتسميع، مع كل ذلك يقول الله جل جلاله: ((وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)) فلم يكلف الله أحداً من العباد بأن يأتي بأكثر مما تطيقه نفسه، قلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وما جعل عليكم في الدين من حرج.
فالله جل جلاله أمرنا بما نقدر عليه وبما نطيقه، فإذا مرض أحدنا أو منعه مانع فإنه ينتقل من الوضوء بالماء إلى التيمم، ومن الصلاة قياماً إلى الجلوس، ومن الحج إلى عدم الحج، ومن الصيام إلى الإفطار، ومن الضيق إلى السعة مع الأجر والثواب في كل ما كان يصنعه هذا الذي مرض وحال مرضه دون ذلك، أو افتقر وحال فقره دون ذلك من زكاة وحج وما إلى ذلك.
يقول الله جل جلاله: ((وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)) ما تسعه طاقتها، وما تسعه قدرتها، وما سوى ذلك لم يكلف ولم يطالب به أحد.
قال الله تعالى: ((وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ)) لدى الله جل جلاله كتاب ينطق بالحق وينطق بأعمال العباد إن خيراً وإن شراً، والكتاب هو الذي يكتبه الملكان المكلفان عن يمين وشمال عن كل إنسان مكلف من الخلق في الأرض، فمن على اليمين يكتب الحسنات، ومن على اليسار يكتب السيئات، وذلك يحفظ إلى يوم الحشر والعرض على الله.
((وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ))، فهؤلاء عندما يأتون للحساب وللعقاب يأتون إما إلى جنة وإما إلى نار، فتنطق عليهم أعمالهم وكتبهم بالحق الذي صدر منهم وبالحق الذي علموه، فلا يظلم أحد في ذلك نقيراً، ولا تنقص الحسنات ولا تزيد السيئات، بل قد تكفر السيئات أو بعضها وتزداد الحسنات ويعظمها الله تعالى من حسنة إلى عشر إلى سبعمائة إلى ما يشاء الله جل جلاله.
والله جل جلاله لا يظلم نفساً شيئاً لا يضيع على إنسان عمله خيراً كان أو شراً، قد يغفر الشر ويزيد في الخير.(89/2)
تفسير قوله تعالى: (بل قلوبهم في غمرة من هذا)
قال تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63].
يقول الله عن هؤلاء الكافرين والمشركين والجاحدين: ليس الأمر معصية وخلافاً فقط، بل قلوبهم لم يفتحوها للإيمان، ولم يعوا ما يقول لهم نبيهم، ولم يعوا ما يقول لهم كتاب ربهم، فقلوبهم في غمرة، وفي ضلال وفي عماية وفي غواية، فلهم قلوب لا يعقلون بها، فلا وعي ولا فهم ولا إدراك؛ لأنهم لا يريدون ذلك، فزادهم ذلك عماية وضلالة، وزادت قلوبهم ركساً وجهلاً وتعمقاً في الباطل.
((بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ)) غمرة وجهل، وغمرة عدم إدراك ووعي.
((بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا)) أي: من كتاب الله ومن نبي الله محمد صلى الله عليه وعلى آله، ومن الدين الحق هذا، فالإشارة هنا تتناول الإسلام والقرآن والنبي عليه الصلاة والسلام، والمعنى بكل ذلك صحيح، وبكل ذلك تتم الآية معنىً ومبنىً.
((بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ)) فهؤلاء الكفرة ليست ذنوبهم الكفر فقط، بل لهم أعمال أخرى سيئة زيادة على الكفر: من سرقة، وزنا وفساد، ورباً، وأكل أموال الناس بالباطل، وسفك الدماء، وهتك الأعراض، ونكران الحق، والوقوف في وجهه، وبهذه الفقرة في هذه الآية الكريمة نعلم أن الحق مع من قال بأن الشرائع كلياتها وجزئياتها يخاطب بها المؤمن والكافر.
فأما المؤمن فتقبل منه إن أداها كما هي شرائط وواجبات وسنناً، وأما الكافر فالإيمان شرط في العمل وشرط في قبوله، فلا تقبل صلاة ولا زكاة ولا إحسان إلا ممن آمن بالله أولاً؛ لأن العمل هو لله، فمن أشرك فهو لمن يصلي، ولمن يزكي، ولمن يصوم، ومن يعبد، فهو لم يؤمن بالله الواحد، بل أشرك معه غيره، ومن أشرك بالله فعمله لشركاء الله، ولا يقبل الله من العبادة إلا ما كان خالصاً له.
((وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ)) أي: لهؤلاء الكفرة الجاحدين المشركين أعمال زيادة على الكفر: من سرقات وفجور وكذب وهتك أعراض واستباحة دماء، فهم يوم القيامة سيحاسبون على كل ذلك، فيحاسبون على الإيمان بالله الواحد، ثم يحاسبون على جزئيات الشريعة فيما أمر الله به ولم يقوموا به، أو قاموا به أو ببعضه لا لله ولكن لمعان أخرى في أنفسهم.
وفي إحدى الغزوات رأى الصحابة رجلاً أظهر من الشجاعة ومن البلاء ومن الحرص على قتل أعداء الله من الكافرين الشيء العجيب، وإذا به يسقط جريحاً، فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (هو في النار، فعجبوا لذلك، فقالوا في أنفسهم: إن كان هذا مع جهاده ومع بلائه ومع قتاله ومع شجاعته نهاية إلى النار! فكيف يكون حالنا؟! ومن الذي سيدخل الجنة بعد ذلك؟! وإذا بهم يأتون إلى هذا الجريح وهو يحتضر ويجود بنفسه، فقالوا له: يا فلان هنيئاً لك الجنة، قال: أي جنة! والله لا أقاتل لدين، ولا أقاتل لنبي، وإنما أقاتل حمية عن العشيرة، وحمية عن البلد)، كما يقال اليوم: وطنية وقومية، وهناك علموا أن الرجل كافر لا يؤمن برب ولا يؤمن بنبي ولا يؤمن بكتاب، وإنما دفعه لما دفعه إليه معان أخرى لا صلة لها بإسلام، ولا صلة لها بطاعة، ولا صلة لها برب ولا نبي، وقد سئل صلى الله عليه وسلم: (عن الرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل للغنيمة، والرجل يقاتل ليقال شجاع، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله العليا فهو في سبيل الله)، وهكذا: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، فمن نوى الشرك فلا عمل له سوى الشرك، ومن نوى الإيمان والإسلام فهو وعمله، فإن كانت النية صالحة وقام بالأعمال بشرائطها وواجباتها فله أجره وله ثوابه.
((وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ)) أي: قائمون بها يعملونها زيادة على الشرك وزيادة على الكفر، فليسوا فقط كافرين في أنفسهم، ولكنهم عملوا بمقتضى كفرهم، فحاربوا نبي الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا الأصحاب، وحاربوا المؤمنين، وحاربوا الدعاة إلى الله، وارتكبوا من الآثام ومن الجرائم ومن المخاطر ما هو مكتوب في صحائفهم، ومسجل في الكتاب الذي عند الله، الذي سينشر يوم العرض عليه.
((وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ)) أي: لهؤلاء المشركين سوى الشرك أعمال جاحدة وأعمال فاسقة سيحاسبون عليها، فهم قائمون بها وعاملون لها.(89/3)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب)
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون:64].
فهؤلاء الذين يعيشون حياتهم كلها مصرين على الكفر ومصممين على الشرك، يأبون إلا الجحود وإلا حرب الله ورسوله والمؤمنين، فهؤلاء يبقون هكذا إلى أن يأخذ الله أغنياءهم وكبراءهم ومترفيهم في الدنيا قبل الآخرة، وقد كانوا في نعم وترف، فما زادهم الإنعام ولا زادهم الترف ولا زادهم الجاه إلا جحوداً وكفراناً، ومن يكفر بالنعمة جدير أن يسلبها، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، والعذاب على الكفران بالنعمة سلبها وزوالها.
وهكذا سلط الله على الأغنياء والمترفين والمنعمين عندما أكلوا أموال الفقراء والمساكين، ولم يؤدوا الزكاة الواجبة، ولم يؤدوا حق السائل ولا حق المحروم، فسلط عليهم من يأخذ أموالهم ويصادر أملاكهم، ويذلهم مع ذلك جزاء وفاقاً لما كفروا بالنعمة.
حتى قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} [المؤمنون:64] أي: حتى إذا أخذ الله هؤلاء المترفين -من الترف والعيشة في بذخ وفي غنى- حتى إذا أخذ الله هؤلاء المترفين والأغنياء بالعذاب: بأن نزع عنهم أموالهم، وأزال عنهم صحتهم، وأزال عزهم وجاههم وسلطانهم، {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون:64] أي: يصيحون ويستغيثون، فحينئذٍ يتذكرون الرب، فيأخذون في الاستغاثة، فيستغيثون بالله إن كانت لا تزال عندهم بقية من إيمان، وقد لا يستغيثون إلا بالشيطان إذ كانوا كافرين في الأصل لا يؤمنون بدين، ولا برب، ولا بنبي، فيبقون على كفرهم.
((حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ)) ففي هذه الحالة ينسون كفرهم وشركهم وجرائمهم، وإذا بهم يصرخون ويجأرون ويستغيثون، ولا مغيث ولا صارخ إن هو إلا العذاب الذي حق عليهم جزاء أعمالهم وجزاء كفرهم.(89/4)
تفسير قوله تعالى: (لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون)
فقال الله لهم: {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ} [المؤمنون:65].
وهذا يعم الدنيا والآخرة، ((لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ)) بعد أن كفرتم وبعد أن أشركتم وبعد أن حاربتم الله ورسوله، فلم تطيعوا كتاباً، ولم تطيعوا نبياً، ولم تستجيبوا لدعاتكم ولا لعلمائكم، ولم تشفقوا على فقير أو مسكين فتعطوه حقه وتعطوه نواله وتؤدون له ما أمركم الله بأدائه.
فلا تصيحوا ولا تستغيثوا، فلا مغيث ولا صارخ، ((لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ)) أي: ليس لكم نصير دوننا، ولا يملك أحد من الخلق ملك أو جن أو إنس أن يغيثكم من عذاب الله، فذلك جزاء كفرهم وشركهم وعصيانهم.
((لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ)) أقرب ما يكون المعنى أن هذا يكون في الآخرة.(89/5)
تفسير قوله تعالى: (قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون)
قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:66 - 67].
ففي حال الحياة وحال قبول الأعمال أو رفضها كانت آياتي تتلى عليكم وجاءكم أنبياء الله، ورأيتم معجزات الرسل وقدرة الله على الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة ثم الإحياء والبعث، ((فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ)) كنتم تسمعون ذلك فتهزون أكتافكم وتسخرون بالتالي وبالقارئ وبالداعية، ثم تنقلبون متنكصين على أعقابكم القهقرى، فرجعتم إلى جاهليتكم الأولى وإلى شرككم الأول قبل أن يأتيكم أنبياؤكم، وقبل أن ترسل لكم رسلكم، وقبل أن تنزل كتب الله عليكم؛ لتعلموا الحق، وتميزوا بينه وبين الباطل.
فآلآن وقد عشتم بعد الموت ووجدتم ما كنتم تنكرون وقد أصبح واقعاً، وهاأنتم الآن قد بعثتم بعد الموت لتعرضوا على الله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} [المؤمنون:66]، الأعقاب جمع عقب وهو آخر الرجل، والمعنى: كنتم ترجعون إلى الوراء وترجعون القهقرى، فرجعوا للكفر، ورجعوا للشرك، ورجعوا للباطل والضلالة، وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، فالرجعي هو الذي يرجع للكفر، ويرجع للشرك، ويرجع لحالات الجاهلية، ويرجع لحالات الفوضى حيث لا نبي ولا كتاب ولا رسول، فكانوا يرجعون القهقرى وتركوا التقدم، وتركوا التجدد، وما التقدم والتجدد إلا في التمسك بكتاب الله، والالتزام بدين الله، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به ونهى عنه.
((مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ)) هذا الضمير لم يكن له ذكر ظاهر، ومن هنا قال البعض: (مستكبرين به) أي: مستكبرين متعالين متعاظمين على نبي الله، فالضمير يرجع على كتاب الله المتلو، وقيل: على البيت، وأقرب المعاني أنه يرجع على البيت، والخطاب يخص قريشاً خاصة.
((مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ)) أي: متعاظمين ببيت الله الحرام، فقد كانت قريش تزعم أنهم جوار زوار بيت الله لا يخافون أحداً ولا يخشون عذاباً، ولا يخشون نقمة، ويعتقدون أن ما هم فيه من شرك ومن أوثان ومن أصنام ومن تغيير دين إسماعيل ودين إبراهيم هو الحق الذي يعيشون عليه، ويرون بذلك أن لهم حقاً على جميع العرب وغير العرب؛ حيث حرسوا البيت وكانوا سدنته، وكانوا مستقبلين ضيوفه، وكانوا وكانوا، ولكن كل ذلك لم يفدهم شيئاً عندما بقوا على كفرهم وشركهم، فقد كانوا متعاظمين مستكبرين بالبيت، وقد حاولوا أن يضلوا البيت إلى أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأعزه، وكسر الأصنام ورمى بها ونبذها، وأقعد بلالاً على ظهر الكعبة يعلن كلمة الحق ويعلن شهادة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم أن يطوف بالكعبة حتى يزيل تلك الأصنام التي كانت على عدد الأيام (360) صنماً، فكسرها وجعلها شذر مذر ورماها، حتى لقد تمنى زنديق في هذا العصر ممن يقوم بالحفريات أن يخرج هذه الأصنام ويظهرها كأثر ويظهرها كتاريخ؛ شوقاً إلى عهد الوثنية، وشوقاً إلى عهد الأصنام، واقترح ذلك على الحكام قبل وبعد فخاب وخاب فأله.
((مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ)) (سامراً) ساهراً من السمر، وهي كلمة مفردة يراد بها الجمع، أي: كانوا سامرين ساهرين، ويراد بها الزمن، كأن تقول: سَمَراً، وهذا موجود في لغة العرب أن تذكر كلمة مفردة ويقصد بها الزمن، أي: مستكبرين به سَمَراً يهجرون.
((سَامِرًا تَهْجُرُونَ)) سامرين جميعاً ساهرين، و (تهجرون) قرئ يُهجرون ويهجرون من الهجر أو الهجران، أي: يسمرون حول الكعبة وحول البيت ويهجرون، أي: ينطقون بالهجر وبالفحش وبالسب، فكانوا يسبون نبي الله صلى الله عليه وسلم، ويتهمونه في صدق رسالته، وفي صدق الكتاب الذي أنزل عليه، وفي دعوته صلى الله عليه وسلم، فكانوا يسبون القرآن فيقولون عنه: شعر، ويقولون: سحر، كما يقولون هذا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم.
أو يهجرون من الهجران، أي: يهجرون الرسالة، ويهجرون النبي صلى الله عليه وسلم، ويهجرون الحق ويبتعدون عنه، ويهجرون كتاب الله، أي: هؤلاء الذي استكبروا وتعالوا بالكعبة وببيت الله الحرام لم يكن ذلك عن حق ولا عن إيمان ولا عن هدى، وإنما كان ضلالاً، وكان كفراً وكان جهلاً وكان إصراراً على الكفر، ولهذا عندما لم يعرفوا قيمة البيت وجلال البيت في سدانته وفي القيام عليه نزعه الله من أيديهم ودخله صلى الله عليه وسلم فاتحاً عزيزاً سيداً مظفراً عليهم، وهو ينشد نشيد الفتح: (الحمد لله الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده)، منكساً رأسه على بعيره بكل تواضع، وهو على جمل وليس على فرس، ومشية الجمل هوجاء ومشية الفرس تكون رقصاً، والنبي صلى الله عليه وسلم زيادة في التواضع لربه دخل على هذه الهيئة ولم ينسب لنفسه شيئاً، فالله هو الفاتح، والله هو الناصر، وهو قد أعاد الكل إلى الله، ولا شك أن كلاً منه جل جلاله، وهو يعلم بذلك المؤمنين والفاتحين والحاكمين؛ لأن الله يكرم المؤمن فتحاً وزيادة وغنىً وجاهاً؛ ليزداد بذلك تواضعاً وخنوعاً لله وطاعة لله، فالكل منه وإليه.(89/6)
تفسير سورة المؤمنون [68 - 76]
في هذه الآيات ينعي الله تعالى على الكافرين المشركين عدم تدبرهم لهذا الوحي، وعدم تفكرهم فيه وهو بلغتهم ولهجتهم، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، فهل يريدون أن يتبع الحق أهواءهم حتى يؤمنوا؟! فلو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيها، ولخربت البلاد وهلك العباد.(90/1)
تفسير قوله تعالى: (أفلم يدبروا القول)
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:68].
الكلام هنا لقريش، ولكن كما يقول علماء الأصول: العبرة بعموم اللفظ، فالخطاب كان وسيبقى إلى يوم البعث والنشور خطاباً لكل كافر كان على شكل أولئك الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكافرين، والكلام سوف يبقى كما أنزل خطاباً لكل مسلم، فللمؤمن الجنة وللكافر النار، فإذا قال ربنا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة:21] فهو خطاب للمؤمن والكافر، وإذا قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] فهو خطاب للؤمن وحده.
((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ)) أي: هل هؤلاء أصابتهم البلادة، وأصابهم العجز عن الفهم وتقدير المعنى وتدبره وفهمه؟ كيف لم يدبروا ولم يفهموا ولم يعوا ما أنزل عليهم من كتاب؟ فهو خير الكتب للناس، وخاتم الكتب للناس، فيه ذكرهم، وفيه تعليمهم، وفيه هدايتهم، وفيه ما يجعلهم سادة الدنيا وأئمتها وحكامها.
أفلم يدبروا كلام نبيهم ويفهموا قوله وهو يخاطبهم بلغتهم ولهجتهم، وهو منهم وإليهم، حسباً ونسباً؟ كيف جهلوا كل ذلك؟ فهذا استفهام إنكاري توبيخي تقريعي، فيوبخهم الله ويقرعهم كيف مع فصاحتهم وبلاغتهم ومع ذكائهم جهلوا وتبلدوا؟ فقد صار حسهم مطبوعاً طبع الحمر التي لا تعي ولا تدرك.
((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ)) أي: قول الله وقول رسوله، وقول الحق والمنطق.
((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ)) أو لأنه قد جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين من رسالة، ومن نبوءة، ومن كتاب، ومن وحي، أهذه علة للكفر، أو يجب أن تكون علة للإيمان في كونهم كرموا بين الآباء والأجداد بأن أرسل إليهم، وبأن شرفوا بذكرهم، وبأن شرفوا بالنبي منهم وإليهم، وبأن شرفوا بأن يقوموا برسالة ينشرونها في الأرض وهم سادتها ومعلموها وناشروها كما كان بعد؟ ((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ)) ما لم يأت آباءهم من رسالة ومن نبوءة ومن كتاب، وقد فسروا (أم) هنا بمعنى بل، ((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ)) بل جاءهم، ولا حاجة لهذا التأويل.
فالله تعالى يمتن عليهم بأنهم قد جاءهم من الخصائص ومن التشريف ومن التكريم ما لم يكرم به الآباء ولم يشرف به الأجداد، فجعل منهم نبياً من أوساطهم، ومن أشرافهم، من أوسطهم وأعلاهم شرفاً، يعرفون صدقه وأمانته، ويعرفون نشأته وصباه وشبوبيته، وقد جاءهم برسالة عن الله فكيف جهلوه؟ وكيف أعرضوا عنه؟ وكيف ابتعدوا عنه؟ ((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ)) وهذا الاستفهام إنكاري أن آباءهم لم تأتهم نبوءة ولم تأتهم رسالة، ولأول مرة أتى العرب رسول ونبي وكتاب.
ومن هنا فأهل الجاهلية لا يعذبون، وقد قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وما بعث رسولاً إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قبله للعرب رسول، ومن هنا يؤكد القرآن: ((أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ)) أي: عوضاً عن أن يشكروا هذه النعمة، وهذا الشرف، وهذه الخصيصة اتخذوها كفراً وجحوداً، وقد خصصوا بما لم يخص به الآباء والأجداد.(90/2)
تفسير قوله تعالى: (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون)
قال تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون:69].
أي: ما بال هؤلاء أين ضاعت عقولهم؟ وأين ضاع ذكاؤهم؟ وأين ضاعت فطنتهم؟ ألم يعرفوا هذا الرسول؟! ((أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)) كيف أنكروه وجهلوه وهو منهم وإليهم؟ فقد علموا ولادته، وعرفوا صباه، ونشأ بينهم، واشتهر بينهم باسم الصادق الأمين، وعلموا صدقه، وعلموا أمانته، حتى إن أبا سفيان بن حرب وكان زعيم الكفر وزعيم الشرك في مكة ذهب إلى الشام في تجارة، فسأل هرقل ملك الروم عن هذا النبي العربي الذي يزعم أنه نبي وأنه رسول للناس كافة، فسأل أن يؤتى له بمن هو قريب من العرب إلى النبي صلى الله عليه، فوجدوا أبا سفيان الذي هو أيضاً من قريش ومن أهل مكة ومن بيوتاتهم الكبيرة، فأتي به ومعه جماعة من أصحابه أيضاً من قريش، فأوقف هرقل أبا سفيان أمام وأصحابه خلف، وقال لـ أبي سفيان: أنا سائلك أسئلة فأجبني بالصدق، وقال لمن خلفه: إذا كذب فأشيروا لي برءوسكم حتى لا يتحرجوا مع زعيمهم، ولكن من خصائص العرب أنها لا تكذب، هكذا كانت أخلاقها حتى في الجاهلية، فـ أبو سفيان على عداوته للرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى حربه له وحقده عليه، عندما سأله هرقل أجاب بالأجوبة التي يعتقدها الحق، فسأله أيصدق؟ وسأله أيخلص؟ وسأله إذا عاهدكم أيفي؟ قال: نعم، ونحن الآن على عهد، وكانت حينئذٍ غزوة الحديبية، ولا ندري ما هو فاعل، قال أبو سفيان: لم أجد كلمة أدخل فيها إلا هذه، قلت: هو يفي، ولكن العهد قد قام الآن فلا ندري هل سيفي مستقبلاً أم لا، فكان مما سأله: هل تعرفونه قبل؟ قال: نعم، قال: ماذا تعرفون؟ قال: نعرف ولادته، ونعرف أبوته، ونعرف أمومته، وعرف بيننا بالأمانة وبالصديق، قال: هل كان يكذب؟ قال: لا، قال: هل كان أحد من آبائه يدعي ذلك أو يزعمه؟ قال: لا، وإذا بـ هرقل يقول له: من عاش بينكم هذه المدة الطويلة ولم يكذب على الناس جدير ألا يكذب على الله، ومن ليس في آبائه وأجداده من ادعى هذه الدعوى فلا نقول عنه: قام ليطالب بشيء سبق أن طالب به آباؤه وأجداده، وهكذا النبي عليه الصلاة والسلام عرف عند هدم الكعبة برأيه السديد، وعرف عند حلف الفضول برأيه السديد، وعرف عندما أراد أن يحضر ولا يزال شاباً صغيراً يافعاً إلى أحد أعراس مكة وإذا بالنوم يغلبه، فلا يرى مما يفعله الجاهلية شيئاً، يقول: (ولم أشعر إلا وحر الشمس على ظهري)، حدث هذا مرتين، وكانت له إرهاصات.
وهكذا جعفر بن أبي طالب عندما هاجر للحبشة بزعامة المهاجرين الأول سأله النجاشي عن هذا الذي يقول إنه نبي: أتعرفونه؟ قال: نعم، نعرف أمانته ونعرف صدقه ونعرف نشأته ونعرف أبوته ونعرف أجداده، وهكذا قال المغيرة بن شعبة عندما ذهب للتفاوض في حرب الفرس مع نائب كسرى، فسأله: أتعرفون محمداً هذا الذي كان يدعوكم لنبوءته ورسالته؟ وقد حدث هذا في خلافة عمر، قال: نعم نعرف صدقه ونعرف أمانته.
وهكذا يقول الله لهم: ((أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ))، أهؤلاء أنكروا نبوءة محمد وصدق محمد ورسالة محمد؛ لأنه رجل مجهول لديهم، ونكرة عندهم، فلا يعرفونه وظنوا فيه الظنون، وتوهموا فيه الأوهام؟! فهو استفهام إنكاري توبيخي بأن الأمر لم يكن كذلك، فهم جميعاً يعرفونه، فهو ابن وحفيد سيد مكة، وسيد جزيرة العرب عبد المطلب الذي كان موضع الإجلال، وموضع الإكرام، وموضع الاحترام من جميع أهل مكة، وكذلك كان والده الشاب عبد الله على صغره وعدم طول حياته ما كان يعرف إلا بالجد بينهم، وهكذا أمه آمنة، فلقد كان صلى الله عليه وسلم من بيئة صادقة، ومن بيئة معروفة بالصدق وبالأمانة وبالشرف وبالذكر، وعرفوا النبي صلى الله عليه وسلم خلال الأربعين عاماً قبل الهجرة بالصدق والأمانة، أفهذا الذي كان لا يكذب على الخلق وعلى الناس لمدة أربعين عاماً أبعد الأربعين سيكذب على الله؟! حاشى لله، هذا لا يقبله منطق العقل، ولا منطق الفهم، ولا منطق الناس.
((أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)) أي: جاهلون، وشأن المجهول أن ينكر، ولم يكن نبيهم مجهولاً.
ومن هنا فعلماء الجرح والتعديل إذا وجدوا في السند مجهولاً عطلوا العمل به، وأوقفوه إلى أن يعرف، فإن بقي مجهولاً سقط السند والمتن والعمل به.(90/3)
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون به جنة)
قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون:70].
أو يعرفونه ولكنهم اتهموه بالجنون، فقالوا: تارة مجنون، وتارة شاعر، وتارة وتارة، أصحيح هذا؟ ليس الأمر كذلك، وإنما قالوها شتيمة، وقالوها انتقاصاً ولم يقولوها عن يقين، فهم كانوا يعلمون منه العاقبة النبيلة، فقد كان وهو في شبيبته سبباً لتوائمهم ولتآخيهم، فقد كادوا يتقاتلون عندما أرادوا وضع الحجر الأسود في مكانه بعد أن بنوه وقد خربته السيول، فأخذوا يتنازعون من الذي سيحصل على شرف رفعه من الأرض إلى مكانه من الركن، وإذا بواحد منهم يقول: مادمتم لم تتفقوا على واحد منكم فلنحكم أول آت، وإذا بالآتي هو محمد صلى الله عليه وعلى آله، فقالوا: حكمناك، وكل قد سروا لما يعلمون من عقله ومن فكره وحسن تدبيره، فقالوا: يا محمد إن قومك كادوا يشهرون السيوف في وجوه بعضهم؛ لشرف وضع هذا الحجر في مكانه فماذا تقترح؟ فقال: ائتوني بثوب، فأتوه بثوب، ورفعه بيده الشريفة ووضعه عليه، وقال: ليتقدم واحد من كل فخذ من كل قبيلة من قبائل قريش، ومن قبائل العرب الموجودة في مكة، فحضروا وحملوه معه، فنالوا جميعاً شرف رفع الحجر، وإذا به بعد ذلك يحمله بيده ويضعه في مكانه، وهدأت الناهرة، وسكتت الثائرة، وعادوا للإخوة والمودة.
وحضر معهم صلى الله عليه وسلم حلف الفضول، وحلف الفضول: أنه جاء رجل من الخارج عرض تجارة فأخذت ولم يأخذ أثمانها، فوقف يصيح: يا لقريش، يا عبد المطلب يا لفلان يا لفلان، أأظلم بينكم وتؤخذ أموالي ولا آخذ ثمنها؟ وإذا بكبرائهم يتنادون ويجتمعون في دار الندوة التي هي الآن الصفا والمروة، وكان برلمانهم وموضع شوراهم، وموضع مفاوضاتهم وكلامهم، فحضروا واتفقوا جميعاً وكانوا في ذلك متفضلين، أي: اجتمعوا من غير أمر يأمرهم به أحد.
وحضر معهم صلى الله عليه وسلم فزكى وأيد عملهم، وشجعهم عليه، وهو في العشرين أو تجاوزها بقليل، وقد قال في النبوءة عليه الصلاة والسلام: (لقد حضرت حلف الفضول ولو أدعى لمثله اليوم لأجبت) أي: لو يدعى إلى اجتماع الأمم، والاجتماع بين شعوب الأرض على نصرة الضعيف، والأخذ على يد الظالم الجائر البطاش لفعل ولأجاب صلى الله عليه وسلم، وكان بذلك قد شرع لنا أننا نتنادى ونتداعى لنصرة الضعيف مع أي إنسان يدعو إلى ذلك، فالإسلام يحرص على نصرة الضعيف، وزوال الظلم، وأداء الحقوق، وعدم أذية الخلق مؤمنين وغير مؤمنين، ولكن غير المؤمنين نطالبهم بالإسلام، فإن رفضوا فالجزية، فإن رفضوا فالسيف؛ لأن دين الله يجب أن يكون هو السيد وهو الشرع، وهو الحاكم في الأرض، ورايته هي الخفاقة دون سواها.
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون:70].
قال الله لهم: لم يكن به جنة، وهو أعلى من ذلك، وما كنا لنرسل رسولاً مجنوناً أو نبياً مجنوناً، فقد جاء بالحق ودحض به الباطل، وجاء بالقرآن وهو الحق من الحق، وجاء بالسنة بياناً للقرآن، وهي حق لشرح الحق، وجاء بدعوة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول، فقد جاء بالحق، ودعا إلى الحق، ونصر الحق، ورفع السيف لنصرة الحق ولمحاربة كل معاد للحق، ((بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ))، وأكثر هؤلاء الجاحدين والمسرفين والكافرين يكرهون الحق، ويبتعدون عن الحق، ويتمسكون بالباطل.
والباطل هو كل ما سوى الحق، فكل ما سوى الإسلام باطل، وكل ما سوى الحقيقة الإلهية باطل، وكل ما سوى الحقيقة النبوية باطل، وكل ما ليس شرعاً وليس ديناً حقاً فهو باطل في باطل، وإنما الحق كتاب الله وسنة رسول الله، وإنما الحق ما دعا إليه الله ورسوله، ودان به المسلمون.(90/4)
تفسير قوله تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم)
قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:71].
هؤلاء الذين لا يتبعون إلا الباطل، وسموا الباطل حقاً، والحق هنا هو اسم من أسماء الله، والحق هو كل ما دون الباطل، فلو اتبع الله تعالى أهواءهم ونزواتهم وأنزل القرآن حسب هواهم وحسب رغائبهم: ((لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ))، ولو كان فيهما آلهة لفسدتا، ولعلا بعضهم على بعض، ولو طلبوا أن يعطى الأغنياء وأن يذل الفقراء لفسدت الأرض، ولو نزل القرآن على حسب أهوائهم ونزواتهم لفسدت السماوات والأرض، وفسد نظام الكون، ونظام الحياة، ونظام الأحكام، ونظام الدولة، ولذلك فالحق لا ينطق به إلا الحق، والحق هو الله جل جلاله، وهو الذي أنزل الحق كتاباً، وأرسل الحق رسولاً، وزاد الحق بياناً بالسنة النبوية لصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام، ولذلك لا ينبغي أبداً للغوغاء وللمبطلين من الناس أن يستشاروا، فهنا جاءت نظم برلمانية يدعون إليها باسم الديمقراطية، فيجتمع فيها كل من هب ودب.
وقد حدث هذا في كثير من ديار الإسلام، فهم يتذاكرون: أنقول: دين الدولة الإسلام؟ فقال الأكثر: لا، فتركوا، وبهذا الاعتبار حلت الخمور، وحل الزنا، وانتشر الفساد، وكثر الربا، وكثرت معصية الله في الأرض، وعم الفساد البر والبحر؛ لأن هؤلاء أرادوا أن يخضعوا الحق لأهوائهم، والله لم يجعل الحق إلا إلى أهل الحق، والله لم يجعل الحق في الشورى إلا لأولي الأمر منكم، ومن هم أولوا الأمر؟ هم العلماء وحكام المسلمين العادلون.
وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، ويقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] وأولو الأمر هم الذين يستنبطون، ولا يستنبط إلا عالم، ولا يستنبط إلا حاكم عالم، وأما أن تترك الأمور سبهللاً لكل جاهل، ولكل حيوان، ولكل من لا يستطيع أن يحكم في بيته مع زوجته ومع أولاده، فكيف نحكمه في رقاب شعب وأمة ودين وشرع؟! إن هي إلا الأباطيل، وإن هي إلا الأضاليل، وبذلك ضحك الاستعمار اليهودي والنصراني والشيوعي على عقول المسلمين، فأفسد برامجهم، وأفسد مدارسهم، وأفسد جامعاتهم، وأصبحوا يجرون خلف هذا الباطل ويقولون: حرية وديمقراطية.
وهكذا إذا كان هناك حيوان لا يكاد يميز بين كوعه من بوعه، وبين الحق والباطل، وبين المؤمن والكافر فإنهم يحضرونه فيما يسمونه بالبرلمان؛ ليعطي من الآراء ما هو ضد لله، وضد لرسول الله، وضد لكتاب الله، وضد لأحكام العدل وأحكام الحق، والله يقول عن هؤلاء وأمثالهم: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71]، وقد حدث، فأفسدوا الأرض وأفسدوا السماوات بطائراتها، فحتى في الأجواء يشربون الخمور ويفسدون مع الشابات ومع العجائز، فأفسدوا الأرض وأفسدوا السماء، ولكن هيهات فللباطل صولة ثم يضمحل، ويأبى الله إلا أن ينصر دينه وأن يرفع الحق وأعلامه، وهكذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها وهي على ذلك إلى يوم القيامة).
((وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)) (من) اسم موصول تطلق على العاقل بانفراده، يقال: جاء الرجال، فتسأل أنت: من؟ فيقال لك: أحمد وعلي وأبو بكر، و (ما) اسم موصول يطلق على غير العاقل بانفراده، ويقال: جاء قطعان من الدواب والماشية، فتقول أنت: ما هي؟ فيقال لك: هي بقر وغنم وماشية، ولكن (من وما) إذا عمت فإنها تشمل العاقل وغير العاقل فتطلق (من) عليهما (وما) عليهما، والقرآن بهذا صريح في كثير من الآيات: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:284]، فما هنا تطلق على العاقل وغير العاقل.
{أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [يونس:66] (من) هنا للعاقلين وغير العاقلين.
((وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)) (من) هنا للعاقل وغير عاقل، من مدرك وواع وغير مدرك وغير عاقل.
قال تعالى: ((بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)) الذكر هنا الشرف، يقول الله عن هؤلاء العرب الذين حاربوا نبي الله، وعن هؤلاء العرب الذين لا يزالون يعيشون بيننا ممن تنكروا لنبيهم ولدينهم ورجعوا القهقرى، فارتد من ارتد، وعصى من عصى، فألغوا الشريعة وألغوا الحكم وحكموا بغير ما أنزل الله.
((بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ)) أتيناهم بشرفهم، والذكر هنا الشرف، وهكذا قال الله: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44]، وإنه لشرف لك يا محمد ولقومك؛ لأنهم هم الذين كلفوا بفهم الرسالة، وبنشر الرسالة، وببذل الأرواح رخيصة في سبيل الرسالة، وهذا واقع التاريخ، فالنبوات نزلت على العرب على محمد سيدهم صلى الله عليه وسلم، فالذين قاموا معه هم المهاجرون والأنصار في مكة والمدينة الحرمين الشريفين، ثم في بقية جزيرة العرب، وذهب صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى والإسلام لم يخرج بعد عن جزيرة العرب، فخرج على يد العرب ابتداء من أبي بكر، ثم لقي ربه، ثم قام عمر فنشر الإسلام في العراق وفي الشام وفي مصر وفي فارس وفي المغرب، وهكذا خلال نصف قرن عم الإسلام الأرض من أقصى بلاد الصين شرقاً إلى أقصى بلاد الغرب غرباً، وقال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فمن لم يكن كذلك لم يأمر بمعروف، ولم ينه عن منكر أو فعله، ولم يكن ذلك بناءً على الإيمان بالله، بل كان بفلسفات فارغة وبآراء باطلة، وكان بمذاهب وافدة يسمونها الاشتراكية والماسونية والوجودية والشيوعية مما أتى به اليهود، ودعا إليه أفراخ اليهود، فاستمسك به كذلك من ذل وأذل معه غيره بذلك، وتركوا كتاب الله وراءهم ظهرياً، وتركوا القيادة المحمدية، وتركوا قيادة الأصحاب من الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة، وتركوا قوانينهم التي أتت بالحق ودعت للحق وكان فيها شرفهم، وكان فيه ذكرهم، فالله تعالى قرع هؤلاء: كيف تركوا القرآن وفيه شرفهم، وتركوا الإسلام وفيه ذكرهم وعزهم؟! ((بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)) أعرضوا عن شرفهم، وعن ذكرهم، وعن التنويه بهم؛ جهلاً وضلالاً، وانتحروا وذبحوا أنفسهم فخسروا الدنيا والآخرة، على أن المسلمين في الإسلام سواسية، (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ولكن يبقى الحق ويبقى الشرف للداعية الأول ومن خلفه، فقد قال صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لأن يهدي الله على يديك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس)، فمن هدى الله على يده إنساناً من كفر إلى إيمان، ومن عصيان إلى طاعة، ومن زندقة إلى يقين وإلى إيمان صادق، فللمطيع الأجر والثواب، ولمن علمه ولمن وجهه أجره وثوابه، (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزورها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).(90/5)
تفسير قوله تعالى: (أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير)
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون:72].
أي: يا محمد أم أكثرت عليهم وأثقلت كواهلهم وطلبت مالاً وأجراً على ما هديتهم إليه، فهو استفهام إنكاري قرعهم به وهو غير موجود، ولكن قال لهم: هل أنتم طولبتم بمال وبأجرة على كون محمد جاع من أجلكم وسهر من أجلكم وجرح من أجلكم وتحمل من أجلكم وكان حريصاً عليكم، وكان يحزنه ألا تؤمنوا، وكان عزيزاً عليه كفركم وجحودكم وبعدكم عن الإسلام؟ كلا، ومع كل هذا أبيتم إلا قتاله وإلا جحود هدى الله إلا من رحمه الله، وقد تم ذلك بعد ذلك: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} [الطور:40] وهذا لم يحدث، فهو أيضاً استفهام إنكاري يقرعهم الله به ويوبخهم، فهل فررتم من دنانير ودراهم وأجرة على هذا الدين؟ فهذا لم يكن كذلك.
((أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا)) أي: أجرة وشيئاً مضروباً عليكم كضريبة مقابل الهداية والإسلام.
((أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا)) أم تسألهم يا محمد خرجاً، ((فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ)) وأجرة ربك خير لك، وثواب ربك خير لك، ومن هنا حرم صلى الله عليه وسلم الصدقة والزكاة على أهل بيته؛ حتى لا يقول المشركون: قد شرع في دينه ما يغني أتباعه وأولاده وأسرته، كالأسر الحاكمة عادة، فالله لأجل ذلك حرم ذلك ألبتة، وما كانوا يأخذون إلا ما تأخذه سيوفهم حرباً ونصلاً وغلاباً من غنائم وفيء، وذاك ليس لأحد الحق أن يمتن فيه؛ فلم يؤخذ من المسلمين، وإنما أخذ من الكافرين بعد أن ذلوا، فوزعت أموالهم، وغنم فيؤهم لهؤلاء المجاهدين والمقاتلين والمحاربين.
((أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ)) قرئ: (أم تسألهم خراجاً) والمعنى واحد، وهي من القراءات السبع المتواترة، {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} فلست في حاجة إلى مالهم ولا أوساخ أيديهم، فجعل الله رزق نبيه قبل النبوءة بالعمل، ففي الطفولة برعاية الغنم، فقد رعى الأنبياء جميعاً، وعند شبابه كان تاجراً في مال خديجة مضاربة، ووجد حصته بعرق جبينه وبكد يمينه صلى الله عليه وسلم، وبعد النبوءة قاتل وجاهد وكان على رأس المحاربين، فغنم الغنائم التي حللها الله للمؤمنين والمجاهدين والمسلمين، وجعل الكافرين ليسوا أهلاً لا لبلد ولا لتملكهم، فملك أرضهم وأموالهم حتى نساءهم وبناتهم إلى الفاتحين والمجاهدين، ((وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)).(90/6)
تفسير قوله تعالى: (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم)
قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون:73].
أي: أنك لم تطلب منهم أجراً، ولم تطلب منهم مالاً، ولم تطلب منهم رياسة، {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون:72].
قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون:73].
أي: دعوتهم إلى الحق الواضح المستقيم الذي لا عوج فيه، ودعوتهم إلى العز والشرف، ودعوتهم إلى الصلاح، ودعوتهم للأمن، ودعوتهم لرفع الظلم، ودعوتهم للإحسان إلى الفقير، والرحمة بالأهل والولد وذوي الأرحام، وما دعوتهم إلا إلى الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا اختلاف ولا نزاع، وما الطريق المستقيم إلا كتاب الله الكريم، والإسلام البين الواضح، والسنة المطهرة التي كانت شرحاً وبياناً لكتاب الله، كما يقول الإمام الشافعي: ما من سنة وردت عن نبينا صلى الله عليه وسلم إلا وكانت شرحاً وبياناً لكتاب الله.
قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74].
ولكن الناكبين عن الصراط، المنحرفين عنه، الزائغين أمامه، الضائعين الذين لم يتبعوا صراطاً مستقيماً، ولا هداية قيمة، هؤلاء الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، والذين لا يؤمنون بالبعث بعد النشور، هؤلاء الكافرون المكذبون لأنبيائهم، الجاحدون لكتب ربهم، الناشرون للفساد بين الناس، السفاكون لدماء الناس، الذين لم يعيشوا وهم حال كفرهم إلا للفسق وللكفر ولنشر الظلم والباطل.
وأما طريق المؤمن، وأما ما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وعلى آله فهو الصراط المستقيم، والحق الأبلج الذي ليله كنهاره لا يزيغ عنه إلا هالك.(90/7)
تفسير قوله تعالى: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر)
قال تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75].
قال ابن عباس حبر القرآن رضي الله عنه: (ولو) هي لمنع ما بعدها البتة، فحيث جاءت (ولو) في القرآن أو في السنة المطهرة فهي للمنع الأبدي لما بعدها.
((وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ)) أي: هؤلاء المشركين الجاحدين وهم على شركهم، ((وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ)) أزلنا ضرهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حاربهم فانتصر عليهم، وجازاهم بالجريمة الواحدة عذاباً أليماً، فغزاهم في غزوة بدر، وقتل من قتل وأسر من أسر، وأخذ أموالهم، ودخل مكة ظافراً منتصراً عزيزاً سيداً، فأخذ البلد وجمع الكافرين وأنذرهم وتهددهم: (ماذا ترون أني فاعل بكم معاشر قريش؟ فقالوا له: أخ كريم وابن أخ كريم) وإذا به يرحمهم ويشفق عليهم، ويعفو عنهم عفو القادر، وترك لهم أجل الإيمان والإسلام، ففر من فر، وأسلم من أسلم، وحسن إسلام من حسن، وعاد من فر فأسلم وحسن إسلامه، وأباح دماء أربعة عشرة إنساناً: ست من النساء وثمانية من الرجال، وقال: (اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة)، فالحرم لا يجير عاصياً.
وقد أكثروا من إيذاء المستضعفين من المؤمنين الذين بقوا تحت سلطانهم وأهلهم في مكة، فأذلوهم واستعبدوهم شيوخاً وشيخات وأطفالاً صغاراً وكباراً، حتى قتلوا من قتلوا، وأمرضوا من أمرضوا أمراضاً مزمنة، فدعا عليهم صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم سنين كسني يوسف)، فأصيبوا بالجدب سنوات حتى اضطروا إلى أكل الكلاب وأكل الجيف، حتى ذهب إليه أبو سفيان فقال له: يا محمد! إنك تقول: أرسلت رحمة للناس، ونحن أرحامك وأهل بلدك وسدنة بيت الحرام، ادع الله تعالى أن يرفع ما بنا من ضر، فدعا لهم، فما زادهم ذلك إلا جحوداً، حتى مكنه الله من رقابهم ومن بلادهم فطهرها من الشرك والأوثان.
((وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ))، والسورة مكية، وهكذا كانوا، فكشف عنهم بعض ذلك في الدنيا لا في الآخرة، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] ففي الدنيا قد يرحم الكافر إمهالاً؛ عساه أن يؤمن ويسلم، وعساه يوماً أن يقول: ربي الله.
((وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ)) أي: من قهر ومن جدب وقحط وذل واستعباد، ((لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ)) لتمادوا ولأصروا على كفرهم وطغيانهم وضلالهم وعمايتهم.
((يَعْمَهُونَ)) يتيهون في الأرض تيهاناً، فيفقدون البصيرة فلا يميزون حقاً من باطل، ولا ليلاً من نهار، ولا توحيداً من شرك، ولا إيماناً من كفر، وهكذا كان حالهم في الدنيا، فقد رحمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياناً وعاقبهم أحياناً، وما زادتهم رحمته إلا طغياناً وفساداً إلى أن مكنه الله من رقابهم، وأباد خضراء من بقي منهم على الكفر، وبعد ذلك بقيت جزيرة العرب كلها مسلمة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لقد يئس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب بعد اليوم)، فهذه بشرى بشر بها المصطفى منذ 1400 عام أن الجزيرة العربية لن ترتد عن الإيمان، ولن تصبح يهودية ولا نصرانية، ولن تصبح مشركة يوماً من الأيام، وقد تكون هناك جهالات، وقد تكون هناك ضلالات، ولكن العلماء والدعاة ومن وفقهم الله يعلمونهم، ويرفعون جهلهم، ويزيلون ضلالهم تبعاً لأسوتهم الأعظم صلى الله عليه وسلم، والعلماء ورثة الأنبياء، وهذا واجبهم في جزيرة العرب وغيرها من ديار الإسلام عامة، بل في الأرض كلها.
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران:110]، ومن الأمر بالمعروف في الدرجة الأولى الدعوة إلى الإسلام، والدعوة إلى لا إله إلا الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله.(90/8)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76].
فهؤلاء عذبهم الله وانتقم منهم بالأسر والقتل والتشريد والطرد، وهذا في كل كافر وليس الأمر مقصوراً على العرب فضلاً عن قريش، فعل هذا باليهود في المدينة، فقتل في يوم واحد تسعة وخمسين واحداً، وأخرجهم من دورهم وأخذ دورهم، وطرد الكثير منهم، وأوصى بطرد الباقين، فما زادهم ذلك إلا كفراناً وجحوداً، ومن ذلك الوقت وإلى اليوم منذ 1400 عام ما زادهم ذلك إلا جحوداً وإلا حقداً على سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وحين دخل هؤلاء القردة والخنازير إلى بيت المقدس أخذ منهم من كان يعيش في بلاد العرب يشتم محمداً صلى الله عليه وسلم باسمه، ويشتم المسلمين، وهذا استدراج من الله لهم، وسيخرجهم بعد ذلك في ذل وهوان مسحوقين بالأقدام، وصدق الله جل جلاله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167]، فلا مندوحة ولا مفر من غضب الله عليهم الدائم، ولكن العلامة والإشارة بيننا وبين ربنا أن يدخلوا مرة ثانية إلى المقدس، وقد فعلوا وانتهوا، وسيأتي الله بمن يدمرهم ويذلهم وهم في ذل مع كل ذلك، ومن يسحقهم ويقضي عليهم، ومن يخرجهم لا من القدس فقط بل من جميع ديار المسلمين، ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) إلى يوم الحشر والنشر.
قال تعالى: ((وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا)) أي: ما خشعوا لربهم، وما ذلوا لربهم، وما اعترفوا بعقوبته، ((وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)) لم يتضرعوا لله، ولم يطلبوا الله، ولم يذلوا لله، ولم يقولوا: اللهم اغفر لنا فقد أسأنا واعترفنا بذنوبنا، بل ما زادهم العذاب إلا كفراً وإصراراً على الكفر، وعداء وحقداً على محمد، والكتاب المنزل على محمد، وأصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله.(90/9)
تفسير سورة المؤمنون [76 - 80]
يمتن الله تعالى على عباده بأنه هو الذي أحياهم وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وأنه الذي رزقهم وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، إذاً فهو المستحق للعبادة، فلم عبد المشركون غيره، واستكانوا لغيره ممن لا يصنع شيئاً ولا يضر ولا ينفع؟!(91/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم)
قال الله عزة قدرته: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون:76 - 77].
لا يزال الله جل جلاله في هذه الآيات يسوق عذابهم ووعيدهم وتهديدهم فيما إذا بقوا مصرين على الكفر، وسادرين في الشرك، والكلام لهم وهو لأمثالهم كذلك متجدداً إلى يوم الدين.
ذكر جل جلاله أن هؤلاء بعد أن أرسل إليهم، وبعد أن بلغوا الدعوة، وبعد أن بقوا على الكفر والإصرار عليه، أخذهم الله بالعذاب الشديد، وأخذهم بالنقمة؛ لعلهم يرعوون، ولعلهم يتوبون، وإذا بهم يبقون على ما هم عليه، فلم يستكينوا ولم يذلوا لربهم، ولم يخشوا ربهم، ولم يمدوا أيديهم بالدعاء ضارعين داعين راجين، ولم يقولوا: ربنا اغفر لنا يوم الدين.
وقد دعا عليهم صلى الله عليه وسلم بسنين كسني يوسف، فقحطت الأرض، وأمسكت السماء غيثها وخيراتها، فجاعوا حتى جاء أبو سفيان كبيرهم يقول: يا محمد! إنك تزعم أنك أرسلت رحمة للعالمين، وهؤلاء ذوو أرحام قد قتلت رجالهم، وأجعت نساءهم، فادعُ الله لهم ليرفع عنهم ما هم فيه من بلاء، فدعا لهم، فرزقوا غيثاً مغيثاً، وخيراً عميماً، وإذا بهم ما زاداهم ذلك إلا كفراً وعناداً، ثم أسلم كبير نجد بعد أن أسره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ثمامة بن أثال فربطه في المسجد النبوي ثلاثة أيام، فكان عند صباح كل يوم يقف عليه صلى الله عليه وسلم عندما يخرج لصلاة الصبح ويقول: (هيه يا ثمامة ما عندك؟ فيقول له: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعفُ على شاكر، وإن ترد المال فلك ما تريد)، وكرر ذلك في اليوم الثاني ثم اليوم الثالث، وهذا جواب ثمامة.
وإذا به في اليوم الثالث يطلق سراحه صلى الله عليه وسلم ويعفو عنه، فيخرج الرجل فيغيب زمناً ثم يأتي إليه فيقول: مدّ يدك يا محمد! أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ولا والله يا رسول الله! لا يصل لقريش بعد اليوم حبة من القمح أو الحنطة من نجد، فأسلم ثمامة وأصبح من المجاهدين المنافحين المدافعين عن الإسلام ومن الصحابة المخلصين، وأمسك ميرته وأمسك حبه وأمسك حنطته على مكة، حتى ضاق بها المقام واشتد بها الجوع.
وهكذا عادوا مرة ثانية يستعطفون ويتوسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتوسط لهم إلى ثمامة، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام ثمامة بأن يسمح بأن تذهب الحنطة والحب إلى أهل مكة، فما زادتهم هذه الشفقة والرحمة إلا كفراً وعناداً، فما استكانوا وما خشعوا وما ذلوا لله ولا آمنوا به، ثم لم يتضرعوا، ولم يتوبوا، ولم يمدوا أيديهم لله راجين داعين تائبين من شركهم وكفرهم.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون:77] بقي هذا الإصرار، فكان عذاب الدنيا، ثم ماتوا فهلكوا ففتح الله عليهم باباً في جنهم ذا عذاب شديد.
هذا العذاب الذي كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها؛ ليذوقوا العذاب، فتح عليهم باباً من نقمته وباباً من عذابه المقيم الأبدي؛ لشركهم ولكفرهم، {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون:77]، فبعد أن ابتلوا ووجدوا ما كانوا ينكرونه في حياتهم من البعث والنشور، ومن العذاب على الشرك والكفر، وجدوا أنفسهم في واقع ذلك، وإذا بهم يقذفون في جنهم مع العذاب المؤلم، ومع العذاب الشديد، وإذا بهم إذ ذاك يرون من ربهم ما لم يكن يخطر لهم ببال، وهم مشركون كافرون جاحدون، وإذا هم مبلسون من رحمة الله، أي: يائسون، فيئسوا من رحمته، ويئسوا من مغفرته؛ لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فلا مغفرة للشرك، ولا مغفرة للكفر، ولا مغفرة للجحود، وبعد أن بعثوا هيهات الرجوع، فقد مضت الأيام في الدنيا، فلم ينتهزوا شبابهم، ولم ينتهزوا دنياهم فيتوبوا إلى الله يوماً، ويقولوا: ربنا اغفر لنا يوم الدين، وهكذا قد يئسوا من الرحمة، وسلموا لملائكة غلاظ شداد كالحي الوجوه، لا يعصون الله ما أمرهم، وهم مطيعون في كل ما أمر الله به؛ جزاءً وفاقاً للكفر والشرك الذي صنعه هؤلاء في دنياهم.
{حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون:77] أي: إذا هم في ذلك الباب وذلك العذاب الشديد مبلسون، أبلسوا أي: يئسوا، ولم يعد يخطر لهم ببال أن يرحموا، أو أن يستغفروا، أو أن يتوبوا؛ لأن الأمر أصبح أمر شهود وحضور، والإيمان لا يتم إلا في الدنيا إيماناً بالغيب، وإيماناً بتصديق الرسل، وإيماناً بكتب الله المرسلة على رسله، وأما وقد أصبح الأمر واقعاً فلا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.(91/2)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار)
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78].
اسأل هؤلاء من الكفرة والجاحدين، ومن أعداء الرسل والصالحين، ومن المكذبين بكتب الله التي جاءتهم، من الذي خلقكم من غير مثال سابق؟ ومن الذي خلق لكم الأسماع فأصبحتم تسمعون؟ ومن الذي خلق لكم الأبصار فأصبحتم تبصرون؟ ومن الذي خلق لكم القلوب فأصبحتم تعون وتفهمون؟ هل أولئك الذين جعلتموهم شركاء لله كمناة والعزى؟ أو مريم وعيسى؟ أو العزير والعجل؟ أو الملائكة الذين سميتموهم بنات الله؟ أو غير ذلك من جماد وحيوان وإنس وملك وجن؟ هل هم الذين أنشأوا وخلقوا لكم هذه الحواس فأصبحتم سامعين بعد إن لم تكونوا كذلك؟ فقد كنتم مضغة لحم، وكنتم نطفة، وكنتم جنيناً في أرحام أمهاتكم لا سمع ولا بصر ولا وعي لكم، ثم بعد ذلك رزقكم الله من الحواس ما تعيشون بها، وما تدركون بها، وتميزون بين الحق والباطل، فمن الذي أنشأ لكم ذلك واخترعه وخلقه وابتكره؟ (قليلاً ما تشكرون) قلما تشكرون الله على نعمه الظاهرة والباطنة، فالله أنزل وحياً وكتباً سماوية مع أنبيائه وعباده المكرمين من الرسل؛ لينذر خلقه، ولينذر عباده، فإذا جاءوه جاءوه متقين، وجاءوه سالمين من الشرك والكفر والمعصية والخلاف؛ لتبقى حجة الله البالغة، حتى إذا هلكوا وأصبحوا بأمس الدابر، ودخلوا قبورهم وجاء الملكان يسألان من في القبر: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما صلاتك وما زكاتك؟ فإنهم يجيبون بما علموه، وبما قاموا به، وعبدوا به ربهم، وأما إذا جاء وقت السؤال فأخذوا يقولون: لا نعلم، ولم ندرك، سمعناهم يقولون: جاءنا نبي فلم نؤمن به، فيا هلاك هذا، ويا بلاءه ويا عذابه الدائم.
{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [المؤمنون:78] الضمير يعود إلى الله تعالى، والضمير هنا للغائب ولكنه يكاد يكون أعرف من كل معرف، فهو أعرف حتى من (أنا) للمتكلم، ومن (أنت) للمخاطب، فعندما يطلق (هو) فلا يعنى به إلا الله جل جلاله، {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ} [المؤمنون:78] هو الله، {الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ} [المؤمنون:78] خلقه وابتكره، و (السمع) بالألف واللام هو للجنس، أي: الأسماع، أي: سمع كل واحد منا منذ خلق أبانا الأول آدم وأمنا الأولى حواء وإلى آخر إنسان في الأرض، وقد يبتلى الإنسان فلا يكون له سمع، ولا يكون له بصر، ويكون مجنوناً فلا يكون له وعي، ولكن هذا بالنسبة للمجموع يكون نادراً وقليلاً، والأصل في الأشياء العموم.
{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [المؤمنون:78] جمع بصر، والأفئدة: جمع فؤاد، وهو العقل، ويطلق على القلب، وبكليهما يعي الإنسان ويعقل، ولو أصيب قلبه لمات، ولو أصيب عقله لَجُنّ، فلا إدراك ولا وعي ولا فهم، {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78] يا أيها الناس! فلا تشكرون الله على نعمه الظاهرة والباطنة، ولا على ما أكرمكم به من مرسلين يأتونكم لتعلموا ولتؤمنوا، ولينذروكم يوم التلاق، يوم هم شاخصون، ويوم هم معروضون على الله.(91/3)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون)
{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المؤمنون:79].
(ذرأكم) أي: خلقكم، فهو الذي خلقنا على الأرض، وملكنا إياها ومنافعها، فنأكل من ثمراتها ومن حيواناتها، ونشرب من مياهها، ونعيش في أجوائها صيفاً وشتاءً وربيعاً وخريفاً، وجعلنا خلفاءه في الأرض، فقال ربنا للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، فجعلنا خلفاء لنحكم بالعدل، وندعو لعبادة الله، ونقاوم الشرك، ونقضي على الظلم، فإذا قام الإنسان بهذه المعاني كان خليفة حقاً، وقد قام بما خلفه الله عليه، فإذا لم يقم كان مشاكساً، وكان مخالفاً، وكان عبداً عاقاً، فيعاقب بما يعاقب به العققة والمخالفين لأمر الله من المشركين والعصاة.
{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون:79] أي: خلقنا في الأرض ولم يخلقنا في السماء، وجعل لنا كل ما عليها بحاراً وجبالاً وأشجاراً، رجالاً ونساءً، أطفالاً وخدماً، وجعل الكل مسخراً يخدم بعضهم بعضاً، وكلنا فقراء إليه، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، فمهما استغنى الرجل منا، ومهما ملك الرجل منا فهو يحتاج لمن يخبز له، ولمن يبني له، ولمن يطبخ له، ولمن يخيط له، ولمن يعالجه إذا مرض ولمن ولمن، وهكذا سخر بعضنا لبعض، وخدم بعضنا بعضاً، والغني المطلق الذي لا يحتاج إلى مؤازرة ولا مشاركة هو الله جل جلاله، ربنا وإلهنا وخالقنا عز وجل وتعالى مقامه.
{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المؤمنون:79]، فقد خلقنا مدة وزمناً معيناً له بداية وله نهاية، وأوجدنا من العدم، ثم سيميتنا، ثم سيحينا مرة ثانية، ويحشرنا إليه ونقف بين يديه لنحاسب على حياتنا وما صنعنا فيها: هل صدقنا رسلنا؟ وهل آمنا بربنا؟ وهل أطعناهم فيما أمرونا به وتركنا ما نهونا عنه؟ وهنا ذكر الحشر إنذاراً وتهديداً بأنه قد ذرأنا في الأرض ولم يتركنا عبثاً، ولم يخلقنا للعب والهوى، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فهل هذه العبادة التي خلقنا الله لها ومن أجلها قد قمنا بها حق القيام أو بعض القيام؟ وهل استغفرنا الله على النقص وعملنا جهدنا في بعض، عسى الله أن يغفر ذنوبنا؟ وأعظم شيء أن يعيش الإنسان موحداً وأن يموت موحداً، فيعبد الله ولا يشرك به أحداً، ويصدق رسله، ويصدق كتبه فمهما كان فهو إلى مغفرة في النهاية، إما بعد أدب وعذاب في النار، وقد يغفر ذلك بلا عذاب ولا نار، والله تعالى لا يسأل عما يفعل.(91/4)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار)
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون:80].
الله جل جلاله هو الذي أحيانا بعد أن لم نكن، وأوجدنا من العدم، فنحن نشعر بأنفسنا أحياءً ننطق ونتحدث، ونسمع ونبصر، ونلبس ونعرى، ونشبع ونجوع، ونشكر ونلغي الشكر، وهذا دليل على وجودنا، فنحن نتحرك ونعمل، ألم يفكر الكافر والمشرك يوماً: من أنا؟ ومن الذي خلقني؟ وما الفرق بيني وبين تلك الجثة التي فقدت الروح وهذا الجماد؟ ولِمَ كنت أتحرك قبل أن أموت؟ وما هي هذه الروح؟ وكيف تحركت يدي ونطق لساني؟ وكيف أبصرت عيني وسمعت أذني؟ وكيف وعى قلبي؟ وكيف حفظت ما حفظني الله إياه من علوم في الشريعة أو في الدنيا؟ ومن الذي أعطاني هذا العقل أفكر فيه؟ فالمؤمن يقول على كل شيء: الله الخالق الرازق المنشئ، مالك كل شيء، والكافر يذهب فيقول كلاماً قلد فيه الآباء والأجداد، فتكلم بما لم يعلم، وهرف بما لم يعرف، وأخذ يقول كلاماً هو كلام المغرورين والمجانين، وكأنه ظن أنه سيخلد أبداً، فلم ينظر إلى من سبقه من أبٍ أو جد أو كبير أو صغير وقد كانوا يوماً أعظم سلطاناً وأقوى شباباً وأغنى جاهاً وأكثر ترفاً ومقاماً، ومع ذلك ذهبوا مع الذاهبين، فقد جاءا من التراب ثم ذهبوا إلى التراب، أفيظن أن ذلك قد كان ثم لا عيشة ولا بعثة ثانية؟ هيهات، فالله ينبئنا في دار الدنيا أن نفكر يوماً ونعتبر، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [المؤمنون:80]، فأما الحياة فرأيناها، وسل الأولين والآخرين ومن يدعون العلم اليوم: ما هي الروح؟ وقد سأل هذا السؤال الآباء والأجداد ومن عاصروا الوحي وعايشوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال له الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، فإذا أخذنا نفسرها ونشرحها بأنها الحركة وبأنها الإدراك فيكون هذا شرح الجهلة وليس حتى شرح المبتدئين في رياض الأطفال، فالحركة ليست إلا أثراً لها، والنطق ليس إلا أثراً لها.
ولكن ما هي الروح؟ ما هو هذا الشيء الذي دخل أجسامنا وحرك عروقنا وأجرى دمائنا وتركنا نعي ونسمع ونعقل مائة سنة أو عشر سنوات أو أقل أو أكثر هذا ما لم يبلغه الأطباء ولا علماء تشريح والجسد، فهم يدخلون فيه جهالاً ويخرجون منه ولو بعد ألف عام جهالاً، وقد قال الله لنا: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، وإياكم أن تطغوا وتتجبروا وتقولوا: قد علمنا، فلم تعلموا شيئاً، ولذلك علم الله نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق على الإطلاق، فقال له: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، فالنبي صلى الله عليه وسلم الخليل المختار كان في حاجة دوماً إلى المزيد من العلم، وموسى عندما سئل وهو من أنبياء الله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: هل هناك أعلم منه، قال: لا، وإذا بالله الكريم يؤدبه على هذه الكلمة، فيقول له: بلى عبدنا خضر، فيتعبه ويسافر إليه ويذهب من المشرق إلى المغرب إلى مجمع البحرين والبحر المحيط في أرض طنجة كما قال الصحابة والتابعين، إلى أن وجد رجلاً عادياً في المنظر، يجلس على حشيش أخضر، يتعبد الله باكياً خاشعاً ذليلاً، ولا يزيد على أن يقول: رب اغفر لي يوم الدين، قال له: السلام عليكم، قال: من أنت؟ وأنى السلام في أرضك؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.
فكان ما قص الله علينا في سورة الكهف.
والشاهد: أنه جاء عصفور صغير فنقر نقرة وأخذ قطرة ماء من البحر، فالتفت الخضر إلى موسى وقال: يا موسى! أترى أن هذا العصفور نقط من هذا البحر شيئاً؟ قال: لا، قال: ما علمي وعلمك أمام علم الله إلا كهذه القطرة يأخذها هذا الطائر من هذا البحر! وهكذا سنقول دوماً ولو عشنا ما عاشه نوح وزدنا: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، فقد قالها لسيد الخلائق وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، فكيف بنا؟! قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [المؤمنون:80] فأحيانا وأوجدنا من العدم، وسيميتنا بعد، ثم يعيدنا في يوم البعث والنشور للحساب على الأعمال في الدنيا.
قال تعالى: {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [المؤمنون:80] لله الليل والنهار واختلافهما، فهذا أسود مظلم إذا مددت يدك وخاصة في الليالي التي لا قمر فيها ولا هلال لا تكاد تراها، والنهار أبيض مشرق، وتارة هذا قصير وهذا طويل وتارة العكس، وهكذا يتعاقبان، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس:40]، فهما يختلفان في الأوقات والأزمان، وفي الألوان، وفي الأحوال، فمن الذي جعل السواد سواداً، والنهار بياضاً، والليل ليلاً والنهار نهاراً، وجعل هذا بياتاً وراحة وجعل النهار معاشاً وجهاداً وسعياً في الرزق وما إليه؟ إنه الله جل جلاله.
{وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون:80] أليس لكم عقول تفكرون فيها يوماً؟ فمن أنت؟ وأين كنت قبل أن يتزوج أبوك بأمك؟ ومن كان يعلم بوجودك، ومن أين أتيت؟ ومن الذي أوجدك؟ وقل ذلك عن أبيك، ثم قله عن ولدك، ثم قله عن حفيدك، وما تقوله عن واحد هو الذي يقال عن جميع الخلق، ثم ترى الموتى ليلاً نهاراً في كل صلاة وفي كل صباح وفي كل مساء، فنصلي على الميتة، وعلى الطفل، ألم يخطر لك ببال أنه سيأتي دورك يوماً ويقول المؤذن: الصلاة على الجنازة؟ فماذا أعددت لهذه الساعة، وماذا أعددت لهذا الوقت، ثم بعد الدخول للقبر ماذا أعددت جواباً لسؤال الملكين الكريمين المكلفين من قبل الرب جل جلاله؟ فنحن ونحن أطفال ونحن كبار إذا هددت بسؤال أستاذ فإنك تخاف أن تجيب خطأ فستكون فضيحة، فتسهر وتذاكر حتى لا تفضح.
فكيف إذا علمنا أننا يوماً ما سنسأل من رسل الله الملائكة، ثم يعطون الجواب لله جل جلاله، هل كنت على الإسلام أو الكفر؟ وينبني على ذلك: أن تدخل النار أو الجنة، وأن تعذب أو تنعم إلى يوم القيامة.(91/5)
تفسير سورة المؤمنون [81 - 95]
ذكر الله تعالى هنا بعض مقولات الكفار المشركين من حيث استبعادهم لقيام الساعة وحشر الأجساد، فجادلهم الله تعالى وأفحمهم بالحجج العقلية البينة الواضحة الدامغة على صحة ما أنكروا واستبعدوا.
وهذه الحجج هي دامغة لكل مشرك كافر قال مقولتهم في أي زمان ومكان.(92/1)
تفسير قوله تعالى: (بل قالوا مثل ما قال الأولون)
قال تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون:81 - 82].
يذكر الله الكفرة الجدد الذين عاصرهم نبينا صلى الله عليه وسلم وقد أنكروا كل شيء: وأنكروا الوجود والخلق والربوبية والألوهية، وجعلوا لها شركاء من خلق الله، ومن الحيوانات ومن الجمادات، فالله جل جلاله قال لنبيه: قل لهم، وعلم نبيه ليعلمهم، وبلغه ليبلغهم، فما ازداد أكثرهم إلا إصراراً على الكفر، كان ذاك ولا يزال، فالقرآن نحن مخاطبون به كما خوطب به الآباء والأجداد منذ ألف وأربعمائة عام في مختلف بقاع الأرض، وليس محمد نبي العرب فقط، بل نبي الأبيض والأسود، والأحمر والأصفر، وهو خاتم الأنبياء، وقد أرسل للمشارق والمغارب، فجميع الأنبياء ذهبت نبوءاتهم بموتهم، وانتهت بتبليغ عشائرهم وأقوامهم، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فهو النبي المستمر، فلا نبوة ولا رسالة بعده، ورسالته قائمة، ومن أنكرها من الإنس والجان فعليه العذاب واللعنة والغضب.
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ} [المؤمنون:81] أي: كانوا رجعيين، فقد رجعوا إلى مقولة الكفار السابقين من قوم نوح وقوم إبراهيم، ومن زعموا أنهم نصارى، ومن الملاحدة والكفرة، فقال هؤلاء ما قال الأولون، فأنكروا أبرز شيء في الأديان وأظهر شيء في الأديان: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ} [المؤمنون:81]، وأعاد الله (قالوا) للتنويه والإشادة، وبدل الكلام السابق، {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون:82]، فيفخرون ويستفهمون استفهاماً إنكارياً، ويقولون: اسمعوا يا جماعة! هل يتصور أننا بعد أن نصبح تراباً وعظاماً نخرة، وبعد أن تخرج منا الروح أن نعود إلى للحياة مرة أخرى؟ أنبعث بعد الموت؟ أيجتمع التراب ويعود بشراً سوياً كما كان؟ وقد ذكر الله في غير هذه الآية أنهم قالوا وهم يتساءلون: كيف يحيي الله الموتى؟ فقال الله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79]، فالله الذي أوجدنا من عدم وابتكرنا على غير مثال سابق، أقدر عليه وأسهل أن يعيدنا من تراب، وكل شيء سهل عليه جل جلاله، فما دمنا قد آمنا بالواقع، وأنا قد أوجدنا، وأننا لم نكن، ونرى يومياً تزاوج ذكراً بأنثى لا ولد لهذا ولا ولد لهذه، وإذا بعد السنة يأتوننا بطفل، فمن صنعه؟ أشهوتهم صنعت ذلك المخلوق؟ وهل كان لهم علم به؟ هل سعوا في أجله؟ هيهات، ثم هكذا يكبر الطفل ويشب ويصبح كهلاً، ثم يصبح شيخاً، وهكذا يعود إلى التراب، فإذا خلقه الله من عدم أليس قادراً على أن يعيده بعد أن أوجده المرة الأولى؟ بلى، فأخذوا يتساءلون ساخرين مستفسرين.
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا} [المؤمنون:81 - 82] أي: هلكنا وانتهينا من الدنيا.
{قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا} [المؤمنون:82] أي: أصبحنا فناءً.(92/2)
تفسير قوله تعالى: (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل)
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ} [المؤمنون:81].
أي: أنبعث مرة أخرى، وأيضاً يستفهمون مستنكرين: {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون:82]، قالوا: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:83].
فهكذا جاء الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقد سمعوا بهم، فجاء موسى فقال ذلك، وجاء عيسى وقال ذلك، وجاء أنبياء بني إسرائيل فقالوا ذلك، وجاء الخليل إبراهيم فقال ذلك، قاله جميع الأنبياء لأقوامهم، وإذا بهؤلاء يقولون: أين الذي قالوه؟ ولماذا لم نبعث؟ فنقول: إن ذلك متى أراد الله لا متى أردتم أنتم، فهل انتهى الجسم البشري؟ وهل انتهت الحياة على الأرض؟ وهل دهدهت السماوات والأرض فأصبحت عهناً منفوشاً كأنها لم تكن؟ لم يكن هذا بعد، ولا يعلم الساعة ولا وقتها ولا زمنها إلا الله، وعندما جاء جبريل عليه وعلى نبينا السلام ليعلم الصحابة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، وسأله عن الإحسان، ثم أخذه يسأله: (متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل).
فلا يعلم الساعة تعيينا ولا وقتاً إلا الله، نعم تعلم علاماتها وأشراطها، وقد أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام وأخبرنا الله عن ذلك في كتابه، ولها شرائط صغيرة، ولها شرائط كبيرة، ومن الشروط الأولى الصغرى: البعثة المحمدية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة كهاتين؛ وأشار بسبابته وبالوسطى من أصابعه) أي: ما بيني وبين الساعة كما بين السبابة والوسطى، وكم مضى من السبابة؟ أيضاً لا نعلم، فلو علمنا كم مضى لعلمنا كم بقي، ولكن الذي نعلمه أن نبينا خاتم الأنبياء فلا نبي بعده، ولذلك كان وجوده وبروز نبوءته هو العلامة الأولى الصغرى لقيام الساعة، وأجدادنا في التاريخ تخاصموا وكتبوا الكتب، وتجادلوا في قيام الساعة، فقال بعضهم: إنه سيكون من البعثة المحمدية إلى قيام الساعة ألف عام، وقال البعض: ثلاثمائة عام، وقال البعض بعد مائة عام، وكتب السيوطي في ذلك كتاباً، واحتج على أولئك فقال: سنتمم ألف سنة، فتمت ألف سنة ومضى بعدها أربعمائة سنة وسنة أيضاً، وستبقى قرون للدنيا؛ لأن العلامات الكبرى لم تبدو بعد، فلن تقوم الساعة وعلى وجه الأرض أحد يقول: ربي الله، ولا تزال ربي الله تقال في مشارق الأرض ومغاربها حتى في بلاد الكفر، فما من رقعة من بلاد الكفر إلا وفيها مؤمنون يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولهم مساجد يصلون فيها، ويعتكفون، ويصومون، دعك من أرض الإسلام التي تعد ملياراً من البشر.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لن تقوم الساعة إلا على لكع ابن لكع) أي: على مشرك خبيث ابن مشرك خبيث، أي: سيطول الزمان في الشرك إلى أجيال: آباء وأبناء وأجداد.
ونقول: قد ابتدأ هذا، ومع ذلك لا تزال المسافة طويلة جداً، ومهما قلنا: عصى آل فلان، أو الشعب الفلاني، أو الدولة الفلانية، فلا تزال بيوت الله ومساجد المسلمين في كل أرض، ونجد المصلين والعاكفين والعابدين، ونجد الزاهدين، وهيهات أن ينقضي هذا بجيل أو جيلين، أو قرن أو قرنين.
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون:81 - 82]، وإذا بالله الكريم يقول لنبيه: قل لهؤلاء وحاورهم: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84] أي: سلهم وقل لهم: هذه الأرض التي أنتم عليها، وما عليها من إنسان وحيوان وجن، ومن بحار وهضاب وخيرات وأرزاق لمن هي؟ ومن مالكها؟(92/3)
تفسير قوله تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون)
إذا ثبت أن الله مالكها إذاً: فهو خالقها، قل يا محمد: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84] أي: إن كنتم تدعون المعرفة كما تزعمون فلمن هذه؟ ومن خلقها؟ ومن ملكها؟ وإذا ملكها الله فهو إذاً خالقها.
فكان
الجواب
{ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:85]، فقد أجابوا اعترافاً بوجود الله، وملك الله، وقدرة الله، وخلق الله، {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:85] أي: قل يا محمد لهؤلاء وقد آمنوا بأن الأرض وما فيها لله، {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:85] أفلا تعتبرون؟ ألا تفكير ألا عقل ألا رأي؟ فما دمتم وقد اعترفتم بوجود الله، وبقدرة الله، وبخلق الله، وأنكم وجميع من على الأرض من عاقل وغير عاقل، من إنسي وجني وملك، من حيوان ودابة، وكل ما عليها، ما دمتم قد اعترفتم أنها لله أفلا تعون وتعقلون؟ فكيف جعلتم معه شريكاً؟ وكيف أنكرتم وهو الذي أخبركم: أن هناك بعثة، وأن هناك حياة ثانية؟! {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:84 - 85]، أفلا تعون وتقفون يوماً وتتفكرون مع أنفسكم، وتعتبرون بهذا، وتقولون: ما دامت المقدمة صحيحة، وأن الأرض خالقها الله، وأن الأرض مالكها الله، وأن الأرض رازقها الله، فلم إذاً نكران ما جاء به الله؟! وقد أرسل الله أنبياء سابقين يخبرون بالبعث وبالتوحيد، وبالقدرة لله على كل شيء، فلِمَ إذاً تتناقضون؟ وهكذا الكفر قديماً وحديثاً لا منطق له، ولا عقل له، إن هم إلا قردة ببغاوات يقلدون ما وجدوا عليه آباءهم، فإن أنت سألتهم: ما دليلكم وما برهانكم؟ قالوا: هكذا وجدنا آباءنا، وإنا على آثارهم مقتدون.
وأما المؤمن فتارة يخاطبك بدليل العقل، وتارة يخاطبك بدليل السمع، فيقول لك: قال الله، قال رسول الله، قال العلماء، فإن كان المخاطب لا يؤمن بشيء من هذا خاطبه بمنطق العقل، كما يخاطبهم القرآن، وكما يخاطبهم نبينا عليه الصلاة والسلام، وجميع الأنبياء السابقين قبله عليه وعليهم سلام الله وصلاته.(92/4)
تفسير قوله تعالى: (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم)
ثم قال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:86 - 87].
سألهم مرة أخرى، فسألهم أولاً عن الأرض فاعترفوا بأن الله مالكها، وبأن الله خالقها، فقال الله لعبده ونبيه صلى الله عليه وسلم: سلهم مرة أخرى: من رب السماوات السبع؟ هذه المخلوقات العالية الشامخة لمن هي ومن خلقها؟ ومن رب العرش العظيم؟ ومن صاحبه ومن إلهه ومن خالقه؟ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:87].
فمرة أخرى اعترفوا وأقروا بأنه كما كانت الأرض ملكه، وما كانت ملكه حتى كانت خلقه، كذلك السماوات السبع وما فيهن، وكذلك أعظم خلق الله وهو العرش العظيم، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهن مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وما الكرسي أمام العرش إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض).
ولذلك قال الله: (العرش العظيم) أي: الكبير الذي لا تكاد العقول تصل إليه، وهو كالقبة بالنسبة للمخلوقات من كائنات الكون كله، وهو مستدير كبقية المخلوقات جميعاً، ككروية الأرض وكروية السماء، وهذا ما أجمع عليه المسلمون منذ العصور الأولى كما ذكره ابن حزم وابن تيمية والغزالي وابن القيم ونقلوا الإجماع على ذلك.
فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما ذكر العرش أشار بيده هكذا، قال الصحابة: أشار كالقبة فوق هذه الكائنات والمخلوقات، وهم يسمعون بالعرش، ومع ذلك لما سألهم نبينا صلى الله عليه وسلم كما أمره ربه: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:86 - 87] فما دمتم تعترفون وتؤمنون بذلك ألا تخافون الله؟ ألا تتقونه من عذابه ومن نقمته ومن غضبه؟ ألا تصدقون نبيكم؟ ألا تصدقون كتاب ربكم؟ أتكذبون الأنبياء كما كذب من سبقكم أنبياءهم؟ أهذا منطق العقل ومنطق الفهم ومنطق الإدراك؟ هيهات، فهم كالأنعام بل هم أضل.(92/5)
تفسير قوله تعالى: (قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه)
ثم قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:88 - 89].
سلهم يا محمد مرة ثانية: من بيده ملكوت كل شيء؟ (ملكوت) أي: ملك، والتاء للمبالغة، كما يقال: بهموت وجبروت، قل من بيده التصرف في هذا الملك الأعظم؟ ومن الذي نظم هذا العالم: نظم ليله ونهاره، وصيفه وشتاءه، وربيعه وخريفه؟ ومن الذي رزق هؤلاء الخلق من إنسان ومن جن، ومن حيوان، ومن طير، ومن يمشي على أربع، أو يمشي على رجلين، أو يمشي على بطنه، ومنهم من يعيش فوق التراب، ومنهم من يعيش داخل البحار؟ فهذا التنظيم الدقيق في كل شيء من الذي صنعه؟ ومن الذي دبره؟ ومن الذي قام عليه؟ فكان
الجواب
الله.
قوله: (يجير) أي: يدفع ويحمي، فالذي يجير هو الله جل جلاله، فمن منعه الله من الناس فلا يخاف أحداً من الخلق، ومن حفظه الله لا يخاف مخلوقاً قط، فقد يقع من الأجواء وشاهق الجبال فتجده بقي حياً؛ لأن الله لا يزال يدافع عنه، ولم يأتِ وقت موته بعد، وقد يحصل الذي يحصل ويبقى حياً، ويبقى مرزوقاً، ويبقى قائماً، ويبقى مقتدراً بقدرة الله، وذكر التعبير هنا بما هو معروف في لغة العرب التي نزل بها القرآن.
فقد كان عادة العرب أن يأتي إنسان فيدخل القبيلة الفلانية فيستجير بفلان فيكون في جواره وفي حمايته وفي وقايته وفي حفظه، فلا يجرؤ أحد أن يمسه بسوء، ولو فعل لبطش به وبكل ما يتصل به سيد القبيلة، ولا يمكن لغير سيدها أن يجير أحداً من الناس يدخل قبيلته؛ لأن ذلك فيه فضول عليه وعلى سلطانه وعلى رئاسته.
فإن حماه الله احتمى، ومن لم يحم ولم يدافع عليه فهيهات أن يستطيع أحد أن يحميه دون الله، فلن يكون هذا وما كان قط.
فلا يمكن أن يأتي إنسان مخلوق أياً كان إذا أراد الله عذاب شخص أو النقمة على شخص أن يأتي إنسان فيحمي ذاك من عذاب الله ويحميه من عقوبة الله، فلن يكون ذلك، ولا يفكر فيه مخلوق على الأرض لا كافر ولا مسلم، ولو فكروا فيه فليحموا أنفسهم من الموت.
{وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:88] أي: إن كنتم كما تزعمون أنكم ذوو عقول مدبرة وأفكار سديدة ورأي مقبول، فافعلوا.
قوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:89].
فهم يقولون: لله، مرة ثانية، أي عادوا فقالوا: صاحب الملكوت ورب الخلق والتصرف المطلق والرزق والتنظيم هو الله وحده لا أحد معه.
{قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:89]، والسحر في الأصل معناه: التخييل، أي: كيف تتخيل عليكم الحقائق فتصبح خيالات وأوهاماً؟ وكيف جئتم بالأباطيل فتوهمتم صحتها وأحقيتها وليست كذلك، فكيف خدعتم عن عقولكم؟ وكيف خدعتم عن دينكم؟(92/6)
تفسير قوله تعالى: (بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون)
قال الله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [المؤمنون:90].
فهؤلاء هم الذين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله جل جلاله؛ لتكون الحجة البالغة لله، ولكي لا يقولون: ما أرسلت لنا رسولاً ولا بلغنا شيء، ولم نعلم هذا، وعقولنا في الأصل لم تبلغه ولم تصل إليه، فسيكذبون، بل جاءكم كتاب من السماء وحياً على نبيكم، وهو بشر منكم تعلمون حسبه ونسبه، وتعلمون بيته ونشأته، وتعلمون أبوته وتعلمون بلاده، فكيف تزعمون أنه لم يكن؟! قال الله تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون:90] أتاهم بالحق أتاهم بالقرآن الكريم وهو حق، وأتاهم بالنبي خاتم الأنبياء وهو حق صلى الله عليه وسلم، وأتاهم ببيان كتابه بالسنة المطهرة التي نطق بها صلى الله عليه وسلم، وأتاهم بالحقائق التي لا يجادل فيها إلا أرعن أحمق أخرق، أو من عطل الله حواسه فأنكر الحقائق وهو يسمع ويرى ويبصر ويعي ويدرك.
{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [المؤمنون:90] اللام بعد إن المشددة يقال عنها: اللام الموطئة للقسم، ومعنى الكلام: أن الله يقسم بأنهم كاذبون في جحودهم، كاذبون في شركهم، كاذبون في عصيانهم، وكاذبون فيما ادعوه.(92/7)
تفسير قوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله)
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91].
يقول تعالى بمنطق العقول لمن له عقل يسمع ويدرك ويعي: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون:91] يقول للنصارى: يا كذبة على الله، ويقول لمن قال: إن الملائكة بنات الله: يا كذبة على الله، ويقول لليهود الذين قالوا عن العزير: إنه ابن الله، ويقول للنصارى واليهود جميعاً الذين زعموا أنهم أبناء الله: يا كذبة لم يتخذ الله ولداً قط ولا يليق ذلك بألوهيته ولا بربوبيته، فهو الخالق الرازق، ولو اتخذ ولداً لكان إلهاً، ولدخل ذلك في عموم قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22].
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91] أي: لا شريك له لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهذا جدل بمنطق العقل للكافر، والمفروض فيه أنه عاقل.
إذاً لو كان هناك إله ولو كان هناك ولد لنازعه في الملك؛ لأن الولد يشارك أباه، فيكون ولي عهده، وقد ينازعه في الحياة في عرشه وسلطانه وماله، وهو شريك له في ماله وفي كل شيء، ويقول له: أنت الذي تسببت في خروجي لهذا العالم وتتركني عالة على الناس! وكذلك لو كان لله ولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
{إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون:91] ولأصبحت المملكة والعالم كالممالك في الأرض، فهذا يملك السماء، وهذا يملك الأرض، وهذا يملك البحار، وهذا يملك الجبال، وكثير من اليونانيين القدماء الذين سموا أنفسهم فلاسفة يقولون: رب السماء، ورب الأرض، ورب النور، ورب الظلمة وهكذا، فهؤلاء المجانين وهؤلاء الكفرة المشركون لا يعقلون.
{إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون:91]) لأخذ كل إله من هذه الآلهة المزيفة جزءاً مما خلقه وقام عليه، ولو كان ذلك لعلى بعضهم على بعض كملوك الأرض ودول الأرض وحكام الأرض، فهذا يطمع في حدود هذا، وهذا في مخازن هذا وفي معادن هذا وفي أمواله وفي ثرواته، كما نرى الأرض كما كانت منذ آدم منذ أن تقاتل ابنا آدم، فأحدهما قتل الآخر وإلى الآن والناس تسفك دماء بعضها؛ حباً في المال والجاه والتسلط.
فإذا ملك اثنان فإنه يطمع واحد منهما أن يغلب الثاني، وهذا ما يسمى في لغة الأصول والمنطق: التدافع، والتدافع ما دخل في شيء إلا وألغاه ألبتة، فقد زعم المشركون أن الدنيا فيها آلهة وأن الكون له آلهة، فإذا كان الأمر كذلك كما قال تعالى {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91]، وحاول كل واحد من هذه الآلهة أن يكون أعلى وأقوى وأكثر بطشاً وأكثر أتباعاً وأكثر جاهاً وأكثر سلطاناً وأكثر تجبراً، ففي هذه الحالة إما أن يتدافعوا فلا يغلب أحدهم الآخر ولا يصل لغايته، إذاً فكلاهم عاجز، فإذا عجزوا فهم ليسوا بآلهة، وليس العجز من صفة الإله والرب، فسقطوا جميعاً، وإذا غلب أحدهم الآخر فالمغلوب ليس إلهاً، ومن هنا تجد عقول النصارى عقول سخيفة تداس بالأقدام بلا كرامة، فقد زعموا أن عيسى ابن الله، وأحياناً قالوا: هو الله، ثم زعموا أن اليهود تغلبوا عليه وصلبوه وقتلوه، إذاً يصبح اليهود أقوى من ربهم الذي زعموه رباً.
وبذلك لم يكن عيسى إلهاً، ولو كان إلهاً لما تغلب عليه اليهود، وقد جاء في القرآن الكتاب المنزل خاتم الكتب والمهيمن على الحدود كلها: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [النساء:157] أي: كذبوا وافتروا وأفكوا، {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] أي: قتلوا شبيهاً له، وهذا ما ثبت في إنجيل برنابا، وبرنابا أحد حواري عيسى، فيه أن عيسى لم يقتل، فيه: أن هذا الذي خانه، عندما دخل رفع الله عيسى إليه وشق السقف وإذا بهذا الذي تجسس عليه وباعه بثمن بخس دراهم معدودة إلى الروم من حكام القدس، وإذا بالله تعالى يلبس هذا الخائن يلبسه صورة عيسى، فقال الحاضرون لهم: هذا عيسى فأخذوه، هذا في إنجيل برنابا، أخذوه وجعلوا على كتفيه صليباً أكبر منه وأطول، وجعلوا على رأسه تاج شؤم؛ لأنهم قالوا للروم: إن عيسى يريد أن يأخذ عرشكم وملككم، ويتبعونه بالتفال وبالضرب وبالخزي وباللعنة، فكان يبكي ويقول: لست عيسى، أنا الذي بلغتكم على عيسى، فأخذ يفضح نفسه، فالمؤمنون بعيسى حقاً كانوا يهينونه ويضربونه؛ لخيانته التي اعترف بها، وأولئك كانوا يكذبونه؛ لأن الحواريين أصحاب عيسى قالوا لهم: هذا عيسى؛ لأن وجهه وصفته كانت صفة عيسى، وهو ما قاله الله جل جلاله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ} [النساء:157]، وكان هؤلاء الذين قتلوه أو زعموا أنهم قتلوه في خلاف طويل: هل قتلناه أولم نقتله؟ وهل هو هو أوليس بهو؟ إلى قرون بعد ذلك.
فراحت السلطة وكانت في يد الرومان، والروم كانوا تنصروا فأوجبوا على كل من ادعى النصرانية أن يؤمن بأن عيسى رب، وأن عيسى صلب، فطغى بذلك اليهود ولا يزالون يطغون، وأذلوا النصارى وجعلوهم تحت الأقدام، فقتلوا إلههم وتغلبوا عليه، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22].
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91].
في هذه الحالة لو كان هناك آلهة معه لذهب كل إله بما خلق، أي: لأخذ جزءه الذي خلقه: سماءه أرضه جبله بحره، وعندما يأخذ ذلك ويتسلط عليه لعلا بعضهم على بعض، فهذا يعلو على هذا، وهذا يقاتل هذا، وهذا النوع نفس جين اليونانيين الذين يسمونهم فلاسفة، فقد جعلوا بينهم حروباً، وجعلوا بينهم قصصاً، وجعلوا بينهم خرافات، فقالوا: الرب الأعظم، ورب الأرض، ورب النور، ورب الظلمة، وهذه خرافات ما أنزل الله بها من سلطان، وما نزلت الكتب على الأنبياء إلا لتزيفها ولتبين أنها خرافات وأوهام.
{إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]، فالله جل جلاله ينزه نفسه ويعظم نفسه ويعلي شأنه؛ ليعلمنا أنه أعظم وأعلى من ذلك، فليس بحاجة إلى ولد، وليس بحاجة إلى شريك، ولم يكون ذلك الشريك، وكلمنا بالعقول التي تفهم لو حدث ذلك -على أنه لم يحدث-، فالكون منذ وجد يمشي على غاية ما يكون من النظام بالثانية: الليل والنهار، الصيف والشتاء والربيع والخريف، والحياة والإنسان، ولم يوجد في يوم من الأيام أن ولد إنسان حماراً، أو حمار ولد إنساناً، وما يوم من الأيام اختلفت الفصول فكان الصيف ربيعاً، أو أصبحت مكة باردة كبرد الشام أو المغرب، لن يكون هذا في هذا النظام الدقيق الذي أقام الله عليه ملكه، وما كان متصرفاً فيه لم يزد ثانية ولم ينقص على نظامه كما خلقه الله جل جلاله، فمن دبر ذلك؟ ومن أشرف على ذلك؟ ولله ملائكة ولكنهم عبيد يفعلون ما يؤمرون لا يعصون الله ما أمرهم قط.
ولذلك فهذا أعظم دليل منطقي، وعندما يقال: الكتب الدينية فإنهم يعنون كتب النصارى التي اختلفت وتغيرت وتبدلت، وأما نحن فلا نقول: القرآن كتاب ديني، وإنما هو كتاب ديني وكتاب دنيوي، وكتاب عسكري، وهو كتاب مدني، وهو كتاب قانون، وهو كتاب شريعة، وهو كتاب أدب وهو كل شيء، فماذا تقول في هذه المحاورات العقلية: أفلسفة هي، قل إن شئت: هي المنطق والعقل، وقل إن شئت هو محاورة في الأدب والبلاغة؟ ولكن ليس طقوساً كما يزعم النصارى والجهلة من أبناء المسلمين الذين تلقفهم النصارى واليهود وأفسدوا عقولهم، ودينهم، وعلومهم، وجعلوهم خلقاً لا مسلماً ولا كافراً في أكثرهم، إلا من حفظ الله.(92/8)
تفسير قوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون)
قال الله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:92].
(عالم الغيب) صفة لله جل جلاله، وقرئ (عالم الغيب) كلام مستقل، فالله يعلم ما غاب عن خلقه ويعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم الشهادة ويعلم حضورنا، ويعلم ما نحن عليه الآن ومن تدارس كتابه تجاه الكعبة المشرفة، ويعلم خلقه، ويعلم ما ينفعهم وما يضرهم، ويعلم ما تجري به الضمائر والنفوس، فلا تخفى عليه خافية جل وعلا وعز مقامه وعلا شأنه.
{عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:92] تعالى عن شركهم، نزه نفسه عن شركهم فلا ولد له ولا شريك له، ولا يحتاج إلى شيء من ذلك وإلا لتدهده هذا الكون وخرب وضاع ولا يبقى مستقيماً، كما نرى الدول عندما يختلف حكامها وزعماؤها تقوم الفوضى: فلا بيع ولا شراء ولا قيام ولا قعود إلى أن يغلب أحدهما الآخر، وتخرب معه البلاد والعباد، وهذا لم يحدث في الأرض؛ لأن مالك الأرض واحد، ومالك السماء واحد، وخالق الكل واحد وهو الله جل جلاله، فلا ابن له ولا ولد معه ولا شريك.(92/9)
تفسير قوله تعالى: (قل رب إما تريني ما يوعدون)
قال تعالى: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون:93 - 94].
علم الله نبيه أن يدعو بذلك، قل يا محمد: رب لقد حققت وعيدك في هؤلاء الظالمين المشركين، وأنزلت بلاءك وعذابك ونقمتك وغضبك على هؤلاء، {رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون:94]، رب فلا تجعلني ضمنهم؛ فلم أظلم يوماً، فأنا عبدك الذليل بين يديك، الخانع لجلالك وقدرتك، فالكل منك وإليك يفعلون ما تشاء، ولا تسأل عما تفعل، ولكنني أرجوك.
علمه الله أن يقول: {رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} [المؤمنون:93] أي: إما أرأيتني ما وعدتهم به من عذاب، إذا أنزلت بهم عذابك ونقمتك وحضرت ذلك وشاهدته فلا تجعل ذلك العذاب مما يشملني، ولا تجعلني فيهم؛ لأن الله تعالى قال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، فعلم نبيه أن يقول لربه: لا تجعلني يا رب إذا ما أوعدت وحققت وعيدك وعذابك ونقمتك لهؤلاء وعشت وأدركت ذلك فلا تجعلني بينهم، وقد استجاب الله له فلم تكن محنة ولا عذاب على الصحابة والمسلمين أيام الحياة النبوية، وبعد الحياة النبوية ارتد من ارتد، ومنع الزكاة من منعها، وقتل عمر، وسم أبو بكر، وقتل عثمان، وقتل علي، وتحاربوا فيما بينهم أربع سنوات متصلة أريق فيها الكثير من الدماء، وحدث ما حدث بين الكبار من القوم، وكان ذلك من الله امتحاناً وفتنة وبلاء.
{وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:95]، ولو أردنا أن نريك أن تعيش في واقع النقمة والعذاب والفتنة والبلاء فإننا على ذلك لقادرون، فيفعل الله ما يشاء، فيحسن للمسيء ويعاقب المحسن، فالله يفعل ما يشاء، والضمائر والقلوب بيد الله، فلا يشق القلوب إلا هو، ونحن نشهد للإنسان بحسب ما رأينا فنقول: فلان صالح، وأما ما في قلبه فلا يعلم هذا إلا الله.
{وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:95] يقول الله لنبيه ولعبده ورسوله صلى الله عليه وسلم: لو أردنا أن نريك ذلك وأن نعيشك في بلائهم وفي نقمتهم لفعلنا، ولكن الله لم يفعل؛ تكرمةً لنبيه صلى الله عليه وسلم، وتكريماً لأمة نبيه.
والله تعالى منذ أرسل محمداً في الأقوام جميعاً -صلى الله عليه وسلم- حفظهم وصانهم من أن يبتليهم بما ابتلى به الأمم السابقة: من مسخ، وخسف، وصيحة، وبلاء مما كان يبتلى به الأولون، ومن غرق شامل كما كان أيام نوح، فالصيحة تأخذ الحي والميت والكبير والصغير والصالح والطالح، من قذف بحجارة من فوق كما حدث لقوم لوط، ومن قتل بعضهم لبعض؛ ليتوب الله عليهم كما فعل مع بني إسرائيل عندما أشركوا وعبدوا العجل في قصة السامري التي قصها الله علينا، وأما الأمة المحمدية فهي محفوظة من ذلك وإن كان ليست محفوظة من مسخ العقول، فقد مسخت عقول كثير ممن نعايشهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم مخبراً عن قوم: (ألسنتهم ألسنة العرب وقلوبهم قلوب الأعاجم) أي: ليس فيه من الإسلام إلا اللسان، وأما عقولهم فكعقول الكفار، وتفكيرهم كتفكير الكافرين، وما أصدق هذا الحديث على عصرنا! فترى الرجل الحافظ العالم المتكلم الفصيح البليغ فإذا به يفاجئك بأنه من اتباع ماركس اليهودي، ومن اتباع الشياطين، وقد ترك المذاهب والإسلام كله إلا المذاهب الضالة الباطلة الوافدة من خارج حدود ديار الإسلام.
ويأخذ أحياناً يجادل ويحاور وهو يظن نفسه أنه على شيء، فيقول لك: بلى ما قال هذا صحيح، فالدنيا كانت في الأصل خلية واحدة ثم توالدت، ألا ترى الماء يكون راكداً وإذا بنا نجد فيه الديدان، فنقول لهذا: فالخلية الأولى التي تزعم من الذي أوجدها؟ وعندما يقف معناه أنه قد اعترف بعجزه وكفره وشركه، ونحن نقول: الخلية الأولى هي آدم، ولكن من الذي خلقه؟ وهل وجد هكذا سبهللا عبثاً؟ أليس الله هو الذي خلقه؟ أليس الله هو الذي نفخ فيه من روحه؟ والحشرة التي لا تكاد ترى إلا بالمجهر مكبرة على آلاف المرة تجدها في هذا الصغر فهي لا ترى بالعين المجردة، ومع ذلك لها قلب، ولها مصارين، ولها لسان، ولها سمع، ولها كل حركة!(92/10)
تفسير سورة المؤمنون [96 - 98]
لقد أرشد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقابل السيئة بالحسنة، وأن يدفعها بها، وهذا كان في أول الإسلام في العهد المكي، وهذه إذا كانت صادرة من الكفار، ففي ذلك العهد لم يأمر الشرع بمواجهتهم ومقاتلتهم.
وأرشده أيضاً -وهو إرشاد للأمة- إلى الاستعاذة بالله تعالى والتحصن به من كيد الشيطان وحضوره، ومن وسوسته وشروره، فلا يجير من ذلك إلا الله تعالى.(93/1)
تفسير قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة)
قال الله جلت قدرته: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:96 - 98].
يقول الله جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون:96] أي: قاوم السيئة وادفعها وردها على صاحبها بما هو أحسن نبلاً وأحسن فضلاً وأحسن مقابلة ومعاملة.
ويحتمل أن يكون معنى هذه الآية: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون:96] أي: سيئة الكافرين، وسيئة العصاة المؤمنين، والبدو الجفاة من الأعراب، لكن قول الله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96] دل على أن هذا الدفع هو دفع سيئة الكافرين؛ إذ لا يقول كلمة كفر أو كلمة شرك أو كلمة فيها قلة أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من كان كافراً غير مسلم.
أي: لا تقاوم هؤلاء الكافرين ولا تحاربهم ولا تشهر السيف في وجوههم، بل ادفع سيئتهم بالحسنة وبالكلمة الطيبة وبالصبر إلى حين.
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96].
أي: نحن أعلم بحال هؤلاء الكافرين وما يقولونه من تكذيب لك، وتكذيب لكتاب ربك، وشرك بإلههم، فالآية على ذلك كانت قبل آية السيف، وهكذا الأمر فالسورة مكية، ومكة لم يكن القتال فيها قد شرع بعد، فكان صلى الله عليه وسلم يمر على أصحابه وهم يعذبون وينكل بهم فلا يزيدهم على قوله: صبراً صبراً، فمر على ياسر وولده عمار وزوجته سمية وهم يعذبون العذاب الشديد فما زاد على قوله لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
وهكذا استشهدت سمية وهي تصر على كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، ولكن هذا كان في مكة فقط، وبعد أن رحل وهاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة نسخ كل ذلك، وشرع الجهاد والحرب والقتال، وقد صبر المسلمون على أعداء الله اثنتي عشرة سنة وهم يكذبون وهم يقاومون، فاضطر النبي صلى الله عليه وسلم لترك مكة المكرمة مسقط رأسه وكذلك أصحابه المهاجرون، وهي أحب ما تكون إليه وأعز ما تكون إليه، وكان يدعو قبل الهجرة فيقول: (رب كما أخرجتني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب الديار إليك).
فكانت المدينة هي المنتخبة، وهي المرادة، وهي التي اختارها الله جل جلاله لنبيه وعبده وحبيبه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى ذلك نتلو هذه الآية ونحن نعتبرها قد نسخت بالقتال والجهاد والمقاومة، وقد كانت أول آية نزلت في شرع القتال هي قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، وببقية الآية الواردة في الحرب والقتال: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191]، وكقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36].
وقد شرع الحرب والقتال لقتال الوثنيين، وقتال الكتابيين، وحرب البغاة العصاة من المسلمين، وهذه الآية تشبه الآية الأخرى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35]، وهذه الآية تبقى مثالاً أبداً للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان من فضائل الأخلاق الإسلامية: الصبر، الذي طالما دعا الله إليه بالعشرات من الآيات وفي سورة خاصة، ولكن للصبر حدوداً فإذا تجاوزت المعقول إلى الظلم بسفك الدم، وهتك العرض، وأكل أموال الناس بالباطل، والرغبة في الاستيلاء على الأوطان وديار الإسلام فهنا يجب القتال ويجب الدفاع ويجب الحرب على كل قادر لحمل السلاح من رجل وامرأة وولد بلغ سن التمييز أو كان يافعاً، وكان صلى الله عليه وسلم يقبل الشباب للقتال وحمل السلاح عندما يبلغون أربع عشرة سنة.
ثم قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون:97] أي: في صبرك على هؤلاء، وفي دعوتك لربك، وفي تبليغك لرسالته تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقل يا محمد: أعوذ بك يا رب من همزات الشياطين، والقول له وهو لكل مسلم من أتباعه إلى يوم القيامة، فقل أيها المسلم! {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون:97] أي: أتعوذ وأتحصن بك، وأجعلك يا رب مرجعي ومآلي ومعاذي وحصني من همزات الشياطين.
والهمزات: جمع همز، والهمز الدفع، والهمز الوسواس، والهمز الإفساد، والهمز ما يخطر ببال الإنسان من وساوس الشيطان، والتخلي عن العبادة، أو الإفساد بين المؤمنين، أو نشر ما لا يليق بخلق المسلم.
وفي أول التفسير ذكرنا أنه يشرع أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: من همزه، ونفثه، ووسواسه، وقد قاله صلى الله عليه وسلم.
واشتكى خالد بن الوليد رضي الله عنه لنبي الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله يصيبني الأرق عند النوم فلا أنام، فقال له عليه الصلاة والسلام قل عند النوم: (باسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون).
فالشيطان يحرص على أن يشغل المؤمن عند النوم، وأن يؤرقه، وأن يخطر بباله أنواع الهواجس والوساوس والهمزات؛ لكي يسهر أكثر مدة ممكنة فينام عن صلاة الفجر، فلا يستيقظ إلا وحر الشمس قد مس ظهره وبدنه، فتفوت عليه صلاة الفجر في وقتها، هذه الصلاة التي تشهدها الملائكة، فالملائكة ينزلون متعاقبين عند بداية النهار وعند نهايته، فيشهدون عند ربهم: رب إننا نزلنا فوجدنا فلاناً يقرأ القرآن، وتركناه وهو يقرأ القرآن، فتكون شهادة الملائكة لها من الخير ولها من البر ولها من الأجر والثواب ما لها، وذاك معنى قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78].
ومن هنا يبقى التعوذ بالله من الشيطان علاجاً نفسانياً وعلاجاً طبياً روحانياً من سيد البشر صلى الله عليه وسلم لكل من أرقه، ولكل من أصيب بما يخاف منه من الوساوس والهمزات وحضور الشيطان؛ لأن الشيطان إذا حضر فلا يحضر معه إلا الفساد والخصام والتخلف عن الطاعات.
وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه يعلم أطفاله ويعلم تابعيه قراءة وتلاوة هذا الدعاء والتعوذ الكريم الذي دل عليه صلى الله عليه وسلم، وخالد بن الوليد عندما كان يصاب بالأرق كان يقول: (باسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة)، فكانوا يقرءونها صباحاً عند الصباح ومساء عند النوم وهم على الفراش.
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98] أي: أتعوذ بك يا رب، وأتحصن بجلالك، واستغيث بقوتك أن تدفع عني الشياطين صدوراً لأشخاصهم، وحضوراً لوساوسهم؛ لكي أتفرغ لعبادتك، وأتفرغ للدعوة لك، مبتعداً عنهم ومبتعداً عن حضورهم ووساوسهم، وإذا كان هذا لرسول الله المعصوم صلى الله عليه وسلم فكيف بنا نحن الذي يقول عنا صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم).
ومن هنا أذن لنا وشرع لنا إذا قرأنا القرآن أن نتعوذ بالله؛ لكي نكون مع التلاوة حاضري الوعي والفهم والإدراك؛ لنفهم عن ربنا ما أمرنا بفعله وما نهانا عنه، ولنفهم عن ربنا ما يجب علينا أن نتحلى به من أخلاق فاضلة، ومن محاسن لا يليق سواها بالمسلم، {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:98].(93/2)
تفسير سورة المؤمنون [99 - 118]
في هذه الآيات يذكر الله حال الكفار والمشركين إذا حضرهم الموت، فيطلبون من ربهم الرجوع إلى الدنيا كي يعملوا صالحاً، وهيهات فقد عاشوا وعمروا السنين التي يتذكر فيها المتذكر، ومع ذلك لم يعملوا خيراً، وذكر حالهم في النار وهم يصطرخون فيها ويطلبون الغوث والخروج منها، فيقال لهم: اخسئوا فيها ولا تكلمون.(94/1)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون)
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100].
الكلام لا يزال نسقاً في آيات متتابعات عن الكافرين وشركهم، والمشركين وعنادهم، والمتمردين على الله ورسله فيما يصرون عليه من معصية وخلاف وكفر وشرك، فهؤلاء يبقون كذلك حتى إذا حضر أحدهم الموت واحتضروا وحضرتهم ملائكة الموت: عزرائيل وأعوانه، وجاءوا ليأخذوا منهم الروح لينتزعوها من أعضائهم في هذه الحالة يرون مقامهم في الآخرة إن خيراً وإن شراً، فيرى ملائكة الرحمة إن كان مؤمناً وقد جاءوا إليه بكل لطف وبكل لين، فيقولون للروح: اذهبي عند ربك، وارتفعي للملأ الأعلى، بكل لطف وبكل لين وبكل عطف.
وأما الروح الكافرة فينتزعونها انتزاعاً، ويذهبون بها إلى الجحيم، ويذهبون بها إلى أمثالها من الكفرة والعصاة والمتمردين، ولذلك عندما يصبح الإيمان شهوداً ولا يبقى غيباً لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، وهذا كان إيمان فرعون فعندما حضره الموت قال: آمنت بإله موسى وهارون، ولم يكن ذلك ينفعه، فقرعه الله وأذله فقال: (الآن) فلم تذكر الإيمان ولم تذكر الطاعة إلا وقد رأيت مقامك ورأيت عذابك ورأيت ملائكة النار وملائكة الجحيم، فالله حافظ على جسده؛ ليبقى آية لمن خلفه ممن كان يعتقد ألوهيته كي يرأوا جسده، وقد كانوا يظنون أنه لم يمت ولا يليق به أن يموت، وهو لا يزال إلى اليوم في الموميات محفوظ فيما تبقى من الفراعنة، وإن كانت الجثة بعينها ضائعة بين أمثالها فلا يدرى أيهم فرعون موسى؟ {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100].
عندما يرى تلك الحالة تجده يستغيث حيث لا يغاث، وتجده يجأر حيث لا يجيبه ولا يهتم به، وينادي ربه، ولم يذكر ربه إلا بعد أن انتهت الأيام وانتهت الأعمار وصنع ما صنع من كفر وخلاف وتمرد على نبي الله، فيأخذ بالاستغاثة ويأخذ بالجئير والصيحة: أن يرجع ولا يموت؛ وهو يظن أنه إذا أعيد سيعمل صالحاً فيما ترك، وسيؤمن بالله، وسيقول: لا إله إلا الله، وسيتدارك ما ترك وهو حي وهو قوي وهو مقتدر، فأراد عند سكرات الموت أن يوقف عنه الموت وأن تعود إليه الحياة؛ ليطيع ويفعل ما كان قد تركه من توحيد ومن شهادة ومن طاعة ومن عبادة، فيجاب إما أن الملائكة تقول له ذلك أو أن الله نفسه جل جلاله: كلا وهيهات، فالوقت سيف إن لم تقطعه قطعك.
فقد أضعت شبابك، وأضعت حياتك، وأضعت الفرصة التي عشت فيها وقد كانت دهراً يشتمل على السنين وعلى الليالي والأيام، وكتاب الله يدعوك صباحاً ومساء، ونبيك يدعوك عليه الصلاة والسلام صباحاً ومساء، وأنت تأبى إلا الكفر والشرك والمخالفة، وتظن أنك ما خلقت إلا عبثاً وما خلقت إلا سدىً، وهيهات هيهات طالما أنذرك ربك وأنذرك نبيك بهذه الحالة وأنت صاد عن السمع وعن الطاعة وعن فعل الصالحات.
{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100]، والكلمة التي يقولها المحتضر الذي جاءه الموت هي: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100].
كلمة يقولها لا اهتمام بها، ولا يجاب لتحقيقها؛ لأن الوقت فات، وتبقى حجة الله البالغة، وهو قد عصى وهو قد تمرد وهو قد خالف وهو قد أبى إلا الشرك وإلا العصيان وإلا الكفران، فلا ينفعه وقد أصبح ما كان يجب أن يكون إيماناً بالغيب أصبح إيماناً بحضور، وقد رأى ملائكة الموت ورأى حاله من سعادة وشقاوة، {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100]، لا جواب عليها ولا اهتمام بها ولا يلتفت لها.
{وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] يكون هذا عند الموت وعند الاحتضار، فوراءه بعد ذلك وأمامه وبين يديه زمان طويل وهو البرزخ، {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} [المؤمنون:100] والبرزخ هو الحاجز ما بين الموت وبين البعث والنفخ في الصور، فنرجو الله أن يكون مآلنا إلى الجنة فضلاً منه وكرماً جل جلاله وعلا مقامه.
{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]، ومن أمامهم ومن خلفهم ومن بين أيديهم، وقد أنذروا قديماً بالموت، وأنذروا بالحساب، وأنذروا بالبعث والنشور، وأنذروا بالبرزخ والحاجز الذي سيكون بين الموت والقبر وبين القيام إلى رب العالمين، يوم النفخة الثانية يوم البعث والنشور.
سيبقى هذا الحاجز وهذا البرزخ إلى يوم البعث، وهم مع ذلك تعذب أرواحهم، وينتقم منها ويعيشون في ألم نفساني، حيث يرى عن يمينه مكانه من الجنة فيما لو مات على خير، ويرى مكانه من النار عن يساره وقد حل فيه، فيزيده رؤية مكانه من الجنة حسرة على حسرة، وألم على ألم، وندم على ندم، ويرى مكانه من النار وهو حال بعذابها، وهذا هو البرزخ إلى يوم القيامة، فيجمع مع الأرواح الأشباح، ويكون العذاب جسدياً وروحانياً ونفسياً.(94/2)
تفسير قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم)
قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101].
يبقى هذا الحاجز وهو في قبره وهو لا يزال في الدنيا ميتاً إلى يوم النفخ في الصور النفخة الثانية كما قال ابن عباس، وكما قال مجاهد، وكما قال مفسرون هذه الفقرة الكريمة من هذه الآية؛ لأن النفخة الأولى تكون للموت، فلا يبقى على الأرض نفس ولا روح متحركة، ويبقى الله جل جلاله كما كان، وهو يقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]؟ فلا مجيب، فيجيب نفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]، وهذا يوم يفنى فيه كل ما عليها، ويوم تصبح السماء عهناً منفوشاً، ويوم تهدّ الجبال، وتغور المياه، وتتساقط السموات، ويوم لا يبقى إلا الله جل جلاله.
والصور هو بوق الله أعلم بكبره وعظمته، والملك المكلف به حانٍ رأسه ينظر الأمر والإشارة لينفخ النفخة الأولى عند الموت، ثم يبقى كذلك بعد أن يفنى معها، ثم يبعث فينفخ النفخة الثانية، وهي المقصودة في هذه الآية، فيبقى الحاجز بين الموت وبين البعثة الثانية زمناً الله أعلم بقدره وأعلم بمدته، فإذا نفخ في الصور قاموا في هذه الحالة وكل يقول: نفسي نفسي، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]، {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج:10]، فلا يبحث أب عن ولد، ولا ولد عن أب ولا زوج عن زوجة ولا زوجة عن زوج، وإنما كل يقول: نفسي نفسي، ويقول ذلك حتى الأنبياء عندما تذهب الخلائق إليهم مستشفعين من آدم إلى خاتم أنبياء بني إسرائيل وكل يقول: نفسي نفسي، ثم يأتون إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فيقوم ويسجد تحت ساق العرش ويقول: رب أمتي أمتي، فيكون له نصيب عظيم، والشفاعة العظمى ينفرد بها بين كل الخلائق.
وهو -كما سماه الله تعالى-: موقف عظيم، يوم يقال للرجل: قم خذ حقك من ولدك، وخذ حقك من أخيك، وخذ حقك من حميمك وصديقك، فتجده يبادر ولا يتنازل ولا يتسامح، وكل ما يهمه أن ينجو هو من عذاب الله ومن ناره، وبعد أن يدخل المؤمنون الجنة وتطمئن نفوسهم عند ذلك يتساءلون: من أنت؟ من أنت؟ فيتعارف الآباء والأولاد والأقارب في الآخرة كما كانوا متعارفين في الدنيا، وقد يمرون على من كان يضلهم وهو في جهنم فيقولون له: كنا نظنك ونظنك، مما قص الله علينا في أكثر السور وأكثر الآيات.
فالله ينذرنا ويحذرنا غضبه ويحذرنا عقوبته ما دمنا أحياء نملك أمر أنفسنا للتوبة والعودة.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] فلا ينفع نسب ولا سبب، ولا يسأل أحد عن أحد، فالكل يقول: نفسي نفسي، وهنا يقول ابن كثير في تفسيره وفي كتبه: إلا من مات على التوحيد وهو من السلالة النبوية، فقد ورد في الصحيح وورد في مسند أحمد عن جماعة من الأصحاب: عن المسور بن مخرمة، وعن أبي سعيد الخدري، وعن عمر بن الخطاب، وعن أبي هريرة رضي الله عنهم جميعاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل نسب وحسب ينقطعان يوم القيامة إلا نسبي وسببي)، وعمر خطب من علي ابنته أم كلثوم، فهنأه من هنأه بما تعاهدوا وتعارفوا عليه، وإذا به بعد أن تزف إليه يقول: ما هنأتموني، فيقولون: قد قلنا لك: بارك الله لها فيك وبارك لك فيها، فقال: والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل نسب وسبب ينقطعان يوم القيامة إلا نسبي وسببي)، فأرادت أن يرتبط نسبي وسببي بالنبي الله صلى الله عليه وسلم، والحديث أصله في البخاري، ورواه بأطول من ذلك أحمد في المسند، والبزار في المسند وأصحاب السنن.
وقد فسر البعض السبب والنسب هنا أنه سبب الإسلام ونسب الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم زوجاته أمهات المؤمنين، وفي قراءة: (وهو أبوهم)، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا لكم والا)، وقال لـ أنس وناداه: (يا ولدي) وقد كانت أحب إلى أنس من حمر النعم.(94/3)
تفسير قوله تعالى: (والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه)
قال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102].
ففي يوم القيامة ويوم البعث والوقوف أما الله للعرض والحساب، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:102] جمع ميزان، فللحسنات ميزان، وللسيئات ميزان، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:102] أي: ثقلت بالحسنات وخفت كفة السيئات، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] أي: الذين فازوا وأفلحوا وسعدوا برضا ورحمة الله ودخول الجنان.
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:103]، وأما أولئك الذين طاشت كفة الحسنات وثقلت كفة السيئات فأولئك هم الذين خسروا دنياهم وخسروا أخراهم، فكان خلودهم في جهنم، فهؤلاء الذين خسروا دنياهم حيث لم يستفيدوا منها، ولم يؤمنوا بربهم، ولم يؤمنوا بنبيهم، ولم يفعلوا الحسنات ويعبدوا الله.(94/4)
تفسير قوله تعالى: (تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون)
وهم في النار {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104].
(تلفح) أي: تصيب وتضرب وتحرق وتشوه، {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104] أي: عابسون مشوهو الخلقة، وقد وصفوا كما في آثار للصحابة وآثار نبوية وردت: أن الواحد منهم وهو وفي النار تتقلص شفته العليا إلى أن تكاد تغطي وجهه إلى رأسه، وشفته السفلى تتدلى إلى أن تصل إلى سرته، وتبرز أسنانه وأنيابه ويصبح في صورة مشوهه؛ بسبب غضب الله، وما صنعوه في دنياهم من شرك وكفر، فهم الآن يجازون عليه.
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104] أي: مقلصو الشفتين ومشوهو الخلقة، نعوذ بالله من حالهم، ونرجو الله تعالى رحمته ورضاه، وأن يعيذنا من ذلك كله، وأن يحيينا على الإسلام، وأن يميتنا على الإسلام رحمة منه وفضلاً وكرماً.
وهم على هذه الحالة في جهنم كالحون، يقول الله جل جلاله لهم: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105]، فلا تلوموا إلا أنفسكم، فقد أحييتكم دهراً، وأعطيتكم وعياً، وأعطيتكم بصراً، وأعطيتكم سمعاً، وأعطيتكم قلباً لتفقهوا به ومع ذلك لم تستفيدوا من كل ذلك، فما زدتم إلا إصراراً على الشرك والكفر، والآن وجدتم نتيجة عملكم وكفركم، فلا تلوموا إلا أنفسكم.
{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي} [المؤمنون:105] وهذا استفهام تقريعي توبيخي، أي: يا هؤلاء! وهم يوبخون: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي} [المؤمنون:105] كتابي وقدرتي، ومعجزات أنبيائي ترونها بالأبصار، وتسمعونها بالآذان، وتعون الحكمة منها، وتدركونها بقلوبكم، {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون:105] تسمعونها بوعي وبفهم، ولكنكم عن كل ذلك معرضون، {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105]، فكذبتم بربكم وكتابه، وأشركتم به، وكذبتم بنبيكم ولم تؤمنوا به، وأنكرتم معجزاته، وأنكرتم ما جاءكم به عن الله.(94/5)
تفسير قوله تعالى: (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين)
{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:106].
فأخذوا يعترفون ولكن هيهات، فهذا الاعتراف لم يفدهم وهم في سكرات الموت وهم يحتضرون، وما كان ليفيدهم وما كان لينجيهم وهم الآن في قعر جهنم، فعندما قيل لهم ذلك وكوشفوا به طمعوا: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106]، فقد غلب عليهم شقاؤهم وبؤسهم وجحودهم، وشدة كفرهم وتكذيبهم، أي: كانوا أشقياء غير سعداء، {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] أي: ضلوا الطريق وابتعدوا عن الهدى، وابتعدوا عن سبيل المؤمنين، وابتعدوا عن الطريق الحق: كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وسبيل المسلمين، ومن يتولى غير سبيل المؤمنين نوله ما تولاه ونصله جهنم.(94/6)
تفسير قوله تعالى: (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون)
وهكذا كان حالهم عندما أصبحوا في جهنم، ثم عادوا فقالوا -وقد طمعوا وقد سكت عنهم في الجواب-: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] أي: أخذوا يدعون ربهم وأخذوا يضيفونه لأنفسهم؛ طمعاً بأن يعودوا للحياة.
أخذوا يطلبون وأخذوا يطمعون بأن يخرجوا من النار ويعودوا للدنيا وللحياة، وأنهم إن أعيدوا للحياة وأخرجوا من النار فإنهم سيعملون صالحاً، ولا يظلمون بشرك ولا غيره! وحيث قد اعترفتم بأنكم ضالون وبأنكم ظالمون فما عسى أن يفيدكم ذلك من بعد؟ وإذا بالله الكريم يأمر ملائكته أن يجيبوهم أو يجيبهم بنفسه جل جلاله والآية تدل على كلا المعنيين، قال تعالى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] أي: ابتعدوا، واخسأ كلمة زجر وردع في لغة العرب، فتردع وتزجر بها الكلاب، فقيل لهم: ابتعدوا واخسئوا واسكتوا فلا مجال للقول الآن منكم، فلا طمع ولا حياة أخرى بعد الحياة الفانية: الحياة الدنيا.
فقد جاءكم الأنبياء، ونزلت عليكم كتب الله، وأعطيتم الحياة للتفكير وللعمل وللعبادة فلم تفعلوا، فحري بكم إن عدتم إلى الدنيا ألا تفعلوها أيضاً، وهم قالوا ذلك متشككين، فقالوا مع كل ذلك: لعل، وقالوا كلمات تشتمل التنفيذ وعدم التنفيذ، والله قد كذبهم وأبعدهم، {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، قال مفسرو الآية: كان بين قولهم وبين قوله: اخسئوا أربعون عاماً، هذا وردت فيه آثار عن بعض الصحابة والتابعين، وهي تحتمل الصدق، ولم يرد فيها حديث.
فلما قيل لهم: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] سكتوا البتة وما عادوا يطلبون، ويئسوا وخابوا، وأصبح كلامهم نباحاً لا يخرج منهم إلا كما يخرج النباح من الكلاب، حيث خاطبهم الله جل جلاله بما يردع به الكلاب ويزجر به الكلاب، {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]، فقد جاءتهم فرصة الحياة، وأرسلت إليهم الرسل، وأنزلت إليهم الكتب، وبين لهم، وأعطوا من النطق ومن السمع ومن البصر ومن القلب ما يمكن أن يفهموا وأن يعوا به، فأعرضوا عن كل ذلك، واستهزءوا بالصالحين، وكفروا برب العالمين، وكذبوا نبي الله ورسول رب العالمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال الجمهور من مفسري الآية: يا أيها الذين آمنوا! يا أيها الناس! وأنتم لا تزالون في الحياة افعلوا ما تمناه الكفار وهم في النار، فما دمتم أحياء فاعبدوا ربكم، وأطيعوا نبيكم، وافعلوا الخير لعلكم ترحمون، ولا تكونوا حتى إذا خرجتم من الدنيا وأنتم مقصرون في العبادة والطاعة فتطلبون وتدعون ما دعا به الكفار ورجوه، ولات حين مندم، ولا سبيل إلى الحياة بعد ذلك في دار الدنيا، والوقت شيء قد قطعهم وكان يمكنهم أن يقطعوه، فلم يفعلوا وهم يملكون حياتهم، ولا يزالون في دنياهم وهم يقدرون على ذلك ولم يفعلوا.(94/7)
تفسير قوله تعالى: (إنه كان فريق من عبادي يقولون)
ثم أخذ الله تعالى يقرعهم ويوبخهم؛ لتزداد حسرتهم، وليزداد تذكرهم لذنوبهم وجرائمهم، وليوقنوا أن لله الحجة البالغة، قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:109 - 110].
قال تعالى: يا هؤلاء! أنتم ترجون العودة إلى الدنيا وقد كنتم فيها وما صنعتم شيئاً، وقد كنتم ترون فريقاً من عبادي المؤمنين في الدنيا وهم معترفون بأن الله ربهم، وبأن الله خالقهم، وبأنه الواحد الذي لا ثاني له لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا} [المؤمنون:109] آمنا بك إلهاً واحداً، وآمنا بمحمد عبداً ونبياً ورسولاً لك، أرسلته لهداية البشر، وأرسلته لإخراجهم من الظلمات إلى النور.
فهم يقولون: عافنا واغفر لنا ذنوبنا ما كان قبل الإسلام وما تخلل الإسلام من مخالفات ومن سوء، استغفرناك وطلبنا رحمتك وطلبنا مغفرتك، أي: أنهم كانوا أذلة لله خاضعين لجلاله وسلطانه، ويعلمون أنه إذا لم يغفر لهم هو فلن يغفر لهم أحد، وإذا لم يوفقهم هو فلن يوفقهم أحد، فهو الرازق وهو المحيي وهو المميت.
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} [المؤمنون:109] أي: طائفة من عبادي وجماعة مؤمنة، {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [المؤمنون:109] أي: ارحمنا بمغفرة الذنوب، وارحمنا بالإنقاذ من النار، وارحمنا بدخول الجنان، {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:109] أي: أنت خير من يرحم، وأنت خير من يكرم، وأنت خير من ينقذ، وأنت خير من يجيب الداعي إذا دعاه.(94/8)
تفسير قوله تعالى: (فاتخذتموهم سخرياً)
فهؤلاء -وهذا مقامهم- كنتم في الحياة الدنيا تتخذونهم سخرياً وتهزئون بهم، وتضحكون عليهم، {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون:110]، قرئ سُخرياً وسِخرياً بضم السين وكسرها والمعنى واحد، أي: اتخذتموهم مساخر، وأخذتم تتضاحكون وتهزءون بهم وهم عباد الله الصالحون، وسيضحكون منكم يوماً وتندمون حين لا ندم.
{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} [المؤمنون:110] أي: اشتغلتم بهم ليلاً ونهاراً، فتارة تقولون عنهم: رجعيون، وتارة تقول عنهم: متأخريون، وتارة تقول عنهم: خرافيون، فإذا مروا أمامكم تغامزتم عليهم وتضاحكتم بهم، وظننتم أنفسكم شيئاً وأنتم لستم بشيء، ومع كل هذا كانوا يدعونكم لربكم ويعظونكم ويرشدونكم وتأبون إلا الإصرار على الشرك والكفر والعصيان.
{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} [المؤمنون:110] أي: اشتغلتم بذلك ليلكم ونهاركم حتى نسيتم ذكري وتوحيدي وعبادتي، وحتى نسيتم أن تذكروا أن هناك رباً خالقاً هو جل جلاله أحكم الحاكمين يوم لا حاكم إلا هو، فينتقم منكم لهم، ويحكم لهم عليكم، وتجازون الجزاء الأوفى خالدين في النار أبد الآبدين ودهر الداهرين.
{وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:110]، فأخذتم تتضاحكون وتتغامزون منهم، وانظروا الآن العاقبة ومن هو الأجدر بأن يضحك عليه، ومن هو الأجدر بأن يسخر منه!!(94/9)
تفسير قوله تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون)
قال تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111].
فهؤلاء هم الذين صمدوا على دين ربهم، والذين رسخوا في عبادة إلههم، والذين ثبتوا على الإيمان بنبيهم، فصلوا وصاموا، وزكوا وحجوا، وسامحوا وغفروا، وصبروا عن حقوقهم، وحرصوا على إيمانهم.
فهؤلاء الذين صبروا في الحياة الدنيا على استهزائكم بهم وتضاحككم عليهم أنا اليوم أجازيهم وأكافئهم وأحسن إليهم، فأغفر ذنوبهم، وأرحم ضعفهم، وأنقذهم مما أنتم فيه، وأدخلهم الجنان خالدين مخلدين.
{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} [المؤمنون:111] أي: بسبب صبرهم على أذاكم وعلى كفركم بأنهم هم الفائزون، فقد فازوا برحمة الله، وفازوا برضا الله، وفازوا بالجنان، وفازوا بأن قبل الله منهم في الدنيا عبادتهم وطاعتهم وصبرهم لأجله، فلم يهتموا بكم، ولم يلتفوا إليكم، فكانوا الفائزين وكانوا الناجحين، وكنتم أنتم الخاسرين، وكانوا المرحومين، وكنتم الملعونين.(94/10)
تفسير قوله تعالى: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين)
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112].
أي: قالت لهم ملائكة الله بأمر الله: أنتم الذين ظننتم يوماً أنكم في الدنيا خالدون، وأنكم بالملك فائزون، وأنكم بالتسلط على الأرض انفردتم بذلك، فلا مسكيناً ولا مؤمناً ولا صالح يستحق منكم كلمة إعجاب أو ثناء، فطالما تجبرتم وطغيتم فيها وطالما ظلمتم وآذيتم المؤمنين، كم تظنون هذه الدنيا التي مضت في طغيانكم وتجبركم كم تظنون عددها؟ كم عشتم؟ {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112]؟ أي: كم لبثتم وكم أقمتم في الدنيا عدد سنين؟ وإذا بهم يتركون السنة ويتركون العام بل ويتركون حتى الشهر، {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113]، فمنهم من عاش التسعين والثمانين والأقل والأكثر فانقضت وذهبت مع أمس الذاهب وكأنها لم تكن.
فما قدروها إلا بيوم أو بعض يوم، ثم عادوا فتشككوا وقالوا للملائكة: {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113]، ويعد ذلك من الملائكة المكلفين: ملك عن اليمين وملك عن الشمال، وهما اللذين يكتبان أعمال الخير وأعمال الشر، فيسألان كم مدة عشنا؟ وكم عام بقينا؟ وكم سنة ارتحنا فيها؟ ومعنى ذلك: أن تلك السنين لا تكاد تذكر بالنسبة لدوام الآخرة وخلودها، لكنكم مع ذلك عشتم أعواماً وعشرات السنين وفي كل تلك السنين لم تقولوا يوماً ولم تفكروا يوماً أن تقولوا: ربنا اغفر لنا يوم الدين، فعشتم كافرين ومتم كافرين.
{فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] أي: فاسأل الحاسبين واسأل المكلفين بنا فهم أدرى بنا وأعلم، فهم كانوا يعدون ونحن لم نكن نفعل ذلك، فيتكلمون عن ذهول ويتكلمون عن ضياع، {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113].(94/11)
تفسير قوله تعالى: (قال إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون)
{قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:114].
(قال إن لبثتم) أي: ما لبثتم إلا قليلاً، وهذا كما فهموا ولم يكن ذلك يوماً أو بعض يوم، ولكنه بانقضائه وبذهابه صار كأنه ساعة وكأن الإنسان يحلم وتظهر له الخيالات حتى إذا صحا وجد نفسه في المنام قد كبر وشاخ وتزوج وولد له وغير ذلك، وهو لم ينم إلا دقائق، فكان كل هذا المنظر الطويل في دقائق وهكذا الحياة، ولكن من جعلها للخير ربحها وكان الفائز، ومن خسرها كان الخائب وكان الضائع وكان المنبوذ والمطروح في جهنم.
{قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:114] أي: لو كنتم في دنياكم تعلمون ذلك وتعملون من أجله لما وقعتم فيما وقعتم فيه الآن من نار وعذاب ولعنة وغضب.(94/12)
تفسير قوله تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون)
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].
أي: يا هؤلاء! أكنتم تظنون وأنتم قد خلقناكم ورزقناكم وأكرمناكم بالبصر وبالحواس وبالقدرة وبالشم وباللمس، ورزقناكم من أنواع الطيبات، وأنواع الزوجات، وأنواع الأولاد، وأنواع الخدم، أكنتم تظنون أن كل هذا خلقناه عبثاً لاعبين؟ أتتصورون هذا عن ربكم؟ أخطر هذا ببالكم حتى جعلتم دنياكم كلها عبثاً ولعباً وسخرية بالموحدين المؤمنين الصالحين؟! {أَفَحَسِبْتُمْ} [المؤمنون:115] هذا استفهام إنكاري توبيخي تقريعي، فيوبخهم الله ويقرعهم، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون:115] أي: لعباً، {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] أظننتم أننا خلقناكم ورزقناكم ومع ذلك نترككم سداً ونترككم هباً لا مسئولية ولا حساب ولا بعث ولا نشور؟! ألم تنصحكم أنبياؤكم وتذكر لكم الكتب المنزلة عليكم، ويعلمكم ويفهمكم ورثة أنبيائكم ويدلوكم على الخير ويحذروكم الشر؟ أكل هذا قد نسيتموه وتركتموه وظننتم أن الحياة عبث، وأننا خلقناكم سداً وخلقناكم لاعبين؟ هيهات إنما هو ظنكم أرداكم وأهلككم وأوقعكم في هذه المهالك، فأنفسكم فلوموا وأنفسكم فذموا.(94/13)
تفسير قوله تعالى: (فتعالى الله الملك الحق)
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116].
نزه الله نفسه عن اللعب، ورفع جلاله ومقامه عن اللهو والباطل، فلا يليق بالله لهو ولا يليق به لعب، وإنما ذلك من شأن المخلوق العابث الضائع، وليس المخلوق الصالح ولا المؤمن فضلاً على الأنبياء والصالحين.
فالله بعد أن ذكر ذلك عنهم وأنهم ظنوا الدنيا لعباً ولهواً، وأن الله ما خلقهم إلا لذلك، نزه وقدس وعظم نفسه كي يعلمنا أن نعظمه ونرفع شأنه، فقال وهو الرفيع الجليل جل جلاله: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:116].
فالله حق وهو الحق ولا يصدر عنه إلا حق، وحاشا لله أن يكون شيء من عمله لعباً، وحتى الحيوانات وإن كانت لا حساب ولا عقاب عليها لم تخلق عبثاً، بل خلقت من أجلكم؛ لتجعلوها غذاء، ولتتمتعوا بها، ولتعبدوا الله عند أكلها والشرب منها، فتقول في البداية: باسم الله، وفي النهاية تشكر الله وتحمده.
قوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:116] الحق في اسمه، والحق في فعله، والحق في رسالته، والحق في أنبيائه، والحق في كتبه، وكل ذلك قد تعالى عن العبث والباطل فيه.
{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [المؤمنون:116]، ونقول: لا إله إلا الله بنطقنا وجناننا وكل خلايا جسومنا، فنعيش عليها ونموت عليها فضلاً من الله وكرماً، ولا يليق بالله الواحد الذي لا ثاني له ولا شريك له أن يخلق شيئاً عبثاً، أو أن يلعب جل جلاله.
{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] ذكر العرش هنا لأنه أعظم المخلوقات على الإطلاق، فذكره دال على القدرة الإلهية المفردة البديعة التي لا يتصور وجودها من مخلوق، والكرسي معلوم والكيف مجهول، وهو كالدرج إلى العرش، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن السموات السبع والأرضيين السبع وما بينهما بالنسبة للكرسي كحلقة مرماة في صحراء من الأرض، أي: هذا الملكوت كله كخاتم أمام عظم وكبر الكرسي، والكرسي كحلقة مرماة في فلاة من الأرض أمام العرش، وأشار صلى الله عليه وسلم بيده كالقبة وقال: (عرش الرحمن على خلقه هكذا)، وأشار بيده كالقبة.
ولذلك يذكر في القرآن العرش لعظمته وكبره، {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116]، قرئ الكريم بالكسر صفة للعرش، أي: الحسن البديع، وقرئ بالرفع صفة لله جل جلاله.(94/14)
تفسير قوله تعالى: (ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به)
قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ} [المؤمنون:117] أي: يقول: يا رب، ويدعو من يعبده مع الله، أي: أنه يشرك مع الله إلهاً ثانياً: ملكاً أو إنساً أو جناً، {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون:117] أي: عند ربه ليس له عليه دليل ولا سلطان ولن يكون، وإنما هذا للتعجيز، والشرك كله لا برهان ولا منطق له، ولا يمكن أن يتم ذلك في منطق العقول ومنطق الوعي.
{فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون:117] فحساب هذا وعقوبته إنما تكون يوم العرض على الله، فيحاسب على شركه، ويحاسب على كفره، ويحاسب على ما اخترع من نفسه بلا دليل ولا برهان ولا سلطان، على ذلك الإله الذي لا وجود له إلا في مخيلته وفي وهمه، {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون:117]، فيحاسب على هذا الذي دعاه وعبده وأشرك به.
{إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117] (إنه) أي: الشأن والأمر أن الكافرين لا يفلحون، فلا فلاح ولا نجاح لهم عند ربهم، فهم في النار دائماً خالدون فيها أبد الآبدين ودهر الداهرين، فهؤلاء هم الذين دعوا مع الله إلهاً آخر لا برهان لهم به فحسابهم إنما هو على ربهم، وهم بذلك لا يفلحون ولا ينجحون ولا يفوزون كما فاز المؤمنون.(94/15)
تفسير قوله تعالى: (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين)
ثم قال تعالى لنبيه: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:118].
أي: قل يا محمد وقل أيها المؤمن! رب اغفر، وأطلقت اغفر عن ذكر مفعولها ليدخل تحتها كل أنواع المعاصي، فاغفر ذنوبنا، واغفر سيئاتنا، واغفر جهلنا، واغفر سهونا، واغفر ما فعلناه عن قصد وما فعلناه عن غير قصد، وما أسأنا فيه غافلين وما أسأنا فيه متعمدين، اغفر كل ذلك يا رب فأنت وحدك القادر على المغفرة.
{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} [المؤمنون:118] أي: ارحمنا بهذه المغفرة، وارحم ضعفنا فإننا آمنا بك، ولم نشرك بك يوماً من الأيام، فاغفر لنا وارحمنا وعاملنا بما تعامل به عبادك المؤمنين الموحدين المسلمين.
{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:118] أي: وأنت يا ألله يا ذا الجلال والإكرام وحدك القادر على المغفرة، ووحدك القادر على الإنقاذ من النار، ووحدك القادر على جزائنا بدخول الجنان، ووحدك القادر على أن نخلد مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين فيها.
وهكذا الله جل جلاله يدعونا منذ بداية كتابه إلى آخر هذه السورة من سورة المؤمنين وإلى بداية السورة الآتية سورة النور وإلى ما بعدها ألا نعبد سواه، وألا نتعلق بغيره، وأن ندعوه بالمغفرة، وأن ندعوه بالتوفيق، وأن ندعوه بالسداد، وأن نصر لساناً وجناناً وأركاناً على عبادة الله بالقول والعمل على قدر الاستطاعة والطاقة، كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالضابط الكامل فقال: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا)، فمجهود الإنسان بالأعمال محدود، فما أمرت به فافعل منه ما استطعت، وأما ما نهيت عنه فهو عدم الفعل، وعدم الفعل سلب، فتستطيع أن تترك كل ما نهى الله عنه ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يكلفك هذا عملاً ولا جهداً، وإنما يكلفك عزيمة وإرادة.
ونحن بهذه الآية الكريمة نكون قد ختمنا سورة المؤمنون وأتممناها، وننتقل بعدها بعون الله وقدرته إلى سورة النور.(94/16)
تفسير سورة النور [1 - 2]
الزنا جريمة تفسد المجتمع، وتنشر الرذيلة، وتؤدي إلى ضياع الأنساب واختلاطها، وتفتح الباب للأمراض والمصائب، وقد حذر الله منها، وجعل جزاء من يرتكبها الجلد أو الرجم.(95/1)
أهمية سورة النور وما فيها من آداب وأحكام
قال الله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1].
لقد أنهينا سورة المؤمنون، وقد فصل الله فيها حال المؤمنين وأخلاقهم، منذ ابتدأ السورة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] إلى أن أنهيت بقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:117 - 118].
فابتدئت بصفات المؤمنين الذين هم أهل الجنة، والذين استحقوا من ربهم -فضلاً منه وكرماً- رحمته ورضاه والجنة، وختمت بالتنفير من الشرك، ومن اتخاذ الإله الذي لا برهان عليه، ثم ختمت بآخر آية بأن قال الله لنبيه: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ} [المؤمنون:118].
فطلب منه وأمره أن يستغفر لنفسه، وأن يستغفر لأمته، وأن يدعو لها بالرحمة، وأن يدعو لها بالسداد والهداية ليكون من أهل الجنة، وقد فعل صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وننتقل الآن إلى السورة التالية وهي سورة النور، وهي سورة مدنية بإجماع علماء التفسير، وفيها أربع وستون آية، وتكاد تكون كلها أحكاماً وحدوداً، وأوامر ونواهي، ومن المعلوم عند علماء القرآن أن القرآن الكريم كان في نزوله بمكة يقرر التوحيد، وكانت الآيات تنزل لتسفيه الشرك، وتزييف الشركاء، وقلما يوجد في السورة المكية أوامر ونواه وحدود وأحكام، وإنما كان أغلب ذلك في المدينة المنورة، وقد استقر فيها قدم الإسلام حاكماً وآمراً، وأصبح النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف تصرف الحاكم، فيقاتل ويجاهد، ويقيم الحدود من قتْل ورجم وجلد وقطع، ويعاقب الفئات والكتل المتمردة المخالفة: كما قاتل اليهود فقتل من قتل، وشرد من شرد، وصادر من صادر، وطرد من طرد، وأمر عند وفاته صلى الله عليه وسلم أن يطردوا جميعاً من جزيرة العرب نصارى ويهوداً، ولم يكن ذلك إلا أمر منه صلى الله عليه وسلم بطرد غير المسلمين من جميع ديار الإسلام، ومن العالم الإسلامي كله؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (لا تصلح قبلتان في أرض، ولا يصلح دينان في أرض).
وعندما قال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) كان العالم الإسلامي هو جزيرة العرب لم يخرج بعد عنها.
فهذه السورة مدنية بجميع آيتها الأربع والستين، وقد ابتدئت بحدود الزناة، وحدود القذفة، وباللعان، ثم بعد ذلك ذكرت قصة الإفك، وكان سبب نزولها قصة الإفك.(95/2)
تفسير قوله تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها)
{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} [النور:1].
ابتدأ الله جل جلاله بهذه البداية؛ ليلفت الأنظار إلى أهميتها، وإلى ما سيجيء فيها مما تعم بلواه كل البشر منذ نزول الرسالة المحمدية، ونزول كتاب الله الكريم، وإلى يوم النفخ في الصور، فأنزل له حدوداً وعقوبات لتكون زاجرة رادعة.
قال: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} [النور:1] أي: أنزل الله تعالى هذه السورة بآياتها الأربع والستين على خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه.
{وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1].
وفرض أحكامها وجعلها حكماً لازماً لكل إنسان يخرج عن حدود ربه، ويرتكب ما عنه الله نهى، وفرض فيه العقوبات اللازمة.
{وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:1] واضحات مفسرات متلوات، فيها البداية والنهاية من ارتكاب الإثم والعقوبة عليه.
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] لعلكم أيها المؤمنون تفكرون بأن الله هو الآمر والناهي، فلا ينبغي ولا يجوز أن يخالف ويعصى، فإذا خولف وعصي استوجب المخالف والعاصي غضب الله وعقوبته ونقمته في الدنيا، ولعذاب الله أشد وأنكأ.(95/3)
تفسير قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)(95/4)
معنى قوله تعالى: (الزانية والزاني)
ثم دخل في الموضوع فقال جل جلاله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].
هذه السورة كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمته ورعيته ومن كان حاضراً معه في المدينة: أن يحفّظوا هذه السورة لنسائهم، وأن يتعلموها ويعوا ما فيها من أحكام وعقوبات، ومن لعنة وغضب؛ حتى يكونوا على بينة من أمرهم فيما أحل الله وحرم.
وهذه السورة كان سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين كثيراً ما يبينون أحكامها، ويلزمون أولادهم -صغارهم وكبارهم- والنساء منهم خاصة -عواتق ومحصنات- بأن يحفظوها ويعوا ما فيها؛ ليعلموا أن الدنيا لم تخلق عبثاً، وأن من عصى وخالف فسيكشف نفسه، ويفضح على رءوس الخلائق مع اللعنة والغضب من الله.
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2].
والزانية والزاني هما: المرأة والرجل إذا أتيا حراماً مما يأتيه الزوج والزوجة حلالاً، فإذا تجامعا وأدخل أحدهما في الآخر فرجه من غير زواج ولا ملك يمين فإنه يعتبر في هذه الحالة زانياً، وهي تعتبر في هذه الحالة زانية.
ومن صدر عنه ذلك جعل الله له حداً، فللعزب البكر حد، وللمحصن حد، وقد ذكر في هذه الآية بعض عقوبة الزناة الأبكار، والبكر هو من لم يتزوج ولم يجامع مرة حلالاً، فمن لم يفعل ذلك ولم يحصل منه ذلك في زوجة بعقد صحيح فهو بكر، ومن تم منه ذلك ولو مرة واحدة في عمره يعتبر محصناً، وحده وعقوبته غير هذه التي نذكرها الآن ونبينها ونفسرها.(95/5)
معنى قوله تعالى: (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)
يقول الله جل جلاله: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].
أي: اضربوهما وأدبوهما بأن يجلد كل واحد منهما مائة جلدة، وكيف يكون الجلد؟ يكون الجلد بعصاً أو بجلد لا يكسر عظماً، ولا يجرح لحماً، ولكن بما يؤلم وبما يوجع، والجمهور على أن يجلد الزناة قائمين، ويضربون على كل عضو إلا المقاتل، فيتقي الوجه والرأس ومكان العفة قبلاً ودبراً، وفيما عدا ذلك يضرب على الظهر، ويضرب على الألية، ويضرب على الأظفار ويضرب على السيقان، ويضرب على البطن بما يوجعه ويؤلمه دون أن يجرح أو يكسر.
وجلد عمر مرة إنساناً على الرأس وكان يسأل أسئلة تتحول للشرك، واسمه صبيغ بن عسل، ولكن ذلك كان مبالغة في الزجر، ولم تكن الضربات إلا عدداً يسيراً لا مائة جلدة.
وابن عمر أقام الحد يوماً على إحدى إمائه وقد زنت، وكان ابنه واقفاً يراه فقال له: يا أبت إنك لا تضرب؛ لقد أخذتك بها رأفة! قال: يا بني لم نؤمر بقتلهم، ولكن أمرنا بجلدهم.
أي: فأنا أجلدها حتى الوجع والإيلام.
قال تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2].
والمراد هنا بالرأفة: الشفقة والحنان على الزانية والزاني، والمراد: لا تضربوهما ضرباً خفيفاً كمن يلاعب ولداً أو يلاعب زوجة، ولكن اضربوهما ضرباً موجعاً، يتألمان منه الأيام المتوالية؛ غير ألا تجرحوا لحماً ولا تكسروا عظماً.
وأما الشفقة الطبيعية فلا مانع منها، وليس في إمكان الإنسان أن يمنعها، فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال: (لك بذلك أجر).
وليس معناه: أنه رحمها وأشفق عليها فلم يأكلها؛ لأن ذاك عمل المجوس، ولم يخلق الله هذه الأنعام إلا لنا لنتمتع بها، ولنأكل لحمها حلالاً طيباً إذا ذكر اسم الله عليها.
وهكذا فما منعه الله هو: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2].
وليس معناه: ألا تضربوهما، بل اضربوهم ضرباً مؤلماً موجعاً، لا ضرب من يغازل ويلاعب، أي: لا تصل بكم الرأفة إلى ألا يكون هناك أثر لهذه العقوبة ولهذا الحد.(95/6)
معنى قوله تعالى: (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)
ثم قال تعالى: {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2].
أي: إن كنتم حقاً مؤمنين فيجب أن تلتزموا بأوامر الله، وبأن تتركوا نواهي الله، ولو كان الحد على ولد، وعلى قريب، وعلى أب، وعلى زوجة، وعلى أي كان فلابد أن تقام الحدود، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حد يقام في الأرض خير من أربعين يوماً تمطر فيه الأرض).
ولو أقيمت الحدود كما يجب لقلت الكثير من الجرائم، والكثير من الفساد في الأرض، وكمثل نضربه في بلدنا هذا المقدس الذي لا يزال يقيم الحدود في بعض أحكامها وأشكالها، نجد السرقة في جميع بلاد الله لا يكاد يخلو منها مكان صباحاً ومساءً، فلا يأمن الإنسان على مال في أرض، ولا في بيت ولا على عرض، وإذا عاقبوا لا يزيدون على أكثر من أن تسجنه الدولة مدة، وبهذا تضيع أموال المسلمين عبثاً، ولا يوجد السجن في الإسلام إلا بأشياء لا تكاد تذكر، كأن يوقف ليبحث عنه، ولا يتجاوز ذلك أياماً فإن طالت فأسابيع، ولا يكون السجن المؤبد إلا في حالتين وليس هو عند كل المذاهب: فعند الأحناف إذا امتنع المصلي المسلم من الصلاة فإنه يسجن إلى نهاية وقتها، فإن صلى أطلق سراحه، وإن لم يصل بقي في السجن إلى الصلاة أو الموت.
وكذلك يكون السجن المؤبد في حال القتل فيما قال عنه صلى الله عليه وسلم: (اقتلوا القاتل وأمسكوا الممسك) فإذا اشترك شخصان أحدهما حبس القتيل أو أمسكه، والآخر نفذ القتل فالقاتل يقتل، والممسك يسجن إلى الأبد حتى الموت.
وأما هذه الآلاف التي تعمر السجون في ديار الإسلام حتى تفسد أخلاقها، وينتشر بينهم ما لا يليق بين المسلمين من فسوق، وتصرف عليهم أموال طائلة وحراسة شديدة، فهذه كلها تنفق من بيت مال المسلمين ظلماً وعدواناً، وليس في ذلك أي حق إضافة إلى أنه مخالفة لأمر الله، وعصيان في ترك الحدود، ولا يليق ذلك بدولة إسلامية بحال من الأحوال.
وأما الديون التي يسجن فيها الكثيرون فلا يخلو: إما أن يكون المدين عامر الذمة له مال، وإما ألا يكون له مال، فإن كان له مال فيجب أن يؤدي المال قهراً وغلاباً، فإن لم يفعل بيع ماله حتى مسكنه لأداء الدين، ولا حاجة للسجن، وإن كان لا مال له فقد قال الله جل جلاله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، فينتظر به إلى أن يغنيه الله فيؤدي.
قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] أي: في حكم الله وفي حد الله.
{إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2] ولفظة (تؤمنون) لا تكاد تفهم إلا في عصرنا الفاسد، فنزعم أننا مسلمون ومع ذلك تبيح قوانيننا في أكثر ديار الإسلام أنواعاً من الزنا والفسوق والعصيان، بل تعطى الزانية رخصة للزنا، وهي تعيش بالزنا، فهناك قوانين كفر استوردت من بلاد الكفر فتبناها المسلمون، وامتلأت بها ما تسمى كليات الحقوق، ومجالس الدولة، ويقوم مدعي الدولة والمحامون وما إلى ذلك ليدافعوا عن هذا القانون المجرم، وعن هذه المواد القانونية الفاسدة التي تنشر الكفر والمخالفة والفساد والفجور في الأرض، فيقولون عن البنت إذا ملكت أمرها وبلغت سن الرشد إن عرضها لها تؤديه لمن شاءت، ويقولون عن الزوجة: لها أن تسلم عرضها لمن شاءت، ولا حق لأحد في المعارضة إلا زوجها، فإن لم يعارض فقد أذن لها.
وللرجل أن يخالل من شاء وهو مسلم وهي مسلمة، فإذا رفعت به قضية يقول القاضي والوزير والحاكم في أكثر ديار الإسلام: أنت تخالف القانون الذي أعطاها حريتها وأعطاه حريته، ولذلك عندما نقرأ الآن: {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2] فما أشد وقعها، وما أصدق معناها، أي: هؤلاء يزعمون أنهم مسلمون ومع ذلك لا يقيمون حداً على زانية ولا زانٍ، ولو كانوا مؤمنين حقاً لكان كتاب الله واجب الطاعة في كل ما أمر به، واجب الطاعة في ترك كل ما نهى عنه، وعندما لم يفعلوا ذلك دخلوا في قوله تعالى: {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2] أي: إن لم يفعلوا فلا يكون إيمانهم صحيحاً، وبالتالي لا يكون تاماً ولا كاملاً بحال من الأحوال.(95/7)
معنى قوله تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)
ثم قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].
أي: وليحضر جلدهما وعقوبتهما طائفة من المؤمنين، والطائفة: قال البعض من الأئمة: تشمل الواحد فما فوق، وما أرى هذا صحيحاً، بل الطائفة: تشمل الجماعة، وقد حدد الإمام مالك والإمام الشافعي الطائفة بالأربعة فما زاد، قالوا: لأنه إذا لم يكن هناك اعتراف فإنه لا تتم إقامة الحد إلا بأربعة شهداء، ولذلك ينبغي أن يكون هؤلاء الأربع من الحاضرين، فإن كان عن اعتراف فليحضر أربعة.
وحضور هؤلاء فيه زيادة العقوبة النفسية، وزيادة الزجر والردع لمن تحدثهم أنفسهم بهذه الجرائم، وبهذه اللصوصية على الأعراض، فإن الإنسان قد يقبل ألف جلدة ولا يفضح بتلك الفضيحة، ولكن هذا من تمام الحد، فلا يفلت منهم وجيه ولا غير وجيه، كبير ولا صغير، ذو جاه أو صعلوك من مساكين المسلمين، فالكل أمام الحق سواء.
في هذه الآية بالنسبة للزناة ذكوراً وإناثاً: أن يجلدوا مائة جلدة، وأن تكون هذه الجلدات دون شفقة ولا رحمة تؤدي إلى النقص من الجلد، أو إلى ألا يكون جلداً موجعاً.
الثالثة: أن يحضر عقوبتهما جماعة من المؤمنين، ولا يتم الحد في الآية الكريمة إلا بذلك.(95/8)
التفريق بين حد الزاني البكر والزاني الثيب
أنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المكلف بالبيان، فكان بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم التفريق في حدود الزنا بين البكر والثيب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم).
وكان هذا إجماعاً لم يختلف عليه أحد من الصحابة، فكان إجماعاً صحابياً حقيقياً، وأولى الإجماعات بالصحة والعمل إجماع الصحابة، وحدث بعد ذلك خلاف لا يعتبر؛ لأنه خروج على إجماع الصحابة، وإلغاء للنصوص المتواترة المفروضة الواجبة، فقال بعض الخوارج وبعض المعتزلة: ليس في كتاب الله في حد الزناة إلا مائة جلدة، فلا تغريب ولا رجم، والمحصن وغير المحصن سواء.
وقد خطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يوماً على المنبر فقال رضي الله عنه: (يوشك أن يزعم زاعم وأن يقول قائل: ليس الرجم في كتاب الله، وقد نزلت آية فيه قرأتها وقرأها الناس، ولولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لألحقتها بالمصحف، ثم قال: وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم أبو بكر).
فأما النبي صلى الله عليه وسلم فلا يخالفه إلا كافر، وأما أبو بكر فلم يخالفه أحد، ولم يعترض على فعله أحد، فكان أيضاً أجماعاً صحابياً، ثم قال عمر: لم تنته الدنيا حتى يكذب الناس بالرجم، وبعذاب القبر، وبالشفاعة، وبكون الإنسان يخرج من الجحيم بعد أن يمتحن، وبعد أن تكون أعضاؤه فحمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: الرجم حق، وعذاب القبر حق، وسؤال القبر حق، والشفاعة حق، وبكل ذلك شهد عمر وشهد معه عبد الرحمن بن عوف وفلان وفلان من الصحابة.
وعن زيد بن ثابت العالم بكتاب الله، قال: لقد قرأنا زمناً في القرآن الكريم آية هي من سورة الأحزاب: الشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، وارجموهما البتة.
والقراءة الشهيرة: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وهو حديث مالك في الموطأ.
وقوله: (الشيخ والشيخة) أي: المحصن والمحصنة.
ومن المعلوم من الدين بالضرورة عند علماء القرآن والسنة أن آيات القرآن ثلاثة أنواع: آية نسخت ورفعت حكماً كما رفعت تلاوة ووجوداً.
وآية نسخ عملها وبقي لفظها، وآية نسخ لفظها وبقي حكمها، ومنها الشيخ والشيخة، وقد قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106].
وقد رجم صلى الله عليه وسلم في حياته رجالاً ونساءً، فرجم من النساء الغامدية، والجهنية، والسيدة التي زنت بعسيفها وأجيرها، واليهودية واليهودي اللذين جاءا يحتكمان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجمهما معاً صلى الله عليه وسلم.
وماعز بن مالك الأسلمي رجمه صلى الله عليه وسلم حتى الموت، ورجم أبو بكر، ورجم عمر ورجم عثمان وجلد علي شراحة يوم الخميس مائة جلدة، ورجمها يوم الجمعة، فقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله.
ولكن جمهور الفقهاء اعتبروا كقاعدة أصولية أنه إذا اجتمعت عقوبتان يعاقب بأشدهما، ويكتفى بها، فإذا اجتمعت عقوبتان: الرجم والجلد، فالرجم أشد من الجلد، فيكتفي بالرجم عن الجلد، وجاء أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنا بزوجته، وكنت قد فديت ولدي منه بمائة شاة وجارية، فاحكم بيننا بكتاب الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (لأحكمن بينكما بكتاب الله، أما الشياه والوليدة فهي عليك رد، وأما ولدك فعليه مائة جلدة وتغريب عام، وقم يا أنيس إلى زوجة هذا فإن اعترفت فارجمها.
فاعترفت فرجمت).
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله جعل للزناة سبيلاً: الثيب بالثيب مائة جلدة الرجم، والبكر بالبكر مائة جلدة وتغريب عام).
وهذا متواتر عن جماهير الصحابة، وهذا ما قاله وأفتى به الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي وأحمد، وأنه لابد مع المائة جلدة من أن ينفى ويغرب عاماً.
وقال الحنفية: التغريب بيد الحاكم إن شاء غرب وإن شاء ترك، واعتبروا ذلك تعزيراً زائداً، وقالوا عن التغريب: هو سجن لا يترك في البلدة قريباً، هكذا فهم أبو حنيفة وأصحابه، وعلى هذا فالآية بقيت غير منسوخ فيها حكم الأبكار، والتغريب أبانه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجم كان يتلى قرآناً.
لكن عندما نسخت ورفع نصها لم تبق آية معتبرة، فلا تتلى، ولا يصلى بها، ولا يعتبر القراءة بها كالقراءة بالقرآن على كل حرف عشر حسنات.(95/9)
أضرار الزنا
حذر الشارع من الزنا لعدة أسباب ظاهرة معلومة قبل وبعد، يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح وعند أحمد في المسند وعند أصحاب السنن: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمرأة المسترجلة تتشبه بالرجال، والديوث).
والديوث: هو الذي يرى المنكر في أهله فيقره ولا يغار، ولا يكاد يحرك ساكناً.
وإذا كان التلصص على الأموال جزاؤه قطع اليد أولاً، ثم قطع الرجل ثانياً، ثم قطع اليد ثالثاً، ثم قطع الرجل الرابعة إلى أن يصبح لحماً على وضم، فالذي يتلصص على الأعراض ويفسد على الناس أنسابها، هل جزاؤه إلا الرجم، على أن الزنا قد حذر منه الشارع حفاظاً على الأنساب والأحساب، وحفظاً للصحة، وسلوا اليوم الأطباء جميعاً في بلاد الإسلام وبلاد غيرهم، فسيقولون: أكثر ما نعالج هي أمراض الفروج وأمراض الأدبار، وما ذلك إلا نتيجة للزنا، وذلك أن الإنسان مجمع القاذورات ومجمع الأوساخ، ومجمع الجراثيم حتى إذا زنى جمع جراثيمهما لبعضهما، ثم ذهب المتزوج فأفسد بذلك زوجته، وأفسد رحمها، وأفسد أولاده وهم في بطون أمهاتهم، ويحملون من الأمراض والجراثيم ما يصبح عدوى للأم، وعدوى للوليد، وعدوى لمن سيعاشر هذا الوليد.
فهذا القيح والصديد الذي يتوالى من فروج النساء والرجال، وأدبار النساء والرجال، يفسد على الإنسان شبابه، ويفسد على الرجل رجولته، ويفسد على المرأة أنوثتها، ويفسد شهامتهم، ويفسد أخلاقهم، ويصبح كل عضو يحمل مرضاً دائماً مزمناً ينتشر بالمصافحة أحياناً.
وهذا القيح وهذا الصديد الذي ينزل منها أماماً وخلفاً يعلق بالثياب، ويعلق بالمجالس، ويعلق بالحمامات، فيأتي الآخر وإذا به قد علق به، ثم قد يلزمه، فاسألوا الأطباء وقولوا لهم: لم هذه الأمراض؟ فسيجيبونك: هذا نتيجة نشر الزنا، ونشر الفساد، ونتيجة نشر التلصص على الأعراض، فكيف إذا أصبح ذلك في الدولة شيئاً رسمياً تفتح له الدور، وتقوم له بغايا تنتشر في الأحياء، وبين الشباب، وبين المتزوجين، وبين البنات، وبين المتزوجات، فماذا ستكون النتيجة؟ يصبح البلد كله ماخورة من المواخير، وبؤرة فساد، وخمارة من الخمارات، وعادة يضاف لذلك الخمرة والحشيش والبلاء من كل نوع.
ومن هنا ضاعت الغيرة من الناس الذين يرتكبون مثل هذا، وضاع الشرف، وضاعت الرجولة، وضاعت الشخصية، وصاروا أشبه بالكلاب والخنازير؛ لأن هذه هي التي تفقد الغيرة، وتجد أحدهم ينزو على إحداهن والآخرون ينتظرون دورهم دون أن يحركوا ساكناً، ولا يقلدون الجمل في غيرته، ولا الديك على الأقل الذي يكاد يفترس الإنسان فيما إذا حاول أن يمس دجاجته، فتجده يثور ثورة الأسد الهصور، وليس إلا طائراً مسكيناً يذبحه الناس بالملايين يومياً، فلا هو تعلم غيرة الرجال ولا غير ذلك، فما بالك بغيرة المسلمين! وأما الجمل فمن المعلوم عنه أنه إذا رأى إنساناً يأتي ناقته فإنه يحقد عليه إلى أن يقتله، ولا يقبل حتى أن ينظر إليه، وطالما تقاتل فحلان من الجمال في سبيل ناقة فقتل أحدهما الآخر، ولا يفقد الشهامة، ولا يفقد الغيرة إلا إنسان فقد إنسانيته وآدميته بعد أن فقد دينه وإسلامه من قبل، وأصبح كالكلب والخنزير.(95/10)
تفسير سورة النور [3 - 5]
حفظ الله أعراض المسلمين من أن يتعرض لها بالكلام، فجعل حد القذف ثمانين جلدة، وحكم على القاذف بالفسق ورد الشهادة إلا أن يتوب.(96/1)
تفسير قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة)
قال تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3].
ينكح هنا معناها: الجماع لا الزواج، وأدخل بعض المفسرين فيها حتى الزواج، والمعنى: الزاني لا يزني إلا بزانية مثله، وهذا طبيعي، فإنها ما طاوعت حتى كانت زانية مثله، أو كانت مشركة تحلل ذلك ولا دين لها، فإذاً: لا يقع التطاوع بين زانٍ وزانية حتى يكون كلاهما زانياً ولصاً من لصوص الأعراض.(96/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4].
هذا هو ما يسمى بالقذف، فعندما يعف الرجل والمرأة ثم يأتيهما مجرم فيتهمهما ويقذفهما بالزنا، فقد جعل الله على القاذف إن قذف محصناً أو محصنة ثمانين جلدة.
فمن كانت عفيفة متزوجة، أو سبق أن تزوجت، أو عفيفاً مسلماً تزوج أو سبق أن تزوج، ثم جاء هذا فقذفه وقال له: هو زان، أو قال له ما يشعر بذلك أو يؤكده، يقول تعالى: من قال ذلك وقذف به يجب أن يأتي بأربعة شهداء يشهدون في آن واحد، فيقولون: رأينا مرود فلان في مكحلة فلانة، أو رأينا الذكر في الفرج، وإذا لم تكن الشهادة في وقت واحد فإنها تسقط ولا تقبل بحال، وإن نقص عن الأربعة واحد فإنه يعتبرون قذفة، ويجلد الثلاثة ثمانين جلدة.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور:4] جعله الله رمياً كمن يرمى بالرصاص، وجعله قذفاً كمن يقذف بالحجارة، فشرف الإنسان وعرض الإنسان وكرامة الإنسان عادة أشرف وأعظم من حياته، فكيف يقذف ويتهم في دينه وهو محصن وزوج وأب، وقد يكون جداً، فهذا الذي فعل ذلك أتى إثماً كبيراً، لكن إذا أتى بالشهداء الأربعة ليشهدوا بذلك فذاك زان، وحق عليه الردع والزجر بإقامة الحد، وهو الرجم، فإن لم يفعل فهو عند الله كاذب، فيجب أن يؤدي جزاء كذبه ثمانين جلدة، وليشهد عذابه أو عذابهم طائفة من المؤمنين، وحضور الطائفة في حدود الله رجماً أو قتلاً أو صلباً أو تقطيعاً أو جلداً لابد منه؛ لإتمام العقوبة وزجر الآخرين ممن تحدثه نفسه في أن يرتكب مثل ارتكابه، وأن يجرم مثل جرمه، ولو لم يكن ذلك لما أفاد حد ولما أفادت عقوبة، وفي مثل هذا يقول ربنا جل جلاله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].
وذلك أنك لو لم تقتل القاتل لفعل ذلك كثيرون ممن تحدثهم أنفسهم بإزهاق الأرواح وبالقتل، فعندما يرون القاتل يقتل تجدهم ينكصون على أعقابهم، وأما لو يعلمون أنهم سيسجنون وفي يوم من الأيام سيطلق سراحهم، أو يؤدون الغرامة فهذه ليست جزاءً وفاقاً، ومن هنا امتلأت الأرض جرائم، حيث جاء هؤلاء الذين يقولون بالشفقة والرحمة وأن السجن مدرسة.
ونحن نقول: السجن خمّارة، والسجن مدرسة للفساد، فيدخل الرجل عفيفاً لسبب من الأسباب وقد يكون سياسياً، فيخرج من أخبث خلق الله في الغالب؛ حيث يفسده من معه، فيعلمونه الحشيش والخمر والفساد بكل أنواعه، ويتركون زوجته وهي في حاجة، وقد تضل وتفسد، ويتركون أطفاله في الشوارع يحتاجون ويجوعون، لم كل هذا؟ إن قتل فاقتلوه والله تعالى يعوض على الزوجة، والأولى أن تتزوج، ويشرف على الأولاد غيره، أما وهو حي فهذا لا يتم، وليس هناك إلا الفساد ونشر الفساد، ولذلك تجد جميع قوانين الأرض غير القوانين الإسلامية لا تدعو إلا للفساد وللظلم، وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45].
{فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
ظالمون؛ لأن هذه الأحكام ليست عدلاً بل هي الظلم بعينه، وليست إيماناً بل هي الفسق بعينه، وليست إسلاماً بل هي الكفر بعينه؛ لأنه خالف كتاب الله، وخالف سنة رسول الله، وألغى الحدود، ولا يفعل ذلك إلا كافر ظالم فاسق، وهكذا حدث.
وكما ورد عن نبي الله عليه الصلاة والسلام أن الناس في آخر الزمان كما دخلوا في دين الله أفواجاً فسيخرجون منه أفواجاً.
وأحد المعاصرين من العلماء الأفاضل الدعاة إلى الله كتب بحثاً وألقى محاضرة ونشرها في غير ما قطر من أقطار الإسلام قال: ردة ولا أبا بكر لها، فالردة الأولى التي كانت عقب الموت النبوي عندما ذهب للرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم، وجد لتلك الردة الخليفة الأول أبو بكر فردعها وزجرها وقضى عليها، فإما العودة إلى الإسلام أو الموت والدفن في التراب، وهذه الردة لا رادع لها ولا زاجر عنها، ولا من يهتم بها، وفي أكثر هذا تجد الرجل قد ارتد وهو متزوج مسلمة صالحة، والزوجة قد ارتدت وتتزوج مسلماً صالحاً، والزواج بينهم مفسوخ لأنه لا يصح الزواج بين كافر ومسلم.
فالمسلمة لا تتزوج إلا مسلم، والمسلم لا يتزوج إلا مسلمة أو كتابية تحت ذمة المسلمين وتحت أحكامهم وليس تحت ذمة غيرهم، فالمسلمون اليوم يعيشون تحت الذمة، فعندما يتزوج المسلم الكافرة يعرض أولاده للكفر وللردة وللذهاب للكنائس والابتلاء بالبيع، وكم رأينا ورأيتم من هذا الكثير في كل قطر من أقطار العالم الإسلامي.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4].
رموهم وقذفوهم ولم يؤكدوا دعواهم وقذفهم للمحصنات بالشهداء، والمحصنات يدخل فيها المحصنون.
قال تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4].
هذه هي العقوبة الأولى، وهي تقع على كل عضو من أعضائه سوى القبل والدبر والوجه كما تقدم في الزنا.
قال تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4].
لأنهم أصبحوا قذفه، وأصبحوا فساقاً ولم يبقوا مزكيين ولم يبقوا عدولاً، فلا تقبلوا لهم أي شهادة، ولو شهد على بصلة فهو فاسق.
فالعقوبة الأولى: الجلد، والعقوبة الثانية: أن تلغى شهادتهم وتزكيتهم.
{وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4].
حكم الله عليهم بأنهم فسقة، وأصبحوا فجاراً، ولذلك لا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وعمر رضي الله عنه في أيام خلافته جاءه أربعة شهود يشهدون على فلان من أمرائه أنه زنى بفلانة، فشهد ثلاثة أنهم رأوا فلاناً على فلانة وسموه -وأنا لم اسم احتراماً لمقام الصحبة- وأما الرابع فكان شاباً في حدود العشرين، وكان يظهر من ملامحه الذكاء، وكان له شأن بعد ذلك، قال: يا أمير المؤمنين، رأيت فلاناً يجهد فلانة، وهو بين شعبها الأربع، ولكنني لم أر مروداً في مكحلة، وإذا بـ عمر يقول: الله أكبر! ودعا بالسياط ودعا بالجلادين فجلد الثلاثة كل واحد ثمانين جلدة، وكان أحدهم من صالحي الصحابة ومن كرامهم ومن كبارهم، وكان يجلد وهو يقول: أشهد بالله لقد رأيته فاجلدوا أو لا تجلدوا، فجلده الثمانين، ثم بعد ذلك حاول أن يجلده مرة ثانية؛ لأنه أصر، وإذا بمن كان حاضراً من الصحابة قال: يا أمير المؤمنين التهمة واحدة، وإنما كرر القول، ولذلك لا يجلد مرتين.(96/3)
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا)
يقول الله بعد ذلك: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:5].
فهم فساق بحكم الله، فتمنع شهادتهم، وتزول تزكيتهم، {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5] لم يغلق الله باب رحمته على المؤمن مهما صدر منه، ومع هذا الحكم من الجلد ومن التفسيق ومن إلغاء الشهادة إذا هؤلاء تابوا إلى الله بعد ذلك وأنابوا وأصلحوا، ومعنى الإصلاح: ألا يعودوا لاتهام أحد، ولا لقذف محصنة ولا محصن، فهؤلاء يعتبرون قد تابوا، فإذا تابوا {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:5] يغفر الذنوب ويرحم العصاة، وباب رحمته مفتوح باستمرار، ويمد يده في النهار لمستغفري النهار، ويمد يده بالليل لمستغفري الليل، ولكن الناس يفرون ممن يرحمهم، ويغفر ذنوبهم، وإلا فالله يغفر الشرك ويغفر الكفر به، والإسلام يجب ما قبله فكيف بغير ذلك، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم مع عصمته وجلالته يقول: (إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة) يعلمنا بذلك أن نستغفر الله، ولذلك ورد في الأذكار والأوراد أن يستغفر الإنسان خلف كل صلاة، وأن يجدد الاستغفار عند كل وقت: عند النوم، وعند الصحو، وعند النهاية من الصلوات، وفي كل ما يصدر منه ويظنه معصية ولو وهماً ليستغفر الله؛ عسى الله أن يغفر ذنوبه، وعساه إن مات يموت على مغفرة، ويموت على رحمة.
وهذه الآية للقذفة الذين يقذفون المحصنات، وأما الذي يقذف الحدث البكر العزب غير المحصن فهذا يعزر؛ لأن قذف المحصن ليس كقذف العزب المحصن، فهناك حق زوجته، وهناك حق أولاده؛ ولأن الجريمة لو ثبتت وقد أعلنها هؤلاء لكان جزاؤها الرجم وهي عقوبة شديدة، وأما العزب فالعقوبة الجلد، والتغريب عاماً، وشتان بين مائة جلدة وتغريب عام، وبين الرجم والنفي من الحياة كلها.
لذلك فإن جزاء قذف المحصنين والمحصنات ثمانون جلدة، وقذف البكر والعزب أنثى كان أو ذكراً، جزاؤه التعزير، والتعزير لا يزيد عند بعض الأئمة على عشر جلدات، ولكن للحاكم أن يقدر مقدار ما صدر عنه من إيذائه لهذا الشاب أو لهذه الشابة، كأن يريد مصاهرة إنسان في ابنته فيأتي هذا ويقول: فلان أنا رأيته زانياً، فيفسد عليه المصاهرة التي كان يمكن أن تكون ربحاً له في الدنيا والآخرة، وقد يقذف البنت فيقول: تأخذ فلانة وأنا رأيتها مع فلان، وهو كاذب، فهذا ينظر الإمام فيه ويرى رأيه.
وقد يكرر التعزير بمقدار ما تأذى به المقذوف، والعدل قامت عليه السموات والأرض، وبه جاء الإسلام، ولذلك كان القرآن والسنة المطهرة هما العدل المطلق بين كل البشر: مؤمنهم وكافرهم، صديقهم وعدوهم على حد سواء.
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور:5] أي: من بعد القذف ومن بعد قيام الجلد، ولو تاب قبل الجلد فذلك لا يعفيه من العقوبة، ولا يعفيه من الحد، والضابط في ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: (تعافوا قبل أن تأتوني) أي: فليعف أحدكم ذنب الآخر في حد قبل أن تصلوا إلي، أما إذا وصلت التهمة إلى الحاكم فلا عفو، فلابد من قيام الحد.(96/4)
تفسير سورة النور [6 - 10]
من الأحكام التي بينها الله تعالى في سورة النور حكم اللعان، وذلك أن الرجل قد يجد مع امرأته رجلاً ولا يجد أربعة شهداء يشهدون على ذلك، فيتحير فيما يفعله تجاه هذا الموقف الحرج، فشرع الله حد اللعان لذلك.
وكذلك ذكر الله حادثة الإفك وكذب المنافقين والمغفلين فيها.(97/1)
تفسير آيات اللعان(97/2)
حد اللعان
قال الله جلت قدرته: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:6 - 7].
هذا الحكم يتعلق بمن قذف زوجته ورماها بالفاحشة، أو تبرأ من حمل لها، أو من وليد لها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6].
أي: الذين يقذفون زوجاتهم بالفاحشة ثم لم يأتوا بأربعة شهداء كما سبق، فهذا يعتبر قاذفاً يجلد على قذفه ثمانين جلدة، وإلا فاللعان.
واللعان: هو أن يأتي بأربعة أيمان، والخامسة اللعنة، كما قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6].
فيأتي إلى الحاكم فيقذف زوجته بأنه رأى الفاحشة بعينه، وسمع بأذنه، ولم يكن له شهداء، فإذا لم يكن له شهداء، ولم يشهد بذلك إلا نفسه، ولم ينقل ذلك إلا عن رؤيته وعن سمعه، فهذا يشهد أربع شهادات، والخامسة اللعنة؛ فيقوم مقام الشهداء الأربعة، قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور:6].
فيقف أمام ملأ من الناس في أشرف بقعة في البلدة، وإذا كان في مكة ففي بيت الله الحرام بين الركن والمقام، وبعد صلاة العصر، وإن كان في المدينة المنورة فبعد صلاة العصر وعند المنبر النبوي، وإن كان في غيرهما ففي المسجد الأعظم في الجامع الكبير من المدينة بعد صلاة العصر كذلك، ويحضر اللعان -لعان المرأة والرجل- جماعة كذلك؛ لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].
فيؤتى بالرجل أولاً فيقول للحاكم: رأيت بعيني وسمعت ببصري، فيأمره الحاكم بعد أن يعظه بألا يكذب وألا يفتري، فيقسم القسم الأول أنه يُشهد الله على أنه فلانة -ويسميها- زنت بفلان -ويسميه-، ويُشهد الله أنه صادق في قذفه، وصادق في اتهامه، وصادق فيما ادعى وزعم عليها، ثم يقسم ثانياً، ثم يقسم ثالثاً، ثم يقسم رابعاً، وعند الخامسة يوقفه الحاكم ويقول له: إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة، أي: الموجبة لعذاب الله، فعذاب الله مهما يكن أشد من ثمانين جلدة كان سيجلدها إذا كان كاذباً.
وفي الخامسة يقول: إن لعنة الله عليه إن كان كاذباً، فإن فعل ذلك يدرأ عنه العذاب وهو الجلد، ويكتفى بذلك، ويبقى الأمر بينه وبين ربه، فإن كان صادقاً فلا شيء عليه، وإن كان كاذباً فقد أقسم كاذباً أربع مرات، ثم لعن نفسه إن كان كاذباً وهو كذلك.
قال تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:8]، ثم يؤتى بالزوجة المتهمة المقذوفة فتشهد أربع شهادات، وتشهد الله على أن زوجها فلاناً قد كذب عليها في اتهامها بالزنا مع فلان، وتسمي الزوج وتسمي الرجل المتهمة به.
وعند الخامسة يقول لها الإمام أو القاضي أو نائبه: يا فلانة هذه الموجبة، أي: الموجبة لغضب الله ولعنته، إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل فيكما من تائب، فإن عذاب الدنيا مهما يكن أخف من عذاب الآخرة، فعندما تصر تقول في الخامسة: إن غضب الله عليها إن كان هو صادقاً في تهمته.(97/3)
سبب كون اللعنة على الرجل والغضب على المرأة
ولم ذكر الزوج بالعذاب والزوجة بالغضب؟ لأن الغضب يكون على الجرم والإثم عن علم، وعن نية مبيتة وقصد سابق، ومن هنا عندما أمرنا الله جل جلاله بتلاوة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة فرائض ونوافل، علمنا أن ندعو الله فيها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7] وهم اليهود، فقد غضب الله عليهم لأنهم ضلوا عن علم ومعرفة سابقة، وضلوا عن أنبياء كثر علموهم وهدوهم وأرشدوهم وبلغوهم رسالة الله، وقد وصف لهم نبينا عليه الصلاة والسلام الوصف البليغ الوافي، ومع علمهم بذلك حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم، وحسدوا العرب أن تكون النبوءة فيهم، فكانوا مغضوباً عليهم، وكان النصارى ضالين، لأنهم ضلوا عن جهل، فتلاعب بهم اليهود أيام عيسى، وتلاعبوا بهم بعد رفع عيسى حتى ضلوا.
ومن هنا كانت اللعنة على الرجل إن كان كاذباً أي: الطرد من الرحمة، وأما هي فتدعو على نفسها بالغضب إن كان زوجها صادقاً.
هذا الحكم -وهو اللعان- يرفع به الحد عنها وعنه، فهي لا ترجم وهو لا يجلد، فهذا حكم الله الواجب الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأصبح حكماً مجمعاً عليه في جميع المذاهب دون خلاف من أحد.(97/4)
سبب نزول آيات اللعان
لما نزلت الآية جاء سعد بن معاذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أهكذا نزلت الآية؟ أيرى أحدهم فاحشة في زوجته فيتركها إلى أن ينتهي الزاني منها، وهو يبحث عن أربعة شهود؟! ولا يكاد يجدهم حتى يكون الزاني قد أتم حاجته، وفي هذه الحالة إن سكت سكت عن بلاء عظيم، وإن قتل قُتِل، وإن اشتكى جلد حد القذف، فيقول له النبي عليه الصلاة والسلام وكان الأنصار حاضرين: ألا ترون يا أيها الأنصار إلى سيدكم كيف يقول؟ فقالوا له: يا رسول الله، اعذره ولا تؤاخذه فهو رجل عرف بيننا بالغيرة، فما تزوج في حياته إلا بكراً، وإن طلقها فلا يجرؤ أحد على الزواج منها، فقال سعد: والله إني يا رسول الله لأعلم أن هذا أنزل عليك، وأنه الحق من ربك، وآمنت وسلمت، ولكن كيف؟ إذا سكت الإنسان سكت على بلاء، وإذا قتل قتلتموه، وإذا قذف ضربتموه! قال هذا عند نزول آيات القذف.
وكان سبب نزول هذه الآيات أن رجلين أحدهما يقال له: عويمر العجلاني، والثاني يقال له: هلال بن أمية وقع لكل منهما قصة، فأما هلال فهو أحد الثلاثة الذين خلفوا عن حضور معركة تبوك، وأدبوا بالهجران خمسين يوماً متصلة، وقد رجع هلال من صلاة العشاء مع رسول الله وإذا به وهو يدخل الدار يرى على بطن زوجته شريك بن سحماء، يقول هلال: رأيت ببصري، وسمعت بأذني.
فكره النبي صلى الله عليه وسلم ما سمع من هلال، وبان ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول له: (بينة أو حد في ظهرك) أي: إما أن تأتي بأربعة شهود تشهد لك بالذي زعمته من قذف امرأتك، وإلا فالحد ثمانون جلدة على ظهرك، فأخذ يقول هلال: والله لم أكذب يا رسول الله! فماذا أصنع؟ كيف آتي بالأربعة شهداء؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يكرر: (بينة أو حد في ظهرك).
وإذا بنفس المجلس تأخذ البرحاء رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام وينزل الوحي، فيظهر ذلك في وجهه من شدة ما تأخذه حتى يعرق وجهه صلى الله عليه وسلم، ويسيل منه مثل الجمان عرقاً، فانتظر الكل ساكتاً، وإذا برسول الله عليه الصلاة والسلام ينفك عنه جبريل، وينزل الوحي بما نزل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6] إلى آخر الآيات.
وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يأمر أن تحضر زوجته واسمها خولة، ويأمر بحضور شريك المتهم به، فحضر الثلاثة، وكان ذلك بعد صلاة العصر، وكان القوم لا يزالون حاضرين، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول لـ هلال: (أتقسم بالله أربع شهادات؟ قال: نعم) فأخذ يقسم هلال بالله صادقاً، وأنه ما كذب على زوجته خولة، وما كذب على من اتهمه بها، وعند انتهائه من الشهادة واليمين الرابع قال له صلى الله عليه وسلم: هذه الموجبة، فاتق الله، وأخذ يعظه: إن عذاب الآخرة لأشد من عذاب الدنيا، وإذا بـ هلال يصر، فلعن نفسه وقال: إن لعنة الله عليه إن كان كاذباً على زوجته خولة، وعلى من اتهمها به وهو (شريك)، ثم أتي بالزوجة فأقسمت أربع شهادات والنبي يقول لهما معاً: (إن الله يعلم إن أحدكما كاذب، فهل فيكما تائب؟) فأشهدت الله مقسمة بأن زوجها هلالاً يكذب عليها، وأنا ما زنت لا مع شريك ولا مع غيره، قالت: إنما كان هلال غيوراً، وكان يسمر معنا شريك، فكان ذلك يؤذيه ويؤلمه، فأراد إبعاده بما اتهمها واتهمه به.
وعند الخامسة قال لها رسول الله نفسه عليه الصلاة والسلام: (هذه الموجبة) أي: التي توجب الغضب والعذاب، ولعذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فتوقفت قليلاً حتى قال الرواة: كادت أن تنكل وتنكص عن أيمانها، وتعترف بما صنعت وبما فعلت، وإذا بها بعد لحظات وهي ساكتة قالت: لن أفضح قومي سائر اليوم، وإذا بها تقول إن غضب الله عليها إن كان زوجها هلال صادقاً.
وكان مما اتهمها به هلال أنه لم يقربها من أربعة أشهر، وأنها حامل وهو ينتفي من الولد ومن الحمل زيادة على الاتهام، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالتفريق بينهما وبفسخ النكاح لا بطلاق، ولم يجعل لها نفقة، ولم يجعل لها سكناً، وقال: (إن ولدت فولدها ينسب لها ولا ينسب لأبيه، ومن قذف الولد أو قذف المرأة بعد ذلك يحد حد القذف) أي: كما أن الأيمان التي أقسمت درأت ودفعت عنها الحد فيدفع عنها الاتهام والقذف والشتيمة، ويبقى الأمر بينها وبين الله، وأما الولد فينسب لأمه.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (انظروا إن أتت به أورق جعداً حمش الساقين دقيقهما فهو لـ هلال، وإن أتت به أكحل العينين، سابغ الأليتين فهو لـ شريك).
وإذا بأهل المدينة يرقبون ولادتها ليروا ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام من صفة الوليد، وإذا بها تلد، قالوا: وحضر ولادتها أكثر ما يمكن من أهل المدينة، وإذا بالوليد أشبه ما يكون بـ شريك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لولا ما سبق من حكم الله، ولولا ما سبق من الأيمان لكان لي معها شأن).
ولكن حكم الله كان هكذا، ويبقى الأمر بينها وبين ربها، وبينه وبين ربه، قال الرواة: كبر هذا الوليد وشب وكان من أنجب الناس، ثم كان أميراً على مصر بعد ذلك.
أما عويمر العجلاني فإنه أرسل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابن عمه عاصم، فقال لرسول الله: يا رسول الله! إن عويمراً يقول ويقول، فكره هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإذا بـ عاصم يرجع لابن عمه ويقول: ما لقيت منك اليوم من شر، لقد لقيت البلاء، وقد تجهم وجه رسول الله من سماع كلامي وكرهه، وإذا بـ عويمر يحضر بنفسه، فقال نفس ما قال هلال، واتهم زوجته كما اتهم هلال زوجته، وكان صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم معهما كصنعه مع هلال وزوجته خولة.
وهذا ما يسميه الفقهاء باللعان، واللعان فعال، أي: تلاعن بين اثنين، وهي ملاعنة بين الزوج والزوجة، وهو يقوم مقام الشهود الأربعة.
وهنا تكون السورة الكريمة قد بينت حكم ثلاث جرائم لها حدود ولها شهادات: حد الزنا، وحد القذف، وحد اللعان، وحكم اللعان يكاد لا نسمعه في الأرض منذ قرون، وإن كان بعض شيوخنا من قضاة العدل في المغرب حكم باللعان في قضية، فكان سبب عزله؛ لأن قرار الدولة وقانونها يمنع اللعان، ويقول: قد كثر الفساد وقلت الثقة؛ فهذا لم يبال بذلك، فحكم باللعان وأثبته وقام بحكم بحد من حدود الله، فكان سبب عزله فلم يبال.
ثم بعد ذلك قال تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةُ} [النور:8 - 9] أي: الشهادة الخامسة، أي: اليمين والقسم الخامس: أن تشهد {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9].(97/5)
تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته)
وقال الله بعد ذلك: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:10].
أي: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لتحرجتم ولفسدت أسر، ولاتهم أشخاص بالفاحشة دون متابعة ولا عقاب، ولأدخل في الأسر من ليس منهم.
فقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [النور:10] أي: لولا أن الله تفضل عليكم وما قرره من أربع شهادات ومن لعنة وغضب، لانتشرت الفاحشة بين الأزواج وعجزوا عن علاج ذلك؛ لأنهم إن قتلوا قتلوا، وإن قذفوا جلدوا، وإن أبقوهم حتى يأتوا بأربعة شهداء يكون الزاني والزانية قد انتهيا من الزنا، ويبقى الوليد منسوباً للأب؛ إذ الولد للفراش وللعاهر الحجر، فيجلد الزوج ويبقى الولد ولده؛ لأن معنى الجلد أنه كاذب، ولكن من فضل الله ورحمته بالناس أن جعل لهذا حكماً.
قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} [النور:10] فيتوب على من تاب ولو كان ذلك بعد الجريمة وبعد اللعنة وبعد الغضب، وحتى بعد حد القذف وبعد حد الزنا.
(حكيم) فيما أصدر من أحكام، وأمر به من أوامر، ونهى من نواه.(97/6)
تفسير سورة النور [11 - 13]
لقد خاض المنافقون في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم واتهموا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالإفك، وقد برأها الله تعالى من ذلك وأنزل في ذلك قرآناً يتلى.(98/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].
هذه القصة -وهي في عشر آيات ابتداءً من هذه الآية- هي سبب نزول السورة كلها.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} [النور:11].
الإفك: أشد أنواع الكذب، وهو قلب الحقائق، والافتراء على الله، والكذب على الناس بما لا يصدر عنهم، وبما لا يمكن أن يكون منهم.
وكان هذا الافتراء على السيدة المطهرة أم المؤمنين عائشة، وهي أحب نساء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه بعد السيدة خديجة رضي الله عنها، فافتري على أم المؤمنين عائشة واتهمت بالفاحشة وحاشاها من ذلك، ولولا أن الله ذكر هذا ليبرأها لما وجدنا لساناً ينطق به، ولما قدمنا الكلام به، ولكن شيئاً قد قيل، وكانت البداية سيئة، وكانت النهاية مكرمة ورفعة لأم المؤمنين، ورفعة لـ أبي بكر وآله وزوجته أم رومان، ورفعة للمتهم صفوان بن المعطل.
{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} [النور:11].
أي: جاءوا بالكذب والافتراء على السيدة عائشة أم المؤمنين.
{عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] جماعة منكم، فيهم نساء وفيهم رجال.
{لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور:11].
أي: لا تظنوه كان شراً لكم، بل كان طريقاً للرفعة، وكان طريقاً للخير، وقد يأتي الخير عن طريق الشر، وقديماً قال العرب في جاهليتهم: رب ضارة نافعة، وقال ربنا جل جلاله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216].
فكانت هذه التهمة القاسية التي تألم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً قبل البراءة، وتألمت لها عائشة شهراً كاملاً وهي تبكي، وتألم لها أبو بكر، وتألمت لها أم عائشة أم رومان، وكان الحزن مخيماً على البيت النبوي، وعلى بيت أبي بكر، وعلى آل محمد صلى الله عليه وعلى آله، وهم يعيشون في أحزاناً متوالية، ولم يستطيعوا أن يصنعوا شيئاً.
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11].
لكل كاذب من هؤلاء كان امرأة أو رجلاً إثمه وجرمه وعذابه ونقمة الله منه بمقدار ما اكتسبه من الافتراء والكذب على الله، والكذب على البيت الطاهر، والكذب على عرض سيد البشر وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].
وكبير هؤلاء الذي أفشى ووشى ذلك، وكذب في ذلك له العذاب العظيم، وما العذاب له إلا الخلود في النار والغضب واللعنة الدائمة في الدنيا والآخرة.
والقصة كما وردت في السنن والمسانيد والصحاح عن عائشة رضي الله عنها نفسها، وعن أمها أم رومان، وعن ابن عباس وعن الجماهير من الصحابة، يدخل حديث بعضهم في بعض، مجموعه وملخصه كما في البخاري ومسلم ومسند أحمد تقول عائشة وهي صاحبة الشأن: كان من عادة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أنه إذا أراد غزاة أو خروجاً من المدينة أن يخرج معه أحد أزواجه، ولا يفضل واحدة على أخرى، ولكنه يصنع القرعة، فأيها خرج سهمها خرجت معه، وفي غزوة من الغزوات أقرع بين النساء وإذا بالقرعة تخرج لـ عائشة، فخرجت عائشة مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فغزا وجاهد وحارب، وأتم غزوته وحربه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، تقول عائشة: وبينما نحن عائدون وقد قربنا من المدينة المنورة إذا بالجيش النبوي ينزل ويستريح ليلاً، قالت: فخرجت لقضاء حاجة فغبت قليلاً ثم عدت، وإذا بي أنتبه أن عقداً من عقيق ظفار قد ضل مني -وظفار مدينة مشهورة في دولة عمان- ففقدته من عنقها فلم تجده، وكان هذا العقد بمثابة عقد اللؤلؤ اليوم، فعادت لنفس الطريق الذي كانت فيه وهي تبحث إلى أن وجدته، وفي هذه المدة التي بحثت عن العقد كانت القافلة قد ذهبت، وكان هودجها قد كلف به من يحمله، ومن يقود بها جملها، فجاءوا وحملوا الهودج فوضعوه على جملها وهم يظنون أنها راكبة، وكانت لا تزال صغيرة خفيفة اللحم، كما تقول: لم نكن نأكل إلا العلقة من الطعام، فنحن خفاف الأجسام خفاف الأبدان.
قالت: فحملوا الهودج وهم يظنونني فيه، وإذا بي أعود فلم أجد أحداً، وقد وجدت العقد ولم أجد الراحلة ولا الجمل ولا الهودج، فجلست في مكاني وأنا أعتقد أنهم سيفتقدونني ويبحثون عني، وإذا بالنوم يأخذني، وإذا بي أسمع عند رأسي رجلاً يسترجع ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! وكيف كان ذلك؟ كان من العادة في الجيوش النبوية المحمدية وجيوش المسلمين في العصر الأول، وفي كل وقت أنهم يدعون مؤخرة تتبع القافلة فيما إذا نسيت شيئاً، أو تركت مريضاً، أو غير ذلك فيأتون به، فكان خلف الجيش في هذه الرحلة صفوان بن المعطل السلمي، فجاء إلى مكان القافلة بعد ساعات، وإذا به يجد أم المؤمنين هي التي نسيت وتركت، تقول عائشة: وكان يعرفني قبل الحجاب، وإذا بي أستيقظ وأسمع الترجيع، والله لم أسمع منه كلمة سواها ولم يكلمني سواها، فأناخ جمله، فصعدت الجمل وذهبت، وأدركنا القافلة مع حر الظهيرة.
وإذا بالجيش المحمدي كان فيه منافقون، وكان من عادة هؤلاء المنافقين ألا يجلسوا مع الجيش النبوي مباشرة، إنما ينتبذون في الأركان والأطراف ليتم لهم التكلم والاستهزاء والمسارة في الكيد للإسلام والمسلمين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هؤلاء المنافقون معهم كبيرهم عبد الله بن أبي ابن سلول، فإذا به يقول: انظروا إلى زوجة نبيكم تبيت الليل كله مع رجل من أصحابه.
تقول عائشة: ولما رجعت إلى البيت إذا بي أمرض، وطال مرضي شهراً، وما كنت أنكر شيئاً إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأتيني صباحاً على خلاف عادته عندما أشتكي.
أي: أن من عادته إذا اشتكت ومرضت أن يلاطفها ويجالسها ويتكلم معها، ولكن في مدة هذا الشهر كله يأتي إلى الباب ويقول: كيف تيكم؟ أي: كيف تلك المرأة؟ قالت: فقدت منه اللطف الذي كنت أعرفه قبل، ولكن مع ذلك لم يخطر ببالي شيء.
وبعد تمام الشهر أرادت حاجة فخرجت معها أم مسطح بن أثاثة، وبينا هي تذهب لحاجتها إذا بها تعثر فتقول: تعس مسطح! فتقول لها عائشة: بئس ما قلت، أتدعين على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر غزوة بدر! وإذا بها تقول لها: يا عائشة! أنت في غفلة مما يقول الناس، قالت: وماذا يقول الناس؟ قالت: يقولون كذا وكذا! قالت: وإذا بكل ما كان بي قد توقف، فعادت إلى البيت، ودخل عليها رسول الله على العادة فوقف عند الباب في صباح اليوم التالي فقال: كيف تيكم؟ قالت له: يا رسول الله، ائذن لي بالذهاب إلى أبوي، فأذن لها، فدخلت البيت وأبو بكر يسمع ما حدث، وأم رومان أمها تسمع ما حدث، فأخذت أم رومان تقول لها: ما الذي جاء بك؟ خطر ببالها أن تكون قد طلقت نتيجة ذلك، وسيكون الأمر عظيماً، وأبو بكر كان يقرأ في العلية في تلك الساعة التي دخلت فيها عائشة، فسمع صوت عائشة فنزل، فأخذت عائشة تسأل أمها: ماذا هناك يا أماه؟ قالت: تحدث الناس وتحدث، فقالت: أسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أسمع ذلك أبي؟ قالت: نعم.
وإذا بها تبكي، ويشتد بكاؤها، فنزل أبو بكر على ذلك، فلم يستطع الأب ولا الأم أن يقولا شيئاً.(98/2)
تبرئة الله تعالى لأم المؤمنين عائشة مما رميت به
وسأل رسول الله أسامة بن زيد مولاه ابن مولاه عما يعرفه عنها، وسأل علي بن أبي طالب، فقال لـ أسامة: ماذا تعلم يا أسامة عن عائشة؟ قال: يا رسول الله! والله ما سمعت إلا خيراً، والله ما رأيت إلا خيراً.
وسأل علياً فقال له علي: يا رسول الله! النساء غيرها كثير، واسأل الجارية تصدق، فسأل رسول الله جاريتها وخادمتها وكان اسمها بريرة، وإذا بـ بريرة تقول: يا رسول الله! والله ما أعلم إلا خيراً، ولا رأيت إلا خيراً، وإن يكن شيء في عائشة فهو أنها كانت تعجن العجين فتأتي الداجن فتأكله.
أي: هذا كل ذنبها.
فسأل زوجاته أمهات المؤمنين الأخريات -أي: سأل الضرائر- سأل زينب بنت جحش، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من ضرائري، فقالت زينب: يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري عن أن أقول نظرت سوءاً، وعن أن أقول: سمعت سوءاً، والله ما أعلم عليها إلا خيراً.
ولكن تأتي أختها حمنة بنت جحش زوجة طلحة بن عبيد الله فأخذت تقذفها وأخذت تتهمها انتصاراً لأختها عليها.
وكذلك مسطح بن أثاثة أخذ يتهمها، وأخذ يشيع ذلك، وحسان بن ثابت شاعر النبي عليه الصلاة والسلام أخذ يتهمها وأخذ يقذفها ويقول ما يقول الناس.
وأما الذي تولى كبر المهمة وتولى إشاعتها والتشنيع بها فهو: عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، الذي قال الله عنه: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11]، فقد عاش منافقاً ومات منافقاً وإلى لعنة الله والجحيم الدائم.
تقول عائشة: كنت أبكي ليلي وأبكي نهاري، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، وإذا بأمي تريد أن تسليني فتقول لي: يا بنيتي ما كانت امرأة وضيئة حسناء عند زوج يحبها ولها ضرائر إلا وحسدنها، وشنعن عليها، فما يزيدني ذلك إلا بكاءً.
وبينا هم على هذه الحال صعد النبي عليه الصلاة والسلام المنبر يوماً فقال للناس: (من عذيري في هؤلاء الذين يشتمون عرضي ويقذفون أمهات المؤمنين) فوقف سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله! إن كان هذا منا الأوس قتلناه، وإن كان من الخزرج فسنفعل به ما تأمر، فقام سعد بن عبادة وقال: والله لن تقتله إلا لأنه ليس من عشيرتك، فقام أسيد ين حضير وقال: إنك منافق تدافع عن المنافقين! وكادوا يقتتلون بالسيوف في المسجد النبوي والنبي على المنبر فأسكتهم.
ثم ذهب إلى عائشة فدخل عليها فوجد عندها أباها وأمها في الغرفة التي هي فيها، فقال لها: (يا عائشة، إن كنت قد ألممت بذنب فاعترفي)، تقول عائشة: كانت الدموع جارية على عيني مدراراً، وإذا بي عندما أسمع رسول الله يقول لي: اعترفي، يرقأ دمعي وكأنني لم أدمع قط، والتفتت إلى أبيها فقالت: يا أبت، أجب عني رسول الله، فقال لها: وبماذا أجيبه؟ وسكت، فقالت لأمها: يا أمتاه، أجيبي عني رسول الله، قالت: بماذا أجيبه، وسكتت، فالتفتت هي تجيب فقالت: إنني إن قلت نعم -والله يعلم أني بريئة- سركم ذلك، وإن قلت: والله لم يكن ذلك لكذبتموني ولما صدقتموني، قالت: ولم أكن حافظة إذ ذاك من القرآن الكثير، ونسيت اسم يعقوب أبي يوسف فقلت: ولا أقول لك إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18].
قالت: بينما نحن كذلك وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذه رحضاء الوحي، وتأخذه الشدة التي تأتيه عادة عند الوحي، وإذا به يتفصد جبينه عن عرق كأنه الجمان واللؤلؤ، ثم يفيق ضاحكاً ويقول: (أبشري يا عائشة، قد نزلت براءتك من الله) ففرح أبوها وفرحت أمها، وقالا لها: اشكري رسول الله، قالت: والله لا أشكره ولا أشكركما، ولا أحمد إلا الله الذي برأني.
قالت: والله ما كان ليخطر ببالي أن يتكلم الله عني بعشر آيات وحياً في كتابه، وإن كنت على يقين أن الله سيبرؤني، ولكن كنت أظن البراءة ستكون رؤيا نبوية، فيرى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً في منامه فيقصه، وأما أن يقول الله عني ما قال فقد كنت أحقر في نفسي من أن يكون ذلك.
وبهذا أصبحت عائشة بريئة بنص القرآن، ومن قذفها بعد ذلك يعتبر كافراً حلال الدم.
ومن شتم أباها يعزر ولا يكفر؛ لأن الله لم يذكره في القرآن كما ذكر أم المؤمنين عائشة، وأما عائشة فقد برأها الله وطهرها وأشاد بها، فالذي يقذفها بعد ذلك يكون قد كذب الله، وكذب القرآن وكذب الوحي، وهنا يبقى معنى قوله تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11].(98/3)
عقوبة الذين خاضوا في حديث الإفك
كانت عائشة امرأة من النساء، وكانت من أمهات المؤمنين، فكونها يعتنى بها، وينزل في شأنها عشر آيات متصلات، فهذا لم يكن يخطر ببال، قالت عائشة: وبعد ذلك أمر صلى الله عليه وسلم بكل من تكلم في هذا من نساء أو رجال أن يجلدوا حد القذف، فجلدوا ثمانين جلدة، جلد حسان مع مقامه عند النبي عليه الصلاة والسلام، وجلدت حمنة، وجلد مسطح بن أثاثة، وبذلك برئت عائشة وكرمت، وشرفت، وأصبحت بهذه المثابة، وبذلك سلم عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا هو الأهم-، وبقي عزيراً منيعاً كريماً سيداً مصاناً، والنبوءة أكرم على الله جل جلاله من أن تقذف في عرضها وفي شرفها وفي نسائها.
ومن هنا جاء قول الله تعالى ونزلت هذه الآيات: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] إلى آخر الآيات.
فالله جل جلاله يعلن للخلق كلهم: أن الذين قذفوا وافتروا على الله وقالوا ما قالوه لم يقولوا ذلك عن شيء شاهدوه، ولا عن شيء سمعوه، ولكنهم أبوا إلا الفجور والكذب والبهتان.(98/4)
براءة أم المؤمنين عائشة وبراءة مريم عليها السلام
إن النصارى يحاولون أن يتهموا عرض رسول الله، فقال لهم بعض السلف: إن يقل النصارى هذا فقد اتهمت من يعتقدونها إلهاً وأم إله!! فأما أمنا فلم تحمل في بطن ولا تحمل على يد، وأما الأخرى فجاءت تحمله على يدها، ومع هذا فهي بريئة، وأم المؤمنين كذلك بريئة.
ونحن عندما نكرر هذا لا نريد أن نقول شيئاً، فـ مريم عليها السلام هي البريئة المطهرة، وإنما يتهمها اليهود، وأم المؤمنين برأها الله من فوق سبع سموات، وكذلك مريم فإن الله جل جلاله هو الذي جبريل أمر بالنفخ، وكان ابنها آية من آيات الله، حيث خلق آدم بلا أب ولا أم، وخلق عيسى بأم بلا أب، كما خلق حواء بأب بلا أم، والله قادر على ما يشاء، فليس لأحد أن يسأله، وليس لأحد أن يقترح عليه، فهو وحده الفعال المختار، فلا يسأل عما يفعل، وقدرته صالحة لكل شيء، ولذلك نوع قدراته في خلق الإنسان، فخلق البعض -وهو الأب الأول للبشر- بلا أب ولا أم، وخلق حواء بأب بلا أم، وخلق مريم عيسى ابن مريم بأم بلا أب.
فـ عائشة بريئة، ومريم بريئة مما اتهمتا به من قبل أولئك اليهود الكفرة، وهؤلاء المنافقين الكفرة، والمغفلين البله ممن اتهموها من الصحابة من مثل حسان، ومسطح، وحمنة، فهؤلاء لم يكونوا راسخين، فنطقوا بما قاله آخرون، وهذا يعتبر قذفاً.
ومن كرر كلام الفاحشة في المحصنات من المؤمنات يجلد حد القذف، ويقال له: لماذا تقول ما لم تره وما لم تسمعه وما لم تشهد عليه؟ وقديماً قال صلى الله عليه وسلم: (ناقل الكذب أحد الكاذبين) ومن كذب لك كذب عليك.(98/5)
معنى قوله تعالى: (عصبة منكم)
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11].
أي: لم يكونوا يهوداً ولا نصارى، ولكن كانوا جماعة منكم، ومن هذه الجماعة عبد الله بن أبي ابن سلول الذي تولى كبره، وكان من أهل المدينة، وممن كان يدعي الإسلام وهو كاذب منافق.
وممن قال ذلك مسلمون صحابة، ولكن أخذتهم الغفلة والسذاجة والبلاهة، ونسوا مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقام عرضه، فذهبوا يكررون ما قاله المنافقون، وكان منهم حسان وحمنة ومسطح بن أثاثة.
وقد دخل أحد التابعين الكبار على السيدة عائشة -وكان بينه وبينها حجاب- فوجد عندها حساناً، فقال: يا أم المؤمنين! أتسمحين لـ حسان أن يدخل عليك وهو الذي قذفك، وهو الذي جلد من أجلك حد القذف، وإذا بها تقول: إن حساناً كان ينافح عن رسول الله، إن حساناً كان ينصب له رسول الله صلى الله عليه وسلم منبراً ويقول له: (اهجهم -أي: الكفار- وروح القدس معك).
إن حساناً كان فيما قال: وإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منك وقاء وقد حُدّ، وأرجو أن يكون الله قد تاب عليه، ومع ذلك ماذا تريد أن يكون أكثر من ذلك؟ أهناك عذاب أشد مما يعيش فيه -وكان قد عمي في آخر أيامه-، فقالت: ألا يكفي هذا العذاب والمحنة التي عاش فيها؟ دعوه لعل الله أن يكون قد تاب عليه.
وأما مسطح فقد كان من أهل بدر، ومع ذلك جلده رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم يقل عنه ما قاله عن حاطب بن أبي بلتعة عندما خان المسلمين غفلة، وكتب يتجسس عن جيش النبي صلى الله عليه وسلم، وحاول عمر أن يقتله، فوقف على رأس رسول الله عليه الصلاة والسلام وسل سيفه من غمده، وقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اصنعوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فلم يقتله، ولم يحكم عليه بردة ولا بجاسوسية ولا بخيانة، وإنما اعتبرها غفلة وبلاهة.
وأما هذا فجلده مع كونه من أهل بدر.
وقوله: {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] العصبة: الجماعة، ولا مفرد لها من لفظها.
{لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور:11].
أي: لا تظن يا محمد أن هذا كان شراً لك، ولا تظني يا عائشة، ولا تظن يا أبا بكر، ولا تظني يا أم رومان، ولا تظنوا يا أيها المسلمون جميعاً أن هذا الذي حدث لمدة شهر كان شراً لكم بل هو خير لكم، حيث زيد فيه مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطهر الله عرضه، وبرأ ساحته، وطهر زوجته، وبرأ ساحتها، وطهر أبا بكر من أن تكون ابنته كذلك، وهو الذي سيكون الخليفة الأول بعد ذلك، وهكذا كان الخير شاملاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأهل بيته ولأمهات المؤمنين، ولـ أبي بكر صاحبه الأول، ولـ أم رومان زوجته، كما قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216].
وقديماً قال العرب: رب ضارة نافعة! وقد يأتي الخير عن طريق الشر؛ {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11].
وهكذا كان الخير في التبرئة والتطهير الإلهي، وكان الخير في كذب أولئك وكشف عوارهم، ففضحوا على رءوس الخلائق، وجلدوا على رءوس الخلائق.
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11].
لكل منهم حده من الجلد في الدنيا، ولعذاب الله -إن شاء الله- أشد وأنكى وأبقى، وقد يكون قد تاب على المؤمنين لغفلتهم، وقد أوصى بعد ذلك بـ مسطح كما ستأتي به الآية.
وأما المنافق ابن سلول فكان خزيه وعذابه وحده زيادة على عذاب الدنيا العذاب العظيم بالخلود في جهنم والسعير، وهو الذي تولى كبره كما قال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].(98/6)
تفسير قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً)
قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12].
يقرع ويوبخ أولئك الذين كرروا ما سمعوه عن جهل، وأعادوا ما قاله المنافقون عن سذاجة وبلادة وعدم فهم، فقال: (لولا) وهي كلمة تحريض وتحضيض على الفعل.
قوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النور:12].
أي: هلا إذ سمعتم هذا البلاء يقوله المنافقون، ويقوله السذج ممن يكرر ويعيد كل ما يسمع.
وهذا تأديب لعموم المؤمنين ألا يقولوا كل ما يسمعون، فلا يقولون إلا ما تأكدوا من صحته.
وأيضاً فإن أعراض المؤمنين محرمة، وأعراضهم مصونة محفوظة، فمن حاول أن يتكلم عنها ولو بالإشاعة يعتبر قاذفاً ويحد، فهي حصانة كما تكون للقوم من كبار الناس في الدول هي كذلك لعرض كل مسلم ومسلمة، فمن تجاوزه وهتك هذه الحصانة فإنه يجلد ويهان ويذل، ويفضح على رءوس الخلائق.
{لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] فهذه أمنا، وهذا نبينا، وهذا هادينا، وهذا صاحب نبينا، وهذه صاحبة نبينا وزوجه وابنة الصاحب الأول، أفيكون هذا؟ هل رأيتم بأعينكم؟ هل سمعتم الفاحشة بآذانكم؟ كلا، ولم إذاً تكررون كل ما تسمعون ولو سمعتموه من الكفرة الفجرة الكذبة؟! {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] ولم أنفسهم؟ لأن المؤمن لا يكون مؤمناً إلا إذا كانت نفس رسول الله أحب إليه من نفسه، وأعز عليه من نفسه، وأعظم عليه من نفسه، ولذلك إذا أوذيت نفس رسول الله أوذينا، وإذا هتك عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم هتك عرضنا، وإذا ضاع شرف رسول الله -ومعاذ الله من ذلك- ضاع شرفنا، فكيف تأتي يا مغفل وأنت مسلم صالح؟! ويا مغفلة فلانة وأنت مسلمة صالحة؟! كيف تقولين مثل هذا عن رسول الله وعن عرضه؟ {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] الإفك: هو شر أنواع الكذب، ففيه البهت والمواجهة بالباطل وبالكذب، وفيه قلب الحقائق، يقال: فلان أفك على فلان، أي: قلب وجه الحق، وما وجه الحق هنا؟ أم المؤمنين لفضلها ولعلمها ولكونها زوجة رسول الله وحبيبته، ولكونها أم المؤمنين الثانية بعد خديجة، يجب أن يثنى عليها، وأن يشاد بها، وأن يترضى عليها، وأن يستفاد من علمها ومعرفتها وروايتها عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا أن تقلب الحقائق فجأة وينتقل المدح إلى ذم، والإشادة إلى إشاعة، فهذا ما لا يقبله عقل، ولا يقبله منطق فضلاً عن دين وشريعة، وهذا بهتان مبين واضح ظاهر.
وإذا كان كذلك فقد أوجب الله الحد على من اتهم وقذف وهو لم يسمع ولم ير، ولم يأت بشهود أربعة، فكيف بأن يكون ذلك في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها!!(98/7)
تفسير قوله تعالى: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء)
قال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:13].
أي: هلا أتوا على هذا الإفك والباطل بأربعة شهداء، فإن الله جل جلاله جعل نصاب شهود الزنا أربعة، فهل لكم شهود أو حتى شاهد واحد؟ لم يكن ذلك ومعاذ الله وحاشا الله أن يكون! وفي قوله: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:13] هنا الله تعالى جعلها كبقية المؤمنات في أن الفاحشة تثبت بأربعة شهداء، فلم يأتوا بهم، فكيف إذاً: يقذفون سيدة جليلة مصانة هي أم لكل المؤمنين، فكيف يجوز ذلك؟ وكيف يقال هذا؟! {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:13].
أي: هلا أتوا على هذا الإفك المبين الواضح الظاهر بأربعة شهداء، وهم لم يفعلوا، وليس عندهم ذلك، {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13].
فعندما لم يأتوا بالشهداء فهم الكذبة عند الله، وكذلك عند الناس، ولذلك فلهؤلاء اللعنة والخزي.(98/8)
تفسير سورة النور [14 - 20]
وبخ الله المؤمنين الذين خاضوا في حديث الإفك، وحذرهم من العودة إلى ذلك، وزجر المنافقين وحذر منهم، وتوعد الذين يحبون أن تشيع الفاحشة بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، ونهى المؤمنين عن اتباع خطوات الشيطان.(99/1)
تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة)
قال الله جل جلاله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14].
لا نزال مع فرحة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حيث أكرمها الله بعد أسابيع قاسية شديدة من الاتهام والكلام الباطل من المغفلين والمنافقين، إلى أن برأها الله جل جلاله من فوق سبع سموات، وفرض على المنافقين وعلى المغفلين بأن يحدوا الحد اللازم؛ لأنهم قالوا ما لم تر أعينهم، ولم يحضره شهودهم، فاستحقوا بذلك ثمانين جلدة: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26].
مع فضيحتهم بذلك أمام المؤمنين، وبذلك يكون ما قالت عائشة: لقد كانت نفسي أقل علي وأحقر من أن أبرأ بوحي ينزل من السماء، وآيات تتلى في سبيلي إلى يوم البعث والنشور، وكل ما كنت أنتظر أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله فيها، ويظهر حقي وعفتي وشرفي.
فنحن لا نزال في سياق الآيات النازلة في تبرئة عرض الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمنا أم المؤمنين عائشة، وقدسية النبوءة والرسالة، وما أوجب الله في ذلك من حد وعقوبة وفضيحة.
قال تعالى بعد ذلك: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14].
أي: لولا فضل الله أنه اكتفى بأن يعاقب المؤمن المغفل منكم ثمانين جلدة، وأن يعلن ذلك بمحضر طائفة من المؤمنين؛ لولا ذلك {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14].
قوله: (أفضتم فيه): أي: تجمعتم من أجله، وروى بعضكم عن بعض باطلاً، فروى ما لم ير، ونقل ما سمع من غير تثبت، ومن غير حقيقة، ومن غير واقع، فلولا فضل الله واكتفاؤه بالجلدات الثمانين لمسكم في هذا الحديث وهذا البهتان عذاب أليم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا بالجلد ثمانين جلدة، وقد كان ذلك، وفي الآخرة بألا تغفر ذنوبهم، وبأن يعاقبوا بالنار والنكال، ولعذاب الله أشد وأنكى.
هذا بالنسبة للمؤمنين، فإن الله رحمهم، وتفضل عليهم، وأما بالنسبة للمنافقين فلا فضل ولا رحمة ما لم يؤمنوا بالله، ويعلنوا توحيد الله، ويزيلوا النفاق من نفوسهم، فحُدَّ من حُدَّ من المؤمنين الذين استغفلوا، ثم تاب الله عليهم، وحد عبد الله بن أبي ابن سلول فكان عذاباً في الدنيا وفضيحة، ولعذاب الله أشد وأنكى يوم القيامة، إذ لا توبة لكافر يوم القيامة.(99/2)
تفسير قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم)
قال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
أي: تأتون إلى هذا الشيء العظيم من البهتان والكذب والافتراء، فتلقونه بألسنتكم، يلقي بعضكم لبعض قولاً، ويقول سمعت عن عائشة كذا، وسمعت عن صفوان كذا، وقال الناس كذا، وتحدثوا بكذا، فهذا التلقي بالألسنة دون رؤية بعين، ودون تثبت، وفي شيء عظيم.
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ} [النور:15].
والأفواه جمع فاه، وهذا الجمع لا مفرد له من لفظه، فالمفرد هو فم، والأفواه جمع (فو)، تقول: نطق فوك، ورأيت فاك يتحدث، ونظرت إلى فيك وهو يتكلم ويتحدث، وهو من الأسماء الخمسة التي ترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتجر بالياء.
{وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [النور:15].
الألسنة تنطق بشيء لا علم لها بحقيقته، وهل توجد مصيبة أعظم من أن يأتي الإنسان ويسمر ويلهو بأعراض المؤمنين، فكيف بأعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأعراض أمهات المؤمنين! هؤلاء الذين قالوا ما قالوا لم يزعم أحد منهم أن عينه رأت، ولم يزعم أحد منهم أنه اشتبه فيما يشك فيه، ولكن أحدهم تلقى قولاً من الآخر فتبادلوا القول والسماع، يقول: سمعت فلاناً يقول فقلت، وقال فلان فقلت؛ {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [النور:15].
نطقت الأفواه بشيء لا علم لكم به ولا يقين ولا ظن، إن هي إلا أوهام أشاعها المنافقون أعداء الإسلام، وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبتم تعيدونه وتذكرونه من غير تثبت: كيف يحل هذا؟ وكيف يجوز؟ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} [النور:15].
تظنون أن القول سائغ، وأن القول لا يكاد يمس شيئاً، ولكنه عظيم جداً، فهو طعن في رسول كريم هو سيد الأنبياء وخاتمهم، وطعن في أم من أمهات المؤمنين وزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنطق بمثل هذا ليس هيناً في نفسه، بل هو عظيم عظيم، وهو كذلك عظيم عند الله.
كيف يبعث الله رسولاً لا عرض له؟ وكيف يزوجه بنساء غير عفيفات ولا طاهرات؟ وكيف تقبلتم هذا وتحدثتم فيه؟ وكيف استسهلتم تبادل القول فيه؟! وهذه سياط إلهية يعظ الله بها المؤمنين الأول، كما يعظ المؤمنين الذين يأتون بعدهم بألا يتكلموا على الأعراض لمجرد السماع، أي: لكل من الناس أم وزوجة، ولكل من الناس بنت، فمن الذي يهون عليه أن يسمع الفاحشة تذكر عن أمه، فإن ذكرت فمعنى ذلك أنه لقيط لا أب له، فهذا الذي لا تريده لنفسك، فكيف يقبله المغفلون في حق السيدة البرة الطاهرة، العالمة الصالحة، الغافلة عما أريد بها؟ فهذه قوارع إلهية، وهذا توبيخ إلهي لمن قال هذا القول من هؤلاء.
وأما النصارى والمنافقون فيقال: الشيء من معدنه لا يستغرب، فإن ما يعشون فيه من كفر وشرك هو أعظم بكثير مما زعموه، ولكن البلاء عندما يصدر مثل هذا من مثل حسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، ومن مثل ومسطح بن أثاثة، وكل هؤلاء رجال صالحون أطهار.
وقد كان حسان لسان رسول الله وسيفه المدافع، وكان الأخر رجلاً صالحاً من المهاجرين الأول، وحمنة هي أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش، فكيف يا هؤلاء الثلاثة وأنتم على صحبتكم وعلى دينكم يغركم المنافقون، ويتلاعبون بكم حتى تنطقوا بما تنطقون به؟! قوله: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} [النور:15] أي: شيئاً سهلاً لا يكاد يؤذي أحداً، ليتذكر كل إنسان في نفسه لو طعنت أمه في شرفها أو زوجته أو بنته كيف سيكون حاله، فكيف والشرف شرف رسول الله، والعرض عرض رسول الله، والمطعونة أم من أمهات المؤمنين، وهي أحب إلينا من أمهاتنا وجداتنا، وكل ما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون هكذا عند كل مؤمن.
في مسند أحمد، وأخرجه البخاري ومسلم يقول صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً، فيهوي بها في جهنم سبعين خريفاً).
أي: إن أحدكم يا أيها الناس! ينطق بالكلمة لا يفهم لها معنى، ولا يلقي لها بالاً، ولا يهتم بها، ولكنها في نفس الأمر كلمة عظيمة، فيكون جزاؤها أن يهوي الإنسان في قعر جهنم سبعين خريفاً، أي سبعين عاماً، إذ لكل سنة خريف واحد، فيبقى يهوي في قعر جهنم سبعين سنة، ويعذب فيها نتيجة هذه الكلمة.
وطالما كان سلفنا الصالح يتحدثون متداعبين بكلام المزاح فيما يجوز فيه أن تكون المداعبة والمزاح، وإذا بأحدهم ينطق بكلمة يراها الحاضرون عظيمة وكبيرة، فمثلاً: كان جماعة من طلاب العلم يتجولون بين بساتين الأندلس ورياضها -أعادها الله دار إسلام بفضله وكرمه- وأخذت السماء تلقي رذاذاً ومطراً خفيفاً، فقال لهم أحدهم: إن الدباغ يرش جلوده، وهو يريد بذلك أن يتضاحك ويمزح، وإذا بالآخرين يقفون ويعبسون وجوههم، وقالوا: أتدري ما الذي قلت؟ لقد ارتددت عن الإسلام، فأصر على أنه كان يمزح، فاحتسبوا عليه، وما أتى الليل في ذلك اليوم إلا ورأسه مفصولة عن جسده.
ومن هنا فإن الطعن في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كالطعن في غيره، ومن رحمة الله أنه اكتفى بجلد هؤلاء ثمانين جلدة، وإلا فالعقوبة أصبحت بعد ذلك القتل والردة.
وقد أجمع العلماء على هذا بعد أن نبه الله المؤمنين بهذا المسلسل من هذه الآيات الكريمة، ولذلك يقول الله بعد ذلك: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:17].(99/3)
تفسير قوله تعالى: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا)
قال تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16].
قال لهؤلاء المتكلمين القاذفين ممن جمعوا وجلدوا: أين ذهبت عقولكم؟ كان ينبغي عليكم وأنتم المؤمنون الصالحون، وفيكم المهاجرون والأنصار، وفيكم من حضر عزوة بدر، أما كان يليق بكم والأجدر بدينكم: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور:16].
أي: لا يليق بنا ولا يجدر بنا ولا يجوز لنا أن نتكلم بهذه الفاحشة في عموم المسلمين، فكيف بأم المؤمنين!! فليس مما يليق بمؤمن ومسلم يجل نبيه، ويكرم أمهات المؤمنين أن يعيد كلاماً لم تره عينه، ولم تتأكد منه نفسه، فيذهب فيلقي الكلام على عواهنه، ويتلاعب بالأعراض الطاهرة والأعراض العفيفة البريئة.
دخلت أم أيوب زوجة أبي أيوب الأنصاري على زوجها فقالت: أسمعت يا أبا أبوب ما يقول الناس في عائشة؟ فوضع يده على فيها وأسكتها، وقال: اسكتي! ولو ذكرت لكانت من القاذفات، ولجلدت.
فسمع الكلام ولم يكرر، وقال: بمجرد ما أشارت: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16].
فكان من دينه ككل الصحابة الذين سمعوا هذا هو أنهم ظنوا خيراً.
قوله: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ} [النور:16].
ينزه الله نفسه ويقدسها عن أن يكون له نبي ينتهك عرضه، هكذا فسر الآية أقوام، وقال البغوي: (سبحانك) هنا للتعجب، وهي تقال عادة في لغة العرب كذلك؛ يعجب الله كيف أن هؤلاء مع إيمانهم ودينهم وصلاحهم يتسلل إليهم مثل هذا القول، فيعيدونه ويسمرون عليه، ولا يتذكرون العاقبة من هذا القول فيقولون: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16].
والبهتان هو الافتراء على الله بالكذب الذي لا حقيقة له لا إشارة ولا تلويحاً ولا تصريحاً، لا من جهة عائشة، ولا من خلقها، ولا من بيتها، ولا من أمها، ولا من أبيها.
فكان الأجدر أن تجل عائشة عند هؤلاء وتحترم، وتذكر بالصالحات، لمقامها في نفسها، ولمقامها من أبيها، ولمقامها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هؤلاء لبلاهتهم تكلموا في ذلك، ويوم يكثر هذا في الصالحين فيتكلمون بالقول ولا يلقون له بالا، ويحسبونه هيناً كما قال ربنا وهو عند الله عظيم، فإنه مفتاح شر عظيم.(99/4)
تفسير قوله تعالى: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله)
قال تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:17].
وبخ الله وقرع، وهذب وعلم، وأصدر أحكاماً بالحدود على من قال ذلك من المؤمنين والمنافقين، فحد أربعة، وهم الذين قالوا ذلك وثبت عنهم، ورددوه وسمروا فيه.
وكان كبيرهم في ذلك من قال الله عنه: {والذي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].
والذي تولى الكبر هو كبير المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول، فجلد ثمانين جلدة، وجلدت زوجة طلحة بن عبيد الله حمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش ثمانين جلدة، وجلد الشاعر حسان بن ثابت ثمانين جلدة، وجلد مسطح بن أثاثة المؤمن الصالح كذلك، وهو الذي حضر غزوة بدر، وهو المجاهد والمستشهد في سبيل الله، لكنهم قالوا ذلك غفلة وسذاجة، وقالوا ذلك ضعفاً.
ولذلك وعظ الله هؤلاء وأوجب عليهم الحد، وقد حدوا، وحد ابن أبي، لكن ابن أبي لا رحمة له ولا مغفرة، ولا تقبل توبة من كافر حتى يؤمن بالله ويوحد الله، ويؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأن الإسلام حق، وأنه لا نبي بعد محمد، ولا دين بعد الإسلام، ولا رسالة، ولا نبوءة بعد النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ} [النور:17] أي: يحرم عليكم {أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور:17] أي: أن تعودوا للقذف، والخوض في أعراض أمهات المؤمنين بالدرجة الأولى، وأعراض المؤمنات الغافلات المحصنات الصالحات، ولذلك، من عاد في طعن أمهات المؤمنين -وفي الدرجة الأولى عائشة - فإنه يقتل ولا يجلد فقط، وذلك لأمور: أولاً: لأنه اتهم من برأها الله تعالى من فوق سبع سموات.
ثانياً: لأنه آذى رسول الله في عرضه.
ثالثاً: لأنه افترى على الله الكذب.
ولو رأينا منافقاً، أو مغفلاً من المسلمين أو يزعم أنه من المسلمين، ومن باب أولى إن كان منافقاً أو كافراً، فبمجرد ما يثبت عنه أنه نطق بذلك، فإنه يقتل ولا تقبل له توبة.
فالمعنى: يحذركم الله أن تعودوا لمثله في أعراض المسلمات دون تثبت وأربعة شهود.
{إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:17] أي: هذا إن كنتم مؤمنين حقاً، أما إذا لم يكونوا مؤمنين فلا يقبلون موعظة، ولا يقبلون أمراً ولا يقبلون نهياً، وما هم فيه من شرك وكفر هو أعظم بكثير مما يتلقاه ألسنتهم وتنطق به أفواههم.(99/5)
تفسير قوله تعالى: (ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم)
قال تعالى: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:18].
يبين لكم الله حلالاً وحراماً، ويوضح ويفسر الأحكام، وينزل فيها الآيات على عبده ونبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه، فلا يدعكم على جهل، ولا يأمركم بما لا يعلمكم، فقد علمكم أن القاذف لعرض محصن أو محصنة جزاؤه ثمانون جلدة، ويحضرها طائفة من المسلمين.
ومن طعن بعد ذلك وقذف أماً من أمهات المؤمنين، وعرضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن برأ الله عرض محمد، وشرف محمداً وأمهات المؤمنين، صلى الله على نبينا ورضوان الله عليهم، من عاد لهذا بعد ذلك فإنه يقتل ولو قال: أنا تائب.
ولـ ابن تيمية رحمه الله كتاب عظيم في مثل هذا المعنى اسمه (الصارم المسلول على شاتم الرسول)، طبع غير مرة، وهو يتجاوز سبعمائة صفحة، يقول على من مس رسول الله صلى الله عليه وسلم وآذاه في عرضه أو في رسالته، أو في شخصه، بكل نوع من أنواع الإيذاء: يقتل ولو قال: أنا تائب.
واستشهد على ذلك بالعديد من النصوص الواقعية في الحياة النبوية، وحياة الخلفاء الراشدين، وبالأدلة المتضافرة المتواترة المتكاثرة: في أن من نال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي نوع من أنواع الإيذاء، أو قل الأدب مع مقامه الكريم، فإنه يقتل ردة ولو قال: أنا تائب.
وقوله: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:17].
أي: فإن لم يكونوا كذلك فسيعاملون معاملة الكافر، ومعاملة الكافر أن تقام عليه الحدود في الدنيا، فإن أصر على الكفر فعذاب الله أشد وأنكى.
قال تعالى: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:18].
أي: يبين الحلال من الحرام، ويوضح الأوامر والنواهي، ويوضح الأحكام في ما يجب أن تقوموا به، وما يجب أن تتركوه.
((وَاللَّهُ عَلِيمٌ)) بالصادق في دينه، الصادق في حاله، وبالكاذب المنافق المتظاهر بالإسلام وهو كاذب.
((حكيم)) فيما أمر به ونهى عنه، حكيم في حدوده التي أمر ألا يتجاوزها مسلم، ومن فعل فعليه من الله العقوبة قتلاً أو صلباً أو تقطيعاً أو جلداً أو نفياً من الأرض، كل حسب جرمه وذنبه، وهو أيضاً حكيم بعباده فيما يصلحهم في دنياهم وأخراهم.(99/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
كان الكلام الأول مع القذفة جهلاً عن بلادة، وهذه تخص المنافقين، وتخص من لا يهمه دينه، فأشبه المنافقين والكافرين، فهؤلاء موقفهم أعظم من القاذف بلادة وغفله؛ لأن هؤلاء يقذفون ويحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين.
فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19] أي: إن الأشخاص الذين يشيعون الفاحشة فيتهمون فلاناً في دينه، وفلانة في شرفها، ويتهمون فلاناً في صدق بنوته لأبيه، وفي صدق أبوته لأولاده، ثم هم يحبون أن يشيع ذلك، وأن يعلنوه على الملا، ظناً منهم أنهم بذلك يذلونه ويحقرونه، فهم يحبون هذا، ولا يفعلونه غفلة، ولا سذاجة، ولا بلادة، بل حقداً على المسلمين، ونشراً للفواحش بين المسلمين، وتشهيراً بهم وبإيمانهم وإسلامهم، ولا يفعل هذا مسلم، فإن فعله فيكون أقرب إلى الكافرين منه إلى المؤمنين، ويدخل تحت عموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً، فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً).
وقوله: {أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور:19] الإشاعة: الإذاعة، أي: يحب إشاعة الكلمة، يقولها في المجلس، ويقولها في السمر، ويقولها في السفر، ويقولها في الحضر، كما فعل ابن أبي المنافق؛ إشاعة للفساد، وإشاعة لانتهاك الأعراض، وأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللمقدسات والمكرمات والعفيفات من أمهاتنا أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، وإشاعة للفواحش في المسلمات المؤمنات الغافلات المحصنات، فمن يكون هذا عمله وهذا حبه ورغبته فإن الله ينذرهم ويهددهم ويتوعدهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:19].
العذاب الأليم بالضرب الغير الكاسر لعظم، ولا الشاق للحم، ولكنه مع الذل والمهانة، بأن يحضر عذابهم وضربهم ومذلتهم طائفة من المؤمنين، وبأن يكون ذلك عقب صلاة الجمعة، والناس تخرج من بيت الله؛ تأديباً لهذا، ووعظاً له.
وإن كان الأدب لا يفضي إلى الموت فذاك زجر له لكي لا يعود، وزجر للآخرين الذين قد تحدثهم أنفسهم بأن يفعلوا مثل فعله، فإن كان كافراً فهو سيقتل، فيكون زجراً لأمثاله، وعقوبة لأمثاله، ويفضي هو إلى ربه إن شاء غفر وإن شاء عذب.
وإن كان من المعلوم في الفقه الإسلام وعند المذاهب أن الحدود كفارات، فمن أقيم عليه حد من الحدود يكون كفارة لعمله إن مات وهو غير مصر عليه، ومات وهو على التوحيد والإيمان.
قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19].
وعذاب الله في الآخرة يكون بالنسبة للمنافق وللكافر، والعذاب هو الخلود في النار على كفره ونفاقه وعدم إيمانه.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] الله يعلم الصادق منكم من الكاذب، ويعلم المؤمن من الكافر، ويعلم من قال كلمة عن غلط وعدم فهم، ومن قالها عن رغبة وحب لإشاعة الفاحشة بين المؤمنين؛ إذلالاً للمؤمنين وللإسلام الذي تمسك به هؤلاء.
ومما يجري في عصرنا أن يشتم الصالحون شتماً للإسلام، وأن يذم العلماء ذماً للإسلام، وأن يذم العابدون والزاهدون والصالحون ذماً للإسلام وطعناً في الإسلام، ومن يفعل ذلك يوشك أن يرتد وأن يخرج عن الإسلام؛ لأنه بذلك لم يطعن في شخص بعينه، وإنما طعن فيه لأنه رمز من رموز الإسلام، ومظهر من مظاهر الإسلام، ومن فعل ذلك يوشك أن يعذب في الدنيا بإقامة الحد، وفي الآخرة بعذاب الله الخالد في النار.(99/7)
تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم)
قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:20].
جواب الشرط مفهوم من الكلام، أي: لولا فضل الله عليكم أيها المؤمنون ورحمته بكم، لما اكتفى بالحد، ولما ما قبل منكم توبة، ولما غفر لكم ذنباً، ولكن بما أنكم أذنبتم، وبما أنكم أسأتم مع الصلاح في الداخل وسلامة العقيدة والتوحيد رحمكم الله، فاكتفى منكم بثمانين جلدة، وقبل منكم توبتكم.
(والله رءوف) بعبادة، مشفق بهم، يغفر الذنب ويقيل العثرة، فهو رحيم بضعاف عباده الذين يذنبون عن جهل، أو عن عمد قد ضاع فيه عقلهم، فعادوا وتابوا وأنابوا، واستغفروا ربهم، والله تواب لمن تاب، وباب رحمته مفتوح باستمرار، فيمد الله يده بالليل لتائب الليل، وفي النار لتائب النهار: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
والله جل جلاله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب وأناب، والإسلام يجب ما قبله و: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
فمهما عظم الذنب، فالله الكريم العظيم، الرحيم الرءوف، رءوف بعباده، وبمن تاب منهم حتى ولو بعد كفر.(99/8)
تفسير سورة النور] 21 - 23 [
بعد أن ذكر الله حادثة الإفك، وبرأ عرض رسول الله وزوجه، نهى أبا بكر رضي الله عنه عن أن يمتنع من الإنفاق على مسطح الذي خاض في الإفك، وبين الله أن عدم الامتناع سبب للمغفرة والرحمة.(100/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21].
هذه هي العبرة والنتيجة، وهذا هو الدرس الذي يستفاد من قصة الإفك، وهو أن كل ذلك كان نتيجة اتباع الشيطان وتهاويل الشيطان، ولذلك أمر الله المؤمنين جميعاً ألا يتبعوه.
ومنذ أن قام صلى الله عليه وسلم في هذه البطاح المقدسة وهو يدعو الناس جميعاً ويقول لهم: إني رسول الله إليكم جميعاً، ومنذ كانت قصة الإفك، وما نزل فيها من توبيخ وتقريع وتأديب، فكان رمزها وكان نتيجتها أن الإنسان لا يتخذ الشيطان صديقاً ولا حبيباً، فهو عدو لنا، فيجب أن نتخذه عدواً.
يقول الله جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:21].
كان الخطاب لمن أدب وعوقب نتيجة قذفه ونتيجة استسهاله للعرض الذي قذفه وقال عنه الباطل، فأمر هؤلاء وقد تاب عليهم، ونبه المؤمنين جميعاً من مضى ومن يأتي بعد ذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21].
الخطوات جمع خطوة، والخطوة السبيل والطريق، أي: لا تتبعوا الشيطان في معاصيه، وفي وساوسه فيما ينزغ به بينكم وبين ربكم، ومع كتابكم، وبين المؤمنين عامة.
يا أيها الذين آمنوا بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، إياكم والشيطان، فلا تتبعوه، ولا تتخذوه إماما، فإن إمامكم القرآن ودينكم الإسلام، ولا يليق بمسلم أن يتخذ الشيطان ولياً وإماماً ومتبوعاً وقائداً.
والخطوة تعني: أن تذهب معه خطوة بخطوة، هو يسبقك فتتبع خطواته، أي تتبع سيرته وعمله، كمن يتبع خطوات من سبقه خطوة خطوة، وقدماً قدماً، وطريقاً طريقاً.
والمعنى: لا تتخذوا الشيطان إماماً فسيقودكم إلى النار وإلى الكفر والنفاق، وإلى الذل والمهانة، فهو الذي أخرج أبويكم من الجنة، فاتخذوه عدواً، ولا تتخذوه مولىً، فلو فعلتم لأخرجكم عن دينكم، ولأذلكم في الدنيا والآخرة.
ولا تتبعوا طريقه وسننه وأخلاقه ودينه، ودين الشيطان كل أنواع الفواحش والمعاصي والمخالفات لله، والمخالفة لرسول الله، والمخالفة لكتاب الله، واكتساب الحرام، وترك الطاعات بكل أنواعها.
وهكذا فاتباع خطوات الشيطان لا تقود إلا للعنة وللردة وللكفر.
قوله: {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21].
الذي يفعل ذلك ويتبع خطوات الشيطان ويجعله قدوته، ويجعله القائد له في مسيرته، فإن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر، فيأمر بالزنا وتوابعه، ويأمر بكل ما لا يحبه الله، وبكل ما نهى الله عنه ورسوله، وبكل ما حرمه الإسلام، تلك طريقته، وذاك دينه، وتلك خطواته، وكيف يليق بالمؤمن اتباعه والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:21].
فالمؤمن المفروض فيه أن يكون تابعاً ومؤتسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون مؤمناً بربه، تابعاً لكتابه، ممتثلاً لأمره، تاركاً لما نهى عنه، فأنتم عندما تتبعون خطوات الشيطان فالشيطان لا يأمر بمعروف قط، بل يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ويأمر بالفواحش على كل أشكالها، وأي مؤمن لا يرضى ذلك ولا يقبله.
وكيف يليق ذلك بكم وهاأنتم هؤلاء عندما اتبعتم نزغات الشيطان، ووساوس الشيطان، قمتم وأنتم مؤمنون صالحون مجاهدون فقذفتم أم المؤمنين، وارتكبتم ما كانت نتيجته ذُلكم وجلدكم ومهانتكم، ولولا الرحمة والفضل من الله فقد قبل توبتكم، واكتفى بجلدكم، واكتفى بهذا الحد، ولولا ذلك لنكل الله بكم في الدنيا والآخرة، ولما قبل توبة، ولما اكتفى بالجلدات فقط، لذلك فهو لم يكتف من المنافقين بذلك، فقد جلدوا في الدنيا وحدوا، ولعذاب الآخرة أنكى وأشد.
قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21].
لولا الرحمة الإلهية، ولولا الفضل والجود والكرم الإلهي، {مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21] أي: ما آمن ولا أسلم، والمعنى: أن الذين لم يخوضوا في الإفك، ولم يخوضوا في الباطل، ولم يكرروا ما قاله المنافقون في قذف أم المؤمنين، وقذف عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله هو الذي طهرهم من ذلك، وزكاهم بذلك، وأكرمهم بذلك ولولا فضل الله في ذلك لم يزكوا ولم يتطهر منهم أحد أبداً، ولكن فضل الله كبير.
قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21] أي: ولكن الله يزكي من يشاء فضلاً منه ورحمة وكرماً، وقد زكّى الكثيرين، وطهر الكثيرين، فلم يدخلوا في هذه الوساخة، وهذه القذارة، وهذا القذف للأعراض الطاهرة الشريفة، فكانوا بذلك مطهرين، وكانوا بذلك صالحين قد زكاهم الله فطهرهم، وحفظ ألسنتهم، من قول السوء، ومن تكرار ما قاله المغفلون والمنافقون.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ} [النور:21] سميع لأقوالكم، ناظر لأعمالكم، حكيم في أوامره ونواهيه، يسمع منكم ما تقولون، (عليم) يعلم الصادق منكم من الكاذب، عليم بأحوالكم، عليم بالمؤمن الصادق، وبالمؤمن المذبذب الضعيف، عليم بالمؤمن المخلص كما هو عليم بالمنافق، فلا تظنوا يوماً ولا لحظة ولا ساعة أنكم يمكن أن تعملوا عملاً لا يعلمه الله.(100/2)
تفسير قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة)
قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].
هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، والعشر الآيات السابقة نزلت في ابنته أم المؤمنين عائشة.
وذلك أنه كان لـ أبي بكر ابن خالة اسمه مسطح بن أثاثة، وكان مسطح من المهاجرين الأول، وممن شارك في معركة بدر، والمشاركون في معركة بدر لهم فضل كبير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اصنعوا ما شئتم).
وكان مسطح قد تكلم في هذا القذف، وجلد مع من جلد، والذين جلدوا أربعة: ثلاثة رجال وامرأة، هم مسطح وحسان بن ثابت، وعبد الله بن أبي ابن سلول، وحمنة بن جحش.
وكان مسطح فقيراً، وكان الذي ينفق عليه أبو بكر، فلما خاض في حديث الإفك وبلغ ذلك أبا بكر أقسم بالله ألا ينفعه، وأن يوقف النفقة عليه، ولكن الله جل جلاله أكرم من عباده، وأرحم بعباده منهم بأنفسهم، والله جل جلاله جعل لكل شيء حداً، والعقوبة لها حد لا ينبغي تجاوزه.
والله رأى في الجلد كفاية، لكن أبا بكر بقي معاقباً له وهو فقير مدقع، فاجتمع على مسطح الفقر والبؤس مع الجلد والمهانة، وأصبح لا يجد قوت يومه، ونفر منه الناس كما نفروا ممن قذفوا أم المؤمنين، وعندما رأوا أبا بكر قد نفر منه، وفعل ما فعل، قالوا: هذا لا خير فيه، فقد غدر بفضل أبي بكر عليه، وغدر برسول الله في عرضه، ولم يعرف لقيمة الإحسان والإفضال فائدة، وإذا بالله الكريم ينهى أبا بكر رحمة منه وفضلاً، فقال: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} [النور:22].
وأولو الفضل: هم أصحاب الفضل والإحسان.
(لا يأتل): من الإيلاء، وهو اليمين والحلف، أي: لا يقسم أحدكم ممن تفضل بالإحسان وبالصدقة وبالعطاء ممن أوسع الله عليهم وكانوا ذوي غنىً وذوي سعة في الحياة، لا يأتل ولا يحلف على ألا يفعل خيراً، وألا ينفق على المحاويج وعلى الأقارب، {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ} [النور:22].
قوله: {وَالسَّعَةِ} [النور:22] أي: ممن وسع الله عليهم، وإذا أوسع الله فأوسعوا.
{أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} [النور:22] أن يعطوهم من إفضالهم وسعتهم وخيرهم، ومما رزقهم الله به ووسع عليهم، وكان مسطح من ذوي القربى له، فقد كان ابن خالة له، ولذا قال: {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} [النور:22]، وكان مسطح مسكيناً.
{وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22]، وكان مسطح مهاجراً في سبيل الله، بمعنى أنه لم يهاجر لمال، ولا لجاه، ولا ليخدمه أو ينفق عليه قريبه وابن خالته أبو بكر، ولكنه هاجر في سيبل الله، فترك الأهل في مكة، وترك المال، وترك السعة، وجاء للمدينة بنفسه، مهاجراً لله ولرسوله، فاراً بدينه ممن اضطهده من كفار مكة، فقال الله لـ أبي بكر: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا} [النور:22].
فهم قد أذنبوا حقيقة، ولكن أين مزية العفو؟ {وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22] أي: ليصفحوا عنهم ويتجاوزوا عن سيئاتهم.
{أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] كان يتحدث بضمير الغيبة، وإذا بالكريم عندما أراد أن يتفضل على أبي بكر بالمغفرة أصبح الخطاب خطاب مواجهة: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22].
وإذا بـ أبي بكر يتلو عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات ساعة نزولها عليه، فكان جوابه: بلى يا رب! أحب أن تغفر لي، ومن اليوم وإلى لقاء الله سأنفق على مسطح، وسأعود عليه بإحساني ونفقتي، والله إني أحب أن تغفر لي.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22]، فالله يغفر الذنوب جميعاً، ويغفر الشرك والكفر، فالإسلام يجب ما قبله، ألا تغفرون أنتم كلمة قد قيلت كانت في الأصل فساداً وكانت نتيجتها إفضالاً كبيراً، فقد كانت إشادة بآل أبي بكر وبيت أبي بكر وبنت أبي بكر، إلا يكفي أبو بكر ما نزل في حق ابنته من تبرئة ومن تطهير وتزكية أصبحت وحياً يتلى إلى يوم القيامة، وفيم إذاً إيقاف النفقة وإيقاف الإحسان؟! سئلت السيدة عائشة: ماذا كان خلق رسول الله؟ قالت: القرآن.
فالله غفور فكان محمد غفوراً، والله رحيم فكان نبينا رحيماً، فكان يرحم أعداءه، ويعفو عن أعدائه، وحسان مع ما صدر عنه كان ينصب له رسول الله منبراً في المسجد، ويقول له: اهج الكفار فداك أبي وأمي.
وكان يقول له: (اهجهم وروح القدس معك) أي: جبريل، وكان يقول: (والله لكلامك أشد عليهم من وقع النبال) مع كون حسان صنع ما صنع، وكان جباناً لا يستطيع القتال، فقد كانت المعركة شديدة في غزوة الخندق، فكان حسان مع الضعاف من الشيوخ والأطفال والنساء فوق حصن، وإذا بيهودي أخذ يحيط بالحصن عله يجد غرة فيدخل الحصن، ويأسر ويقتل ويسرق، وإذا بـ صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم تراه فقالت: يا حسان! هذا يهودي يطوف بالحصن وما أراه إلا يريد أن يجد غرة، أو يجد منفذاً ليدخل، قم على السطح وارمه بهذه الصخرة، فقال لها: لو كنت أصلح لذلك لما بقيت معكم! وإذا بها تقف على السطح وتأخذ الصخرة وترميها على اليهودي، فقتل، فقالت له: يا حسان اذهب فخذ سلبه، فالنبي يقول (من قتل قتيلاً فله سلبه).
قال لها: أتعلمين حالي، أنا لا أستطيع أن أمد يدي إليه وهو ميت، قالت: أنا لم أتركه إلا لأني امرأة وهو رجل، قال: لا أريد سلبه! لكن مع ذلك كان لسانه -رضي الله عنه وعفا عنه- كما قال صلى الله عليه وسلم عنه: (أشد عليهم من النبال)، وله ديوان شعر مطبوع منتشر كله من غرر الشعر وفصيحه وبليغه.
هذه الآية الكريمة تزيدنا طمعاً في الله وطمعاً في رحمته وفي مغفرته، وتدل على العناية الإلهية بعباده الموحدين المؤمنين، فإنه مع شدته ومع قوارعه لهؤلاء الذين قذفوا وقالوا ما قالوا، عاد فرحمهم، ودعا عباده لرحمتهم، وبقي قابلاً ومعترفاً لـ مسطح بجهاده وسماه مجاهداً في سبيل الله، وحض أبا بكر على الإحسان إليه، وعلى العفو عنه، وعلى الصفح عن ذنوبه، وهكذا ينبغي، فهذا أدب لنا، ونحن كثيراً ما نقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فكان سبب نزول الآية أبا بكر، أما بعد ذلك فهي خطاب لكل المسلمين، وكثيراً ما يسيء إلينا أقارب وأباعد، وبعضهم يبالغ في الأذية، ولكن مهما تكن الأذية فليس هناك أبلغ من أذية مسطح لـ أبي بكر، وطعنه في شرف ابنته وعرضها، فينبغي الاقتداء بـ أبي بكر في العفو والصفح.
وقد كان غفرانه وصفحه عن مسطح سبب مغفرة الله له، ووعد الله بالمغفرة، ومن أوفى بعهده من الله، فبهذه الآية وصريحها أن الله قد وعد أبا بكر بالمغفرة.
والرسول قد بشر أبا بكر بالجنة، وهو في طليعة العشرة المبشرين بالجنة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، ومعنى ذلك أن الله يدعو كل المؤمنين ممن قطعوا رفداً، أو أوقفوا إحساناً، أو ظلوا على حقد وعداوة لشخص ما، في أي ذنب ما، أنه إذا أدب وإذا عذب، وإذا لقي جزاءه من السماء أو الأرض، أن يعفى عنه.
فلنكن أيضاً غفورين رحيمين بأعدائنا، ولكن لكل شيء حد، فإذا تجاوز في الأمر خرج عن معناه، فالمغفرة للتائبين، والرحمة للنادمين، والصفح عن المسلمين، وأما أن تأتي إلى كافر أو منافق استذلك، وأخذ بلدك وقتلك، وهتك عرضك، وحرص على أن يأخذ بلادك، فتأتي أنت وتقف على قبره وتحني رأسك، وتقبل خده، وتقبل يده، وترفع رايته في بلدك، وتجري حول الاستسلام له، وتقول: هذا صفح، فإننا نقول: حاش الله، ليس بذاك، ولا صله له بهذا البتة.
ولكن الصفح عن المؤمنين، والعفو عن التائبين، وعن النادمين كما حصل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه لـ مسطح.
وأيضاً هذا قد علم من القرآن والسنة، يقول صلى الله عليه وسلم: (من حلف يميناً ورأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير).
أي: من أقسم على خير ألا يفعله، أو على قطع رحم، فهذه اليمين في الأصل لا تجوز، فهذا يجب عليه أن يحنث في يمينه، ويكفر عنها بصيام ثلاثة أيام أو إطعام عشرة مساكين، ويأتي الذي هو خير، فيأتي صلة رحمه، وينفق على من أقسم ألا يحسن إليه.
فـ أبو بكر كان قد أقسم، والله تعالى أمره أن يعود عن يمينه، وأن يعود عن قسمه، وأن يغفر لـ مسطح، وأن يصفح عن مسطح ويعود للإنفاق عليه، فحنث أبو بكر في يمينه وكفر عنها، وأتى الذي هو خير بأمر الله، بل وبتحريض الله له، وتشجيعه له ووعده بالمغفرة: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّع(100/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23].
كانت هذه أيضاً مغزى القصة ونتيجتها، فالله عمم: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور:23] أي: يقذفون، وجعل القذف بالفاحشة كالقذف بالرصاص والنبال؛ فعبر بالرماية: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:23]، وهن العفيفات الطاهرات المتزوجات المسلمات.
{الْغَافِلاتِ} [النور:23] أي: غافلات عن ذلك لا يخطر لهن ببال، فتجدها من العفة بالمقام الأعلى، ومن الطهارة في الذروة العليا، فلا يخطر لها ببال يوماً أن تفعل هذا أو تتكلم فيه، وإذا بها فجأة تتهم، كما اتهمت السيدة عائشة رضي الله عنها ولم يكن هذا يخطر لها ببال، ولم تفكر فيه، وهي بعيدة عنه، ونبي الله أكرم من أن يكون هذا في زوجته، وفي عرضه، وفي أم من أمهات المؤمنين.
وقد جعله الله قاعدة عامة: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:23].(100/4)
تفسير سورة النور [23 - 26]
بين الله تعالى في هذه الآيات أن الذين يرمون المؤمنات المحصنات الغافلات ملعونون في الدنيا والآخرة، وأن لهم عذاباً عظيماً.
ثم بين أن النساء الخبيثات إنما يكن للرجال الخبثاء فقط، ولا يكن للرجال الطيبين المطيبين وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النساء الطيبات هن للرجال الطيبين المطيبين.(101/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات)
قال الله جلت قدرته: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23].
هنا آيتان: آية لمن قذف المحصنات من المؤمنات عموماً، وقد مضت، وهذه الآية لمن يرمي المؤمنات المحصنات الغافلات من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
فالآية الخاصة برمي المؤمنات أمهات المؤمنين هي: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} [النور:23].
أي: الذين يفذفونهن بالفاحشة ويتهمونهن، كما فعلت فئة من مغفلي القوم ومن المنافقين الذين تظاهروا بالإسلام، وكان ذلك لأول مرة، فاكتفي بجلدهم وإقامة الحد عليهم، وكشفهم أمام الملأ، وضربهم بمحضر جماعة من المسلمين.
وأنذر الله من يفعل مثل ذلك مرة أخرى بالقتل؛ وذلك لأنه يقذف عرض سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وأعراض أمهات المؤمنين، فلهن من القداسة والحرمة ما للأم زيادة على كونها زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} [النور:23]، والمحصنات: هن العفيفات الطاهرات البريئات الغافلات عن معنى الفاحشة، فذلك لم يخطر لهن على بال يوماً من الأيام ولا ساعة من الساعات، فهؤلاء المؤمنات الصالحات القانتات من يقذفهن يلعنه الله في الدنيا والآخرة، يلعن في الدنيا بإقامة الحد عليه قتلاً، وقد كان الجلد أولاً، وأما بعد الفعلة الأولى فقاذف أم المؤمنين عائشة وبقية أمهات المؤمنين عذابه في الدنيا القتل، وله في الآخرة عذاب عظيم.
فإن قيل: كيف فهم ذلك؟ وكيف أدركنا ذلك؟ ف
الجواب
أن المفسرين رحمهم الله وجدوا في ذلك آيتين: آية ذكرت فيها التوبة بعد إقامة الحد مع عقوبة الفسق، وعقوبة إلغاء الشهادة البتة، وآية ذكر فيها العقوبة في الدنيا والآخرة، ولم تذكر فيها توبة.
فالتي ذكرت فيها التوبة هي: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:4 - 5].
فمن قذف المؤمنات الغافلات المحصنات من غير أمهات المؤمنين فله عقوبات ثلاث: يجلد ثمانين جلدة، وتلغى شهادته، ويفسق، {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4].
ولكنه بعد إقامة الحد، وإلغاء شهادته، وإعلان فسقه، إذا تاب وأناب وأصلح بأن لم يعد إلى قذف المؤمنات، تاب الله عليه: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:5].
وأما الآية الثانية فلم تذكر فيها توبة، بل ذكرت بعد الوعيد والتهديد، وبعد أن أمر الله ألا يعود الناس لمثل هذا أبداً، وبعد أن استفظع الله ذلك واستعظمه، وقال للمؤمنين: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23]، فلم يذكر توبة لهم، ثم عاد فقال جل جلاله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ} [النور:24].
وهكذا دفعوا دفعاً لعذاب الآخرة، وحسابهم على قذفهم لأمهات المؤمنين الحساب العسير: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، ولا يكون ذلك إلا يوم القيامة؛ يوم العرض على الله، فلم تذكر في هذه الآية توبة.
فهؤلاء يحاسبون وهم ناكسو الرءوس، وفي غاية الشدة والبلاء، ويُسألون: ألم تفعلوا كذا وكذا؟ فيحاولون أن يجحدوا ويكذبوا وإذا بالله الكريم يخرس ألسنتهم أولاً، فتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم، فينطق الله -الذي أنطق اللسان في الدنيا- جوارح الإنسان في الآخرة، من يد ورجل وجلد، فتشهد اليدان عليه بأنه صنع كذا وكذا، وتشهد الرجلان عليه، يشهدن عليه بما قدم، ويشهدن عليه بأنه كذب وقذف، وأنه ارتكب وأساء، وعند ذلك ينطق اللسان ويقول للأيدي والأرجل: كيف تشهدن علي وأنا ما كنت أناضل إلا عنكن؛ لكيلا تدخلوا النار ولا تعذبوا؟! فيقلن: {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21].
وهكذا يضطر بعد ذلك أن يشهد عليه لسانه كما شهدت يداه ورجلاه عليه، وكما يشهد الرقباء عن اليمين والشمال من ملائكة الله المكلفين بتسجيل الخير وتسجيل الشر.
قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور:24] وهي جمع لسان، {وَأَيْدِيهِمْ} [النور:24] جمع يد، {وَأَرْجُلُهُمْ} [النور:24] جمع رجل {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24] في دار الدنيا من سوء وإجرام وقذف للمحصنات العفيفات الغافلات عن السوء والفحشاء، المؤمنات بالله ورسوله من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.(101/2)
تفسير قوله تعالى: (يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق)
قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25].
يومئذ: أي: يوم حسابهم، يوم شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم عليهم.
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ} [النور:25] أي: يحاسبهم بالوفاء والتمام والكمال، فإن كانت حسنة حفظها لهم، وإن كانت سيئة حفظها لهم وقد يغفرها.
لكن هؤلاء الذين يقذفون أمهات المؤمنين ويؤذون رسول الله في عرضه وفي كرامته وشرفه، لا مغفرة لهم، بل يعذبون.
قوله: {دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:25].
حسابهم، فالدين هنا: الحساب، أي: حسابهم الحق الذي لا ظلم فيه ولا جور، إن كان لهم خير حُسِبَ لهم، وإن كان لهم شر حسب لهم، ويغفر الله ما دون الشرك.
وفي هذه الآية يتوعد الله من يقذف أمهات المؤمنين بعد أن صدر عنهم ما صدر، فقد استعظم الله ذلك جداً واستفظعه، وقال عنه: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
فقوله: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الحق} [النور:25] أي: حسابهم الذي لا باطل فيها ولا ظلم ولا جور، يحاسبهم بما قدموا بالوفاء والكمال والتمام حساباً حقاً، لا ريب فيه ولا ميل ولا شك ولا زيف.
قوله: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25] أي: يعلم هؤلاء المتشككون من المنافقين، وقد فسر البعض هذه الآية أنها خاصة بالقذفة المنافقين وحدهم، وإلا فالتوبة بابها مفتوح عموماً، حتى الكافر إذا تاب ثم أصلح بعد ذلك تاب الله عليه، فقالوا: هذه الآية في المنافقين الذين ماتوا على ذلك، وقذفوا عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، كـ عبد الله بن أبي بن سلول ومن آزره وقال بقوله، فهؤلاء يعلمون أن الله هو الحق، ولا يأتي ولا ينطق إلا بالحق، وما كانت شريعته إلا حقاً، وما كان رسوله إلى الناس إلا حقاً أتى بالحق ونطق به، جل ربنا وصلى على نبينا.(101/3)
تفسير قوله تعالى: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات)
قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26].
لا يزال الله جل جلاله يقرّع أولئك ويوبخهم، ويحذرهم نفسه وينذرهم؛ حتى لا يعود إنسان لمثل ذلك، فكان هذا أمراً ووحياً نزل على نبينا صلى الله عليه وسلم لمن عاصر حادثة الإفك، وبقي حكماً مستمراً إلى يوم القيامة لمن يجيء بعد حادثة الإفك ويأفك ويكذب ويزور ويقول ما لم يكن له حق، مما لم تره له عين بل ولم يعاصره البتة.
يقول جل جلاله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26] أي: النساء الخبيثات والنساء الفاحشات الزواني لا يكن زوجات إلا لأمثالهن من الخبيثين من الرجال، وهذه السيدة الجليلة زوجة لسيد الخلق والبشر، وزوجة للطيب المطيب صلى الله عليه وعلى آله، فكيف تظنون في الزوجات الخبيثات أن يتزوجهن الطيب المطيب المبرأ المعصوم سيد الخلق والبشر، وإمام الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم؟! هذا ما لا يقبله منطق، ولم ينزل به وحي، ولم يجعل الله للطيبين من الرسل والأنبياء إلا الطيبات القانتات الصالحات المحصنات العفيفات الطاهرات، فقال جل جلاله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26].
فلا يليق بالطيب المطيب والطاهر المطهر صلى الله عليه وسلم، أن تكون له زوجة خبيثة، يصدر عنها ما قاله هؤلاء الأفاكون الكذابون عندما قالوا ما قالوا وهم لا يلقون بالاً لما قالوه.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أحدكم لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً، فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً)، يقول هذا للمؤمنين؛ ليحفظوا ألسنتهم من السوء من إيذاء أعراض المسلمين عموماً، فكيف بعرض سيد البشر صلى الله عليه وسلم! قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور:26]، ولا يليق بالخبيثة من النساء إلا خبيث مثلها، وإن لم يكن خبثاً في الأصل لكنه إذا رأى الخبث وسكت عنه يصبح خبيثاً، فهو إذا كان مؤهلاً للخبث قبل ذلك -وهي الدياثة التي عبر بها صلى الله عليه وسلم من يرى السوء في أهله ويسكت عنه- لا يطلق ولا يؤدب ولا يلاعن، هذه هي الدياثة التي لا تقبلها رجولة، فكيف برجولة مؤمن صادق؟ قال تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26].
فسيد الرسل هو الطيب المطيب، وهذه حقيقة مسلمة ومفروغ منها عند كل مؤمن ومسلم، والكلام هنا للمسلمين الذين قالوا ما لم تر أعينهم، فكيف يتصور أن يكون للطيب غير طيبة؟ وما دام قد ثبت أنه النبي المعصوم، وأنه الطيب الطاهر صلوات الله وسلامه عليه، إذاً: فكل نسائه طيبات وطاهرات، وكلهن عفيفات صالحات قانتات، وعلى ذلك فمجرد كون السيدة أماً للمؤمنين وزوجةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كان ينبغي ألا يخطر هذا ببال مسلم، فضلاً عن أن ينطق به.
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26].
أي: أولئك المطيبون من الأنبياء والرسل، وأولئك المطيبون من الصحابة من الرعيل الأول ومن الصالحين المؤمنين، هم مبرءون مما يقول السفهاء والمنافقون والبله المغفلون.
وقد برأ جل جلاله عرض النبي صلى الله عليه وسلم، وبرأ السيدة عائشة أم المؤمنين مما قذفها به المنافقون والبله المغفلون، فقال: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26].
فبرأهم الله في سلسلة منسقة من الآيات آخرها هذه الآية: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26].
فهؤلاء الطيبون الطاهرون غفر الله ذنوبهم، وحتى الخواطر التي خطرت في أنفسهم غفرها لهم، وعوض ذلك رزقاً كريماً، وهو الرزق الخالد في الجنة.
ومعنى ذلك: أن الله بشر السيدة عائشة في الدنيا قبل الآخرة بأنها طيبة مطيبة، وأنها زوجة الطيب المطيب، وهي مغفور ذنوبها والخواطر التي تخطر بنفسها، وأن الله عوضها بهذا الذي قذفت به رزقاً كريماً في الجنان.
وعندما أخطأت عائشة رضي الله عنها وقامت تقاتل علي بن أبي طالب في فتنة الهودج، وحدث الذي حدث حاول بعض المنافقين أن يلعب دوراً في ذلك، فإذا بـ علي يقول: والله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، وإنها لحبيبة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولو صح أن تكون امرأة خليفة لكانت عائشة، وبذلك قطع لسان كل أفاك، وقطع لسان كل من أراد أن يصطاد في الماء العكر، فهذه فتنة كانت وانتهت، فُتِنَ بها من فتن، وآب بالمغفرة من آب.(101/4)
تفسير سورة النور [27 - 31]
لقد أدب الله تعالى المؤمنين بآداب الاستئذان: من حيث دخول البيوت، والسلام على أهلها، وعدم الكشف على عورات الأقارب من الأم والأب والأخت ونحوهم.
ثم أدب الله تعالى المؤمنين بأن يغضوا أبصارهم فذلك أزكى لهم ذكوراً وإناثاً.(102/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم)
بعد ذكر أحكام الزناة وما أمر الله به من جلدهم مائة جلدة، وتغريب عام إن كانوا أبكاراً، وبالرجم حتى الموت إن كانوا محصنين رجالاً ونساء، وبعد أن أصدر حكمه جل جلاله على القذفة بثمانين جلدة، وأن يحضر عذاب الجميع طائفة من المؤمنين، وبعد ذكر حكم اللعان فيما إذا وقع الاتهام من الرجل لزوجته وليس هناك شهود، فيلاعنها وتلاعنه، ويدرأ اللعانُ الحدَّ عن الرجل وعن المرأة، ثم ذكر بعد سلسلة من الآيات في تقريع الله لمن قذف السيدة عائشة أم المؤمنين، ثم تأتي هذه الآيات التي يعلم الله فيها المسلمين ويؤدبهم بآداب المنازل ودخولها: فكيف يستأنسون؟ وكيف يُسَلِّمون؟ وكيف يكونون بشراً لهم خلق وحضارة، ولهم نبل، فلا يكونون كالحيوانات يدخل هذا على هذا، فقد يجد في الدار زوجته أو أمه أو أخته وهي على حالة لا تريد أن يراها عليها ابنها ولا أخوها ولا أي قريب لها، فقال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27].
قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:27] الخطاب للمؤمنين، وعلى عادة كتاب الله أن فروع الشريعة يخاطب بها المؤمنون، لأن الأصل وهو من الإيمان قد تم، وبعد الأصول تأتي الفروع، فإذا كان الخطاب في الأصول هو في الدعوة للتوحيد وللإيمان بالله ورسله وكتابه فإنه يقال: يا أيها الناس، لكن الخطاب هنا للمؤمنين بعد أن آمنوا بنبيهم، وامتثلوا ما أمر به من أركان الإسلام: من شهادة، وصلاة، وزكاة، وصيام، وحج.
وهنا يعلمهم الله الآداب والرقائق، ويعلمهم كيف يتصلون ويتعاشرون ويتآخون ويتعارفون، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] أي: إذا دخلتم بيوتاً -جمع بيت ومسكن- ليست ببيوت لكم فلا تدخلوها بلا إذن ولا استئذان ولا سلام ولا كلام؛ فهذا ليس من آداب المسلمين، وليس ذلك خلقاً لائقاً بهم، ولا يعرف هذا الخلق إلا اليهود ورعاع الناس، فتجد الرجل منهم يدخل على بيت الرجل وعلى عياله، حاضراً كان أو غائباً بلا استئذان ولا سلام، ولا يفعل هذا مؤمن، ولا يفعله ذوو خلق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27].
ومعناه: إذا كانت البيوت بيوتكم فلا حاجة إلى الاستئذان، وإن كان هذا بالغالب الأعم، ولكن مع ذلك أمروا إذا دخلوا بيوتهم أن يقولوا كلمة تشعر بدخولهم، كالتكبير والنحنحة أو كلمة تشعر بدخوله؛ لأنه قد تكون في البيت أمه أو أخته أو ابنته على حالة لا يليق بالأب أن يراها ولا بالولد ولا بالأخ، أيريد أن يرى الولد أمه عريانة؟ أيريد أن يرى الأخ أخته عريانة؟ أيليق ذلك في دين المسلمين وفي أخلاقهم؟! إذاً: الأذن والاستئذان لا بد منه.
بل أكثر من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حتى في بيته كان إذا غاب في غزاة أو معركة أو سفر أو حج أو عمرة، ورجع في تلك الليلة فإنه لا يدخل البيت، بل يبقى في ضاحية البلدة، ويأمر من معه ألا يطرقوا نساءهم ليلاً، ويقول: ليعلموا ذلك ولكي لا تتخونوهن.
وقد يخطر بالبال أنه جاء مفتشاً ليرى ماذا صنعت، فإذا حصل سوء الظن بين الزوج والزوجة شقيت الحياة وما سعدت.
وكان يقول (حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة).
فقوله: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] أي: تستأذنوا، ثم بعد الإذن تقول: السلام عليكم، أأدخل؟ وبّين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه مرة طارق يريد الدخول للبيت دون سلام، وإذا بالنبي يأمر خادمه أن يقول له: استأنس أولاً، قل: أأدخل؟ ثم بعد أن يؤذن لك قل: السلام عليكم، فعمل ذلك فأذن له، ودخل وقال: السلام عليكم.(102/2)
استئذان رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد بن عبادة
واستأذن صلى الله عليه وسلم مرة على سعد فقال (السلام عليكم، فلم يسمع جواباً ثم ثانية، ثم ثالثة فرجع).
وإذا بـ سعد خرج مسرعاً، وقال: يا رسول الله! سمعت سلامك، وأجبتك خفيةً ولم أسمعك؛ لأنني أريد أن تبلغني سلامك مرة وثانية وثالثة، لعل ذلك يدخل علي البركة واليمن والسلام والأمن، وإذا به يأذن له ويدخل بيته معززاً مكرماً.(102/3)
استئذان أبي موسى الأشعري على عمر
استأذن أبو موسى الأشعري على عمر رضي الله عنه ثلاث مرات فلم يؤذن له، فرجع، فإذا بـ عمر -وكان منشغلاً بأمور المسلمين- يقول لمن حضر: ألم أسمع صوت أبي موسى؟ قالوا: نعم يا أمير المؤمنين! قال: وما باله؟ قالوا: سلم مرات ثم رجع، فأرسل عليه فقال له: لم ذهبت؟ قال: استأذنتك بالدخول وسلمت ثلاث مرات فلم تأذن لي، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من استأذن ثلاث مرات فلم يؤذن له فليرجع).
فإذا بـ عمر يقول له: لتأتيني بشاهدي عدل وإلا أوجعتك ضرباً، وكان عمر شديداً فيما يُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بـ أبي موسى يذهب منزعجاً إلى المهاجرين والأنصار ويقول لهم: لقد لقيت اليوم بلاءً من أمير المؤمنين: استأذنته ثلاثاً فلم يأذن فذهبت، ثم أرسل خلفي، فقال: لم ذهبت؟ فقلت له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من استأذن ثلاث مرات فلم يؤذن له فليرجع).
فقال لي: إما أن تأتي بشاهدي عدل أو جلدتك، فقال له جماعة -وكلهم كانوا قد سمعوا هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم-: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا، فذهب شابان وقد سمعا هذا الحديث، فقالا: يا أمير المؤمنين! نحن نشهد، والأنصار يشهدون والمهاجرون يشهدون، حينئذٍ انبسط عمر له، وأظهر بشره له وترحيبه وأدخله.
فقوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27].
أي: حتى تسأذنوا، وفي قراءة: (تستأذنوا) هكذا، ولكنها ليست سبعية، وتستأنسوا من الأنس، وهذه كلمه يقولها أهل مكة، آنسكم فلانٌ وأنستم فلاناً، أي: رأيتموه ورآكم وسلمتم عليه وسلم عليكم، ووقع الأذن بينكم زائرين ومزورين، وعندما يحصل الأذن يحصل الأنس والتأنس والمؤانسة.
ثم قال: {وَتُسَلِّمُوا} [النور:27].
أي: بعد أن تقول: أنا فلان، أألج: أأدخل؟ فإن قيل: نعم، فادخل وقل: السلام عليكم.(102/4)
ذكر بعض آداب الاستئذان
طرق النبي صلى الله عليه وسلم مرة طارق، فقال من؟ وإذا بالرجل يقول: أنا، وإذا بالنبي عليه الصلاة السلام يعيد عليه كلمة أنا أنا، أي: كره قوله: أنا، صلى الله عليه وسلم.
فكان ينبغي له أن يقول: أنا فلان، فيجب أن يعرف بنفسه، وقد يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان دون إنسان، ولا لوم ولا عتاب في ذلك، إذ أصبح من الواجب والأدب الاتصال والمعاشرة والمصادقة.
ومرة طرق طارق عليه الباب، وإذا به عليه الصلاة السلام ينتبه والرجل ينظر من شق الباب، وعندما علم الطارق أن النبي صلى الله عليه وسلم يراه ابتعد برأسه، فقال: (لو بقيت في مكانك لجئت بما يفقأ عينك، وهل جعل الإذن إلا للنظر؟).
لماذا الاستئذان؟ لكي لا يرى الإنسان عورة البيت ومن فيه، فإذا استمر هكذا يسرق النظر فإنه يكون بذلك قد خان وخرج عن العهد، وتلصص على أعراض المسلمين، فكيف بأعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإما أن يكون فاعل ذلك مغفلاً من أمثال هؤلاء الذين قذفوا عن غفلة، وإما أن يكون منافقاً، بل قال النبي عليه الصلاة السلام: (من رأى إنساناً يسترق النظر لداخل بيته ففقأ عينيه فلا جناح عليه).
فقد أهدر تلك العين بفقئها، وهذا مذهب الظاهرية والكثير من السلف.
قال تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ} [النور:27].
أي: هذا الفعل منكم والاستئناس والاستئذان والسلام خير لكم؛ لدوام المحبة والأخوة، ولصيانة الأعراض.
قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27] أي: لعلكم تتذكرون فيما يجب أن تقوموا به من آداب ورقائق في دوام الأخوة بين هؤلاء المسلمين، فقد آخى الله بينهم فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
فلو جاء هذا الزائر فدخل ولم يستأذن فقد يطرد، وقد يضرب، وقد تفقأ عينه كذلك، وقد يتهم باللصوصية، وبأنه جاء للفاحشة، وقد يتعرض للرصاص، والفقهاء يعتبرون من دخل البيت بلا إذن صائلاً، والصائل يقتل.
وما جعلت الأبواب إلا لذلك، وما جعلت الستور إلا لذلك، وهذا أدب الله الذي أدب به المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27].
تتذكرون أن هذا في صالحكم، وتتذكرون أن هذا من آداب نبيكم وآداب دينكم، والآداب التي أعلنها الله وأمركم بها في كتابه.(102/5)
تفسير قوله تعالى: (فإن لم تجدوا فيها أحداً)
قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور:28].
إذا أردت دخول بيت غيرك فاطرق الباب، فإن لم يجب أحد صحت بالصوت: أنا فلان، فإن لم يجب سلمت، فإن لم يجبك أحد فمعناه: أنه لا أحد في البيت، فإياك أن تدخل بيتاً وأصحابه ليسوا فيه فيكون هذا مما يفسد الأخوة، ومما يؤدي بالفاعل إلى التهمة، وقد يكون في البيت نساء، فلا يليق أن يفتح من بالباب الباب للرجال.
فإذا كان البيت لا رجل فيه فلا ينبغي ولا يجوز بحال من الأحوال أن يدخله أجنبي، ولذلك لا تجيب المرأة التي في البيت، وإذا دخل فإنه يكون قد دخل في مكان غير مكانه، وتسور حرمة ليست حرمته، وفضح عرضاً ليس عرضه، فينتقل الأمر من فقء العين إلى الاتهام بالفاحشة، وإلى السرقة واللصوصية، وقد يكون الرجل في البيت ولم يرد الفتح له، فالأمر أمره والشأن شأنه.
وقد يخرج له في هذه الحالة ويقتله، وقد يضربه، لذلك قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا} [النور:28] أي: لا تدخلوا هذا البيت حتى يؤذن لكم، فإذا لم يكن في البيت من يأذن فلا تدخلوا، قال تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28] أي: إذا لم يأذن لكم من في البيت وقيل لك: ارجع فارجع ولا تغضب، {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] أي: أطهر لقلوبكم ولنفوسكم، وأزكى لأخوتكم، فقد يكون للرجل مانع من الموانع، أو سبب من الأسباب، فقد يقوله وقد لا يجد مصلحة في قوله.
فلا تدخل ولا تغضب فالحرم حرمه، والمكان مكانه، وقد يكون له عذر وأنت تلومه، ولكل صاحب بيت الحق في ذلك، وأما في هذه الأيام فإنك تجد الأجراس التي تكون في البيوت وهي نوع من الاستئناس والاستئذان، فإذا فتح الباب فهذا إذن، وقل: السلام عليكم، فإن قيل لك: ادخل فهو إذن بالدخول، وإن لم يقل لك ذلك فمعناه: أنه لم يأذن، وقد لا يستطيع أن يخرج حتى يقول لك: ارجع؛ فقد يكون له مانع من الموانع أو سبب من الأسباب، والمؤمن يقبل عذر إخوانه المؤمنين.
قال تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:28] أي: والله عليم بأعمالكم، وبمن يتخلق بأخلاق المؤمنين منكم، فامتثلوا لما تؤمرون به، فهو عليم بالصالح من أعمالكم، وبالطالح منها، ولذلك اعلموا وتيقنوا أنه يعلم السر وأخفى.
فما أمركم به من أمر فامتثلوه وقوموا به، فلا يأمركم إلا بما يعود عليكم بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ولا ينهاكم إلا عما يضركم في الدنيا والآخرة، فامتثلوا واسمعوا وأطيعوا، فهو عليم بكم، وعليم بمطيعكم، عليم بمسيئكم وعاصيكم.(102/6)
تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة)
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور:29].
هذا نوع آخر: فهي بيوت غير مسكونة فيها متاع لكم، مثل فنادق النزول والدكاكين والمتاجر والمكاتب والإدارات، وفي كل هذا متاع، أي: شيء تستمتعون به بيعاً أو شراء، أو نزولاً أو أخذاً وعطاء، وهي ليست مسكونة، وليس فيها نساء، وعادة تكون الأبواب مشرعة ومفتوحة، ومجرد فتح الأبواب إذن بالدخول، خاصة وأنت تعلم أنه ليس هناك نساء، فإذا كان المكان فتح للتجارة أو الفندق فتح للنزول، أو فتح المكان لعمل من الأعمال كمصنع أو معمل أو متجر أو أي شيء من هذا القبيل فـ ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا))، وكلمة (بيت) تشمل كل ما تقيم فيه وتجلس، (غير مسكونة) أي: ليست للسكنى وإنما أعدت لشيء آخر غير السكنى، كأن تكون أعدت للصناعة أو التجارة أو المتاع.(102/7)
تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30].
لا تنظر إلى شيء لا يجوز لك أن تنظر إليه، فغض بصرك عنه، وغضّ البصر يكون بإبعاد بصرك عما رأيته فجاءً أو من أول مرة فلا تنظر إليه البتة، وغض البصر ليس معناه: أن تغمض عينك، ولكن أبعد بصرك عما لا يجوز لك النظر إليه من العورات، فقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النور:30] يدخل فيه النساء والرجال، ولكن خص النساء بآيتين.
قوله: (من أبصارهم) (من) قال البعض: هي صلة وزائدة، أي: غضوا أبصاركم.
وقال بعض المفسرين: (من) للتبعيض، أي: غضوا بعض أبصاركم.
فالله تعالى لم يقل: واحفظوا من فروجكم؛ لأن حفظ الفرج ليس فيه تبعيض إلا على الأزواج، وقد مضى ذلك في أول سورة المؤمنون، قال النبي عليه الصلاة السلام: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فلك الأولى وعليك الثانية).
أي: إذا وقع بصرك على امرأة لا تحل لك فأبعد نظرك عنها، ولا تعد النظرة الثانية؛ لأن النظرة الأولى نظرة فجاء معفو عنها؛ لأنك لم تقصدها، ولكن النظرة الثانية إذا أعدتها وقد علمتها من قبل فإنك تكون آثماً، ومن هنا قال: (يغضوا من أبصاركم).
فالنظرة الثانية محاسب عليها، وتزداد المحاسبة بكثرة الازدياد، فقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] أي: لا ينظر إلى عورات النساء: لا وجهاً ولا جسداً فضلاً عن بقية المحاسن.
قوله: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] الفرج في الأصل: الشق، ولكنه صار يطلق على قبل الذكر والأنثى، ومع كثرة الاستعمال أصبح علماً بالغلبة، فأمر الله المؤمنين أن يحفظوا فروجهم نظراً ورؤيةً وجماعاً واحتكاكاً وأي نوع من أنواع الحفظ.
وقد وصف الله المؤمنين بأنهم يحفظون فروجهم فقال: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6]، فلا ينظر إلى الفرج ويتصل به إلا الزوج مع زوجته فقط، أو ملك اليمين مع سيدها ومولاها.
فمن آداب المؤمنين ومن الواجب عليهم أن يحفظوا أبصارهم عن رؤية ما لا يحل لهم من غير المحارم، فلا ينظرون إلى أي شيء من محاسن المرأة، كذلك عليهم أن يحفظوا فروجهم في أنفسهم فلا يراها منهم أحد، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الناظر والمنظور إليه)، وهذا إن كان ذلك بعلم منه ومطاوعة، فبمجرد أن ينظر الرجل إلى فرج غير الزوجة فهو ملعون، وملعون من وافق على أن ينظر في ذلك، واللعن: هو الطرد من رحمة الله، ولا يقبل هذا مسلم.
قال تعالى: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] أي: أطهر لدينهم ولأخلاقهم ولصلاتهم، وأحفظ لعشرتهم وإسلامهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، فالله خبير بعمل كل الخلق: هل سيحفظون ذلك أم لا؟ فهو خبير بالصادق منهم والكاذب، خبير بمن نظر عن قصد وأعاد النظرة ثانية، وبمن نظر فجاءً ثم غض بصره وأبعده، خبير بالمطيع من المؤمنين وبالعاصي منهم، فهو خبير بما يصنعونه من شر أو خير.(102/8)
تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)
قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31].
قل للمؤمنات كذلك يغضضن من أبصارهن، فلا ينظرن لعورة رجل لا وجهاً ولا غير وجه، فإن رأين النظرة الأولى الفجائية غير المقصودة فلا يعدن الثانية.
وقد دخل مرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أم مكتوم، وكان ضريراً لا يبصر، وكان بمجلسه صلى الله عليه وسلم زوجتان من أمهات المؤمنين، فبقيتا جالستين، فأمرهما صلى الله عليه وسلم بالخروج، فقالتا: أليس هو أعمى يا رسول الله؟! قال (أوعمياوان أنتما؟!).
أي: كما لا يجوز له أن ينظر إليكما فلا يجوز لكما أن تنظرا إليه.
فكما حرم الله نظر الرجل إلى المرأة حرم نظر المرأة إلى الرجل، وكما يتمتع الرجل بالمرأة تتمتع المرأة بالرجل، فالعمل واحد، والحسنى واحدة، والجريمة واحدة، وكما أمر الرجل بغض البصر أمرت المرأة بغض البصر، وكما أمر الرجل بحفظ فرجه أمرت المرأة بحفظ فرجها، وألا يراه منها أحد قط إلا زوجها.
ومن هنا كان دخول الحمامات حيث كشف العورات شيء نهى عنه السلف، وشددوا فيه ولعنوا فاعله، لأن الشأن في الحمامات أن يدخلن للحمامات كاشفات عوراتهن لبعضهن، وهذا مما حرمه الإسلام وعده كبيرة من الكبائر، وفجوراً من الفجور.
قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31].
أي: لا يظهرن من زينتهن إلا ما ظهر، وزينة النساء: ما عفا الله عما ظهر منها، وأذن في بدوها، قال ابن عباس رضي الله عنه: زينة المرأة وجهها وكفاها، وقال بقول ابن عباس جمهور من المؤمنين: صحابةً وتابعين وأئمةً مجتهدين.
وقال ابن مسعود: زينة المرأة ثيابها الخارجة، وإلا فكل بدنها عورة، فلا يجوز لها أن تظهر إلا عيناً واحدة لتنظر الطريق.
والنظر بعين واحدة لا يزال إلى الآن في بلاد المغرب، فالكثيرات على هذه الحالة، وبعضهن ينظرن بعينين معاً.
كذلك كل بلاد الإسلام ما زالت على هذه الطريقة: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31].
قال ابن مسعود: الذي ظهر منها هي الثياب الخارجية، فهذا لا مانع من أن يظهر، واستدل عليه بقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31].
ومعناه: البسوا أحسن ثيابكم عندما تكونون ذاهبين للمساجد؛ خاصة يوم الجمعة، فالله أطلق في آية أخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.
فالزينة الثياب، وبهذه الآية احتج ابن مسعود أن المرأة كلها عورة، فلا يجوز أن يظهر منها إلا عينها أو عيناها بما ترى به الطريق، وقال غيرهما: زينة المرأة الكحل والقرط والسوار والخلخال إذا ظهرت من غير قصد، كأن مدت يدها لشراء أو بيع وظهر الخاتم أو السوار، أو جاءت لتصلح شيئاً فظهر القرط، فهذا عفا الله عنه وسمح.
وجمهور الفقهاء: على أن الوجه واليدين ليسا بعورة، ولكنهم قالوا: إذا خافت على نفسها الفتنة في عصر كثر فيه الفساد، وكثر فيه الفجار والفساق؛ ففي هذه الحالة يجب الرجوع لمذهب ابن مسعود ولكثير من السلف في أن المرأة كلها عورة، وذلك من باب سد الذرائع، ونحن نرى الفجور قد عم وطم، واليوم يكشف المسلمات النحر والصدر والفخذ والساق والشعر، فترى اليهودية والنصرانية والمسلمة لا فرق بينهن قط، ولا تستطيع أن تميز المسلمة من الكافرة.
وعلى هذا فإن الله جل جلاله ستراً وحفظاً للأنساب ومحافظة على الأعراض أمر النساء كما أمر الرجال بغض الأبصار، وبحفظ الفروج، وألا يظهر النساء من زينتهن إلا الوجه واليدين، فإن لم تأمن الفتنة، فلتستر بدنها جميعاً، وكم من نساء اليوم يلبسن الثياب الفضفاضة الحريرية، ويلبسن فوقها شيئاً لا يكاد يذكر، أو يلبسن ألبسةً قصيرة يظهر بها الساق والفخذ، وهذا مالا يجوز بحال من الأحوال، فقد حرمه الشارع في كتابه الكريم.
دخلت مرة أسماء على أختها عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم حاضر، وإذا به يخرج، فقالت عائشة لأختها أسماء: (ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأى عليك ما يكره، وإذا بالنبي يعود ويقول لها: يا أسماء! المرأة إذا بلغت المحيض لا يجوز أن يظهر منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه) واعتمد ابن عباس هذا الحديث، وقال ابن كثير في تفسيره: وهذا الذي عليه الجمهور من المسلمين.
وليت المسلمين اقتصروا على هذا، فإنه لا ينبغي للمرأة أن تتزين بكحل ولا حمرة ولا تطيب ولا تفعل أي شيء يلفت الأنظار، ومن خرجت من بيتها متطيبة لعنتها الملائكة حتى تعود.
فقد رأى أبو هريرة رضي الله عنه مرة امرأة آتية فقال لها: أين كنت يا أمة الجبار؟! قالت: جئت من المسجد، قال: وله تطيبت؟ قالت: نعم، قال: اذهبي لبيتك واغسلي بدنك غسل الجنابة، وإلا فلا صلاة لك، والملائكة تلعنك ما دمت في هذه الحالة حتى تعودي.
وهذا هو الواجب على الزوج مع زوجته، والأب مع بناته، والأخ مع أخواته، وكبير القوم مع قومه، فإذا لم يقم الزوج بالواجب عليه، ولم يقم الأب بالواجب عليه، ولم يقم الأخ بالواجب عليه، ولم يقم المدرس بواجب تدريسه، والداعية إلى الله سكت أثم الجميع، ويوشك إذا اتفق الناس على الباطل أن يعاقب الله البر والفاجر معاً، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].
والله تعالى لعن اليهود، قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78]؛ لأن من جملة أفعالهم: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79].
فكان هؤلاء اليهود لا يأتمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، وكان بعضهم يأمر بالمعروف كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم ولكنه يصبح الصباح وهو مع أولئك الذين نهاهم يؤاكلهم ويشاربهم ويجالسهم، فيكون كمن لم يأمر، فلا بد للآمر إذا أمر بالمعروف ولم يُطع فيه أن يهجر في الله؛ لأن الحب في الله والبغض في الله من الإيمان.
وقد هجر عبد الله بن عمر ولده مدة حياته، لأنه قال له: يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله بيوت الله)، فأجابه: والله لنمنعنها، وإذا به يلعنه ويشتمه ويهجره إلى الأبد، ولم يعد لكلامه البتة.
وأما هجر المسلم أخاه ثلاثة أيام في شئون الدنيا فهو المقصود بالحديث: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) لكن عندما تكون خصومة لله وفي دين الله، فإن الواجب أن يهجره إلى الأبد كما فعل ابن عمر ما لم يرجع عما كان عليه من مخالفة لدين الله.
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام (سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله) فكان من السبعة: (رجلان تحابا في الله: اجتمعا عليه وافترقا عليه).
فهما أخوان في الله تآخيا يأتمران بالمعروف، ويتناهيان عن المنكر، ويتعاونان على طاعة الله ومدارسة دين الله، فإذا أحدهما أمر الآخر فعصاه، ولم يمتثل لما أمر الله به ورسوله، فارقه لله وقاطعه، وهي مشروعة أبداً.
قال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31].
الخُمُر: جمع خمار، وهو غطاء الرأس، أمر الله تعالى أن يُغطى الشعر بهذا الخمار، ويضرب به على الجيوب، والجيوب: هي الشقوق في ثياب الإنسان، والمرأة تزيده إلى أسفل، فيظهر نحرها وعنقها وصدرها وقرطاها، فالله أمرهن بأن يضربن بالخمر التي تستر الرءوس ليسترن العنق، فلا يظهر العنق ولا الأقراط ولا الصدر ولا النحر بحال من الأحوال.
(وليضربن بخمرهن) أي: وليضعن خمرهن.
والجيوب: جمع جيب، فيقال للشق: جيب، وقد يكون للنساء جيوب للساق فإذا تحركت ظهر لحم الساق، وقد يظهر لحم الفخذ، وقد يكون لها جيوب في الظهر فيظهر ظهرها.
وهذه الجيوب جميعاً أمر الله بسترها وتغطيتها، وحرم كشفها إلا لمن سيذكره من الزوج والمحارم.
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: إن نساء الأنصار كن من أطوع المؤمنين لأوامر الله، فعندما نزل قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] قالت أصبحن وقد صلين الفجر مع المؤمنين والمؤمنات، وإذا بهن وكأنما على رءوسهن الغربان؛ من تخمير رءوسهن وأعناقهن وجيوبهن وما يظهر من أبدانهن.
والآية تدل في ظاهرها على أن الخمار يضرب على الجيوب لا على الوجه، ومن هنا كان فهم ابن عباس وفهم الجمهور، ولكن ذلك إذا أمنت الفتنة، وأنى لها أن تأمن الفتنة.(102/9)
تفسير سورة النور [31]
لقد أدب الله تعالى المؤمنات بعدة آداب من حيث غض البصر، وحفظ الفرج، وعدم إبداء الزينة وإظهارها، ثم أمرهن بالتوبة إليه مما بدر منهن من أخطاء ومعاص، فإن الفلاح والنجاح يكون مع التوبة.(103/1)
تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)
قال الله عزت قدرته: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
فالله جل جلاله كما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر الرجال بغض الأبصار، وحفظ الفروج، والستر والعفة والحياء، أمره أن يأمر النساء بذلك؛ إذ إن الإسلام جاء للنساء كما جاء للرجال، (النساء شقائق الرجال) أي: إخوتهم الشقائق في الأحكام والحلال والحرام وجميع ما أمر الله به ونهى عنه، إلا ما صرح فيه مما يخصهن وحدهن، فقال تعالى: (وقل للمؤمنات) أي: قل: يا محمد! للمؤمنات وللمسلمات، (يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) أي: قل لهن وهن مؤمنات: لا يليق بهن إلا أن يعشن كذلك في غض الأبصار، وحفظ الفروج، والعفة والستر والحشمة والحياء، فكما أن الرجال لا يحل لهم أن ينظروا إلى النساء وزينتهن، فكذلك لا يحل للنساء أن ينظرن إلى الرجال بشهوة، ولا أن ينظرن إلى محاسنهم وما يدعو إلى الفتنة منهم، فكل ذلك سواء، وفي عصر الصحابة عندما نزلت الآية ظن النساء أن غض البصر إنما هو خاص بالرجال وليس عاماً للنساء كذلك، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أم مكتوم وهو ضرير البصر، وكان في مجلس رسول الله بعض نسائه من أمهات المؤمنين فضللن في المجلس، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يأمرهن بأن يتركن المجلس ويخرجن، فقلن: يا رسول الله! أليس بأعمى لا ينظر؟ فقال لهما: (أفعمياوان أنتما؟) فقمن إذ ذاك من المجلس.
فكما حرم النظر إلى النساء من الرجال فكذلك حرم النظر من النساء إلى الرجال.
قال تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهم) (من) هنا قلنا: للتبعيض، أي: بعض النظر لا يجوز، وحد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لـ علي رضي الله عنه: (لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وعليك الثانية)، ونظر الفجاءة هو الذي يحدث من الرجال للنساء فجاءة فتلك النظرة الأولى هي المعفو عنها، وهي المرادة بالآية، ولكن النظرة الثانية هي المحرمة والممنوعة، وفيها الإثم والوزر.
قال: (ويحفظن فروجهن) أي: يصن فروجهن، والفروج: جمع فرج وهو مكان العفة من النساء، فأمرن بأن يحفظن فروجهن عن النظر وعن الزنا والفاحشة، وكما مضى في سورة المؤمنون أنه لا يجوز ذلك إلا للأزواج، وفي صفة المؤمنين الذين يحفظون الفروج إلا من الأزواج، قال تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:6 - 7]، فمن ابتغى غير الزوجات وملك اليمين كان معتدياً وظالماً.
فالأمر للنساء كالأمر للرجال بغض البصر، وبألا يرين الرجال بشهوة، وألا يرين محاسنهم، وأن يحفظن فروجهن عن النظر إليها أو الزنا من باب أولى.(103/2)
اختلاف العلماء في الزينة الظاهرة للمرأة
قال تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) وائمرهن يا محمد! بألا يظهرن من زينتهن إلا ما ظهر منها، فلا يجوز أن تظهر المرأة من محاسنها ومن زينتها إلا ما ظهر منها، واختلف الأصحاب ثم التابعون ثم الأئمة المجتهدون في ذلك، فقال ابن عباس: المرأة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وقال ابن مسعود: المرأة كلها عورة لا يجوز لها أن تظهر إلا عيناً أو عينين للبصر ورؤية الطريق، فإذا كان الأمر كذلك فما هي الزينة الظاهرة عند ابن عباس؟ قال: الزينة الظاهرة الوجه والكفان بلا كحل ولا دهن ولا حمرة، ولا ما يزيد ذلك زينةً وبهاءً، وقال ابن مسعود: زينة المرأة ثيابها الخارجية فقط وإلا فكلهن عورة، واستدل بقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، فقد سمى الله تعالى الألبسة الخارجية زينة، فأمر الرجال أن يلبسوها عندما يأتون المساجد خاصة يوم الجمعة، والآيات يفسر بعضها بعضاً، إذاً: زينة المرأة من خارجها من قوام وشكل ومن لباس، ومع ذلك أمر الله الرجال أن يغضوا من أبصارهم خاصة إذا كانت النظرة الثانية، وأخص من ذلك إذا كانت بنية سيئة من شهوة وتمني سوء وفاحشة.
وقال ابن كثير: جمهور الأئمة على أن عورة المرأة هي عورتها في الصلاة والطواف والحج والإحرام، وعورتها كذلك هي الوجه والكفان، وإحرام المرأة في وجهها، ولكن علماءنا مع ذلك قالوا: إذا خيفت الفتنة وانتشر الفساد فيجب الأخذ برأي ابن مسعود، خاصة وأن ابن مسعود استدل بآية واستدل بما كان في عصر الصحابة، فقد كان بعضهن متنقبات باللثام بحيث كان لا يرى منهن إلا العين، وعلى هذا عاش المسلمون قروناً في مشارق الأرض ومغاربها، وما كان ذلك يتغير إلا في العجائز والبدو، وفيما لا يكاد يكون له خطر من زينة أو محاسن.
فـ ابن مسعود احتج بالآية، وابن عباس احتج بالآية وما يفسرها من حديث أسماء أخت عائشة ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، فقد دخلت على رسول الله البيت صلى الله عليه وسلم بألبسة شفافة تكاد تظهر لون اللحم من خلفها، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وأعرض وترك المكان ثم عاد، فوجدها لا تزال، وقد قالت لها أختها عائشة: لقد كره منك صلى الله عليه وسلم شيئاً، وإذا به يقول لها: (يا أسماء! إذا بلغت المرأة المحيض -إذا بلغت سن الرشد بالحيض- فلا يحل أن يرى منها إلا هذا وهذا) وأشار إلى كفيه وإلى وجهه الشريف صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكن مع هذا فـ ابن عباس ومن قال هذا معه من الأصحاب والأتباع والتابعين والمجتهدين ألزموا أن يكون ذلك دون المزيد من الزينة بما يعتبر تبرجاً، والتبرج حرمه الله جل جلاله وقال للمؤمنات: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، أي: لا تفعلن أيتها المؤمنات وأيتها المسلمات بعد أن أسلمتن وأكرمكن الله بالتوحيد فعل الجاهلية الأولى من التبرج وإظهار محاسن المرأة مما لا يليق بالمؤمنة، فإن كان الوجه مكشوفاً وأمنت الفتنة فذلك قد أمضاه الفقهاء والعلماء، ولكن الفتنة قلّما تخفى وقلما تؤمن، وعلى هذا كان المسلمون قروناً مضت وتلتها قرون، فكان حالهم في مشارق الأرض ومغاربها على ستر المرأة في كل بدنها، وما نعيش فيه اليوم من فسوق وفجور وتبرج زاد على فعل الجاهلية الأولى بما لا يكاد يقبله حتى أهل الكتاب، فكيف بالمسلمين؟ وكيف بأتباع نبينا خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه؟! قال تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) الخمر: جمع خمار، والخمار: ما يستر شعر المرأة، وكانت المرأة تستعمله حتى في الجاهلية، ولكنهن كن يكشفن نحورهن وأجيادهن وأذرعهن وظهورهن، فأمر الله جل جلاله في كتابه بأن خمار الرأس يجب أن يضرب على العنق وعلى الجيوب كلها، والجيوب: جمع جيب: وهو الشق، ومن هنا سميت الشقوق في القمصان والثياب جيوباً، وهناك جيب العنق، وجيب القفا، وجيب الآباط، كل هذه الجيوب يجب أن تستر وتغطى بالخمر، فلا يجوز أن تظهر المرأة منها شيئاً لا عنقها ولا شعرها ولا أقراطها ولا عقودها ولا أساور يدها ولا خلاخل رجلها ولا شيئاً من ذلك، كل ذلك قد حرمه الشارع وشدد فيه ونهى عنه، وأمر بالعفة والستر والمروءة والحشمة والحياء.
كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] أي: قل يا محمد! لزوجاتك أمهات المؤمنين ولبناتك: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة والأحفاد منها، وقل للمؤمنين ولنساء المؤمنين عامة يدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب: ما يستر جميع بدن المرأة، ولا يزال يسمى في المغرب بالجلابية ويسمى هنا بالعباءة، ويسمى في كل قطر من الأقطار الإسلامية باسم، فقال الله لنبيه: قل لجميع المسلمات من أمهات المؤمنين وبنات آل البيت وعموم المسلمات أن يدنين ويقربن عليهن الجلابيب بحيث يكون البدن جميعه مستوراً.(103/3)
عورة الرجل وعورة المرأة
عورة الرجل مع الرجل جميع ما بين السرة والركبة وما سوى ذلك ليس بعورة، وعورة المرأة جميع بدنها مع الأجانب سوى العينين والوجه والكفين كما نقلنا في الرواية عن الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، ولكن حتى الرجل لا يليق به أن يجلس بدون سبب مكشوف الصدر والظهر من السرة فما فوق، وأن يصلي كذلك، وأن يخرج للأسواق كذلك، فلو فعل لشُكَّ فيه أن في عقله شيئاً، والمرأة كذلك لو جلست مع النساء وعورتها هكذا لقيل عنها: جنَّت.
أما المحارم فقد أباح الشارع أن تظهر المرأة بمحاسنها الخارجية والخفية، والمحاسن الخفية: الأقراط والعنق واليدان والرجلان وبقية الزينة، وليس كشف اللحم وكشف الصدر وكشف الظهر وكشف السيقان وما إلى هذا، فقال تعالى: (ولا يبدين زينتهن) فعمم ثم خصص وفصل، فقال: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) البعولة: جمع بعل: وهو الزوج، فلا يظهرن زينتهن إلا للأزواج، وللرجل أن يرى جميع بدن امرأته ولو عريانة، لكن الفقهاء مع ذلك كرهوا منه ومنها أن ينظر بعضهم لفرج بعض.
و (زينتهن) التي حرم الله إظهارها أمام الأجنبي.
((وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)) فمع المحارم لا حاجة لذلك، فكشف شعر الرأس والعنق والصدر وما إلى ذلك إلى أحد من المحارم لا مانع من هذا.
قال: {أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31] آباء البنات يحل له أن يرى الزينة من ابنته، وأن تري البنت زينتها لأبيها فهو محرم لها وهي محرم له، وليست المحارم ما لا يخطر على البال مما يكون عادة مع الأجانب، قال تعالى: (أو آباء بعولتهن) أي: آباء الأزواج، وهو ما يسمى في اصطلاح بعض ديار المشرق بالعم، فأبو الزوج كذلك محرم حرمة أبدية، فإن بقيت المرأة زوجة أو طلقت فإنه يبقى محرماً لها كما لو كان أباها نفسه.
قال: (أو أبنائهن) والمرأة كذلك مع أبنائها، والأبناء كذلك مع أمهم، قال: (أو أبناء بعولتهن) أو الربائب، فابن الزوج بالنسبة للزوجة هو كولدها؛ لأنه محرم عليها حرمة أبدية.
قال: (أو إخوانهن) جمع أخ، وهو أخوها الشقيق أو غير الشقيق أي: الأخ لأب ولأم، أو الأخ لأب فقط أو الأخ لأم فقط، فكل أولئك محارم، فلها أن تظهر زينتها لهم، ولهم أن يروها كذلك.
(أو بني إخوانهن) أو أبناء الإخوة وهم من ينادونها بالعمة، فهم كذلك محارم وهي محرم لهم.
(أو بني أخواتهن) من يناديها من الأبناء بالخالة، فالخالة والعمة والزوج والأب والربيب والإخوة كل أولئك محارم لمن هذه صلتهم بها، ولمن صلتها بهم كذلك.
(أو نسائهن) النساء: جمع لا مفرد له باللفظ، ومفردها امرأة، والمعنى: المؤمنات مع المؤمنات؛ لأن الأمر بهذا للمؤمنات: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن)، فالمؤمنات مع المؤمنات والمسلمات مع المسلمات كذلك لهن جميعاً أن يظهرن محاسنهن وزينتهن لبعضهن، وخرج من هذا من لسن بمسلمات فهن لسن بنساء مؤمنات، أي: لسن بالنساء اللائي لهن صلة دين أو أخوة إسلامية، ومن هنا يقول جمهور العلماء بأن المرأة غير المسلمة هي من المسلمة كالأجنبي من المرأة، فلا يجوز أن تظهر لها إلا كما تظهر للأجنبي إما مستورة كاملة أو تظهر الوجه والكفين فقط.
فإن قيل: ولم ذلك؟ قالوا: لما يمكن أن تصف تلك النصرانية أو اليهودية الصفة التامة لتلك المؤمنة لأزواجهن من الكفار يهوداً ونصارى وغيرهم، وهذا قد حرمه الشارع، فإن عمر رضي الله عنه كتب لعامل الشام أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه فقال له: بلغني أن النساء المسلمات يدخلن في الشام للحمامات ومعهن النصارى واليهود، فامنعهن من ذلك، فقد منع الله ذلك ولم يبح إلا للمؤمنات فقط، أما أن يدخلن هكذا عرايا على النساء غير المسلمات فلا، فمنعهن أبو عبيدة من ذلك.
وقال بعض الأئمة: (نسائهن) أراد أن يفهم منها كل النساء، وأن الكافرة كذلك لا مانع منها، ولكن الآية تكاد تكون صريحة وليس هناك ما يؤكد هذا، ومن هنا ننتبه أن الآية تدل على مسلمين آخرين من الأقارب فلم يذكر الخال ولم يذكر العم؛ ليس لأن الخال والعم ليسا بمحرم، قالوا ولكن السبب: أنه لا يجوز للمرأة أن تظهر زينتها ومحاسنها للعم والخال، لأنه يمكن أن العم يتحدث بذلك لأولاده وهم أجانب، ويتحدث الخال لأولاده وهم أجانب، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى الزوجات من أن يصفن النساء لأزواجهن كما لو أنهم يرونهن رأي العين، فمنع الزوجات أن يخبرن أزواجهن بأن فلانة طولها وعرضها وعينها وخدها كذا حرم الشارع ذلك؛ لأنه يمكن أن يشهي مثل هذا الوصف لزوجها، ويدعوه لما لا يليق به مما يكون خطراً على دينها ودينه، فإن كان هذا مع العم والخال وهما محرمان مؤمنان، فمع المرأة الكافرة من باب أولى.
قال: (أو ما ملكت أيمانهن) الكلمة في ظاهرها تدل على أن ملك اليمين عبيداً وإماءً إن كانوا ملكاً للمرأة بأنه لا مانع من أن يكونوا معها كالمحارم، ولكن المفسرين زيفوا هذا الفهم لبعض المفسرين وقالوا: ليس الأمر كذلك، فإن العبيد قد دخلوا من أول مرة على أنهم أجانب، ولا يدخل هنا إلا المرأة الكتابية الكافرة إن كانت أمة للسيدة المؤمنة، فلا مانع من أن تظهر زينتها لها، ولا مانع من أن تعيش معها كما يعيش المحرم مع محرمه؛ لأنها وهي تحت ملكها وتصرفها وملك يمينها كونها تصف لزوجها الكافر أو لأولاده محاسنها وزينتها مأمون هذا فهي أمتها، والشأن ألا تزوجها بكافر، وألا يكون عندها أولاد كفرة، ومن هنا قالوا: إن ملك اليمين يخص الأمة، أي: المرأة المملوكة لا العبد.
قال: (أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال) أو من عادةً يملئون البيت ممن لم يأت إلا لأجل الطعام والشراب والمتاع، وأخذ الصدقة والعطاء ممن ليس له حاجة في النساء، ولا رغبة له فيهن، وهؤلاء كالرجال المغفلين الذين عادة يتصلون ببعض البيوت والأشخاص ولا يشتهون النساء ولا يفكرون فيهن، وليست لهم الرغبة التي تكون عند الآخرين، أو الشيخ الهرم المسن الذي لا رغبة له في النساء ولا النساء لهن رغبة فيه، أو الرجال الذين هم عادة منعوا من الزواج إما لأنهم جبت فروجهم أو دقت أنثياهم فأصبحوا أشبه بالنساء، وهذا ما يسمى بالخصي، وهؤلاء لا يبقون رجالاً، بل يبقون خلقاً لا هم رجال ولا هم نساء، وتذهب منهم الرغبة بالنساء مطلقاً، فدخول هؤلاء كذلك على النساء لا مانع منه بأن يكونوا في البيوت خدماً، أو أن يكونوا ممن يتبعون الناس في البيوت لطعام أو شراب أو خدمة أو ما إلى ذلك، فإذا ظُنَّ إنسان يوماً أنه أبله أو مغفل أو مجبوب أو عنين ثم أخذ يتكلم عن محاسن النساء فإنه يمنع من الدخول عليهن، كما حصل ذلك مرة من مخنث كان يظن أنه من المغفلين، وكان يدخل البيت النبوي، وكان اسمه هيت، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فوجده وبعض أمهات المؤمنين حاضرات وهو يقول لأحد أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو ذهبت إلى الطائف ورأيت فلانة فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، وأنها وأنها فقال صلى الله عليه وسلم: (أراك تفهم هذا؟ أخرجوه عنكم، فطرد) وأخرج من المدينة ألبتة، وأبعد عن سكن الناس بالمرة؛ لأنه أظهر من بلاهته وغفلته ما غر الناس فعوقب بالنفي المؤبد، وبقي منفياً حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان إلى أواسط أيامه رضي الله عنهم، فأذن له أن ينزل يوم الجمعة ليسعى فيما يتعيش به هو ومن في خارج المدينة.
فقوله: (أو التابعين غير أولي الإربة) أي: التابعين للأسر أزواجاً وزوجات ممن يخدمونهم وممن يطلبون رفدهم وصدقتهم وعطاءهم وسقط متاعهم، فهؤلاء إن كانوا لا إربة لهم ولا غرض ولا شهوة، ولا يعرفون مما يتعلق بالنساء شيئاً أذن لهم في الدخول على النساء.
قال تعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) (الطفل) هنا: الأطفال، فهو اسم جنس للجميع، فهؤلاء الأطفال الذين لم يطلعوا على عورات النساء بحيث لو رأوا شوهاء أو جميلة عريانة أو لابسة لا يدركون ذلك بالمرة ولا يفكرون فيه، كأبناء خمس سنوات أو ست سنوات أو أقل، أما الولد المميز الذي يستطيع أن يقول: هذه جميلة وهذه شوهاء، وهذه من صفتها كذا وهذه من صفتها كذا فهؤلاء أيضاً لا يجوز لهم أن يدخلوا على النساء، ويجب أن يمنعوا ما داموا يعرفون من النساء محاسنهن ويعرفون منهن صفاتهن، وأما أولئك الأطفال الذين لا يميزون فلا مانع، وعورة المرأة زينتها، وهكذا أعيدت الكلمة باسم (عورات) وهو ما قاله الأئمة ومفسروا الآية، فقوله: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) أي: هي عورة لا يجوز أن تظهر؛ ولذلك نرى لم يذكر العم وهو محرم، ولم يذكر الخال وهو محرم وهو قول الشعبي والضحاك والأئمة من المفسرين، قالوا: منعهم أن يروا زينة المرأة أو محاسنها كيلا لا يصفوها لأولادهم فيكون بذلك كشف للعورة وهذا لا يجوز، وأما الأخ فأبناؤه محارم، والأب كذلك أبناؤه إخوة، والأخت أبناؤها محارم، وأولاد الزوج من الرضاعة فهم محارم، وكل ما ذكر الله من الآباء والأبناء في هذه الآية هم جميعاً من المحارم، ولكن لم يذكر الخال والعم لأن أولادهما ليسوا من المحارم؛ واتقاء أن يذهب العم والخال فيصف للأولاد زينة المرأة ومحاسنها، كما لو كان يراها مباشرة، فمنع من ذلك لهذا المعنى، كما منعت المرأة الكتابية والمرأة غير المسلمة من أن ترى محاسن المسلمة وزينتها؛ كيلا يتحدثن عنها لأزواجهن أو لأولادهن وهم كفار.
قال تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن) أي: لا يضربن بأرجلهن ليبدين ما يخفين من زينتهن، وهذا لا يزال إلى الآن في بعض الأقطار، فمن حلية المرأة أن تلبس في رجليها ما يسمى بالخلاخل، فتجد المرأة تلبس ذلك في رجلها إذ تكون متسترة هكذا الشأن في المسلمات، ولكن المرأة بفطرتها تريد أن تشعر المارة بأنها تخفي من الحلية في الرجل واليد والأذنين والعنق ما يدل على رفاهيتها وعزتها على زوجها وعلى أبيها، فتفعل حركة برجليها وتضرب رجلاً برجل ليسمع صوت الخلخال وتلفت أنظار الماشين من الرجال، فإن فعلته لمجرد هذا فهو ممنوع وحرمه القرآ(103/4)
تفسير سورة النور [32 - 34]
أمر الله تعالى هنا الأولياء بأن يزوجوا أولادهم وبناتهم، وأن يزوجوا الصالحين من عبيدهم وإماهم، وقد تكفل الله تعالى بأن يغني الفقير من فضله، فلا يكن الفقر حجر عثرة أمام الزواج.
كما أمر الله تعالى الذين لا يستطيعون النكاح لعذر من الأعذار أن يستعففوا إلى أن يغنيهم الله تعالى من فضله.(104/1)
تفسير قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم)
قال الله جل جلاله: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].
يأمر الله جل جلاله الآباء والأولياء والسادة والموالي بأن يزوجوا أولادهم وبناتهم، والأيامى: جمع أيم، والأيم: كل رجل وامرأة لا زوجة له ولا زوج لها، سواء كانا من قبل قد تزوجا أم لا، فكل ذلك يوصف لغةً بالأيم.
فالله يأمر الأولياء والآباء المشرفين والمنفقين والمكلّفين والمسئولين عن أولادهم وبناتهم أن يزوجوهم ولا يتركوهم عزّاباً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مسكين رجل لا امرأة له) أي: لا زوجة له (ومسكينة امرأة لا زوج لها).
ويأمر الله جل جلاله السادة والأولياء أن يزوجوا الصالحين من العباد: من غلمانهم وفتياتهم وإمائهم الصالحين، حيث لا علة فيهم ولا ضرر يمنعهم من الزواج؛ كأن يكون هناك ما يمنعهم من صحة الزواج: كخصاء أو جباء أو ليس فيهم ما يدعو للزواج وللرغبة في النساء مرضاً أو خلقة، فلا تتركوهم بغير أزواج، وأكثر ما يتعلل به العزّاب والعذارى والأولياء المشرفون عليهم بأنهم فقراء لا يملكون مالاً لزواجهم، وهذا الأمر يتعهد الله جل جلاله بوجوده وبكينونته فيقول: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] أي: إن كانت العلة في عدم الزواج هي الفقر فالله تعالى يضمن لهم ويتعهد لهم بأن يغنيهم من فضله ومن واسع كرمه ورزقه جل جلاله، وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً على خاتم من حديد، ولكنه لم يجد خاتماً فزوجه على أن يعلم زوجته سوراً مما يحفظ من كتاب الله الكريم.
وقد قال أبو بكر وعمر وجمهور من الصحابة رضي الله عنهم: أيها الناس! إن الله رغّبكم في الزواج وحضكم عليه، وضمن لكم الغنى من أجله، فإذا كان الأمر كذلك فعلة الفقر والتعلل والعذر به ليس عذراً.
والله يقول: أنكحوا، وهو فعل أمر، والأمر في أصول الفقه وأصول تفسير كتاب الله إذا أُطلق من غير أن يصرف عن ظاهره فإنه للوجوب.
وقد أوجب الزواج -بأمر الله- الكثير من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، ولا عُذر في تركه إلا لمن كانت فيه علة بدنية تصرفه عن ذلك؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد عن عبد الله بن مسعود وغيره من الأصحاب رضوان الله عليهم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحفظ للفرج، ومن لم يجد فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
فنادى صلى الله عليه وسلم الشباب ولم ينادِ الكهول ولا الشيوخ؛ إذ قد تزوجوا منذ صباهم، فقال للشباب رجالاً ونساء ذكوراً وإناثاً: (من استطاع منكم الباءة) أي: من استطاع منكم النكاح فليتزوج، فإن الزواج أغض لبصره عن المحارم ورؤية محاسن ما لا يجوز له أن يراه، وأحفظ للفرج من الزنا والفاحشة، وقد أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يأمر أتباعه، فقال له: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، ومن أجل ذلك قال: (فإنه أغض للبصر، وأحفظ للفرج)، فمن لم يجد ولم يستطع الزواج لعلة من العلل كأن كان طالباً يخاف أن يشغله الزواج والولادة عن الدراسة وطلب العلم الواجب، قال له في هذه الحالة: فليصم، والصيام له علاج ووجاء، فهو يدفع الشهوة، ويزيل القلق نوعاً ما، على أن الطالب إذا تعهد له والده أو وليه أو حكومته بالإنفاق عليه وعلى زوجته وأولاده زال عذره من عدم الزواج، كما قد يكون عذراً كون الجندي في ساحة القتال، وقد يكون مجنداً لسنتين أو ثلاث أو أكثر، فقد يكون هذا عذراً ريثما يسرح من الجيش، وفيما عدا ذلك فالزواج واجب، ولو أوجبته الحكومات الإسلامية لدفعت الكثير من الفواحش ومن الفساد المنتشر في المجلات وفي الأفلام، وما إلى ذلك من أنواع الفسوق والعصيان المنتشر في أرض الإسلام، ولو فعلوا ذلك لما بقي في بيت عذراء ولا عزب، ولتزوج الجميع، وإذا تزوجوا كان ذلك سبباً للقضاء على الفواحش وما يدفع إليها، والشبعان لا يطلب طعاماً، والغني لا يتسول مالاً، ولكن عندما لا يتم ذلك يحصل ما نراه وترونه جميعاً في بلاد الإسلام مشارقه ومغاربه.
((إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)) وهذا أمر الله ووعد الله الذي لا يخلف الميعاد، وقد جُرّب ذلك في المسلمين قديماً وحديثاً فكان الزواج سبب الغنى والكفاية، وسبب الرزق والعطاء والاستغناء عن الناس.
قال تعالى: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] أي: واسع الجود وواسع الكرم والعطاء جل جلاله، ولذلك فالطريق إلى الغنى لمن لم يجده أن يتزوج إن كان عزباً أو كان أيّماً، وتتزوج المرأة إن كانت عذراء عزباء ليغنيها الله من فضله وعداً من الله حقاً، فقوله: ((وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم)) أي: واسع الكرم عليم بعباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويطيعون الله، ويخرجون عن المعصية وعن المخالفة، ويكونون من أولياء الله المتقين المتعبدين بالطاعة لله ولرسوله.(104/2)
تفسير قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً)
قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33].
فإن كان ولا بد وكان العذر لهؤلاء هو الفقر، فمن لم يكن كذلك مكفياً فليستعفف وليطلب العفة بألا يزني ولا يفسق: لا بعينه، ولا بأذنه، ولا بيده، ولا بفرجه، وقد كتب الله الزنا في العين، فإذا ما رأت ما لا يحل لها فقد زنت، والأذن إذا أنصتت لما لا يحل لها فقد زنت، واليد إذا باشرت ما لا يحل لها من بشرة محرمة فقد زنت، وهكذا تجد هذا الذي لا يتزوج تعللاً بالفقر لا يكاد يخلو من الزنا يومه كله، فينظر لأعراض الناس في الطرق والأزقة، ويسمع لغناء النساء ورخامة أصواتهن وفحش قولهن، ويمد يده مصافحاً لمن لا يجوز له أن يصافحها، وهكذا تجده يومه كله في مخالفة وعصيان لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وابتعاد عن أخلاق المؤمنين.
فقوله تعالى: ((وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)) السين والتاء إذا دخلت الفعل فهو للطلب، أي: ليطلب العفة، فهؤلاء الفقراء إن أصروا على عدم الزواج للفقر فليكونوا عفيفين عن النظر والسمع والزنا والفرج فيما لا يحل لهم؛ عسى الله أن يغنيهم ويكفيهم، فإن الله قد تعهد بذلك من قبل، وكلمة النكاح إذا أُطلقت تعني الزواج، وقل ما تعني الجماع.
قال تعالى: ((وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا)) هذه الفقرة من الآية تتعلق بحكم آخر كبير الشأن، هذا الحكم يتعلق بتحرير العبيد الأرقاء قبل أن يدّعي هؤلاء الأعداء اليوم أنهم قد أعتقوهم وأوجبوا ذلك، فأعتقوهم أفراداً واستعبدوهم شعوباً وأمماً، استعبدوهم للبطش والذل والهوان والاسترقاق، وأنتم ترون وتسمعون كل حين كيف أن أمم الكفر أطلقت كلب الصيد اليهود فكانوا كلاباً وقردة وخنازير، لضرب المسلمين براً وبحراً وجواً، فيريقون الدم الحرام، وينتهكون العرض الحرام ويستذلون ويقتلون ويستعبدون، وكأن الدنيا لم يبق فيها مسلم، ولم يبق فيها من يدّعي ويزعم الدفاع عن ما يسمونه إنسانية أو آدمية أو بشرية، وهكذا لا نزال نجد أمم الكفر قد تواطأت وتآمرت على إذلال الإسلام والمسلمين، بل حتى المسلمين تواطئوا على أنفسهم ليذلوا أنفسهم ويستعبدوها، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، فنحن قد رأينا ولا نزال نرى جميع أمم الكفر والنصرانية في الأرض كيف والوا اليهود وناصروهم وعزّزوهم وعزّروهم وملّكوهم من الأسلحة والأموال والدفاع والكفاح؛ ليذلوا المسلمين، وليذهبوا وجودهم من المشرق العربي؛ إعادةً للصليبية الأولى، وحقداً على المسلمين وعلى دين الإسلام.
قال تعالى: ((وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ)) (والذين يبتغون) أي: الذين يريدون، والكتاب: المكاتبة، (مما ملكت أيمانكم) من عبيدكم وأرقّائكم رجالاً ونساء، ((فَكَاتِبُوهُمْ))، ومعنى الكلام: إذا جاءكم أيها السادة والموالي عبيدكم وأرقاؤكم وجواريكم وفتياتكم فطلبوا منكم أن يعقدوا معكم مكاتبة في تحريرهم وشراء أنفسهم فافعلوا وكاتبوهم، والمكاتبة في لغة الرق والأرقّاء: أن يأتي الرقيق ذكراً كان أو أنثى فيقول لمولاه: كاتبني، أي اكتب بيني وبينك عقداً أؤدي لك قدراً من ثمن، أو أؤدي لك ما يمكن أن أتفق وإياك عليه خلال فترة معينة.
وهذه الفقرة من الآية الكريمة تدعو إلى تحرير العبيد منذ 1400 عام نزل بها الوحي الكريم على سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك قبل أن يدّعي هؤلاء الأرذال إخوان القردة والخنازير أنهم حرروا العبيد، فحرروهم أفراداً فيما زعموا واستعبدوهم شعوباً وأمماً.
ومعنى ذلك: أن العبد إذا أراد حريته والجارية إذا أرادت حريتها فأعطوها إياه مقابل ما صرفتم من مال يؤدونه إليكم، يقول عمر: يجب على كل مولى وسيد إذا رغب مولاه -عبده أو جاريته- في المكاتبة على قدر من المال من ثمنهما، إن يفعل.(104/3)
ذكر إجبار عمر بن الخطاب لأنس بن مالك أن يعتق سيرين
كان سيرين غلام أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالد الإمام العالم الربّاني محمد بن سيرين مولى لـ أنس، فجاء إليه وقال: يا مولاي! كاتبني، أي: اعتق رقبتي من الرق مقابل شيء أتفق وإياك عليه، وإذا بـ أنس يمتنع، فيذهب سيرين إلى عمر وكان إذ ذاك أميراً للمؤمنين فيشتكي بـ أنس، فدعا عمر أنساً وقال له: كاتبه وأجبه لرغبته، وإذا بـ أنس يمتنع، فيضربه عمر بالدرة كما يفعل عادة مع كل مخالف لما يعتقده أمراً من الله وأمراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك أجبر أنساً على مكاتبة سيرين وعتقه مقابل مال يؤديه منجّماً، أي: زمناً بعد زمن ووقتاً بعد وقت.
وما فعله عمر إلا لأنه يعتقد أن قوله تعالى: ((فَكَاتِبُوهُمْ)) أمر ليس للاستحباب ولا للانتداب، وقد قال بهذا عالم مكة عطاء بن رباح، وعالم بغداد الإمام المجتهد داود الظاهري، وعالم الأندلس أبو محمد بن حزم وقال بهذا الكثير من الأئمة المجتهدين سلفاً وخلفاً: إن المكاتِب إذا جاء يطلب حريته فإنه يجاب لرغبته بقيد الله الذي قيّد، حيث قال الله تعالى: ((إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا)) أي: إن علمتم في هؤلاء الأرقاء خيراً.
واختلف المفسّرون في هذا الخير ماذا يعني؟ فقال بعضهم: المال، ولكن هذا كلام غير مقبول؛ لأن العبد لا يملك، وما يملك فهو لسيده ومولاه، فالفرض أنه لا مال له حتى يُقال: ((إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا))، وقالوا: الخير هو الأمانة والصدق والصلاة، ويجمع كل ذلك: إذا علمتم فيهم إسلاماً، بمعنى أن الرقيق كان غير مسلم، ثم أسلم وجاء يريد مكاتبة مولاه على حريته وعتقه في هذه الحالة، فيجب على سيده أن يستجيب لحريته وأن يكاتبه، وبهذا يُصبح الأمر أن كل من أراد حريته ممن مُلكوا رجالاً أو نساءً في أسر في معركة مع الكافرين ثم أسلموا، أو توالدوا مسلمين عن أرقاء ليسوا بمسلمين، إن جاء هؤلاء وأرادوا حريتهم فاستجيبوا لهم، ويُكتب عادة عقد فيه: أن فلاناً مولى فلان الرقيق استجاب لرغبة مولاه فلان أو فلانة من الأرقاء في عتق رقبته وحرية بدنه، مقابل قدر من المال أو عمل من الأعمال يعمله مؤقتاً زمناً بعد زمن لشهر أو سنة أو سنتين أو أكثر أو أقل، فإذا كُتب كتاب عقد الحرية وأعطى الرقيق قدراً من ثمنه ثم عجز عن تسديد الباقي فإنه يصبح مديناً لمولاه، وقد قال تعالى عن المدين: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، فيُصبح ذا عسرة، وذو العسرة من المدينين يُنتظر غناه فيسد ما عليه.
إذاً: المسلم بمجرد طلب حريته -إن كان رقيقاً- فإنه يجب على مولاه أن يستجيب للمكاتبة، وبمجرد أن يبتدئ بالمكاتبة ويُعطي بعضها يُصبح بعد ذلك مديناً، فإن استطاع أن يؤدي فذاك، وإن أعسر فيُنتظر غناه، وهو حر معتق، قال بالذي أقول الكثير من الأئمة سلفاً وخلفاً.
وقال آخرون: المكاتب رقيق ما لم يؤد آخر ما اتفق عليه مع مولاه، والرقيق ليس واجباً على المولى أن يُعتقه أو يُكاتبه، وإنما ذلك شيء مندوب إليه ومستحب؛ وهكذا اختلفوا، ولكن الآية بالأمر الصادر لا يمنع من كونه واجباً، والذي قال أمير المؤمنين عمر عنه إنه واجب، وسُنة عمر في ذاتها تعتبر سُنة نبوية؛ لحديث: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ).
ثم قال تعالى: ((وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)) ومعنى هذه الفقرة من الآية الكريمة: إن أراد أرقاؤكم وعبيدكم الحرية والعتق فاستجيبوا لهم، وأعينوهم على عتقهم بأن تُسقطوا لهم وتتنازلوا لهم عن بعض ما اتفقتم عليه معهم، كأن تكونوا قد اتفقتم على أداء عشرين ألفاً فقال البعض: يجب أن تتنازل له على نصف هذا القدر، وبعضهم قال: الربع، وبعضهم قال: الثلث وهكذا، فالآية خطاب للأولياء والسادة.
فقوله: ((وَآتُوهُمْ)) أي: آتوا الموالي المُكاتبين في حريتهم وعتقهم مساعدة وعطاءً، ((مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)) أي: من هذا المال الذي ملككم الله إياه ورزقكم، وهو في الأصل مال الله رزقكم إياه وأعطاكم إياه، وفرض فيه فرائض وألزم فيه لوازم: من النفقة على العيال، ومن الزكاة الواجبة للفقراء والمساكين، ومن إعطاء كل سائل، قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]، فهذا المال خرجت أنت من بطن أمك ولا تملك منه نقيراً، وقد رزقك الله إياه بعد ولادتك، فمال الله هذا لا تبخل به على مستحقيه نفقةً وزكاةً وصدقةً وعطاءً، ولا تبخل به على مكاتبيك من أرقائك، بل ساعدهم وأعطهم منه.
وقال مفسّرون: ((وَآتُوهُمْ)) الخطاب لكل المسلمين بأن يؤتوا هؤلاء المساكين، سادة وغير سادة، ممن كاتبوهم أو من المسلمين ممن لم يكاتبوهم، يقول: أعينوا هؤلاء المكاتبين الطالبين لحريتهم والطالبين لعتقهم، وساعدوهم على ما اتفقوا عليه من عطاء وأداء مقابل حريتهم وعتقهم، وأعطوهم السهم الذي أوجبه الله في الزكاة وفي الرقاب، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] فثمن الزكاة والعطاء جعله الله قسمة بين ثمانية، وأحد هؤلاء الثمانية: عتق الرقاب وإعفاء هؤلاء عن رقّهم.
ويبقى المعنى بذلك: أن الله يخاطب جميع المسلمين أن يُساعدوا في عتق الرقيق، وفي تحريره، وفي ألا يكون رقيقاً بعد هذا، والله جعل مع ذلك في كثير من الكفّارات عتق رقبة.
واستعباد الناس لم يكن شيئاً من الإسلام، بل جاء الإسلام فوجد الأمم السابقة والأديان السابقة أن هذا من جملة عملهم وتقاليد مجتمعهم، فالله عندما أنزل كتابه وأرسل محمداً برسالته صلى الله عليه وسلم دعا للتخفيف من قيود ذلك، مع الإحسان إليهم فيما إذا بقوا كذلك، واعتبارهم إخوةً وأولاداً لأوليائهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم -أي: عبيدكم إخوانكم- أطعموهم مما تطعمون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون، فإن كلّفتموهم فأعينوهم) وهؤلاء الذين يزعمون اليوم من أدعياء الحضارة والمدنية كذبة فجرة، فقد دعوا إلى ذلك أفراداً وعملوه شعوباً وأمماً، فاستعبدوا الشعوب والأمم وأزالوا عنهم كل حرية واختيار: من سفك دم، وهتك عرض، وزوال مال، وإذلال كرامة، ونحن نعلم أن في هذه الديار المقدّسة قد أُعتق العبيد لسنتين أو أربع مضت، ولما أعتقهم أسيادهم رفض الأرقاء وقالوا: إلى أين نذهب؟ فلا نعرف لنا والداً سواكم، ولا أُسرة غيركم، وإذا كان كذلك إما أن تبقونا أرقاء وإما نحن خدمكم؛ ولذلك فإن الرقيق إذا وجد راحته ووجد سعادته في أن يبقى رقيقاً فالأمر له، فقد يكون ذلك أربح له، وقد يكون ذلك أسعد له، والكثيرون منهم يجدون من مواليهم وساداتهم عطفاً وبراً وعناية، وإذا أُطلقوا سيعجزون حتى عن النفقة على أنفسهم أكلاً وسكناً وشرباً، وفي هذه الآية نرى الله جل جلاله قد ذكر المال منسوباً إليه، فأموالنا وكل ما في السماوات والأرض هو لله، فيجب أن يعتقد الإنسان المسلم أن ماله الذي بيده هو لله، فرض الله فيه فرائض من النفقة، وفرائض من الزكاة، وفرائض من المعاملات، فإن لم يفعلها انتزع منه المال على أنه مال الله ولم يحسن استعماله، بل اتخذ الحلال حراماً وآذى به الناس، والله شرع التملك بما تقدر وتستطيع من تجارة وزراعة وصناعة، ولكنه حد حدوداً فمن تجاوزها أزال الكرامة عما يملك، فمن ملك المال بواسطة ما حرّم الله: بواسطة الربا أو الرشوة أو الفساد أو ما لا يليق مما حرّم الشارع، فلا يُعتبر هذا المال مالاً حلالاً، وما لم يكن مالاً حلالاً فإنه يُنزع، ولا يُقال عنه: نزع الملكية، ولا يُقال عنه: التأمين، ولكن يقال عنه: رد المظالم.(104/4)
رد المظالم إلى أهلها في عهد عمر بن عبد العزيز
إن أول من أقام هذه الإدارات بهذا النوع هو عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس، فقد جاء بين عهدين ظالمين، وخليفتين ظالمين، فوجد الفساد قد انتشر في البر والبحر والسهول والجبال، ففتح دائرة وأسماها دائرة رد المظالم، وابتدأ بزوجته وهي فاطمة بنت عبد الملك بن مروان الخليفة بن الخليفة، فقال لها: يا فاطمة! كل ما تملكين من حلي وأرض وعقار قد أخذه أبوكِ وجدكِ من المسلمين من غير حق، وأنا سآخذه منكِ قهراً وأُعيده إلى بيت المال، فإن كان ذلك برضاكِ فأنت زوجتي في الدنيا والآخرة، وإن لم يكن فالمال سأعيده لأصحابه من المسلمين، وبعد ذلك لن تكوني لي زوجة لا في الدنيا ولا في الآخرة، وبعد ذلك سنّها بنفسه فأزال عنه كل ما كان يسمى ملكاً للدولة وأعاده إلى بيت المال؛ وهكذا تسلل إلى أولاد عمه وإلى أُسرته الحاكمة فنزع عنهم كل ما كان لهم، ثم الأمثل فالأمثل، وفي سنتين أعاد سنة الخلفاء الراشدين التي هي سنة محمد صلى الله عليه وسلم في المال وتملكه، ولكن بني عمه وأُسرته الحاكمة لم تتحمل ذلك فغدروا به وسمموه وقتلوه بالسم.
وهكذا سيبقى إلى أبد الآباد أن كل مال أُخذ بغير حق لا يُعترف بملكيته يجب أن يعود لأصحابه، فإن عُلم أصحابه رد إليهم، وإن لم يُعلم فإنه يعود إلى بيت المال، ولا يسمى تأميناً كما يقول لصوص اليوم الذين يسمون أنفسهم الاشتراكيين والشيوعيين، فيذهبون إلى أخذ مال الناس ظلماً وباطلاً لتوزيعه في أباطيلهم وأضاليلهم وحرب الإسلام والمسلمين، ولكن نسميه مظلمة، فيجب أن تزول ويعود الحق لأصحابه مهما طال الزمن، ولا نقول بالقانون الباطل أنه إذا مضى على الحق عشرون سنة فإنه يسقط طلب حقه، بل ما ضاع حق وراءه مطالب، وهكذا يقول الله عن هذا المال: ((وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ))، فالمال في أيدينا عارية لله، فاليوم هو بيدنا وبالأمس كان بيد غيرنا، وبعد فترة هو في يد آخرين.(104/5)
معنى قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء)
قال تعالى: ((وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)) الفتيات: الإماء، جمع فتاة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقل أحدكم: عبدي ولا أمتي، ولكن فليقل: فتاي وفتاتي)، فهذا من أدب النبوة وأدب الإسلام مع الأرقاء ألا نسميهم عبيداً ولا نسميهن إماءً، فنحن جميعاً عبيد لله المالك والمملوك سواء، ولذلك علمنا أن نقول كلمة تدل على الأخوة الإنسانية البشرية فتقول: فتاي وفتاتي، وهذا تعبير القرآن: ((وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا))، والبغاء هنا: الزنا، والتحصّن: العفّة.(104/6)
سبب نزول قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء)
كان الناس في الجاهلية يشترون الإماء ويتملكونهن ويجبرونهن على الزنا، فيجلبن لهم المال، وإذا حملن وولدن اعتبروا أولادهن كذلك رقيقاً، فيولَّدونهن كما يولد الإنسان حماره وبغلته، فجاء الإسلام فحرّم ذلك واستنكره، وبقي المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي يفعل ذلك، وأسلم إماؤه، فعندما أراد إكراههن على ما اعتاد في الجاهلية قبل الإسلام وقبل هجرة محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة امتنعن، فضربهن مولاهن، فذهبن يشتكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: ((وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)) أي: لا تجبروهن على الزنا إن أردن العفة، والكثير ممن لم ينتبه لتفسير الآية قال: لا تكرهوهن إن أردن تحصناً، فإرادة التحصن خرج فخرج الغالب، وليس الكلام كذلك، فإنهن إن لم يردن التحصن فمعناه: أنهن زانيات من غير أن يكون مولاهن آمراً أو ناهياً، فإذا كانت الفتاة لا تريد التحصّن ولا تريد العفة ولا الكرامة والشرف، فما الحاجة إلى أن يكرهها سيدها! فهي من نفسها تذهب وترغب في الفاحشة.
نقول: هذا له حكم آخر، وعلى سيدها أن يقيم عليها الحد، وحدود الإماء والعبيد نصف حد الأحرار، فحد الزنا بالنسبة للعزب الحر مائة جلدة، وهو للإماء خمسون، وحد القذف للحر ثمانون جلدة، هو للإماء وللعبيد الأرقاء أربعون جلدة، فعليهم نصف ما على الأحرار من العذاب كما قال جل جلاله، ولا يُتصور القول بالإكراه إلا بالنسبة لمن أرادت العفة والتحصّن، وأما من لم ترده منهن فلا حاجة للإكراه، ولذلك فالكلام خرج كواقعه ولم يخرج على أنه فعل الغالب والكثير.
ونحن اليوم في عصر سوء؛ وعصر اليهود والتبرّج والفاحشة وأنواع البلاء، هذا العصر الذي يسمونه عصر الحضارة والنور، ما هو إلا عصر الكفر والفساد وعصر الحيوانية والبعد عن الله ورسوله وعن النبل والكرامة، فمن البلاء أن أصبحت هناك جمعيات يشارك فيه مسلمون فتجلب هذه الجمعيات من أوروبا وغيرها من بلاد الكفر ما يسمونه بالرقيق الأبيض، فيأتون بهن للزنا والفاحشة، ويأتون بهن لدور اللهو والرقص والسينما وما إلى ذلك، ويعطونهن قدراً ضئيلاً من المال، ويجبرونهن بأنواع الإيذاء ليكسبن من وراء زناهن وفسقهن ورقصهن وفاحشتهن، وأصبح هذا على الشكل القانوني المقبول في أكثر دول الأرض؛ وهذا من البلاء ومن العودة للجاهلية الأولى والعودة للكفر، فقد قال الله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] فبالنسبة للمرأة المكرهة (فإن الله غفور رحيم) يغفر لها؛ لأنها مجبرة، ويرحمها لأنها لا إرادة لها في ذلك.
قوله تعالى: ((وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ)) أي: من يحاول منكم أن يكره هؤلاء الضعيفات على أعراضهن وشرفهن وإسلامهن، فالله من بعد أن تكرهوهن غفور لهن رحيم بهن.
وأما أولئك فقد دخلوا في جملة من المعاصي والآثام، إذ نشروا الفاحشة والفساد وأكلوا به مالاً حراماً، فكانوا بذلك مستحقين لأنواع من الحساب والعقاب في الدنيا فضلاً عن الآخرة، ويعدون ممن دخلوا في الدياثة؛ لأن من يرى الفاحشة في أهله ويرضى بها فهو ديوث، فالجارية أهله ومكان عفّته إن أراد، فهو يذهب لعرضه فيبيعه للناس، ومن كان كذلك فإنه يستوجب عليه العقاب والنفي من الأرض، وقد يوصل ذلك إلى القتل إن كان فساداً في الأرض، وقد قال تعالى عن هؤلاء: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33].
ونشر الفساد في الأرض يكون بنشر الفاحشة والمنكرات بأنواعها، ونشر الحرام وترك الحلال، وسفك الدم الحرام، والتعرض للحرم وللنساء، والتعرض للولدان، وهم بذلك يحاربون الله فيما أمر به، ويحاربون رسوله فيما أمر به، وجزاء هؤلاء وعقوبتهم أن يخيّر الحاكم في واحدة من ثلاث: إما أن ينفيهم من الأرض، أي: يسجنون، وهو النفي التام إلى الأبد، وإما أن يبعدوا إلى صحارٍ لا يراهم الناس ولا يرونهم، أو تقطّع الأيدي والأرجل من خلاف: اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس، أو يصلّبون أحياءً حتى الموت.
وقول الله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:33] قال العلماء: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى في لغة العرب، فلم يقل: يُقْتلون ولم يقل: يُصْلبون، بل قال: يُقتّلوا أو يصلّبوا، فهذا التشديد والتأكيد زيادة في المبنى للتأكيد، فتدل على أن القتل يكون في أشد أنواعه، وعلى أن الصلب يكون في أشد أنواعه، وما ذاك إلا أن يصلبوا أحياءً حتى الموت.
قال تعالى: ((وَمَنْ يُكْرِهُّهنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) هذه الآية الكريمة من جوامع الكلم في كتاب الله، وكل كتاب الله بليغ معجز، وهذه الآية من أبلغها وأفصحها وأجمعها للمعاني، إذ جمعت الدعوة إلى الكرامة والعفة، والصبر إلى أن يُغني الله هذا الفقير المستعفف، وفيها الأمر بتحرير الرقيق، وفيها الأمر بإعطاء الناس من مال الله، وأن يساعدوا على تحرير العبيد، وفيها منع وتحريم المتاجرة بالأعراض وبالشرف وبالمروءة، كل ذلك في آية كثيرة المعاني.(104/7)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34].
يخاطب الله في هذه الآية المؤمنين والكافرين، فيخاطب المؤمنين ليزدادوا إيماناً وعلماً وطاعة، ويخاطب الكافرين ليعلموا حق الله الواجب عليهم، حتى إذا احتجوا قمعتهم حجة الله البالغة، فلا يقولون: لم نسمع ولم نرَ ولم يبلغنا كتاب ولم نسمع رسالة.
قال تعالى: ((وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ)) أي: أنزل أحكاماً مبيّنة ومفسّرة واضحة فيها بيان الحلال والحرام، ومبينّات للكبير والصغير، فهي بيّنة ظاهرة مفسّرة، والتي لم تفسر في القرآن فسّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم المكلّف بالبيان والإيضاح، قال الشافعي رحمه الله: السنة كلها بيان وتفسير لكتاب الله.
فقوله تعالى: ((وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ)) أي: مبيّنة للحلال، ومبيّنة للحرام، ومفسِّرة للأحكام، ظاهرة وواضحة لا غموض فيها ولا لبس.
قال تعالى: ((وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ)) ضرب لنا أمثالاً وتشبيهات في الأمم السابقة عندما عصت أمر ربها، وخرجت عن طاعة نبيها، وارتكبت من أنواع الفواحش ومن أنواع الموبقات ما الله به عليم، فعاقبهم بها في الدنيا قبل الآخرة، ودمّرهم، وأغرق من أغرق، وأذهب بالصيحة من أذهب، ورمى بالحجارة من رمى، وأغرق بالنيل وبأنواع البلاء من أغرق عندما فعلوا ذلك، والله لم يقص علينا هذا إلا لنأخذ العبرة والحكمة، ولنعلم عن يقين أننا إن صنعنا صنيع أمثالنا ممن سبقنا من بني آدم في مخالفة الله، والخروج عن طاعة رسول الله، فإنه يوشك أن يعمه الله بعقاب، وأن يعذّبهم الله في الدنيا قبل الآخرة، ولذلك يحذرنا الله نفسه في أكثر من آية وسورة؛ علّنا نهتدي ونقول يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
قوله: ((وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ)) أي: مضوا واندثروا وماتوا وهلكوا، ذكر الله قصصهم وأعمالهم وذكر ما عاملهم به ليعتبر الناس قبل الإسلام وأيام رسول الله وإلى يوم القيامة، ومنه ما يفعل الناس اليوم مما أشبهوا به الأمم السابقة والأمم الكافرة الخارجة عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينذر الله بذلك الناس ويتهددهم بذلك ويعظهم فيقول: ((وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)) أي: نصيحة وتنبيهاً لعل المتقي من الناس يخاف الله، ويترك ما حرّم الله، ويمتثل طاعته، ويفعل الصالحات ويترك الطالحات، ويقول: اللهم أعني على ذلك، ووفقني لكل خير.(104/8)
تفسير سورة النور [32]
لقد حث الشرع على الزواج وأمر به؛ وذلك لما له من أهمية عظيمة، فهو حصن منيع في وجه الفتن والرذائل والفواحش، وخصوصاً في هذا الزمن الذي كثر فيه الفسوق ونشر الرذيلة المسموعة والمرئية.(105/1)
تفسير قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم)
قال الله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].
قوله: (أنكحوا) الأمر هنا للأولياء بالإنكاح -أي: بالتزويج-، ولو كان الأمر للإنسان أن يزوج نفسه لقال: انكحوا، أي: تزوجوا، لكنه قال: أنكحوا أيها الآباء، أي: زوجوا أولادكم وبناتكم، و (الأيامى): جمع أيم، والأيم: كل رجل وامرأة غير متزوجين سواء سبق أن تزوجا أو لم يتزوجا أصلاً، فكل رجل ليس بمتزوج فهو أيم، سواء كان متزوجاً وطلق، أو ماتت زوجته، أو لا يزال عزباً، هذه لغتهم التي بها تعبدنا الله في كتابه سبحانه، وبها نزل وحيه، فعندما يقول الله لنا: (أنكحوا الأيامى منكم) أي: زوجوا العزاب والعذارى، وزوجوا الأرامل، والأرمل والأرملة: هما اللذين كانا متزوجين يوماً فطلقا أو مات أزواجهما.
وأمر الله الأولياء بتزويجهم جميعاً فالرجل والمرأة التي مات زوجها أو طلقها لا تدعوهما بلا أزواج، وأولادكم وبناتكم الذين لم يتزوجوا بعد لا تتركوهم بلا أزواج، والأمر في لغة العرب وفي أصول الفقه إذا أطلق يكون للوجوب، وهكذا فهم هذه الآية الكثير من الصحابة والكثير من الأئمة، مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأبي بكر رضي الله عنه، يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخليفتين الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجد)، فيصبح الامتثال لهذه الآية امتثالاً لأمر الله، ويصبح الأخذ بفهم عمر ورأيه أخذاً بالسنة وبأمر رسول الله؛ لأن سنة عمر وأبي بكر رضي الله عنهما هي سنة لرسول الله صلى الله عليه.
فـ عمر بن الخطاب كان يرى في تفسير الآية: (أنكحوا) للوجوب، والأئمة من بعد اختلفوا: فالجمهور قالوا: الزواج سنة وليس أمراً واجباً، والشافعية قالوا: مباح فقط، ولكن عمر وابن عباس قالا: (وأنكحوا) للوجوب؛ لأنه أمر، فالذي يستطيع أن يتزوج فلم يفعل يكون عاصياً لله ولرسوله، والأمر يختلف.
وقول الله تعالى: (أنكحوا) ولم يقل: انكحوا، فهو أمر للآباء بأن يزوجوا الأولاد والبنات، ومن هنا جاء الولي للزواج والنكاح، والولي أوجبه جمهور الأئمة سوى شيء نقل عن الأحناف في ذلك، والمرأة التي لا ولي لها فإن وليها السلطان الحاكم المسلم، فهو الذي يتولى زواجها، وأما المرأة التي تزوج نفسها بلا ولي فعند الجمهور أن هذا الزواج غير قائم ويعتبر مفسوخاً، والآية تشهد بهذا: (أنكحوا)، فلو كان الأمر لكل واحدة في نفسها لزوجت نفسها بلا ولي، والآية لم تقل: انكحوا، وإنما قالت: (أنكحوا)، أي: زوجوا، ولو قال: انكحوا لكان معناها: تزوجوا، وقد قال عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى فيما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم: (يا معاشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
فقد أمر صلى الله عليه وسلم بالزواج، وعلق عدم الزواج على عدم القدرة، وكون الرجل في نفسه لا يصلح للزواج كأن يكون عنيناً أو خنثى، والعنين: هو الذي لا يستقيم ذكره ولا يقف، أو يكون خصياً أزيلت منه الأنثيان -البيضتان-، أو يكون في طبيعته -لسبب ما- ما جعله أشبه بالنساء، فهذا غير مستطيع للزواج، وقد يكون أحياناً لسبب آخر بأن يكون الولد طالباً وهو يتنقل في أرض الله، وقد يكون جندياً وهو يتنقل للجهاد وللقتال، فعلى ذلك قد يكون عدم زواجه عذراً، فإذا وجد من يزوجه وينفق عليه من أب أو غيره أو من دولة أو من حاكم، ففي هذه الحالة يعتبر مستطيعاً.
والباءة: هي النكاح وإتيان النساء، ومن لم يستطع لعلة من العلل فعليه بالصوم؛ لأن الصوم له وجاء، أي: قيد، وإيقاف للشهوة، وهو دواء مؤقت وليس دائماً، وقال عليه الصلاة والسلام: (تناكحوا تناسلوا؛ فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة)، وقال: (أفضلكم أكثركم أزواجاً)، وأفضلنا هو نبينا صلى الله عليه وسلم.(105/2)
الحث على الزواج بأكثر من واحدة
قال بعض الأئمة في قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]: إن الزواج بواحدة رخصة، والعزيمة أن يتزوج باثنتين إلى أربع؛ لأن الله ابتدأ باثنتين فقال: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى} [النساء:3] ولم يبدأ بالواحدة، وإنما ذكر الواحدة للضعاف العجزة الذين يخافون نساءهم، أو الذين لا يستطيعون التصرف، قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3]، فليست لهم رجولة كاملة، أي: يعجزون عن الإشراف على النساء وعن إعطائهن حقوقهن، فالأصل مثنى وثلاث ورباع.
وفي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره ليتبتلوا، فقال أحدهم: لا أتزوج النساء، وقال الآخر: أقوم كل الليل، وقال آخر: نصوم النهار، وكان بين عمرو بن العاص وبين ولده عبد الله اثنا عشر عاماً فقط، معناه: أن عمراً تزوج وهو ابن إحدى عشرة سنة، فولد له وهو ابن اثنتي عشرة سنة ولد سماه عبد الله، فزوجه بكريمة من كريمات وعقائل قريش، وإذا به يغيب، فدخل عمرو بن العاص على زوجة ولده فسألها: كيف وجدت زوجك؟ قال: نعم الرجل! ما كشف لنا ستراً، أي: لم يدخل الخدر ولم يسألها قط ولم يبحث عنها، فشتمه أبوه شتماً قاسياً، ثم ذهب يشتكيه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقال له: يا رسول الله! إن ولدي عبد الله أراد أن يترهب ويتبتل فأجبرته على الزواج فترك زوجته، وقد زوجته بكريمة من كريمات قريش فتركها أياماً لم يلتفت إليها، وهو يقول: إني أريد أن أصوم ولا أفطر، وأن أقوم الليل ولا أنام، وألا أتزوج النساء، فأرسل خلفه صلى الله عليه وسلم وقال له: (ما بال كلام سمعته عنك؟) فكررها عليه فقال: نعم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ولمن كان معه على هذا العمل يقول: (إني أصوم وأفطر، وأنام وأصلي، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
فقد جعل صلى الله عليه وسلم ترك الزواج والهروب من تحمل مسئوليات الزوجات والأولاد ليس من سنته صلى الله عليه وسلم، وكفى بذلك توبيخاً وتقريعاً وتنكيراً، كيف والله يأمر {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32].
فقوله: (منكم) أي: من الأحرار المؤمنين.
وقوله: (والصالحين من عبادكم وإمائكم) أمر للرجال أحراراً وعبيداً، وأمر به النساء حرات وإماءً، أي: زوجوا الصالحين للزواج من غلمانكم، والصالحات للزواج من إمائكم وفتياتكم، ومن هنا كان عمر وابن عباس وجمهور من الأئمة وهو مذهب الظاهرية وداود وآراء الكثير من الأئمة الأربعة يقولون: إذا كان الولد والأيم والأرملة لا يستطيعون الصبر على عدم الزواج فهؤلاء الزواج في حقهم واجب، ومن فتن هذا العصر وفساد اليهود وإفسادهم وفساد النصارى وإفسادهم أن أشاعوا عدم الزواج، وتبعهم المسلمون في ذلك، فلا تكاد تجد في مشارق الأرض ومغاربها مسلمين إلا والدور فيها فرد أو فردان أو أفراد من النساء والرجال الذين بلغوا الثلاثين وهم بلا زواج، وأخذوا يغرونهم بأنواع الفواحش وبالروايات الداعرة، والصور الفاجرة، والأفلام الفاسدة، وتعليق الصور على أبواب هذه الدور الفاسدة ويسمونها سينما؛ ليزيدوا هؤلاء إغراءً، فلو أن هؤلاء تزوجوا لما وجدوا سوقاً رائجاً لرواياتهم الداعرة، ولا لصورهم الفاسدة، ولا لأفلامهم المتحللة، ولكن اليهودي شيطان الأرض ما عاش إلا لينشر الفساد في الأرض، حتى أفسد النصارى ومزقهم وحلل أشخاصهم وأصبحوا هباءً منثوراً، واستعمر النصارى المسلمين وأمروهم ووجهوهم، وأفسدوهم بدورهم بالمذاهب الوافدة من شيوعية وماسونية ووجودية واشتراكية، وغيرها من الأسماء القذرة التي نشرت الفواحش على أشكالها والكفر على أنواعه، فأفسدوا البلاد والعباد، ونشروا الفساد في البر والبحر والسهول والجبال، بل حتى الأجواء لم تفلت منهم.
فقوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) أي: لا تتركوا أحداً بلا زواج.
يقول أبو بكر رضي الله عنه: عجبت لمن ليس بمتزوج، ومن كان فقيراً كيف لا يتزوج، وقد ضمن الله له الغنى في الزواج! وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحاح والسنن: (ثلاثة حق على الله تعالى أن يعينهم: الناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله، والمكاتب يريد الأداء)، فالزواج أمرك الله تعالى به وأعانك عليه، وضمن لمن يريد الزواج تحصيناً لنفسه، وطاعة لربه، والفقر ليس بعلة، فقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض نفسها عليه فقالت له: يا رسول الله! أعرض نفسي عليك، وكان هناك رجل مسكين تظهر عليه ملامح الفقر، لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبها قال له: يا رسول الله! زوجنيها، قال له: هل معك شيء؟ قال له: لا شيء، قال له: اذهب وابحث، فغاب ورجع وقال له: يا رسول الله! لم أجد شيئاً إلا هذا الرداء وهذا الإزار، هل أعطيها واحداً منهما؟ قال: لا، هذا الرداء تلبسه والإزار تلبسه، التمس ولو خاتماً من حديد، فرجع وقال: يا رسول الله! ولا خاتماً من حديد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا عندك من قرآن؟ قال له: سور صغيرة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]، قال له: زوجتكها بما معك من القرآن.
يعني: علمها هذه السور لتصلي بها وتعليمك عمل يحتاج لأجرة، والأجرة التي ستعطيك هذه المرأة مقابل تعليمها هو المهر.
إن هذا الغلاء في المهور وخاصة في هذه البلاد منكر وبدعة يجب أن تزول بالعنف والسجن؛ لأن البنات أصبحن من غير زواج، والأولاد أصبحوا من غير زواج، فإن سألت الشباب لماذا لا تتزوجون؟ يقول أحدهم: ذهبنا نخطب فلانة فطلب أبوها منا عشرين ألف ريال، ومنهم من يقول: أربعين ألف ريال، ثم يشترط عليه سيارة و (فلة)، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يمنع هذا الشاب الذي طلب منه أن يزوجه كونه لم يملك حتى خاتماً من حديد، فلم يقل له: أنت لست قادراً على الزواج، وأمثالك لا يتزوجون، وهذا دليل على أن عدم القدرة على الزواج ليس في المال؛ لأن الله قد تعهد لمن يريد أن يتزوج ويرجو العفاف بالمال، قال تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].
إذاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) معناه: القدرة البشرية، فلا يكون عنيناً ولا مجبوباً ولا ضعيفاً ولا مشغولاً بقتال ولا طالب علم، بل إن طالب العلم إذا وجد أباً أو ولياً أو دولة تساعده وجب عليه الزواج، فلا عذر للطالب الجامعي إطلاقاً بألا يتزوج، فالدولة تعطيه المسكن والراتب، فماذا يريد الإنسان أكثر من هذا؟ ولذلك لو تقبل الشعوب والدول الإسلامية مشورتي لأوجبت الدول الإسلامية الزواج، ولأصدرت قراراً أنه لا يجوز للشاب أن يعمل في الدولة إلا بعد أن يكون متزوجاً، وبذلك لن يبقى في البيت عزباً ولا عزبة، كذلك لا يباح للطالب أن يأخذ شهادة بكالوريوس إلا بعد أن يكون محصناً، ومن لم يفعل أحرم من هذه الشهادة، وبالتالي أحرم من دخول الجامعة، ولكن لا حول ولا قوة، فإن هذا البلاء منتشر في الأرض، فقد تركنا النساء للأعداء كما ترون في أكثر بلاد العالم الإسلامي، يخرجن في الشوارع متبرجات عرايا يتزين للدعارة أكثر مما يتزين لأزواجهن، فإن كنا نترك الشابات بلا زواج والشبان بلا زواج حدثت الفواحش والمنكرات، وكل هذا حرمه الشارع.
وأنا أعرف شباباً تزوجوا وأغناهم الله غنىً كبيراً، وهم تزوجوا قصد التعفف والتحصين، والله تعالى استجاب لهم، وصدق الله إذ قال: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42].(105/3)
تفسير سورة النور [35]
إن الله تعالى هو منور السماوات والأرض وهادي من فيهما، وشارح صدور من فيهما، ومنور قلوبهم بهداه وبدينه وشرعه، وقد ضرب الله تعالى هنا مثلاً لنوره، وهذا المثل اختلف فيه المفسرون قديماً وحديثاً اختلافاً كثيراً.(106/1)
تفسير قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض)
قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] هذه الآية من أعظم آي كتاب الله، ومن أبهرها، ومن أعمرها معانياً وأمثالاً وحكماً ونوراً، فإن سلفنا الصالح من عصر الصحابة فمن بعدهم قد اختلفوا في أمثالها وفي متشابهها اختلافاً طويلاً عريضاً، ولم يكد نقف عند شيء اتفقوا عليه لنتمسك به، والله يؤتي الحكمة من يشاء.
قال تعالى: ((اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) فالله هو الذي نوّر السماوات والأرض، وأشرقت بنوره، وأشرقت السماوات بالملائكة والشمس والقمر والنجوم وأشرقت الأرض بالأنبياء وبالعلماء وبالمؤمنين وذاك من نور الله، وزالت الظلمات وزال الكفر والفسوق والعصيان وعم النور الأرض والسماء، وكل ذلك من نور الله، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت ربك يا رسول الله؟ قال: (نور أنى أراه) أي: هو نور فكيف يرى النور؟! والنبي صلى الله عليه وسلم عندما ذهب للطائف يدعو أهلها لدين الله فسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم وصنعوا ما صنعوه، دخل بستاناً يشكو لربه غربته، وكان هذا في السنوات الأولى من النبوة، ثم صاح وهو يدعو الله: (اللهم يا من أشرقت السماوات والأرض بسبحات وجهه الكريم) وطلب نوراً لعباد الله وللناس جميعاً، طلب نوراً ليقويه على رسالته، ويشد أزره إلى أن يتمها، ويهتدي به من الناس من قدّر الله له الهداية والنور.
((اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) ممن نور الله تعالى أشرقت الشمس وأشرق القمر وتلألأت النجوم، ومن نور الله تعالى تنورت قلوب الأنبياء فدعوا إلى النور والهداية، ومن ذلك تنورت قلوب العلماء فدعوا إلى عبادة الله، وإلى بيان كتاب الله وبيان سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى وضوح الحلال الحرام، والمؤمنون الذين يعبدون الله قائمين وراكعين وساجدين أشرقت قلوبهم بمعرفة الله ودينه.
((اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) فبنوره اهتدى المهتدون، وآمن المؤمنون، ودعا الأنبياء والمرسلون، وأطاعت الملائكة التي لا تعصي الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والله جل جلاله الخالق الرازق بنوره علم الإنسان كينونته وعلم وجوده، وعلم ما لله عليه وما له على الله جل جلاله، والله لا يجب في حقه شيء وإنما ذلك من فضله وكرمه وجوده.
{اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} وفي المثل هذا اختلف المختلفون وتنازع المتنازعون وحق لهم ذلك، فيضرب الله مثلاً لنوره وهو ما ختم به الآية: ((وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ)).
قال تعالى: ((اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ)) ضرب مثلاً لنوره جل جلاله كالنور في الكوة أو في تلك التعاليق التي يكون فيها القنديل، وفي القنديل المصباح، والمصباح: السراج، والسراج هذا في زجاجة، والضوء في الزجاجة أضوء ما يكون، وأكثر إنارة مما لو كان في غير الزجاجة، ((الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ)) الزجاجة من إضاءتها يكاد سنا برقها يأخذ بالأبصار؛ لشدة نورها كأنها الكوكب الدري، والكواكب الكبار خمسة: منها: المشتري وعطارد والزهرة، وتكون هذه عادة أكثر ضياء، وأعم نوراً، ويعم ضياؤها الخلق والناس وخاصة بالليل، ولا يكاد نورها يظهر في النهار، والشمس والنجوم والكواكب مضيئة باستمرار، تُرى في الليل ولا ترى في النهار، ولكن ليس ذلك لكسوف؛ بل لأن ضوء الشمس أقوى منها فيختفي ضوءها.(106/2)
اختلاف المفسرين في قوله تعالى: (مثل نوره)
{اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35] إن قلنا: مثل نور الله كمثل مشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة، فكل ما ذكرنا ليس إلا جزءاً صغيراً من خلق الله، والنور قد عمّ من أول الآية بقوله تعالى: ((اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) فكيف هذا النور أصبح أشبه ما يكون بالمشكاة وبالمصباح وبالكوكب، وليس ذلك إلا جزءاً صغيراً من نور الله الأعظم؟! ومن هنا اختلف المفسرون في قوله: ((مَثَلُ نُورِهِ)) هذا الضمير يعود لمن؟ فقال جماعة: ((مَثَلُ نُورِهِ)) أي: نور هدايته الذي يصيب المؤمن نبياً وملكاً وعالماً ومؤمناً بصفة عامة، والبعض قال: ((مَثَلُ نُورِهِ)) أي: نور محمد صلى الله عليه وسلم، ويبقى هذا الضمير لغير مذكور، والنبي لم يذكر في هذه الآية ولا في قبلها، وكيف تعود الضمائر لغير مذكور! والبعض قال: عبد المطلب، ثم عبد الله، ثم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذه أضواء تسلسلت من مشكاة، إلى مصباح، إلى زجاجة، إلى كوكب دري.
وقال البعض: الضمير يرجع إلى إبراهيم، فإبراهيم كان المشكاة، وإسماعيل كان المصباح، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان السراج وكان الكوكب وكان الضوء الذي يشتعل ويوقد من الزجاجة؛ ولكن كل هذا لا ذكر له في الآية قبل، وكلها ضمائر تعود لغير مذكور، وجاء ابن العربي المعافري الأندلسي وقال في كتابه (أحكام القرآن): لا يصح أن تعود هذه الضمائر إلى غير مذكور، والضمير يرجع لله، ونور الله: هدايته، ونور الله ما أرسله للبشر من أنبياء ومرسلين؛ هدايةً للضالين، ونوراً لزوال الظلمات وتبديدها، أي: مثل نور الله أعاد الضمير إلى الله جل جلاله، فقوله: ((مَثَلُ نُورِهِ)) أي: مثل ما هدى به البشر ودعاهم للتوحيد ولعبادة الله وللإيمان برسل الله ((كَمِشْكَاةٍ)) فالنور أصبح مشتعلاً وهاجاً كأنه القنديل المعلّق، والقنديل المعلّق فيه سراج ومصباح ينير ما حواليه، وهذا المصباح من زجاجة، والزجاجة عندما يكون فيها الضوء تكون أكثر ضياء وإنارةً وإشعاعاً، وهذه الزجاجة في ضيائها وقوتها كأنها الكوكب الدري، أي: شديدة النور واللمعان والضياء، وبهذا نفسّر وهكذا نعتقد: أن مثل نور الله، أي: مثل هدايته للبشر: بأن هدى به عباداً للنبوة وللرسالة، وأنزل عليهم رسول الملائكة جبريل عليهم السلام، فهداهم ودعاهم إليه، وهم بدورهم دعوا البشر لذلك، فكانوا مشكاة ومصابيح وسرجاً، وكانوا كواكب نيّرة، وبهذا تبقى المعاني صالحة وطيبة، ويؤكد هذا أن الله وصف نبيه في كتابه بأنه سراج منير، أي: سراج مشع وهاج منير للخلائق، ولا نزال نعيش في نور هدايته ونور رسالته ونور الكتاب المنزل عليه ونور سيرته الزكية الطيبة العطرة صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: ((يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ)) أي: يوقد من شجرة كثيرة النماء والخيرات، وهي الزيتون، قال تعالى: ((شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ))، والزيتونة كلها نفع: ورقها وجذورها وأخشابها، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام عن الزيت: (الزيت ادهنوا به وكلوه) وهو زيت الزيتون، فهو يعتبر إداماً وطعاماً ودواءً وإضاءةً ونوراً، فما كان أسلافنا قبل اختراع الكهرباء يستضيئون إلا بالزيت.
قال تعالى: ((لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ)) وكذلك في كلمة شرقية وغربية اختلفوا اختلافاً طويلاً عريضاً، فقالوا: ((لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ)) نبتت في مكان لا تحتجب عنها الشمس لا صباحاً ولا مساءً، فهي بهذا ليست شرقية وليست غربية، وقال بعضهم: زيتونة شامية، والشام تعتبر لا من الشرق ولا من الغرب.
قال تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35] من صفاء زيته وشدة نوره وصلاحه يستخدم وقوداً للإنارة، فيكاد هذا الزيت ينير قبل أن يوقد.
قال تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] أي: أنوار المصباح إلى أنوار الزجاجة إلى أنوار الكوكب الدري إلى أنوار الزيت الصافي كله نور على نور، ومن قال: إن النور نور نبينا عليه الصلاة والسلام قال: هو من إسماعيل، وإسماعيل نور، وإسماعيل بن إبراهيم وإبراهيم نور، فهو نور من نور إلى نور، ثم هم جميعاً أنبياء، والنبوءة نور مشرق على الناس تبدد ظلماتها.
ومن قال: إن الضمير عائد إلى الهداية إلى الله، فالله جل جلاله هدى قلوب المؤمنين، فكان النطق نوراً والقلوب نوراً والأعمال نوراً، فيعيشون من نور الهداية، ويدعون بنور الهداية، ويذهبون إلى ربهم إلى نور رضاه ومغفرته ورحمته، فالله ضرب هذا المثل؛ ليكون أكثر إنارة في الهداية.
ولذلك لم يبق إلا ضرب المثل بالهداية، وبكتاب الله وبما يصدر عن نبينا من نور ينير قلوب العباد جناً وإنساً، وكون الشجرة لا شرقية ولا غربية، قالوا: هي في أرض تشرق عليها الشمس صباحاً ومساءً قالوا: هي الشام فلا هي بالشرقية ولا هي بالغربية.
ولكن سيد التابعين الحسن البصري قال: لا توجد في الأرض إلا شجرة شرقية أو شجرة غربية، وما أظن إلا أن هذه الشجرة التي ضرب الله بها المثل هي من شجر الآخرة.
ونقول اعتماداً على أن القرآن فيه نبأ ما قبلكم ونبأ ما بعدكم: ذكرت هذه الآية وهذا النور نور الكهرباء الذي لم يكن معروفاً يوماً ولم يخطر ببال أحد، إذ كان مجهولاً والكلام عليه سابق لأوانه، والحكم على الشيء فرع عن تصوره.
وهكذا الآي الكريمة والأحاديث النبوية ما نزل منها لمستقبل الأيام وما نطق به النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه بما يستقبل من الأيام لا تكاد تفهم إلا وقت وجودها، ونحن عندما نقول: نور في مشكاة في مصباح في زجاجة نرى هذا الضوء الكهربائي، فنجد هذا المثال مطابقاً له تمام المطابقة، فنحن نصف هذا ونقول: هو نور ليس شرقياً ولا غربياً يوقد من شيء لا من شجر شرقي ولا من شجر غربي، {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43].
ولو أن هذه الأضواء ونحن في بيت الله الحرام أطفئت لكنا جميعاً في ظلمات، إذا أخرج أحدنا يده لم يكد يراها، فإذا هي أشرقت عمَّ المسجد بالأنوار وكذلك البلدة، فالله ضرب مثل نور هدايته ودينه ومثل النور الذي أرسل به أنبياءه كمثل نور ضياء مصباح لم يكن قد ظهر بعد، ولكنه سيأتي في مستقبل الأيام.
والحسن البصري صدق حين قال: هذه الشجرة لا توجد في الأرض، إذ عندما قال ذلك لم تكن الكهرباء بعد معروفة، ولم يكن يخطر ببال أحد قط ذلك، وهذا الضوء يشتعل وينير ولو لم تمسسه نار، فهانحن نراه قد أنار بلا زيت ولا إيقاد، إنما هي أشياء عنصرها الزيت: سالب وموجب، ماء وحرارة، وكان من أعظم مخترعات هذا العصر ومبتكراته هذه الكهرباء، فلو سلطنا على المسجد الآن أو أي مكان أكثر اللمبات ضياءً ونوراً لما كاد البصر أن يراها، خاصة أن (اللمبة) تشتمل على 1000، ومن اللمبات ما تشتمل على 5000 إلى 10000، ونحن نرى الضياء الذي إذا سلط على العين لا تكاد تبصر، ويكاد السنا يذهب بالبصر، والآية قد نزلت منذ 1400 عام، والأمر كما قال تعالى: لا هي بالشرقية ولا هي بالغربية، زيتها وضياؤها يكاد يشتعل بدون وقود.(106/3)
المعجزات العلمية لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
أنزل القرآن بياناً للناس، وضياءً وتبشيراً لما يعلمونه ويدركونه، فكان هذا المثال تشبيهاً بشيء يحصل من بعد، والقرآن مليء بهذه المعاني، وقد سبق من قبل ونحن نفسر قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] أن ابن عباس قال: سيخلق الله بعد فيما يستقبل من المراكب ليست بغالاً ولا حميراً ولا إبلاً ولا نوعاً مما يرى، وها نحن أولاء الآن نعيش في هذا، وقد صدق في تفسيره، وكان ملهماً.
وقد بين الله لنا ذلك قبل أن يكون؛ إذ لا وحي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فنحن الآن نقرأ ونتلو تفسيراً وبياناً لا لفظاً وقرآناً، فنقول: والخيل والبغال والحمير والطائرة والدبابة والسيارة والقطار والصاروخ لتركبوها، وفي كل عصر يخلق الله ما لا يعلمه أحد إلا هو، وكلها من أنواع المراكب مما ينتقل عليه الناس في مشارق الأرض ومغاربها.
ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4] العشار: النوق الحوامل، والعشار تطلق على الإبل جميعاً، ويخبرنا الله أن من علامات الساعة أن تعطل الإبل وقد عطلت.
وكان يظن المفسرون قبل ذلك أنها لا تعطل وفي الأرض نفس تتحرك أو عرق ينبض إلا إذا قامت الساعة، ولكن عطلت الإبل في أرضها ومنبتها وموطنها فنحن لا نركبها قط، ولعل جيلنا جميعاً لم يركبها ولم يعرفها، إلا أنها أثر من الآثار تجدها شاردة في صحاري الله وفي أرضه، فلا تركب في داخل المدن فضلاً عن القارات البعيدة، وقد كان يقال لها من قبل: سفن الصحراء، واليوم قد عطلت والساعة لم تقم بعد بما خلق الله من أنواع المراكب الأخرى، ولو قيل لسلفنا: إن المراكب الآتية ستطير في الهواء وستسبح في البحار وستجري على الأرض زحفاً لما صدقوا ذلك ولما قبلوه، ولولا أننا رأينا ذلك وركبناه وعاصرناه وعشنا في واقعه لما تصورناه، والقرآن مليء بهذه المعاني وسنة رسول الله مليئة بهذه المعاني.
وكثيراً ما قلت في الحرمين الشريفين وفي قاعات الدراسة في الجامعات مشرقاً ومغرباً: إن الأصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا برسول الله لمعجزات رأوها وشاهدوها فآمنوا بها، ونحن أيضاً آمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليس تقليداً لآبائنا فقط، بل رأينا من المعجزات في كتاب الله مما أخبر به الله ولم تكن قبل موجودة، وقد كان في عصرنا مما أخبر به الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه مما لم يكن قبل موجوداً، فآمنا بمعجزات شاهدناها وعايشناها مما زادنا إيماناً، ونقل إيماننا عن تقليد للآباء والأجداد إلى إيمان عن يقين وقناعة وبرهان، وكأن القرآن نزل علينا في عصرنا، والنبي صلى الله عليه وسلم يعيش بين أظهرنا.
وما ذلك إلا كتاب الله الذي ينطق بالحق، وسيبقى كذلك إلى يوم القيامة، وسيبقى النبي بيننا صلى الله عليه وسلم بسنته وببيانه وبنبوءته التي لا تنقطع، فهو آخر الأنبياء والرسل، ورسالته ستبقى عامة شاملة عالمية إلى يوم النفخ في الصور.
وأعظم معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ما من الأنبياء نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي).
فهناك معجزات كانت قبل القرآن الكريم أدت مهمتها وآمن من أجلها من آمن، ولكن القرآن سيبقى المعجزة المستمرة الدائمة التي يراها كل من عاصرها، فالقرآن معجز بلفظه ومعناه، وقد تحدى الله الخلق كلهم على أن يأتوا بآية من مثله أو بسورة من مثله، ومن قبل 1400 عام والإعجاز لا يزال قائماً والتحدي لا يزال قائماً، فلم يستطع أحد في الأرض قبل ولا بعد ولا في عصرنا أن يأتي بآية من مثله أو بسورة من مثله، وسيبقى الأمر هكذا دواماً واستمراراً على كثرة البلغاء والفصحاء والخطباء والعلماء والمتكلمين، ويبقى الإعجاز قائماً، وصدق الله جل جلاله حيث قال: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
فالله يفعل في خلقه ما يشاء، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ونحمده جل جلاله ونشكره بكل خلايا أجسامنا على أن هدانا وجعلنا ممن هداه وأنار قلبه، فآمنا به إلهاً واحداً، وآمنا بمحمد عبده نبياً ورسولاً، وآمنا بالقرآن كتاباً، وآمنا بالرسالة المحمدية رسالةً خاتمة لا رسالة بعدها أبداً، فهذه أنوار وإشراقات، فهي نور على نور أكرم الله به المؤمن، فأصغر مؤمن بل أفجر مؤمن وهو لا يزال يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ أشرف من جميع الخلائق غير المؤمنة، تلك دواب وأنعام خير لها أن تكون في باطن الأرض من أن تكون على ظاهرها، والمؤمن على خير على كل حال، والله جل جلاله لا يغفر الكفر ولا يغفر الجحود، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
قال تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} [النور:35] هذه الأمثال جمع مثل ضربها الله جل جلاله لما فيها من تشابيه تقرب المعاني للإنسان؛ لأن المعاني العلوية والمعاني الأزلية الإلهية لا يكاد العقل يتحملها، والنفس لا تكاد تطيقها، فالله يأتي بتشابيه تراها العين وتسمعها الأذن؛ ليقرب لنا المعنى.
قال تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] عليم بضمائرنا وقلوبنا وما يجري في أنفسنا، عليم بالصادق منا والمنافق، عليم بالمؤمن منا والكافر، ولذلك فإن العليم جل جلاله يعطي عباده المؤمنين من علمه، قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، ومن هذه المعاني السامية ما هو موجود في هذه الآية الكريمة.(106/4)
تفسير سورة النور [36 - 40]
لقد اهتم الإسلام ببيوت الله تعالى فأمر برفعها، وذلك يشمل الرفع الحسي والرفع المعنوي، فأما الرفع الحسي فهو ببنائها وتنظيفها والاعتناء بها، وأما الرفع المعنوي فهو بعمارتها بالصلوات والذكر، وحلقات العلم.
وهذه البيوت لم تبن للبيع ولا للشراء ولا للصخب وهيشات الأسواق، وإنما بنيت لذكر الله وما والاه.(107/1)
تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع)
قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37].
ارتباط هذه الآية بما قبلها أن هذه الأنوار وهذه المصابيح والأضواء المشرقة، وهذه الهداية العامة مكانها بيوت الله، وأعظمها وأكملها وأشرفها وأسماها البيت الذي بناه وأقام قواعده نبيان كريمان: أب وابن؛ إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وأشرف بيوت الله بعد المسجد الحرام المسجد النبوي الذي بناه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بيده، وحمل الحجارة بيده، وأعانه عليه أصحابه من المهاجرين والأنصار، وأشرف بيت بعد المسجد النبوي المسجد الأقصى الذي بناه داود وسليمان، وهما نبيان كريمان، وكذلك ما سوى هذه المساجد هي مساجد فاضلة، ولذلك شرع لنا إذا دخلنا بيت الله أن نستقبله بتحية إلهية، فهي مكان عبادته، وأمرنا الله بتقديسها واحترامها ورفع شأنها فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] أي: أن تقدس وتحترم وتطهر وتجمر وتبخر وتعطر، وأن تصان من المجانين والأطفال القذرين، وأن تصان من إقامة الحدود فيها، ومن اللغو والعبث والبيع والشراء، وما لا يليق أن يكون في بيت الله.(107/2)
اهتمام الإسلام ببيوت الرحمان وباجتماع المسلمين فيها
قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] أي: أن تحترم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكنس مسجده، وقال لنا: (من أنشد ضالة في المسجد فقولوا له: لا ردها الله عليك، ومن باع فيها واشترى فقولوا له: لا أربح الله تجارتك) وهكذا صلى الله عليه وسلم فسر لنا الآية قولاً وعملاً وقال: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم)، وهكذا صلى الله عليه وسلم علمنا وأدبنا وفسر لنا هذه الآية الكريمة في احترام المساجد ورفع شأنها وتقديرها، وألا ندخلها ونحن جنب، وألا تدخلها حائض ولا نفساء، وألا يدخلها مشرك.
وإن قال بعض الأئمة بدخول المشركين فيها بإذن مسلم أو بإذن حاكم، وذلك لا دليل عليه، فالله جل جلاله يقول: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]، فاعتبرهم عين النجاسة فقال: نَجَس، ولم يقل نَجِس، والنجاسة لا تطهر إلا بزوالها، فلو أن المشرك اغتسل في البحر طوال عمره ما زالت نجاسته، كما أن العذرة لا يطهر من نجاستها إلا بزوالها، وأما أن تطهرها نفسها فإنك كمن يريد أن يطهر الخنزير والجيفة ولن تطهر أبداً؛ لأنها عين النجس، ولما كان المشرك عين النجس أمر الله ألا يدخل مسجداً، وأن يصان المسجد من دخوله.
ومنه قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] أي: أمر وأوصى وأوجب أن تطهر، ويرفع شأنها وتقدس، والمساجد حث الله ورسوله عليها وعلى بنائها وعمارتها، وقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأيتموه يتعهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان)، واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الجالس في المسجد -حتى ولو لم يكن يصلي وإنما ينتظر الصلاة- في صلاة، فكيف إذا ضم للجلوس في المسجد ذكراً وتلاوةً وصلاةً ومذاكرةً وتعليماً وبياناً لكتاب الله وبياناً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فإن ذلك نور على نور.
وحث الله ورسوله على بنائها، والأحاديث في ذلك مستفيضة وقد وصلت إلى حد التواتر، منها: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة)، ومنها: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة) أي: ولو كعش طائر.
ولكن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فينبغي أن تكون هذه الأموال من حلال، ومع ذلك هناك نوع من المساجد حرمه الله وهي مساجد الضرار، وقد ذكر في القرآن الكريم، وهو أن يؤتى إلى مسجد كبيت الله الحرام فيبنى بجواره مساجد أخرى بلا سبب؛ لأن صلاة الجماعة على كثرة ما تعددت على ما كانت الصلاة أكثر أجراً وثواباً من صلاة الفرد، مع أن صلاة الجماعة وصلاة الفرد سواء في ركعاتها وذكرها وتلاوتها وحركاتها، لكن الله تعالى أعطى ثواباً وأجراً لصلاة الجماعة على مقدار سبع وعشرين درجة من صلاة الفرد، مع أن فعلها وقولها شيء واحد، فالجماعة مطلوبة عند الشارع.
ولذلك فإن الشارع جعل للمسلمين جماعات تكون في مسجد الحي، وفي المسجد الجامع للصلاة، وفي مصلى الأعياد، فجعل المسلمين يجتمع بعضهم ببعض خمس مرات في اليوم، وإن شغل شاغل فصلاتان أو صلاة واحدة، ولكن في يوم الجمعة لابد أن يجتمع المسلمون في المساجد الجامعة؛ ليرى المسلم المسلم الآخر الذين عقد الله أخوتهما، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ولا توجد دار تجمع عموم المسلمين في الأرض كقصر واسع المرافق مثلاً فلا يجمع عموم المسلمين إلا بيوت الله.
وفرض على المسلمين أن يجتمعوا في السنة مرتين في عيدي الفطر والأضحى، ويكون ذلك في الصحراء لا في المساجد ولا في الدور، فيجتمع فيها كل أهل البلدة، وهذه من السنن والشعائر التي تكاد تكون قد تركت في الشرق، ولا نزال نحتفظ بها في المغرب.
وفرض الله حقاً واجباً على جميع مسلمي الأرض أن يجتمعوا مرة في العمر في بيت الله الحرام في المناسك في عرفات ومنى؛ ليرى المسلم أخاه المسلم فيواسيه إن احتاج لذلك، ويتعرف على أمراضه وعلى آلامه، وليعينه إن استطاع باليد، فإن لم يستطع فبكلمة طيبة، وهذه اللغة التي أصبحت في هذا العصر لغة مؤتمرات والتي لا تكاد تنتهي منه مدينة، والإسلام من جملة عقيدته وأعماله أن يجتمعوا لإغاثة رجل واحد على الدواب، فلا طائرات ولا سيارات ولا بواخر، إن هي إلا سفن شراعية، فقد يتنقل الإنسان شهراً وشهرين ولا يكاد يصل إلى الشاطئ إلا وتأتي رياح معاكسة فتعيده إلى المكان الذي جاء منه وكأنه لم يأته.
ولهذا يقول الشاعر: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
وكان المسلمون مع ذلك حريصين على أداء هذا الركن الخامس؛ ركن حج بيت الله الحرام، فيجتمعون ويكتبون الراحلات: وجدنا إخواننا في المشرق، واجتمعنا بمغارب وهنود وصينيين وسود وبيض، واجتمعنا بصالحين وعلماء، والكل قد جمعهم حب الله، ونشر دينه، والقيام بعبادته وطاعة كتابه وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهكذا فإن الاجتماع في حد ذاته مطلوب، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36].
وشعار اسم الله في المساجد أن ينادى باسمه واسم نبيه وعبده ورسوله صلى الله عليه وسلم في الأذان خمس مرات في اليوم والليلة، فيؤذن المؤذن فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ويختم بالله أكبر، ثم يعيد هذا في الإقامة، ويدخل المصلي المسجد فيذكر الله بما شاء من أنواع الأذكار، وبالصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم وهو من ذكر الله، فهذه المساجد يتلى فيها كتاب الله، ويصلى فيها الفرائض والنوافل، والمقام في المسجد نفسه يعتبر عبادة قائمة بنفسها انتظاراً للصلاة واعتكافاً.
ولذلك قال فقهاؤنا: من دخل المسجد فنوى أنه معتكف مدة مقامه في المسجد فإنه يؤجر أجر المعتكف، على أن يحرص على التلاوة وعلى الذكر، وأن يكون دائم الطهارة وهو جالس في المسجد، ويزداد بيت الله الحرام على المساجد الأخرى بالطواف بالكعبة المقدسة، وبالسعي بين الصفا والمروة.
ولذلك لا يوجد مسجد في الأرض سوى بيت الله الحرام يفعل فيه ذلك، لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تبقى أبوابه شارعة ليلاً ونهاراً، وقال: (يا بني عبد مناف لا تغلقوا باب الكعبة المشرفة)، فالصلوات الخمس لها أوقات، وأما السعي والعمرة والطواف فلا وقت لهن، فيطوف الإنسان ليلاً ويطوف نهاراً، وفي جميع الفصول صيفاً وشتاءً ربيعاً وخريفاً، فهذه عبادة دائمة مستمرة، وقد قال العلماء: إن الكعبة هي سرة الأرض وتعلو إلى سرة السماوات السبع التي تحاذيها، ويكون فيها الملائكة، كما قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما من موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع يقول: سبوح قدوس)، ويذكرون الله بأنواع الأذكار، ففي الوقت الذي يكون فيه المؤمنون يطوفون بهذه البنية المقدسة كذلك في السماء الأولى فالثانية إلى السماء السابعة ملائكة يفعلون هذا الفعل ساجدين وراكعين وذاكرين وتالين، يرجون رحمة ربهم، نفسهم الذكر، لا يأكلون ولا يشربون.
قال تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، والتسبيح يشمل الصلاة والذكر والتلاوة، ويشمل السعي والطواف، ويشمل جميع أنواع العبادات القولية والعملية، ويشمل نشر علم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشمل العلوم الموصلة لذلك من علوم عربية وبلاغية تؤدي إلى فهم كتاب الله الذي نزل عربياً على النبي العربي صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والغدو: جمع غداة، وهو الصبح والبكور، والآصال: جمع أصيل، وهو العشاء والمساء، فبالغدو صلاة الصبح، ومن الظهر إلى العصر إلى المغرب إلى العشاء كلها صلاة الآصال، فبمجرد ميلان الشمس عن كبد السماء يدخل المساء؛ لأنها مالت إلى الغروب وانتهى إشراقها إلى كبد السماء، وهو ما يسمى بالزوال، ومنه سميت المزولة، والساعة الزوالية هي الساعة التي تقدر بالزوال، والمزولة: ساعة كانت عند العرب من أسلافنا، وبها تعرف الأوقات، وهي موجودة في جميع المساجد الكبيرة في الأرض، وبها كان يعرف الزمان والوقت بالثانية، وأضبط شيء للأوقات هي المزولة.
قال تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، ولم يقل: نساء، ومعنى ذلك: أن المساجد وصلاة الجماعة تجب على الرجال، ولا يحل لهم أن يتركوا الجماعة إلا لعذر شرعي قاهر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، والجيرة للمسجد هي قريب من ميل، (وجاءه يوماً عبد الله بن أم مكتوم وكان أعمى فقال: يا رسول الله! أيجب علي أن أحضر صلاة الجماعة وأنا كما ترى؟ قال: أتسمع الأذان؟ قال: نعم، قال: لا أرى لك عذراً)، فكان يأتي على مرضه وزمانته الصلاة مع الجماعة، (ومرة أذن المؤذن، وأقام المقيم، وقام صلى الله عليه وسلم ليستقبل القبلة، فبينما هو يسوي الصفوف افتقد فلاناً وفلاناً وأفراداً لم يأتوا للجماعة، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد هممت أن آتي لأقوام لم يحضروا الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم، وأنيب عني من يصلي إماماً بالناس)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ولم يقل: نساءً؛ لأن النساء لا تجب عليهن جمعة ولا جماعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحاح: (لا تمنعوا إماء الله من بيوت الله، وبيوتهن أفضل لهن)، وقال صلى الله عليه وسلم: (صلاة المرأة في بيتها خير لها من الصلاة في المسجد، وصلاتها في مخدعها خير لها من الصلاة في البيت، والصلاة في قعر البيت أفضل لها من صلاتها في المخدع وفي البيت).
لكن مع ذلك نهى عليه الصلاة والسلام الرجال عن منع النساء من حضور صلاة الجماعة، وعبد الله بن عمر اشتكى له نساء أولاده بأن أولاده يمنعونهن من حضور الجماعة في المسجد ال(107/3)
تفسير قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع)
قال الله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].
أثنى الله على رجال يلزمون المساجد، ويصلون فيها الصلوات الخمس وإن شغلهم شاغل، وإذا تركوا صلاة الجماعة في المسجد صلوها جماعة في أي مكان؛ لعذر أو لمرض أو لسبب ما، ولكنهم يحرصون على ألا يتركوا المساجد ولا صلاة الجماعة فيها، فالله أشاد بهؤلاء وأثنى عليهم وقال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37]، وهؤلاء على شغلهم بالتجارة وشغلهم بالبيع والشراء لا يقدمون دنياهم على دينهم، ولا تشغلهم مادتهم عن روحانيتهم، ولا يظهرون الشدة على جمع الدنيا، بل يريدون أن يتاجروا كذلك ويتزودوا للآخرة بصلاة في جماعة، وبعبادة الله ذكراً وصلاةً وزكاةً وحضوراً في بيوت الله.
وذات مرة رأى ابن عمر المؤذن يؤذن وإذا بأصحاب الدكاكين يغلقون دكاكينهم ويذهبون للمسجد، فقال لهم: فيكم نزل قوله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37].
وكثيراً ما يستفتينا أشخاص ويقولون: وقت الأذان والصلاة نكون منشغلين بالتجارة أو بعمل في الدائرة أو نكون في اجتماع، فنقول لهم: كل ذلك اجعلوه في هذه الساعة هباءً، فقد دعاكم الله على لسان المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح، أي: أقبل أيها المسلم للصلاة وللفلاح والعبادة والذكر والاجتماع في بيت الله، فكيف إذا كان النداء من بيت الله الحرام أو من المسجد النبوي أو من المسجد الأقصى فك الله أسره، وأعاده للمسلمين وأنوف اليهود في التراب راغمة.
قال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ} [النور:37] أي: لا يلتهون ولا يلعبون ولا يضيعون أوقاتهم في التجارة، {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37] (ذكر الله) كلمة عامة فتشمل الصلاة، والتلاوة، والذكر بأنواعه: ذكر اللسان وذكر القلب.
وقوله: (وإقام الصلاة) أكثر من إتيان الصلاة، والإقامة: هي المحافظة عليها في أول أوقاتها بشروطها وأركانها وواجباتها وأدائها، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أول الوقت رضوان الله، ووسطه رحمة الله، وآخره عفو الله)، وشتان بين الرضا والعفو، فالعفو يكون عمن صدر منه خطأ أو ما لا يليق، فيعفو الله عنه؛ إذ كان ينبغي أن تكون في أول وقتها، وأما الصلاة في أول وقتها فهو رضا الله، فقبل الصلاة وجازى فاعلها عليها، والوسط رحمة الله، ولكن الرضا أفضل وأكمل.
وكذلك لا تشغلهم تجارة ولا بيع، وفرّق هنا بين البيع والتجارة؛ لأن الجالس في الدكان أو المخزن يسمى بائع، وأما الذي يشتري ويبيع فهو تاجر.
وكذلك عندما يحل وقت الزكاة ويتم النصاب في الزرع وفي المواشي وفي الدراهم وفي الذهب والفضة بمجرد تمام سنة، فلا ينشغل عن أدائها ويقول: غداً أزكي، أو بعد غد أزكي؛ لأنه قد حل الفرض والركن وحلت ملكية الفقراء والمساكين، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60]، وعلماؤنا يقولون: إن هذه اللام في الآية للملكية، ولا يجوز للإنسان أن يمنع المالك من ملكه، ولا أن يتصرف فيه بعد تملكه له، فإن فعل فإنه يكون ظالماً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لي الظالم يوجب عقوبته وأدبه) أي: عليَّ أدبه وعقوبته.
فمن وجب عليه حق للإنسان وحل وقت أدائه ولم يفعل، كأن يؤخر ويقول: لو أتيتني غداً، لو أتيتني بعد غد، لو جئتني وأنا غير مشغول، فإن هذا يوجب عقوبته وعرضه، أما عرضه فتقول عنه: آكل أموال الناس بالباطل، ولا تعد هذه شتيمة ولا سباً؛ لأنه ارتكب ذلك واستحقه.
وأما العقوبة فيباع عليه ماله؛ ليؤدى الحق ويؤخذ منه غلاباً وقهراً، وقد يعزر على تأخيره واتجاره في مال ليس له، فمن أبقى عنده الزكاة أكثر من وقتها بعد تمام نصابها فإنه يكون كمن أخذ مالاً لإنسان بغير حق، فأخذ يتاجر فيه ويربح به، فيجب عليه أن يؤدي المال لأصحابه، وإذا أراد أن يرفع عنه الأخذ فإنه يعطيه إما مناصفة أو يعطي الربح لأصحاب الزكاة؛ لأنه اتجر في مال لا يملكه.
قال تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37]، فهؤلاء يلازمون وقت الأذان والذكر والصلاة وأداء الزكاة، وهم في هذه الحالة يخافون في يوم القيامة ألا تقبل صلاتهم ولا زكاتهم، ولذلك تجدهم في خوف ووجل من يوم القيامة، فهذا اليوم تتقلب فيه القلوب وتصعد من مكانها إلى الحناجر، وتكاد قلوبهم تخرج من مكانها رعباً وفزعاً وهلعاً، والأبصار تزيغ وترى: هل سيأخذون كتابهم بأيمانهم أو بشمائلهم، وهل سيدخلون الجنة أو النار، وهل سيرحمهم الله أو لا، وهل سيقبل الله أعمالهم أو يرمي بها على وجوههم.
ولذلك يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة وخائفة ألا تقبل منهم، وقد سألت السيدة عائشة رضي الله عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم: هل هؤلاء الذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة خائفة مرتعبة هم الزناة وشاربو الخمر والسارقون؟ قال: (لا يا عائشة، لا يا ابنة الصديق! ولكن هؤلاء قوم صلوا وتصدقوا وعبدوا، ولكنهم يخافون يوم القيامة ألا يقبل منهم ذلك).(107/4)
تفسير قوله تعالى: (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا)
قال تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38].
يتركون التجارة والبيع والشراء، ويؤدون الصلاة، ويزكون ومع ذلك يخافون، فمن رحمة الله ومجازاته لهم أن يغفر ذنوبهم، ويرفع درجاتهم، ويرحمهم بالجنة، قال تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38] أي: يجازيهم على حسناتهم ويغفر لهم سيئاتهم جل جلاله، {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38]، أي: يجعل الحسنة عشراً، والعشر يضاعفها أضعافاً مضاعفة، فيجازيهم على العمل القليل بالجزاء الكثير، والحسنة بعشر أمثالها ويضاعفها سبحانه إلى ما يشاء، فعطاء الله كثير فهو يعطي بغير حساب جل جلاله.
قال تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38] ولا حصر للضعف ولا حصر للأجر والثواب، فقد يجازي على الحسنة أضعافاً مضاعفة، وقد يجازي على كلمة يوم القيامة بدخول الجنان ولم يقل سواها، وحديث البطاقة معروف، وذلك أن رجلاً يأتي يوم القيامة ليحاسب، وإذا به لا يجد حسنات فتوزن أعماله فتطيش كفة الحسنات وتثقل كفة السيئات، فيؤمر به إلى النار، وبينما الملائكة تأخذه إلى النار إذ يقول الله جل جلاله: (ردوه لا ظلم اليوم، فيؤتى ببطاقة، ويقول الله لملائكته: ضعوها في ميزانه، فيقول: ماذا عسى أن تكون هذه البطاقة مع كثرة ذنوبي وآثامي؟! وإذا بهذه البطاقة توضع في الكفة الطائشة فتثقل للأرض وتطيش كفة السيئات)، وهذه البطاقة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: فيها لا إله إلا الله، ولذلك يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (من مات وهو يقول: لا إله إلا الله دخل الجنة)، ومن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة، ومعنى ذلك أنه قد يدخل الجنة دون أن يدخل النار، ويغفر الله له ذنوبه كصاحب هذه البطاقة، وقد يعذب على ذنوبه بما شاء الله، ولكن العبرة بالخواتيم، أي: الخروج من النار والدخول للجنة.
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38] هذا جزاء المؤمنين الصالحين، من أنار الله أقوالهم وأعمالهم وقلوبهم، أنارها الله بالقرآن والإسلام والهداية الإلهية وبدين محمد صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين أنار الله قلوبهم فعمروا بيوته ذاكرين ومصلين ومزكين ووجلين ألا تقبل أعمالهم، جزاؤهم من الله أضعاف مضاعفة من الحسنات، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38].(107/5)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة)
هذه آيات وعيد وتهديد للكافرين المقصرين الذين ماتوا على الكفر والشرك، ضرب الله فيها لهم أمثالاً معنوية وأمثالاً حسية، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39].
هذا الكافر الذي يصف نفسه بالحضارة والعلم والمعرفة والفهم والإدراك، وقد يقول: أنا تصدقت وأحسنت وأعطيت، فمثل هذا أعماله كسراب تذهب هباء منثوراً لا تقبل ولو كانت صالحاً؛ لأن الشرك قد غطى على كل حسنة، ولأن الكفر بالله أعظم أنواع الظلم، فكل عمل صالح وصدقة وتعليم وغيره أمام كفره وجحوده {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور:39]، والسراب معروف وهو ذلك الشعاع الذي يكون عند شدة الشمس في الأراضي المستوية، والقيعة: جمع قاع: وهي الأرض الفسيحة المتسعة.
فعند اشتداد الحر وضياء النهار ترى من بعد كما لو كانت نهراً أو نبعاً أو مياهاً، فيراها الظمآن بعينه فيأتي مسرعاً ومهرولاً إلى ذلك المكان لشدة عطشه يريد أن يشرب، فإذا أتاه وجده سراباً ولم يجد ماءً ولا شراباً.
قال تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور:39] يظنه العطشان ماءً، كذلك هؤلاء يأتون يوم القيامة ويظنون أن أعمالهم حسنة، وأنهم يعاملون عليها معاملة الموحدين المؤمنين، وإذا بهم عندما يحاسبون ويسألون: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ لا يحسنون جواباً، وهكذا يجدون أنفسهم بلا عقيدة ولا إيمان بالله ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفجأة يجدون أعمالهم هباءً لا نفع لها، وهم يظنون أنها أعمال صالحة، وأنها أعمال حضارية وتقدمية، وأنهم أحسنوا للشعوب بنشر الحضارة وأنواع المخترعات، وأعانوا الإنسان على كذا وكذا.
فعقولهم ونفوسهم مليئة بالسراب والخواء، ومليئة بما لا معنى له، إن هي إلا الجهالات والضلالات حسبوها علماً ومعرفة ويوم القيامة عرفوا أنها سراب، وقد جاءوا إلى أعمالهم عطشى فلم يجدوا شيئاً، هذا مثل ضربه الله لهؤلاء الكفار.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39] أي: حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده بالمرصاد لمحاسبته وعقوبته وعذابه: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]، فقد كان في دار الدنيا يملك نفسه، ويستطيع أن يستغل حياته، ويستفيد من شبابه ومن قوته ورزقه، فيؤمن بالله ورسوله، ويصلي مع المصلين، ويزكي مع المزكين، ويحج مع الحاجين، ويصوم مع الصائمين، لكنه في دنياه كان يسخر من الصالحين ويلمزهم بالألقاب: رجعيون خرافيون متأخرون، ويقول: إن هي إلا أرحام تدفع وقبور تبلع، ولا قيامة ولا آخرة ولا حساب ولا عقاب، فهذه عقول ضائعة، ونفوس هزيلة، وعلم كاذب، ودعوى عريضة، وعند الموت تنكشف لهم الحقائق ولكن هيهات ولات حين مندم، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وهكذا يُقطعون.
فقوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور:39] أي: وجد الله له بالمرصاد يرصد أعماله، فقد كلف لرصدها ملكين عن يمينه ويساره؛ ليشهدا عليه بالنقير والقطمير، حتى إذا جاء يوم القيامة فإنه يستلم كتابه بشماله، ومعنى ذلك: الخسارة والخزي والعار، وعند الامتحان يعز المرء أو يهان.
قال تعالى: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39] أي: والله جل جلاله يسرع في حساب هؤلاء، وعقوبتهم، والنكال بهم، وإدخالهم النار خزايا مغضوباً عليهم أبد الآباد؛ جزاء ما جحدوا من النعم الإلهية الظاهرة والباطنة، وجزاء سخريتهم بأنبيائهم والمؤمنين من أتباعهم، فهذا مثل معنوي ضربه الله لهم.(107/6)
تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي)
قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40].
إن الأنوار التي وصف الله بها المؤمنين أنهم {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]، وأن هؤلاء الكافرين يعيشون في ظلمات بعضها فوق بعض، قال عنهم الله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:40] أي: بحر كثير الماء والأمواج المتلاطمة، ومع هذه الأمواج ظلمات الليل.(107/7)
تفسير سورة النور [40 - 43]
ضرب الله تعالى هنا مثالاً لما يعيش فيه الكافرون من ظلمات في العقيدة والأخلاق والمعاملات، فشبه حاله وظلماته بالبحر اللجي العميق الذي تغشاه الأمواج العظيمة المتراكمة في الليلة الظلماء، والليلة الملبدة بالغيوم والسحب السوداء، فذلك ظلام في ظلام في ظلام، وهكذا حال الكافر، فهو لا يرى نور الحق ولا نور الهدى، ولا يشم رائحة الهدى الزكية.(108/1)
تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج)
قال الله جل جلاله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
يضرب الله جل جلاله في الآية السابقة مثلاً لنور هدايته، ونور رسالته، ونور ما أرسله من أنبياء وكتب إلى الناس كافة، ضرب لذلك مثلاً بمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، إلى أن قال جل جلاله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، فالله يهدي لهذا النور من يشاء من عباده، فقد هدى في الأمم السابقة واللاحقة ثلة من الأولين، وقليلاً من الآخرين.
وهنا يضرب جل جلاله مثلاً لظلمات الشرك، وسواد الشرك وريبه وضلاله، يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، فشبه ظلمات الشرك والكفر بالسراب الذي لا ظل له ولا حقيقة له، وإنما هو خداع للنظر والرؤية، فليس هو ماء حقاً، ولا غياثاً حقاً، وإنما هو سراب وشعاع تأتي به الشمس فيظهر في الأرض المتسعة وكأنه ماء، فيأتيه الصادون فلا يجدون شيئاً.
وفي الآية الثانية: ضرب الله لهم مثلاً آخر، فقال عنهم: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} [النور:40] مثال ظلمات الكفر، وسراب الشرك، وضلال من لم يؤمن بالله، ولم يعمر قلبه بذكر الله ورسوله، والإيمان بهما، والامتثال لأمر الله ورسله، فوق السراب الذي لا حقيقة له، مثاله كظلمات في بحر لجي، واللجي: البحر العميق المتلاطم الأمواج، الكثير المياه، وهو مع ذلك يغشاه موج، أي: يركبه موج ويغطيه، (يغشاه موج من فوقه موج) فهي أمواج متلاطمة متضاربة وكأنها الجبال، فحتى الأمواج نفسها تتلاطم فتعلوها أمواج (يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب) فهي أمواج متراكبة متلاطمة كأنها الجبال، يغشى بعضها بعضاً، ويركب بعضها بعضاً، ثم فوق الكل سحاب وغمام، كما قال جل جلاله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور:40] أي: ظلمات البحر، وظلمات الموج، وظلمات السحب، وظلمات الليل، فهي ظلمات بعضها فوق بعض، ومن شدة هذا الظلام: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40] و (يكد): من أفعال المقاربة، أي: يقارب ولا يصل، كما نقول: كاد النعام أن يطير، وهو لا يطير ولكنه قارب ذلك؛ إذ هو من أنواع الطيور وله جناحان، ولكن جسمه أثقل من جناحيه، وجناحاه أقصر من جسمه، حتى ولو حاول الطيران فلن يستطيع، وهكذا هذه الظلمات، فهو يحاول أن يمد يده لشدة الظلمة المتراكبة ليراها لكنه لا يستطيع؛ لشدة الظلمة، فهو تشبيه وضرب مثل من الله تعالى لظلمات الكافر، فقوله ظلمة، وعمله ظلمة، وسيرته ظلمة، ويعتقد الظلم والظلام، فهو في ظلمات الشرك، وظلمات الفواحش، وظلمات العقائد، وظلمات الظلم والإيذاء، ومعاكسة أوامر المؤمنين والمسلمين، والصد عن الله وكتابه، وعن الرسول وسنته، فهو ظلمة مركبة، ظلام متراكب، ومن هنا يحذرنا الله من الاتصال بأمثال هؤلاء قبل أن يعدوا المؤمنين، فإن لم يعدوهم بالقول كانت العدوى بالفعل أو بالعقائد أو بظلمة من هذه الظلم، فإنه لا تكاد ظلمة تصيب مؤمناً إلا وسرت فيه بقية الظلمات كما نرى في واقع الحال الذي نراه في عصرنا.
فترى الطالب أو العامي أو الرحالة العالم يبتدئ لأول مرة في قراءة كتاب معين أو مقالة أو محاضرة أو محاورة إنسان، هكذا يبتدئ وهو مصمم على عقائده وعمله، ولكنه لا يكاد يتصل بهم بشكل من الأشكال وإذا بآرائهم، وإذا بظلمتهم تتسرب إليه، وإذا بك تفاجأ بهؤلاء يقولون بعض ذلك في دروسهم، وفي كتابتهم، وفي محاضراتهم، وهكذا عم الفساد وطم في البحر والجو، والأرض والسهل والجبل، والله ما أعلن لنا ذلك إلا ليحضنا على تركه، وينفرنا منهم، فالضياء لا يليق أن يضيع نوره وشعاعه بسبب هذه الظلمات المتراكبة.
وضياع هؤلاء إما سراب لا حقيقة له، وأوهام باطلة لا وجود لحقيقتها، أو ظلمات بعضها فوق بعض: كلاماً وعملاً وعقيدة وسلوكاً وكلما يصدر عنهم، فهم في ظلمات بعضها فوق بعض، ومن شدة هذا الظلام وتراكمه، والتفافه، وتجمع بعضه ببعض يكاد الكافر إذا أخرج يده لم يراها، فإذا أراد أن يتلو آية، أو أن يسمع حكمة، أو أن يجالس مؤمناً فشدة الظلام التي هو فيها تبعده عن أن يفهم ذلك، ولذلك كان يقول الإمام مالك رحمه الله: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
فيبعد عن الفساق، ومن باب أولى عن المنافقين والكفار، أن يتخذهم الإنسان شيوخاً، وأن يتخذهم دعاةً، وأن يهتم بأقوالهم وبكتبهم وبرسائلهم وما إلى ذلك.
{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، من لم يهده الله ويعطه من نوره، وهو نور السماوات والأرض، (مثل نوره) مثل هدايته التي يهدي بها من شاء، ولمن شاء وكيف شاء جل جلاله، ومن يهده الله فلا مضل له، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، من لم يهده الله ويعطه من نوره وهدايته وحكمته، ومن كتابه المقدس المعجز، ومن نبوءة أنبيائه، ومن هدايتهم، ومن سنتهم، فسيبقى ضالاً مضلاً يخبط في ضلاله خبط عشواء.(108/2)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض)
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41].
ألم ترَ يا محمد! وهو المكلف بالأصل، وهو أول المسلمين، وأول المؤمنين برسالته، وذلك قبل أن يؤمن بها غيره، ألم ترَ يا محمد! والرؤية هنا رؤية علم ورؤية بصيرة، ورؤية عقيدة، وفي معنى ذلك: ألم ترَ أيها المسلم! ألم ترَ أيها المؤمن! أن الله يسبح له ويدعوه ويعبده ويوحده السماوات ومن فيها، والأرضون السبع ومن فيها، حتى الطير المصطف في الأجواء وفي السماء، ولذا كان الجماد خيراً من هؤلاء الكفار، وكان الطير خيراً منهم، وكان الحيوان خيراً منهم، فهم كالأنعام، بل قال الله وأضرب عن الكلام الأول: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، أي: أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام تسبح الله، وتوحد الله، ويوحد الله الملك والجن والإنس ممن أنار الله بصائرهم، والحيوان والطير، وحتى الجماد والجبال، فتسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} [الإسراء:44] كما قال ربنا وكرر وأعاد ليستقر في الأذهان: أنها تسبح له السماوات السبع ومن فيها، والأرضون السبع ومن فيها، يسبح له كل مخلوق عاقل ملكاً وجناً وإنساً، وكل الطير، وكل الحيوانات، وحتى الجماد: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} [الإسراء:44] (من) إذا دخلت على النكرة على قواعد اللغة العربية فإنها تدل على العموم، أي: كل شيء، وهو ما في هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور:41]، فالسماوات ومن فيها، وفيها الملائكة، وفيها كثير من خلق الله، والله أعلم بحقائقهم، وتسبح له الأرض، الأرضون السبع ومن فيها: من إنس وجن، وبهائم وحشرات، لكن هنا نجد الكافر، ونجد الإنسي والجني عندما يشرك بربه فكل شيء أشرف منه، وكل شيء أكرم منه، حتى الجماد وحتى الحيوان وحتى الطير: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور:41]، فيسبح له من في السماء ومن في الأرض، ومن بين السماء والأرض كالطير، فالطير عندما تكون أجنحتها مصطفة في الأجواء هي كذلك تسبح ربها، وهي إذ ذاك ليست في الأرض، وليست في السماء، ولكنها في الأجواء والفضاء، فهي تذكر الله، ومن هنا ينبغي للمسلم عندما يركب الطائرات في الأجواء إذا دخلت أوقات الصلاة أن يصليها وهو في الأجواء، والطائرة تعتبر مدينة مستقرة في مكانها، فليؤذن للصلاة، وليقم الصلاة، وليصلها جمع تقديم أو جمع تأخير، حسب الأوقات التي هو فيها، وينبغي أن يتلو كتاب الله، وأن يذكر الله بكل ما ألهمه الله، وبكل ما فتح عليه به، ولا يليق أن يعتبر الطير خيراً منه عبادة، وخيراً منه طاعة، فالطير تعبد الله وهي في الأجواء، فالإنسان أولى منها بذلك، وهو الذي خلقت له السماوات والأرض ليعبد ربه، وليتمتع بما متعه الله به، فإن كان عن إيمان فذلك له حق حلال، ولنعم الله يوم القيامة أجمل له وأكمل وأدوم.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] وإذا كنا لا نعلمها فالله يعلمها، فيعلم صلاة المصلي من خلقه وعباده: من ملائكته وجنه وإنسه، ويعلم تسبيح الطير، وتسبيح كل شيء، وكل يسبح بما ألهمه الله، فالطير وهو صاف جناحه في السماء هو في هذه الساعة أيضاً يسبح الله، وتسبيحه عبادته، وتسبيحه تقديسه، وتسبيحه تمجيده، وتسبيحه توحيده، فهو إلهام ألهمه الله إياه، ومن هنا كان الكل أشرف وأكمل وأصلح وأتم من الإنسان الكافر والجني الكافر.
قال تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ} [النور:41] التنوين هنا تنوين عوض عن كلمة، والتقدير: كل موجود، فكل من في السماء ومن في الأرض قد علم الله جل جلاله صلاته وعبادته له، وتسبيحه له، وذكره له جل جلاله، و (من) في لغة العرب تطلق عادة على العاقل، و (ما) في لغة العرب تطلق عادة على غير العاقل، تقول: من في الدار؟ أي: من الرجال أو النساء العقلاء الذين في البيت؟ فإن كان في البيت هوام ودواب وطير قلت: ماذا في البيت؟ فإذا اجتمعا غلب أحياناً العاقل على غير العاقل، وأحياناً غير العاقل على العاقل، وهنا في الآية هذه وما بعدها غلب العاقل على غير العاقل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:41]، وفي الأرض عاقل وغير عاقل، فغلب العاقل على غيره.
{كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41] عليم بفعل عباده، عليم بفعل خلقه: أناسي وملائكة وجناً وطيراً وحيواناً ودواباً وحشرات، علم عبادتهم، وأدرك عبادتهم، وجازاهم عليها، فجازى المؤمن بإيمانه، وجازى الكافر بكفره، وأحسن إلى هؤلاء بأن متعهم زمناً؛ متعهم بالعيش وبالعافية، لكن هؤلاء لم يخلقوا إلا للدنيا وانتهوا.(108/3)
تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير)
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور:42].
كل هؤلاء عبيد من خلق الله، وهم ملك من أملاك الله، فالسماوات ومن فيها وما فيها، والسبع الأرضون من فيها وما فيها، ما في الكل وما بينهما من ملك وإنس وجن، وما سوى ذلك من أنواع المخلوقات كلهم يأتي الله يوم القيامة عبداً، وهم في الدنيا كذلك عبيد ومماليك لله، فلا أمر لأحد منهم ولا نهي مع الله، فالكل عبد لله سواء كان مطيعاً مؤمناً، أو عاصياً متمرداً كافراً، فمنذ وقف صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض المقدسة وقال: (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) كانت هذه الأمم منذ دعا لذلك أمماً محمدية، فمن أطاع فهو من أمة الاستجابة، ومن تمرد كان من أمة الدعوة.
{وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور:42] فمصيرنا بعد ذلك إلى الله، حيث نموت ثم نحيا ونبعث ونحاسب على ما قدمناه في حياتنا، فمن كان مؤمناً فقد فاز وأفلح، وسيعيش العيشة الأبدية في نعيم من الله ورضوان، ومن حشر وعرض كافراً فله الخزي والغضب والخلود في النار، ولذلك فكلمة المصير هنا فيها نذارة وتهديد ووعيد، والمعنى: يا هؤلاء الذين تمردوا على الله وعصوه وعصوا رسله! مصيركم مهما طالت حياتكم، وامتدت أزمانكم إلى البعث والنشور، فسيبعثون ليحاسبوا على ما قدمت أيديهم: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
ثم قال تعالى في بيان قدرته على كل شيء ليفكر المفكر، ويتدبر المتدبر، ويزداد المؤمن بذلك إيماناً، وتعود إلى الكافر يوماً بصيرته، ويعود إليه فهمه، فيؤمن ويقول: رب اغفر لي يوم الدين.(108/4)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً)
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43].
يرشد الله في هذه الآية الكريمة عباده على أن يقفوا عندها قليلاً ويفكرون، فقال تعالى مرة أخرى: (ألم ترَ) أي: يا محمد! ألم ترَ أيها المؤمن! أيها المسلم! ألا ترى بصيرتك ويرى بصرك: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور:43] يسوق ويدفع، والسحاب: هي هذه السحب التي نراها في السماء، فترى السماء صافية، وتراها زرقاء وكأنها قطعة من ماء البحر عند صفاء الجو، وإذا بها تصعدها سحابة هنا وسحابة هناك، وإذا بها تتصل ببعضها، وتتجمع وتتراكم، وإذا بها يعلو بعضها بعضاً، وإذا بالأمطار تخرج منها، وإذا بالبروق والرعود تسمعها تكاد تهز الأرض، ويكاد سنا هذه البروق يأخذ بالأبصار: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور:43] أي: يجمعه: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43] هذا السحاب الذي يرتفع إلى الأجواء متفرقاً يجمعه الله تعالى ويؤلفه، فتجتمع هذه السحابة إلى هذه، وهذه إلى هذه، ثم يجعله متراكماً متجمعاً يعلو بعضه بعضاً، ويركب بعضه بعضاً، ولما ركبنا الطائرات الساعات الطوال ونحن بين السحب من فوقنا، والسحب من تحتنا، والسحب أمامنا، والسحب خلفنا، متراكمة بعضها على بعض، والطائرات عادة تتعب في مثل هذه السحب، وتعرض للهز وللاضطراب وقد يصيبها ما يصيب إن تزايد ذلك، ولكن الله يحفظ ويصون جل جلاله، وهكذا يؤلف بينه، ثم يجعله ركاماً بعضه على بعض.
{فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43] فترى المطر يخرج من خلاله، وينزل {مِنْ خِلالِهِ} [النور:43] جمع خلل، أي من ثناياه ووسطه، {فَتَرَى الْوَدْقَ} [النور:43] ترى المطر ينزل من هذه الغيوم المتراكمة والسحب المتراكبة، هذه الأمطار التي تنزل تنتقل بعد ذلك إلى نوع آخر فتصبح برداً، فقال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ} من العلو {مِنْ جِبَالٍ} هذه السحب تتراكم حتى تصبح كالجبال، حتى تصبح وكأنها جبال، ثم هذه الأمطار وهذا البرد يتراكم ويعلو ويصبح متجمعاً مع هذه السحب وكأنها الجبال: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور:43] فيصيب بهذا البرد من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، ونزول البرد يعتبر رجماً، فإذا نزل كسر الأشجار، وأسقط الثمار، وأضاعها قبل نضجها، ويكون نزوله بلاءً من الله جل جلاله، فمن أراد إصابته وأراد عقوبته أنزله عليه كالحجارة، فيفسد الزرع، وقد يفسد الضرع، وقد يضرب الرءوس فيميتها، وقد ينزل كالحجارة من السماء.
{فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43] يصاب به فيصبح في مصيبة، {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43] يدفعه فلا يمسه ولا يضره.
{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43] هذه السحب المتراكمة، وهذا المطر الوافر الذي يخرج من بينها، يخرج معه برق، هذا البرق من شدة ضوئه وإشعاعه ونوره يكاد يأخذ الأبصار، (يكاد سنا برقه) السناء: هو الضياء، والسنا: شدة الضوء، وشدة الشعاع وكثرته، والإنسان بعادته لا يستطيع النظر إلى الأضواء الكثيرة؛ لأنها تؤذيه في بصره، وإن هو زاول ذلك مرة بعد مرة فقد يصاب بالعمى أو بالمرض.
{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} [النور:43] هكذا يقول تعالى: (يكاد) من أفعال المقاربة، أي: يكاد البصر يذهب، ويكاد ضوءه ينحل ويتحلل فيصبح الناس عمياً، فمن الذي صنع هذه النتيجة؟ ومن الذي رفع هذه السحب، ثم جمعها، ثم أخرج منها الأمطار، ثم أخرج من الأمطار هذا البرد، ثم أنزله فأصاب قوماً فأضاع زروعهم وضروعهم، وصرفه عن أقوام فحفظهم وصانهم؟! هل فعل هذا الشركاء؟! حاشاه ومعاذ الله فهم أعجز من ذلك، سواء كانوا إنساً أو ملائكة أو جناً، فضلاً عن الجمادات.
أليس للإنسان عقل يدرك ويعي ويفهم، وبصيرة تعي وتفهم وتدرك؟ وإذا كان الأمر كذلك أين هؤلاء الكفار مع أبصارهم، ومع أسماعهم، ومع قلوبهم؟ كيف لا يبصرون بعين، ولا يسمعون بأذن، ولا يعون بقلب؟! وهذا يعرضه الله علينا، ويلفت إلى تدبره أنظارنا، وهو بذلك يرشدنا وينصحنا في دار الدنيا والإنسان لا يزال يملك أمر نفسه، فليفكر يوماً من الذي خلق هذه السماوات العلى؟ ومن الذي بسط هذه الأراضي؟ ومن الذي أخرج ماءها ومرعاها؟ وثمارها وأشجارها؟ ومن الذي خلق هؤلاء الخلق: أبيض وأسود وطويلاً وقصيراً وصغيراً وكبيراً وامرأة ورجلاً؟ أليس الله جل جلاله؟ وإذا كان الأمر كذلك -وهو كذلك- فمن الذي يستحق منا العبادة؟ ومن الذي يستحق منا التسبيح والتعظيم والتمجيد والطاعة أليس الله جل جلاله؟ أليس الله هو واجب الطاعة، وأن يعبده خلقه على كل نوع وشكل.
هذه الفقرة من الآية ذكرت فيها (من) ثلاث مرات: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ} [النور:43] (من) الأولى {مِنْ جِبَالٍ} [النور:43] (من) الثانية، {فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور:43] (من) الثالثة، وكل حرف من هذه الأحرف لها معنى قائم بنفسه، وليست مكررة.
{وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ} [النور:43] (من) الأولى بداية الغاية، أي: إنزال هذه الأمطار وهذا البرد من هذه السحب التي يجمعها ويؤلفها ويخلقها قبل ذلك، ثم تتراكم بخلقه وإرادته، ثم يخرج المطر من بينها بقدرة الله، ثم بعد ذلك يخرج البرق والرعود منها، ثم يصيب بذلك من شاء من عباده، ويصرفه عمن يشاء من عباده، فـ (من) الأولى ((وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ)) هي لبداية الغاية.
((مِنْ جِبَالٍ)) هذه تبعيضية، فليس الجبال كلها ينزلها، فلو نزلت لأصبحت الأرض قاعاً صفصفاً، ولصار للناس ما صار لأهل لوط عندما رفع الأرض عاليها ورماها إلى الأرض رأساً على عقب، وأصبح القوم كالعصف المأكول، كما يخرج من بطون الدواب عندما تأكل العصف، ولكن الله قد رحم أمة محمد خاصة، وأما الأمم الأخرى فعاقبها في الدنيا قبل الآخرة: عاقبها بالغرق، وعاقبها بالريح، وعاقبها بالرجم، وعاقبها بالمسخ، وأما أمة محمد فمرحومة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أرسله الله إلا رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فإنما هو رحمة مهداة كما يقول نبينا عليه صلوات الله وسلامه، ورحمته عمت المؤمن والكافر، فأما المؤمن فيزيد إيماناً وطاعة وعملاً يكافأ بذلك ويجازى يوم القيامة، وأما الكافر فيمتع بحياته وسمعه وحواسه جميعها، ويعطى فرصة من عمره، ولا يمسخ قرداً كما كان يمسخ أسلافه، ولا ترسل عليه صواعق من السماء، ولا تخسف به الأرض، بل يعطى فرصة في حياته لعله يوماً يفكر في ربه، ويفكر في قدرته، ويفكر في إرادته، ويفكر فيما أنزل على أنبيائه من كتب، وما نطق به الأنبياء من بيان وشرح لهذه الكتب من السنة المطهرة، فهو رحمة مهداة كما قال عليه الصلاة والسلام، وهو رحمة للعالمين: عالم الإنس والجن، عالم المرأة والرجل، عالم المؤمن والكافر معاً.
ثم قال: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور:43] و (من) الثالثة للتبيين، أي: لا ينزل من الجبال حجارة ولكن من جنس الماء، فقد جمد وأصبح كالحجارة يرجم به من شاء من عباده، ويصرفه عمن يشاء من عباده، أولئك لعقوبتهم، وهؤلاء رحمة بهم، وقد يحصل ذلك للمؤمن فيكون كفارة للمؤمن التقي، ويكون عقوبة للمؤمن الفاجر، قال تعالى: {مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43]، يكاد سنا برقه يذهب بالبصر، فيخطف البصر، ويعمي العين ويذهب ضوءها، كل هذا خلقه الله، وكونه الله سبحانه.(108/5)
تفسير سورة النور [44 - 50]
لقد خلق الله كل دابة من ماء، ثم جعلها أصنافاً وأنواعاً، فمنها من يمشي على رجليه، ومنها من يمشي على أربع، ومنها من يمشي على بطنه، ويخلق ما يشاء سبحانه وهو على كل شيء قدير.(109/1)
تفسير قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار
قال تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44].
يقلب الليل والنهار، وينوع فيهما، ويشكل فيهما، فتارة يطول النهار ويقصر الليل، وتارة يطول الليل ويقصر النهار، وتارة الليل يشتد حره، وتارة يشتد برده، ويشتد ما فيه من رياح وعواصف، حتى إنها تكاد تذهب بالبيت كله، حتى لا يكاد الإنسان ينام خوفاً، وهذه التقلبات من فعل الله وخلق الله، والليل والنهار لا يتجاوزان أربعاً وعشرين ساعة، ولكن يكون البعض على حساب البعض الآخر، ويقصر على حساب الآخر: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [النور:44]، فهو الذي يقلبه لا سواه، وهو وحده القادر على ذلك.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44] إن في إنزال الأمطار، وفي تراكم السحب، وفي خروج الودق والمطر من خلالها، وصور الرعود والبروق، وفي تقليب الليل والنهار أنواعاً وأشكالاً: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} [النور:44] أي: لمدعاة للتفكير والتدبر، فيقول الإنسان يوماً: من الذي فعل ذلك؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44] لأصحاب البصائر، و (أبصار) جمع بصيرة، وقد تجمع على البصر، وهنا معناها: البصيرة، فهؤلاء بصيرتهم تتبع أبصارهم وما رأوه، وفكروا فيه، واعتبروا منه، ليقولوا يوماً: الله وحده القادر على هذا، والله وحده الخالق لهذا، وما يشركون به مع الله مما سوى الله لا يقدر على شيء من ذلك.(109/2)
تفسير قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء)
قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور:45].
وهذا أيضاً من مدعاة الاعتبار والتفكير، فنحن نرى -هذا يراه المؤمن والكافر بالبصر، وينبغي أن يؤمن به ببصيرته- أن الله خلق الخلق كلهم من ماء، وعلى الأقل الخلق الذين نراهم من إنس، ومن دواب، ومن طير، ومن حشرات، فكلها خلقها من ماء: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45]، فنحن خلقنا من الماء، قالوا: ولكن الملك خلق من نور، وخلق الجن من نار، لكنهم أيضاً تفرعوا عن الماء وخلقوا من الماء؛ لأن الله تعالى خلق الماء أولاً قبل السماء والأرض وكان عرشه على الماء كما قال نبينا صلى الله عليه وعلى آله، ولم يكن بعد قد خلقت حياة أخرى مع الله، فلم يخلق بعد لا ملكاً ولا إنساً ولا جناً، ثم بعد ذلك خلق من الماء كل شيء، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، وهذه الآية تؤكد: أن الملك كذلك، وأن الجن كذلك، وأن النار من الماء، وأن النور من الماء، فالله قال: (كل شيء حي) وشيء: يطلق على كل ما سوى الله، والحي أيضاً كذلك كل خلق الله، فالله جل جلاله خالق الكل من ماء وأكد هنا ذلك وفي التلاوات السبع.
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45] والدابة: ما يدب على وجه الأرض، ثم ذكر هذه الأنواع من الدواب فقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور:45] وهي الزواحف: الحيتان والحيات والديدان، فكلها تزحف وتمشي على بطنها، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} [النور:45] كالإنسان والطير.
قال: {وَمِنْهُم مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور:45] كجميع الدواب والأنعام، فأغلب الخلق يمشون على أربع، قالوا: وهناك من يمشي على أكثر من أربع كبعض الحشرات، ولكنها تمشي على الأربع، وهناك قراءة تعتبر شاذة خارجة عن القراءات السبع: (ومنهم من يمشي على أربع ومنهم من يمشي على أكثر) ولكنها ليست تلاوة متواترة، وليست من السبع، والأمر كذلك، وكأنها تفسير وبيان، وهذا الذي جاء عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، فعندما جمع القرآن الكريم وجده هكذا مفسراً يشبه الآي على من جاء بعده، فأحرقه وأتلفه.
وعائشة كانت تزيد بعض الكلمات شرحاً وبياناً، وابن مسعود كان يفعل ذلك، كما زادت السيدة عائشة شرحاً وبياناً عند قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] زادت بخط يدها: وصلاة العصر، تريد بذلك الشرح، وأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وذلك ثابت في صحيح مسلم لا شك فيه، وفيه نزاع بين الأئمة.
قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [النور:45]، ومن خلق الله فيما شاء: أن جعل الحديد والأخشاب تطير وتتحرك بقدرته، وبما أقدر عليه خلقه من الإنسان: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، فقد أعطى الله للإنسان قدرة ليصنع هذه الأشياء، ولكن ماذا صنعنا؟ لم نخلق ولم نبتكر، وإنما جئنا لحديد خلقه الله، وإلى أخشاب خلقها الله، وإلى مياه سميناها: النفط والبترول وأنواعه، والله خلقها، ثم جئنا لهذه الأجواء، والله جعل فيها من الأثير ما يمكن أن يحمل الأجسام الثقيلة فتطير كما يطير الطائر، فقلدوا الطير في طيرانه، وقد أصبح ذا جناحين، قالوا: لِمَ يطير الطير ولا يطير غيره، وهكذا صنع الإنسان هذه الصناعات من الحديد والأخشاب، وبالمياه التي هي من خلق الله، فأصبحت تطير وهي من خلق الله، حتى إن أحدهم جعل لنفسه جناحين وهو عباس بن فرناس الأندلسي، فبعد أن فكر وأطال الفكر، وعاش بين الطيور زمناً وهو يرى كيف تطير وتحلق وكيف تنزل، وإذا به يصنع لنفسه جناحين وطار بهما في الجو، وإذا به وهو يحلق ويطير يريد أن يهبط فيعجز؛ لأن تفكيره كان مفرداً، ويد الله مع الجماعة، فقد فكر في التحليق ولم يفكر في كيفية نزوله، والله خلق للطائر ذيلاً يساعده على النزول.
ونحن نرى الطير وهو ينزل كيف يأتي إلى ذيله وينزله بما يصادم الهواء ويواجهه في النزول، لذلك فإن الطائرات والبواخر يوجد لها خلفها ما يشبه ذيل الطائر؛ ليساعدها عند النزول، وليقاوم شدة الأجواء والأثير والهواء، فهو عندما لم ينتبه لذلك وهو في الأرض تأكد أنه فقد حياته وانتهى، فحاول الاندفاع فعجز، فبقي يلف ويدور ويطير إلى أن تعب فسقط جريحاً مكسراً، وقال: فكرت في طيراني ولم أفكر في نزولي، ثم مات نتيجة عدم تدبره.
ثم جاء الذين بعده فما أرادوا أن يجعلوا التجربة في الإنسان نفسه فجعلوها في الأخشاب والحديد، ولكنهم لم يفكروا أن يجعلوا للبشر أجنحة كما صنع عباس بن فرناس، ولا يبعد أن يتم هذا ويقع، وقد حصلت تجارب لا تتجاوز مئات الأمتار طار فيها الإنسان ونزل، ولكن حصول مثل هذا من الخطر بمكان، فلا يأمن الإنسان أن يطير إليه إنسان من النوافذ.
{يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور:45].
ودائماً هذه الآية الكريمة يبقى مغزاها في خواتمها، فقد قص الله علينا خلقه، وقد رأيناه بالبصر وفكرنا فيه بالبصيرة، وأتم الله ذلك بأنه على كل شيء قدير، وهكذا جل جلاله على كل شيء قدير ويخلق ما يشاء، (ويخلق ما يشاء) فعل مضارع يدل على الحال والمستقبل، أي: وهو قادر جل جلاله كما خلق ما مضى من أشكال عرفها الماضون وعرفها الآتون قادر على أن يخلق شكلاً آخر وأنواعاً أخرى ليست كما مضى في الخلق، ومن ذلك هذه المخترعات التي نراها من أنواع الطائرات والصواريخ والسفن والقطارات والسيارات.
ونبقى دائماً نقول: ويخلق الله ما يشاء، ونبقى نقول ونحن نعطف على أنواع المركوبات، قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، وقد سبق أن قلت: بأن ابن عباس حبر القرآن قال: ما عطف الله قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] على أنواع المركوبات حتى كان من جنسها، وتم هذا الفهم لـ ابن عباس بعده بألف وأربعمائة عام.(109/3)
تفسير قوله تعالى: (لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)
قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور:46].
فالله أرسل محمداً صلى الله عليه وعلى آله بالكتاب الكريم، وبما فيه من آيات مبينات، مفسرات، موضحات، شارحات، تبين الحلال والحرام، والآداب والرقائق، وتبين القدرة الإلهية، وتبين خلق السماء وما فيها من عجائب، وخلق الأرض وما فيها من عجائب، تلك الآيات المبينات، المفسرات، الشارحات، الواضحات أنزلها الله تعليماً لعباده، وتعليماً لخلقه، تعليماً للناس علهم يؤمنون به، علهم يؤمنون بنبيه، علهم يؤمنون بالكتاب المنزل إليه، علهم يعيشون مؤمنين، ويموتون مؤمنين، ويبعثون مؤمنين، وذلك من رحمة الله بعباده.
ولذلك إن ضل من ضل فستبقى الحجة البالغة لله وحده، وسيقال للإنسان في القبر بسؤال الملكين: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ كيف أنت مع صلاتك؟ كيف أنت مع بقية الأركان؟ فإذا قال: لا أدري فسيسأل: ألم يأتك نبي؟ فيقول: نعم ولا سبيل للإنكار، وإن أنكر شهد عليه جلده ولسانه وجوارحه، ولا سبيل للإنكار قط، وبعد ذلك يعترف الإنسان أحب ذلك أم كرهه.(109/4)
تفسير قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وما أولئك بالمؤمنين)
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47].
يتكلم الله عن قوم كان منهم في العصر الأول منافقون، والكلام عندما يكون له سبب فذلك السبب ليس إلا سبباً للنزول وإلا فالعبرة دوماً واستمراراً في كتاب الله وسنة رسوله العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وما أشد تطبيق هذه الآية علينا، فاليوم وما قبل اليوم وإلى ما بعد اليوم يقول تعالى عن طائفة من أدعياء الإسلام: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] يقول: نحن مسلمون آمنا بالله رباً وإلهاً، وآمنا بمحمد نبياً ورسولاً، وماذا يكون بعد ذلك؟ {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور:47] يتولى فريق -من هؤلاء الذين يقولون: آمنا بالله وبرسوله وأطعنا- ويعرضون ويبتعدون ويستنكفون عن الإيمان حقاً وعن الطاعة حقاً، فالله تعالى يقول عن هؤلاء: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47].
ونحن اليوم نجد أن الشعوب الإسلامية والدول الإسلامية يقولون: نحن مسلمون جميعاً، وإذا قلت له: اسكت يا كافر! أو يا زنديق! لقام في وجهك قيام الضواري والحيوانات المفترسة، وهم مع ذلك يتحاكمون بغير كتاب الله ويتحاكمون بغير سنة رسول الله، فأنت تقول لهم: كيف تقولون: نحن مؤمنون بالله ومؤمنون برسول الله، ثم لا تطيعون بعد ذلك؟! فالإيمان بالله له فرع والإيمان بالرسول له أثر، فالإيمان بالله يلزم من ادعاه أن يكون مطيعاً لكتاب الله، ممتثلاً للأوامر، مجتنباً للنواهي، والمدعي للإيمان برسول الله يجب أن يكون مطيعاً له فيما أمر، ومجتنباً لما نهى عنه وزجر، وإذا زعم أنه مطيع لله ورسوله، فقل له: أين الطاعة؟ أنت تهمل كتاب الله حكماً وقانوناً: في الشارع في الدولة في الجيش في المعاملة في جميع شئون الحياة، وتحكم بغير ما أنزل الله، وتعمل بغير ما أنزل الله، وتنشر الكفر أشكالاً وألواناً، فالله تعالى يقول عن هؤلاء الذين يصنعون ذلك بعد أن ادعوا الإسلام وقالوا: إنهم مؤمنون بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم ومطيعون لهما، قال الله عنهم: {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور:47]، بعد دعواهم الإيمان والطاعة، قال تعالى مكذباً لهم: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] أي: هؤلاء الذين يدعون الإيمان والطاعة ليسوا من المؤمنين؛ لأن الإيمان له شروط، والإسلام له قواعد وله ضوابط، وقد قال تعالى في كتابه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] وهل بعد كلام الله كلام لأحد؟ وهذا من ذاك، فتجده يدعي الإسلام والإيمان والطاعة وقد يصلي وقد يصوم، وإذا به عند الحكم وإذا به عند التعليم وإذا به عند التصرف تجده قد أباح الزنا بأنواعه، وأباح الربا بأنواعه، وأباح إلغاء الحدود بأنواعها، وكشف الأعراض، وأخرج النساء عراة في الشوارع، وملأ المدارس والجامعات بغير كتاب الله، وبغير سنة رسول الله، وبغير القرآن الكريم، وبغير مذاهب الأئمة الذين استنبطوا فقههم من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، فكيف بهؤلاء أن يدعوا بأنهم مطيعون مؤمنون؟! ولذلك أكد الله فقال عنهم: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47].
وليس بعد كلام الله كلام، وإذا أرادوا أن يكونوا مؤمنين فليتوبوا إلى الله من كذبهم، ومن عملهم للباطل، وتركهم لكتاب الله وسنته، وليس هذا خاصاً بالمنافقين وإن كانوا سبباً في نزول الآية، بل إن الكفار في عصرنا هم السواد الأعظم ممن ألغوا كتاب الله عملاً وحكماً وآداباً، وألغوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حكماً وتعليماً وآداباً، إلا قلة أبعدت عن الحكم وأبعدت عن القضاء وأبعدت عن التوجيه والتفسير، وهذه القلة مع ذلك لا تزال موضع الأمل وموضع الرجاء، وهي الدليل الناطق لتحقيق قول نبي الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم إلى يوم القيامة).(109/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون)
سيبقى الحق حقاً إلى أبد الآباد، ولن يضره خذلان المنخذلين أو كفر الكافرين، وسيبقى الباطل باطلاً ولو تكاثر المتمسكون به، والدعاة إليه، والعاملون به، فهو هباء منثور، والباطل باطل لا يفيد بل يضر، وهؤلاء من خصائصهم: أنهم إذا دعاهم علماؤهم الصادقون ورثة النبي صلى الله عليه وعلى آله صاروا كما قال الله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48].
أي: إذا دعي هؤلاء من قبل العلماء أو بعض المؤمنين الصالحين إلى الإيمان بالله عملاً لا مجرد القول، أو إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وعلى آله عملاً لا قولاً، وليحكم بينهم كتاب الله، ولتحكم بينهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتكون دعواهم صادقة، كانت النتيجة الإعراض: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48].
ولماذا قال: ليحكم؟ أي: ليحكم الله بكتابه، فهو يرجع لهما معاً: ليحكم الله بكتابه وليحكم رسوله بسنته صلى الله عليه وعلى آله، فإذا فريق منهم وطائفة يعرضون عن ذلك، أي: الحكم بكتاب الله، أو الحكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرضوا عن الفقه والعمل به.
وقول الله صريح ودليل على أن الإسلام سيبقى خالداً إلى يوم القيامة، فإن الكل لم يعرضوا عن كتاب الله، ولم يعرض الكل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يترك الإسلام كل الناس، بل إن دين الله سيبقى وإلى أبد الآباد خذله من خذله وحاربه من حاربه، وسيبقى الحق منصوراً مبصراً، وستبقى هذه المصابيح والسرج التي تنير أوساط المسلمين وتنير بلادهم، فالمسلمون الآن في ضعف وغداً في قوة، وليس شيء يدوم سوى الله، وهكذا علمنا تاريخ الإسلام في أحقاب ودهور مضت، فكم من حروب طاحنة مرت على المسلمين ثم كانت العاقبة لجند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد حاولوا في عصر الصحابة أن يقتل من الصحابة الكثير، وأن يوقف الزحف الإسلامي في فتح العالم، وطال ذلك واستطال وتولاهم منافقون ادعوا الإسلام، وكاد الإسلام يذهب، وأخذ الرومان في الزحف حتى أوشكوا على الوصول إلى العواصم، وإذا بالله ينصر دينه، ويذهب من فعل ذلك، ويزيد الإسلام انتشاراً، ثم بعد وقت تأتي الصليبية فتحتل نفس الأرض المحتلة اليوم ويبقون فيها أكثر من مائة سنة، وتنزل الجيوش إلى ينبع، وتنزل في الحجاز، وتأخذ طريقها إلى المدينة المنورة، وإذا بالله الكريم ينصر دينه، فيسحق أولئك ويرمون في البحار في بطون الحيتان والمقابر، ويعود الإسلام أقوى مما كان، وينتشر أكثر مما كان.
وهكذا في القرن التاسع الهجري يزحف بالإسلام وينتشر ويدخل أقطاراً ما سبق له أن دخلها، فقد فتحوا القسطنطينية التي كانت مكمن النصرانية في الشرق، ويتحقق بذلك ما أخبر به المصطفى عليه الصلاة والسلام في قوله: (رأيت أمتي ملوكاً على الأسرة أو كالملوك على الأسرة، يفتحون مدينة نصفها في البر ونصفها في البحر يقال لها: القسطنطينية)، وتصبح بعد ذلك عاصمة للإسلام سبعمائة عام إلى أن ارتد من ارتد وخزي من خزي وتزندق من تزندق، وأخذ الإسلام يتقلص، فسلط عليهم الاستعمار الأوروبي والاستعمار الأمريكي والاستعمار الروسي، ولكن بعد أن استقل المسلمون لم يحمدوا الله على نعمه، ولم يشكروه على آلائه، وإذا بهم يسلط عليهم الاستعمار اليهودي، وقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83]، وما ذاك إلا عقاب الله تعالى، وكأنها لطمة سكران عندما يشتد سكره لعله يفيق ويعود، وسيعود المسلمون وسيسحق اليهود سحقاً هم وأنصارهم ومن خلفهم من المنافقين الذين يتخللون أوساطنا، أو من اليهودية الدولية أو الصليبية العالمية، وقد قال بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (تقاتلكم يهود فتقاتلونهم فتنتصرون عليهم، حتى يقول الشجر والحجر والمدر: يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله).
ولم يكن هؤلاء يوماً أقوى ولا أشمل ولا أكثر من الصليبيين قبلهم، ثم هم لا يتجاوزون كلاب الصيد اصطادت بهم الصليبية في هذا العصر بعد أن وجدت المسلمين في ضعف وتشتت، وكذلك ما هم فيه من ترك لكتاب الله وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فسلطوا عليهم لا لقوتهم ولكن لشتات المسلمين وضياعهم، وستكون هذا تربية صعبة رادعة، وسيكون العود بعد ذلك لله ولكتاب الله، ولقيادة سيد البشر محمد صلوات الله وسلامه عليه.
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48]، وهكذا يبقى دائماً الذي يعرض ويكذب، فهو فريق من الناس وليس كل الناس، فالإسلام كان وما يزال شمساً مشرقة في رابعة النهار، وقد قال الله بشأن حفظ دستور الأمة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ومن حفظ القرآن حفظ بيانه وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والمستنبطات كذلك من الفقه الإسلامي، واللغة التي بها نزل القرآن، بل إنه يوجد في هذا العصر حركات في جامعات وفي أقطار عربية شرقية تجمع فقه الصحابة، وفقه آل البيت، وفقه التابعين، وقد صدر من ذلك الكثير الطيب بما يعد ميزة لهذا العصر، وإن كان هذا قد حصل في التاريخ، فقد ذكر: أن ابن مفوز من أعلام الأندلس جمع فقه الحسن البصري، وجمع فقه ابن شهاب الزهري، ولكنه ضاع مع ما ضاع من تراث الأندلس وعلوم الأندلس وخزائن الأندلس.(109/6)
تفسير قوله تعالى: (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين)
ثم يقول الله عن هؤلاء المنافقين القدماء والمحدثين: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] يعني: إذا وجدوا في الشريعة ما يتفق مع مصالحهم بادروا إليه مذعنين خاضعين مستسلمين، فتجدهم ملتزمين بما يخص مصالحهم كالمواريث والسياحة والمعاملة وغيرها.
فإذا أتت الحدود بالرجم والصلب وتقطيع الأيدي والأرجل وبالجلد أمام الشهود، إذا بهم يصيحون ويستنكرون ويقولون بوحشية هذه الحدود، ولم يروا إفكهم ودعارتهم وضلالهم، ومن قتل القاتل وظلم الظالم وفسق الفاسق، فلم يفكروا في ذلك، وهكذا هم في كل زمان ومكان، فإنهم إذا دعوا لما يرون فيه مصلحة في الإسلام قبلوه وأذعنوا إليه وخضعوا له، ومن هنا كان المنافقون في العصر النبوي -وما أشبه اليوم بالأمس- إذا علموا أن رسول الله سيحكم لهم ذهبوا إليه وتحاكموا إليه، وإذا رأوا أن الحكم عليهم نفروا منه وحكموا بعضهم، وقد يحكمون اليهود كـ كعب بن الأشرف وأمثاله، وهكذا هم اليوم، فقد ألغوا الشريعة وتركوا منها آثاراً أشبه بآثار الوشم في اليد.(109/7)
تفسير قوله تعالى: (أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا)
ثم قال تعالى عن هؤلاء موبخاً ومقرعاً ومسفهاً: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50].
يقول الله موبخاً على طريقة الاستفهام في لغة العرب وفصاحتها: أفي قلوب هؤلاء مرض؟ فهؤلاء الذين يصنعون ذلك ويقولون: سمعنا وأطعنا ثم لا يصنعون شيئاً، ويؤمنون ببعض الحق في تصورهم ثم يتنكرون له وينقلبون عليه: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [النور:50] أي: أفي قلوبهم كفر؟ إذا قيل في الإنسان: قلبه مريض فيعني: أنه منافق مخادع يظهر خلاف ما يبطن، أهؤلاء مسلمون حقاً أم هم منافقون؟! {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} [النور:50] أي: أم شكوا في ربهم من جديد وعادوا للكفر صراحة؟ أم شكوا في صدق نبيهم؟! أم شكوا في صدق الكتاب المنزل على نبيهم وهو القرآن الكريم؟ {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] أي: أن يجور عليهم الله ورسوله، فيخافون أن يكون في أحكام الله جور عليهم وظلم لهم، وهل هذا يخطر في بال مسلم؟!(109/8)
تفسير سورة النور [51 - 54]
ذكر الله تعالى أن من صفات المؤمنين حقاً أنهم إذا دعوا إلى التحاكم إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم يذعنون لذلك، ويقولون: سمعنا وأطعنا، فمن فعل ذلك كان من المفلحين.
ثم ذكر بعض صفات المنافقين، وذلك أنهم يحلفون بالله لئن أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج للجهاد والقتال فإنهم سيطيعون وسيخرجون، وهم كاذبون في ذلك، فحالهم معروف، ونفاقهم بيّن.(110/1)
تفسير قوله تعالى: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله)
قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
أي: أنه يجب أن تظهر أمارات حب الله ورسوله على زاعمها قولاً وعملاً واعتقاداً؛ ليكون مؤمناً حقاً، فليس الإيمان قولاً يقال باللسان فقط، بل هو قول باللسان، وعقد بالجنان، وعمل بالأركان.
فإذا خلت هذه الصفة من إيمان المؤمن انقلب منافقاً كذاباً مشركاً يزعم الإيمان وما هو بمؤمن، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:51] وهذا الذي يليق بالمؤمنين، وهنا تقدم خبر كان على اسمها وهذا كثير في لغة العرب، والقرآن نزل بلغة العرب فكان البليغ والمعجز والفصيح، وفائدة تقديم الخبر على الاسم هنا الدلالة على الحصر: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:51] أي: إذا طولبوا بتحكيم شرع الله فليس لهم إلا أن يقولوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] أي: سمعنا قول الله وأطعناه، وسمعنا قول رسوله صلى الله عليه وسلم وأطعناه، فهذه هي الصفة الواجبة واللازمة واللائقة بالمؤمن، وأما أن يقول: سمعت وهو عاصٍ فهذا ليس بمؤمن حقاً، وإنما هو ظالم لنفسه بشركه وعصيانه.
قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] إنما كان قول المؤمن الحق إذا دعي إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سمعت وأطعت في المنشط والمكره، فيما يريد وما لا يريد، فيما يعجبه وما لا يعجبه، وليس القرآن وليست السنة وليس الإسلام خاصاً لنزوات الناس، ولا لشهواتهم، ولا لما يتفق مع أغراضهم وألاعيبهم، وإنما جاء بالحق الصراح والعدل المطلق، وإنما جاء لردع الظالم وإعطاء المظلوم حقوقه رضي بذلك الظالم أم لم يرض، بل يجب عليه إن كان مؤمناً حقاً أن يتقبل ذلك بالرضا والسمع والطاعة وإلا كان منافقاً كذاباً.
قال تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51] أي: هذا المفلح الذي حصل على الفلاح والنجاح والرحمة والرضا من الله على دخول الجنان، والبعد عن النار وسعيرها وعذابها، وعن النفاق وباطله، وهؤلاء الذي ينبغي لهم -وهم يقولون إنهم مؤمنون- أن يسارعوا إذا دعوا للحكم بكتاب الله والحكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولوا: سمعنا ووعينا وأدركنا، ويقولوا: أطعنا طاعة مطلقة سواء كان الحكم لنا أو كان علينا، وذلك ما يقول الله فيه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
فالحكم بغير كتاب الله وبغير سنة رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو الظلم والفسق والكفر، وما سوى ذلك فهراء لا طائل تحته، فليس هناك إلا حق وباطل، والحق ما جاء به الإسلام، والباطل ما جاء به غيره، والعدل ما أتى به الإسلام، والظلم ما جاء به غيره من الكتب المنسوخة المحرفة، ومن الأديان الباطلة، ومن الفلسفات التي أدت مهمتها يوماً إن كانت صالحة ثم عادت إلى الظلم وإلى الفسق وإلى العصيان وإلى نشر الفواحش بكل أشكالها وألوانها.(110/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله)
{وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52].
يقول ربنا جل جلاله: من يطع الله فيما أمر به في كتابه ونهى عنه في كتابه، ومن يطع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به في سنته ونهى عنه في سنته، ويخش الله ويخافه على ما سبق منه من معصية ومن كفر ومن ظلم ومن ذنوب، مع توبته ومع استغفاره ومع ندمه على ما فات منه، فيجب أن يخاف أن يكون الله لم يقبل توبته ولن يرحمه بذلك؛ لأنه كان كاذباً، فهو يقول: أنا تائب وهو لا يزال يرتكب ذلك الذنب، والتوبة لا تتم إلا بالعدول عنه، والندم على فعله، والعزم على ألا يعود إليه، فإن حدث بعد هذا شيء فليجدد التوبة وهو يصر على هذه المعاني الثلاثة، ثم بعد ذلك عليه أن يلتزم التقوى، والتقوى: فعل الأوامر وترك النواهي، فالحل ما أحل الله، والحرام ما حرم الله، والتقوى: أن تجعل وقاية بينك وبين الباطل، بينك وبين المعصية، بينك وبين الذنوب، ولا تكون تلك الوقاية إلا بالعمل بكتاب الله والعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، فمن أطاع الله، وأطاع الرسول، وخشي من ذنوبه أن يحاسب عليها، وألا تكون توبته قد قبلت منه، ثم اتقى الله فيما يعمله بعد أن التزم الفعل كما أمر الله ورسوله، أو ترك الفعل كما نهى الله عنه ورسوله، فهؤلاء عندها يكونون مطيعين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، خائفين على أنفسهم من ذنوبهم، متقين فيما يعملونه من أعمالهم، وأولئك هم الفائزون الناجحون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، وهؤلاء هم الفائزون برحمة الله ورضاه، ففازوا بخير الدنيا ونعيم الآخرة.
وهكذا الله جل جلاله يدلنا على الطريق المستقيم لنسلكه، وينفرنا من الطريق المعوج لنبتعد عنه، ويرشدنا إلى طريق أهل الاستقامة وإلى المؤمنين الصادقين لنفعل فعلهم ونسلك طريقهم، وينفرنا من الطريق المعوج طريق الظالمين لأنفسهم، طريق المنافقين والمشركين والكاذبين؛ لنبتعد عنها وننفر منها، هذا إذا كنا نريد الفوز ورضا الله ورحمته حقاً.(110/3)
تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم)
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور:53].
المنافقون الذين تسللوا بين الصحابة من أمثال عبد الله بن أبي بن سلول، والمنافقون الذين تسللوا في عهد الخلفاء الراشدين وانكشفوا بألسنتهم وبمخالفتهم، والمنافقون الذين تتابعوا وإلى عصرنا الذين يدعون إلى إلغاء كتاب الله والحكم به، وإلغاء السنة المطهرة والحكم بها، والتعلق بأحكام الكافرين، والارتباط بحضارة المنافقين، هؤلاء يظهرون الإسلام ويبطنون سواه، فإذا دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم أو ورثته من أئمة الحق -ومنهم العلماء الصادقون- إذا دعوهم للخروج للجهاد والقتال فإنهم يقولون لهم: إذا أمرتمونا بالخروج للقتال وللجهاد سنخرج معكم، ويقسمون بالله على ذلك وهم كاذبون، فأقسموا ولم يفعلوا، فخرجوا وتراجعوا وزلزلوا الجيوش كما كان في غزوة أحد التي زلزلت بالمسلمين، وأوذي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنه كاد يستشهد فيها بعد أن ذهب المنافق ابن أبي وأخذ طوائف معه حتى إذا التقى الجيشان وتقابلت الفئتان نكص على عقبيه، فتزلزل المسلمون وظنوا الهزيمة قد أحيطت بهم، والهزيمة بعد لم تحن ولكنه كان سبباً فيها، فقد قتل بسببه الكثير من المسلمين في هذه المعركة، ولكن الله تدارك المؤمنين بلطفه وبرحمته، وأولئك لم يأخذوا نتيجة ظفرهم ونصرهم من الكفار فعادوا لمكة، وهم الذين ظفروا بالجيش النبوي، ولو دخلوا المدينة ولو ذهبوا يجهزون على جرحى المسلمين لكان الموقف أصعب، وكانت الهزيمة أشد وأكبر.
كان هذا فعل المنافقين، فقد أقسموا بالله جهد أيمانهم، أخذوا يقسمون ويبالغون بجهدهم كله، يقسمون بالله وبصفاته ويؤكدون ويكررون الأقسام والأيمان: {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور:53]، إن أمرتهم بالخروج للجهاد فسيخرجون معك، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: {لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:53] لا تقسموا بالله فقد علمنا طاعتكم وعرفنا حقيقتها فهي طاعة كاذبة مزورة منافقة ملغومة، تقولون هذا بأفواهكم ويكذب ذلك قلوبكم بما كتمتم المسلمين وزعزعتم جيوشهم، وكنتم السبب في هزيمة المسلمين في الكثير من الغزوات، ولكن الله ناصر نبيه صلى الله عليه وسلم وناصر دينه وناصر كل صادق من المؤمنين، صلى الله على نبينا، ورحم الله سلفنا، وثبتنا على دينه.
قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور:53] أي: إن أمرتهم بالخروج للقتال فسيفعلون ذلك، وقد أكدوا ذلك بلام القسم ونون التوكيد الثقيلة، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وقد كشفهم: {قُلْ لا تُقْسِمُوا} [النور:53] أي: قل لهم يا محمد! لا تقسموا {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:53] أي: قد علمنا طاعتكم ونفاقكم وكذبكم، فلن تخرجوا وإن خرجتم، فلن تقاتلوا، وإن قاتلتم تراجعتم واستؤسرتم وكنتم السبب في هزيمة المسلمين كما وقع في غزوة أحد وغيرها: {قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور:53]، إن الله خبير عالم بما تضمره قلوبكم، وتنطوي عليه أجنحتكم، وما تعملون مما لا تقوله ألسنتكم، ومما تقولونه مما لا تعمله جوارحكم، وهؤلاء هم المنافقون.
والله عندما أعلمنا ذلك، وأرشدنا إليه، أعلمنا ذلك لنعلم المنافق من المخلص، ولنحذر المنافق عندما نراه يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول.(110/4)
تفسير قوله تعالى: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)
ثم قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54].
يقول تعالى لمحمد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، أي: أطيعوا الله في كتابه بما أمر به ونهى عنه، وأطيعوا النبي إن كان بين أظهركم، هذا في عصر الصحابة وفي الحياة النبوية، وإن كان بعد ذلك فإلى يوم القيامة: أطيعوا نبيكم ورسولكم بطاعة سنته؛ لتكونوا بذلك مؤمنين صادقين، وفي هذه الحالة: {فَإِنْ تَوَلَّوا} [النور:54] أي: فإن أعرضوا، وصدوا عن الإسلام، ونافقوا، وأظهروا الطاعة لساناً، وأظهروا الإيمان قولاً، وكانوا في حقيقة الأمر ليسوا كذلك: {فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} [النور:54] فإن على الرسول صلى الله عليه وسلم ما كلف وأمر به والذي أمر به: هو البلاغ: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] كما ختم الله الآية الكريمة، فعلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ دين الله مبيناً الحلال والحرام، وأن يأمر بالجهاد، وأن يكشف المنافقين؛ لينفر عنهم المؤمنون، وأن يعرفنا الصادق من الكاذب؛ ليكون الصادق قدوة، وليكون المنافق نفرة ينفر الناس عنه، ويبتعدون عن مجالسه، وعن قبول قوله، وعن ظاهر عمله، فهو منافق كذاب، ففي هذه الحالة يكون قد أدى ما حمل به من رسالة وأمانة.
{وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور:54] أي: عليكم يا هؤلاء! الذين أمرهم الله بطاعته وبطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ما حملتم، والذي حملنا وأمرنا به: هو أن نطيع الله في قوله، وأن نطيع الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله، فما حلله الله حللناه، وما حرمه حرمناه، لنكون مؤمنين صادقين ملتزمين بكل ما ورد في كتاب الله من الأركان الخمسة وواجباتها وآدابها وسننها، وهكذا في بقية الأعمال من الصدق في القول، والإحسان للمؤمن، وجهاد الكافر، وعمل ذلك ما دمنا أحياء حتى لقاء الله.
فالذي حملناه الطاعة، وتصديق الرسالة، وقبول ما جاء في كتاب الله على أنه من الله حقاً، وقبول ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه النبي الصادق المصدوق المبلغ عن الله، والمعصوم صلى الله عليه وعلى آله، والذي حمل نبينا هو تبليغ الرسالة، والذي حملناه طاعته، والتزام هذه الرسالة، والقيام عليها مدة حياتنا إلى أن نلقى الله، وأن نأمر بها غيرنا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فهذه رسالة بلغنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله جل جلاله، فعلى رسولنا البلاغ، وعليه كذلك أن يعمل بالرسالة التي أرسل بها، فهو رسول إلى نفسه وهو أول المسلمين، وقد كان يصلي كما نصلي، ويصوم كما نصوم، ويزكي كما نزكي، ويحج كما نحج، بل كان أول مصل وأول حاج وأول مزك وأول صائم، بل إنه كان يتنفل فوق هذه الفرائض، فقد كان يتهجد حتى تتورم قدماه صلى الله عليه وسلم، وكان يجوع ويبتعد ويتزهد في الطعام حتى يربط الحجرة على بطنه الشريف، وكان صلى الله عليه وسلم يعمر جميع وقته بعبادة الله من أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وصلاة، وزكاة، وتهجد، وتدريس، وتعليم، وجهاد، فقد جاهد بسيفه، وجاهد بلسانه، وجاهد بحاله، وجاهد بمقاله.
وكان عليه الصلاة والسلام المثل الإنساني الكامل للمسلم، ولذلك فالله تعالى يقول لنا عنه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، فهو أسوتنا وهو قدوتنا وهو نبينا صلى الله عليه وسلم، نهتدي بهديه، ونعمل بقوله، ونطيع أمره، ونفعل فعله، ومن هنا عندما كان يقول لنا عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة)، وقال عن أمته: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: ما هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي).
ولذلك الاطلاع على السيرة النبوية والبحث عن ظواهرها وبواطنها وحفظها ووعيها واجب على كل مسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان القدوة في فعله، وكان القدوة في قوله، وما السنة إلا قول وفعل وإقرار، وهي السيرة النبوية كلها، فكل ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم يعتبر شريعة، وكل ما يقوله شريعة، وكل ما يقره شريعة، فوجب إذاً على كل إنسان في الأرض أن يحكم بها، وأن يعمل لها، وإلا كان كافراً أو منافقاً أو عاصياً، ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام يصف هذه الفرقة التي هي على الحق: بأنها التي تأتسي به، وتعمل بعمله، وتجعله القدوة وتجعله الأسوة صلى الله عليه وعلى آله، وقل مثل ذلك عن أصحابه رضوان الله عليهم: السابقين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، فهؤلاء رضي الله عنهم: فرضي قولهم، ورضي عملهم، كما رضي من اتبعهم في أعمالهم وفي أقوالهم، والذين اتبعوهم من جاء بعدهم وإلى يوم القيامة، وما سوى ذلك فباطل وضلال، ومهما زعم من زعم أن ذلك هو الإسلام وذلك هو الدين وذلك هو الرسالة إذا لم يكن ذلك حسب الشريعة المحمدية والقدوة المحمدية وأسوة الصحابة رضوان الله عليهم، مهما زعم الزاعم وقال القائل فإنه يكون كذباً ونفاقاً.
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، إذاً: على الرسول صلى الله عليه وسلم ما حمله الله من أمانة، وأمره بها، وما هذا الذي حمله إلا الرسالة والنبوة، فهو الذي لا ينطق عن الهوى، فما هو إلا وحي يوحى.
{وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور:54] أي: وعليكم الطاعة في كل ذلك، وضابط ذلك ورابطه: ما قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا)، ففعل الحرام يجب أن يترك كله، ولا تقل: سأترك هذه دون هذه، فلا يحتاج منك ترك الحرام أكثر من إرادة ومن عزيمة ومن قوة يقين وإيمان، وأما الفعل فقدرة الإنسان لا تسعه كله، فقد أمرنا بالصلاة قياماً لكن من مرض فليصل جالساً، فإن لم يستطع فليصل ممدداً، وأمرنا بالوضوء بالماء فمن لم يجده أو عجز عنه فليتيمم بالصعيد الطيب، وأمرنا بالصيام في شهر رمضان فمن كان مسافراً أو كان مريضاً، ومن كانت حائضة أو نفساء فليقضوا إذا زال هذا العرض.
وهكذا أمرنا الله تعالى بالأمر عزيمة ثم رخص لنا للأعذار وللضرورات، والضرورات تبيح المحظورات، وهذا أصل من أصول الشريعة.
{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54] أي: إن أطعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره، وأطعتم نهيه: اهتديتم إلى الطريق الحق، فصرتم الموحدين المؤمنين حقاً، فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الربح وهي الفلاح وهي الفوز، ومن حاد عنها فقد حاد عن الإيمان وحاد عن الإسلام، ويوشك أن يكون منافقاً أو كافراً، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54] فعلق الهداية على الطاعة، قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] أي: ليس على الرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا أن يبلغ كل الناس في المشارق والمغارب، ففي حياته بما سمعوه منه، أو سمعوه عمن سمع منه، وبعد موته لمن قرأ حديثه وتلا سنته، أو سمع من ورثة الأنبياء وهم علماء الشريعة، فكل ذلك يوجب الطاعة على كل إنسان، فهو مرسل إلى الأبيض والأحمر والأسود، إلى المشارق والمغارب، فلا نبي بعده، وقد انفردت ديانته بأنها عالمية، فهي مرسلة لكل الخلق، وليست الرسالات السابقة إلا رسالات قومية محلية، فعيسى كان نبياً لبني إسرائيل، وموسى كان نبياً لبني إسرائيل، ولم يؤمر أحد بالإيمان به من غير بني إسرائيل، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كان الأنبياء قبلي يرسلون إلى أقوامهم خاصة، وبعثت إلى الناس عامة)، وهذا من الخصائص المحمدية.
وفي الإنجيل عن عيسى بأنه قال لهم: إنما أرسلت إلى خراف بني إسرائيل فلم يرسل لعرب، وإنما أرسل لبني إسرائيل فقط.
والقرآن أكد هذا وهو المهيمن على الكتب السابقة فقال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف:6]، وتقديم المعمول على العامل في لغة العرب يدل على الحصر، أي: إنما كانت رسالته لبني إسرائيل خاصة وليست لغيرهم، وهذا ما صرح به الإنجيل وأكده من البداية إلى النهاية، وقد بقيت فيه دلالات أكدها القرآن المهيمن عليه.
إذاً: فعلى رسولنا البلاغ المبين البين الواضح، وقد بين صلى الله عليه وسلم رسالته ووضحها، فقد كان يقول الكلمة ثلاثاً لتفهم عنه، وكان ربما يقول القول الواحد في عدة مجالس، فإننا نجد الكثير من السنة نطق بها بألفاظ مختلفة، وليس ذلك من تصرف الرواة، ولكن نبي الله عليه الصلاة والسلام كان إذا قال القول -وهو سيد العرب فصاحة وقد أعطي جوامع الكلم- كان يقول القول في المرة الأولى بلفظ، وفي الثانية بلفظ، وفي الثالثة بلفظ، لكن المؤدى واحد؛ ليفهم عنه، وكان كثيراً ما يقول: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع)، وقال: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن سمع منكم).
وهكذا انتشر الإسلام، فالصحابة سمعوا من نبي الله عليه الصلاة والسلام، وبعد ذهاب النبي للرفيق الأعلى صلوات الله وسلامه عليه قاموا بنشر رسالته وتبيينها بالسيف والقلم، وخرجوا بها عن جزيرة العرب فنشروها في مختلف أصقاع الأرض، وهكذا ذهبوا إلى ربهم راضين مرضيين، فجاء(110/5)
تفسير سورة النور [55]
لقد وعد الله تعالى عباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالاستخلاف في الأرض كما استخلف الصالحين من الأمم السابقة، ووعدهم بأن يمكِّن لهم دينهم المرتضى لهم، وأن يبدلهم بعد الخوف أمناً، وذلك بشرط: أن يعبدوا الله تعالى وحده لا شريك له.(111/1)
تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات)
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
هذه الآية من معجزات القرآن، وكثيراً ما قلت وأقول: لقد آمن الصحب بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم على معجزات عاصروها ورأوها وسمعوها شهوداً وحضوراً، وآمنا نحن بها إيماناً وتصديقاً ولم ندركها، ولكن القرآن الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه معجزته الخالدة الباقية هو معجزة بعمومه؛ إذ تحدى الله البشر على أن يأتوا بسورة مثله، أو بسورة مثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، ومضى على هذا التحدي 1400 سنة وإلى الآن وهم عاجزون، وسيبقون عاجزين إلى يوم القيامة على أن يأتوا بسورة مثله.
وهذا سيد البشر صلى الله عليه وعلى آله وهو فصيح العرب وبليغهم قد أوتي جوامع الكلم، ومع ذلك عندما تقرأ كلامه في سنته وكلام الله في كتابه تجد بين قول النبي عليه الصلاة والسلام وقول الله من الإعجاز ومن البلاغة ومن الفصاحة ما لا يصل إليه القول النبوي ولا لقريب منه، فبينه وبينه ما بين الخالق والمخلوق.
والعجب أن الكافرين يقولون عن نبينا صلى الله عليه وسلم: إنه الذي اخترع القرآن ونطقه، مع أنه كلام الله جاء بالإعجاز، وإذا قال كلامه الذي من نفسه نزل كلامه عن الإعجاز بمراحل ودرجات كبيرة، فليس هناك أي تشابه لا في البلاغة ولا في الفصاحة ولا في الإعجاز بين القول الإلهي والقول النبوي، فالقول النبوي تسمعه فتجده كلاماً فصيحاً يقاربه وقد يشبهه غيره من الكلام الفصيح، ولكن كلام الله لن يكون ذلك ولو في أصغر السور، {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فتقرؤها وتشعر بالإعجاز في لفظها، والإعجاز في سبكها، إعجاز في معناها، ولن يستطيع إنسان أن يأتي بمثل ذلك، وقد أتى بعض الكفرة ببعض الترهات كـ مسيلمة الكذاب وغيره، ونسبوا لبعض الشعراء كذلك، وهؤلاء حاولوا أن يقلدوا القرآن ويأتوا بمثله فأتوا بخزعبلات تحس النفس بركاكة ألفاظها، فهي لا تكاد تفهم، بل إنها تضحك الثكلى التي فقدت ولدها، ومن هنا كان الإعجاز.
وهذه الآية هي إحدى المعجزات الخاصة بنفسها، القائمة بذاتها، مضافة إلى المعجزة العامة في كتاب الله، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55] فالله وعد ووعده الحق، ومن أوفى بعهده من الله؟! وعد المؤمنين منكم -أيها الناس الذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات- أي: آمنوا بالله قولاً وعملاً، وما الصالحات إلا الطاعة، وما الصالحات إلا القيام بالأركان الخمسة، وما الصالحات إلا التقوى، فعل الصالحات وترك المنكرات، وعدهم الله ليستخلفنهم في الأرض، أي: يجعلهم خلفاء ويحكمهم في الأرض، ويصبحون أئمتها المحكمين فيها، يقتلون بأمر الله، ويحيون بأمر الله، وينشرون بين الناس الحكم والعدل، كلمتهم الكلمة، وأمرهم الأمر، بأيديهم مقاليد الأرض.
هذه الآية مدنية كما قلنا في بدايتها، والنبي عليه الصلاة والسلام قد تحمل الشدائد في مكة، ثم تحمل الشدائد في المدينة، ولكن في المدينة أذن له بالجهاد والكفاح والقتال، فكان يوم له ويوم عليه، وإن كانت العاقبة له وللمؤمنين، فالله يقول هنا له وللمؤمنين عموماً، وهو أول المؤمنين صلوات الله عليه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55] اللام: لام القسم، أو اللام الموطئة للقسم، كأن الله يقول: بذاتي العلية لأجعلنكم خلفائي في الأرض، وأكد القسم بنون التوكيد الثقيلة، على أن تكونوا خلفاء الله في القيام بما يأمر الله به وينهى عنه، {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26]، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، وهم كانوا خلفاء بأن يحيوا بالله، ويميتوا بالله، وأن يعطوا العطاء من مال الله، فيعطون هذا ويفقرون هذا، ويأخذون مال الكافر ويغنمونه في الحروب والمعارك ويعطونه للفقراء المسلمين المجاهدين.(111/2)
نور الهداية يسطع بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم
لنرى تحقيق هذه الآية، لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام في غاية ما يكون من الضنك في العيش في مكة والمدينة معاً، فكان في مكة لا يستطيع أن يأمر بما يريد، ولا أن ينهى عما يريد، بل كانوا يتعرضون له بالأذى وبالشتائم وبقتل أصحابه وباضطهادهم إلى أن اضطروه إلى ترك مكة، فهاجر إلى المدينة وإذا بيهودها يقومون متكاتفين متآمرين على إيذائه وعلى شتمه وعلى الصد عنه، وكان معهم المنافقون من الأوس والخزرج، ولكن الله تعالى نصره بالأنصار من الأوس والخزرج، ولكن ماذا كان بعد ذلك، لم يمت النبي عليه الصلاة والسلام بعد 23 سنة منها 12 سنة في مكة، و11 سنة في المدينة المنورة، ما انتهت هذه السنوات حتى كانت جزيرة العرب جميعها تحت سلطان محمد وسيادة محمد وأمر ونهي محمد صلوات الله وسلامه عليه، فكان الحاكم عن الله يأمر وينهى، وكان رئيس الدولة، ولا نقول عنه رئيس دولة؛ لأن الإنسان يلقب بأشرف ألقابه، وأشرف ألقاب محمد: نبي الله، وقد أمرنا الله تعالى عنه بقوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]، نقول للبعض: ملك، ونقول: رئيس دولة، ونبينا كان أعظم من ملك، فكان ملكاً، وهو رئيس دولة، ولكن الملوك تقبل قدميه، والرؤساء يحملون أحذيته إن قبلهم، لا كما تسمعون في بعض القصص أن الملوك لم تكن تهابه، فهذه ليست صفة من يعرف النبي ويعرف حياته ويعرف مقامه صلى الله عليه وسلم.
لقد كانت ترتعد فرائص أصحابه عندما يقف أمامهم، بل كانت ترتعد فرائص علوج الروم إذا قيل لهم: هذا عمر بن الخطاب مثلاً، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم! ولكن الله تعالى حفظ ذلك؛ لأنه لو أرعب كل من يجلس بين يديه لعدمت الفائدة من اجتماعهم به والاستفادة من كلامه وأخلاقه، ولكن النبي كان لطيفاً وديعاً، فكان عليه الصلاة والسلام يألف ويؤلف، وكان كما قال الله فيه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، فكان عليه الصلاة والسلام مع أصحابه يزورهم ويتردد عليهم، ويبدؤهم بالسلام، ويحضر جنائزهم، ويسمع كلام المرأة وكلام الخادم، فيقف معها في الشارع والطريق زمناً، وكان صلى الله عليه وسلم المثال العالي في الخلق البشري، فهو بشر ليس بملك، ولكن أخلاقه صلى الله عليه وسلم كانت الفذة الفريدة، فما مات عليه الصلاة والسلام حتى كانت جزيرة العرب جميعها تحت يديه: يقتل من يقتل، ويحيي من يحيي بإذن الله، فتصرف في كنوزها وفي أموالها، وولى عليها المناصب من القواد والمجاهدين والقضاة والسفراء المتنقلين، فكان المطاع الذي لا يخالف، وكان إذا خولف خاصة فيما يتعلق بنبوءته ومقامه كان عليه الصلاة والسلام في هذه الحالة يكون صارماً، فقد قتل المنافقين، واغتال الكثير من اليهود، والكثير من الأعداء.
وقد ألف ابن تيمية كتاباً من أعظم كتبه على الإطلاق وهو (الصارم المسلول على شاتم الرسول) ذكر فيه من صفات النبي عليه الصلاة والسلام، والمقامات العلية، والهيبة التي أكرمه الله بها، واللطف في التعامل، وكل المعاني السامية التي انفرد بها صلى الله عليه وسلم، فقد كان في بيته المثال العالي للزوج وللأب وللجد، وكان لأصحابه الصاحب الصافي الطيب، يقبل الهدية ويجازي بأعظم منها، ويستجيب لدعوة العبد والفقير والمسكين والمرأة والرجل صلوات الله وسلامه عليه، فجزاه الله على ذلك بأن ملكه جزيرة العرب التي لم تخضع قبله لا لفرس ولا لروم، فقد كان العرب يتقاتلون على بصلة أربعين سنة، وحروبهم كانت دائمة، إلى أن جاء النبي عليه الصلاة والسلام فوحد كلمتهم، وجعلهم أمة المستقبل وسادة الأرض وحكامها.
قال ابن تيمية: كانت العرب أرضاً خصبة تحتاج إلى الزرع والزارع، فكان الزرع الإسلام وكان الزارع محمداً عليه الصلاة والسلام، فقد نشر دين الله خلال نصف قرن في الأرض كلها ما بين الصين إلى بلاد فرنسا إلى عمق أوروبا وما بين ذلك جنوباً وشمالاً، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما مات حتى كانت جزيرة العرب كلها تحت سلطانه، ثم ولي أبو بكر فـ عمر فـ عثمان فـ علي، ولم تمض سنوات حتى كان العرب الذين يتقاتلون على أقل شيء، كحروب داحس والغبراء، وحروب كليب التي دامت أربعين سنة؛ لأن أحد العرب ضرب كلباً وكان محمياً لواحد من الجبابرة الطغاة من نسل العرب، فهؤلاء أصبحت قوتهم وذكاؤهم وشجاعتهم ورجولتهم للإسلام، فنشروا الإسلام في مختلف أقطار الأرض.
وكان محمد رسول الله إلى العرب والناس كافة، وكان العرب رسل رسول الله إلى الناس كافة، وما كاد يذهب للرفيق الأعلى حتى جاء أبو بكر فأدب المرتدين وغيرهم من مانعي الزكاة وخلال سنتين، وإذا به يسوق جيوشه خلال سنتين، ففتح بعض أرض الشام وبعض أرض العراق، ثم جاء عمر وكان قد هيأ له أبو بكر الدولة، وإذا بـ عمر يفتح الشام والعراق ومصر وفارس والمغرب، وإذا بالإسلام ينتشر، ثم جاء عثمان وإذا بالإسلام في أيامه يدخل المغرب ويتجاوزه إلى أوروبا فيفتح الأندلس ويفتح كثيراً من الأرض إلى أن يصل إلى حدود جبال برينيه في فرنسا، ثم جاء علي وإذا به يعاقب البغاة، وعن علي عرفت أحكام البغاة، وإلا ففي حياة رسول الله لا يتصور وجود بغاة؛ لأن الذي سيبغي على نبينا يكون مرتداً، ولذلك قال علماؤنا: علي بن أبي طالب أكثر من قاسى من الشدائد، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الحديث المتواتر عنه وعن عمار الذي قتل في جيشه: (ويح عمار! تقتله الفئة الباغية - سماها الباغية - يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)، وكان قد أعلن أحكام البغاة وما يجب في حقهم وما يجوز، فما كان يأسر منهم، ولا يأكل أموالهم غنائم، وإنما كان يأخذ السلاح ويؤدبهم: فمن قتل قتل، ومن جرح جرح، من أخذ مالاً من غيره أخذ منه، وأخضعهم إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وهكذا جعل الله تعالى المؤمنين خلفاءه في الأرض، وهذا الحديث يؤكد خلافة صادقة للخلفاء الراشدين، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تصبح ملكاً عاضاً)، يقول سفينة مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يروي الحديث ورفع يده وقال: سنتا أبي بكر، ثم عشر سنوات عمر، واثنتا عشرة سنة لـ عثمان، وست سنوات لـ علي، وليست ستاً كاملة، بل كانت خمس سنوات وستة أشهر، والستة الأشهر التي كان فيها الحسن، فهي ثلاثون سنة من الخلافة الراشدة، وبذلك تتبين أحقية الخلفاء الراشدين في تسميتهم: خلفاء الحق، والخلفاء الذين أوصى بهم رسول الله إشارة، وهم أوصى بعضهم ببعض، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يؤيد هذا الدين على يد أقوام ليسوا منا، يكونون خلف الجيوش النبوية)، وكما قال: (لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ما حكمه اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش).
إذاً: فالخلفاء الراشدون ليسوا فقط الذين كانوا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فقد ذكر علماؤنا أن الخلافة نوعان: خلافة نبوة وخلافة ملك، فالخلفاء الراشدون كانوا خلفاء نبوة، فقد لقب أبو بكر بخليفة النبي، وعمر بأمير المؤمنين، وهو خليفة النبي، وعثمان كذلك، وعلي كذلك، والحسن كذلك، ولكن النبي يحصر الخلافة الراشدة في اثني عشر خليفة كلهم من قريش، وعلماؤنا ضموا إلى هؤلاء عمر بن عبد العزيز من بني أمية، وهو جدير بذلك، واختلفوا في اثنين من بني العباس: المهدي والظاهر، والمغاربة يزيدون إدريس بن عبد الله بن الحسن، ومثنى بن الحسن بن علي وفاطمة، وولده إدريس، فببركة هؤلاء عاش المغرب مسلماً إلى اليوم، وإلا فعندما ضاعت الأندلس وأجبروها على الردة والنصرانية احتلوا شواطئ المغرب لمدة مائتي عام، وكانوا ينتظرون الأقليات من غير المسلمين ليجهزوا على المسلمين، ولكن الأدارسة سنوا في دولتهم سنة الخلفاء الراشدين هنا، والنبي وهو يموت عليه الصلاة والسلام يوصي: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) فلا تصلح قبلتان في أرض، ولا يصلح دينان في أرض، وبهذا القول عم ذلك الكل.(111/3)
تفسير سورة النور [55 - 57]
لقد وعد المؤمنين بالاستخلاف في الأرض والتمكين إن هم عبدوا الله تعالى ولم يشركوا به شيئاً، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وسيبدل خوفهم أمناً، وقد حدث هذا في تلك العصور عندما كان أصحابها على هذه الصفات والشرائط، فلما بدل من بعدهم بدل الله عليهم، فسلط عليهم أعداءهم، ورماهم بالخوف والذل.(112/1)
تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات)
قال الله جل وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
هذه الآية الكريمة تعتبر من آيات الله المعجزات التي أخبر الله وبشر بها نبيه والصحابة والمؤمنين بأن ينصرهم ويملكهم الأرض، ويجعلهم خلفاء فيها، ويزيل خوفهم، وقد كان ذلك كله بعد ما كان في مكة من الخوف والاضطهاد والظلم والإيذاء وسفك الدماء والصد عن الله والإسلام.
فالله وعد ووعده الحق، وعد الذين آمنوا من الناس وعملوا الصالحات، وكان إيمانهم لساناً وجناناً وأركاناً، فيفعلون ما يقولون، وعدهم وأقسم بذاته العلية (ليستخلفنهم) اللام موطئة للقسم، أي: سيجعلهم خلفاء يحيون بإذنه، ويقتلون بإذنه، ويتصرفون في العباد بما يروه صالحاً عدلاً حقاً، وهكذا كان سلفنا الصالح، فالنبي عليه الصلاة والسلام بعد سنين كانت كلها ظلم واضطهاد، إذا بالله الكريم لم يذهب بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حتى مكنه من رقاب العباد في جزيرة العرب، فأصبح الحاكم والقاضي والموجه.(112/2)
استخلاف الصحابة وتمكينهم بعد نبيهم
وما كاد ليذهب للرفيق حتى مكن أصحابه الخلفاء الراشدين، ففتحوا البلاد والعباد، وزادوا على الجزيرة العربية أرض الشام والعراق وفارس ومصر وغيرها، فكانوا المتحكمين والآمرين والناهين في العباد، واستخلفهم الله في الأرض وجعلهم الملوك والقادة، والمعلمين والموجهين، جعلهم يأمرون بأمره وينهون بنهيه، ويتصرفون في عباده بما يرونه الحق، وقد كان كل ذلك.
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] كما استخلف موسى وهارون، وكما استخلف نوحاً وإبراهيم عليهم وعلى نبينا السلام، وكما حكم الإسكندر المقدوني دولتي فارس والروم، وغيرهم ممن سبقوا وحكموا، فكان بعضهم يحكم بالعدل كالأنبياء وخلفائهم، وكان بعضهم يحكم بالباطل كمن كفر من الروم والفرس وأشكالهم وأنواعهم.
ثم قال تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55] وهكذا مكن الله للخلفاء الراشدين وللخلفاء بعدهم، مكن لهم دينهم فنشروه في مشارق الأرض ومغاربها، فأصبحت المآذن وبيوت الله والمدائن والقرى والأصقاع والأقاليم تشهد شهادة الحق: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وكلهم يدينون بالإسلام دين الله، دين الحق، دين خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
فأصبح الإسلام متيناً ثابتاً راسخاً رسوخ الجبال الرواسي في الأرض، نشروه مشارق الأرض ومغاربها، وإلى يوم الناس هذا لا تكاد ترى رقعة في الأرض ولا مدينة كبيرة ولا صغيرة إلا وفيها جماعة من المسلمين، يعلنون شهادة الحق ويدينون بها، ويشهدون لنبي الله وخاتم رسله بالرسالة والنبوة الإمامة على الخلق كلهم.
قال تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ} [النور:55] أقسم الله بذلك، واللام هي الموطئة للقسم، والتمكين: هو الثبات والنصر والتأييد.(112/3)
الدين الذي ارتضاه الله لعباده
ثم قال تعالى: {دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55] فالدين الذي ارتضى لهم هو دين الإسلام، دين محمد عليه الصلاة والسلام، الذي لا يرتضى سواه ولا يقبل غيره، الدين الذي نسخ الأديان السابقة، وقد كانت قبل ذلك ثم بدلت وغيرت وحرفت، هذا هو الدين الذي لا يرتضى غيره.
ومنذ أن ظهر نبينا في بطاح هذه الديار المقدسة، وقال: (إني رسول الله إليكم جميعاً) لا يسع أحداً لا جناً ولا إنساً إلا أن يدين به، ويعمل بمقتضاه، وإلا كان كافراً من أهل النار.
فهذا الدين هو الذي وعد الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وأتباعه بأنه سينصرهم به، وينشره ويجعله المكين في الأرض، فهو المعمول به لا دين غيره، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، وقال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فلا دين غيره من الأديان السماوية أو من الأديان التي اخترعت وافتريت يقبله الله جل جلاله، إنما يقبل الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام.(112/4)
نزول الأمن بعد الخوف
ثم قال تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] فكانوا يقولون: يا رسول الله! إلى متى ونحن خائفون؟ إلى متى ونحن مسلحون؟ لا نكاد نلقي السلاح لا ليلاً ولا نهاراً، لا سفراً ولا حضراً، إلى متى ونحن غير آمنين على الحياة والأعراض والأموال ولا على دوام ديننا، وإذا بالله الكريم يتولى الجواب عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وينزل هذه الآية الكريمة في هذه السورة الشريفة سورة النور، فيعدهم بنصرهم واستخلافهم في الأرض، حكاماً ودولاً، وأنه سيمكن لهم دينهم الذي رضيه لهم، ويبق الدين الحق وحده، وكل الأديان السابقة تحت الجزية، وتحت حكم وتصرف الإسلام وأهله، ووعدهم كذلك أنه سيبدلهم بعد خوفهم أمناً، ويعيشون آمنين في أوطانهم لا يخافون إلا الله، فلا سرقة ولا اغتيال، ولا من يحاول أن يسيطر على بلادهم ويتمكن منها.
أسلم عدي بن حاتم سيد قبائل طيء فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (يوشك يا عدي! أن ترى المرأة تخرج من الحيرة إلى مكة حاجة بيت الله الحرام، فلا تخاف إلا الذئب) والحيرة بلدة في العراق، (ويوشكن يا عدي! إن مد الله في حياتك أن تفتح كنوز كسرى، فقال له عدي: كسرى بن هرمزان؟! قال: نعم كسرى بن هرمزان، وليوشك أن تخرج بملء يدك ذهباً لتتصدق به على الفقراء والمساكين فلا تجد من يقبله منك).
قال عدي: وقد رأيت بعيني المسلمات يخرجن ليس معهن إلا الله، من الحيرة إلى مكة وفي جميع ديار الإسلام التي فتحت على المسلمين، لا تخاف أحداً من الناس، فتأتي إلى الحج وإلى العمرة، وتتجول في هذه الصحاري الواسعة، وتعود لبيتها ولأهلها فلا يمسها سوء ولا ينالها رعب، وقد شاركت في الاستيلاء على فارس وأخذ كنوز كسرى بن هرمز، وحكمت فيها مع المسلمين، وإن مدت بي حياة فسيكون الثالث مما أخبرني به النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن يخرج أحدنا بالذهب في يده يمده للفقراء والمساكين فلا يجد فقيراً ولا محتاجاً، فقد استغنى المسلمون جميعاً فلم يبق فيهم فقير ولا مسكين.
وهكذا كان في الصدر الأول، كان هذا في أيام عمر بن عبد العزيز، وغيره، في أيام عز الإسلام في مختلف الأقطار والأصقاع، في المشارق والمغارب، ولم يغير ذلك، ولم يعد الخوف بعد الأمن، والفقر بعد الغنى، والذل بعد العز، إلا بعد أن غير الناس ما في نفوسهم، فعصوا وخالفوا، فقتلوا عثمان وعلياً، وتمردوا على خلافة الحق فأغرقت الدماء أنهاراً، وإذا بالله الكريم يعاقبهم ويخيفهم ويفقرهم، ويستولي أعداؤهم على أرضهم، فكان ما كان من تلك الحروب الطاحنة، والصليبين والتتر والاستعمار الأخير، ومن البلاء الذي لا نزال نراه إلى اليوم، حتى إن ألعن الخلق وأشدهم غضباً -إخوان القردة والخنازير اليهود- تسلطهم على المسلمين لا يخفى، فيستبيحون دماءهم، وينتهكون أعراضهم، ويأكلون أموالهم، ويستحلون أرضهم، وهم مع ذلك لم ينتبهوا لما ابتلوا بسببه وعوقبوا؛ لمخالفتهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لذا قال الله جل وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:55] فلا يكفي أن يزعم الزاعم منا أنه مسلم، وقد وعد الله المسلمين بالنصر، ولكنهم لا يعملون بالإسلام، فإذا دعوا لحكم الله أبوا وصدوا، وقد قال الله عن أمثال هؤلاء: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] فلم يبق من الإسلام إلا رسمه عند كثير من الناس إلا من رحم ربك، فعاقب الله عباده عندما تركوا دينه، ونشروا الفواحش والمعاصي على كل أشكالها، وغيروا الإمامة المحمدية، وقيادة الخلفاء الراشدين، إلى إمامة اليهود والنصارى، وتركوا كتاب الله وراءهم ظهرياً، ولن يرفع الله ذلك حتى يعود المؤمنون لدينهم، لكتاب ربهم وسنة نبينهم.
وهكذا علمنا التاريخ والواقع، فعندما حدثت الفتن بين الصحابة لم يرفع الله عنهم البلاء والدم والفقر إلا بعد أن تابوا إلى الله وأنابوا، ثم بعد ذلك غير الناس وبدلوا؛ فسلط عليهم الصليبيون، فتابوا وأنابوا فرفع الله ذلك عنهم، ثم بعد ذلك مد لهم الملك والسلطان، وأعطاهم ما عودهم من خير وعز وغنىً، ولكنهم بعد ذلك كما قال الله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، وما أنذر الله به قد حدث مرات تلو مرات في التاريخ، فسلط على المسلمين بعد الصليبين التتر، فاستباحوا ديار المسلمين، وشربوا مياه أنهارهم، واسقطوا الدور عليهم، وقتلوهم إلى أن جرت أنهر وبحار دماً عبيطاً من دماء المسلمين، ثم تابوا وأنابوا وتضرعوا إلى الله أن يرفع ما بهم من ذلة وهوان، فنصرهم وعاد بأفضاله عليهم، ففتحوا القسطنطينية، وأصبحت تسمى دار الإسلام، تسمى: إسلام بول، أي: مدينة الإسلام، وهكذا انتصر الإسلام إلى أراض أخرى لم تكن دخلت في الإسلام ولا في عصر الصحابة، ولا في عصر التابعين، وهكذا انتشر الدين وامتد.(112/5)
التغيير سبب تسلط الأعداء
ولكنهم بعد ذلك أيضاً بدلوا وغيروا وعصوا وخالفوا فسلط الله عليهم الاستعمار الأوروبي، فلم يتوبوا فسلط عليهم الاحتلال اليهودي، وهانحن نعيش اليوم في بلاء ومحنة وفتنة، ولن ترفع حتى نعاود ديننا، وإذا لم نفعل يوشك أن يغير الله هذه الأجيال بأجيال غيرها أصلح منها.
وقد قال ربنا جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].
فهؤلاء -أي: الصليبيون وأذنابهم- لم يأتوا المسلمين إلا لإذلالهم، وسفك دمائهم، وانتهاك أعراضهم، ونحن نتفرج عليهم، ونحن كأن الأمر لا يعنينا، مزقنا ديار الإسلام إلى وطنيات ضيقة، وقوميات فاجرة، ووثنيات ما أنزل الله بها من سلطان.
وهكذا وعد الله المؤمنين الصادقين بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
أي: يعيشون عابدين لله موحدين له، ممتثلين لكتابه ولسنة نبيه، فكانوا السادة وكانوا القادة قروناً بعدها قرون، حتى بدلوا وغيروا، وهو ما قاله الله في ختام الآية: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] فمن جحد النعمة، وخرج على الدين الحق، واستبدل النعمة بالنكران وبالجحود، وخالف أمر الله وأمر نبيه المعصوم صلى الله عليه وسلم، فالأمر كما قال الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فغيرنا ما بأنفسنا فغير الله عنا نعمه، فنرجو الله أن يرفع عنا ذلك، ويعيدنا لدينه وينصرنا بنصره، ويطلقنا لطاعته، وللجري وراء من يجدد أمر هذا الدين بفضل الله وكرمه.
وهذا كله قد حدث، كان أيام الخلفاء الراشدين، وأيام الدول الأموية والعباسية والعثمانية، كانت الكثير من أصقاع الأرض مغارب ومشارق تحت حكمهم، ولكن عندما بدلوا ابتداءً من قتل عثمان بن عفان ذي النورين صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى قتل علي بن أبي طالب الخليفة الراشد الرابع رضي الله عنه، ذل الإسلام بذلهم، وهان المسلمون على الناس، وهكذا دواليك يغيرون فيغير الله عليهم، ويتوبون فيتوب الله عليهم.
ونعيش نحن اليوم ومن زمن طويل في أوضاع تزداد سوءاً، فيعيش المسلمون في ذل وهوان على غناهم وترفهم، وعلى سلاحهم وكثرتهم، ولكنهم غثاء كغثاء السيل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قيل: يا رسول الله! أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل)، فمن كفر بعد ذلك، ومن كفر بعد هذه النعمة وبعد هذا العز والشرف، وبعد هذه الخلافة الإلهية التي كانت بفضل الله وبنصره، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] أي: العصاة المخالفون الذين خرجوا عن الحق، وخرجوا عن الدين؛ فلم يشكروا النعمة، وقديماً قيل: من لم يشكر النعمة سلبها، وقد قال الله في ذلك جل جلاله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، والعذاب الشديد هو سلب تلك النعمة، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء.(112/6)
تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول)
قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56].
دلنا الله على الخير الذي قاله في أول الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:55] فكان من هذه الصالحات إقامة الصلاة، والإتيان بالفروض الخمسة وإقامتها، والمحافظة عليها في أول أوقاتها بطهارتها، وباستقبال قبلتها، وبالمحافظة على أركانها وواجباتها وآدابها وسننها، وأن تكون لله ليس فيها رياء ولا سمعة.
وفي هذه الآية الأمر بالقيام بحق الله وحق العباد، فحق الله تعالى عبادته ليلاً ونهاراً، والسجود له، ولا يليق أن توضع الجباه في الأرض إلا لله، ولا أن تطأطأ الرءوس إلا لله.
وحق العباد هو في قوله: (آتوا الزكاة) أي: آتوهم من مال الله الذي آتاكم، وأعطوا الفقراء حقوقهم، وأعطوا المساكين واجباتهم، أعطوهم من مال الله الذي أعطاكم، وقد خرجنا لهذه الدنيا لا نملك مالاً ولا نسباً، فهو الذي أعطانا من فضله وخيره، وأوجب علينا أن نؤدي من ذلك المال قدراً منه، وقد بينه صلى الله عليه وسلم في سنته، فللفقراء حقوقهم وما ملكهم الله في أموالنا، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60] فاللام هنا للتمليك، فقد ملك الله الفقراء جزءاً من مال الأغنياء، فللفقراء مالهم وحقوقهم في الذهب والفضة والزراعة والتجارة وفي غيرها، ومن لم يفعل ذلك أفقره الله في الدنيا، وسلط عليه من يأخذ ماله وغناه، وهذا الذي حدث، وما سلطت الشيوعية والاشتراكية وأعداء الله على المسلمين إلا عندما منعوا الفقراء حقوقهم، فسلط عليهم من أخذها وصادرها منهم، وهكذا عندما لا يشكر المسلم المنعَم عليه النعمة الإلهية فإنه يسلبها مع الذل والهوان والعقوبة.
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور:56] أجمل الله تعالى فعل الخيرات والصالحات بطاعة الرسول، والرسول عليه الصلاة والسلام وجدناه مبيناً للقرآن مفسراً له، فأمرنا بالصلاة، وبالزكاة، وبالصيام، وبالحج، وبتعلم العلم، وبترك المنكرات، وبحب المسلمين وخدمتهم واعتبارهم إخوة، وأمرنا أيضاً ببغض الكافرين والمنافقين وجهادهم بالمال والنفس، وبكل ما نملك من عزيز علينا، وإذا ترك المسلمون الجهاد ذلوا، وهذا الذي حدث، وقد قال علماؤنا -بجميع مذاهبهم- ما ترك المسلمون الجهاد في عام إلا وسلط عليهم أعداؤهم، فالجهاد يجب أن يبقى دائماً وإلى أبد الآباد ما دام في الأرض مؤمن وكافر، وفي الأرض مؤمن وكافر دواماً واستمراراً.
وعلماؤنا وفقهاؤنا قسموا الأرض إلى قسمين: أرض إسلام، وهي ما يحكمها المسلمون بكتاب ربهم وسنة نبيهم، وأرض حرب وهي ما يحكمها الكفار بكل مللهم وأشكالهم، وبقوانينهم الجائرة وآرائهم الفاسدة، فما كان من أرض الكفار وأرض الحرب فهو للمسلمين مجال حيوي للقتال فيه، والاستيلاء عليه، فإن لم يفعلوا فبمعصية منهم لربهم ولنبيهم، وسيكونون في ذل يسلط عليهم.(112/7)
حكم طاعة الرسول
وطاعة الرسول واجبة وجوباً عينياً على كل مسلم، ومن يطع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، فطاعة الرسول طاعة لله؛ لأنه يأمرنا بأمر الله وينهانا بنهيه، ويبلغنا دينه، فنحن في طاعته نطيع الله جل جلاله.
وقد ذكر تعالى عن طاعة النبي عليه الصلاة والسلام الكثير من الآيات والكثير من السور، وقد أمر الله بذلك في غير ما آية، وقال سبحانه عند الخلاف والنزاع: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [النساء:59]، فالرد إلى الله هو رد إلى كتابه، والرد إلى الرسول رد إلى سنته، فعندما نتنازع مذاهب وأفكاراً وآراء فالمحكم هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا فطاعة الرسول من طاعة الله، ومن يبايع الرسول فقد بايع الله، وقال الله في البيع: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] وكانت البيعة لرسول الله، وكانت اليد يد رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولكن الله اعتبر أن البيعة والطاعة كانت له، والإيمان كان بالله؛ لأن النبي مبلغ ومبايع عنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56] أي: لعل الله يرحمكم بفعل الخيرات، وإيتاء الزكاة، وطاعة النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما أمر به، وترك كل ما نهى عنه، فيرحمنا من ذل حكم الأعداء، ويرحمنا من غضبه تعالى ومن لعنته، ويرحمنا بأن نكون سادة الأرض وقادتها، والمحكمين في الرقاب، وخلفاءه في الأرض، ولا يليق بالمسلم إلا ذلك، فإن حدث خلاف هذا فبمعصية منا، وبعقوبة من الله لنا.(112/8)
تفسير قوله تعالى: (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض)
ثم قال الله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:57] أي: لا تحسبن أيها القارئ ولا تحسبن يا محمد يا رسول الله! أن ما تراه في يد الكفار من حكم ومن مال ومن جاه ظاهر، هو فضل لهم وعناية بهم، ولكنه استدراج وفتنة من الله لهم؛ لتبقى الحجة لله البالغة، عساهم أن يعودوا إليه يوماً، عندما يسألون بعد الموت: ماذا صنعتم فيما رزقكم الله فيه؟ هل آمنتم بربكم الذي رزقكم وأحياكم؟ هل آمنتم بنبيكم الذي أمركم عن الله ونهاكم؟ فعندما يقولون: لا، ستكون الحجة البالغة لله وحده، فيعذبون وتسجر بهم النار، ولا يكونون ظالمين إلا أنفسهم، كما قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182].
إذاً: فمعنى قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [النور:57] أي: لا تظن أن الكفار الذين تراهم والكلمة كلمتهم كفارس والروم في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرهم بعده، أنهم يعجزون أو يفوقون ربهم، ولا يستطيعون أن يقولوا: بلغنا من القوة ومن السلطان ما لا يقدر علينا أحد، وإذا بالله الكريم قد وعد المؤمنين أن يجعلهم خلفاء الأرض وقد فعل، فحكموا فارس وحولوها من دار مجوسية ووثنية إلى دار إسلام إلى يومنا هذا، وقلصوا الروم وطردوهم عن الشام وطرد كثير منهم عن أرضهم فذلوا وأهينوا، والأمر سيبقى، والآية كذلك، ونحن نعيش اليوم فارس والروم القديمة، وهي أوروبا وأمريكا.
فلا تحسبن أيها المؤمن وأنت تتلو هذه الآية أن هؤلاء بما زعموه من قوة، ومن قنابل ذرية فتاكة، ومن أسلحة مدمرة، أنهم يعجزون الله فلا ينالهم عذابه ولا عقابه، وأن المسلمين لا يمكن أن يسلطوا عليهم أو يحكموهم يوماً، فلقد كانت الأمم قبلهم أعظم سلطاناً منهم، وأقوى شأناً وأغنى مالاً، فلم يعجزوا ربهم، وقد أدركنا بريطانيا في هذا العصر التي كان يقال عنها: لا تغرب عن رايتها الشمس، أين هي الآن؟! وكذلك فرنسا، ويوشك عن قريب إذا عاد المسلمون لربهم أن تجد هذه الدول الكبرى بسلطانها وجبروتها وطغيانها وظلمها حديث أمس الدابر، وكأنها لم تكن، ولن يعجز الله شيء جل جلاله، ولكن الأمر يرجع للمسلمين أنفسهم، أي: هل سيطيعون ربهم؟ وهل سيمتثلون أمره أمر نبيه؟ ويقومون بما وجب عليهم؟ أو يبقون هكذا دائماً في المؤخرة وراء الكافرين يهوداً ونصارى ومنافقين؟ فالكفار لا يعجزون ربهم ولا يحسبون أنه يقدر عليهم، أو على البطش بهم وإفنائهم، هيهات، لقد كانت الأمم والتي طال ما حدثنا الله عنها من عاد وثمود والفراعنة وفارس والروم وغير ذلك، كانوا أعظم سلطاناً، ومع ذلك دمرهم الله وأصبحوا كأن لم يكونوا، ورجعوا رمماً بالية، وملك الله أرضهم ورقابهم وأموالهم للمؤمنين، عندما كانوا مؤمنين حقاً، ومع ذلك لو يعودون إلى الله إلى دينه وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم، لعاد الله عليهم بأفضاله وبعزه وبنصره، فالقوة لله جميعاً وليست لأحد من الخلق، فهو القادر على كل شيء جل جلاله، ولكنه من حكمته يعز المؤمن عندما يعز المؤمن نفسه بطاعة ربه وطاعة نبيه، فإذا خرج عنه عاقبه، وما من عقوبة إلا بذنب ويعفو عن كثير جل جلاله وعلا مقامه.
فليسوا بمعجزين في الأرض وسينالهم الخراب والدمار والذل والهوان، وقد فعل ربنا، ولن يرفع يده عليهم جل جلاله، ومع هذا في الآخرة مأواهم النار هي مسكنهم ومنزلهم ومرجعهم، فيعذبون أبد الآباد, لا موت لهم فيها ولا فناء، وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله سبحانه جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.
ثم قال تعالى: {وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:57] أي: بئس المصير النار، فما أقبح وأشد بؤس من كانت نهايته ومصيره الذي سيصير إليه النار وغضب الله.
والله يحذرنا نفسه في الدنيا لعلنا ندرك حياتنا، ونستفيد من وجودنا ونعود إلى ربنا، يخاطب الله الناس كلهم في المشارق والمغارب، منذ نزل القرآن ونزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وعلى آله، يدعو الله إليه الخلق كلهم عربهم وعجمهم، بيضهم وسودهم؛ ليعبدوا رباً واحداً، وليطيعوا نبياً واحداً، وليمتثلوا لكتاب واحد بلغة واحدة هي لغة محمد صلى الله عليه وسلم، وقومه الذين نشروا الإسلام بدمائهم وبأولادهم وبحياتهم وبكل ما يملكون من عزيز.(112/9)
تفسير سورة النور [58 - 61]
إن ديننا هو دين الأدب والأخلاق والتحضر، ومن الآداب التي أمرنا الله تعالى بها: آداب الاستئذان عند الدخول على الغير، وفي ذلك من الحكم الشيء الكثير، فذلك حتى لا تنكشف العورات، ولا يطلع على ما يكره الاطلاع عليه.
ومن الآداب أن القواعد من النساء يجوز لهن أن يضعن من ثيابهن الخارجية غير متبرجات بزينة.(113/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم)
ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58].
هذه الآية الكريمة من آداب الإسلام، يعلمنا الله كيف نكون في بيوتنا مع خدمنا وأولادنا ونسائنا، وأن لا نعيش داخل بيوتنا هملاً رعاعاً، بلا أدب ولا حياء، كما اشتملت السورة جميعها على هذه الحكم والأحكام.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:58] يخاطب سبحانه المؤمنين ويأمرهم بلام الأمر في قوله تعالى: (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) أي: عبيدكم وإماؤكم وخدمكم وصبيانكم، ليستأذنوكم في ثلاث حالات وثلاث مرات.
ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ٌ} [النور:58] أي: وأطفالكم المميزون الذين لم يبلغوا الحلم، ولم يصبحوا بالغين، فلم تفرض عليهم صلاة ولا صيام، فهم لا يزالون قبل البلوغ، ولكنهم مع ذلك مميزون مدركون، وتكون هذه لمن كانوا بين السادسة والعاشرة من أعمارهم إلى وقت البلوغ، وكل بلد حسب طبيعته وحالته من حرارة وبرودة، ففي هذه البلاد الحارة يسرع البلوغ للأطفال وللبنات الصغار، وفي البلاد الباردة يتأخرون في بلوغهم سنوات عما يكون في البلاد الحارة.
فأمر الله تعالى أن نأمر خدمنا وعبيدنا وإماءنا وأطفالنا قبل البلوغ بالاستئذان في الثلاثة الأوقات، كأن يقف على الباب فيطرق فإن أجيب بالدخول فليفعل، وإن كان بلا فلا يدخل، وإن لم يجب فمعناه أنه لم يؤذن له، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} [النور:58].(113/2)
أمارات البلوغ
الحلم: هو البلوغ، والبلوغ يكون بالمني أو بالإنبات في العانة، أو بعلامات أخرى، أو بالحيض بالنسبة للبنت، أو ببلوغ الثامنة عشرة بالنسبة للبلاد الباردة، إذا لم يكن هناك مني ولا إنبات ولا غلظ صوت ولا ما يشبه هذا، وأما البلاد الحارة فتبلغ البنت بين الثامنة والتاسعة إلى العاشرة، والولد بين العاشرة والثانية عشرة، هذا يعلم من القديم والحديث، وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص بينه وبين أبيه أحد عشر عاماً، فقد حملت به أمه وأبوه عمرو سنه لا تتجاوز الحادية عشرة.
وتزوج النبي عليه الصلاة والسلام السيدة عائشة وكانت بالغة، وهذا الموضوع قد تعلق به الكفرة وتعلق به المنافقون، أي: كيف يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم طفلة صغيرة بسن عائشة؟! فهؤلاء قالوا ذلك لأنهم يعيشون في بلاد باردة، فلا يكاد يبلغ الولد في تلك البلاد إلا بعد أن يصل إلى الثامنة عشرة، ولا تبلغ البنت إلا بعد أن تتجاوز الخامسة أو السادسة عشرة.
والنساء هنا في المدينة منهن من يبلغن في العاشرة، ومنهن من يبلغن في التاسعة أو الحادية أو الثانية عشرة، وهناك من أولاد المدينة المنورة من بلغوا وهم في الحادية عشرة وشهور، فإذاً ليس هناك استغراب ولا تعجب من أن النبي تزوج طفلة، وهو لم يتزوج طفلة، بل كانت عائشة في سن التاسعة، وهي على غاية ما يكون من النضج والفهم والعقل والإدراك.
وهذا معلوم في البلاد الحارة، وكم أخبرتنا الصحف اليوم عن بلاد أمريكا وبلاد الهند في صحاريها الحارة، فقد ذكروا من فسوقهم وفسادهم أن وجدت بنات قد ولدن بلا أزواج، يعني هناك فساد في سن مبكرة، فذلك يأبون أن تزوج الفتاة؛ ليزداد الفساد انتشار، واللقطاء كثرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:58].
هذا أمر من الله بلام الأمر، فيأمرنا أن نأمر غلماننا وخدمنا أن يستأذنونا، والغلمان هم الأطفال قبل بلوغ سن التميز بين الخامسة والعاشرة، وقوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور:58] قوله: (منكم) أي: من الأحرار فيستأذنونكم ثلاث مرات.(113/3)
أوقات الاستئذان الواجب
ثم فصل الله تعالى وذكر هذه المرات الثلاث في اليوم والليلة، فقال تعالى: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} [النور:58]، فعادة الإنسان أن يكون نائماً قبل صلاة الصبح، وأن يكون في غرفته مع زوجته أو وحده، وقد يكون عرياناً أو نصف عريان، وقد يتعرى وهو نائم ولا يشعر، فلو دخل عليه طفله أو دخل عليه غلامه فسيراه في حالة لا يرضى أن يكون عليها.
وقد حدث من الصحابة من عمر ومن غيره، ومن النساء والرجال أن قالوا: يا رسول الله! يدخل علينا خدمنا وأولادنا ونحن في حالة نكره أن يرونا عليها، وبعضهم قد يكون مع المرأة في الحالة التي يكون عليها الزوج والزوجة عادة، وإذا بالآية تنزل كما أمر الله تعالى بالاستئذان ثلاث مرات.
والمراد بقوله: (ومن قبل صلاة الفجر) يعني: قبل أذان الفجر، ويكون الإنسان عادة نائماً، أو في وقت خلوة وعورة له.
ثم قال تعالى: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} [النور:58] أي: عند القيلولة، وذلك عندما يعود الإنسان من عمله، أو من متجره أو مزرعته أو مكتبه أو مدرسته، فيعود فيأكل لقمة أو لقمتين ثم يقيل، وفي الحديث النبوي: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل)، فيدخل غرفته أو بيته ويغلق عليه الباب ويرخي الستور، ويضع الثياب لينام في وقت الظهيرة، أي: وقت الظهر أو وقت الزوال أو وقت وقوف شمس في كبدء السماء.
ثم قال تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58]، فالعادة أن الإنسان عندما يصلي العشاء فإنه يذهب للنوم؛ ليأخذ راحته، وليستعين بالنوم باكراً على الاستيقاظ لصلاة الصبح في وقتها.
واستدل بالآية على أن الإنسان ينبغي له أن ينام بعد صلاة العشاء، وأما العشاء فيجب أن يكون قبل ذلك؛ حتى لا تمرض معدته، فلا يملأ معدته ثم يذهب للنوم فهذا ضار بالبدن.
ويكره النوم قبل صلاة العشاء والصحو بعدها، وقد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسمر أحياناً في بيت أبي بكر، ولكن لمصالح المسلمين، والعمل لمصالح المسلمين هو عبادة في حد ذاته، ولا يجوز السهر إلا في هذه الحالة ونحوها، وما عدا ذلك فلا بل ينام مبكراً.
والآن مع وجود التلفزيون الذي قد دخل البيوت، وانتشر في الأرض، ولا يمكن الفرار منه بحال، يخالف كثير من الناس ما تقدم، لكن يجب على رب البيت أن يكون رجلاً، وألا يكون ضعيف الإرادة، أو خائراً، فيجعله في وقت محدود عندما يكون فيما ينبغي أن يرى، وأما ما لا ينبغي أن يرى فيجب أن يمنع منه نساءه وأولاده، ولو أن يزيله البتة، أو يكسره بيده أو بآلة حادة، أو يجعله في مكان فيغلق عليه، لكان حسناً.
وأما إذا كان ضعيف الإرادة خائراً في بيته، فالأمر يصبح مصيبة، ويبقى من البلاء المنتشر ما الله به عليم، وليس التلفزيون فقط، بل تكون السهرات من غير تلفزيون فيما لا يرضي الله، ولا يرضي رسوله عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك بلاء ومحنة وفتنة للإنسان؛ ليختبر هل هو مؤمن حقاً يأمر أولاده بما يجب أن يأمرهم به، وهل يلزم امرأته بما يجب أن تلتزم به من الإسلام وأخلاقه وطاعاته.(113/4)
علة وجوب الاستئذان في الأوقات الثلاثة
هذه المرات الثلاث هي عورات، لماذا؟ لأن الرجل أو المرأة عندما تدخل غرفتها وتغلقها عليها، سواء كانا معاً أو كان كل واحد منهما في مكان مستقل، فقد تتقلب وتتكشف عندما تزيل ثيابها الخارجية، والرجل كذلك، فإذا دخل عليها طفلها أو خادمها فقد يرى عورتها، أو ما لا يسرها أن تراه.
ففي هذه الحالة من الأدب الواجب أن يعلم الخادم والطفل ألا يفعل ذلك، وأما الكبار فالأمر في حقهم من باب أولى، فلماذا الخدم والصغار؟ لأن الله تعالى قال: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور:58] فهذه الأوقات الثلاثة تعتبر عورة لما ينكشف فيها من العورة.
وقال الله بعدها: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النور:58] أي: لا مانع ولا جناح ولا متابعة ولا مسئولية عليكم أو عليهم -عليكم يا أصحاب البيوت من أب وأم، وعليهم أي: يا من في البيوت من الخدم والأطفال- بعد هذه الأوقات الثلاث الدخول بغير أذن؛ لأن العورة لا تكون إلا هنا، والاستئذان لا يكون إلا هنا؛ لأن الله تعالى قال: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} [النور:58] أي: أن خدمنا يدخلون في غرفة ويخرجون من أخرى للخدمة، والأطفال كذلك لا يفترقون عن أمهم ولا يبتعدون عن أبيهم، طوافين خارجين داخلين ملتزمين بيوتهم؛ لأنهم يسكنون معك، فيريدون مرة من أمهم أكلاً أو شرباً، ومن أبيهم درهماً أو ديناراً أو كلمة، أو شيئاً يتعلق بهم من دراسة أو لباس أو نحو ذلك.
فقال تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور:58] أي: يطوف بعضكم على بعض، فأنتم تسألونهم ذلك وهم يسألون ذلك، وأنتم تطوفون بهم وهم يطوفون بكم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عندما سأل عن الهرة تشرب من الإناء ثم نتوضأ منه، فقال: (هن من الطوافين عليكم والطوافات) يعني: ملازمات للإنسان في البيت، وكانت تأتي القطة والنبي عليه الصلاة والسلام يتوضأ فيصغي لها الإناء لتشرب، ثم يتوضأ من نفس الماء؛ لأن الشأن فيها أنها نظيفة، إلا إذا رأيناها تأكل نجاسة أو جيفة ميتة، فعند ذاك نتحفظ منها.
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} [النور:58] أي: كذلك يبين الله لكم آياته من أحكام وأوامر ونواه، حتى تصبح بينة واضحة مفسرة مفهومة.
ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58] الله جل جلاله عليم بكل شيء، فيريد أن يعطينا من علمه ويؤدبنا ويعلمنا ويوجهنا، وهو حكيم في أفعاله وأوامره ونواهيه، وحكمة هذه الأوامر والاستئذانات ألا يكون هناك كشف للعورات.
وكل هذا من الآداب العامة، وإذا لم يكن هذا فيدل على فساد في الأدب وفي الدين وفي الأخلاق، ويبقى من لا يفعل هذه الآداب ولا يراعيها همل في همل.(113/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم)
ثم قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59].
الآية الماضية في الخدم والأطفال الذين هم دون البلوغ، وهذه الآية في الكبار، قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ} [النور:59] أي: من الأحرار، والحلم: البلوغ، إذاً: فالكبار يستأذنون في جميع الأوقات؛ لأن الشأن في الكبار ألا يكونوا معكم دوماً، فكل له أدبه وعادته وبيته، وليسوا عادة كالأطفال الصغار ولا كالخدم، أي: ليسوا من الطوافين ولا الطوافات.
قال تعالى: {فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59] أي: من الخدم والأطفال، ولكن استئذان الكبار دون قيد، فليس محظوراً فقط في هذه المرات الثلاث فقط، ولكن يجب أن يكون عاماً في كل الأوقات والأزمان، فما دامت الغرفة مغلقة أو الستور مرخاة فلا يجوز للكبير أن يفتح الباب ويزيل الستار دون أذن، ولا يدخل إلا بعد أن يؤذن له بالدخول، فإن لم يؤذن فلا يفعل.
وأما الأطفال والخدم الطوافون والطوافات فيستأذنون في أوقات ثلاثة فقط، وما عدا ذلك فلا حاجة للاستئذان.
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} [النور:59] أي: يفسر ويوضح آياته وأحكامه وأوامره نواهيه.
ثم قال سبحانه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59] أي: عليم بكل شيء، فلذا يعطينا ويعلمنا من علمه، ويزيل عنا الجهل في أدبنا داخل البيت وخارجه، مع النساء والأطفال والخدم والناس جميعهم، وهو حكيم أيضاً في أوامره ونواهيه، فليس هناك أمر ولا نهي لا حكمة فيه، والحكمة واضحة هنا، فمن الذي يقبل أن يرى عورة أمه، أو أن ترى عورته من أولاده أو خدمه أو أي إنسان سوى الزوجة، فالزوجة فقط هي التي لم تؤمر بالاستئذان، ومع ذلك فلا بد من السلام عند الدخول عليها، وكذلك لا بد لها عند دخولها على زوجها من السلام، وهو يكون أيضاً استئذان.(113/6)
تفسير قوله تعالى: (والقواعد من النساء)
ثم قال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:60].
هذه الآية خاصة بالعجائز، يقول تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور:60] القواعد جمع قاعد، كحائضات وحائض.
وقوله: {اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} [النور:60] هن النساء اللاتي انقطع حيضهن، وما عدن يردن الأزواج، فأصبحن أرامل بموت أو طلاق، أو لأي سبب من الأسباب، وهؤلاء القواعد أكثر حياتهن جلوساً، فلهن الأولاد والنساء يخدمنهن، وهن {اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق:4] أي: اللائي لم يعدن يلدن.
ووصفهن الله بقوله: {اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} [النور:60] أي: لا يرجون ولا يرغبن ولا يشتهين النكاح، وهذا ليس للتي انقطع حيضها فقط، فقد ينقطع الحيض عند الأربعين أو قبلها أو بعدها بقليل، ويبقى فيها آثار الجمال، وتكون مرغوبة، ولكن هذه الآية تطلق على العجائز اللاتي لم يعدن يرغبن لا في زواج ولا في جماع، ولو وقع لها فلا تلد؛ لأنها يئست من المحيض، وهؤلاء في هذه الحالة لا يرغب فيهن، فرخص الله تعالى لهن أن يخففن من سترهن دون الشواب.
فقال تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] أي: لا جناح عليهن ولا مانع ولا ذم ولا مسئولية أن يضعن ثيابهن في بيوت الأجانب، أو مع وجودهم إذا دخلوا عليهن بإذن منهن.
وما الثياب التي توضع؟ ليس المراد أن تجلس معهم عريانة، ولا كاشفة شعرها، ولكن هذا الجلباب الخارجي الذي يجب أن تلبسه الشواب ومن لا يزال فيهن أثر من الجمال والرغبة في الرجال.(113/7)
شروط وضع الثياب للقواعد
ثم قال تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] أي: إذا لم يكن متزينات متشببات بكحل ودهن وحمرة وحلي، ونحو ذلك، فيجوز لهن الوضع من ثيابهن، وكثير من النساء يتزين ويضعن ثيابهن؛ للتغرير بالناس، ولكن هيهات أن يصلح العطار ما أفسد الدهر، وإن فعلت -أي: التزين- فالشرع لم يمنعها، ولكن في هذه الحالة منعها أن تزيل ثيابها عند الأجانب؛ لأنها غيرت شكلها، وقد تغر من لا يعرف أنها عجوز، فقد يغتر بها بعض الناس ويظن أنها ترغب في الاتصال؛ بدليل التزين.
ومعنى: (غير متبرجات بزينة) أي: ألا يكن قد تزين إلى أن أصبحن كالبرج ظاهرة في الزينة، وبما يعتبر فتنة إن هي كشفت ذلك وأزالت ثيابها عنها.
الحاصل: أنه يباح للعجائز أن يخلعن الثياب الخارجية، أي: الرداء أو اللباس الأسود الذين يلبس، مع ستر الشعر والعنق، ولكن بشرط ألا يكن متبرجات متزينات لا بحمرة ولا بعطر ولا بثياب شفافة، ولا بشيء من ذلك.
ولعل عجائز اليوم يتزين أكثر من الشواب، وفي هذه الحالة لا يجوز لهن أن يضعن ثيابهن؛ لأنهن تبرجن بزينتهن، ووضع الثياب مشروط بعدم التبرج بزينة.
ثم قال تعالى: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:60] أي: إن يستعففن عن وضع الثياب -أي: الجلباب الخارجي والرداء- إذا دخل عليهن أجنبي فهو خير لهن، وأعظم في الأجر والثواب من الله.
ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:60] أي: سميع لهؤلاء فيما يقلن، فمن قالت خيراً فلها الخير، ومن قالت غير ذلك فلها ما قالت، والله يعلم كل ذلك ويسمعه، وهو أيضاً عليم بنياتهن وضمائرهن، فإن تبرجن رغبة في الرجال، وتشبباً فلا يجوز لهن ذلك، ويعتبرن صغيرات العقل، وقد عرضن أنفسهن لمن لا يشتهيهن ولا يخطرن بباله، ولذلك كثيراً ما قالوا: إن العجوز للشاب هي سبب مرضه ودائه وسرعة موته، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] ولكل شيء أجل وأدب وقاعدة.(113/8)
تفسير قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج)
ثم قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور:61] إلى آخر الآية.
قال بعض المفسرين: هذه الفقرات من أول الآية -أي: قوله: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) - في ألا يقاتل ويحارب، وهو معذور بمرضه أو بعرجه أو بعماه، وإن كان قد قال بهذا كثير من السلف لكن الآية لا تدل على هذا المعنى هنا، وهذا المعنى مذكور عند آيات الجهاد، والآية تدل على أدب وذوق آخر، وهو في الأكل في الأسرة والعشيرة والأقارب بإذن وبغير أذن.
وأما على المعنى الأول فما علاقة الأعمى والأعرج والمريض في هذه الآية بالحرب والقتال؟! فالحرب والقتال لم يذكرا في السورة كلها منذ البداية، إذاً فما المعنى؟! والمعنى ما قاله بعض الصحابة والتابعين: وهو أنه يأتي المريض والأعمى والأعرج ليأكل أو يشرب في بيت أحد من أقاربه كأبيه أو أمه، أو أخيه أو أخته، أو عمته أو عمه، أو خاله أو خالته، أو صديقه، فالأعمى قد يتحرج ويقول: أنا جئت إليك يا قريبي فلان فكيف تأخذني عند العشيرة! فقال الله له: لا حرج في ذلك، أي: إذ ذهب بك إلى عشيرتك وأقاربك، فبيوت الأقارب بيوت مشتركة للكل، وبهذا المعنى تبقى الآية مفهومة مفسرة.(113/9)
تفسير سورة النور [61]
في هذه الآيات يعلمنا الله تعالى آداب الأسرة واتصال بعضها ببعض، وآداب الأصدقاء ودخول بعضهم على بعض، وأكل بعضهم عند بعض، بإذن وبغير إذن، للأصحاء والمرضى، فتأكلون جميعاً أو أشتاتاً، وكذلك آداب السلام إذا دخلنا على أهلنا، والآداب إذا دخلنا بيوتنا وليس فيها أحد.(114/1)
تفسير قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج)
قال الله جلت قدرته: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور:61].
هذه الآية الكريمة من هذا السورة العظيمة التي كلها أحكام وحكم، وآداب ورقائق، وذوق وحضارة، يعلمنا الله فيها آداب الأسرة واتصال بعضها ببعض، وآداب الأصدقاء ودخول بعضهم على بعض، وأكل بعضهم عند بعض بإذن أو بغير إذن، للأصحاء والمرضى، يأكلون جميعاً أو أشتاتا، وآداب السلام إذا دخلنا على أهلنا، والآداب إذا دخلنا بيوتاً وليس فيها أحد، أي: كيف نسلم على أنفسنا تحية من الله مباركة طيبة.
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] جمع الله كل هؤلاء هنا، والمرضى جمع مريض، والأعمى مفرد عميان، والأعرج مفرد عرجان، فهؤلاء كصاحب البيت نفسه، أي: لا حرج عليهم أن يأكلوا جميعاً أو أشتاتا عند من دعاهم، أو طلب دخولهم، أو حضروا مع من حضر من أقاربهم، أي: أقارب الأمومة من جهة الأم، وأقارب الأبوة من جهة الأب، فلا حرج أن يأكلوا ويشربوا ويدخلوا البيوت على المحارم، كان أرباب البيوت حاضرين أو غائبين.
وقد تقدم أن بعض المفسرين قال: إن هذه الفقرة الأولى من الآية لا علاقة لها بطعام ولا شراب، وإنما علاقتها بالحرب والقتال، وأن الله تعالى أزال الحرج والشدة، وأسقط التكليف بالقتال والحرب عن الأعمى والأعرج والمريض، وهذا المعنى هو كذلك، لكن له آيات وأماكن أخر من كتاب الله في سور القرآن وآياته.(114/2)
المراد بنفي الحرج عن المعذورين
أما في هذه الآية فالمعنى ليس كذلك، والمعنى: المريض أو الأعرج أو الأعمى يريد أن يأكل عندي في البيت من تلقاء نفسه فأرحب به، ولكن قد يتفق لسبب من الأسباب بألا يكون الأهل في البيت، وألا يكون في البيت أحد، فلا يأخذه المضيف من بيت أبيه أو أمه أو عمه أو عمته -إلى آخر من ذكر الله- إلى مكان آخر، فكان هؤلاء المعذورون يتحرجون ويتأسفون ويقولون في أنفسهم: جئنا إليك، وعندما سنأكل من طعامك أو ندخل دارك فذلك بإذن منك وترحيب، وأما هؤلاء فلا نعرفهم، وكيف ندخل بيوتهم بغير إذن منهم، ونأكل طعامهم ولا ندري هل يرضون أم لا، فقال الله لهؤلاء: لا تتحرجوا ولا تتأسفوا؛ إذ الابن أو ابن الأخ أو ابن الخالة أو ابن العم ونحوهم، إن أخذك إلى بيته فأنت حر التصرف في ذلك؛ لأن الله فتح لك هذه البيوت جميعاً، وصرت كعضو من أعضاء الأسرة، فلتدخل ولتأكل ولتشرب ولتصنع ما يصنعه عضو البيت، فلا يتحرج هؤلاء، وكانوا يتحرجون أيام الحياة النبوية من مثل هذا، ويظنون أن ذلك ليس لهم بحق، فأعلمهم الله هنا: أن هؤلاء إذا جاءوكم وأردتم أن تأخذوهم لمن ذكر من هؤلاء الأقارب فلا مانع ولا حرج ولا إثم عليهم.
هذا هو المعنى الأقرب للمقصود بالآية، أي: الذي يزيل الحرج والتأثيم عنهم.(114/3)
معنى قوله تعالى: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم)
ثم قال تعالى: {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] أي: ولا حرج على أنفسكم أيضاً {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور:61] أي: كون الحرج مرفوعاً في بيتي وطعامي ليس هذا هو المقصود، ولكن المقصود ما بعده؛ لأن بيت أمي وأبي وعمي وعمتي وخالي وخالتي وأخي وأختي كلها كبيتي، فكما يباح لي أن آكل في بيتي فكذلك يباح لي أن آكل في بيوت هؤلاء، سواء أكانوا حاضرين أم غائبين، والصديق كذلك.
فكل هؤلاء قد أباح الله تعالى لهم أن يأكلوا مع بعض بلا حرج ولا إثم، حضروا أم غابوا.
وابتدأ الله بذكر بيوتنا لأنفسنا ليضم لها بيوت غيرنا من أقاربنا وأصدقائنا، فيكون المعنى: بيتنا في هذا كبيوت هؤلاء من حيث الطعام والشراب والدخول إليهم.
وذكر الله الصديق، والصديق: من صدقك في وده، وإذا صدقك في وده فيكون قد فتح لك بيته، فإذا جئت رحب بك حضر أم لم يحضر، فإذا أكلت أو شربت فمعناه: أنك أزلت الفوارق بينك وبينه، واعتبرت بيته بيتك، ويوماً سيفعل فعلك نفسه.
وهذه من آداب الأسر، وآداب الطعام والشراب بين أعضاء الأسر، والله تعالى قد ربط وعقد الأخوة بين المسلمين جميعاً، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فزادت الصلة وثاقاً، وزادها ربطاً بين أفراد الأسرة الواحدة بإباحة الأكل في أي بيت من بيوتها؛ لأنهم كما يقولون في القواعد الأصولية: الغنم بالغرم، فإذا مت قبل هؤلاء فهم يرثونني، وإذا ماتوا قبلي ورثتهم، ثم هؤلاء من افتقر منهم تصبح نفقته واجبة على أقاربه الأدنين في فضول الرزق والمال وهكذا، وهو مذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة وجماعة من المحققين من الأئمة والفقهاء.
فهذا التضامن والترابط الذي علمنا الله فيه الآداب، وأن تكون بيوتهم بيوتنا وبيوتنا بيوتهم، هو لهذا المعنى، أي: الغنم بالغرم، فكما أن الغنائم مشتركة بين الأسرة الواحدة، فكذلك الغرم والتكليف.
وقوله سبحانه: {مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور:61] أي: بيوت الشخص نفسه، وذكر الله بيوتاً أخرى ليجعلها كبيوت الإنسان نفسه، فقال: {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور:61] وهكذا أيضاً أخذ هؤلاء المرضى وإدخالهم معي لهذه الدار من دور الأقارب لا حرج فيه، فذلك شيء أباحه الله، وفتح الأبواب في وجه الأسرة بعضها لبعض؛ لما جعل بينهم من ترابط ومن مشاركة في الغنم والغرم.(114/4)
من يباح الأكل في بيوتهم بلا استئذان
ثم قال تعالى: {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ} [النور:61] فكل هؤلاء معلومون، ولا نزال نستعمل نفس التعبير الأب أب، والأم أم، والخالة خالة، والعمة عمه، والخال خال، والعم عم، وهؤلاء الذين هم أقاربك من أبيك أو من أمك بيوتهم كبيتك، فلك كل الحق أن تدخل بيوتهم، وجدتهم أو لم تجدهم، فتضع يدك على طعامهم وعلى شرابهم، وتدخل معك من شئت من صديق وقريب، سواء أكان مريضاً أم صحيحاً، فهذا حق جعله الله تعالى لأفراد الأسرة بعضها لبعض، وكما يكون يوماً هو حقاً لي فإنه يكون يوماً آخر حقاً لأقاربي، فيدخلون بيوتي وأدخل بيوتهم، والممتنع من ذلك لئيم خسيس، ومع ذلك يجبر على أن يدخل أقاربه بيته؛ لأن الله هو الذي فتح ذلك بإذن وبلا إذن.
فجعل الأب والأم والأخ والأخت والعم والعمة والخال والخالة، دخولنا لبيوتهم ودخلوهم لبيوتنا حاضرين وغائبين إذ هم محارم مباح، فنأكل طعامهم ويأكلون طعامنا، بإذن وبغير إذن، وندخل من شئنا من الأصدقاء أصحاء ومرضى.
ثم زاد الله وقال: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور:61] المفاتح للمخازن، فلا يكون المفتاح إلا وهناك شيء مخزون، فلو أن هناك خادماً قريباً لي أو صديقاً وغبت عن البلد فأعطيته مفاتح البيت، وفيه مؤن وطعام، فله الحق بإعطاء الله له أن يأكل ويشرب بما لا يضر ولا يخرج من البيت، فلك أن تأكل وتشرب دون أن تملئ الجيوب وتخرج الطعام معك، فهذا لم يأذن الله به، ولم يذكره الله فيما يجوز؛ لما فيه من الإيذاء لأعضاء الأسرة، أما إذا أراد الإنسان ذلك من تلقاء نفسه فهذا كلام آخر لا علاقة له بالآية، وإلا فالأصل: أن من أعطي المفاتيح فما في البيت أمانة وضمانة عنده، ويتصرف في البيت طعاماً وشراباً بما يكفيه دون أن يخرج من البيت شيئاً، وله أن يأتي بصديق لكن بالمعروف، فلا يأتي بخمسين شخصاً، ونحو ذلك.
فلو جاءني ضيف ولم يجد عندي في البيت شيئاً، أو لم يجد ربة البيت فآخذه لأخي أو لعمي أو لخالي، ولا مانع من ذلك.
ثم قال تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61] كذلك الصديق، أي: يجوز للصديق أن يأكل في بيت صديقه، بإذن وبلا إذن، وأن تأتي معك أيضاً بصديق آخر إن شئت.
هذا من آداب الأسرة وآداب العشرة وآداب الزيارة وآداب الضيافة وآداب الأكل والشراب بين أعضاء الأسرة بعضهم مع بعض.(114/5)
إباحة الأكل اجتماعاً أو انفراداً
ثم قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا} [النور:61].
أي: لا جناح عليك إن ذهبت للبيت وصديقك قد تأخر لسبب من الأسباب وأنت جائع، أو الوقت الذي ستقيم فيه في بيته قليل، أن تأكل وحدك، فإذا جاء صديقك فليأكل وحده، ولك أن تنتظر لتأكل وإياه سواء.
وكقاعدة عامة: أباح الله تعالى للناس أن يأكلوا مجتمعين، أو يأكل كل واحد منهم على حده، وإن كان الأفضل والأكرم أن يأكل الإنسان مع جماعة.
ولم نزلت هذه الآية؟ كان من عادة العرب في جاهليتها -وهي من الأخلاق الكريمة- الكرم والنبل، لكن فيها شدة وكلفه، وليس كل أحد يستطيعها، ولا تزال هذه العادة عند الكثيرين من بلاد العرب في كثير من ديار الإسلام، أي: أن من عادتهم أن أحدهم لا يأكل وحده قط، فهو في كل الأوقات لا يأكل إلا إذا أتى أحد، فإن جاء زائر رحب به، وإن لم يكن بحث عنه ليأتي.
وقد كان العربي قديماً -مع كثرة الرزق في البيت والطعام- قد يبقى منتظراً من الصباح إلى الليل ليطرق عليه طارق، وليزوره زائر ليأكل معه على مائدته، فلا يريد الأكل وحده إلا إذا يئس، ويأكل وهو متأثم حرج، ويصف نفسه بالبخل وبالشره وبالاستئثار على غيره.
فالله تعالى منع هذا وقال: كل وحدك أو مع غيرك مجتمعين ومتفرقين حسب الحالة والحاجة والرغبة، وإن كان الطعام مع جماعة أبرك وأكرم، وفي مسند أحمد والسنن: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! آكل ولا أشبع، فقال له عليه الصلاة والسلام: (كل مع الجماعة، وسم الله، فذلك أبرك وأزكى) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وفي حديث آخر: (طعام الجماعة أكثر زكاة وبركة نماء وبركة، وخير الطعام ما كان على ضفاف) أي: ما كان عليه جماعة تجتمع عليه أيديهم، ولكن ليس هذا فرضاً واجباً، وإنما هو من المندوب إليه والمستحسن.
فالحاصل: أنه لا مانع من أن نأكل مع أعضاء الأسرة من الأقارب الذين سمى الله أو الأصدقاء، ولا مانع أيضاً ولا حرج من أن نأكل أشتاتا، أي: مشتتين كلاً على حده.(114/6)
حكم التسليم عند دخول المنزل
ثم قال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61].
أي: إذا دخلت بيتك ودارك وفيه زوجتك وأولادك أو أقاربك، فلا تدخل إلا بعد السلام، قائلاً: السلام عليكم! وهم يجيبونك، وإن جئت بيتك ولا أحد فيه فسلم أيضاً وقل: السلام علينا من ربنا؛ لأن الله يقول: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النور:61]، ولا شيء أبرك وأكرم من ذلك: السلام علينا من ربنا، والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، والملائكة ترد عليك وتجيبك قائلة: وعليك السلام.
قال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا} [النور:61] أي: بيوتكم {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] يدخل في ذلك زوجتك وابنتك وأعضاء الأسرة إذا كانوا داخل البيت، فسلم عليهم عندما تدخل ولو دخلت في اليوم مرات، فإن لم تجد أحداً وكنت فيه وحدك لسبب من الأسباب فسلم أيضاً قائلاً: السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأراد البعض أن يفسر (بيوتكم) ببيوت الله، قال: إذا دخلتم بيوت الله فقولوا: السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعض السلف يفعل ذلك، لكن الآية في الأقارب وليست في المساجد، والبيوت بيوت الأقارب وليست بيوت الله، على أن بيوت الله نحييها عند دخولها بأن نصلي ركعتين لله تعالى، وإذا دخلنا بيت الله الحرام ونظرنا الكعبة نقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)، والتحية في بيت الله الحرام إن كان من الساكن في البلد فصلاة ركعتين، وإن كان من الآتي من الخارج فالتحية بالطواف بالبيت.
وعند الدخول للمسجد النبوي لا بد أن تقول: السلام عليك يا رسول الله! ثم تستقبل القبلة أولاً، وتصلي ركعتين، وبعد ذلك تسلم على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
هذه الآداب الرقيقة آداب الإسلام لم يتركها الله لنبيه ولا للعلماء، وإنما تولاها بنفسه جل جلاله، وعلمها لعباده، وترك التفاصيل لنبيه وخلفائه من العلماء، وهذه الآداب الإسلامية الدالة على نبل الإسلام وحضارته، ولم يقل كثير من الأئمة: هذه آداب فقط بل هي واجبة؛ لأن الله أمر بها، والأمر إذا صدر عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم وليس هناك ما يدل على كونه سنة أو مستحباً فالأمر حينها إذا أطلق لا يراد به إلا الفرضية والوجوب، ففي قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] أمر من الله بالسلام.
ثم قال تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النور:61] فهي تحية من الله جل جلاله وعلا مقامه، فيأمرنا أن نحي أنفسنا ونسلم عليها.
ثم قال تعالى: {مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61] (مباركة) أي: جميله، و (طيبة) أي: حسنة، فيها النماء والزيادة والخير، وهذه التحية التي من الله جل جلاله هي طيبة ومن خير التحيات؛ لأنها من عند الله، ولا يترك هذه الآداب والرقائق إلا جاهل أو منتكس؛ لأنها من الله، وما كان من الله ففيه الخير والبركة والأجر والثواب، وفي الطاعة والامتثال كل الخير.(114/7)
توضيح الله لأحكامه للناس
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور:61].
فقوله: {كَذَلِكَ} [النور:61] أي: كما بينا ما مضى من الآداب، {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} [النور:61] أي: يوضحها ويفسرها، ويبين حلالها من حرامها، حتى تصبح واضحة للكبير والصغير، للرجل والمرأة، وكان هذا الأمر كذلك، فقد بين الله لنا بعض ما أوضحته الآية، ومن لم يكن متعلماً لا يعرف العربية كما ينبغي فقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضح ذلك خلفاءه من العلماء الذين لا يزالون يتوارثون ذلك وينشرونه ويوضحونه إلى يوم القيامة.
ثم قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور:61] أي: لعلكم تكونون عقلاء مدركين، تفهمون مقدار هذه الآداب والرقائق واللطف الذي أراده الله تعالى لعباده المؤمنين والموحدين، وقد سئلت السيدة عائشة رضوان الله عليها كيف كان خلق رسول الله؟ فكان جوابها: كان خلقه القرآن.
أي: ما ورد عن الله في كتابه كان هو خلق رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالخلق الكامل ما أتى به القرآن العظيم: في الآداب والواجبات والرقائق والحلال والحرام، ومن ذلك: كان رسولنا هو الأسوة الأعظم كما قال الله: {لَقدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، فمن كان متبعاً للسيرة النبوية ومتخلقاً فيكون من الفرقة الناجية، الناجية من عذاب الله، والفائزة بدخول الجنة.(114/8)
تفسير سورة النور [62 - 64]
ذكر الله تعالى من صفات المؤمنين أنهم إذا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر جامع لم ينصرفوا حتى يستأذنوه، فإذا أذن لهم انصرفوا، وإذا لم يأذن لهم للحاجة إليهم فإنهم لا ينصرفون.
ثم أدب الله تعالى المؤمنين بأنهم لا يجعلوا دعاء الرسول ومناداته كدعائهم لبعضهم البعض، وإنما يجلونه ويوقرونه.(115/1)
تفسير قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله)
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:62].
علمنا الله في الآية السابقة أدب الاستئذان عند الدخول فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور:58]، وقال في الكبار: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59]، فذاك الاستئذان عند الدخول، وهذا عند الخروج.
وفي الحديث النبوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد والسنن يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم على جماعة فليستأذن، فإذا دخل فليسلم وإذا خرج فليسلم، والسلام استئذان، فليست الأولى بأحق من الثانية) وهكذا يبين لنا النبي عليه الصلاة والسلام كتاب الله، ويكون الأسوة قولاً وعملاً وتقريراً عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:62] أي: المؤمنون منحصرون في هذا؛ لأن (إنما) أداة حصر، {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:62] أي: كان إيمانهم بالله عن قول وعمل في الطاعة والامتثال.(115/2)
الاستئذان عند الأمر الجامع
ثم قال تعالى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62] وصف الله هؤلاء المؤمنين إن كانوا مؤمنين حقاً وصدقاً، أنهم إذا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر جامع، والأمر الجامع: أن يجمعوا مصالح المسلمين في صلاة جمعة أو مجلس ذكر أو علم، أو معارك وجهاد وغيرها مما يتعلق بمصالح المسلمين عموماً، فهؤلاء لا يكون إيمانهم إيماناً صادقاً وحقاً إذا حضروا في مثل هذه الاجتماعات النبوية، ألا يتركوها ولا يذهبوا عنها إلا إذا استأذنوا رسول الله، وقالوا: يا رسول الله! ائذن لنا عندنا عمل ونحوه، فإن أذن فذاك وإلا فلا.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:62] أي: الذين لا يستأذنونك يا محمد! عندما يكونون معك في أمر جامع أو مصلحة جامعة من مصالح المسلمين: من علم أو مشورة أو مدارسة أو جهاد أو أي عمل يحتاجه رسول الله عليه الصلاة والسلام لمصالح المسلمون عموما ولمصالح دينهم، فهؤلاء الذين لا يتركون المجلس إلا بعد الاستئذان، فهو هم المؤمنون حقاً، والمؤمنون بالله وبرسوله.
وفي معنى النبي عليه الصلاة والسلام إمام المسلمين، وورثة رسول الله عليه الصلاة والسلام من الدعاة إلى الله والعلماء بالشريعة والصالحين، فإذا اجتمعوا فلا ينبغي للقوم أن يتركوا مجلساً أو معركة أو أعمالاً جامعة لمصالح المسلمين إلا إذا استأذنوا الكبير أو القائد من إمام المسلمين، أو نوابه من العلماء ورثة الأنبياء، فمن دونهم من المعلمين.
والأمر بالاستئذان سببه هو المصلحة العامة، والعمل الجامع لمصالح المسلمين، فإن كان من رسول الله فذاك الأصل، وإن كان الأمر الجامع من نوابه بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فهو استأذن من الإمام ومن برتبته من العلماء والدعاة إلى الله.
ثم قال تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} [النور:62] أي: إذا استأذنك المؤمنون والصادقون ممن يؤمنون بالله وبرسوله.
{لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} [النور:62]، أي: لبعض مصالحهم لسبب ما، كمرض أو مصلحة خاصة لا يقوم بها سواه، {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:62] ولماذا لمن شئت؟ لأنه قد يكون النبي عليه الصلاة والسلام محتاج لبعض هؤلاء الذين استأذنوه، فإذا لم يأذن لهم فمعناه: أن مصلحة المسلمين هي في بقائهم وعدم ذهابهم.
فهنا ترك الأمر في المشيئة لرسول الله، فإن رأى ألا مانع من ذلك أذن لهم، وإن رأى بقاءهم لمصلحة المسلمين لم يأذن.
ثم قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} [النور:62].
أي: ادعو الله أن يغفر لهم، واستغفار رسول الله للمؤمنين يستجاب، ففي بعض الآثار: ادعوني بلسان لم تعصوني به ومن هنا كانت هذه الآداب، فيطلب المعاصر لرسول الله أن يستغفر له، وكذا يطلب العادي من العلماء والصالحين والأطفال الذين لم يعصوا الله بعد أن يدعوا له، فيكون قد دعا بلسان لم يعص به، ويكون هذا أقرب إلى التقوى وإلى الطاعة وإلى الامتثال من الداعي.
ثم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:62] أمر نبيه وعبده صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهؤلاء إن ظهر منهم شيئاً، وليست العصمة إلا للرسل والأنبياء، فليس أحد منا من كبارنا وصغارنا سلفنا وخلفنا إلا وهم في حاجة إلى الاستغفار وإلى التوبة، فالله يغفر الذنوب جميعاً، ويرحم عباده المؤمنين الصادقين اللاجئين إليه؛ لينالوا رحمته ومغفرته.(115/3)
تفسير قوله تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم)
ثم قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
أي: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً، يعلمنا الله تعالى في الآيات الماضية الأدب مع بعضنا من أقاربنا وأهلنا وأصدقائنا، وهنا يعلمنا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، ولا يترك هذا الأدب إلا مخذول قد غضب الله عليه ولم يرد به خيراً، فقال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] أي: لا تدعوا رسول الله دعاءكم مع بعضكم، فنحن نقول لبعضنا: يا سيد فلان، أو يا فلان بلا كلمة معها، لكن من الأدب مع رسول الله ألا تقل: يا محمد! ولا يا أبا القاسم، ولا يا سيد محمد، ولا تذكره بلا صلاة عليه، كما يفعل الكثير من سفهاء العصر، يقفون متكلمين أو كاتبين أو دارسين لا يقولون قال: محمد، وإنما يقولون أحياناً: قال رسول الله، وهذا هو الواجب، لكن لا يختمون الكلمة بالصلاة على رسول الله، وقد قال الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56]، ثم أمر المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
فالصلاة على رسول الله كلما ذكر هي من آداب النبوة والرسالة، ومن الآداب التي حث عليها كتاب الله، فقال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] أي: لا تقولوا: يا محمد، وكان يأتي بعض البدو والأعراب ومن لم يدخل الأدب النبوي قلوبهم فينادون من رواء الحجرات: يا أبا القاسم! اخرج لنا، يا محمد! تعال، أو وهم جالسون معه، ويرفعون أصواتهم في ذلك، فحرم الله كل ذلك، وقال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] أي: لا ننادي الرسول كما ننادي بعضنا، ولا ندعوه كما ندعو بعضنا: يا فلان أو يا أبا فلان، بل نناديه ونقول: يا نبي الله يا رسول الله، وقد يذكر اسمه وتقول: محمد عليه الصلاة والسلام، فإذا ناديته باسمه فلابد أن توصل بها (صلى الله عليه وسلم)، وهذا من الدعاء الذي ليس لبعضنا مع بعض، فلا نصلي على أحد إذا ذكرناه مهما كان، ولا أبي بكر ولا عمر، فلا نقول: قال أبو بكر صلى الله عليه وسلم، ولا قالت فاطمة: صلى الله عليها وسلم، بل نترضى على الصحابة؛ لأن الله رضي عنهم، فنقول: قال أبو بكر رضي الله عنه، وقال مالك رحمه الله.
وأما الصلاة فقد انفرد بها سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، فالأدب أن نقول: قال رسول الله، أو قال نبي الله ونختمها بصلى الله عليه وسلم.(115/4)
مكانة الصلاة على رسول الله
قال عليه الصلاة والسلام: (البخيل كل البخيل من إذا ذكرت عنده لم يصل علي)، فلا يكفي أن نقول نحن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كل من سمع خطيباً أو مدرساً أو متكلماً يذكر رسول الله يجب عليه أن يقول: صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن هنا إذا قلنا: قال أبو القاسم -وقد فعل هذا بعض الصحابة والسلف- ينبغي أن نقول معها: صلى الله عليه وسلم، وإذا قلنا: قال محمد، ينبغي أن نقول معها: صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن الله قد حرم أن ندعو نبينا كما ندعو بعضنا، فإننا ندعو بعضنا بيا فلان! أو يا أبا فلان! ولا نصلي عليه، ولا تكون الصلاة إلا على رسول الله، فإذا قلنا: يا محمد، أو يا رسول الله، أو يا نبي الله فيجب أن نختمها بقولنا: صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وهل لا بد أن نقول: سيدنا محمد، أو سيدنا أحمد أو سيدنا أبو القاسم أم لا؟ نقول: السيادة في حد ذاتها لا تشرف النبي، وإنما تشرفنا نحن، وكون الرسول سيدنا معناه: نحن الذين شرفنا بسيادته، فلا يكفي أن تقول: سيدنا محمد دون أن تصلي عليه.
وأما التبجيل والتعظيم فهو أن تقول عنه: رسول الله، أو نبي الله صلى الله عليه وعلى آله، وإذا قلت: سيدنا النبي، فهو سيدنا وسيد الكل، ولكنه شرف لنا نحن، ولقد قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وهو إمام الأنبياء والمتقين، وأين نحن من سيادته علينا نحن؟ ولكن الشيء الذي لا بد منه ولا يجوز التفريط فيه أنه إذا ذكرناه أو ذكر ونحن نسمع أن نقول: صلى الله عليه وسلم.
وحاول البعض أن يقول: الدعاء هنا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لا تظنوا أن دعاء النبي على أحدكم أو أن دعاءه لواحد منكم هو كدعائكم، بل دعوة النبي مستجابة إذا دعا عليكم أيها المنافقون، وقد مضت الآيات وفيها وجوب أن تعتقد أن ما دعا به واقعاً لا محالة، وإذا دعا لكم أيها المؤمنون الصادقون فتأكدوا من أنفسكم أن دعوته لكم مستجابة، ولكن الموضوع ليس هذا، الموضوع الأدب مع النبوة والرسالة، وفيه ما مضى من قبل ألا نترك أمراً جامعاً أو مجلساً نبوياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فنترك مجلسه وأمره الجامع دون أن نستأذنه، فالأدب هو هذا.
وقوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ} [النور:63] ومن هذا كذلك لا تقولوا: يا محمد! أو يا أبا القاسم! بل قولوا: يا رسول! أو يا نبي الله! هذا في عصره، وبعد عصره وإذا ذكرناه نذكره برسول الله ونبي الله، ونختمها بصلى الله عليه وسلم.
وقد أمرنا الله بذلك في الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] و (تسليما) مفعول مطلق، أي: كثير السلام كثير الصلاة، كيف والله جل جلاله ابتدأ بنفسه بالصلاة عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56]، وهل احتاج بعد ذلك إلى صلاتنا؟! وإنما أمرنا الله بذلك، فكيف وقد صلى الله عليه، وصلت عليه الملائكة، أفناتي نحن ونجمل بكلمة نقولها عند ذكره صلى الله عليه وسلم؟! ومن الأدب مع رسول الله الصلاة عليه عند ذكره، وإلا فنكون قد عصينا أمر الله المتمثل في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وفي هذه الآية يقول الله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]، فليس الأمر مع الرسول كالأمر بيننا لا في الآداب ولا في المعاملة ولا في النداء، بل في كل ذلك يجب أن يكون مع النبي عليه الصلاة والسلام في الذروة والقمة.
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يكونون جالسين بين يدي رسول الله كالميت بين يدي المغسل، ويكونون جالسين وكأنما على رءوسهم الطير لا يتحركون، ولا يبتدئونه بكلام إلا إذا هو ابتدأ به صلى الله عليه وسلم، ولا يرفعون أصواتهم إذا تحدثوا على صوته، وقد هدد الله من يفعل ذلك بأن يحبط عمله وهو لا يشعر.
وكانوا يتبادرون إليه صلى الله عليه وسلم إذا قص شعره في الحي، فيأخذون شعره ليتبركوا به، وكان إذا توضأ يكادون أن يتقاتلوا على أخذ شيء من مائه، وإذا نادى أحداً يبادر بالجواب لبيك وسعديك يا رسول الله، ولأصحابه من ذلك غرائب وعجائب.
ففي ذات مرة كان يخطب على المنبر وكان ابن مسعود في الشارع لم يصل بعد، فقال النبي: اجلس، وإذا بـ ابن مسعود يجلس في الأرض في الشارع بعد الصلاة، فيخرج النبي صلى الله عليه وسلم فيجد ابن مسعود جالساً، فيقول له: ما بالك؟ فيقول ابن مسعود: يا رسول الله! سمعتك تقول: اجلس، فجلست.
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال: اجلس لمن دخل وهو يخطب وأراد أن يصلي ركعتين، فمنعه من ذلك ليسمع الخطبة، وقال له: اجلس فليس هذا وقت صلاة؛ لأن من تمام صلاة الجمعة أن ينصت الإنسان للخطيب، وألا يلهو ساعة الخطبة، وإلا فمن لغى فلا جمعة له.
ونرى كثيراً من الناس اليوم يخطب الخطيب وهم يطوفون، فيجب أن يمنعوا بالعصي، والشرطة لا يقومون بذلك؛ لأن الخطبة إذا ذاك هي الواجبة، وصلاة الجمعة واجبة أيضاً، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من فاتته صلاة الجمعة ثلاث مرات طبع الله على قلبه)، فهؤلاء الذين لا يذكرون الطواف إلا وقت الخطبة جهلة مقصرون، ويرجعون بالوزر لا بالأجر في تلك الساعة؛ لأنهم مأمورون بسماع ما يقوله الخطيب، ويجب أن يمنعوا من ذلك، وكذلك صلاة التحية أو صلاة ركعتين والإمام يخطب، بل ينبغي أن ينصت الإنسان.
وقد أمر عليه الصلاة والسلام من يأتي لصلاة يوم الجمعة أن ينصت ويسمع، ولا يتخطى الرقاب، ومن فعل سوى ذلك فقد قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (فليرجع مأزوراً غير مأجور) أي: يرجع بالوزر وبالإثم لا بالأجر.(115/5)
تفسير قوله تعالى: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً)
قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور:63].
(قد) هنا للتحقيق، أي: يعلم الله حقاً الذين يتسللون، والتسلل: هو الخروج خفية، و (لواذاً) أي: يحاولون أن يختفوا وراء بعضهم؛ ليتركوا الصلاة والاجتماع، وليخرجوا بغير أذن، فقال الله عنهم: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور:63]، ومعنى: (قد يعلم الله) أي: قد علم، فهم يخرجون بلا إذن مختفين يلوذ بعضهم ببعض؛ حتى لا يراه رسول الله ويوبخه، ولكن الله قد رأى، وهو قادر أن يُري نبيه ذلك ويعلمه بذلك، وقد فعل.
وقد علمنا الله كيف نتأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، فالله يعلم هؤلاء المنافقين المتسللين التاركين مجالس رسول الله، ومن ذلك: مجالس علمه وسنته، ومجالس كتاب الله ونشر العلم الموصل إلى معرفة الله ومعرفة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الفقرة من الآية التهديد والنذارة لمن يفعل ذلك؛ لأن الله عالم به.(115/6)
تفسير قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره)
ولذا قال الله بعدها: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63].
أي: عن أمر رسول الله، فيحذر الله جل جلاله ويهدد ويوعد ويخوف من يخالف ويعصي أمر رسوله، {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] أي: أن تصيبهم فتنة في الحياة في الدنيا من نفاق أو كفر وردة، أو من مصائب وبلايا وكوارث.
ثم في الآخرة: {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] في الآخرة عذاب أليم إضافة إلى هذا الذي في الدنيا، ففي الدنيا هدد بالنفاق وبالكوارث، في الآخرة هدد بعذاب النار الأليم الموجع المهلك.
وهذا في مخالفة رسول الله حياً وميتاً، فهو رسول الله في حياته وبعد مماته، فلا نبي ولا رسول بعده، ودينه باق إلى يوم النفخ في الصور، وقد أمر بالإيمان به كل إنسان في مشارق ومغاربها، سواء أكان أبيض أم أسود، رجلاً أم امرأة، وهذه الآية -أي: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63]- تعم كل مخالف.
و (عن) في قوله: (عن أمره) صلة، وفسرت (عن) هنا بأنها ليست صلة وإنما هي كلمة أصلية، (يخالفون عن أمره) أي: يختلفون في طاعته ويخرجون عنها.
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] أي: ليحذروا من أن يصابوا بفتنة في حياتهم الدنيا: من شرك، أو بلاء، أو أي نوع من أنواع المصائب والكوارث.
{أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] أي: مع هذا فيوم القيامة يصابون بمصائب العذاب الموجع، والعذاب المؤلم في الآخرة بالنار في يوم العرض على الله، وهذا جزاء المخالف لرسول الله وطاعة رسول الله، ومن قال: نطيع القرآن وأما السنة فلا حاجة إليها، فقد قال بهذا زنادقة، وهم بهذا مرتدون، فلا يتصور الإسلام بغير طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالله قد قال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، فما أتانا رسول الله وأمرنا به فقد أمرنا الله به أيضاً؛ لأن الله أمرنا بطاعته والامتثال لأمره صلى الله عليه وسلم.
وكذلك النهي، فقد أمرنا الله أن نمتثل أمره ونجتنب نهيه، ومن خرج عن ذلك فقد خرج عن القرآن، ومن خرج عن القرآن أصبح مرتداً حلال الدم والمال.(115/7)
تفسير قوله تعالى: (ألا إن لله ما في السماوات والأرض)
ثم قال تعالى: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:64].
قدس الله جل جلاله نفسه، وعلمنا أن نقدسه ونعظمه ونجله؛ فله السماوات وما فيها، والأرض وما عليها وما تحتها، وله كل شيء خلقاً وملكاً وتدبيراً وأمراً ونهياً، ومادام الأمر كذلك أيليق بالعبد أن يخالف سيده؟ وهل يصلح أن يعصي خالقه ويخرج عن طاعته؟ هذا في لغة العقول لا يليق، وهو في لغة الشريعة كفر وردة وخروج عن الإسلام.
وقوله: (ألا إن لله) (ألا) حرف تنبيه، وكأن المعنى: ألا انتبهوا أيها الناس، وانتبهوا أيها المنافقون، ويا هؤلاء الذين عصوا وخالفوا وخرجوا عن أمره! ألا اعلموا وانتبهوا أنكم لله بأرضكم وسمائكم، وكل ما في الكون ملك وخلق له، أفيليق بالمخلوق المملوك أن يخالف مالكه وخالقه؟ لا يليق هذا في لغة العقول، وهي لغة الشرع والإسلام كذلك.
وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [النور:64] (قد) هنا للتحقيق، أي: قد علم الله ما أنتم عليه، وعلم حالكم من صدق وكذب، ومن إيمان وكفر، ومن صدق ونفاق، وهذا إنذار بأن الله لا تخفى عليه خافية، فهو يعلم السر وأخفى، والسر: هو ما ساررته مع أحد، والأخفى: هو الذي تخفيه ولا تقوله لأحد.
فالله يعلم ما في الضمائر، وما تنطوي عليه النفوس، وما يحدث به الإنسان نفسه ولا يخرج على لسانه.
إذاً: فكيف يخرج هذا العبد عن أمر الله وطاعته والله يعلم كل حاله ما نطق وما أضمر!! وقوله سبحانه: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [النور:64] أي: ويوم يرجع الخلق إليه يوم البعث والنشور، يوم الحياة الثانية، يعلم أولئك أن الله تعالى علم ما عملوا في دنياهم ظاهره وباطنه، سره وعلنه، وعند ذا يصيح الكفار والعصاة والمنافقون {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف:49]، ينطق بذلك كتاب الله، وينطق بذلك المكلفان عن اليمين والشمال، فإن وجد خير فهو في كتاب اليمين، وإن وجد شر فهو في كتاب اليسار.
وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:64].
ربنا عليم بكل شيء، والشيء: كل ما سوى الله، فالله يعلم أعمالنا ظاهرها وباطنها، وصدقها وكذبها، فهو عالم بكل شيء جل جلاله، وهذا تهديد ونذارة ووعيد للإنسان أن يخفي ما يظن أن الله لا يعلمه، فإذا ظن ذلك معناه أنه ازداد ضلالة وإفكاً وكفراً، ولما كان الله عالماً بكل شيء، ولا تخفى عليه خافية، فلا يليق بالمسلم إلا أن يكون صادق الإيمان، عاملاً بالأركان، مطيعاً لربه فيما به أمر، تاركاً لما عنه نهى، مطيعاً لرسوله كذلك، ومادام أنه يعلم -وهذا من عقائد المسلمين الأساسية- أن الله مطلع على كل شيء ففيما المخالفة والعصيان إذاً.
وهكذا ننتهي بسورة النور المباركة، ذات الأحكام العجيبة والحكم البليغة، وعلى صغر آياتها كانت عظيمة الأحكام والآداب والأذواق والرقائق، قد علمنا الله فيها ما يجب عن المسلم أن يكون عليه مع ربه، ومع نبيه ومع نفسه، ومع أهله وأصدقائه، وأن يتجنب النفاق والعصيان، وأن يتجنب مخالفة الشرع، فالله عالم بكل شيء ومطلع عليه.(115/8)
تفسير سورة الفرقان [1 - 3]
لقد فرق الله تعالى في هذه السورة بين الحق والباطل، وأبان عن شبه المشركين وفندها بالطريقة العقلية المقنعة، والأسلوب الراقي الدامغ لشبههم، وأحق الحق بكلماته ولو كره المشركون.(116/1)
تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً)
قال الله جلت قدرته: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:1 - 2].
سورة الفرقان هذه فرق الله بها بين الحق والباطل، وفيها الكلام على كتاب الله المنزل على نبيه وعبده صلى الله عليه وسلم، وما قاله المبطلون عنه، وعن رسول الله المنزل عليه، ولكن الله دحض باطلهم وكذبهم في هذا الكتاب، وفي هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فساق كل كفرياتهم الصلعاء، وأكاذيبهم وافتراءاتهم، وكما يقال: ما أشبه اليوم بالأمس، فهذه الكفريات التي قيلت منذ ألف وأربعمائة عام هي الكفر والظلم والافتراء الذي لا يزال يذكره الكفار اليوم بنفسه وشكله، والكفار منبعهم ومرجعهم واحد، وهو الجحود بالله ورسالاته، والكفر بالكتب السماوية، وما أوحى الله به إلى رسله.
قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان:1] أي: تعاظم وتقدس، وزاد إنعامه على خلقه وعباده مؤمنين ليشكروا النعمة، وليزيدهم الله من فضله، وكافرين لتقوم عليهم الحجة البالغة، ولا يجدون عند العرض على الله ما يبرر كفرهم وجحودهم.
قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان:1] أي: تبارك الله أحسن الخالقين، وتبارك الله منزل الكتاب على عبده، وتبارك الله الخالق الرازق المحيي المميت.
والفرقان: هو القرآن الكريم الذي أنزله على عبده محمد سيد الخلق صلى الله عليه وعلى آله؛ ليكون كتابه الذي به يفرق بين الحق والباطل، والذي به يعلم هو قبل غيره ما الإسلام عقائد، وما الإسلام أحكاماً، وما الإسلام آداباً، وما الإسلام مآلاً وحالاً ودنياً وآخرة.
قوله: (على عبده) أشرف صفة يوصف بها نبي هي كونه عبداً لله، والله قد ذكر العبودية في أشرف حالة أكرم بها نبيه صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء، إذ قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]، هذه الحالة التي لم تكن لنبي قبل ولا لرسول، حيث أسري به إلى البيت المقدس، ثم عرج به إلى السموات العلى إلى أن سمع صريف الأقلام، وصار قاب قوسين أو أدنى، ومع ذلك ما زاغ منه البصر وما طغى، وفي هذه الليلة صلى إماماً بالأنبياء منذ آدم وإلى آخر الأنبياء قبله وهو عيسى ابن مريم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالله عندما يصف عبده ونبيه ورسوله بالعبودية له فذلك تشريف ورفعة، وذلك مقام لا يكاد يحله غيره.
قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] هذا الكتاب أنزله عليه وجعله به رسولاً، وجعله به بشيراً ونذيراً.
(ليكون للعالمين) أي: عالم الإنس والجن، منذ ظهر في هذه البقاع المقدسة وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] فكان رسولاً للإنس وللجن، قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:1]، فقد استمع نفر من الجن القرآن واهتدوا به، فمنهم المسلمون كذلك، ومنهم الجاحدون كذلك، ولا يزال يسمى في مدينتنا هذه المقدسة مسجد باسم الجن؛ لأنهم قالوا: في ذلك المكان أوحي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام سورة الجن، وفي ذلك المكان جاءه الجن مؤمنين به، سائلين عن الكتاب المنزل عليه، طالبين البيان والإيضاح لهذه الرسالة الجديدة؛ الرسالة المحمدية الخالدة، وهذه الآية {لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وهي كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158].
فأمر الله نبيه وعبده وخاتم أنبيائه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقف فينادي في الناس كلهم من عاصره ومن لم يعاصره، ومن سمع فليحدث من لم يسمع، وهكذا إلى أن قامت علينا حجة الله، فسمعنا نحن كذلك النداء عن آبائنا وشيوخنا، وهم سمعوه عن آبائهم وشيوخهم إلى المرسل إليه إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم إلى الروح جبريل رسول الملائكة إلى الرسل من الناس إلى الله جل جلاله وعلا مقامه.
قوله: (نذيراً) أي: مخوفاً، ومنذراً، ومهدداً، وموعداً، إذ عندما برز صلى الله عليه وسلم ونزل عند أم المؤمنين الأولى بعد نزول الوحي عليه في غار حراء في هذه المدينة الطاهرة المقدسة نزل إلى زوجه يرجف فؤاده، وترعد نفسه، وهو يقول: (زملوني زملوني!) أي: غطوني، فأخذته قشعريرة نتيجة هذا الحمل الثقيل الذي كلف به، ثم قص قصته على خديجة ومنذ أعلم ذلك لم يكن في الأرض مهتد واحد، وكان الوحي ينزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بين كل الخلائق؛ ولذلك أنزل عليه القرآن ليكون لجميع العوالم عالم الإنس والجن، فمن أدركه من هؤلاء ومن سيأتي بعده إلى يوم القيامة يكون مخوفاً لهم من عذاب النار، ومن البقاء على الشرك وعلى النصرانية التي بدلت وحرفت ثم نسخت، ومن اليهودية التي بدلت وحرفت ثم نسخت، فقد نسخت التوراة والإنجيل بالقرآن الكريم المهيمن عليهما، ونسخت رسالة صاحبيها برسالة محمد صلوات الله وسلامه عليه إلى الناس كافة الأبيض والأسود، كما قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت إلى الأحمر والأسود) وكما قال صلى الله عليه وسلم: (كان النبي قبلي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) وذاك من خصائصه، وما يزعم من يزعم بأن الأديان الثلاثة عالمية: الديانة اليهودية، والنصرانية، ثم الإسلام فهذا كذب وزور، ومن التحريف الذي حرف به النصارى واليهود دينهم، وتبعهم بعض من لا يعلمه من أفراخ المسلمين الذين تلقوا علومهم عنهم، فهم اسمهم في القرآن وفي التواريخ القديمة: أنبياء بني إسرائيل، وخاتمهم عيسى، وقد جاء في الإنجيل عنه: (إنما أرسلت إلى خراف بني إسرائيل).
قلت: وقد أكد القرآن المهيمن على الكتب السماوية هذا المعنى فقال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [الصف:6]، فجاء مصدقاً لتوراة موسى، وأنه مرسل لليهود فقط، ولبني إسرائيل فقط لا غيرهم، ولو كانت ديانته في أيامها لم تحرف بعد، ولم يحرف الإنجيل والتوراة بعد، ولو آمن بها غير اليهودي لكان آمن بما لم يكلف به ولم يبعث إليه، فنبينا وحده صلى الله عليه وعلى آله هو الذي اختص بذلك، وذاك من خصائصه كما قال في بداية هذا الحديث: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: كان الأنبياء يبعثون إلى أقوامهم خاصة وبعثت إلى الناس عامة) ومصداق ذلك هذه الآية، ونظائرها في القرآن كثير، وهو مما هو معلوم من الدين بالضرورة، يعلمه العالم والجاهل، ويعلمه الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والمؤمن والكافر، وأن محمداً عندما ظهر -وهو خاتم الأنبياء والرسل- دعا الناس كافة إلى دينه، وكتب قبل أن يموت عليه الصلاة والسلام إلى القياصرة والأباطرة وإلى كسرى وأمثاله، وإلى جميع ملوك الأرض وأمرائه يدعوهم إلى الإسلام؛ لتكون حجة الله البالغة، وليقوم صلى الله عليه وسلم بما كلف به من البلاغ ودعوة الناس كافة عربهم وعجمهم، مؤمنهم وكافرهم، وثنيهم وكتابيهم، يدعوهم إلى الله وحده وإلى رسالته، وأنها نسخت ما سبق قبل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
وكما قال عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي) وعيسى في السماء الأولى، وسينزل في آخر الدنيا عند قرب الساعة، سينزل إلى الأرض وهو على دين نبينا، فيصلي صلاتنا، ويصوم صيامنا، ويستقبل قبلتنا، ويحج حجنا، وهو يكون بذلك من أتباعه وأصحابه صلى الله عليه وعلى آله، إذ تعريف الصحابي انطبق على عيسى، وهو: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وآمن به ومات على ذلك، وعيسى اجتمع بنبينا ليلة الإسراء والمعراج في السماء الأولى، وقال عيسى لنبينا: مرحباً بنبي الله أخي، فهو قد اعترف به نبياً، ثم نزل معه، ونزل كل أرواح الأنبياء من في الأرض ومن في السماء وصلوا خلفه في المسجد الأقصى، صلى بهم إماماً، وقد تواترت بذلك الأحاديث والأنباء فلا ينكر ذلك إلا جاهل.(116/2)
تفسير قوله تعالى: (الذي له ملك السماوات والأرض)
قال تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2].
الذي أنزل الكتاب على عبده هو الله تعالى فهو قائله، والقرآن كلامه، وليس كما زعم الأعداء من الكفرة والجاحدين والمشركين، وسيقص الله كفرهم وجحودهم، وسيرد ذلك ويدحضه بالحجة التي لا تنازع ولا تراجع، هذا الله الذي زكى وعظم نفسه؛ ليعلمنا مقامه، ولنتخذ ذلك ديناً بأن الله جل جلاله له ملك السموات والأرض، وهو خالق السموات ومالكها وما بينها، وهو خالق الأراضين السبع وما بينها، وهو مالكها، يدبر أمره من سماواته جل جلاله وعلا مقامه، الذي له ملك السموات والأرض ملك عبودية وخلق.
قال تعالى ينزه نفسه ويعظمها، ويرد على كل مختلف ألوان كفر الكافرين: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الفرقان:2] أي: لم يتخذ ولداً كما زعم من قال: إن الملائكة بنات الله، وزعم ذلك طوائف من العرب وغيرهم، (ولم يتخذ ولداً) كما زعم اليهود والنصارى عندما قالوا عن أنفسهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، ولم يتخذ ولداً كما زعم اليهود عندما قالوا: العزير ابن الله، ولم يتخذ ولداً كما زعم النصارى بأن المسيح ابن الله، ذلك أفكهم، وذلك قولهم بأفواههم تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ولولا أن الله ذكر ذلك لما أبحنا لأنفسنا أن نقوله، ولكن نقوله حكاية لنرد ولندفع ولنكفر أصحابه، ولندعوهم إلى الله كما دعاهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الفرقان:2] أي: ليس له ولد، ولم يخلقه، ولم يكن قط يوماً من الأيام، وإنما هي افتراءات وأكاذيب وأضاليل كذبها من زعم ذلك عن الملائكة، وافتراها من زعم ذلك من اليهود، وافتراها من زعم ذلك من النصارى، فالله جل جلاله لا تليق به صاحبة، ولا يليق له ولد، فهو خالق ورازق الكل، والكل له عبد، وليس الولد عبداً.
قوله: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111] أي: ليس في ملكه شريك، فقد خلقه وحده، ولم يحتج إلى عون أحد: لا من ملك، ولا من إنس، ولا من جن، بل هو خالق الملك، وخالق الإنس والجن، وقادر على كل شيء جل جلاله، وكل ما زعمه المشركون من أصنام جعلوها شريكة، ومن بشر جعلوهم شركاء، ومن جن جعلوهم شركاء إن كل ذلك إلا كذب وافتراء على الله، ما أنزل الله بذلك من سلطان، ولم ينزل بذلك دليلاً سماوياً، ولا يقبله دليل عقلي، إن هو إلا السخافات والأكاذيب والأضاليل التي عاش عليها هؤلاء الكفرة، ولا يزال هؤلاء المشركون الضالون من مختلف الملل والمحل من الكافرين يهوداً ونصارى ومجوساً مشركين وملاحدة ووثنيين يعيشون عليها، حتى الذي قال: إنه يعطل ولا يؤمن بشيء، كذب وافترى، فقد جعل الطبيعة شريكاً لربه، وقال: هي التي خلقت، وهي التي صنعت، وقد جعل الإنسان شريكاً لربه فقال: الإنسان هو الذي صنع واخترع، ولا شيء سوى ذلك، فهو قد جاء إلى الإنسان الضعيف الذي كان نطفة، ثم بعد ذلك تسلسل في أطوار الخلق إلى أن عاد للضعف مرة أخرى إلى أن عاد للفناء وكأنه لم يكن، فكيف يشرك الله في ملكه من لم يكن يوماً موجوداً، ومن هو بعد ذلك فان، وسيفنى يوماً ما، فجاء من التراب وسيعود إلى التراب.
فكيف يزعم أنه شريك لله؟ ولكن العقول عندما تضل، ويذهب نورها، وعندما تبتعد عن نور الله ونور دين الله الحق، ونور محمد صلى الله عليه وسلم فإنها تعمى، وصدق الله العظيم: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] فيهدي لنوره من يشاء، فنوره هدايته، ونوره كتابه، ونوره رسالته، وعندما يخرج النور من بين قلوبهم وصدورهم فإنهم يظلون في ظلام وضلال إذا أخرج الرجل يده لم يكد يراها، ظلمات بعضها فوق بعض كما ضرب الله تعالى مثلاً فيما مضى.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111] أي: ليس هناك شريك قط، وكل ما قد قيل في ذلك كذب وهراء وافتراء على الله، وكيف يتصور في العقول أن أحجاراً نحتها إنسان وسماها مناة أو العزى أو هبل، ثم يجعلها شريكة لله في ملكه وهي لا تضر ولا تنفع، ولا تعي ولا تسمع، كيف يأتي إنسان إلى ملك خلقه الله من نور فيجعله شريكاً لله وإلهاً مع الله أو دونه؟ كيف تقبل لغة العقول أن يؤتى إلى بشر كعيسى لم يكن قبل موجوداً، ثم كان بعد ذلك، ثم سوف يموت ثم يجعلونه عبداً لله وشريكاً لله؟! كيف يكون ال عزير إلهاً وهو عبد من أب وأم، من أم تحيض كما تحيض النساء، وتلد كما تلد النساء بنطفة وجماع؟ إن هي إلا افتراءات وأكاذيب وأضاليل يجب على المسلم عندما يتعقل ذلك ويفهمه أن يكثر الشكر لله على أن أنار قلبه وطهر عقله من أن يعتقد مثل هذه الأضاليل والأكاذيب، ومن هنا جاء قول النبي عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله على نعمة الإسلام) وكفى بها نعمة! فنحن نشكر الله من كل خلايا أجسامنا، ومن كل حواسنا على أن خلقنا مسلمين، وطهر عقولنا من مثل هذه الأضاليل والأباطيل، من أن نعبد حجراً، أو بشراً، أو جناً، أو ملكاً، أو نعبد أي شيء كان خلقاً لله ولم يكن يوماً موجوداً، وسيفنى يوماً ويفنيه الله ويعيده يوم القيامة للسؤال والحساب والعرض على الله.
قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] هذه الفقرة من الآية الكريمة (فقدره تقديراً) فيها رد على فلاسفة وملاحدة مجانين، والفلسفة تعني الجنون، يأتي الإنسان فيفكر في الأقاويل التي لا دليل عليها، ولا منطق فيها، ولا يقبلها عقل؛ فيسمى بذلك -وهو مجنون- فيلسوف، وهؤلاء الفلاسفة لا يكادون يتفقون على حقيقة من حقائق الكون، فقد اختلفوا في كل شيء حتى في الذات العلية، اختلفوا في الصفات الإلهية، واختلفوا في الأنبياء والملائكة، وكل مجنون منهم يقول ما شاء له هواه، ويسمي ذلك ذكراً، ويسمي ذلك فلسفة وإن هو إلا الهراء والجنون والباطل بعينه، فمن جملة ما قالوه: إن هذا الكون أو الطبيعة الإلهية بفطرتها خلقت دون علم صاحبها تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وقالوا: هذا الخلق تسلسل من الخلية الأولى، وهكذا تكاثرت فتوالدت كما يثبت ذلك بطبيعة الماء، وطبيعة القمر، وطبيعة الشمس، وطبيعة التراب، فلم يكن هناك تقدير من قبل، فالله رد على هؤلاء السفهاء فقال: (فقدره تقديراً)، قدر الأجل والزمن، وقدر الحياة، والرزق، والهداية والضلالة، كل ذلك بقدر، وكل ذلك سبق في علم الله، وكتبه القلم باللوح المحفوظ، ولم يدع من ذلك ربنا قليلاً ولا كثيراً، وكل ما نقوله وما يخطر ببالنا وما نعمله منذ آدم أبي البشر الأول إلى الإنسان الأخير الذي ستقوم عليه الساعة كل ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ بعلم الله وتقديره، وبالأجل المسمى الذي ضرب لذلك، ثم هؤلاء السخفاء المجانين عندما يقولون: الخلية الأولى نقول لهم: الخلية الأولى من الذي أوجدها؟ نعم، الخلية الأولى هي آدم، والله هو الذي خلق آدم، ثم خلق من آدم زوجته، ثم خلق منهما السلالة والذرية والأولاد، وهو عندما يريد أن يغير العادة فقد غيرها كما فعل في عيسى، حيث خلقه من أم بلا أب، وقد خالف العادة في خلق ناقة من حجر صلب، خلق منه ناقة بطولها وعرضها، فالله تعالى يخلق ما يشاء، ويفعل ما يشاء، لا يكرهه أحد جل جلاله وعلا مقامه، وهكذا الله تعالى عندما يعلمنا، وينور بصائرنا، ويرسل لنا السيد الكريم سيد الأولين والآخرين نبينا صلى الله عليه وسلم بكتابه هذا المنزل عليه، أنزله ليكون لنا نذيراً ومخوفاً من النار وعذاب الله، وبشيراً مبشراً بالجنة ورضا الله، ولذلك من أعرض عنه كما يفعل الكثيرون حيث يعرضون عن دروس العلم وعن سماع العلم، وعن تفسير القرآن، والكلام عليه في هراء وضياع، وإذا سألتهم: ما كيفية الوضوء؟ ما فرائضه؟ ما هي كيفية الصلاة؟ إذا سألتك زوجتك عن حيضها ونفاسها ما حكمه؟ يعيش معك حيواناً أعجم، وكأن الإسلام لم ينزل عليه ولم يطالب به، وهو مسلم وتجده في بيت الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، وأخبث من هذا أن تجده قريباً منك وهو مدير لك ظهره كأنه مستغن عنك وعن كتابك، وعن دينك، وعن نبيك، وعن ربك، يقول لسان حاله: أنا لا أحتاج لكل هذا، وهكذا أنت ترى الجهل والنفاق! وهكذا أنت ترى الكفر! وهذه إرادة الله لا راد لقضائه.
قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الفرقان:2] أي: لم يخلقه ولده، ولم يخلقه شريك؛ إذ لا ولد ولا شريك، فهو المنفرد بالخلق والرزق، ومنفرد في التدبير والعطاء، وقدر كل ذلك بإرادته حسب أمره وإرادته، لا يكرهه أحد، وليس هناك من يكرهه.(116/3)
تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون)
قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:3].
هذه الأوثان التي عبدوها، والأوثان التي جعلوها شريكة لله وأبناءً لله من ملك أو جن أو إنس أو جماد هذه الآلهة هم اتخذوها ولم يتخذها الله ولداً، وليس لها في واقع الحال وجود ولا كيان، اتخذوها هم كذباً وزوراً على الله؛ ليعيشوا عبيداً من تلقاء أنفسهم للجمادات، ولمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، هذه الآلهة التي خلقوها في أذهانهم، وزوروها وكونوها ولا وجود لها، فهي كالخيالات التي ترى في الأفلام والتي تكتب في الرواية، وهي لم توجد يوماً، ولم تكن يوماً، وإنما الأوهام كونتها، وهي في حد ذاتها لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً.
قوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم:81] هذه الآلهة الزائفة الضائعة لم تخلق شيئاً في حياتها، ولم تستطع ذلك، ولا يليق بها، بل هي مخلوقة، فاتخذوا الملائكة آلهة والله هو الذي خلقها، واتخذوا الجن آلهة والله هو الذي خلقهم، واتخذوا الإنس آلهة والله هو الذي خلقهم، فهم لا يستطيعون أن يخلقوا شيئاً، وقد ضرب الله مثلاً لكل الخلق ملكاً وإنساً وجناً على أن يخلقوا ذباباً، بل على أن يستنقذوا من الذباب شيئاً، فقال الله عنهم: {لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] أي: ضعف الملك والجن، والإنس والذبابة، ولو كان هناك شيء أقل من ذبابة لضرب الله به المثل، وهكذا كان وسيبقى وإلى الأبد، فكل ما يذكر الله لنا الآن قد قيل لمن قبلنا، وكأنه يوحى به جديداً على النبي عليه الصلاة والسلام، فبالنسبة لنا هو إيحاء جديد؛ لأننا نسمعه بعد أن خلقنا، وبعد أن أوجدنا، وبعد أن تأهلنا لذلك، ومن هنا جاء الحديث النبوي: (هو الذي لا يخلق على كثرة الرد، ولا يبلى على كثرة التلاوة) فيبقى جديداً باستمرار، فنستنبط ويستنبط العلماء منه الأحكام والآداب والرقائق، فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، هو الفصل الذي يفصل بين الحق والباطل، والفرقان كما سماه الله تعالى، ما تركه من جبار إلا قصمه الله، وما تركه من حاكم أو ملك أو طاغية إلا وقصمه الله في الدنيا قبل الآخرة {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127].
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان:3] هذه الآلهة التي اتخذوها ولا وجود لها هي أعجز من أن تخلق شيئاً، بل هي مخلوقة موجودة، بل هي التي أوجدها الله عن غير رغبة منها أو إرادة، هكذا خلقت كما أن الله لم يستفتنا في ولادتنا ولا في أي عصر نكون، ولا من يكون آباؤنا، ولا من تكون أمهاتنا، فهذا عمل الله المنفرد به جل جلاله، فيخلق ما يشاء كيف شاء في الزمن الذي يشاء.
قوله: {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [الفرقان:3] أي: هذه الآلهة فوق أنها مخلوقة ولا تخلق شيئاً ولن تستطيع: لا تملك لنفسها أن تدفع عنها الضر، أو تجلب لنفسها المنفعة، إن ضرت فهي عاجزة أن تدفع هذا الضر، وإن نفعت فهي عاجزة عن أن تأتي بالنفع لها، ولكن الله هو النافع والضار، ولكن الله هو خالق كل شيء جل جلاله وعز مقامه، أما هي في حد ذاتها فلا تملك نفسها، ولا قدرة لها على جلب منفعة أو دفع ضر كشأن العباد والخلق كلهم، وما نفعله هو بقدرة الله وإرادته، لولا أن الله خلق لنا الأيدي لما استطعنا أن نحمل، ولا أن نبطش، ولولا أن الله خلق لنا أعيناً لما استطعنا أن ننظر، ولولا أن الله خلق لنا عقولاً لما استطعنا أن نفكر، فهؤلاء الذين قالوا: الإنسان هو الله، أو هو شريك الله، ومن الذي خلق الإنسان؟ لو أن هذا الإنسان سلبه الله عقله وحواسه ماذا يستطيع أن يفعل؟ أين قدرته؟ أين استنباطه؟ أين عمله؟ ولكن الضلال والظلام إذا خيم على قلب إنسان أو عقله ضاعت معه كل الحقائق بالنسبة له.
قال تعالى: {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:3].
أي: لا يملكون حياة فيحيوا، أو يعطوا الحياة لأحد، ولا يملكون الموت فيميتوا أحداً، وكم حاول أناس أن يقتلوا فعجزوا، فإن مات فالله هو الذي أماته؛ لأن هذا لم يتجاوز أكثر من ضرب بالرصاص أو بالسيف، أما الروح فلا يعلم ما هي، وقد يضربه ولا يموت وكم حدث هذا! {وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:3] فبعد أن نموت نحيا وسننتشر في الأرض، وهذه هي الحياة الثانية، وهذا هو النشور، وهذا البعث الله وحده قادر عليه، وهذه الآلهة المزيفة المخترعة لا تملك من ذلك قليلاً ولا كثيراً، فهؤلاء على كفرهم وظلمهم وضلالهم لم يكتفوا بذلك، بل أصبحوا دعاة للكفر بكل جهل وحماقة.(116/4)
تفسير سورة الفرقان [5 - 8]
ذكر الله تعالى في هذه الآيات بعض شبه وتلبيسات وأضاليل المشركين تجاه كتابه ونبيه، ثم فند تلك الشبه وردها بما لا يدع لمجادل جدلاً، ولا لعاقل متمسكاً إلا أن يؤمن ويصدق.(117/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه)
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:4 - 5].
هذا أول طعن في كتاب الله قاله الكفرة الأولون، ولا يزال يقوله الكفرة الجدد في كل عصر، (وقال الذين كفروا) أي: المشركون الكافرون الجاحدون، قال هؤلاء: (إن هذا إلا إفك)، (هذا) إشارة للقرآن، و (إن) بمعنى: ما النافية، أي: ما هذا القرآن (إلا إفك) أي: إلا كذب ليس من الله، ولم ينزله الله؛ لأنهم لا يؤمنون بالله، ومن هنا كان الله ابتدأ السورة: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] هو الذي أنزله ولم يخترعه محمد، ولم يخترعه معه أحد صلى الله عليه وعلى آله، بل هو كلام الله الواحد.
قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} [الفرقان:4] أي: ليس إلا كذباً افتراه وولده واخترعه وأعانه عليه قوم آخرون، ومن الذي أعانه؟ قالوا: كان في هذه البلدة حداد أعجمي لا يكاد يبين، وكان في الطائف عبد رومي لـ عتبة وعتيبة ابني شيبة، كذلك كان لا يكاد يستطيع الكلام بالعربية فضلاً عن أن يأتي بقرآن بمثل هذه البلاغة والإعجاز، وقالوا: هؤلاء أعانوه، ثم قالوا: اليهود الذين كانوا في المدينة أعانوه، واليهود حاربوا النبي وألبوا على النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك هم أعجز من أن يقولوا هذا، وكيف يعينونه ولا يؤمنون به ويحاربونه عليه؟ وقد رأينا شعر الشعراء منهم، وقول الكاتبين منهم، هيهات أن يقولوا مثل هذا من قريب أو بعيد! ولكنه الكفر عندما يستولي على النفوس والقلوب، وينطق اللسان بالظلم والكفر والإفك، وهذا الكلام هو الذي لا يزال يقال إلى الآن، فلا تجتمع بيهودي إلا ويقول هذا، ولا بنصراني إلا ويقول هذا، أو بمرتد يزعم أنه مسلم إلا ويقول هذا، من استولى على عقولهم الكفرة من اليهود والنصارى وجامعاتهم، فيشككون المسلمين في صدق القرآن وصدق نبوات نبينا صلى الله عليه وسلم، ويقولون عن أنفسهم: تقدميون، وهم رجعيون! هذا الكفر قد ذكر منذ ألف وأربعمائة سنة، فهم يرجعون إلى هذا الكفر، ويكررون هذا الكفر، فمن المجدد إذاً؟ المجدد هو المسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يقول: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على كل رأس مائة سنة من يجدد لها دينها) فسماه المجدد، وهكذا التجديد: هو الإسلام، والمجدد هو المسلم، والرجعي: هو الكافر، والداعي إلى الكفر هو الرجعي! {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان:4] أي: إن هو إلا كلام ولده النبي واختلقه، (وأعانه عليه قوم آخرون) أي: من رومي ويهودي ونصراني، فالله أتى بهذا الكلام ليدحضه، ولينشر كل كلام الكافرين؛ ليكون الرد عليه، وقد قيل: يؤمن الناس عن يقين وعقيدة، وعن دليل وبرهان قاطع، ماذا عسى أن يقول الكافر في القرآن أكثر مما قاله الكفرة، وقد ذكره الله كله؟! ولكن من الذي يخاف من الرد والنقد؟! قديماً قيل: من كان بيته من زجاج لا يرمي بيوت الناس بالحجارة، فالإسلام كالجبال الرواسي، وكالفولاذ الذي لا يؤثر فيه إلا الله، وهو الذي أتى به وقواه وناصره وثبته وخلده إلى أبد الآبدين، فمنذ ألف وأربعمائة والكفار المعاصرون لنبينا ومن جاء بعدهم وإلى يوم القيامة يقولون عن القرآن ويقولون عن النبي المنزل عليه القرآن ما شاءوا من كذب وافتراء وأضاليل وأباطيل، وما زال القرآن هو القرآن.
كناطح جبلاً يوماً ليوهنه فلم يضره وأعيى قرنه الوعل فذهبوا إلى جهنم، وسيذهب من جاء بعدهم، وسيبقى القرآن هو القرآن منذ ألف وأربعمائة عام على كثرة الكافرين والجاحدين، فما نقرؤه نحن اليوم ويقرؤه غيرنا حتى من الكفرة عندما يريدون مجرد المطالعة هو القرآن الذي أنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام سورة وآية، وحركة ومدة، بنفس اللغة والمنطق، وبنفس التجويد والحركات فيما كان يقرؤه هنا تجاه الكعبة المشرفة، وفي مسجده النبوي في المدينة، وقل جميع من جاء بعده كذلك وإلى عصرنا، هؤلاء حاولوا أن يغيروا وأن يبدلوا على الأقل، وأن يصنعوا بالقرآن ما صنعوه في توراتهم وإنجيلهم، وهذه من المعجزة الخالدة التالدة؛ لأن الله قد تعهد بذلك، وهذه من المعجزات الأبدية التي يكفي أن تذكر، ويكون فيها الرد البليغ على كل كافر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وهذا واضح حيث لا نزال نراه، فالنبي كذبوا عليه وافتروا عليه والأحاديث المكذوبة كثيرة ومعروفة، ولكن الله تعالى حفظاً للقرآن وصيانة للإسلام وللبلاغ النبوي هيأ من الأئمة من مثل مالك وأحمد والشافعي وسفيان بن عيينة وعلي بن المديني والمئات ممن نافحوا عن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فميزوا وغربلوا، وأسقطوا المكذوب، وأثبتوا الصحيح، حتى إنه ما من إنسان قال يوماً: حدثني فلان عن فلان قال رسول الله إلا وسألوه من أنت؟ من أبوك؟ من أسرتك؟ من شيوخك؟ ما هي دراستك؟ فيقبلونه إن ثبت صدقه، وثبتت أمانته، وذكر شيوخه في هذا الحديث، وهؤلاء الشيوخ أيضاً يجب أن يكونوا معلومين معروفين بالعلم والضبط والصدق والأمانة، وهكذا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن لم يكونوا كذلك خلدوا مع الكاذبين، وقالوا عنه: فلان كذاب! فلان ضعيف! فلان وضاع! وهكذا كتب السلف؛ فصحت السنة، وأمنت من الزيغ، وأما القرآن فـ {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]؛ لأن الله هو الذي تعهد بحفظه جل جلاله، وهذه أكبر معجزة للإسلام، فقد غيرت التوراة مع أنها من عند الله، وغير الإنجيل مع أنه من عند الله؛ لأن الله لم يتعهد بحفظهما، ووكل حفظهما إلى علمائهم، فلم يستطيعوا الحفظ فضلوا وأضلوا، وحرفوا وبدلوا وغيروا، وكل ما يذكرونه في دينهم وعن أئمتهم الضالين في التوراة والإنجيل أكاذيب وأضاليل يجري بعضها خلف بعض، ولا يؤخذ من ذلك إلا ما هيمن عليه القرآن وأكده.
قوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان:4] أي: جاء هؤلاء الكفرة بالظلم فظلموا أقوامهم، وستروا عنهم الحق، مع أن أولئك الذين قالوها كانوا في أنفسهم من أعرف الناس بصدق النبي، وأن ما قاله ليس إلا الحق، ولكنهم حسدوه وبغوا عليه، ولما عاش بينهم أربعين سنة ما كانوا يلقبونه إلا بالأمين والصديق، فهذا الذي لم يكذب على الناس مدة أربعين سنة أيكذب على الله بعد أن بلغ أربعين عاماً! كلا.
ثم هم يعلمون من أين له هذه المعارف والعلوم التي كانت مجهولة للعوالم كلها وإلى الآن؟! فالقرآن ليس معجزاً باللفظ فقط، فهو معجز باللفظ والمعنى، وفي كل ما أتى به من معارف سماوية وأرضية، وما كان وما يكون إلى قيام الساعة على كثرة الأعداء، وعلى كثرة الكفار لم يستطع أحد أن يثبت يوماً نقصاً في القرآن: لا في اللفظ، ولا في التعبير، ولا في المعنى، ومن أيام قريبة كتب فرنسي كتاباً يقارن فيه بين القرآن والتوراة والإنجيل، وقد أتى بالآيات التكنولوجية، أي: العلوم التطبيقية من علوم سماء وأرض، وطب وهندسة، وصيدلة وما إلى ذلك، جاء بالآيات التي تكلمت في هذا، وجعل يقارنها بما ذكر في التوراة والإنجيل، فقال: كل ما ذكر من ذلك في التوراة والإنجيل لم يكن صحيحاً من قبل، ولا يؤكده العلم اليوم، ثم جاء إلى ما يسمى بالعلم الحديث، فقال: كل ما وصل إليه العلم الحديث الآن -وهم يزعمون أنهم قد وصلوا من العلم إلى الدرجة القصوى- قد قاله القرآن منذ ألف وأربعمائة سنة، والكثير منهم لا يزالون مترددين ومتشككين فيه، ولكن القرآن قد أخبر وأكد وأثبت سواء آمنوا أم لم يؤمنوا، فالإيمان والهداية بيد الله، وليس على الرسول إلا البلاغ، والله قد قال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:18]، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272] فليس على رسول الله الهداية، فذاك أمره بيد الله، ومن باب أولى ليس على الدعاة إلى الله ولا على العلماء ورثة الأنبياء أن يهدوا الناس، ولكن عليهم أن يبلغوا رسالة نبيهم وكتاب ربهم، ويكونوا بذلك قد أزالوا العهدة عن أنفسهم، وأما الهداية فهي توفيق من الله، ونور يقذفه الله في قلب الإنسان، فإن اهتدى فهو المطلوب، ويعين على نفسه بالإكثار من الضراعة والدعاء إلى الله بأن يعلمه وينير بصيرته.
قوله: (فقد جاءوا ظلماً وزوراً) أي: ظلموا الناس، وظلموا أنفسهم بالافتراء والكذب على الحق، (وزوراً) أي: شهدوا شهادة الزور التي ما سمعتها أذن، ولا رأتها عين، ولا تأكدتها نفس، ولا علمتها معرفة، وإن هي إلا الأضاليل! وهكذا إلى عصرنا جاء من يزعم أنه فيلسوف كبير، وعالم كبير، وصرح بالكفر، فقال مثل ما قال الأميون قبل، ومثل ما قال الجهلة قبل، ومثل ما قال الكفار قبل.
ثم زادوا فقالوا شيئاً آخر:(117/2)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها)
قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5].
وقال هؤلاء الكفار أيضاً، وهم أنواع وأشكال، فهذا الذي قالوه قديماً هو الذي يقال حديثاً، وكأن هذه الآيات أنزلت الآن لتكون رداً على هؤلاء، قالوا: اكتتبها، أي: طلب كتابتها، وهو أمي لا يكتب، وأساطير الأولين جمع أسطورة، كأحاديث وأحدوثة، وهو من التسطير والكتابة، قال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]، فهي كتابة طلب تسطيرها وكتابتها ممن يكتب، ومن كان يكتب؟ من هم هؤلاء الذين كانوا يكتبون فكتبوا للنبي هذا عليه الصلاة والسلام؟! أكتبها هذا الرومي أو هذا النصراني أو هذا اليهودي؟ ثلاثة من البسطاء السذج وهم لا يعلمون الكتابة لا بالعربية ولا بغيرها، ولا يعلمون معرفة، ولا يكادون يبينون بالفهم والمنطق والسماع.
قوله: (وقالوا أساطير الأولين) فهذه أخبار الأولين، وأين الأخبار الجديدة؟ القرآن ليس فيه أخبار الأولين فقط، بل فيه أخبار الأولين وأخبار الآخرين، وفيه الحكم والمعارف والآداب والحقائق، وفيه الحلال والحرام والعلوم، وليس فيه فقط علم السماء، وعلم الأرض، وعلم خلق البشر، وإنما في القرآن كل شيء، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].
قالوا: هذه أساطير وأقاصيص الأولين اكتتبها، وما سوى ذلك من الذي كتبه؟ ومن كان له هذا العلم بالغيب بكل هذه الدرجة؟ ومن كانت له هذه المعارف التي أعجزت الأولين والآخرين؟! ولكن هذا فعل المجانين عندما يعجزون تجدهم تارة يضربون باللسان شتماً، وتارة باليد ضرباً.
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] أي: يكتتبها، ثم (تملى عليه) أي: تقرأ وتتلى عليه، من الإملاء.
(بكرة وأصيلاً) صباحاً وعشياً، هكذا زعموا.(117/3)
تفسير قوله تعالى: (قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض)
قال تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:6].
أي: قل يا محمد لهؤلاء وأمثالهم: (أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض)، وهذا القرآن كله أسرار، وقد ذكر الله فيه غيباً لم يكن يعرفه أحد، ولكن الذي أملاه وأوحى به، والذي أنزله هو من يعلم السر في السموات والأرض، وأما هؤلاء فمن أين لهم علم السر أو علم الجهر؟ من أين لهم العلوم والمعارف التي لم تحدث بعد، ولم تكن بعد، ولم تخطر على بال بشر بعد، وما صحت إلا بعد ذلك بألف عام، ولا يزال يصح بعضها مع مرور الزمن؟ فالقرآن فيه ذكر اختراع السيارة، والوصول إلى القمر، وكل ما يحدث إلى الآن، كل ذلك أخذ من كتاب الله، وأخذ بياناً من حديث رسول الله، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام (فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، هو الفصل ليس بالهزل) هو الذي يفصل بين الحق والباطل، وهو الذي يبين الحقائق من الأكاذيب، وهو الذي يبدد الظلمات ليحل محلها النور، وهو الذي يعلم الجاهل فيزيل جهله، وهو الذي ما إن تركه جبار إلا وقصمه الله وقضى عليه في الدنيا قبل الآخرة، وعذب عذاب الدنيا ونحن نرى هذا، فمن سبقنا من الأباطرة المسلمين ممن يشبهون الأكاسرة والقياصرة، وتركوا القرآن حاكماً ماذا جرى لهم؟ الكثير عذب في حياته، فسملت عيناه بالنار إلى أن سالتا، وأصبح يتسول على أبواب المساجد ويقول: خليفتكم لا طعام له ولا خبز، وقد كان أيام حكمه طاغية من الطغاة، جبار من الجبابرة، فرعون من الفراعنة، قد كان هذا كثيراً في أيام بني أمية وأيام بني العباس وأيام آل عثمان، وأين ذهبوا؟ وما الذي جرى لهم؟ من الذي يذكر بخير؟ من الذي خلد مع الخالدين؟ الخلفاء الراشدون الذين لا يذكر أحدهم إلا ويقال مع ذكره: رضي الله عنه، ولم يذكر إلا الصالحون فنقول: عمر بن عبد العزيز: رحمه الله ورضي الله عنه، ونقول هكذا عن الحكام العادلين، وأما أولئك فلا يذكرون إلا ويذكر الظلم معهم، واللعنة تتبعهم، وقد قصمهم الله في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى.
قال تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان:6] وماذا تعلمون أنتم؟ والذي يعلم السر هو يعلم الجهر، أنزله الله جل جلاله خالق السموات والأرضين لا كما يزعم هؤلاء الكاذبون المشركون.
قوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:6] قال الحسن البصري: أرأيتم أكرم من الله؟ أرأيتم أكثر جوداً من الله؟ أرأيتم أكثر رحمة من الله حتى مع الكافرين؟ قال الله عن هؤلاء الكافرين وقد طعنوا في كتابه وكذبوه سبحانه، وطعنوا في نبيه وكذبوه، ومع ذلك قال عنهم إن رجعوا عن ذلك فتابوا وأنابوا فإنه يغفر لمن تاب، ويرحم من تاب، ويغفر ذنوب من تاب، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام شرحاً لذلك: (الإسلام يجب ما قبله) أي: يقطع ما قبله.
وهكذا تجد الله في الوقت الذي ينذر ويتوعد ويهدد يعود فيذكر الرحمة؛ لأن الله قال عن نبينا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا رحمة مهداة)، ففي وقت العنف والشدة والبطش يعود فيذكر رحمته ومغفرته؛ لعله يعود إلى الله ويتوب، وقد قاله البعض ورجع وتاب وأناب، وأصبح من كبار الفاتحين وكبار الصحابة، فلا يذكرون إلا ومعهم الرضا.
والنبي عليه الصلاة والسلام أخرج من مدينة وحيه ومسقط رأسه الشريف بعد أن تحمل الشدائد من كفار مكة، وخرج وهو لا يريد الخروج، خرج فراراً بدينه، وفراراً برسالته إلى أن يتمها ولم تتم بعد، ومع ذلك عندما نصره الله وأظفره الله بمكة وأعداؤه من الكافرين فيها ماذا صنع بهم؟ إنه لم يأمر إلا بأربعة عشر فرداً منهم، حيث قال: اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة، ومع ذلك بعض هؤلاء جاء مختفياً مستغفراً، فتاب عليه واستغفر له، وبعضهم فر منه، فتاب عليه واستغفر له، والبعض قتل، أما الآلاف فقد تجمعوا بين يديه وأخذ يسألهم: ماذا ترون يا معاشر قريش أني فاعل بكم؟! فنسوا طغيانهم وظلمهم وتآمرهم في كل وقت بقتله وبسجنه وتعذيبه فيما كانوا يريدون، فأخذوا يتملقون ويتمسحون فقالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، وإذا بالنبي الكريم الذي كان حريصاً على هداية قومه لم يزد على أن قال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) فسامحهم عليه الصلاة والسلام، وضرب لهم في الإسلام أجلاً أربعة أشهر، والعرب ما كان يقبل رسول الله منهم إلا الإسلام أو السيف، ولذلك فكل من يزعم أنه عربي وليس بمسلم كذاب، وانظروا الآن هؤلاء النصارى الذين يقتلون المسلمين، واليهود الذين كانوا في بلادنا وخرجوا وهم الآن يقتلون المسلمين؛ أول ما يفعلون أنهم يتبرءون من العربية، ويقولون: لم نكن عرباً يوماً! هكذا يجري الآن في لبنان وفي فلسطين، وهكذا أقباط مصر، وهو الواقع، وقد نص المؤرخون على أن النبي عليه الصلاة والسلام ثم الخلفاء الراشدين بعد أن فتحوا العراق والشام لم يبق عربي إلا وأسلم، فكل من يزعم العربية من غير المسلمين فهو كاذب مفتر ليس بعربي.
قال تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:6].
فإن كان غفوراً للظلمة للكافرين فهو أولى بأن يغفر للمؤمنين في بعض عصيانهم ومخالفاتهم، وهم منطوون على التوحيد والإيمان بالله، وبرسول الله، وبكتاب الله الحق، فالله غفور رحيم، ولكن لا يغتر الإنسان، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الكافر ما عند الله من مغفرة لطمع فيها، ولو يعلم المؤمن ما عند الله من عذاب ليئس من رحمة الله)، ومعنى ذلك: يجب على المؤمن ألا يغتر، فعليه أن يستمر على العبادة والطاعة ولا يقول: الله غفور رحيم، ومن قال لك: إنه سيغفر لك أنت بالذات؟ ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن النار تجمع مؤمنين عصاة ثم يخرجون، وتجمع كافرين أبداً ولا مغفرة ولا رحمة، فمن يدرينا أن أحد هؤلاء الذين يكونون في النار واحد منا؟ إذاً: ماذا نصنع؟ نكثر من الطاعة والتوبة والاستغفار، ونقول ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: (خيركم من مات على رقعه) أي: ثوبه، أي: أنه أذنب ثم رقعه -أي: تاب-، ثم انقطع ثوبه وتمزق -أي: أذنب- ثم خاطه -أي: تاب-، وهكذا خير الناس من مات على التوبة والمغفرة، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين.(117/4)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام)
قال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان:7].
انتقلوا من القرآن إلى النبي نفسه عليه الصلاة والسلام، فقالوا على القرآن ما سمعتم هذه المرة، وأرادوا أن ينتقصوا النبي صلى الله عليه وسلم بشيء، وهذا جنون آخر، فقالوا: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان:7].
قالوا: هذا النبي يقول: إنه نبي، وهو يأكل كما نأكل، وبطبيعة الحال من يأكل يذهب إلى الخلاء، فأرادوا أن يتنقصوه بذلك، وتصوروا أن النبي لابد أن يكون ملكاً، أو يكون نوعاً من البشر لا يأكل ولا يشرب ولا يتزوج ولا يلد! وهذه صفات الله وليست صفات البشر، وصفات الملائكة، فالله الذي لا يأكل ولا يشرب، والملائكة خلقهم من نور وأغناهم بالذكر عن الطعام والشراب، وقد قال النبي عن الملائكة بأن طعامهم وشرابهم هو الذكر؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع) وهم يخرج الذكر منهم كما يخرج النفس منا، كما أن الإنسان منا إذا انقطع نفسه مات الملك كذلك لا يستطيع أن يقطع الذكر، فالذكر له كالنفس فإذا وقف مات، وهو لا يموت إلى آخر الدهر إلى يوم القيامة ثم الكل {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
فهؤلاء عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يأكل ويمشي في الأسواق، فهم قد رأوا القياصرة والأباطرة من الملوك لا يرونهم في الشوارع، ولا يأتي أحدهم ليشتري خبزاً أو يشتري الزيت، ولا يفعل ما يفعله بقية الناس، هم كانوا يريدون من النبي هذا الفعل، فإذا كان بشراً لابد أن يكون مثل كسرى وهرقل، يترفع عن أن ينزل في الأسواق، والنبي لابد له من النزول إلى الأسواق، ولابد له من أن يتكسب، ولابد له من أن يبيع ويشتري، وكان النبي عليه الصلاة والسلام في بيته يذبح شاته ويسلخها، ويعين أهله في شئون البيت، وباع واشترى عليه الصلاة والسلام بما يعيش به، فهو إنسان، وعلى إنسانيته هو رسول ونبي، فقد فعل الله هذا بالأنبياء المرسلين قبله.(117/5)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام)
قال الله تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20].
قوله: {لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20] فهم آمنوا بأنبياء سبقوا، فالنصارى وآمنوا بعيسى وبأنبياء بني إسرائيل، واليهود آمنوا بموسى وهارون وهم يعلمون كلهم أن موسى تزوج وولد، وأن هارون تزوج وولد وأكل وشرب، وذهب إلى الأسواق، ورضي وغضب، ومرض وارتاح، وأخيراً مات وفني.
{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} [الفرقان:7] لماذا لا يكون معه ملك فيكون معه نذيراً؟ فلو جاء معه ملك ومشى معه في السوق وجعل يقول: يا جماعة! أنا ملك، ولو قال: أنا ملك لكذبوه وقالوا: أنت لست ملكاً؛ لأنهم سيتصورون أن الملك لا يرى، ولو نزل عليهم بأجنحته التي تغطي الأفق لفزعوا، ولربما جنوا، ولو نزل عليهم في سورة بشر كما حدث لجبريل حيث نزل في صورة أعرابي، ونزل كثيراً في صورة دحية الكلبي لو رأوه لقالوا: هذا دحية الكلبي أين جبريل؟ هذا بدوي أعرابي أين جبريل؟ أين الملك؟ ولذلك فهؤلاء لا يسألون عن الحقائق، وإنما هم متعنتون، هم افترضوا من الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس صادقاً، وأن القرآن ليس كلام الله، فهم كلما وصلوا إلى هذه الأكاذيب والأضاليل وعندما يطلبونها لا يقصدون الطلب، وإنما يقصدون التعنت بحيث لو أجيبوا لما طلبوا لما آمنوا، ولعلهم يزدادون كفراً، وإصراراً على الكفر.
{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} [الفرقان:7] لو أنزل الله ملكاً يعاونه، ولم يحتج إلى ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فمن هؤلاء الكفار من آمن وكانوا معه أعواناً ووزراء ومعزرين ومؤازرين، وقد توفي عليه الصلاة والسلام كما يتوفى كل الخلق والبشر، وقام بالرسالة بعده وبدولته وبأحكامه بعده خلفاؤه الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والصحب الكرام من الرعيل الأول، ولم يحتج الإسلام إلى ملك، ويكفي أن ينزل الملك بكتاب الله وحياً على نبيه عليه الصلاة والسلام، وفي هذا كفاية.
قوله: {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان:7] أي: فيعينه على النذارة والدعوة إلى الدين والإسلام، (لولا أنزل) أي: هلا نزل، فهم يطلبون ذلك ويحضون عليه.
{لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان:7] ينذر ويبشر معه، ويهدد معه، إذاً لأصبح رسول البشر ملكاً، ولو كان ملكاً لجعله الله رجلاً لنفهم عنه ويفهم عنا، ولو جاءنا إنسان من الأفق له من الأجنحة مثنى وثلاث ورباع كما وصف الله الملائكة بأجنحتهم فكيف سنستفيد منه؟ ولو نزل أمامنا لغطانا، ولكدنا نسحق تحت أجنحته وبدنه، ولو جاءنا بشراً لقلنا: هذا بشر، فما الفرق بينه وبين بشر محمد وموسى وعيسى عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه؟! ثم قالوا كلام آخر: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ} [الفرقان:8] أي: يرمي له الله من السماء بكنوز.
قال تعالى: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان:8].
أي: هؤلاء بقوا على ضلالهم وأكاذيبهم بجملة ما قالوا، حيث قالوا: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان:7 - 8] قالوا: لماذا لا ينزل عليه كنز من السماء يستغني به عن المشي في الأسواق وعن البيع والشراء؟! ولو حدث هذا لقلتم: تأتيه الأموال من كسرى وهرقل، وهكذا يفعل هؤلاء المتعنتون الكفرة!(117/6)
تفسير سورة الفرقان [9 - 16]
لقد ضرب المشركون الأمثال لرسول الله، وهي أمثال باطلة ضالة لا تستند إلى حقيقة ولا يراد بها اتباع الحق، فقالوا: إن النبي من صنعته أنه لا يأكل الطعام، ولا يمشي في الأسواق، وأنه يكون معه كنز يستغني به عن الناس وعن السعي في طلب الرزق.
ثم اتهموه عليه الصلاة والسلام بأنه رجل مسحور، وهذه سخافة منهم، فهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وليسوا بمسحرين، فهذه الصفات التي ذكروها لا تنافي النبوة والرسالة.(118/1)
تفسير قوله تعالى: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال)
قال الله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الفرقان:9].
والأمثال التي ضربوها هي قولهم: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان:7 - 8].
أي: ضربوا له الأمثال والأشباه والنظائر، فقالوا: ليس هذا الرسول إلا رجلاً مثلنا ليس بمَلِك ولا مَلَك، وليس بكبير بيننا ولا ميزة له، فهو يأكل كما نأكل، ويشرب كما نشرب، ويدخل الأسواق كما ندخل، فيتكسب ويبيع ويشتري ويتبذل، ويظهر في الأسواق والشوارع والأزقة كما يظهر أحدنا، وقد تصور المشركون في النبي أن يكون ملكاً لا تبصره عين، ويستغني عن الطعام، وبالتالي لا يدخل الأسواق كما يدخل من يأكل ويشرب، ويتصورون منه أن ينزل معه ملك من السماء فيصدقه ويقول للناس: صدقوه، فإنه رسول من ربكم.
ويقولون عنه: لو كان كذلك لاستغنى عن الأسواق والكسب والبيع والشراء والتجارة، ولأنزل إليه كنز من السماء يستغني به عن البيع والشراء والتكسب.
وقالوا: لو كان رسولاً لأنزل الله إليه جنة، أو صنعها له في الأرض فيأكل منها ويستغني بها عن البيع والشراء، أو أنزل معه ملكاً يصدقه فيكون معه نذيراً، مهدداً وموعداً ومبشراً للناس أن يتبعوه، فإن لم يفعلوا عذبوا وعوقبوا بغضب الله ولعنته، وعلى ذلك أخذوا جواباً لأنفسهم، قال تعالى عنهم: ((وقال الظالمون)) أي: وقال الكافرون، والظلم هنا: الكفر.
قالوا: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان:8] أي: رجلاً صرف عن العقل والفهم وغر في نفسه، وزعم ما ليس له، وهكذا أوحت إليهم شياطينهم من الهراء والغث من القول ومما لا دليل عليه، فالمشركون لهم عقول سخيفة لم ينرها نور الإسلام، ولم يهدها علمه، ولم يشرق عليها التوحيد يوماً.
ومتى قال لهم النبي: أنا ملك، أو قال لهم: أنا مستغن عن الطعام والشراب؟ لم يقل هذا قط، فهم يعلمون أنه نشأ بينهم كما ينشأ الناس من أم وأب، وعاش بينهم أربعين سنة يفعل ما يفعله عموم الناس، ولم يقل يوماً: أنا نبي ولا رسول، ولا ادعى دعوى.
وما كان يعرف بينهم إلا بالصديق والأمين، وقد وصل إلى الأربعين وهو لم يكذب مدة حياته، وحاشاه من ذلك على الناس، أبعد الأربعين سيكذب على الله؟! حاشا الله ومعاذ الله.
هذا وقد أتاهم بالمعجزات فعجزوا أن يصنعوا مثلها، وأعظمها ما رأوه وعرفوه أنه منذ كان صغيراً وشاباً إلى أن بلغ الأربعين وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يخطب ولا يقول شعراً.
وكما قال العارف: كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم فكفى معجزة بعد نزول القرآن بأن هذا الأمي لم يقرأ ولم يكتب، ولم يجلس يوماً لشيخ، ولم يسمع من شيخ، ولم يكن في عصره من يمكن أن يجلس إليه، فكلهم كانوا أمة أمية، وقد قال عليه الصلاة والسلام عن العرب: (نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب).
فهذا الأمي بعد الأربعين عاماً أتى بعلوم الأولين والآخرين، وأتى بما أعجز الآخرين واللاحقين، وما لم يكد يعرفه المعاصرون، ولم يأت بنظيره من سبقه حتى من الأنبياء والمرسلين، فضلاً عن الفلاسفة والعلماء والمثقفين ومن إليهم.
قد رأوا كل هذا رأي العين، وسمعوه سماع الأذن، وعاشروه عشرة القرابة والعمومة والسكن، ومع ذلك أبى كفرهم وأبى ضلالهم إلا أن يضربوا له النظائر والأشباه والأمثال.
فقوله: {انظُرْ} [الفرقان:9] أي: انظر يا محمد! قوله: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا} [الفرقان:9] أي: كيف زاغوا وضلوا عن الحق والهدى، وكيف زادت البصائر منهم عمىً وضلالاً وظلماً، وكيف أخذوا يشبهونك بغيرهم وبأنفسهم، لم؟ لأنك تأكل وتشرب وتتكسب وتستغني عنهم وعما عندهم، فتعيش كما يعيش الإنسان الشريف الفاضل بعرق جبينه، وتعيش بالأخذ والعطاء وكسب الحلال حتى في السنوات التي كانت قبل النبوءة.
فهم يعيرونك بشيء عاره ظاهر عليهم، كيف وقد قالوا: إن الله ما أرسل من المرسلين أحداً إلا وهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20] أي: لم تكن يا محمد! بدعاً من الرسل، ولم يُقَل لك إلا ما قد قيل لهم، ولكن هؤلاء شياطينهم توحي إليهم ما لا يقبله عقل سليم ولا نفس منيرة، ولا رجل اهتدى يوماً بكلمة حق وكلمة نور وكلمة هداية وتوحيد.
فقوله: {الأَمْثَالَ} [الفرقان:9] أي: النظائر والأشباه، فشبهوك بعموم الناس بأنك تأكل وتشرب مثلهم.
ثم أخذوا يزعمون أنك بعملك هذا مسحور وساحر، وأنك مفتر وكاذب، وأنك وأنك، وحاشا الله ومعاذ الله.(118/2)
ذكر رفض النبي عرض قريش عليه، وتحقيق الله له النصر والتمكين
لقد عجز المشركون أن يوقفوا دعوته وأن يسكتوا لسانه، وأن يرعبوه ويخيفوه عن تتمة عمله وما أرسله الله به من بلاغ، فقد اجتمعوا إلى عمه أبي طالب وهو على دينهم وقالوا: يا أبا طالب! إن ابن أخيك قد أكثر علينا، وشتم آلهتنا، وسفه عقولنا، وذم الآباء والأجداد، ونسبنا إلى كل باطل، ونحن نريد أن تدعوه لنعرض عليه كل ما يمكن أن يريده ويسعى إليه، فحضر صلى الله عليه وسلم ووجد أبا جهل وشيبة وعتبة وعقبة بن أبي معيط، وصناديد من طغاة مكة وجبابرتها وكفارها وأعداء الله ورسوله.
وإذا بهم يقولون له بمحضر أبي طالب: يا محمد! لقد جاوزت الحد معنا، سفهت أحلامنا، وشتمت آباءنا، وجعلت الآلهة إلهاً واحداً، ولم يصبر أحد على ما صبرنا نحن عليه، ونحن نعرض عليك ما تسمع، إن كنت تريد بهذا أن تكون ملكاً علينا ملكناك، وإن كنت تريد المال جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنانا، وإن كنت تريد النساء زوجناك ببناتنا وبنسائنا، إن شئت طلقناهن لك فتزوج منهن من شئت.
وإن كنت مريضاً جئناك بالأطباء من مختلف أصقاع الأرض ليعالجوك، وكان أبو طالب لا يزال ينظر نظرتهم ويدين دينهم، فقال له -وهذا ما أثار النبي عليه الصلاة والسلام-: يا ابن أخي! لقد أنصفوك، لقد أعطوك ما لم يعطوه لأحد.
وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
وإذا بهم يقومون وهم يحيصون حمر الوجوه ويقولون: ماذا يريد محمد؟ قد أعطيناه كل ما يمكن أن نعطيه، ملكناه وأغنيناه وأعطيناه نساءنا فماذا يريد؟! وهذا الذي لم يهتدوا إليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يريد ملكاً فهو أعظم من الملوك، وللملوك الشرف في أن يكون أتباعه.
فإن المال قد استغنى عنه ولا حاجة له به، فقد عرض عليه أن تكون جبال مكة ذهباً وفضة، فأبى إلا أن يعيش نبياً عبداً.
وأما النساء فقد تزوج بعد ذلك تسع نساء، ولم يكن إذ ذاك متزوجاً إلا خديجة، فقد قنع بها ولم يتزوج عليها قط حتى ماتت، وقد تجاوزت الستين من عمرها، وكانت قبله أرملة من زوجين آخرين، ولدت من كل واحد منهما.
وتزوجها صلى الله عليه وسلم وهي تزيد عليه في السن خمسة عشر عاماً، إذ كان عمره إذ ذاك خمسة وعشرين عاماً، ولو كان يريد النساء فمن ذلك الوقت لأخذ منهن من شاء ولكنه لم يفعل.
فأخذ خديجة لعقلها وفهمها، وأخذ خديجة لأن الله قضى أنها ستكون أول مؤمن به في الأرض، وأنها ستكون المؤازرة المؤيدة والمساعدة والمصدقة، وهكذا لم يتزوج عليها قط إلا بعد أن ماتت.
تزوج وقد كان عمره بعد موتها قد تجاوز الخمسين حيث يرغب الناس عن النساء، ولم يكن متفرغاً لذلك، لم يكن متفرغاً إلا لرسالة ربه وللدين الذي أرسل به، ولكنه تزوج كما يقال بلغة السياسة اليوم: زواجاً سياسياً.
فقد كان الزواج عند العرب يقرب الأرحام ويقوي الصلة بين العشائر والقبائل، والزواج بالنسبة للقبيلة يكون لحمة وحلفاً، ويكون سنداً وقوة.
وهكذا عندما تزوج بنت أبي سفيان عدوه الألد الذي قاد الجيوش في مكة في داخلها وخرج بها إلى المدينة حيث هاجر صلى الله عليه وسلم، وفعل معه الأفاعيل، وقاسى منه النبي عليه الصلاة والسلام الشدائد والبلايا والفتن، ومع ذلك فإن أم حبيبة ابنته كانت صالحة وكانت من الرعيل الأول الذي أسلم، فأسلمت قبل أبيها وإخوتها، وهاجرت الهجرة الأولى للحبشة، وارتد زوجها عبيد الله بن جحش في الحبشة، وبقيت ثابتة راسخة مؤمنة بالله وبرسوله على العداوة التي بينه وبين أبيها.
وعندما علم بذلك صلى الله عليه وسلم وكان النجاشي أصحمة ملك الحبشة قد أسلم وآمن، فخطبها منه فزوجه إياها، وأصدقها أربعمائة درهم.
وعندما بلغ الخبر أباها أبا سفيان ارتاحت نفسه وقرت عينه، وكاد يترك من العداوة والحرب، بل وقال للملأ من الناس عندما قيل له: محمد تزوج ابنتك، قال: ذلك الفحل الذي لا يجدع أنفه.
ومن تلك الساعة ضعفت المقاومة في نفس أبي سفيان، وأصبح يحارب كما يقال: بغير موضوع، فكان هذا الزواج وأمثاله مما جعل للنبي صلى الله عليه وسلم حلفاء وأنصاراً، وجميعاً تزوجهن أرامل ليس فيهن بكر عذراء إلا السيدة عائشة رضي الله عنها.
وهكذا النبي عليه الصلاة والسلام عندما أخذوا يضربون له الأمثال ويقولون: ساحر، ويقولون: يريد الملك، فقد كذبهم بذلك وسحقهم سحقاً، وتركهم يعتقدون في أنفسهم على الأقل أنهم يجهلون ماذا يريد.
سمعوه يقول النبوءة فلم يتصوروها، وقد أسر أبو سفيان والنبي زاحف على مكة فاتحاً ومقاتلاً ومجاهداً ومكافحاً، وجيء به إلى النبي عليه الصلاة والسلام فسلمه لشريكه في الجاهلية عمه العباس، وإذا به يوقفه والجيوش المؤمنة تدخل مكة وهي لا تزال في الضاحية تزحف زحفاً، فيسأل أبو سفيان العباس ويقول: من هؤلاء؟ فيقول العباس: قبيلة فلان، وقبيلة فلان، وقبيلة كذا، فيقول: ما لنا ولها، ما قاتلناها لتقاتلنا، إلى أن جاء القلب، إلى أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمامه الجيوش وخلفه الجيوش وعن يمينه ويساره من الرجال والخيل والسيوف والرماح المشرعة ما لا يحصى، وهم في لامة الحرب الكاملة لا تكاد تظهر منهم إلا أعينهم.
فقال أبو سفيان للعباس: ومن هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله، وإذا بـ أبي سفيان يقول للعباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، حتى في هذه الساعة لم ير في هذا المظهر كله إلا أنه طلب الملك فوصل إليه، وهو لو كان يريده فإنهم قد عرضوه عليه من قبل.
ولقد وفروا عليه لو شاء زمناً ووقتاً ودماءً وحروباً، وإذا بـ العباس يصيح فيه موبخاً: إنها النبوة يا أبا سفيان، فيقول أبو سفيان: والله يا أبا الفضل! لا يزال في نفسي من هذا شيء، ومع ذلك استسلم وخضع، لم؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم من قبل تزوج ابنته.
قال تعالى: {فَضَلُّوا} [الفرقان:9] أي: لم يهتدوا بل تاهوا عن الحق، وجهلوا الذي حدث، ولم يعلموا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بينهم إلا أنه يتيم أبي طالب، وحفيد عبد المطلب وابن عبد الله.
أما أنه سيد الخلائق وخاتم الأنبياء، وأنه المرسل إلى الناس كافة لا نبي بعده ولا نبوءة ولا رسول ولا رسالة، فهذا ما عمي القلب عنه، وما عميت البصائر عن معرفته والنظر إليه.
فقوله تعالى: {فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الفرقان:9] أي: عجزوا عن الطريق القويم الذي يوصلهم لمعرفة من أنت يا محمد! فبغضهم لك وعداوتهم وحسدهم وفتنتهم مع أنفسهم وكفرهم بالله وباليوم الآخر جعلهم يجهلون من أنت، وماذا تريد، فضلوا في أنفسهم ولم يستطيعوا الطريق السوي الذي يوصلهم لمعرفة من أنت.(118/3)
تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك)
قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان:10].
يقول الله لنبيه: إن هذا القول لا يقوله إلا سخيف العقل مظلم القلب، فأنت أعظم من كل ذلك، فلك البلاد ومن عليها بل ولك الدنيا، ولك الآخرة كذلك، وستقف يوم القيامة موقفاً لن يقفه ملك ولا نبي، يوم تشفع في الخلائق كلها، وتكون كما أخبرت عن نفسك: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر).
وإن عرضوا عليك ما عرضوه، وقالوا عنك ما قالوه، فأنت سيد الأرض، والعوالم كلها جعلت لك رعية وأمة، فمن آمن بك اهتدى، ومن كفر بك ضل، وعليه الخزي والدمار إلى يوم القيامة.
فقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي} [الفرقان:10] أي: تقدس الذي، كأول السورة: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] أي: تقدس الذي إن شاء، والأمر بمشيئة الله فما شاء فعل.
قوله: {جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان:10] أي: خيراً منه، فالبستان الذي عرضوه عليك فيه قليل من النخيل والماعز والضأن والبقر، فسيجعل لك خيراً من ذلك الكثير الكثير في الدنيا إن شئت.
قوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الفرقان:10] أي: في الدنيا.
قوله: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان:10] وليس قصراً واحداً، بل قصور لا يملكها ملك في الأرض، وفعلاً قد جاء ملك إلى النبي عليه الصلاة والسلام وعنده جبريل ولم ينزل إلا تلك الساعة، فقال له: يا محمد! جئتك من ربك يعرض عليك مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدك، يعرض عليك جبال مكة وبطحاءها أن تكون لك ذهباً وفضة، ومكة أنهراً جارية.
وإذا به يقول: (يا رب! أجوع يوماً وأشبع يوماً، أجوع يوماً فأذكر ربي وأتضرع إليه، وأشبع يوماً فأحمد ربي وأشكره).
هذه عبادة النبي صلى الله عليه وسلم يعيش بين صبر وشكر، وكل من الصابر والشاكر له الدرجات العلا عند الله في الدنيا والآخرة.
ومن هنا كان سيد البشر صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة لكل الخلق، ولذلك فإن المتتبع لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً وتقريراً فهو الناجي بين البشر، وبين الفرق التي تمزقت من المسلمين وستتمزق، فإن الفرقة الناجية هي ما كان عليه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه الأول من المهاجرين والأنصار.
إن الحياة رحلة قصيرة، كما شبه صلى الله عليه وسلم الحياة كلها كراكب استظل بظل شجرة عند شدة القيظ والحرارة، وإذا بالشمس تزول عن كبد السماء فيأخذ الظل طريقه ويذهب، فهذه هي الدنيا كلها في الأولين والآخرين.(118/4)
تفسير قوله تعالى: (بل كذبوا بالساعة)
وكذبهم الله بقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان:11].
أي: هؤلاء كفرة مشركون، وما أملوه عليك من نظائر وأشباه وأمثال إن هو إلا الكفر والجحود والحقد على الله ورسوله والمؤمنين.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} [الفرقان:11] أي: كذبوا بيوم الحشر والنشر، وكذبوا بيوم الحساب والعقاب، والجنة والنار.
قال تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان:11] أي: هؤلاء الكفرة الذين كذبوا بيوم البعث والنشور أعد الله لهم وهيأ لهم ناراً مسعرة ملتهبة تحرق من بعد مائة عام أو أكثر.
وزاد الله فوصف هذه النار المتسعرة الملتهبة بقوله: {إِذَا رَأَتْهُم} [الفرقان:12] أي: جهنم، {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12] أي: من بعد مائة عام وأكثر كما قال المفسرون.
فعندما يقربون إليها تراهم زبانيتها، وهم الملائكة المكلفون بعذاب أهل النار ممن شاء الله عذابه ونقمته.
وقد ورد في مسند أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من انتسب لغير والديه، أو انتسب لغير مواليه، أو كذب على الله، أو افترى على نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فليتبوأ مقعداً في النار ذات العينين، قالوا: يا رسول الله! وللنار عينان؟ قال: نعم).
فالذي خلق العينين للإنسان وجعل البشرة والحواس كلها تتكلم وتشهد على المذنب بفعل الشر، وتشهد للصالح بفعل الخير، هو قادر على أن يخلق عينين للنار كذلك.
فعندما تراهم النار من بعيد يسمعون لها قبل الوصول إليها بمائة عام تغيظاً وزفيراً، وما تغيظها إلا صوت ما فيها من نار ووقود، فإن النار عندما نشعل بها حطباً في بدايتها نسمع لها زفيراً، ومعناه: أن النار تلتهب التهاباً وتشتعل اشتعالاً، حتى يأكل بعضها بعضاً إن لم تجد الوقود، قال تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24].
قوله: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12] أي سمعوا لهبها وصوت نارها وحريقها، وسمعوا شوقها لهم لتعذبهم جزاءً وفاقاً لكفرهم بالله، وطعنهم في أنبياء الله.
قال تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان:13] أي: وإذا ألقوا في ركن منها ضيق، ووصفوا المكان الذي يدخله المعذب ككوة، فيدخل وعظامه تكاد تتكسر من الضيق الذي يدخل فيه، فمن شدة المحنة يدخل المكان الضيق حتى يسمع لعظامه صوت.
قوله: {مُقَرَّنِينَ} [الفرقان:13] أي: مصفدين مكتفين، فالأيدي إلى الأعناق والأرجل مع الأيدي، مقرنين بالشياطين، فيد من الشيطان ويد من الإنسان الذي اتخذ الشيطان إلهاً واتبع هواه.
قوله: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان:13] أي: صاحوا: يا ويلهم! ويا هلاكهم! والثبور: الهلاك وجميع أنواع الفساد والبلاء من كفر وغيظ وويل ومحنة وهلاك، كمن يصيح في حياته يقول: يا ويلاه! يا مصيبتاه! يا غوثاه! لمن يغيثه.
فأخذوا يدعون ثبوراً، أي: يا هلاكهم! يا فسادهم! يا خسرانهم! هكذا يدعون على أنفسهم، فتقول لهم ملائكة النار: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:14] أي: لا نجاة ولا خروج من النار، فيستمرون في الدعاء يا ويلهم! يا هلاكهم! يا خسارهم! يا مصيبتهم! إلى أن يسمعوا صوتاً: اخسئوا، فيسكتون إذ ذاك، ولا سبيل إلى الكلام والنطق، ولا أمل هناك في خروجهم.(118/5)
تفسير قوله تعالى: (قل أذلك خير أم جنة الخلد)
قال تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا} [الفرقان:15].
يقص الله علينا ما سيحدث يوم القيامة؛ لعل المجرم منا يقول يوماً: تبت إلى الله، ويقول: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، ويقص الله ذلك للمؤمن ليزداد بذلك فرحاً كونه على الخط المستقيم.
يقول الله: قل يا محمد! {أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان:15] فأيهما أحسن بالنسبة للصالحين والطالحين: هل هذا الذي ذكره الله من السعير والخلود في النار والسلاسل والأغلال والضيق في جهنم والدعاء بالويل والثبور، أو جنة الخلود والإقامة والسعادة، وأن لهم فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟ وكلمة (خير) هنا ليست على بابها، فخير في لغة العرب تقتضي المشاركة والزيادة، ولا يقال: هذا خير من هذا في معنى الزيادة، إلا إذا كان اثنان أو عملان فيهما خير ولكن أحدهما أكثر خيراً، فالمعنى هنا: أذلك خير في وجهة نظرهم؟ فهؤلاء عن طواعية منهم ورضاً قبلوا أن يكونوا في صف المشركين، وقبلوا أن يكونوا من أهل السعير، ويكونوا مقرنين مع الشياطين في جهنم، وقبلوا أن ينادوا يا ويلهم! ويا هلاكهم! ويا خسارتهم! هل هذا الذي سيصيرون إليه إن أبوا إلا ذلك وأصروا عليه خير أم الجنة الخالدة؟ قال تعالى: {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا} [الفرقان:15] أي: هذه الجنة الخالدة كانت للمتقين جزاءً مكافأةً وأجراً وثواباً، وإليها يصيرون بعد الموت.
وقد قال الله في تمام وصف الجنة: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ} [الفرقان:16] أي: لهم فيها ما يشاءون من مآكل ومشارب ومناكح ومساكن ولذائذ ونظرة كريمة لله العظيم، لهم فيها كل ما اشتهت أنفسهم، ولهم فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قال تعالى: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [الفرقان:16] أي: وعداً واجباً، فقد أوجب الله ذلك على نفسه ولا يجب عليه شيء، ولكنه أوجبه على نفسه للمتقين الذين يموتون على التقوى، وللموحدين الذين يموتون على التوحيد، وللصالحين الذين يموتون على الصلاح، وهكذا جزاء الله لهؤلاء الصالحين ومكافأته لهم.
وبياناً لمعنى مسئول يقول الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فتلك إشارة لقولنا في الدنيا كما علمنا الله وكذلك في الآخرة بفضل الله وكرمه: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران:194]، أي: نسأله الذي وعدنا إياه من الجنان ومن النعيم ومن الرحمة والرضا.
وما يدعو به الملائكة للمؤمنين: بأن يؤتيهم الله ما وعدهم من الرحمة والجنان والخيرات والرزق الدائم الحسن الطيب بما لا يكاد يحلم به إنسان في الأرض.
فالله قارن -وهذه سنة القرآن- بين الأتقياء وما أعد الله لهم من خير، وبين الأشرار وما أعد الله لهم من شر؛ نكالاً نتيجة أعمالهم.
وهكذا يقارن الله في هذه الآية، فالعادة في القرآن في كل الآي أن يذكر الله أهل النار وبلاءهم وخزيهم ودمارهم، ويذكر مقابل ذلك أهل الجنة وجزاءهم وخيرهم وما أعد الله لهم من نعيم دائم.(118/6)
تفسير سورة الفرقان [17 - 22]
في هذه الآيات يذكر سبحانه حشره للعباد والمعبودين من دونه يوم القيامة، فيسأل المعبودين هل هم الذي أمروا هؤلاء العبّاد بعبادتهم، فيتبرأ الملائكة من ذلك، ويتبرأ عيسى وأمه من ذلك، وهنا يندم أولئك المبطلون.
وذكر أيضاً حال المشركين في أسئلتهم الاستكبارية والتعجيزية، فقد طلبوا من الرسول حتى يصدقوا رسالته أن يأتي معه بالملائكة، وأن يأتي بالله تعالى، وكل ذلك لا ليؤمنوا، ولكن ذلك على سبيل التعجيز والاستكبار.(119/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله)
قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان:17].
يوم يحشرهم الله يوم القيامة ويحييهم بعد الموت ويجمعهم إليه للحساب والعقاب، يجمع العابد والمعبود ولا يخفون عليه جل جلاله.
يوم يحشر العابدين والمعبودين من هؤلاء المشركين، فيقول الله للمعبودين: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} [الفرقان:17] أي: هل أنتم قلتم لعبادي هؤلاء: اعبدونا واجعلونا شركاء مع الله {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان:17] أم ضلوا من أنفسهم؟ ويقال هذا للملائكة الذين عبدهم بعض الناس وقالوا عنهم: بنات الله، ويقال هذا لعيسى الذي عبده النصارى، ويقال هذا لعزير الذي عبده اليهود.
وهكذا يجمع الله هؤلاء ويقول لعيسى وللملائكة ولعزيز ولكل من عبد من دون الله من الجمادات والأصنام والتماثيل، إذ يحشرها الله معهم، ويرزقها النطق واللسان للكلام: {أَأَنْتُمْ} [الفرقان:17] استفهام تقريعي توبيخي للعبدة للمشركين.
{أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} [الفرقان:17] يعني: هل أنتم الذين أزغتموهم عن الطريق السوي، وأبعدتموهم عن التوحيد والإيمان؟ قال تعالى: {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان:17] أي: من قبل أنفسهم، إذ إن عقولهم لم توصلهم للخير، فلم يقبلوا دعوة العلماء ورثة الأنبياء، ومن قبلهم لم يقبلوا دعوة الرسل والأنبياء والأصحاب الكرام والأتباع التابعين لهم بإحسان.
فأول ما يبتدئون به
الجواب
سبحانك، فينزهون الله عن أن يكون له شريك، أو أن يكونوا هم شركاء، فهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وليس بيدهم شيء.
قال تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان:18] أي: لا ينبغي لنا ولا يليق، فنحن خلق من خلقك وعبيد من عبيدك، فكيف العبد يعبد؟ وكيف المخلوق يعبد؟ وكيف المخلوق الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً يكون إلهاً معك؟ ننزهك عن هذا ونعظم شأنك ونقدسك، فلا يليق هذا ولا ينبغي لنا وليس من حقنا، فأنت يا رب أعظم من ذلك كله.
فقوله: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان:18].
أي: لا يليق بنا وليس من حقنا ولا هو من شأننا أن نتخذ من دونك من أولياء، أنت ولينا ومولانا وخالقنا، وأنت المتفرد بالألوهية والربوبية والخلق والرزق، والمنفرد بالإماتة والإحياء، فكيف ونحن أعجز من أن ننفع أنفسنا أو نضرها فضلاً عن أن نكون آلهة معك كيف نقبل ذلك؟ كيف يعجبنا؟ كيف نوافق عليه؟ قال تعالى: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان:18] أي: ولكن الذي حدث يا ربنا! أنك متعتهم بالحياة والرزق والصحة، ومتعتهم بالملك والسلطان، وبطول الأعمار، وهكذا نسوا الذكر، ونسوك ونسوا توحيدك، ونسوا نبيك وكتابك، ونسوا دينك، فضلوا وأضلوا.
قوله: {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان:18] أي: كانوا هلكى، تقول: بارت السلعة إذا فسدت ولم تجد مشترياً، وتقول: بارت الأرملة ولم تتزوج إذا لم تصلح للزواج، أو لم يطلبها أحد.
وتقول عن من لم يتزوج من الرجال والنساء: قد بار وهلك في نفسه فلم يتزوج، أي: هلك وكان بائراً.
فهؤلاء كانوا قوماً هلكى، وكانوا قوماً فاسدين لا يصلحون، ولا يميزون بين الحق والباطل، أما أن نقول لهم نحن ذلك فمعاذ الله وحاشى الله.
والله سيقول لعيسى يوم القيامة: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116]، فيقول: {قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة:116] أي: أنزهك يا رب! عن ذلك وأعظمك أن أقول ذلك، قال: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:116] أي: لا يليق بي ولا يحق لي.
ثم عاد فقال: {إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [المائدة:117] أي: أنا لم أدعهم إلا لعبادتك وتوحيدك وطاعتك، فهم من أنفسهم كذبوا وافتروا، وزعم اليهود أنهم قتلوني وصلبوني، وزعم هؤلاء الأفاكون أني إله ورب، وليس شيء من ذلك واقعاً، فأنا عبد من عبيدك وخلق من خلقك، لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً.
ولكن هؤلاء طالت بهم الأعمار حتى نسوك ونسوا النبوات السابقة، ونسوا أن الله واحد، وأنه نزل الكتاب على أنبيائهم ليعملوا به، {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان:18] أي: كانوا هلكى فاسدين لا يصلحون لنور ولا لحق ولا لدين، ونحن ما قلنا ذلك وما كان لنا أن نقوله.
قال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا} [الفرقان:19] يقول الله أو ملائكته لهؤلاء المشركين: قلتم: إن عزيزاً دعاكم لعبادته وللشرك بالله، وقلتم: إن عيسى دعاكم، وإن الملائكة دعتكم، فأين ما كنتم تزعمون؟ وأين ما كنتم تقولون؟ وإذا بهم يبلسون ويخسئون وييأسون من الرحمة، ولات حين مناص.
وفي تلك الساعة بعد أن كذبهم من كانوا يشركون بهم مع الله، قال الله عنهم: لا يملكون لأنفسهم صرفاً ولا نصراً، أي: لا يستطيعون أن يصرفوا العذاب، ولا يستطيعون ما هو أقل من ذلك وأحقر.
قوله: {وَلا نَصْرًا} [الفرقان:19] أي: لا ينصرون أنفسهم ولا يعينونها بشيء وقد تخلى عنهم من كانوا يعبدونهم من دون الله، ومن كانوا يشركونهم مع الله، فصاروا حيارى ضائعين هلكى تائهين لا يملكون صرف العذاب عنهم، ولا يملكون نصر أنفسهم، وهكذا دارت الدائرة عليهم، ولقوا جزاء الشرك والكفر.(119/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً)
قال تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان:19].
هذا خطاب الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن عرض عليهم ما فعله بالأمم قبلنا، فعوقب من عوقب وأحسن إلى من أحسن، فقد لقي الكافر جزاءه من النار والسعير، ولقي المؤمن الرحمة والرضا والجنات الدائمة.
فقال تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان:19] أي: ومن يظلم منكم يا أمة محمد بأن يشرك بالله، ويظلم نفسه، ويبتعد عن النور والهداية والإيمان بربه، ويبتعد عن الإيمان برسوله وبكتاب ربه، {نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان:19] أي: نعذبه حتى يذوق ويتمتع ويهلك، والذواق هنا معكوس من نوع السخرية، كمن يذوق طعاماً لذيذاً وحلواً، كما قال تعالى لفرعون: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49].
فالذواق: العذاب والشدة والمحنة والسعير.(119/3)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام)
قال الله تعالى: {((وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20].
هذا جواب قولهم الأول: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7]، فقال الله لنبيه وأسمع أولئك: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20].
يقول تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: لم تكن بدعاً من الرسل، ولم ترسل بشيء لم يرسل به الأولون، فمن سبقك من الأنبياء كانوا جميعاً بشراً.
فالأنبياء كانوا يأكلون الطعام، وكانوا يتناكحون ويتزاوجون، وكانوا يمرضون ويصحون، وكانوا يحاربون يوماً لهم ويوماً عليهم، وكانوا يتكسبون في الشوارع يبيعون ويشترون، وكانوا يقومون بالمهن وبالصنائع، فكان منهم الحداد، ومنهم الزراع، ومنهم النجار، ومنهم البحار، فكانوا يتكسبون في الأسواق عارضين سلعة وشارين سلعة ومع ذلك يدعون إلى الله.
وفي هذه الآية مشروعية العمل، وأنه لا يليق بالإنسان أن يعيش عالة على الناس، وأن العمل ليس عاراً، والتكسب ليس منقصة.
وكان عمر رضي الله عنه يقول: إني لأرى الرجل فيعجبني، فإذا سألته ما تعمل ووجدته لا يعمل سقط من عيني.
وهكذا الإنسان إذا لم يكن له عمل يعيش به من حرفة أو تجارة أو زراعة أو قلم أو فكر أو أي شيء يستغني به عما في أيدي الناس فإنه يكون ناقص الهمة ضعيف النفس، ويكون غيره الذي ينفق عليه ويتصدق عليه ويعطيه أشرف منه وأكرم وأنبل، إلا إذا كان عاجزاً، فإذ ذاك جعل الله رزقه وجعل حياته في بيت المال بعد أن يكون أولياؤه لا يملكون النفقة عليه ولا يملكون رزقه.
فالأسرة متضامنة، والغرم إذا التزم به إنسان لزم بقية الأقارب إعانته، فالإسلام هو الذي أتى بهذا كاملاً غير منقوص: زكاة وصدقة ونفقة، بحيث لو كانت الزكوات والنفقات تؤدى كما أمر الله ورسوله لما وجد فقير بين المسلمين قط.
ولكن انتشر الظلم، وأكل أموال الناس، فالزكاة في مالك ليست لك، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60] واللام هنا هي للتمليك، أي: ملك لهم، وللفقراء إذا منعوا حقوقهم وزكاتهم أن يقاتلوا عليها بحد السلاح، فمن مات من الممتنعين فإلى سقر ودمه هدر، وإذا قيل أحد الطالبين للحق فيقتل قاتله.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان:20] فتن الله الفقير بالغني والغني بالفقير، فالفقير يقول: ما بال هذا أنا أذكى منه وأعلم منه وهو أغنى مني؟ ويقول الغني: ما بال الفقير يحسدني وأنا عملت أكثر؟ وتجد الرعية تفتن بملوكها وحكامها لمكانتهم، فيفتن هؤلاء بهؤلاء، ويفتن الصحيح بالمريض، فيقول المريض: لم هذا صحيح وأنا مريض؟ ويقول الصحيح: لم المريض يحسدني؟ أنا أعالج نفسي، أنا أبذل لها، وأنا لا أستهتر بصحتي، وهكذا دواليك في كل شيء.
وهكذا فتن الله الناس بعضهم ببعض وابتلاهم في الدنيا؛ اختباراً وامتحاناً ليرى هل سيصبرون ويعتقدون أن كل ذلك من الله أو لا، {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] أي: أن الله هو الذي قسم المعيشة بين الناس، كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله قسم بينكم عقولكم كما قسم بينكم أرزاقكم).
ومع ذلك يعمل إنسان من الصباح إلى المساء ولا يكاد يحصل شيئاً، ويعمل إنسان آخر ساعة أو ساعتين فيحصل الكثير والكثير، ولذلك ليس للإنسان أن يحسد أو يغار، وليس للإنسان أن يطالب بزوال ما عند غيره، بل عليك أن تعمل واحمد الله على ما رزقك.
فإن لم تكن لك قدرة على العمل أو لم تجد عملاً، فحياتك ورزقك من بيت مال المسلمين وفي أموال الأغنياء، فإن الله فرض في أموال الأغنياء ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عزوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله أن يعذبهم على ذلك ويحاسبهم عليه.
إن انتشار الشيوعية والاشتراكية في الأرض عقوبة سماوية من الله؛ لمنع الأغنياء حقوق الفقراء، فاستبدوا بها وتركوهم جياعاً وعرايا ومرضى، وتركوهم جهلة، وإذا بالله الكريم يسلط عليهم من يأخذ أموالهم ويذلهم ويحتقرهم وينقصهم، ويقول عنهم: لصوص، وإقطاعيون وغير ذلك.
ولو كان المسلمون يؤدون زكاة المال وما أوجب الله في ذلك لوجدت الفقير يحرص على الغني، ويدعو له بالخير والسعة وطول العمر؛ لأنه يعيش من ذلك.
وهكذا دائماً فإن العقوبة من جنس العمل، فالله رزقه إذ خرج للدنيا ولا يملك شيئاً، وما هذا المال إلا مال الله، فقد قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33].
فعندما لم يعطوا مال الله للمستحقين من عباد الله سلط الله عليهم من يذلهم ويهينهم، ويزيل عنهم أملاكهم، ولعذاب الله أنكى وأشد إن ماتوا على ذلك.
قال تعالى: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20] أي: هل يصبر الفقير على فقره، والغني على إعطاء الزكاة والنفقة وإعطاء السائل ما سأل؟ فقد جعل الله من صفات المؤمنين {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25].
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (للسائل حق ولو جاء على فرس).
فقوله: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20] أي: أيصبر هؤلاء ويضرعون ويشكرون؟ أيصبر أولئك على شكر نعم الله ويؤدون من مالهم ما فرض الله؟ وكما قال القدوة الأعظم صلى الله عليه وسلم عندما عرضت عليه مكة وجبالها وبطحاؤها ذهباً وفضة: (بل أجوع يوماً فأصبر وأضرع، وأشبع يوماً فأحمد الله وأشكره)، وهكذا المؤمن فلا غنى يدوم ولا فقر يدوم، فهو مال الله يجعله الله دولة بين أيدي عباده، والغنى ابتلاء والفقر ابتلاء.
قال تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20] أي: بصيراً بالصابر من الشاكر، بصيراً بالمؤمن من الكافر، بصيراً بالصالح من الطالح، يعلم كل شيء، وقد أمر بما أمر به، وابتلى بما ابتلى به، فمن أطاع وامتثل فله الجنة والرحمة والرضا والحياة الطيبة في الدنيا، وله في الآخرة الرضا والرحمة والخلود في الجنان.
ومن كفر ولم يشكر ولم يصبر فله العذاب في الدنيا وأنواع البلاء، ولعذاب الله يوم القيامة أشد، والله بصير بكل ذلك.(119/4)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا)
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان:21].
لقد تمادى هؤلاء المجانين في كفرهم، فقد طلبوا نزول الملائكة مع النبي ليؤيدوه، فهذه المرة طلبوا الملائكة أن تأتيهم، وطلبوا الرب نفسه أن ينزل إليهم ويقول لهم: صدق عبدي محمد، وتقول الملائكة: صدق محمد فقد أرسله الله.
فعندما تنزل الملائكة وتقول: نعم، صدق محمد، كيف سيعلمون أنهم ملائكة؟ وكيف سيصدقونهم؟ وإن كذبوهم فستنزل عليهم عقوبة الأرض والسماء، وقد قال الله لنبيه: إن شاء فعل ذلك، ولكن إن فعله ولم يؤمنوا فإنه سيعاقبهم بما عاقب به الأمم السابقة عندما طلبوا مثل ذلك وأعطاهم الله إياه.
فدمر قوم نوح بالغرق، ودمر ثمود وعاداً وقوم لوط وقوم فرعون بالغرق والسحق والرجم من السماء والعواصف وبكل أنواع البلاء في الدنيا قبل الآخرة.
فقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان:21] أي: لا يخافون لقاءنا ولا يؤمنون به، أي: لقاء الله يوم القيامة، فهؤلاء الكافرون الذين لا يؤمنون باليوم الآخر لا يؤمنون بالله، قالوا: يا محمد! إن شئت أن نؤمن بك فلتنزل معك الملائكة علينا.
فقوله: {لَوْلا} [الفرقان:21] أي: هلا.
{لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان:21] أي: هلا نزل ربنا فقال لنا: هذا عبدي فصدقوه وأنا أرسلته نبياً.
ولو خاطبهم الله بذلك لأصبحوا رسلاً أيضاً، ولو خاطبهم الملائكة لأصبحوا رسلاً أيضاً، فالله تعالى لا يكلم أحداً من خلقه إلا من وراء حجاب.
وعندما طلب موسى ما يشبه هذا {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] قال له الله: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، وموسى من أولي العزم من الرسل، ومع ذلك لما اندك الجبل وحدث له صوت كالرعد إذا بموسى يغمى عليه.
وطلب إبراهيم أبو الأنبياء من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، قال تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، فهذا لم يطلب الرؤية، وإنما طلب أن يرى كيف يعيش الإنسان بعد الموت، {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة:260] وقد فعل، إذ جاء بأربعة من الطيور في قرية برزة من أرض الشام في الغوطة، فقطعها وخلطها عظاماً وريشاً ولحماً، وجعل في رأس هذا الجبل شيئاً وفي هذا شيئاً، ثم دعاها كما أمره الله، فأخذ الريش والأعضاء تطير حتى صار كل عضو في مكانه، وهكذا رأى ما أراد به الاطمئنان واليقين، أما أن يرى ربه فلم يطلب ذلك.
قال تعالى عن هؤلاء: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} [الفرقان:21] أي: تعالوا وتعاظموا وظنوا أنفسهم شيئاً، وهم على كفرهم وشركهم أرادوا أن يؤكد الله أن هذا نبيه ولم يكتفوا بالمعجزات، ولم يكتفوا بالسيرة النبوية في حد ذاتها، ولم يكتفوا بنزول القرآن، فقال الله عنهم: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} [الفرقان:21] أي: تعاظموا حتى ذهبت عقولهم، فاستعملوا الكبرياء والعظمة التي لا تليق إلا به جل جلاله.
قال تعالى: {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21] العتو: هو شدة الطغيان والكفر، والإغراق في الكفر والإصرار عليه، فهؤلاء الكافرون لم يكتفوا بالكفر والشرك، بل زادوا فعتوا وطغوا وتجبروا واستكبروا استكباراً، وقوله: (عتواً) مفعول مطلق، أي: ازدادوا في الطغيان والجحود والكفران حتى تجاوزوا الحد في ذلك.
فهؤلاء المشركون أنكروا الساعة وكفروا بالله، فهم ليسوا سائلين حقاً ولا مستدلين بمعجزة، ولكنه التعنت والجحود والكفران، فلا يكاد النبي يظهر لهم معجزة أو آيةً أو عملاً إلا تركوا ذلك وطلبوا غيرها.
وهكذا إلى أن وصلوا ليطلبوا الملائكة تنزل عليهم، والرب نفسه ينزل عليهم -تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً- ليقول لهم: صدق عبدي، ولم يكتفوا بأن يقول: صدق عبدي بما أنزل عليه من وحي وكتب وعلم وأدب وسيرة انفرد بها دون الخلق، وكانت هي المثال الأعلى.
قال تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:22] أي: اليوم الذي سيرون فيه الملائكة لن يبشروا فيه بخير، فإنهم لن يروا الملائكة إلا في حالتين: عند الاحتضار، أو يوم القيامة.
فمن احتضر وهو مشرك كافر تأتيه الملائكة وتنتزع روحه وتضربه من أمامه ومن خلفه؛ لينتزعوا الروح، وإذ ذاك لا يبشرون ولا سبيل إلى البشرى، بل يبشرون بالغضب واللعنة، وإذا أتاهم منكر ونكير وسألوهم: من ربك؟ من نبيك؟ فإنهم لا يحسنون جواباً؛ لأنهم كانوا مشركين في الدنيا، فينزلون عليهم بالمقارع وبالمرازب، إلى أن ينزل الإنسان إلى الأرض السابعة، ثم يصعد، وهكذا العذاب إلى يوم البعث والنشور، وبعد ذلك نار الله المتسعرة ونقمته الدائمة.(119/5)
تفسير سورة الفرقان [21 - 26]
ذكر الله تعالى في هذه الآيات مآل أعمال الكافرين المشركين في الآخرة، فهو سبحانه يجعلها هباء منثوراً؛ لأنها لا تقوم على التوحيد ولا على الإخلاص.
ثم ذكر مقارنة بين حال المؤمنين الفائزين بالجنة والكافرين المغضوب عليهم بالنيران، فأصحاب الجنة خير مستقراً وموئلاً وعاقبة، والآخرون شر مكاناً.
ثم ذكر ما يحصل يوم القيامة من تشقق السماء بالغمام، ونزول الله تعالى لفصل القضاء في ذلك اليوم العظيم.(120/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا)
قال الله جلت قدرته: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:21 - 22].
يقول الله جل جلاله عن هؤلاء الكفرة الذين لا يؤمنون بيوم البعث والنشور، ولا يخافون قدومهم على الله ولقاءهم له يوم العرض عليه، إنهم قالوا: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان:21].
أي: قالوا لنبيهم: لم لا يرسل إلينا معك -إن كنت رسولاً حقاً- ملائكة من السماء يظهرون لنا ويبرزون ويصدقون نبوتك ورسالتك، ويشهدون لك بأنك الرسول حقاً.
وإذا لم تأت الملائكة ولم تنزل علينا فليأت ربك بنفسه وليشهد لك بالصدق؛ لنصدقك ولنؤمن بك.
فهؤلاء الذين كفروا وازدادوا كفراً طلبوا مطالب من لا يعلم من ربه، ولا يعلم صدق نبيه بكثرة ما أنزل معه من معجزات ومن آيات بينات، وأخذوا يتعنتون ويطلبون شيئاً لا يقصدون به معرفة حق، ولا إظهار معجزة، وإنما يريدون التعنت على نبيهم، والإصرار على كفرهم، فقال الله عن هؤلاء: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} [الفرقان:21] أي: لقد تعاظموا وتكبروا وطلبوا ما لا يليق بهم وهم أحقر من أن يخطر ببالهم فضلاً عن أن يطلبوه.
{وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21] العتو: هو شدة الظلم والكفر والطغيان، فقد طغى هؤلاء واعتدوا وظلموا وقالوا كفراً وزوراً، وأتوا بما لم يأت به مؤمن.
ثم قال الله لهم: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:22] أي: يوم يرون الملائكة -وهم سيرونهم- لا تكون رؤيتهم لهم بشرى لهم، بل يكون خزياً ودماراً وخراباً.
والوقت الذي يمكن أن ترى فيه الملائكة هو ساعة الاحتضار وخروج الروح، وإذ ذاك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.
فمن احتضر وهو كافر ونزعت منه الروح فسيرى ملائكة العذاب يبشرونه بالويل والثبور واللعنة والغضب، لا يبشرونه بخير ولا بجنة، ثم يرون يوم القيامة ملائكة العذاب الذين يسوقونهم إلى النار وإلى اللعنة والدمار والخزي.
وأيضاً يرون الملائكة في القبر حين يسألونهم عما صنعوه في حياتهم، فيسألونهم: من ربكم؟ ومن نبيكم؟ وما دينكم؟ ولشركهم فإنهم يجيبون جواب الكافرين الذين لم يؤمنوا يوماً برب ولا نبي، ولم يدينوا يوماً بدين حق قط، فهؤلاء ستكون رؤيتهم للملائكة رؤية ذل وهوان وبشرى بالخزي والدمار والعذاب.
{وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22] أي: يقول لهم الملائكة: حراماً محرماً أن تدخلوا الجنة قط، أو ترحموا قط، فقد حجرت الجنة عليكم، وأمسكت أبوابها عن دخولكم؛ جزاءً وفاقاً لشرككم ولكفركم.
والحجر: المنع، ومنه سمي حجر إسماعيل، أي: منع من أن يطوف الطائفون داخله وإنما يطوفون خارجه، ومنه قولهم: حجر القاضي على الصبي لسفهه، وعلى المفلس لعجزه عن أداء الديون والحقوق، فحجر ماله؛ لتؤدى الحقوق.
ومنه: الحجر على السفيه الغني الذي يبذل ويصرف ماله في الباطل، ويحرم منه أهله وأولاده، ويصرفه في ما لا يليق بالإنسان أن يصرفه فيه، ويترك أهله وأولاده عالة على الناس، ويصرف ذلك في الليالي الحمراء وفي الفسق والجريمة والعصيان.
{وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22] أي: يوم يرى هؤلاء الملائكة يبشرونهم بالويل وبالثبور وبالنار وبالدمار ويقولون: لهم حجراً محجوراً، أي: حراماً محرماً عليكم دخول الجنة، ورحمة الله ورضوانه؛ لكفركم وشرككم إلى أن متم على ذلك.(120/2)
تفسير قوله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل)
قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
أي: عمدنا وجئنا، فهؤلاء الذين عاشوا مشركين وماتوا مشركين يعمد الله جل جلاله إلى أعمالهم التي قاموا بها في الحياة الدنيا والتي يظنون بها أنهم أحسنوا بها صنعاً، وأنها أعمال خير وفلاح وصلاح فيجعلها هباءً منثوراً مشتتاً ضائعاً.
والهباء هو ذلك الغبار الذي يكون في الكوة عندما تشرق عليها الشمس، فيرى غبار منثور لا يمس باليد ولا يرى في الظلام، فهو لا يذكر ولا حساب له ولا عبرة به.
أي: إن الله يذر أعمالهم ويشتتها حتى تصبح هباءً موزعة منثورة، كذلك الهباء الذي يرى في الكوة وفي النافذة عندما تشرق عليها الشمس فيرى متناثراً، ولا يرى في الظل ولا يمسك باليد، ولو فرضنا أنهم تصدقوا وأعطوا وأحسنوا فهم لا يفعلون ذلك إخلاصاً لله، ولا إيماناً برسل الله، ولا طاعة لأوامر ربهم ونبيهم، فهم لا يفعلون ذلك ديناً ولا امتثالاً، وإنما يفعلونه ليقال وليتظاهروا به رياءً، وقصدهم من ذل الذكر والرياء والسمعة، وها قد سمع ذلك ورئي منهم.
وأما أن يجازوا عليه بالجنة وبالرحمة فهم في الأصل لا يؤمنون بجنة ولا برب الجنة، ولا يؤمنون بيوم البعث والنشور.(120/3)
تفسير قوله تعالى: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً)
قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24].
يقول جل جلاله: (يومئذ) أي: يوم القيامة، ورؤية الملائكة، ويوم البعث والنشور، والعرض على الله يكون أصحاب الجنة المتقون المؤمنون المسلمون الموحدون أحسن مستقراً، وأجمل حالاً، أحسن قراراً، فيستقرون بأعمالهم في الجنة وفي رحمة الله ورضاه وهم قريروا العين برحمة الله، وبما أكرمهم به من جنان ومن رحمة.
قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان:24] (خير) هنا على غير بابها، فخير أفعل تفضيل، وأفعل التفضيل يقتضي المشاركة والزيادة، وليست هنا للمشاركة بين مستقر النار لأهل النار وبين مستقر الجنة لأهل الجنة فضلاً عن الزيادة، وإنما معنى الكلام: أصحاب الجنة في مستقرهم في خير ونعمة وسعادة واستقرار ورضاً بما هم فيه، وأما أهل النار فهم في الغضب وفي العذاب وفي اللعنة الدائمة المستمرة.
وقوله: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] المقيل من القيلولة، يقال: قال فلان يقيل إذا استراح وقت القيلولة، وهو وقت الزوال وشدة الحر ووقوف الشمس في كبد السماء.
وتكون القيلولة بنوم خفيف أشبه بالنعاس، ويكون راحة ولا حاجة للنوم فيه، والنوم لا يكون في الجنة؛ إذ ليس فيها تعب ولا نصب، ولكن فيها الراحة والاستقرار، والقيلولة هي من باب الحديث الوارد: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل)، وفي سنده مقال.
قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] (يومئذ) أي: يوم يرى الناس الملائكة الذين كان الكفار والمشركون يريدون أن يروهم في دار الدنيا؛ ليصدقوا لهم رسالة النبي ونبوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يكون أصحاب الجنة {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] أي: استقرارهم خير ورضا، وإقامتهم دائمة، وهم مغتبطون بالرحمة وبالجنة وبرضا الله.
فهم عندما ينتهي الحساب والعرض على الله يقيلون في الجنة، ويوم الآخرة يعد بألف سنة مما تعدون من أيام الدنيا، وهذا اليوم الذي هو ألف سنة يقصره الله تعالى على المؤمن حتى كأنه صلى فريضة واحدة، أو كأنه من شروق الشمس إلى القيلولة، فلا يشعر بطول ولا بشقاء ولا بتعب، فما هي إلا مدة وبرهة يقضيها ثم تكون قيلولته في الجنة.
فيقيل فيها ويستريح، ويكون بذلك أحسن مستقراً وقراراً وقيلولة من الكافرين المشركين، فهو في خير ورضاً ورحمة، والكافرون في عذاب وفي محنة وغضب.(120/4)
تفسير قوله تعالى: (ويوم تشقق السماء بالغمام)
قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:25 - 26].
هذا اليوم يوم البعث والنشور هو يوم تتشقق فيه السماء وتزول وتتناثر، وتنزل ملائكة السماء الدنيا إلى الأرض، ويكون عددهم أكثر من عدد الإنس والجن في الأرض، فالسماء الأولى تتشقق وتتناثر وتتطاير وتزول وتفنى، وينزل ملائكتها للعرض على الله وللحساب.
قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25] أي: تتشقق ويظهر منها نور وشعاع أشبه بالغمام، وهو نور من نور الله، فلله نور السماوات والأرض، ونوره جل جلاله ظاهر في الكون، وبه أشرقت السماء والأرض، وبه هدى الله القلوب، وبه أشرقت نفوس المسلمين للحق والهداية، ويهدي الله لنوره من يشاء.
وهذا النور الذي ينزل كالغمام ينزل منثوراً يراه من في الأرض ومن في السماء، ثم تنزل ملائكة السماء الدنيا إلى الأرض، ثم تتشقق السماء الثانية وينزل كذلك من فيها، وهم أكثر عدداً، وأكثر ملائكة وجموعاً، وأكثر من ملائكة السماء الأولى.
وهكذا قل عن الثالثة والرابعة والخامسة فالسادسة فالسابعة.
وينزل من السابعة الملائكة الكروبيون، أي: قادة الملائكة ورؤساؤهم كجبريل وكإسرافيل وكعزرائيل وبقية قادة الملائكة، واسمهم الكروبيون.
وهؤلاء سكان السماء السابعة أكثر من جميع سكان السماوات الأخر وسكان الأرض، وينزلون كلهم فزعين، منتظرين أمر الله في الحساب والعرض عليه، في يوم كان مقداره كألف سنة مما تعدون.
فيكون حساب المؤمن يسيراً هيناً، فلا يكاد يشعر به إلا كضحوة نهار إلى القيلولة، وتتم قيلولته على الأسرة في الجنان مع إخوانه المسلمين، {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
وأما الكافرون والعصاة المذنبون ممن يريد الله عذابهم وتأديبهم وعقوبتهم فيكون عليهم العذاب والحساب عسيراً.
قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25] أي: تتشقق ويظهر منها هذا الغمام والنور، وتكون قد زالت عن أماكنها.
قال تعالى: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25] أي: ينزلون بأمر الله، وينزل كل الملائكة الذين في السماوات جميعاً، وينزل بعد ذلك ربنا جل جلاله يحمل عرشه ثمانية من الملائكة، وكل ملك من هؤلاء الملائكة من طوله ومن عرضه ومن عظمته ومن كبره ما لا يكاد يقبله عقل ولا تتصوره نفس حتى يرى ذلك رؤيا العين.
وينزل ربنا نزولاً يليق بجلاله وبألوهيته، وكلما يخطر ببالك فربنا مخالف لذلك، وليس في ذلك شيء يشبه الخلق نزولاً وحركة، وإنما هو نزول كقولنا عن الله جل جلاله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، وقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
ونقول ما قاله ربنا، ونثبت ما أثبته نبينا صلى الله عليه وسلم، ونقرأ مع ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، ونتلو مع ذلك: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4].
فهو سبحانه لا كفؤ له في ذات، ولا شبيه له في فعال ولا ذات، وهو ربنا جل جلاله لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
ونثبت ما قاله صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله جل جلاله يوم القيامة للحساب وللقضاء وللفصل بين الناس).
وتجتمع الملائكة الذي لا يحصي عددها إلا الله، وعددهم كعدد الحصى والرمل سماءً بعد سماء إلى السابعة، وهذا مضاف إلى ملائكة الأرض، فمع كل واحد منا ملكان، الملك الأول الذي عن اليمين يكتب الخير، والذي عن اليسار يكتب الشر.
فهؤلاء جميعاً يجتمعون ويقفون إجلالاً وعظمة لربهم مع المتقين والمؤمنين كذلك.
وأما المشركون والعصاة فقلوبهم تصل إلى حلاقيمهم رعباً وفزعاً وهلعاً مما هم فيه، والملائكة يقولون: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، فيسبحون ربهم ويقدسونه ويعظمونه، ولا ينقطع لسانهم ونطقهم عن الذكر والتكبير والتهليل والتقديس والتعظيم لربنا جل وعلا.
قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:26] أي: الملك الحق هو للرحمن وحده، يوم أن يقول: أين الملوك؟ أين الجبابرة؟ أين الطغاة؟ فلا مجيب، فيجب الله نفسه جل جلاله ويقول: أنا الملك، أنا الديان، أنا الخالق.
وإذ ذاك لا ملك ولا سلطان ولا جبار ولا طاغية ولا من يقول: أنا، فالكل عبد مطأطئ رأسه؛ ينتظر نتيجة حسابه إما إلى جنة وإما إلى نار.
ويكون الملك يوم ذاك الملك الحق الرازق الخالق، المنفرد بالملك وبالرزق وبالإحياء وبالإماتة، ويكون قد أمات من أمات وأحيا من أحيا، ثم أعاد الكل إلى الحياة الثانية وإلى البعث والنشور؛ ليحاسب كلاً على عمله.
قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} [الفرقان:26] أي: يوم القيامة، وهو يوم تتشقق فيه السماوات السبع، ويبرز منها الغمام والنور الإلهي، وهذا الذي يظهر كأنه الغمام ما هو إلا نور الله جل جلاله، وهو يوم تندثر فيه السماوات وتتوزع وتصبح هباءً وعهناً منفوشاً، وينزل الكل إلى الأرض؛ ليحاسبوا على أعمالهم، فأهل الجنة المؤمنون بالله إلى الجنة، والكفرة العصاة إلى النار.
قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:26] أي: الملك الحق ليس لأحد، وأما الملك الذي نراه اليوم فهو ملك زائف معار، لو دام لدام للذي سبقه ولما فني الأول، وما فني الأول إلا ليفنى الثاني، فلا ملك إلا ملك الله، فالله جل جلاله المالك المنفرد بالملك وبالخلق.
قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:26].
وهذا اليوم يكون عسيراً على الكافرين, كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:35 - 37].
وكما قال تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، وهو يوم يشتد العرق بالناس فيه فيأخذ البعض إلى ركبته، والبعض إلى سرته، والبعض إلى صدره، والبعض يغرق في ذلك ولا يموت، ويختنق ولا يموت وهو في العذاب المقيم.
وهذا اليوم يكون فيه للمؤذنين ميزة، ففي الحديث الصحيح: (المؤذنون يوم القيامة أطول الناس أعناقاً).
ومعنى كون أعناقهم أطول أي: إنهم في هذا اليوم مهما غرقوا في عرقهم فأعناقهم طويلة فلا يصل العرق إلى حواسهم، فلا يصل إلى أعينهم ولا إلى أذانهم ولا إلى مناخرهم ولا إلى شفاههم، فيكونون بذلك في منجى عن الاختناق.
فهذا اليوم يكون عسيراً على الكافرين وصعباً وشديداً، وتتعثر بهم الحياة إذ ذاك ويتعثر حسابهم، ثم يسحبون على وجوههم بعد الوقوف، وهم قد أتوا مفلسين من الإيمان ومن الصلاح ومن طاعة الله وطاعة أنبيائه، فيسحبون على وجوههم إلى النار، وهذا بعد أن يكون اليوم كألف سنة مما تعدون.
وليس يوم القيامة يوماً واحداً بل هو أيام، ولكن الله يقصر ذلك على المؤمنين الأتقياء الصالحين فيكون كما بين الضحوة والقيلولة، وتكون قيلولتهم في الجنة، ولذا قال ربنا: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24].(120/5)
تفسير سورة الفرقان [27 - 32]
يحكي الله تعالى في هذه الآيات حال الكافر يوم القيامة حين يعض على يديه ندماً وحسرة على عدم اتباع هذا الكتاب، وهذا الرسول، وحسرة على طاعته لأئمة الكفر والضلال حتى ألقوا به في نار جهنم وبئس المصير.(121/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه)
قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27].
أي: هذا اليوم الذي يكون عسيراً على الكافرين في حسابهم وفي عذابهم وفي شدة محنتهم هو يوم يعض الظالم على يديه؛ {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27]، ففي هذا اليوم يندم الكافر، والظلم هنا هو الكفر، والظالم هو الكافر، والكفر أشد أنواع الظلم.
أي: يوم يعض الظالم والكافر في هذا اليوم يديه، وذاك كناية عن الندم، فالإنسان عندما يندم ويتحسر ويشتد ندمه تجده يعض أصبعيه، وقد ورد أنه يعض أصبعيه حتى يأكلهما ولا يشعر، وهو يقول: يا ويلتاه! يا ثبوراه! يا بلاياه! قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27]، وليس على يد واحدة، وإنما يعض هذه إلى أن يأكلها والثانية إلى أن يأكلها.
{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27] و (يا ليتني) كلمة تمن فات وقتها، فلم ينتهز حياته قبل موته، ولا شبابه قبل شيخوخته، ولا صحته قبل مرضه، فندم ولات حين مندم، فيعض يديه وهو يقول: يا ليتني! فيتمنى ويتحسر في ألم وفي بكاء وفي حسرة، ولا نفع من ذلك كله.
{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27]، ليتني اتخذت مع الرسول طريقاً توصلني إلى الهداية وإلى الإيمان، وتنقذني مما أنا فيه، ولكن هيهات فقد انتهت الدنيا ولن يعود ما فات.
والوقت سيف إن لم تقطعه قطعك، والإنسان عند الاحتضار ورؤية الملائكة يصبح الغيب بالنسبة له شهوداً وحضوراً، فلا تنفعه توبة ولا استغفار ولا شيء، و {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].
وهذا كما حصل لـ فرعون عندما أخذ في الغرق والاختناق، فصاح وقال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، وهيهات، فقال الله له: {آلآنَ} [يونس:91] أي: هل هذا وقت الإيمان؟ فقد كفر يوم طلب منه الإيمان، وأشرك يوم طلب منه الهداية، وكذب نبيين صديقين رسولين كريمين، وما آمن حتى رأى ملائكة العذاب تنزع روحه من جميع جسده وخلايا بدنه، وهكذا هنا يفعل الظالم.
قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27] أي: لا تنفعه ليت وقد انتهى وقت أخذ الطريق والسبيل والإيمان والهداية مع الرسول، فقد كان مكذباً له منتقصاً لمنزلته مشركاً بربه، ثم بعد التمني ينادي بالويل والثبور ويقول: يا ويلتي! يا ويلتى! كل تلك قراءات، {لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27]، فينادي بويله، والويل واد في جهنم كله قيح وصديد، فينادي بالنهر وبالوادي هذا، وبالقيح والصديد من النار، وينادي بويله وثبوره، ويتمنى لو لم يتخذ فلاناً خليلاً، ولكل إنسان خليل.
والآية عامة في جميع الكفار، وسبب نزولها أن عقبة بن أبي معيط وأبا جهل وشيبة وأمية وخلف وعتبة وعتيبة هؤلاء الضالون المضلون كانوا يضللون الناس الذين يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخير والهداية، فكانوا يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون لهؤلاء: لا تثقوا به ولا تصدقوه، نحن قومه وعشيرته، ونحن أعرف الناس به.
فأضلوا أولئك الذين يقولون هذا يوم العرض على الله ويوم الحساب والنشور، وينادون بالويل والثبور ويقولون: يا ويلتنا أو يا مصيبتنا! ويقولون: {لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27]، وهذا نشاهده الآن وفي كل ساعة، فلا تكاد تجد كافراً سواء كان شيوعياً أو اشتراكياً أو ماسونياً أو وجودياً أو من عباد الصليب من النصارى أو من عباد العجل والعزير من اليهود أو من عباد الطبيعة أو من عباد الشمس أو عباد النار أو عباد الفروج أو عباد الأصنام والأحجار إلا ووجدته ضالاً مضلاً، تجده قد أضل شخصاً بعد أن هداه عالم أو داعية أو صالح أو مؤمن أو مسلم إلى عبادة الله، وحذره وأنذره وقال له: يا فلان! أقول لك الحق: من الذي خلقني وخلقك؟ ومن الذي خلق هذه السماوات العلى؟ ومن الذي خلق هذه الأرض وما عليها؟ أليس الله؟ هل كنت أنا وإياك قبل؟ وهل سندوم؟ وهل دام آباؤنا وأجدادنا؟ إلى أن كاد يؤمن، فيأتيه مجنون أو شيوعي أو مرتد أو نصراني أو يهودي ويقول له: أتقبل هذا الكلام من هذا؟ هذا رجعي متأخر يؤمن بالأديان وبالأنبياء وبالأكاذيب وبالأضاليل، وهكذا يضله ثم عندما يبعث يبعث معه، فتجده يصيح ويتمنى وهيهات، ولات حين مندم، ولا ينفع التمني إذ ذاك إلا زيادة في الحسرة وفي التوجع والألم، وتجده يصيح ويقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:27 - 28].
أي: لم أتخذه أخاً يخالل مني الجسم والروح، أي: خالله إلى أن سلمه حياته ومستقبله، فأضله وأوصله إلى لما توصل إليه الشياطين الإنسان، ولم يعتذر إلا بعد أن أصبح في السعير والجحيم الدائم الخالد، قال: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28].
ويقال: خليل وصديق وأخ.
وأما الأخوة العامة فهي الأخوة بين المسلمين، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وليس غير المسلم أخاً لك.
ولا تغتر بما يسمى بالإنسانية، فهي تعاليم وأضاليل يهودية، ولا بقولهم: الوحدة، فإنهم يعنون الوحدة مع اليهود، ولا الحرية؛ فإنما يعنون حرية اليهود.
والإنسان ضال مضل، كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]، فالإنسان كله خاسر، وهو أشد من الحيوان ضراوة وحيوانية ووحشية إلا من استثنى الله بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3]، والإنسان غير المؤمن حيوان أعجم كالأنعام، بل هو أضل، فالأنعام تستفيد من بطونها ومن ظهورها ومن أوبارها وأشعارها، وهذا الكافر الحيوان الأعجم إنما ضيق على الخلق ظاهر الأرض، فبطن الأرض خير له ولك من وجوده عليها.
قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:1 - 3]، ويكفي الإنسان أن يموت وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويكفي أن يموت وهو يعتقد ذلك جناناً وإن لم ينطق به عند الموت.
وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من مات وهو يقول: لا إله إلا الله دخل الجنة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا لله دخل الجنة).
فهذا المؤمن ولو فعل كل أنواع الفسق فإن نعله وحذاءه وما يقع من رجليه أشرف من أكبر إنسان وفيلسوف وإمبراطور في الأرض إذا كان كافراً، والمؤمن هو سيد الخليقة بعد الأنبياء والرسل.
ثم قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] أي: المؤمن الذي يعمل الصالحات، والصالحات قيامه بالأركان الخمسة بعد الشهادتين: الصلاة والزكاة والصيام وحج بيت الله الحرام إن استطاع إليه سبيلاً.
ثم الرتبة الثالثة: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]، فهؤلاء الذين دعوا إلى الله، وتحملوا في سبيل دعوتهم ما يتحمله كل داع إلى الله كما تحمل الأنبياء: هم في أعلى الرتب، وأما الإنسان غير المؤمن فليس إلا حيواناً أعجم، فلا كرامة له ولا شرف، ونحن اليوم في جامعاتنا نقول: كلية الآداب والعلوم الإنسانية، والعلوم الإنسانية هي الاتفاق مع اليهود والاتحاد مع الملحدين والتعاون مع النصارى، وهذا ما قاله القرآن ولا دعا إليه ولا حض عليه، ولا يقبله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فالله لم يقل إلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وما عدا ذلك فليس بأخ لنا، فإن كان كافراً يقول على سيد البشر الكذب ولا يؤمن بالله الخالق فلا يزيد على أنه حيوان أعجم.
والله قد أخبرنا في كتابه بأن كل ما على الكون من جماد وحيوان يذكر الله، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
وهذا الكافر الإنسان لا يسبح، وإنما يكفر ويشرك رغم كونه من الأمة المحمدية، وهو من أمة الدعوة المحمدية، وأما أمة الاستجابة فهي الأمة المؤمنة.
قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:27 - 28]، والخلة أعلى رتب الأخوة، ومن هنا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لولا أن الله اتخذني خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) ومن هنا قيل عن إبراهيم: خليل الرحمن، ونبينا كذلك خليل الرحمن، والخليل هو من خاللت محبته جميع خلايا الجسم، وهذه رتبة لا تليق إلا بالله، ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يتخذ خليلاً إلا ربه وخالقه، وقال عن أبي بكر: (ولكن أخوة الإسلام) أي: أفضل بالنسبة للأخوة البشرية.(121/2)
تفسير قوله تعالى: (لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني)
قال تعالى: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:29].
يقول هذا الكافر: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:29]، وأين كان يوم كان يكذب النبي ويسخر به ويقول: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ ويقول: لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا، فأين كان عقله وفهمه ووعيه؟ فالآن أخذ يبكي ويتحسر ويأكل يديه تحسراً وندماً ويقول: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} [الفرقان:29] أي: يقول عن خليله هذا: إنه أضله ولم يهده وأضاعه عن الطريق السوي الذي دعاه إليه سيد البشر وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وترك الطريق السوي المستقيم وخرج عنه إلى طرق الضلال، وترك القيادة المحمدية إلى قيادة الشيطان، وترك قيادة الخلفاء الراشدين إلى قيادة ماركس ولينين، وغيرهما من الأسماء القذرة الوسخة، وترك الحق والنور إلى الباطل والظلمة، وأخذ يبكي الآن ويتحسر بعد أن فاته الوقت.
{لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:29] أي: عن ذكر ربه وتوحيده ودينه ونبيه، وكل ذلك ذكر، فهو قد ضل عن معرفة الله والإيمان به، وعن الإيمان بكتاب الله وأنه كلام الله وقوله وكذب به، وعن كون محمد خاتم الأنبياء وسيد الرسل والخليقة، فهو الآن يتحسر ويبكي ويأكل يديه ندماً، وبدلاً من أن يرى محمداً صباحاً ومساءً، ويجالسه صباحاً ومساءً فإنه لعمى قلبه وضلال فكره ولظلمة التي أحاطت به ضاع عن النور المشرق من النبي صلى الله عليه وسلم الذي أشرق على كل البشر منذ قام في هذه البقاع المقدسة، ودعا الناس جميعاً وقال لهم: إني رسول الله إليكم جميعاً، وبقي هذا الإشراق للكل إلا عليه؛ بسبب عمى بصره.
ثم قال تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:29]، والشيطان شيطان الإنس وشيطان الجن، فالآن انقلب على خليله فأصبح يسميه الشيطان، ويقول: إن الشيطان قد خذله، أي: لم يؤازره ويؤيده ويساعده في ما سمع من القرآن من نبي الله صلى الله عليه وسلم، وفي الهداية من نبي الله صلى الله عليه وسلم، وفي النور الذي سمعه من الخلفاء الراشدين والصحابة الأكرمين، ومن جاء بعدهم من العلماء الوارثين لدين الله والداعين إليه.
يقال: فلان خذل فلاناً، أي: لم ينصره ويؤيده ويساعده، فقد ضاع عن الحق وخذل عنه ولم ينصر ويؤيد، هكذا يقول الآن عن هذا الشيطان؛ شيطانه الإنسي قبل أن يكون شيطان الجن.(121/3)
تفسير قوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً)
قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].
يتأسف عليهم صلى الله عليه وسلم الذي كان في الحياة الدنيا حريصاً على إيمانهم، وعزيزاً عليه ألا يؤمنوا، وشديداً عليه أن يكفروا، فهو مع كل هذا والدنيا قد انتهت وأصبح الناس واقفين بين يدي الله للحساب وللقضاء يقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30] أي: أمتي.
وهي من أرسل إليهم، وهم الجن والإنس، والأبيض والأحمر والأصفر، وكل عجمي وعربي، ومن في المشارق والمغارب والشمال والجنوب، وسكان المعمورة منذ برز صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إني بشير ونذير، وإنما أرسلت رحمة، وكنت رحمة مهداة، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
ومنذ ذلك الوقت وإلى يوم البعث والنشور فكل هؤلاء قومه وأمته، فمن استجاب فهو من أمة الإجابة، ومن تمرد فهو من أمة الكفر والعصيان والتخلف.
قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، فهم هجروه فلم يحكموا به، فهجروا أحكامه وحكموا بأحكام اليهود والنصارى، وهجروه فلم يدرسوه، ولا يدرس اليوم في جامعات الدنيا إلا الكلام والحرف والصنائع وما إلى ذلك، وأما كتاب الله وما فيه من علوم علوية وسفلية، من معارف فيها خبر من قبلنا ونبأ من بعدنا وحاضر ما بيننا كل هذا قد ترك، وحتى إن درس في كليات فقد أبعدوه عن الحياة العامة، وعندما أبعدوا الإسلام أبعدوا كذلك علماءه وحفاظه، وأبعدوا علماء القرآن والسنة، وعلماء الإسلام وهجروهم بهجرانهم لله ولكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن فعل هذا فسيكون جزاؤه ما قص الله علينا من هؤلاء، يوم يعض الظالم على يديه وهو يبكي ويصيح ويقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27]، وينادي بالويل والثبور ويقول: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:28 - 29].
وسيقول هذا يوم لا ينفعه هذا القول ولا هذا الاعتراف، وهو يسمع الآن ماذا يقول في كتابه، ويسمع النبي ما يقول في سنته صلى الله عليه وسلم، وإذا به يصعر الخد ويعرض عن ذلك ويصد ويقول: قراءته انتهت، ودراسته رجعية.
وهكذا ليزداد اليهود طغياناً على المسلمين، ودوساً بأقدامهم على كراماتهم.
وما يجري اليوم هو عقوبة إلهية للمسلمين لما طالبوا بـ ماركس أن يكون لهم إماماً ونبياً، وهو يهودي قذر، ابن حاخام أقذر وألعن، وأصبحت تسمع بعض المسلمين يقولون: أنا مسلم ماركسي، أنا اشتراكي إسلامي، وهكذا يعلن خزيته ولعنته على لسانه قبل لسان غيره، فمتى كان اليهودي مسلماً؟! ومتى كان المسلم يهودياً؟! ويقول آخرون بعد ذلك: لم سلط الله علينا اليهود؟ ولم سلط علينا الشيوعية؟ سلطهم علينا لموقفنا هذا الذليل، ولبعدنا عن الله وكفرنا وإشراكنا به وإعراضنا عن كتابه.
وهكذا يتحسر نبينا عليه الصلاة والسلام على أمته مؤمنها وكافرها يوم القيامة، ويجأر ويضرع بصوته ويقول: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، فقد هجروه حكماً ودراسة وتعليماً وتلاوة وتبياناً، وهجروه في كل شيء يتعلق به قولاً وعملاً، فكان ما نرى.
وقد ذل المسلمون بهجرانهم لكتاب الله الذي أعزهم ورفع شأنهم وجعلهم سادة الأرض لمدة ألف عام، وصبر الله عليهم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا أحد أصبر على الأذى من الله)، فقد كفروا به ورزقهم، وقالوا عنه وأعطاهم العينين والشفتين والصحة والشباب والقوة والمال، وهم لا يزدادون بذلك إلا كفراً، كما يقول الملائكة وعيسى والعزير والصالحون لربهم يوم القيامة عندما يسألهم عن ضلال من ضل وأشرك بهم فيقولون: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} [الفرقان:18]، فقد متع الله هؤلاء بالحياة وبالأرزاق وبطول الأعمار حتى نسوا ذكر ربهم ودينه.
وهكذا أمهلهم الله ورزقهم وما زادهم ذلك إلا عتواً وفساداً في الأرض، ولكن الله جل جلاله يمهل ولا يهمل، فإذا أخذ الظالم أخذه أخذ عزيز مقتدر ولن يفلته.(121/4)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين)
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31].
يعزيه ربه ويسليه بألا تبأس ولا تحزن فإن العاقبة لك، فإن رأيت هؤلاء المجرمين في عصرك يشتمونك ويكذبونك ويؤلبون الناس عليك من أمثال أبي لهب وأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف وشيبة بن خلف وعتبة بن ربيعة وأمثالهم من الجبابرة الطغاة؛ فهكذا كان الأنبياء قبلك، فقد كان لكل نبي أعداء مجرمون يؤذونهم ويشتمونهم ويتعرضون لهم بالسوء، كما قص الله جل جلاله علينا ذلك في قصص نوح وهود وصالح وإبراهيم والأنبياء قبل نبينا جميعاً على نبينا وعليهم سلام الله وصلاته.
يقول الله جل جلاله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31] أي: كما جعلنا لك عدواً فكذلك كان للأنبياء قبلك، فقد كان هناك مجرمون يجرمون في حقهم، ويكذبونهم ويشنعون عليهم ولكنهم صبروا وثبتوا، فكانت العاقبة لهم، وكذلك أنت يا محمد! اصبر واثبت فالعاقبة لك.
وقد كان ذلك، فعندما دخل مكة فاتحاً وقد ذلت الجزيرة لسلطانه ولأمره ونهيه جمعهم كما تجمع العصافير في ركن من أركان غرفة، وقال لهم: (ماذا ترون أني فاعل بكم؟) فأخذوا يتملقونه ويقولون: (أخ كريم وابن أخ كريم)، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد قدرته وعزته وسلطانه يعفو عنهم ويقول: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
ومنذ تلك الساعة لم يبق في الجزيرة ولا خارجها من يتعرض له، بل إنه هو صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت عليه الصلاة والسلام وجه جيوشه في غزوة مؤتة وغزوة تبوك لحرب الروم المجاورين المهددين للإسلام ولنبي الله عليه الصلاة والسلام.
وما كاد يذهب إلى الرفيق الأعلى حتى جاء خليفتاه العظيمان، بل الخلفاء الراشدون الأربعة فنشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، فأخذوا الشام والعراق ومصر وفارس والمغرب، ودان الكل بدعوة الله وبدين محمد عليه الصلاة والسلام.
وهكذا خلال نصف قرن كان العالم من أقصاه شرقاً من الصين إلى جبال الألب في أرض فرنسا غرباً، وما بين ذلك شمالاً وجنوباً يدينون بدين الإسلام، وكلهم يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، والمآذن في جميع هذه البقاع مدناً وقرىً وجبالاً ووهاداً وبحاراً وفي كل مكان تؤذن الأوقات الخمسة بكلمة التوحيد.
وهكذا كانت العاقبة والنصر والتأييد له صلى الله عليه وسلم، وهكذا عاقبة كل الدعاة إذا صبروا وأخلصوا وأنابوا، فالعاقبة للمتقين.
قال تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31] أي: يا محمد! إن أعرض عنك جماعة وأجرموا في حقك وخذلوك وكذبوك وعادوك وأصبحوا مجرمين بالتكذيب وبتكفير المؤمنين بك، وقولهم عنهم: بأنهم صابئون -كما نقول اليوم: خائنون- تركوا دينهم الوثني وعبادة الأصنام إلى عبادة الله فيكفيك الله هادياً ونصيراً، فالله هاديك إلى الطريق الحق، وإلى الطريق المستقيم، وإلى وسائل النصر وغايته ونصره، وقد فعل جل جلاله، فهداه إلى الطريق الحق الموصل إلى الجنة وإلى الرحمة وإلى الرضا، وكذلك كل من تبعه ودان بدينه وقال بقوله، وهو وحده النصير والمؤازر والمؤيد جل جلاله، ومن كان الله معه وناصره فلا يحسب لأحد في الأرض حساباً، ولا يخاف أحداً إلا الله.
ولذلك كان شعار المؤمن هو الكلمة التي نقولها عشرات المرات في كل يوم في بداية الصلاة، وفي كل حركة من حركات الصلاة، وفي الأذان وفي الإقامة، وفي صلوات الفرض النافلة: الله أكبر.
فالله أكبر تعني: لا كبير مع الله، وكل ما خطر بالبال من طاغية أو فاجر أو ظالم أو جبار فالله أعظم وأقوى منه، وهو الذي يسلطه علينا إن شاء.
وما من جريمة أو ذنب أو عقوبة إلا نتيجة ذنب وجريمة، ولذلك فالمؤمن الحق إذا ضاقت به الأرض، وكثرت عليه الأعداء وتألبوا من مختلف بقاع الدنيا رفع يديه إلى الله وتضرع إليه قائلاً: يا رب! يا رب! ليس غيرك هادياً، وليس غيرك ناصراً، وخاصة في الثلث الأخير من الليل عندما ينزل ربنا إلى سماء الدنيا ويقول: (هل من داع فأستجيب له؟ هل من شاك فأشكيه؟ هل من جائع فأشبعه؟ هل من عار فأكسوه؟ هل من مظلوم فأنصره؟).
وتلك الساعة والناس نيام إذا رفع الناس أيديهم لربهم وهم قائمون راكعون ساجدون فقمن أن يستجيب الله دعاءهم ويقبل ضراعتهم.
فالله جل جلاله القادر على كل شيء أمرنا بالدعاء وضمن لنا الإجابة، قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
وقال العارف: لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من فيض جودك ما علمتني الطلبا أي: ما ألهمك الدعاء حتى ضمن لك الإجابة، وكل ذلك شرح لقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].(121/5)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن)
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32].
فهؤلاء الكافرون لا ينتهون عن الغث من القول، وعن سخافة المنطق ورذالة العقول، فقالوا هذه المرة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32] أي: بعد أن طلبوا أن الملائكة تنزل إلى الأرض لتصدقه، وطلبوا الرب لينزل بنفسه ويصدقه، وبعد أن قالوا: لم هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ قالوا هذه المرة: ولم هذا القرآن ينزل آية آية وسورة سورة؟ لماذا لم ينزل دفعة واحدة؟ قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32] أي: لم لا ينزل القرآن جملة واحدة؟ في ساعة واحدة؟ ولو كانت لهم عقول تفهم وتدرك لفهموا لماذا.
فالقرآن نزل خلال ثلاث وعشرين سنة من نبوة النبي عليه الصلاة والسلام منجماً مرتلاً رتلاً بعد رتل، وآية بعد آية، حسب المصالح والنوازل والأحداث وما يحتاج إليه، فكانت تحدث الحادثة مع يهود فينزل قول الله تعالى يبين الحق في ذلك، وتحدث حادثة مع الوثنيين وعباد الأصنام فتنزل آية تبين الحق في ذلك.
وقد أنزل الله في مكة المكرمة من الآيات ما يدعو للتوحيد، وترك الأوثان، والتخلق بالأخلاق الفاضلة، والتخلي عن الأخلاق الرذيلة الفاسدة فقط، والآيات المكية والسور المكية كانت في أغلبها وفي عمومها آيات تزيف الشرك والوثنية، وتبعد الناس عن عبادة الأصنام والأحجار، وتدعو إلى عبادة الله الواحد، وإلى التصديق بمحمد نبياً ورسولاً وخاتماً للأنبياء صلى الله عليه وسلم.
وقد ثبت ذلك خلال اثني عشر عاماً مع الشدة والتحمل وإيذاء قريش للنبي صلى الله عليه وسلم والأصحاب المكرمين المبجلين، حيث كانوا يعذبون وينكل بهم إلى أن يموت من يموت، فقد ماتت سمية أم عمار وزوجة ياسر، وقد كان أبو جهل يعذبها ويدعوها للكفر بالله وبرسالة محمد، وهي تأبى وتقول: لا إله إلا الله، إلى أن توتر عصبه وفقد صبره وجن جنونه فطعنها في قبلها بحربة، فماتت شهيدة وهي تقول: لا إله إلا الله.
وقد مر سيدنا صلى الله عليه وسلم عليها وهي تعذب هي وزوجها وولدها عمار فلم يقل لهم أكثر من: (صبراً آل ياسر! إن موعدكم الجنة).
وكان بلال يربط بحبال ويسلم للأطفال فيتلاعبون به في أزقة مكة، ويؤتى به في الحر الشديد وقت الظهيرة فيلقى عليه الحجارة وكأنها جمر متقد، فيقول له أبو جهل وأبو سفيان وعقبة بن أبي معيط: اكفر بالواحد، فكان يقول: أحد أحد.
وهو عبد أسود مشترىً بالمال، فلم يقتلوه؛ خوفاً من أن يضيعوا مالهم الذي اشتروه به.
وبعد أن عذب هذا العذاب اشتراه أبو بكر وأعتقه، فقد مر أبو بكر عليهم وهم يعذبونه وقال لهم: ماذا صنع هذا الغلام؟ لم كل هذا العذاب؟ أتبيعونه لي؟ ففرحوا؛ لأنه لم يضع مالهم فيه، فاشتراه ثم أعتقه.
ثم أصبح بلال هذا داعياً بكلمة التوحيد، ولما دخل مكة فاتحاً صلى الله عليه وسلم أصعده على ظهر الكعبة يؤذن: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكان شيوخ الكفر لا يزالون موجودين، فأخذوا يصيحون بالويل والثبور ويذكرون آباءهم وأجدادهم ويحمدون لهم أن ماتوا ولم يروا هذا الذل، وهو أن يصعد هذا العبد الأسود على ظهر الكعبة ويدوسها بقدميه، ويعلن عن محمد أنه نبي، ويبطل الأصنام المتعددة ويدعو للإله الواحد.
ولكن بلالاً كان سيدهم وأشرفهم وأكرمهم، فقد كان مؤمناً لله موحداً، وكانوا هم مشركين وثنيين عباداً للشيطان وللأصنام.
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32] أي: لم لم ينزل عليه القرآن جملة واحدة؟ وما هذا الفضول؟ وماذا يعنيكم ذلك ما دمتم كافرين؟ فإن أسلمتم فتعالوا فاسمعوا لماذا، وإن بقيتم على الكفر فماذا يعنيكم ذلك؟ والله لم يقل الجواب، ولكنه فهم من خلال الآية، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32] أي: أنزلناه كذلك منجماً على مدة ثلاث وعشرين سنة {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32]، فالوحي ثقيل، والأمانة بحمل القرآن أثقل، ولو حمله الله لنبيه صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة لما حملتها ذاته الضعيفة، ولكن الله أنزله عليه شيئاً شيئاً وزمناً زمناً؛ ليتثبت وليتيقن وليزداد إيماناً ويقيناً ومعرفة، وليثبت به فؤادك وقلبك على الدعوة، وعلى القرآن، وعلى الوحي، وعلى الدعوة إلى الله ونشر هذا الإسلام.(121/6)
تفسير سورة الفرقان [32 - 38]
لقد استغرب المشركون من نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم مفرقاً، وقالوا هلا نزل جملة واحدة، وزعموا أن الكتب السماوية السابقة نزلت على الأنبياء جملة واحدة.
ولم يفقهوا أن نزول القرآن مفرقاً منجماً فيه من الحكم والفوائد الشيء الكثير.(122/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة)
قال الله جل جلاله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32].
يقول هؤلاء الذين كفروا على كثرة ما قالوا من حماقات شنعاء لا معنى لها في دين ولا دنيا، وإن هو إلا الحقد والبغضاء للحق وللدين ولنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.
فقالوا: {لَوْلا نُزِّلَ} [الفرقان:32] أي: هلا نزل عليه القرآن، {جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32] أي: دفعة واحدة، وإنما نزل عليه منجماً يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة.
فيقول الله تعالى: {كَذَلِكَ} [الفرقان:32] أي: كذلك أنزلناه منجماً مفرقاً خلال ثلاث وعشرين سنة للمصالح التي تتجدد، ولما هناك من ناسخ ومنسوخ، وأحكام وقصص، وأسئلة يسأل عليها كافرون ومؤمنون.
فلو نزلت الآية التي فيها سؤال قبل السؤال لكانت قد نزلت في غير موضعها، وفي غير وقتها، فلا تؤدي المعنى الذي أدته وقت الحاجة لذلك، وكانت الحاجة في مكة إلى الدعوة إلى الله وتوحيده، وإلى تزييف الأصنام، والتعريف بأن الشرك بالله ضلال وباطل، وإلى أن الله لا ثاني معه لا في ذات ولا في صفات ولا في أفعال.
وبعد أن مر على الإسلام والمسلمين اثنا عشر عاماً، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة أخذت الأسباب تدعو لأن يكون ثم آيات أخر ووحي آخر ينزل بأحكام الحلال والحرام، وينزل بالآداب، وينزل أجوبة للأسئلة.
وكثيراً ما قال تعالى في كتابه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219].
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222].
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، فهذه الأسئلة لو نزلت أجوبتها قبل سؤالها وقبل الحاجة إليها لما أدت المعنى المطلوب.
أما الثانية: فالوحي شيء ثقيل ومهمة لا تكاد تحملها الجبال الرواسي، فعندما نزل الوحي في غار حراء على نبينا عليه الصلاة والسلام رجع إلى زوجه أم المؤمنين خديجة وهو متزعزع النفس، يقول لها: (زملوني زملوني) أي: غطوني، وهو لا يعلم ما الذي حدث إلا ساعة نزول جبريل، وقد ضمه إليه ضمة كادت أضلاعه أن يدخل بعضها في بعض، وهو يقول له عند كل مرة: (اقرأ، فيجيبه: ما أنا بقارئ) هكذا ثلاث مرات، إلى أن قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5].
ثم انقطع الوحي قيل: ثلاث سنوات، وقيل: بضعة أشهر، حتى اشتاقت النفس النبوية الكريمة لتلقي الوحي، وقد أعدت روحه ونفسه لذلك، ثم أخذ الوحي ينزل متقطعاً ثم متتابعاً، وقبل أن يموت بقليل صلى الله عليه وسلم صار ينزل عليه الوحي في كل حين وفي كل وقت، سفراً كان أو حضراً، ليلاً أو نهاراً، ينزل عليه وهو مع الناس، أو في بيته، وهكذا إلى أن نزلت آخر آية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
فعندما أخبر بكمال الإسلام، وبتمام النعمة والرحمة إذ ذاك كان الوحي قد نزل متتابعاً.
أما سبب سؤال الكفار للنبي أن ينزل عليه القرآن دفعة واحدة فهو زعمهم أن التوراة والإنجيل والزبور نزلت على أنبيائها دفعة واحدة.
فنزلت التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، ولكن هذا لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبقى كلاماً قد قيل، ولعله قد بلغنا عن علماء أهل الكتاب، ونحن لا نصدق ذلك منهم ما لم يؤكده آية من كتاب الله، أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالقرآن نزل جملة واحدة للسماء الدنيا، ثم أخذ جبريل ينزل به منجماً، مرتلاً رتلاً بعد رتل، وأرسالاً بعد أرسال على نبينا عليه الصلاة والسلام، فقد قال تعالى في سورة القدر: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1].
أي: أنزل الله كتابه القرآن الكريم إلى السماء الدنيا ليلة القدر؛ ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان، ثم تكفل جبريل بأن ينزل به على نبينا عليه الصلاة والسلام بالمناسبات، وعند الحاجة، وعندما يسأله سائل أو تحدث قصة أو حدث، وهكذا.
وسؤال الكفار بأن ينزل القرآن على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم جملة واحدة ودفعة واحدة، أو ينزل وقتاً بعد وقت وزمن بعد زمن ماذا يفيدهم ذلك وهم لا يزالون على كفرهم؟ إن هو إلا الفضول، والكفر والقول بغير علم وبغير فهم وبغير إدراك.
قال تعالى: {كَذَلِكَ} [الفرقان:32] أي: كذلك لم ننزله جملة واحدة، ولا في زمن واحد، ولا مرة واحدة، بل نزلناه في مكة وفي المدينة وما بينهما، والنبي مسافر أو حاضر أو كان بين قومه وهكذا؛ ليتقبل ذلك بنفس قوية، ويكون استعداده لذلك استعداد الرجال المتحملين لثقل المهمة والرسالة.
فكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي وكان بجانبه أحد ووقعت ركبته عليه فإنه يحس بثقل شديد، وتكاد عظامه تتكسر لثقل ما يشعر من الركبة النبوية عندما يتنزل عليه الوحي.
وكان ينزل الوحي على رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو على ناقته فتشعر بأن الناقة تحمل أطناناً من الثقل، حتى تكاد أن تعجز عن حمل ذلك وتقع؛ لثقل ما تحمله من الوحي.
ولذلك فإن هذا الوحي لو نزل جملة واحدة لما تحملته الذات البشرية التي هي من عصب ولحم ودم، فكان الله ينزله زمناً بعد زمن؛ إعداداً للنفس النبوية لتستطيع تحمله.
قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32] أي: ليثبت قلبك، وترسخ نفسك، وتستقر على قبول ذلك، وتلقيه، ووعيه، وفهمه، وحفظه؛ ليؤديه بدوره للناس حلالاً وحراماً، عقائد وقصصاً، آداباً ومعاملات.
وقوله تعالى: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32] أي: نزلناه شيئاً بعد شيء، ورتلاً بعد رتل، ووقتاً بعد وقت، وزمناً بعد زمن، مرتلاً مفهماً؛ ليستطيع صلى الله عليه وسلم تقبل ذلك بوعي كامل وفهم كامل وحفظ كامل.
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام والوحي ينزل عليه يخاف أن يفلت منه، فتجده يعيده مع نفسه، فأمر ألا يعيد الآية ويكررها، بل يستمع ويعي إلى أن ينتهي، فالله قد تكفل له بذلك، وقد تم له كما يريده.(122/2)
تفسير قوله تعالى: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً)
قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:33].
أي: لا يأتيك هؤلاء الكفار بمثل من الأمثال التي يضربونها لك بالمتشابهة من الأضاليل والأباطيل إلا جئناك بالحق الذي يزيفها، ويدحضها، ويكشف باطلها، مما يصلح حقاً تدركه النفوس السليمة والعقول المدركة، أما التي لا علم عندها ولا نور ولا إيمان معها فتلك كالأنعام بل هي أضل.
فقوله: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:33] أي: بضرب مثل أو تشبيه، فقد كانوا يقولون فيه تارة بأنه افترى، وتارة بأنه بشر من الناس يأكل ويشرب، ويتنقل في الأسواق، ويتزوج كما نتزوج، ويتألم كما نتألم، ويسر كما نسر، فهذه الأمثال التي يأتون بها يأتي الله عليها بالحق وبما هو أحسن تفسيراً، وأبين وضوحاً، وأكمل وعياً وأداءً.
وأصل التفسير: الفسْر، والفسْر معناه: الكشف، ويقال: نحن نفسر كتاب الله، أي: نكشف حقائقه، ونبين معانيه، ووقت نزوله، وماذا يراد به مما فسره به المصطفى صلى الله عليه وسلم والصحابة الأكرمون والتابعون لهم بإحسان، وما ورد في ذلك من إجماع، وما تؤديه اللغة العربية بلاغة ونحواً ولغة.
فالتفسير: التبيين والكشف والفسر عن الشيء حتى يبين ويوضح، فيقول تعالى: ما ضرب هؤلاء الكفار أمثالاً لك لضلالهم وزيغهم ما أنزل الله بها من سلطان إلا وأجبناك عليها بالحق، وبالواقع، وبما ليس فيه زيف ولا باطل، وهو أحسن تفسيراً، وأحسن بياناً، وأحسن كشفاً.
وكلمة (أحسن) هنا ليست على بابها، فمعنى القرآن حسن التفسير، أي: حسن الإيضاح والبيان، أما أمثالهم فلا حسن فيها، ولا بيان معها، ولا كشف لحقيقة تؤخذ منها.(122/3)
تفسير قوله تعالى: (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم)
قال تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:34].
هؤلاء الكافرون الذين يهرفون بما لا يعرفون، والذين يضربون لك الأمثال الضالة الباطلة؛ زيغاً وفساداً وصداً عن الله وعن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيحشرون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم.
وسئل النبي عليه الصلاة والسلام كيف يكون ذلك؟ فكان
الجواب
( الذي جعله يمشي على قدميه قادر على أن يجعله يمشي على وجهه) وقد فعل جل جلاله ما أخبر؛ لكفرهم في الدنيا، ولطغيانهم، ولكبريائهم على الله ورسوله، ولتعاظمهم على عباد الله، وعلى العارفين بالله، وعلى الداعين إلى الله.
فهؤلاء الكافرون الذين لم يؤمنوا بالحق عندما يحشرون فإنهم يحشرون على وجوههم، فتكون وجوههم إلى الأسفل، فقد كانوا في الدنيا يمشون على أقدامهم، ففي يوم المحشر يمشون على وجوههم زاحفين، ويبقون في المحشر كذلك إلى أن يصدر الأمر الإلهي للملائكة بأن يجروهم كذلك إلى جهنم وبئس المصير.
وقوله: {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} [الفرقان:34] أي: الذين ضربوا الأمثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واتهموه في صدقه، وفي علمه، وفي الكتاب المنزل عليه، وفي عقله وإدراكه وقالوا وقالوا، هم شر مكاناً.
والشر أيضاً على غير بابها، فهم الأشرار، وهم المبطلون، وهم الفاسقون، وهم الكذبة الفجرة.
وأما سيد البشر صلى الله عليه وسلم فهو في الذروة العليا: مكاناً وصلاحاً، وتقىً، وصدق رسالة، ونبوءة تبليغ وبلاغ بما كلفه الله به أن يبلغه.
وأما أولئك الكفرة الفجرة فأولئك في مكان شر وفاسد، في جهنم وساءت مصيراً.
وقوله: {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:34] أي: هم الأضل طريقاً، وأيضاً معنى (أضل) هنا على غير بابها، أي: هم الضالون في طريقهم وفي سبيلهم، فليست الطريق التي يسلكونها إلا طريق الكفار والمغضوب عليهم، والضالين والمشركين.
وأما طريق النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطريق المستقيم، وطريق الأنبياء والمرسلين، وهو الطريق الذي أمر الله به، ودل عليه كتاب الله، وهو الطريق الذي فسره وبينه بوحي من ربه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ولذلك فإن الدنيا فيها ظلمة ونور، وحق وباطل، فللمؤمن النور والحق، ولمن سوى ذلك الضلال والظلمة والفساد والزيغ عن الحق {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:34].(122/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً)
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان:35 - 36].
قد بينا وفصلنا في غير ما سورة من السور قصة موسى وهارون مع فرعون وبني إسرائيل، وقصة نوح مع قومه، وقصة هود مع عاد، وقصة صالح مع ثمود، وقصة لوط مع قومه.
فالله كرر هذا إشارة وتلويحاً مختصراً؛ ليهدد وينذر هؤلاء الكافرين بمثل العذاب الذي لقيه أولئك الكفار الجاحدون، ألم يأخذوا منهم عبرة وآية ودرساً؟ ألا يزالون مصرين على كفرهم وقد سمعوا ما جاء به الكتاب وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن فعل فعلهم من الأمم السابقة كيف لعنوا ودمروا وانتهوا، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى؟! فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الفرقان:35] وهو التوراة.
{وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان:35] أي: جعل موسى نبياً وعززه وأيده بأخيه هارون، فكان نبياً له مؤيداً ومؤزراً ومعيناً، والوزير: المعين والمساند والمؤيد.
فقد طلب موسى من ربه أن يرسل معه أخاه هارون، فاستجاب الله له فأرسلهما معاً إلى فرعون وهامان وقارون، وإلى القبط وبني إسرائيل.
فجعله الله نبياً ووزيراً، مساعداً ومؤيداً ومعضداً ومسانداً، فكان كلاهما نبياً رسولاً، وكلاهما ذهب إلى هؤلاء فدعواهما إلى الله، وأتيا عن الله بالآيات البينات التي أعجزتهم، والتي ما زادتهم مع ذلك إلا الكفر والإصرار على الكفر.
ونبينا عليه الصلاة والسلام يدعو قومه إلى الله وإذا بهم يقفون في وجهه كما وقف الكفار في وجوه الأنبياء السابقين.
فقال تعالى لموسى وهارون معاً: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان:36]، فذهب موسى وهارون إلى فرعون فقالا: إنا رسولا ربك.
وذهبا إلى قارون وهو من بني إسرائيل، وقد كانت خزائن ملكه وأمواله تعجز عنها العصبة أولوا القوة، كانوا يعجزون عن حمل تلك المفاتيح لكثرة ما تمول، ولكثرة ما استغنى، حتى أصبح يضرب به المثل بالغني فيقال عنه: مال قارون.
أي: أنه رجل يملك من المال الكثير.
فدعوا بني إسرائيل فكذب من كذب وآمن من آمن، وأما القبط فقد كذبوا جميعاً إلا من رحم ربك، ولا يكاد يذكرون إلا على الأصابع.
وبنو إسرائيل قد كانوا آمنوا أولاً، ثم ضل منهم من ضل عندما صنع لهم السامري عجلاً له خوار، وصنعه من الذهب وقال لقومه وقد ذهب موسى لميعاد ربه في الطور: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88].
فدعاهم إلى الوثنية من جديد بعد أن أراهم موسى العز والحرية ورفع شأنهم، فأزال عبودية قارون وهامان وفرعون عنهم، ولكن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل في القديم والحديث.
فعذب الله الأقباط بأن أغرقهم، وعذب بني إسرائيل بالتيه في الصحراء أربعين عاماً، ومن أراد منهم التوبة فلن تقبل منه حتى قتل بعضهم بعضاً؛ وذلك لأنهما أمراهم بالتوحيد، وبالطاعة، وبعبادة الله الواحد، والكفر بالأصنام والأوثان جميعاً، وإذا بهم يكذبونهما، ولم يؤمنوا بآية ولا بمعجزة، فكانت النتيجة بالنسبة للأقباط أن أغرقهم الله ودمرهم تدميراً.
قال تعالى: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان:36]، فدمرهم الله وأهلكهم وسحقهم، وأنهى وجودهم كأنهم لم يكونوا، وأصبحوا ورقة معلقة وخبراً وقصصاً في الكتب، فذهبت الأرواح والأولاد والبلاد والأملاك، وأصبحوا وكأن لم يكونوا في أمس الدابر.
والطوائف الكافرة من بني إسرائيل كذلك دمرهم الله تدميراً، وأهلكهم حتى أصبحوا عبرة للمعتبر، وأصبحوا يذكرون لمن يأتي بعدهم ويكفر كفرهم، فيهددون وينذرون بعاقبة كعاقبة الأقباط وبني إسرائيل.
ونبينا عليه الصلاة والسلام يدعو الناس للإيمان به، فمن كذبه كان جزاؤه في الدنيا عذاب الله وخزيه.(122/5)
تفسير قوله تعالى: (فقلنا اذهبا إلى القوم)
فقال تعالى لموسى وهارون معاً: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان:36] فذهب موسى وهارون إلى فرعون فقالا: إنا رسولا ربك.
وذهبا إلى قارون وهو من بني إسرائيل، ممن كانت خزائن ملكه وأمواله تعجز عنها العصبة أولوا القوة، كانوا يعجزون عن حمل تلك المفاتيح لكثرة ما تمول، ولكثرة ما استغنى، حتى أصبح يضرب به المثل بالغني فيقال عنه: مال قارون.
أي: أنه رجل يملك من المال الكثير.
ودعوا بني إسرائيل فكذب من كذب وآمن من آمن، أما القبط فقد كذبوا جميعاً إلا من رحم ربك ولا يكاد يذكرون إلا على الأصابع.
وبنو إسرائيل قد كانوا آمنوا أولاً، ثم ضل منهم من ضل، عندما صنع لهم السامري عجلاً له خواراً، وصنعه من الذهب وقال لقومه وقد ذهب موسى لميعاد ربه في الطور: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88].
فدعاهم إلى الوثنية من جديد بعد أن أراهم موسى العز والحرية ورفع شأنهم، فأزال عبودية قارون وهامان وفرعون عنهم، ولكن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل في القديم والحديث.
فعذب الله الأقباط بأن أغرقهم، وعذب بني إسرائيل بالتيه في الصحراء أربعين عاماً، ومن أراد منهم التوبة فلن تقبل منه حتى قتل بعضهم بعضاً.
وذلك لأنهما أمراهم بالتوحيد، وبالطاعة، وبعبادة الله الواحد والكفر بالأصنام والأوثان جميعاً، وإذا بهم كذبوهما، ولم يؤمنوا بآية ولا بمعجزة فكانت النتيجة بالنسبة للأقباط أن أغرقهم الله ودمرهم تدميراً.
قال تعالى: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان:36] فدمرهم الله وأهلكهم، وسحقهم، وأنهى وجودهم كأنهم لم يكونوا، وأصبحوا ورقة معلقة وخبراً وقصصاً في الكتب، ذهبت الأرواح والأولاد، والبلاد، والأملاك، وأصبحوا وكأن لم يكونوا في أمس الدابر.
والطوائف الكافرة من بني إسرائيل كذلك دمرهم الله تدميراً، وأهلكهم حتى أصبحوا عبرة للمعتبر، وأصبحوا يذكرون لمن يأتي بعدهم ويكفر كفرهم، فيهددون وينذرون بعاقبة كعاقبة الأقباط وبني إسرائيل.
ونبينا عليه الصلاة والسلام يدعو الناس للإيمان به، فمن كذبه كان جزاؤه في الدنيا عذاب الله وخزيه.(122/6)
تفسير قوله تعالى: (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم)
قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفرقان:37].
أي: واذكر كذلك يا محمد قوم نوح عندما بعثنا لهم نوحاً، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعوهم إلى الله صباحاً ومساءً، حضراً وسفراً، ليلاً ونهاراً، وفي كل وقت وحين ونوح متحمل وصابر، فقد صبر أكثر من نبي الله أيوب، فأيوب صبر بضع سنوات.
أما نوح فصبر ألف عام إلا خمسين عاماً، إلى أن قال له الله: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]، وقال: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40].
فأخبره الله بأن الذين قد آمنوا لن يزيدوا، وهم قليل، فرفع يديه متضرعاً وقد صبر صبر الكرام، وقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27].
فدعا على الكبار والصغار؛ لأن الآباء والأمهات لا يلدون إلا أمثالهم، ويقبلون على الكفر، ولا ينصتون إلى نوح، ويصدون من آمن منهم عن نوح.
فقوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} [الفرقان:37] ولم يرسل الله إلى قوم نوح إلا نوح ومع ذلك ذكر تكذيبهم للرسل، ومعنى ذلك: تكذيب المبدأ، فمن كذب رسولاً واحداً فإنه يكون قد كذب جميع الرسل، ومن يعبد وثناً أو خلقاً أو حيواناً لم يؤمن برسول من الرسل؛ لأن دعوتهم واحدة، والوحي واحد، والمعبود واحد، والمنزل للكتاب واحد.
فكان هؤلاء بتكذيبهم للرسول الواحد نوح كمن كذب جميع الرسل، وقص الله علينا قصة قابيل وهابيل عندما قتل أحدهما الآخر، فكان من قتل نفساً كأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.
فمن أزهق روح إنسان فهو بنفسه الشريرة، وبخلقه القاسي، وبعدم خوفه من الله وعقابه كمن أزهق أرواحاً، ومن سعى في إحياء روح بالإحسان إليها، وبدفع الضر عنها، يكون كمن أحيا الناس جميعاً، وهذا باعتبار مراعاة المبدأ أو عدم مراعاته.
وهكذا قوم نوح عندما كذبوا نبياً واحداً كانوا كمن كذب الرسل كلهم، والرسالات جميعاً، فكفروا بالنبوءة والرسالة، وكفروا بالمرسل لها كذلك.
فقال الله عنهم: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان:37] أي: عاقبهم الله بالغرق، وهذا فيه تحذير وإنذار للذين يكفرون بمحمد خاتم الأنبياء وسيد الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} [الفرقان:37] جعل الله قوم نوح عبرة للناس، ومثالاً وتحذيراً، حتى إذا حاول أحد من الناس أن يصنع صنع قوم نوح من التكذيب برسل الله، والصد لرسل الله، والوقوف في وجه الدعاة إلى الله، كان عقابه ومآله وخاتمته هي خاتمة قوم نوح، فكانوا آية وعبرة.
وقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفرقان:37] أي: اعتدنا وهيأنا لكل ظالم كافر، ولكل مشرك لا يؤمن بيوم الحساب عذاباً أليماً، كالعذاب الذي قابله وبلي به قوم موسى وهارون وقوم نوح كذلك.
فمن لم يؤمن من أمة محمد وكفر بالله ورسوله، فليحذر عاقبة كعاقبة المكذبين السابقين من أقوام الأنبياء السابقين.(122/7)
تفسير قوله تعالى: (وعاداً وثمود وأصحاب الرس)
قال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:38].
أي: اذكر يا محمد! عاداً وموقفهم من نبيهم هود، وثمود وموقفهم من نبيهم صالح، وأصحاب الرس مع نبيهم.
أما قوم عاد فقد كفروا بالله، وجددوا كفر قوم نوح من قبل، فعندما أغرقت أمة نوح جميعها لم ينج من الخلق إذ ذاك إلا أصحاب السفينة، وهم بضعة عشر فرداً.
فكان نوح ومن معه آدم الثاني للبشر والخليقة كلها، فقد نجحوا من الغرق لإيمانهم ولدينهم، وبعدما مضت قرون أخرى عاد بعض أبنائهم إلى الكفر والعصيان ونسوا الذكر؛ لما متعوا به من طول الأعمار وقوة الأبدان، وكانوا يسمون العمالقة؛ للطول والعرض، والقوة في البدن وفي المال وفي العمل.
وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً وكانوا وكانوا، فتفرعنوا وطغوا وجددوا الكفر السابق من قوم نوح، وإذا بالله الكريم يرسل عليهم الصيحة والزلزلة، فزلزلت بهم الأرض زلزلاً، وصاح بهم جبريل صيحة صرع الكل.
ومن دخل إلى أرض ثمود يجد الإنسان هيكلاً عظمياً قائماً أو ممتداً أو جالساً، يحلب بقرة أو يدير رحى أو يركب حماراً، وهو على هذه الحالة.
وهذا أيضاً قد حصل لبعض الشعوب هناك، والله لم يذكر لنا الكل، وإنما ذكر لنا أمثلة، وسيلخص ذلك ويقوله بعد هؤلاء.
وقوله: {وَعَادًا وَثَمُودَ} [الفرقان:38] عندما كفروا بأنبيائهم هود وصالح، وشتموهما، وهددوهما، وكذبوهما، ولم يؤمن بهما إلا قليل من الناس، كذلك الله تعالى أذهبهم بالصيحة وبالزلزلة وأصبحوا كأمس الدابر أيضاً، فالله يهدد من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بعاقبة كعاقبة هؤلاء.
ثم قال: {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} [الفرقان:38] قال بعض المفسرين: هم ما تبقى من قبائل عاد وثمود.
والرس: بئر، فكانوا هؤلاء قد نسبوا لها، وهم فئة جاءت من بعد وكفروا ككفر أسلافهم.
وقال البعض: بل هي قبيلة من قبائل شعيب كذبوا شعيباً، ونسبوا لهذه البئر.
وقال البعض: بل هو نبي جديد أرسل إلى أرض اليمامة في نجد، وكان قومه مجاورين لبئر يستقون ويشربون منها، فأرسل الله لهم نبياً فلم يؤمن به إلا عبد أسود، وكلهم كذبوه، ورسوه في الرس، أي: رموه في البئر وغطوا البئر بصخرة، وتركوه ليموت جوعاً، ولكن هذا العبد الأسود الذي آمن به كان يأتيه خفية بالطعام وبالشراب، وأعانه الله على رفع تلك الصخرة عندما كان يقدم له طعاماً وشراباً.
وعاش هذا النبي زمناً حياً في هذا البئر المغلق عليه بهذه الصخرة، ثم بعد ذلك أخذت سنة لهذا العبد فنام بها سبع سنوات، ثم صحا وتقلب على الجانب الآخر، ثم نام نومة ثانية فدام فيها سبع سنوات بما يشبه حالة أصحاب الكهف، ثم قام ولا يظن أنه نام إلا أياماً، فذهب إلى البئر فلم يجد النبي، وإذا به يسمع أن القوم قد أسلموا له ودانوا له وتابوا من ما مضى.
وقال قوم: أصحاب الرس كانوا في أرض أذربيجان، وليس في بلاد العرب.
وقال قوم: كانوا في أنطاكية.
وقال قوم: هم أصحاب الأخدود الذين ذكر الله لنا قصتهم مطولة وستأتينا بإذن الله، فقد حفر لهم حفائر وقتلوا.
وقال البعض: هو صاحب ياسين الذي دعاهم للإسلام وكان مؤمناً بينهم، ولا نستطيع أن نخرج بشيء من ذلك بيقين؛ لأنه لم يرد في ذلك حديث صحيح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكننا نقول: إن أصحاب الرس جماعة، والرس معناه: البئر.
فأصحاب البئر أيضاً كذبوا نبيهم، فعاقبهم الله ودمرهم، وقد ذكرهم مع المدمرين والمهلكين من قوم نوح وهود وصالح، وقوم موسى وهارون.
وقوله تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:38] أي: عصوراً أخرى لم يذكرها الله، والقرن مائة سنة عند الجمهور، وقيل: مائة وعشرون، وقيل: أربعون عاماً.
وقيل: ثمانون عاماً.
ولكن المعلوم في بيان الحديث النبوي الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
زاد في رواية: (ثم الذين يلونهم)، فقد ذكر أربعة قرون، وهي ما نسميها بالعصور الفاضلة، والجمهور على أنها ثلاثة: وهي: قرن النبي الذي عاش فيه ومعه أصحابه.
والقرن الثاني: قرن التابعين الذي يبتدئ بـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
ومضى قوله تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:38] أي: بين قوم نوح وقوم موسى وهارون وقوم هود وقوم صالح وأصحاب الرس قرون كثيرة، وعصور ودهور تقدر بآلاف السنين ومئات الأنبياء، وكلهم كذبوا أنبياءهم فدمرهم الله وأهلكهم بين صواعق من السماء، وزلازل من الأرض، وصرع، وخسف، وغرق، وحروب تقوم بينهم تفنيهم جميعاً.
والله ذكر كل ذلك مفصلاً ومجملاً، وسمى البعض كقوم نوح ومن معه، ولخص اسم الباقي لكن جمعهم مع هؤلاء في التكذيب والإهلاك والتدمير.
فالله تعالى هدد الكفار بأن يدمرهم، ويهلكهم، ويقضي عليهم، ويتبرهم تتبيراً؛ نتيجة كفرهم وتكذيبهم للأنبياء.
وهذا التهديد لا يزال قائماً لساعتنا هذه وإلى يوم القيامة، فالعصر الذي برز فيه صلى الله عليه وسلم وهو يدعو الناس إلى عبادة الله والإيمان به نبياً هو نفس العصر الذي نعيش فيه، فنحن مطالبون باتباع شريعة محمد والكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وعلى آله، الذي يخاطب كل الخلق إلى يوم القيامة: بأن يؤمنوا بالله واحداً، وبمحمد نبياً وخاتماً للأنبياء والمرسلين، فمن لم يفعل ومن كذب وتهاون فهو مهدد بمثل ذلك، وما هذه الحروب، وهذا البلاء، وهذا الجوع والوباء أحياناً، وهذا الذي يجري في العالم الإسلامي قبل وبعد وفي حاضرنا إلا لما كذبوا أنبياءهم، وخرجوا عن دينهم، وارتدوا، وعصوا، واختلفوا، وخالفوا، ومن باب أولى الذين لم يؤمنوا بالمرة.
وفي عصرنا وما سيأتي فإن الكفار سيبقون دائماً مدمرين، هالكين، متبرين بالأنواع التي يريدها الله، ولعذاب الله أخيراً أشد وأنكى.(122/8)
تفسير سورة الفرقان [40 - 44]
لقد ذكر الله تعالى حال الكفار في مرورهم على القرى التي دمرها الله وجعلها عبرة لمن بعدها، ومع ذلك لم يتعظ هؤلاء المارون عليها، بل زادت قلوبهم قسوة وإعراضاً.
ثم ذكر حال الذي اتخذ هواه إلهاً يعبده من دون الله، فهو ينفذ كل ما تمليه عليه أهواؤه وشهواته، ولا يعرف رباً ولا ديناً.(123/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان:40].
يقول تعالى عن هؤلاء الذين عصوا النبي صلى الله عليه وسلم وكانت لهم رحلة الصيف والشتاء للتجارة إلى اليمن والشام، هؤلاء الذين قال الله عنهم: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان:40] أي: أنزل الله عليها حجارة، وقوارع، وصواعق من السماء، وقلبها رأساً على عقب، وجعل عاليها سافلها ثم أمطر عليها حجارة من سجيل.
هذه القرية التي أتى هؤلاء عليها ومروا عليها وهم يرونها في طريقهم إلى الشام هي: سدوم وخمس قريات من أرض فلسطين، وهي القرى التي أرسل فيها لوط نبياً لهم ورسولاً عليهم، وقد كانوا يأتون الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، فاكتفى الرجال بالرجال، إلى أن طمعوا في رسل الله الملائكة الذين جاءوا إلى لوط يخبرونه بأن يترك القرية، وفي الصباح سيجعلون عاليها سافلها، ثم سيمطرون بحجارة من سجيل من السماء، وقد قالوا: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81].
وكان لوط قد انزعج عندما جاءه أنبياء الله من الملائكة في صورة أحداث وشباب مرد، وكانت زوجة لوط تخبر قومها أصحاب الفاحشة عن كل من يأتي زائراً إلى لوط، وتقول لهم: لقد جاء لوطاً فلان وفلان وفلان؛ ليأتوا إليه فيطلبون أولئك الشبان، فلما جاءته الملائكة في صورة أحداث انزعج لوط، فطمأنه هؤلاء الملائكة.
فعندما خرجوا إليهم ضربوهم بأجنحتهم وإذا بأعينهم تطمس، ليست تعمى فقط، إنما أصبحت لحماً كالجبهة والخد، ثم أمر الله جل جلاله هؤلاء الملائكة فأتوا إلى الأرض التي كانوا فيها فأخذوها من أطرافها ورفعوها حتى سمع سكان السماء أصوات الديكة وأصوات الحمير، ثم قلبوها عاليها سافلها، ثم رجموهم بالحجارة.
ويقول الكثير من الأئمة من الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد: بأن مرتكب هذه الفاحشة يرجم بالحجارة عزباً كان أو متزوجاً.
والبعض قال: يجعل على أعلى جبل ويدهده، أي: يرمى ويقذف إلى أن يصير في الحضيض ويتقطع إرباً إرباً، وأجزاء أجزاء؛ لأن الله عاقب هؤلاء بهذا، فجعل الأرض عاليها سافلها ثم قذفهم بالحجارة من السماء.
وكانت قريش في تجارتها في الجاهلية تمر على قرى قوم لوط في أرض فلسطين، وترى آثار الخسف والرجم، وبقي هذا لأزمان، ولعله إلى الآن لا يزال يرى هذا.
فالله يقول لهؤلاء: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان:40] أي: قد جاءوا لهذه القرية التي أنزلت عليها أمطار ليست بالماء ولكن بالحجارة، والحجارة كانت من سجيل، فمطروا مطر سوء، ومطر هلاك، ومطر قضاء، ومطر خسف ومسخ ورجم.
وقوله: {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} [الفرقان:40] أي: أليسوا يرونها في ذهابهم وإيابهم في رحلاتهم التجارية صيفاً وشتاءً، ألا يتخذون من ذلك عبرة؟ ألا يتخذون من ذلك ما يعيدهم للدين والإيمان والتوحيد.
وقوله: {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان:40] أي: بل كانوا كفرة لا يخافون النشور والبعث، ولا يؤمنون بيوم القيامة، ومن كان كذلك فهو لا يخاف الله؛ لأنه يعتقد أن الدنيا إنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع، ولا حياة ثانية، فهم كبقية الكفار بناء على هذا الرأي الفاسد وهذه العقيدة الضالة، فيشكرون ويظلمون ويقطعون الأرحام ويهتكون الأعراض ويكفرون بالله وينشرون الفساد، ويقولون: إن هو إلا الدهر، وهم من نسميهم بالدهريين وبالملاحدة وبمن لا دين لهم.
وكل من في الأرض على هذه العقيدة وعلى هذا الدين إلا المسلمين الذين لا يزالون متمسكين بدينهم، والكثير منهم قد ضلوا وآمنوا بأفكار وآراء ضالة وفلسفات وافدة لم تأتهم إلا بالشرك، والإلحاد والبعد عن الله ودينه وكتابه ونبيه صلى الله عليه وعلى آله.
فالله يقول عن هؤلاء: ليس لك بهم أن يفهموا أو يدركوا أو يؤمنوا، فإذا مروا على هذه القرية التي أمطرت مطر السوء فيرون بأعينهم ما نزل بهم، ولكن لكفرهم بالله وعدم إيمانهم بيوم البعث والنشور فهم لا يخافون بعثاً ولا نشوراً، ولا يخافون يوم القيامة، يوم يعرضون فيه على الله إما إلى جنة وإما إلى نار.
ونتيجة هذه العقيدة ازداد كفرهم وصدهم، وأصروا على الكفر وأنواع الدعارات والفسوق، كما ورد عن أصحاب الرس أنهم انفردوا ببلاء آخر، فقد كانت النساء يستغنين بالنساء، وهو ما يسمى بالمساحقة، كما كان الرجال يستغنون بالرجال عن النساء من قوم لوط، وهذا فعل شنيع، ونسبته إلى نبي الله لوط نسبة فظيعة، فصارت هذه الفاحشة تسمى باللوطية، وهو شيء ما كان ينبغي أن يكون، ولكن هذا الذي كان.
فأصبح علماً لهؤلاء الرجال الذين يستغنون بالرجال والنساء اللاتي يستغنين بالنساء، وهذا بلاء قد عم وطم، وأنذر الناس به قديماً وحديثاً، وما كان في قوم إلا وعمهم الله بعذاب، وعمهم بالمحنة، وعمهم بالذل وبالهوان وبالسحق وبالدمار وبالهلاك.(123/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً)
قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان:41].
أي: يا محمد! إذا رآك قومك وكل من جاء بعدك وعاصرك وإن لم يرك، فإنهم يهزئون بك ويشتمونك، ويقولون فيك الأقاويل كما قص الله علينا في هذه السورة.
فكان الكفار من نوع أبي لهب وأبي جهل وأمثالهما من قومه إذا رأوه يهزئون به ويسخرون منه ويقولون: أهذا الذي بعث الله رسولاً؟! ولم لا؟ وقد كان أجمل الرجال، وأعلم الرجال، وأبهى الرجال، وأصدق الرجال، وقد كان الناس إذا رأوه لا يستطيعون أن يحدوا البصر إليه.
ولكن لصعود الران على قلوبهم لم يروا كل هذا، وإلا فلماذا يستهزئون برسول الله عليه الصلاة والسلام وهو فارسهم، وأجودهم وخطيبهم، والمبلغ عن ربه لهم، وقد كانوا في الأربعين السنة التي عاشها معهم قبل الوحي والنبوءة ما يذكرونه إلا بالتقدير وبالإجلال وبالاحترام، ولم ينادوه باسمه محمد وإنما يقولون: الصادق الأمين.
فيصفونه بالأمانة وبالصدق، ولكن هؤلاء عندما ران الكفر على قلوبهم وأصبحوا أتباعاً للشيطان انقلبت هذه الصور التي كانت عندهم في أيام الجاهلية، وأصبحوا يهزئون به، ويسخرون منه، ويتغامزون فيما بينهم ويشيرون إليه ويقولون: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان:41].
وهذا لعنتهم وخزيهم وشديد كفرهم ومزيد إصرارهم على هذا البلاء، وقد قال الله لنبيه: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95] وقد كفى الله نبيه هؤلاء المستهزئين.
يقول ابن تيمية: من خصائص النبوءة المحمدية أنه ما استهزأ به أحد في حياته أو بعد حياته إلا وختم الله عليه بسوء الخاتمة، فمات على الكفر والشرك.
وقص قصصاً للأولين، وقصصاً للمعاصرين.
وما رأينا كافراً ومنافقاً لعيناً يذكر النبي صلى الله عليه وسلم بما يؤدي إلى الاستهزاء والسخرية إلا ولعنه الله في الدنيا فدمره وأذله، وخرب قلبه، فأصيب بتشويه الوجه وبالإفلاس وبالذل والهوان، وأصبح القرد أجمل منه وأبهى منه، فيصير أخس من قرد وأذل من خنزير، ويموت على الكفر، وينطق في سكرات الموت بكلمات الكفر، ويعلن: بيا ويلاه! ويا ثبوره! ويا هلاكه!(123/3)
تفسير قوله تعالى: (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا)
قال الله تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:42].
فالكفار يسرون ويفرحون لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتركوا عبادة الأصنام والأوثان، فيستهزئون ويقولون: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} [الفرقان:42] أي: لقد كاد، وكاد من أفعال المقاربة أي: قرب أن يردنا إلى الإسلام، وهكذا يزعمون، فيسمون الهداية ضلالاً.
وقوله: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا} [الفرقان:42] أي: كادوا أن يهتدوا وكادوا أن يصبحوا مسلمين، ولكن أحد شياطينهم فيمن سيقولون عنه يوم القيامة وهم ينادون: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28].
فهذا الذي اتخذوه خليلاً بعد أن كادوا أن يسلموا ويؤمنوا ردعهم، وأبعدهم فلم يسلموا ولم يؤمنوا، وهم في الدنيا لا يزالون يفرحون بذلك، ومتى سيعرفون الحق وقد ابتعدوا عنه كل هذا البعد، وهانوا كل هذا الهوان! قال تعالى: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [الفرقان:42] والتسويف بالسين للقريب، وبسوف للبعيد، أي: بعد الموت.
وسوف يرون، أي: سيرون قريباً عندما يرون العذاب، وسيرون العذاب عند الاحتضار، وعند سؤال القبر، وسيرون العذاب الخالد يوم القيامة يوم العرض على الله، وإذ ذاك سيعلمون ويندمون وهيهات، ولات حين مندم، ولا ينفعهم علم ولا معرفة عند ذاك وسيدركون من هو أضل سبيلاً.
و (أضل) هنا أيضاً ليست على بابها، وليس فيها المشاركة وزيادة، أي: سيدركون أنهم الضالون المشركون المجرمون الأعداء الكفرة الفجرة، وأن النبي هو الحق، فقد آتاه الله الحق، ورزقه بالحق، ودعا للحق، وما كان الباطل إلا منهم، فقد دعوا بالباطل وحاربوا الحق إلى أن ماتوا على الباطل، وبعثوا مع أهل الباطل في جهنم مع المبطلين والمشركين والكافرين.
{وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:42] أي: سيعلمون عند ذلك من طريقه وسبيله أكثر ضلالاً وفساداً وظلمة وضياعاً، فهم الضالون المفسدون وحدهم، وهم الذين اتبعوا السبيل الفاسد الجائر الموصل للكفر وللشرك وللظلم وللضلال.(123/4)
تفسير قوله تعالى: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه)
قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43].
أي: أرأيت يا محمد ببصيرتك وببصرك، فهذا خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام وهو خطاب لكل المؤمنين ولكل الناس ممن يرى ذلك ببصره وببصيرته إن كانت له بصيرة.
فقوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] هذا استفهام تقريعي توبيخي، فيقرع الله جل جلاله فيه قلوب هؤلاء، ويعجب نبيه من هؤلاء الذين كفروا بربهم ولم يؤمنوا برازقهم كيف اتخذوا من هواهم إلهاً؟ وما الهوى إلا اتباع النزوات والشهوات مما تهواه الأنفس.
فمن هوى الفساد اتخذه إلهاً، ومن هوى الشرك اتخذه إلهاً، ومن هوى الفجور اتخذه إلهاً، وهكذا كان الكفرة، فقد كانوا يهوون الأحجار فيصنعون منها تمثالاً فيسجدون له ويركعون، ثم يملونه فيرمونه ويأتون بخشبة أو بحجر آخر فينحتونه ويتخذونه إلهاً، وقد يعطونه اسماً من الأسماء.
ويوجد في الكنائس والمتاحف أصناماً كثيرة، ويسمونها بـ مريم، وعيسى، وبإلههم الأكبر، حاشا الله من ذلك وتعالى علواً كبيراً.
وهذه الأحجار لا تدوم الآلاف من السنين، فهم في كل مرة يجددون حجراً ووثناً وصنماً، وتجدهم في كنائسهم يقفون أذلاء خاضعين متبذلين لعبادة هذا الصنم، فتقول لهم: هذا حجر قد يكون بال عليه كلب أو خنزير أو ثعلب فكيف تعبدون هذا؟ ولكن من اتخذ إلهه هواه، ومن صار الران على قلبه كيف تهديه؟ هكذا يقول الله لنبيه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43] أي: أتكون حافظاً وضامناً وكافلاً له حتى لا يفعل ذلك، فلا يكون هذا، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272].
فليس على الرسل إلا البلاغ، وهو إبلاغ الرسالة التي كلف بها أنبياء الله أن يدعوا الناس إليها؛ حتى يسمعوهم بآذانهم، ويروهم بأعينهم المثال الكامل في سيرتهم أنفسهم، أما أن يجبروهم على الإسلام فلا، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، فالهداية ليست لك هي لله، فالله يهدي من يشاء، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف شاء جل جلاله.(123/5)
تفسير قوله تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون)
قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44].
أي: أتظن يا محمد! أن هؤلاء الكفار الذين اتخذوا إلههم أهواءهم عندما تخاطبهم يسمعون أو يعقلون؟ فهم يسمعون منك ولا يعون، فلا يسمعون إلا الصوت.
وعندما تتلو كتاب ربك وبيانه من سنتك، وتشرح لهم ذلك أتظن أنهم يسمعون أو يعقلون؟ فلا سمع لهم ولا عقل، إنما هي الأصوات يسمعونها كما نسمع الدواب عندما تتكلم، ولا ندرك إلا أصواتاً أو لغة لا نفهمها، فكان هؤلاء لفسادهم وضلالهم واتخاذهم أهواءهم آلهة يسمعون الصوت ولا يعون المعنى، ويسمعون الكلام ولا يعقلونه، ولا يدركونه، ولا يعونه.
قال الله عنهم: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ} [الفرقان:44] أي: ليس هؤلاء إلا كالدواب والحيوانات، كحمارك، وكبغلتك، وكبعيرك، وكشاتك.
فمعنى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ} [الفرقان:44] أي: ليسوا إلا كالأنعام.
وقوله: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] أي: أبعد طريقاً في الكفر والضلال والجهل وعدم السمع وعدم العقل وعدم الوعي، فهم أقبح من الدواب والأنعام؛ لأن الأنعام عندما يحسن إليها ربها وصاحبها ومالكها فيطعمها ويشربها ويعطيها الكلأ ويحفظها من الذئاب ومن الضواري، فإنها تعتاده وتتبعه وتحبه، وتحرص على أن تكون معه.
ثم هي تفيده بولادتها من بطونها، وتفيده بأوبارها وأشعارها من ظهورها، أما هؤلاء فربهم الرازق المعطي المحيي، الذي رزقهم أعيناً وألسنة، ورزقهم شباباً وصحة، وأحياهم، فكفروا به، وأعرضوا عنه، واتخذوا الآلهة أرباباً من دون الله، فهم على ذلك أضل سبيلاً.
وهذا ما يقوله القرآن يجب على المسلم أن يسمعه، ويقوم به، ويعتقده اعتقاداً جازماً: أن كل كافر في الأرض، وكل مرتد من المسلمين هو والحيوانات سواء، بل إن الحيوانات أشرف منه وأكرم.
ولا تغتر بمن قالوا عنه: مثقف أو دارس أو فيلسوف أو رئيس أو يدرك شيئاً، فهم كالأنعام بل هم أضل، وهم لا يسمعون ولا يعقلون، فكل من يكفر بالله الخالق ويجعل له ثانياً ويعبد هوى نفسه ويعبد أوثانه وحجارته، إن أسمعته كتاب الله لا يسمع منك إلا الصوت، فلا يعقل ولا يدرك ولا يفهم، وهو بهذا الاعتبار حيوان أعجم، بل الحيوان أشرف منه وأكرم منه.
وإذا كان بينك وبينه معاملة دنيوية فقم بها، وما سوى ذلك لا تعامله ولا تصاحبه ولا تقل يوماً عنه: إنه مدرك أو عاقل أو يفهم، ومن كفر بربه يوشك أن يكفر بك يوماً، وأن يغدر عليك، وأن يجور عليك، وأن يأكل مالك، ويبطش بك.
وهكذا يفعل الكفار اليوم في الأرض، فقد تواطئوا وتآمروا على المسلمين يهوداً ونصارى وملاحدة، ومنافقين من الداخل كذلك.(123/6)
تفسير سورة الفرقان [45 - 47]
في هذه الآيات يذكر الله تعالى بديع خلقه وصنعه من مدّ الظل ثم قبضه، ومن خلقه الليل والنهار خلفة يخلف أحدهما الآخر، ومن إرساله للرياح بشراً بين يدي رحمته، وغير ذلك.(124/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل)
قال الله جلت قدرته: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان:45 - 46].
بقيت آية في الأمس لم يذكرها المعيد ولم تفسر، وهي قوله تعالى: {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان:39].
فهؤلاء الجاحدون الكافرون والمنافقون الضالون قد ضرب الله لهم أمثالاً وحججاً وبراهين وأدلة تدحض شبههم وأباطيلهم وضلالاتهم، فمن أصر منهم على الكفر والشرك والنفاق والخلاف فقد تبّرهم الله تتبيراً، والتتبير: التدمير والتخريب، فكلهم دمرهم الله وقضى عليهم بالغرق، أو بالصيحة، أو بالزلزلة، أو بجعل الأرض عاليها سافلها، فكلهم قد دُمّر وتُبّر؛ لما في ذلك من صلاح للناس، وعقوبة لأمثال هؤلاء العصاة.
يقول تعالى يخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام -وهو خطاب لكل الناس-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان:45] الرؤية هنا تفسّر برؤية البصر ورؤية العلم والبصيرة، أي: ألم تر -يا رسولنا- بعلمك وبصيرتك وفهمك وإدراكك هذا الظل كيف مده الله! ومن يقدر عليه غير الله؟! فالظل هو ما يكون عادة من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، ففي هذا الوقت يكون الظل ممدوداً على الأرض، وهو أحسن ما يكون وقتاً وزماناً، وأكثر ما يكون راحة للمرضى وللنائم بعد النوم حين يصبح الإنسان مع هذا الظل الممدود الذي لا شمس معه ولا شعاع ولا ما يؤذي، حتى إذا أشرقت الشمس أخذ الظل يزول شيئاً فشيئاً إلى أن تُصبح الشمس قد قضت على الظل، وقد وصف الله الجنة بأنها ظل ممدود {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30] أي: لا شمس فيها ولا ما يؤذي النظر والبدن، وإنما حالها كحال هذا الوقت منذ طلوع الفجر إلى شروق الشمس، فهو ظل ممدود متصل، فالظل في هذا الوقت أشبه ما يكون بظلال الجنة.
يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان:45].
أي: لو شاء ربك -يا محمد- لجعل هذا الظل دائماً، فلا تكون شمس ولا شعاع، ويكون الجو في الدنيا أشبه بجو الجنة، ولكن الشمس فيها مصلحة للأحياء، ومصلحة للنبات، ومصلحة للمياه والبحار، وكل شيء مما خلق الله له فيها منفعة ينتفع بها الخلق.
قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان:45] أي: جعلنا الشمس دليلاً على الظل الذي كان قبله، ولو لم تكن شمس لما انتبهنا للظل، ولما وصفناه بالظل، ولظننا أن الجو والوقت والزمن كذلك باستمرار، وقديماً قيل: (وبضدها تتميز الأشياء)، فعرف الظل بشروق الشمس، وعُرفت الشمس بالظل قبلها.(124/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً)
قال تعالى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان:46].
فبشروق الشمس يأخذ الظل في الانقباض شيئاً فشيئاً، وزمناً بعد زمن ليضمه إليه ضماً خفيفاً، حتى إذا أشرقت الشمس لم يبق ثم ظل.
وهذا الظل يكون عادة أكثر راحة للبدن وللنفس، وأكثر اطمئناناً للإنسان القلق والمريض، وأما الشمس فيختفي منها الإنسان عادة، ويستظل بظلالها مع حاجة إليها.
يقول تعالى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان:46] فُسّر قوله (يسيراً) هنا بأن ذلك يسير على الله لا يعجزه ولا يتعبه، وكل شيء يسير على الله وهيّن، وهو القادر على كل شيء، ولكن الأقرب هنا أن المعنى أنه تعالى يجمعه إليه شيئاً فشيئاً في وقت قريب، فلا تكاد ترى قرص الشمس قد بدا ظهوره حتى تضم الظلال بعضها إلى بعض، إلى أن ينتهي وتصبح الشمس وقد أشرقت في الأرض كلها جبالها ووهادها، وبرها وبحرها.
وهكذا عندما تزول وتأخذ تميل إلى الغروب يعود الظل، ويسمى فيئاً، أي: يفيء الظل الذي كان في الصباح، فيعود مساءً من جهة المشرق عندما تذهب الشمس لجهة المغرب.
فهذا الذي يلفت الأنظار: من الذي قدر عليه؟ ومن الذي صنعه؟ إنه ربنا جل جلاله القادر على كل شيء.
وهذه الآية وما يأتي بعدها من آي من هذه السورة المكية الكريمة فيها الأدلة المقنعة التي يؤمن بها كل من خلق الله له عقلاً سليماً على قدرة الله وعلى آيات الله في كونه، وعلى أنه القادر على كل شيء وحده، فلا يحتاج إلى شريك ولا إلى معين ولا إلى مؤازر جل جلاله وعزّ مقامه.(124/3)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي جعل الليل لباساً والنوم سباتاً)
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47].
فالله جل جلاله هو الذي جعل الليل لباساً يلبس كل الخليقة، ويلبس كل الكون ويغمره ويغشاه، فلا يرى من الأرض شيء، وشبهه تعالى لستره وغشيانه وتغطيته باللباس، فالنهار نراه بيّناً عند شروق الشمس، وعندما يأتي الليل ويغشي النهار ويلج فيه لا يُرى من الأرض شيء، فتُصبح الأرض وقد كُسيت لباساً سترها فلا يُرى منها بحرها ولا برها، ولا وهادها ولا جبالها، كالإنسان الذي يكون عرياناً فيستره لباسه عندما يلبسه، فمن الذي خلق ذلك؟ يقول تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:9] أي: قاطعاً يقطع العمل، ويقطع الفكر، ويريح البدن، ويقطع شغله، فيريح الروح والبدن، وينقطع به الجسد عن الأشغال والأتعاب، وتنقطع به الروح عن التفكير بما يشغلها ويهمها، فيكون الليل لباساً، ويكون النوم سباتاً.
فالذي يمرض لا ينام، ويصيبه الأرق كثيراً، فيمرض جسده وتمرض روحه، ولا يكاد يستطيع العمل إذا هو أرق وسهر الليالي المتصلة؛ لأن هذا البدن الضعيف يحتاج إلى أن ينقطع عن العمل والحركة، وهذه الروح التي تجري فينا تحتاج كذلك إلى ما يقطعها عن التفكير، وعن الهم، وعن الاشتغال بما يخطر في البال أو بما يحرّك الجسد، فلو لم يكرم الإنسان بالنوم لينقطع عن العمل لمرض جسده، ولأشرف على التلف والهلاك، فمن الذي قدر على ذلك؟ ومن الذي خلق ذلك؟ ومن الذي أكرم الإنسان بذلك؟ إنه الله جل جلاله.
فلو جعل الله الدنيا نهاراً كلها أو ليلاً كلها، أو يقظة كلها أو نوماً كلها لاضطرب نظامها، ولتعب خلقها، ولعجزوا عن العمل وعن التفكير، ولكن الله جل جلاله جعل لعباده الليل لباساً يسترهم كما يستر البدن من العري، وجعل النوم سباتاً يقطع به أعمالهم وأفكارهم؛ ليجدوا راحة يستقبلون بها النهار بعد ذلك بنشاط وهمّة وقدرة جديدة.
قال تعالى: {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47] فهو الذي جعله نشوراً تنتشر فيه الخلائق في الأرض، فهذا إلى مصنعه، وهذا إلى متجره، وهذا إلى مكتبه، وهذا إلى مزرعته، وهكذا ننتشر بعد النوم وبعد السبات وبعد الليل وبعد السكون، فحين تشرق الشمس ويصبح النهار نأخذ في الانتشار؛ لنرتزق ولنتكسب ولنعمل لديننا ودنيانا، فلو كان الليل سرمداً لتعب الناس كثيراً، ولشقّت عليهم الحياة، وقد وجد بعض هذا في الأرض، ففي الشمال عند القطب المتجمد يكون اليوم سنة كاملة، فستة أشهر هي ليل لا شمس فيها ولا نهار، والستة الأشهر الثانية نهار لا ليل فيها، فيرتب الساكنون بقرب ذلك المكان يومهم على أنه اثنتا عشرة ساعة، فينامون بعضها ويعملون في بعضها، ولكنك تجدهم منهكين أجساداً وفكراً وروحاً.
فالله تعالى جعل أغلب الأرض على الليل والنهار في الساعات المحدودة.
فهذا الخلق من ليل ونهار، وظل وشمس، ونوم ويقظة، وظلام ونور، كل ذلك خلقه الله لهذا العبد ليشكر نعم الله عليه، ويأخذ من ذلك أدلة واضحة قاطعة على قدرة الله على كل شيء.(124/4)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته)
ثم قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48].
هذه الريح التي نحس بها ونشعر بكيانها -وإن كانت العين لا تراها- تحتاج إليها الأرض والإنسان حاجة شديدة، فالله خلقها وأرسلها لتكون بشرى بين يدي رحمة الله، لتكون مبشرة بالغيث والمطر والرزق النازل من السماء والقدرة الإلهية القادرة على كل شيء، حيث ترى الجو ساكناً فإذا بالرياح تبتدئ فتكون هذا السحاب وتجمعه وتكثّفه، وتسوقه لينزل منه المطر فيغيث الأرض، وتكثر المياه الجوفية، فتمتلئ الآبار، وتجري الأنهار، وتنبت الأشجار، ويزرع الزارع، ويشرب الشارب، وهكذا خلق الله هذه الرياح لتكون مبشرة بما بين يديها من رحمة الله ورزقه وغيثه وأمطاره التي يرسلها لتكون أسباباً للرزق والنبات ولحياة الإنسان الذي لا يستطيع أن يعيش بغير مياه.
يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان:48] وقرئ في السبع: ((نُشْرًا)) أي: تنتشر في السماء لينزل بعدها الغيث والأمطار والأرزاق التي هي نتيجة هذا المطر والغيث.
قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] هذه السحب جعلها الله أسباباً لإنزال الأمطار، فهي تنزل من السماء، وكل علو سماء، فهذه السحب تجمع قطرات الماء، فيرسلها الله تعالى فيحيي بها الأرض بعد موتها؛ ليغيث الخلق، فالله جعل من الماء كل شيء حي، فلا يستغني عنه حي مطلقاً.(124/5)
معنى قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً)
قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] أنزل الله من العلو ماء طهوراً، أي: ماء آلة وأداة للطهارة والتطهير، فلا تكون الطهارة في البدن والثوب، ولا يكون الغسل والوضوء للصلاة والاعتكاف والطواف والسعي إلا بهذا الماء، وطهور: فعول، كقولك سحور: أي طعام السحور، وفطور: أي طعام الفطور.
وقد فهم جمهور الفقهاء من ذلك أن الماء الذي لا تجوز الطهارة إلا به هو الماء الصافي غير المختلط ولا الممتزج بشيء معه، فهو أداة الطهارة وأداة النظافة وأداة ما يتعبد الإنسان به في وضوئه وغسله؛ ليصلي لله، وليطوف بالكعبة المشرفة، وليسعى بين الصفا والمروة، وليقوم بما لا يتم إلا بالطهارة بالماء من العبادات.
ومن هنا يقول الفقهاء الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، وعليه جماهير الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين: إن الماء الذي يصلح للطهارة هو الماء الذي لم يختلط بشيء، وزادوا على ذلك فاستدلوا بقول النبي عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن ماء البحر، فقال: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) فهو الطاهر ماءاً، وهو الأداة التي تصلح للطهارة، وهو مثال للماء الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام: (الماء طهور لا ينجسه شيء)، فعند الأئمة الثلاثة وجماهير الفقهاء من الصحابة فمن بعدهم أن الطهارة لا تحصل إلا بهذا الماء.
وفسّر الحنفية الطهور بالطاهر، فقالوا: كل مائع تصح الطهارة به، فصححوا الوضوء بالنبيذ وبالخل وبالعصير وبماء الورد وبماء الزهر، وهذا الذي قالوه هو فهم استدلوا عليه بآثار لم يصححها الجمهور، وقالوا: إن كلمة (الطهور) في القرآن المراد بها آلة الطهور، أي: آلة ما يتطهر به الإنسان، وليس معناها الطاهر فقط.
وقالوا: قليل الماء ينجّسه قليل النجاسة، وكثيره لا ينجسّه شيء إن لم يتغير به، فإن كان الماء كثيراً فاختلط به شيء فإنه إن غيّر أحد أوصافه الثلاثة -أي: اللون أو الطعم أو الريح- فعند ذاك لا يتوضأ به، ويُعتبر غير صالح للتطهير.
والماء طهور لا ينجسه إلا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه، إن كان هذا التغيير بشيء ليس من أصل الماء، كأن يمر الماء على معدن كبريت أو حديد أو زئبق فنجد طعم ذلك المعدن في الماء فهذا لا يضره، وكأن نجده قد تغير بالتراب نتيجة سيل أو أمطار غزيرة، فهذا لا يضره؛ لأنه تغيّر بالتراب الذي يمر عليه.
وأما إذا تغير بشيء ألقي فيه فتغير أحد أوصافه الثلاثة فإنه لا يصلح ولا يجزئ للطهارة.
وقال الشافعية: ينجس الماء إذا لم يبلغ القلتين بمجرد وقوع النجاسة فيه، واستشهدوا ببئر بضاعة في الحياة النبوية، فهذه البئر كانت تلقى فيها الأزبال، وتلقى فيها الأقذار مما يغير أحياناً لوناً وطعماً وريحاً، ومع ذلك كان الأصحاب يتوضئون منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء الطهور لا ينجسه شيء) أي: هذا الماء رغم ذلك لا ينجس ولا يغير، قال الشافعي: لأنه بلغ القلتين، وقالوا: القلتان من قلال هجر، ثم قدّروهما بالوزن فقالوا: وزنهما خمسمائة رطل.
واستدلوا بمفهوم حديث (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، وهذا الحديث ينازعهم فيه أصحاب المذاهب الأخرى فيقولون: قد اضطرب سنداً ومتناً، وبذلك ألغوا الاحتجاج به واكتفوا بكون الماء لا ينجّسه شيء ما لم يغيّر لوناً أو طعماً أو ريحاً، وقالوا: إذ تغير أحد أوصافه ففي هذه الحالة لا يبقى ماءاً، ونحن قد تُعبّدنا بالتطهر بالماء، فإذا أصبح الماء ماء الزهر أو الخل أو النبيذ فلا يكون ماءاً، بل يقال عنه: خل ونبيذ وعصير، والشارع لم يتعبدنا إلا بالماء، والماء هو الماء المعروف عندنا النازل من السماء، والنابع من الآبار ومن الأعين والكائن في الأنهار، فهذا هو الماء كما ذكره الله ووصفه، وهو الذي ينزل من السماء وينبع من الأرض ويوجد بأصل الخلقة في البحار، فإن تغير بشيء لوناً أو طعماً أو ريحاً ولو بالطاهر لم يصلح التطهر به، خلافاً لقول الأحناف بأنه يجوز الوضوء بالنبيذ وبالعصير وبالخل وبالشاي وما إلى ذلك، وهذا خروج عن النص؛ لأن الله قد قال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، فالماء أداة للطهارة، وهذا لا يُسمى ماءاً، بل نُسميه خلاً ونُسميه نبيذاً، ونُسميه ماء زهر وورد.(124/6)
تفسير سورة الفرقان [48 - 55]
ذكر الله تعالى من نعمه على عباده إنزال المطر، فهو بذلك يسقي الأنعام والناس، ويحيي الأرض الميتة، وهو يصرفه بين عباده وأرضه، فيمطر هذه حيناً وهذه حيناً آخر، وقد يمطر الكافر استدراجاً وزيادة في العذاب في الآخرة على عدم شكر هذه النعم.(125/1)
تفسير قوله تعالى: (لنحيي به بلدة ميتاً)
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:48 - 49].
أنزل الله تعالى هذا الماء من السماء ليتطهر به من ليس على وضوء للصلاة وللطواف ونحوهما، ويقول تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان:49] أي: وليحيي الله به بلدة ميتاً، ولم يقل: (بلدة ميّتة) على اعتبار أن البلدة مكان، أي: مكاناً ميتاً، وموضعاً ميتاً.
ومعنى موتها أن تجدها قاحلة وجافة لا تنبت شيئاً، أو فيها نبت وشجر وقد ذبل وأخذ ييبس ويضعف، فلو ترك على حاله لكان ميتاً، فإذا بنا نرى الماء قد نزل من السماء وإذا بالأرض تهتز، وإذا بالأرض التي قد كانت قاحلة جدباء قد أخذت تخضر وتينع بأنواع الثمار والفواكه والزهور والورود، فمن الذي أحيا ذلك؟! إنه الله جل جلاله، وبم أحياه جل جلاله؟! أحياه بهذا الماء الذي أنزله من السماء.
والإشارة بهذا إلى الإنسان الذي يتساءل: كيف سنحيا بعد أن نموت؟ فنحن نرى ذلك كل سنة، نرى الشجرة قد يبست وسقطت أوراقها ولم يبق إلا أغصان لا ورق فيها، ونرى الأرض قد أجدبت، وإذا بالمطر ينزل يغيثها فنرى الأرض -كما وصفها الله- تهتز وتربو، فنرى آثار الحياة في هذه النبتة وهذه الزهرة وهذه الثمرة وهذه الشجرة.
وهكذا الإنسان، فنحن نموت، ولابد من أن نموت، ولكن الله جل جلاله سيحيينا بعد الموت كما أحيا النبتة وأحيا الشجرة وأحيا الأرض الميتة وأحيا الثمرة والأوراق التي تحاتت، فهو جل جلاله الذي أحيا الأرض من بعد موت، وسيحيي الإنسان بعد الموت.(125/2)
معنى قوله تعالى: (ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً)
قال تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:49].
يسقي الله بهذا الماء من خلقه أنعاماً كثيرين وأناساً كثيرين، والأناسي: جمع إنسان وإنسي، وهو كالناس، فالله تعالى يسقي بهذا الماء من لا يستطيع أن يعيش بلا ماء من الأنعام الكثيرة التي خلقها الله على كثرة أنواعها وكثرة أشكالها، وكذلك الإنسان، فالإنسان في الأرض منذ خلق آدم إلى يوم النفخ في الصور لولا هذا الماء لمات، وقد يصبر الإنسان على الطعام أياماً، ولا يصبر على العطش إن اشتد، فإذا جفّ الحلق وقف الريق، وانقطع النفس ومات، ولذلك نجد بعض الأعراب والبدو يحرصون في رمضان على الصيام، وهم يزرعون أو يحرثون، وهم يسكنون في الصحاري، فتقول للواحد منهم: أنت الآن في عمل مهدد به بالموت، فأفطر إن كان لا غنى لك عن هذا العمل في شهر رمضان، فيصر على أن يصوم، وإذا به يعطش ويشتد عطشه عند الظهيرة، فلا يكاد يصله الماء حتى يموت.
وقد حدث هذا كثيراً؛ لأن الإنسان لا يصبر على الماء ويصبر على الجوع؛ لأن البدن فيه شحم، فهذا الشحم عند الجوع ينقلب إلى غذاء داخلي يتغذى به الإنسان، ولذلك إذا جاع يضعف ويهزل، فهذا الهزال والضعف يكون نتيجة ذوبان الشحم الذي فيه، فهو سيغذيه في تلك الأيام.
وأما الماء إذا نفد وجفّ حلقه ودمه فذلك الموت المحقق، ولذلك نحتاج في العطش إلى الماء الكثير، فنشرب صباحاً وظهراً ومساءاً، وعندما يكون الصوم في الأيام الحارة يشتد ويصعب، ولكن المؤمن يرتب حاله، فيتم صومه بإذن الله.
يقول تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا} [الفرقان:49] أي: من خلق الله، و (من) هذه ليست التبعيضية، يعني: لكل خلقه.
وقوله: {أَنْعَامًا} [الفرقان:49] جمع نعم، والنعم جمع لا مفرد له، ويصدق على البقر وعلى الغنم وعلى بقية المخلوقات من الحيوانات مطلقاً.
يقول تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:49] فهذا الماء يحتاج إليه كل حي، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، والأرض لا تنبت إلا به.
فمن الذي أكرم الإنسان بكل ذلك؟! إنه الله جل جلاله، ومع هذه النعم المستفيضة المتتابعة في كل حياتنا تجد الكافر يكفر بالله ويصر على الكفر، فلا يشكر الله على نعمة، ولا يؤمن بربه، ولذا كان الكفرة كالأنعام، بل هم أضل كما وصفهم الله جل جلاله.(125/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا)
قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الفرقان:50].
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان:50] أي: قسمناه ووزّعناه، فتجد السحب وهي في السماء تمطر هذه الجهة ولا تُمطر الأخرى، وتُمطر هذه البلدة ولا تُمطر الأخرى، وتجد هذا البستان قد أُمطر والذي بجانبه لم يُمطر، وحين تسافر ترى ذلك، حيث تجد أرضاً لا مطر فيها، وتذهب يسيراً فتجد أرضاً قد أُمطرت.
وقد قالوا: هذا يكون من صنع الله جل جلاله عقوبة لذاك الذي لم يُمطر، حيث لم يزك ماله، ولم ينفق منه، ولم يعبد ربه، بل عصى ربه وأذنب في حقه، وقد يُمطر الكافر أكثر من المسلم أحياناً؛ ليكون ذلك حجة عليه ومحنة له واختباراً وابتلاء، حتى إذا حوسب يوماً عندما يموت فقيل له: ألم يرزقك ربك؟ ألم يرسل لك نبياً؟ ألم ينزل معه كتاباً؟ فلم لم تؤمن؟ فلا يستطيع جواباً، وإذا به تحل عليه نقمة الله وعذابه.
والمؤمن قد يحصل له الجفاف، ولكنه إذا ابتلي صبر، وإذا أُنعم عليه شكر، وهو على كلتا الحالتين في خير، ففي صبره هو لله عابد، وفي شكره هو لله عابد، ويؤجر على كل الأحوال.
يقول تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان:50] أي: ليأخذوا من ذلك ذكرى وعبرة، إذ السماء واحدة، والسحب واحدة، وتمطر هذه الأرض ولا تُمطر الأخرى، فما السبب؟ إن الله قسم بيننا الأرزاق كما قسم بيننا العقول، والله جل جلاله قد يبتلي الكافر؛ ليستدرجه بكثرة النعم، وليزداد عذابه وعقابه، وقد يبتلي المؤمن؛ ليزيده رفعة، وليكفّر عنه سيئاته، وقد يكون ذلك من الله جل جلاله لمنفعة للبشر والخلق، فهذه الأرض تُسقى بالآبار وتُسقى بالعيون الجارية، فلو نزل المطر في هذا الحالة لأفسد زرعها، فيكفيها ما تسقى به، وتلك علوية لا يصل إليها الماء إلا إذا نزل من السماء، فمن مصلحتها أن ينزل عليها المطر، وهكذا يرزق الله تعالى من شاء كيف شاء جل جلاله، فلا مكره له ولا معقّب لأمره.
قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الفرقان:50] مع هذا الرزق والنعم المتوالية المتتابعة أبى أكثر الناس إلا الكفور، والكفور: صيغة مبالغة من كثرة الكفر وكثرة الشرك والجحود.
وقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين منعه كفار مكة من دخول مكة، وفي ليلة من الليالي أصبحت الأرض كلها غيثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للصحب الذين كانوا معه: (أتدرون ماذا يقول ربنا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: أمطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب).
أي: قال كما يقول الطبائعيون والملاحدة: تحصل الأمطار نتيجة بخار يخرج من البحر فيتكثف في شكل سحب، فلا علاقة لها بأمر ولا نهي، ولا خلق ولا قدرة! فهذا كان نتيجة هذا الكوكب، وذاك كان نتيجة ذاك الكوكب! وهذا ما كان يقوله الجاهليون في جاهليتهم، حيث يقولون: مطرنا اليوم بنوء كذا وكوكب كذا، فمن قال ذلك فهو كافر بالله مؤمن بالكوكب، فقد اتخذ الكوكب إلهه من دون الله.
ومن قال: مطرنا برحمة الله وبإكرام الله فقد أصبح مؤمناً بالله كافراً بالكوكب، وفسّر به النبي عليه الصلاة والسلام هذه الآية: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الفرقان:50].(125/4)
تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً)
قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} [الفرقان:51].
أي: لو شئنا أن نخفف عنك ثقل الرسالة والمهمة والنبوة فنرسل لكل قرية وكل مدينة وكل قطر رسولاً يتولى شئونهم ودعوتهم وهدايتهم لفعلنا، ولكنا أردنا تشريفك، وأردنا تخصيصك وتكليفك بكل المدن والقرى، وبكل الأقاليم، وبجميع العالم شرقه وغربه، وشماله وجنوبه، وعربيه وعجميه، فذلك تشريف لك لتقوم بالمهمة مختصاً بها دون غيرك.
وفي الصحيح (بُعثت إلى الأحمر والأسود)، وقال عليه الصلاة والسلام: (وكان الأنبياء يبعثون إلى أقوامهم، وبُعثت إلى الناس كافة)، وقال الله له: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
فكان جميع الأنبياء السابقين يرسلون إلى عشائرهم وإلى أقومهم، وأما محمد عليه الصلاة والسلام فقد كان رسولاً إلى الإنس والجن منذ أن بُعث إلى قيام الساعة، ولذلك يقول الله له: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} [الفرقان:51] والنذير: المنذر، أي: الرسول والنبي الذي ينذر قومه، فيخوفهم من أن يكفروا، ويخوفهم من أن يجحدوا، ويخوفهم من أن يعصوا ربهم ونبيهم، ويدعوهم إلى الإيمان بالله وحده، فهو نذير بذلك ومخوّف لهم بين يدي عذاب شديد، ويبشّر المطيع المؤمن بالرضا والجنة، ويبشّره برضوان الله.(125/5)
تفسير قوله تعالى: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً)
قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52].
يقول تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: قد أرسلتك وحدك إلى الناس، ولو شئت لأرسلت إلى كل قرية رسولاً ونبياً وخففت عنك من ثقل المهمة والرسالة.
فالله شاء تشريفه وتكريمه وتعظيمه، فأرسله إلى كل القرى وكل المكلفين من البشر والجن منذ أُرسل وإلى يوم القيامة، ولذلك يقول الله له: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:52] أي: لا تقبل من الكافرين قولاً في خلاف هذا، ولقد قال له اليهود: إنما أُرسلت إلى الوثنيين، ولم تُرسل إلى أهل الكتاب، فنحن على دين، وقال له النصارى مثل ذلك، ولا يزال البعض يقول هذا إلى الآن، وقال له البعض من الكفار: لم تُرسل إلا إلى العرب، ودينك لم يصلح عليه إلا العرب، فظن هؤلاء الكفار أن دين الإسلام هو دين البشر وليس دين الله ورسالة الله وأمر الله، ولذا بدل الحاخامات والأحبار والرُهبان وغيروا إلى أن كانت النتيجة تحريف الديانة اليهودية، فحُرّفت ثم نُسخت، وهكذا الديانة النصرانية يُكثر تلاعب علمائها بها، فقد بُدّلت وحُرّفت ثم نُسخت، وجاء على أنقاضها دين الإسلام دين محمد عليه الصلاة والسلام للناس كافة، فتحولت الديانتان إلى الوثنية، فهؤلاء يعبدون عيسى ومريم، وأولئك يعبدون عزيزاً كما عبدوا العجل، ومن يقل منهم: إنه لا يعبد ذلك فإنه يعبد ذواتاً، فيعبد الطبيعة ويعبد الإنسان.
وبذلك انتقلت التوراة والإنجيل عن التوحيد والدعوة إلى الله إلى الدعوة إلى الوثنية وعبادة البشر، على ما فيهما من افتراء على الأنبياء وقذف لهم، وافتراء على الله وقلة أدب معه جل جلاله.(125/6)
معنى قوله تعالى: (وجاهدهم به جهاداً كبيراً)
يقول تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:52] في كل ما يقولونه لك بخلاف ما أوحيناه إليك وأنزلناه عليك، {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] أي: جاهد الكفار بهذا القرآن، واجعل القرآن أداة جهادك، وأداة كفاحك، وأداة حربك، فحرّم حرامه، وأحل حلاله، والتزم أوامره فالقرآن يأمرك بأن تجاهد الكفار وتُقاتلهم حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ولا تتأخر في ذلك، وأجر على المسلمين حدوده من قطع ورجم وجلد وغير ذلك، وحكّم فيهم كتاب الله، فمن خرج عنه من الكفار فليس له إلا السيف بعد ذلك، فإن أبى إلا الكفر والإصرار على الكفر فلا إكراه في الدين، وحينئذ لابد من أن يُعطي الجزية عن يد وهو صاغر، فيعيش ذليلاً، كما قال عمر: (أذلّوهم ولا تظلموهم).
يعني: أهل الذمة.
فالله أمر نبيه ويأمر أتباعه تبعاً له عليه الصلاة والسلام بأن يكون القرآن أداة للجهاد، فعلى أساسه يكون الأمر والنهي والحرب والدعوة، وعلى أساسه تكون الحضارة، وعلى أساسه يكون المكسب، وتكون الدولة، ويكون التعليم، ويكون المجتمع، فإذا خرج الناس عن ذاك فإن كانوا مسلمين فمعناه أنهم ارتدوا، وإن كانوا كافرين فلا يجوز أن تُبقيهم على ذلك.
أما المرتد فليس له إلا مراجعة الإسلام أو القتل، وهذا هو الذي حصل عندما مات النبي عليه الصلاة والسلام وذهب إلى الرفيق الأعلى، وولي الخلافة أبو بكر الصديق، فقد ارتد قوم في أول خلافته، وامتنع قوم عن أداء الزكاة، فذهب ينفذ قوله تعالى لنبيه: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان:52]، فذهب يجاهد بالقرآن، فجاهد المرتدين إلى أن عادوا إلى الإسلام ومات من مات منهم على الكفر، وجاهد الممتنعين عن الزكاة إلى أن أدوا الزكاة صاغرين راغمين، وبعد تمام ذلك جمعهم وأخرجهم عن حدود البلاد لنشر الإسلام في خارج جزيرة العرب في أرض فارس وأرض الروم.
ثم جاء عمر الفاروق فتمم المهمة، وقد كانت خلافته عشر سنوات، فما كاد يموت رضوان الله عليه حتى ضم بلاداً كثيرة إلى الرقعة الإسلامية، فهدى الناس إلى ربهم، وأما القتال الذي لا يكون للقرآن ولا لإعلاء كلمة الله، بل لوطنية وثنية، أو لقومية وثنية؛ فليس بجهاد، وليس هو إلا نزاعاً دنيوياً على مناصب وعلى أموال، وقد جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام من سأله عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليرى مكانه، ويقاتل لإعلاء كلمة الله، فأي ذلك في سبيل الله؟! قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، أما من قاتل للدنيا فإنه إن حصل عليها فله ما حصله، وإن لم يحصّل عليها فقد خسر دينه ودنياه، والأعمال بالنيات، وقد وجد من هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مسلم، وكان في ظاهر أمره أنه هاجر رغبة في دين الله، وابتعاداً عن أرض الكفر، إذ كانت مكة لم تحرر بعد، حيث كانت في وثنية وجاهلية، فعلم النبي بحال هذا المهاجر، وكان النبي عليه الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله على غاية ما يكون من اللطف والنبل، فلا يفضح أحداً، ولا يشوه ويشهّر بأحد، فلا يقول: يا فلان! لم فعلت كذا وكذا؟! ولكن يقول وهو في المجلس: ما بال أقوام يقولون؟ وما بال أقوام يفعلون؟ ومن فعل أو قال ذلك علم أنه المقصود، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
وكان الذين هاجروا إلى المدينة قد خرج بعضهم مع المهاجرين للزواج، وخرج بعضهم للتجارة، فليس لهم إلا ما خرجوا له إن حصلوه، وأما الهجرة لله فليست نيتهم، وإذا لم تكن هناك نية فليس هناك أجر ولا ثواب.
يقول تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، والقتال فرض على كل مسلم ومسلمة فيما إذا هجم العدو على ديار الإسلام، وكان العدو على رمي حجرة منا، كما هو حال اليهود في فلسطين، فحمل السلاح والقتال في هذه الساعة فرض على كل قادر على حمل السلاح، فإن لم نفعل أثمنا جميعاً، ومن هنا ذل المسلمون على كثرة أموالهم وسعة أرضهم، وفي الحديث: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا)، فإذا جاء العدو إلى جزء من الأرض الإسلامية واستولى عليه فالجهاد العيني يجب على من جاوره، فإن استطاعوا قتاله فذاك، وإلا فيجب على من يليهم إلى أن يجب على كل المسلمين.
فالعدو اليوم قد استباح حرمات الله، وأخذ المسجد الفاضل الثالث، والمسلمون يذلون، ويقتّلون، وتُهتك أعراضهم، وتُزهق أرواحهم، وتسيل الدماء منهم أنهاراً، وإخوانهم المسلمون ينظرون، وذلك هو البلاء، وذلك هو الخزي والعار، ويوشك أن يزيد الله في البلاء والمحنة إذا بقي المسلمون على هذه الحالة.(125/7)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج)
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:53].
من عجيب قدرة ربنا خلق الماء في الأرض، ثم جعل من الماء ماءاً عذباً فراتاً، أي: ماءاً حلواً عذباً، وماءاً آخر ملحاً لا يُشرب، ولا تستطيع أن تغسل به بدنك، وإلا أصبح بدنك كله كما لو ذر عليه شيء من الملح.
ومع ذلك أرسل تعالى المياه العذبة آباراً وأنهراً جارية وأمطاراً وغيثاً، كما أرسل مياه البحر، فلا المياه البحرية اختلطت بالمياه الحلوة العذبة، ولا المياه العذبة الحلوة اختلطت بالمياه الملحة.
يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان:53] والمرج يتضح معناه في قولنا: قد أرسل فلان دوابه في المرج، أي: أعطاها ساحة كبيرة تسرح فيها وترعى، وترك لها الحرية في الرعي، فهي ترعى هنا وهناك، وهكذا أطلق الله تعالى المياه وأرسلها في الأرض، ومرجها في الأرض، فبعضها داخل التراب، وهو المياه الجوفية، وبعضها على سطح الأرض، والأرض يتصل بعضها ببعض، فلا هذه فسدت وأصبحت ملحة، ولا تلك زال عنها ملحها بهذا الاختلاط والمرج، فذاك من قدر الله وإرادة الله التي انفرد بها جل جلاله وعز مقامه.(125/8)
معنى قوله تعالى: (وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً)
قال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53] هذا هو المغزى وهذه هي التتمة، حيث جعل تعالى بين هذا الماء والآخر حاجزاً، ومنع هذا أن يفسده ملح البحر، ومنع الآخر أن يُفسده حلاوة الماء وفراته، ذلك لأن الإنسان في الأرض يحتاج إلى هذا وذاك، فالماء الحلو لشرابنا ولزرعنا وطبخنا وحوائجنا -نحن الأحياء- على الأرض، وأما مياه البحر المالحة فلولا وجودها في الأرض لأنتن الكون، ولمات الناس اختناقاً بالجيف الكثيرة المتراكم بعضها على بعض.
وكثيراً ما نسمع أن الأجواء في المحلات الفلانية اختلطت وفسدت، لكثرة المعامل وكثرة المداخن، فيتسمم الجو، فيحتاج الإنسان إلى الانتقال عن ذلك المكان أو يمرض، وكثيراً ما تنتشر الأمراض في العاملين في تلك الأماكن نتيجة هذا الذي يحدث في الجو.
فمياه البحر كثيرة، وهي محيطة بالأرض بملوحتها، فتنقي الأرض من نتنها وأوساخها وقاذوراتها، فالإنسان في حاجة شديدة إليها، وكذلك سائر خلق الله.
يقول تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} [الفرقان:53] البرزخ: الحاجز والمانع، فهو يمنعهما من الاختلاط {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53] أي: مانعاً وحاجزاً يمنع اختلاط هذا بهذا، فهذا في عذوبته إلى الأبد، وذاك في ملوحته إلى الأبد، وذاك من قدرة الله التي انفرد بها وحده جل جلاله.(125/9)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً)
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان:54].
جعل الله جل جلاله من الماء الإنسان، وجعل منه الخلق، فالإنسان مخلوق من النطفة، والنطفة ماء، وهو المني، فالمني ماء خلق منه البشر، وقد كان أول خلق الإنسان من تراب، ثم خلقت حواء من ضلع من أضلاع آدم، وخلق عيسى من أم بلا أب، وخلق سائر الخلق من نطفة لا بد من صبها من الذكر في رحم الأنثى، فيختلط ماؤه وماؤها فيخرج هذا الجنين وهذا الخلق البديع الذي هو أنا وأنت وكل خلق الله من أولاد آدم.
يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان:54] فيربط بعض الخلق ببعض، فأنا ابن أبي، وتزوجت من أسرة أخرى، فصارت مصاهرة، ونشأ عن ذلك السلالة، فبنتك لذاك وبنت ذاك لك، وهكذا انتشر الخلق وتوزّع بين نسب وصهر.
والنسب: هو الذي يرث اسمك واسم أبيك وأسرتك، والصهر: ما لا يتصّل بك بذلك، فأبناؤها يرثون أسماءنا وأسماء أسرتنا، وبناتنا تتصل أسماء أولادهن بأزواجهن، فهذا صهر وذاك نسب، يقول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد فهذا نسب وهذا صهر، وحرّم الله بالنسب سبعاً، وحرّم بالصهر سبعاً، وذلك في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23] إلى آخر الآية.
يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:54]، فمن الذي يقدر على ذلك؟ إنه الله خالق الأكوان، وخالق كل شيء.
فما من سماء ولا أرض ولا ليل ولا نهار ولا حركة ولا سكون إلا وهو من خلق الله، ومع كل هذه الدلائل العقلية القاطعة يعرض الكافر ويستكبر.(125/10)
تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم)
قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55].
مع كل هذه الآيات البيّنات الواضحات لا تزال تجد على مر الدهور والأزمان كفّاراً مشركين يعبدون ما لا ينفعهم ولا يضرهم، بل إن المعبودات من إنس أو جن أو جماد أعجز من أن تنفع نفسها أو تضر {لا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا} [الرعد:16]، فلا يملكون لأنفسهم أي شيء يمكن أن يعود بالفائدة عليهم فضلاً عن غيرهم.
يقول تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الفرقان:55] أي: يعبدون غير الله مع الله {مَا لا يَنفَعُهُمْ} [الفرقان:55] ما لو عبدوه فلا نفع فيه، ولو تركوه فلا ضرر منه، فيعبدون حيوانات ويعبدون أناسي وجناً وملائكة لا تضرهم لو تركوا عبادتها، ولا تنفعهم لو بقوا على عبادتها، ولكن يزيدون بذلك كفراً وجحوداً وضلالاً ولعنة وبُعداً عن الله.
قال تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55] أي: مساعداً في عصيان ربه للشيطان ومتعاوناً مع الشيطان.(125/11)
تفسير سورة الفرقان [56 - 59]
يذكر الله تعالى في هذه الآيات أنه أرسل رسوله مبشراً ونذيراً، وأنه لا يسأل الأجر على دعوتهم إلى الله، وإنما يطلب أجره من الله تعالى.
ثم أمره الله تعالى بأن يتوكل عليه سبحانه، فهو مالك كل شيء، وخالق كل شيء، فمن توكل عليه كفاه ووفقه، ومن توكل على غيره خذله، وعذَّب به.(126/1)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً)
قال الله جلت قدرته: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفرقان:56].
أي: ما أرسلناك -يا محمد- إلا مبشراً ونذيراً، أي: مبشراً أهل الطاعة بالجنة والرحمة والرضا، ومنذراً أهل المعصية والخلاف بالعذاب الهون وبالنار خالدين فيها أبداً.
ومعنى ذلك أن الهداية ليست بيده، كما قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وكما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272]، فما على الرسول إلا البلاغ المبين، فيبين ويبلغ عن ربه ما أمر به من طاعته ووحدانيته والعمل بدينه والخوف من عذابه، ويبين حقيقة الحياة بعد الموت، والجنة والنار، وكل ما أمر الله بأن يعتقد ويعمل به من أمور الدين، وكذلك كل ما يجب تركه.(126/2)
تفسير قوله تعالى: (قل ما أسألكم عليه من أجر)
قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان:57].
أي: قل يا رسولنا لهؤلاء بأن الذي تدعو إليه من بشارة ونذارة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، لا تطلب عليه شيئاً من أموالهم، ولا تطلب على ذلك أجرة من مال أو غيره، فأجرك على الله، بل إنك تسعى لأن يمتلكوا ويستغنوا ويأخذوا الغنائم والفيء من أعداء الله عند حربهم وقتالهم والظفر بهم.
وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان:57] وهذا استثناء منقطع، أي: ولكن من شاء أن ينفق من تلقاء نفسه في سبيل الله، كالإنفاق على المجاهدين والمحتاجين من غير الصدقات والنفقات الواجبة فذلك له، ولا تصده عن عمله، ولا تقطعه عما يريد من أجر أو ثواب، على أن ذلك ليس لك، ولكنه في سبيل الله، وسبل الله كثيرة كما قال الإمام مالك، فهؤلاء الذين يريدون أن ينفقوا من أموالهم للجهاد وللدعوة وعلى الفقراء لهم أجر ما أنفقوا، فليس ذلك المال لك؛ إذ لا حاجة لك إليهم ولا إلى أموالهم، وإنما تعمل ما تعمل طاعة لله، وتنفيذاً لأمر الله، وثوابك وأجرك على الله.
فهؤلاء الذين ظنوا يوماً أنك تريد الملك عليهم وتريد الأموال لتكون أغناهم قد جربوا ذلك وعرضوه عليك فأبيت إلا أن تكون عبداً لله، فلا تطلب الأجر والثواب إلا منه، فقد عرضوا عليه صلى الله عليه وسلم أموالهم، وعرضوا عليه سلطانهم، وعرضوا عليه بناتهم، وعرضوا عليه أطباءهم وكل ذلك قد أباه وامتنع عنه، وقال: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
فالله يقول له: قل لهؤلاء المشركين: إنك لا تريد بعملك ولا بدعوتهم إلى الله مالاً ولا تريد منهم سلطاناً ولا تريد منهم جاهاً، وإنما أجرك وثوابك على الله، ولكن من آمن منهم إن أراد أن ينفق في سبيل الله في جهاد أو علم أو دعوة أو غير ذلك فله ذلك، وليس لك من ذلك شيء إلا دعوتهم إلى الله وتبليغهم دين الله.(126/3)
تفسير قوله تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده)
قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58].
يقول الله لنبيه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] في عملك هذا، وفي مثابرتك على دعوة الناس إلى دين الله، وإلى توحيد الله، وإلى ترك الأوثان والأصنام والشرك، فتوكل على الله خالقك الحي الذي لا يموت.
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58]، احمده واشكره واذكره آناء الليل وأطراف النهار، فليكن توكلك عليه لا على أحد غيره، فأنت في غنى عن أولئك كلهم: عن أموالهم، وعن دنياهم، وعن سلطانهم، وتوكل في عملك، فاجعل الله وكيلك ومرجعك تئوب إليه وتنيب، فإليه المآب وإليه المرجع، فليكن توكلك عليه لا على أحد غيره مهما كان عظيماً، وسبح بحمد ربك واحمده واشكره على ما أولاك إياه وما أكرمك به، حيث علمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً.
وقد ختم البخاري صحيحه بهاتين الكلمتين العظيمتين، حيث روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، فالنبي عليه الصلاة والسلام يحظ الخلق على أن يحمدوا ربهم، وعلى أن يسبحوا بحمده، ويشكروه على نعمه الظاهرة والباطنة التي لا يحصيها إلا هو، ويسبحوه، وينزهوه، ويقدسوه، ويعظموه، فهو أهل لكل ذلك جل جلاله وعز مقامه.
فهاتان الكلمتان خفيفتان على اللسان، فلا تحملان اللسان شططاً ولا تعباً، ولكنهما مع ذلك ثقيلتان في الميزان يوم القيامة بأجرهما وثوابهما وما أعد الله لقائلهما؛ لأن معناهما: توحيد الله وتعظيم الله.
وعندما نحمده تعالى نحمده على آلائه، ونشكره على ما أعطانا إياه، وأعظم عطائه لنا وأعظم نعمه علينا هو الإسلام، وكفى بها نعمة.
والخطاب في الآية للنبي عليه الصلاة والسلام، وهو خطاب لكل الخلق من أتباعه من المؤمنين والمسلمين، وحض لهم على أن يكثروا من ذكر الله، ويكثروا من حمد الله، ويكثروا من تسبيح الله آناء الليل وأطراف النهار، فقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على جميع أحواله، وبذلك أمره ربه.
يقول تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]، فهو الحي الدائم، وهو الذي يحيي وهو الذي يميت، وهو موجد الحياة وواجب الوجود، وكل حياة لسواه إنما هي حياة محدثة من خلقه ومن عطائه، فهو الحي الأبدي وحده جل جلاله.
والتوكل على الله يكون بعد العزم وبعد اليقين، فيعمل المرء عمله ولا يعتمد فيه على أحد من الخلق، وهكذا أمر الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وأمر بأمره المؤمنين جميعاً، ومن يرجع إلى الذي لا يموت يجد دائماً حصناً حصيناً مرجعاً وناصراً ومعيناً.
أما من توكل على الخلق فلن يحصل له ذلك، فمهما كان المخلوق قوياً وذا سلطان وذا جاه فإنه ميت يوماً، ومن اعتمد على من يموت فقد اعتمد على باطل، وتوكل على ميت، والتوكل على الميت موت في نفسه، وليس كذلك التوكل على الحي الذي لا يموت جل جلاله.
يقول تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58] أي: نزه ربك، وأكثر من حمده، فالحمد له وحده، وهو الذي نقوله في كل ركعة من صلاتنا في الفرائض منها والنوافل، فأول ما نبتدئ صلاتنا بقولنا: (الحمد لله رب العالمين) أي: الحمد كله الذي لا يستحقه غيره، فالحمد بكل أنواعه هو لله رب العالمين ومدبرهم جل جلاله وعلا مقامه.(126/4)
معنى قوله تعالى: (وكفى به بذنوب عباده خبيراً)
قال تعالى: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58].
أي: كفى به محصياً، وكفى به محيطاً بذنوب خلقه وعباده، وكفى به خبيراً، فهو يعلم كل أعمالنا، وكل ما يصدر عنا، فيحاسبنا على ذلك يوم القيامة، فإن كانت هناك ذنوب مع التوحيد فإنه تعالى إن شاء غفر وإن شاء عذب بقدر الذنوب، وإن كانت هناك ذنوب مع الشرك فالله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وهذا تحذير من الله، يحذرنا نفسه جل جلاله وعلا مقامه، وذلك أن جميع ذنوبنا هو خبير بها مطلع عليها، يعلم جليلها وحقيرها، وكبائرها وصغائرها، فإذا نحن علمنا ذلك علم يقين اتخذنا لذلك عدته، فأقلعنا عن الذنوب، واستغفرنا ربنا مما مضى، وتبنا لما هو آت، ورجونا أن يغفر الله ذنوبنا وألا نعود إليها قط بمقدار طاقتنا وجهدنا.
فهذا تحذير من الله لنا بأنه يعلم كل ما يصدر عنا، والكلام هنا في الذنوب والآثام والمعاصي، فهو تحذير من الله تعالى لكل المشركين وعصاة الموحدين.
قال تعالى: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58] (خبيراً) منصوب على التمييز، أي: كفى بالله خبيراً، وكفى بالله عليماً، وكفى بالله مطلعاً على جميع ما يصدر عنا، حتى إذا علمنا ذلك وتيقناه عملنا بمقتضى ذلك، فتبنا إليه وأنبنا، وجددنا التوبة، وعملنا عملاً صالحاً، عسى الله أن يغفر لنا ما مضى.(126/5)
تفسير قوله تعالى: (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام)
قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59].
هذه صفة الذي يعلم ويطلع على ذنوبنا كبارها وصغارها، فالله جل جلاله هو الخالق لهذه السماوات السبع العلى وخالق الأرضين السبع وما بينهما من كواكب ونجوم وغيرها مما يعلمه الله تعالى.
وهو تعالى خالق الملائكة في السماوات، قال صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو قائم) ومعنى ذلك أن السماوات العلى في كل بقعة منها بمقدار قدم عليها ملك يعبد الله، فهو في عبادته قائم أو ساجد يذكر الله تعالى بأنواع ذكره، وأكثر ما يقولون: (سبوح قدوس، رب الملائكة والروح).
وقد خلق الله تعالى كواكب لا يحصي عددها إلا هو، وهي تعد بملايين الملايين.
والسماء في اللغة: ما علاك، وهي في القرآن بهذا المعنى، وبمعنى السماء التي هي جرم من الأجرام، فلها باب وعليه بوابون وحراس، ولذلك فإن نبينا عليه الصلاة والسلام حين عرج به إلى ربه وقف به جبريل عند باب كل سماء يستفتح، فيقول له الملك المكلف: من؟ فيقول: جبريل.
فيقول: أمعك أحد؟ فيقول: نعم، محمد.
فيقول: قد أذن له؟ فيقول: نعم، فيفتح له الباب.
وما بين كل سماء وسماء مقدار خمسمائة عام، ولا ندري أهذه الأعوام من أعوام الدنيا أم من أعوام الآخرة، فالله ذكر لنا من أنواع الأيام اليوم من أيام الدنيا، فالسنة فيها اثنا عشر شهراً، وكل شهر ثلاثون يوماً، وكل يوم أربع وعشرون ساعة.
وفي الأرض نفسها أقطار يصل اليوم فيها إلى ستة أشهر لا ليل فيها، والليلة إلى ستة أشهر لا نهار فيها، كما في القطب المتجمد الشمالي.
وذكر تعالى لنا اليوم في الآخرة، فهو كألف سنة من أيام الدنيا، واليوم في العروج إلى الله مقداره خمسون ألف سنة.
فالأعوام التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام فيما بين كل سماء وسماء لا ندري أهي من أعوام الدنيا، أم من أعوام الآخرة، أم من الأعوام التي يعرج فيها الملائكة إلى الله، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وفي علم النجوم وعلم الأفلاك يذكرون السنة الضوئية، أي: يحسبون المسافة بين الأفلاك بسرعة الضوء في الثانية، فبعض النجوم تشع نوراً لا يصل إلى الأرض إلا بعد كذا وكذا سنة، ويحسبون في ذلك المليارات من السنوات الضوئية أحياناً، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، ولا يحصي الأنجم إلا هو، وخلق الله الواسع وفضاء الله المتسع لا يعلمه إلا خالقه جل جلاله، فالله هو الخالق لكل ذلك، وقد خلق كل ذلك في ستة أيام.
وكل الكواكب غير الأرض مخلوقة من نوع ما كونت منه الأرض، وما فوق ذلك الله أعلم به، وكل ذلك خلق الله.(126/6)
معنى قوله تعالى: (ثم استوى على العرش)
قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان:59].
فما هو هذا الاستواء؟ وما هو هذا العرش؟ طالما أكثر في ذلك المكثرون، وطالما حكى الحاكون، وكل ما يقال في ذلك مما هو غير مستند لآية أو لحديث هو ضرب من القول ومن الفلسفات التي لم يأت عليها من الله سلطان، كتفسير الاستواء بالتمكن والتسلط، وتفسير الكرسي بالقدرة والإرادة.
والعرش ثابت ذكره في الكتاب، وثابت ذكره في الأحاديث المتواترة المستفيضة.
وعرش الرحمن هو أعلى شيء من خلق الله، فالسماوات العلى فوقهن الكرسي، وفوق الكرسي العرش، والسماء الأولى أكبر من الأرض، والثانية أكبر من الأولى، والسابعة أكبر مما قبلها، والكرسي أكبر من السموات، فما السماوات السبع أمام الكرسي إلا كسبعة دراهم ملقاة في ترس، وما الكرسي بالنسبة إلى العرش إلا كحلقة ملقاة في صحراء كما قال صلى الله عليه وسلم، ثم أشار النبي عليه الصلاة والسلام بيده إلى أن عرش الرحمن كالقبة فوق مخلوقاته.
وهذا يشير إلى أن الأرض كروية، وقد قال ذلك علماء المسلمين قبل أن يقوله هؤلاء، وقد نقل فيه الإجماع عن المسلمين لنصوص الكتاب والسنة، قال ذلك ابن حزم، وقاله الغزالي، وقاله الرازي.
وذكروا من نصوص القرآن قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر:5]، فكلمة (يكور) تدل على ذلك، وكذلك الحديث الصحيح الذي فيه أن عرش الرحمن على سماواته كالقبة، وعلى هذا أجمع علماؤنا، فنفي ذلك وإنكاره إنكار للإجماع وخروج عن الإجماع، والنصوص تؤكد ذلك، وما أخذ هذا إلا من النصوص.
وأما الاستواء فلا نقول فيه ما قاله علماء الكلام من فلاسفة المسلمين كالأشاعرة والماتوريدية والمعتزلة وسائر فرق علم الكلام، ولكننا نقول ما قال الإمام مالك، ونقل ذلك عن بعض السلف، من التابعين والصحابة رضوان الله عليهم، فقد جاء إلى الإمام مالك رجل فسأله فقال: يا أبا عبد الله! ما معنى (الرحمن على العرش استوى).
فأطرق ملياً ثم رفع رأسه فقال له: الاستواء معلوم -أي: لغة-، والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة.
ونادى: يا شرطي! أخرج هذا من المسجد.
وكان هذا السؤال في المسجد النبوي، فعد مجرد السؤال عن هذا بدعة؛ لأن هذا شيء لم يبحث فيه السلف؛ لأننا أمرنا بأن نعلم عن الله صفاته العالية، ونعلم عن الله أسماءه ونعوته المقدسة، وكل أسمائه جل جلاله حسنة عالية، أما كيفية الله وكيفية علوه وكلامه واستوائه فذلك أمر لم يشرع البحث فيه.
والباحث فيه نقرأ عليه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، ونقرأ عليه قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، فلا يشبه خلقه في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكل ما خطر ببالك فالله بخلافه، ولكننا نثبت له تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه، وما أثبته نبينا في سنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأما الكيف فغير وارد، فإن سألت عن الكيف فكأنك تسأل ماذا يشبه؟ فالسؤال في الأصل فاسد، وما كانت مقدمته فاسدة كانت نتيجته فاسدة، ولغتنا أضيق من أن تتسع للمعاني العلوية السماوية، وما كانت الألفاظ الإلهية إلا قوالب لتقريب المعاني للإنسان، أما كيف ذلك فالله أعلم به، حتى قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ما ذكر في الآخرة ليس منه في الدنيا إلا الأسماء.
أي: أن كيفية ما فيها لا يعلمها إلا الله تعالى.
فالأسماء تقريب للمعاني، فنسمي ما فيها بالأسماء التي سماها الله في كتابه ونبيه عليه الصلاة والسلام في سنته، وتحقيق ذلك الله أعلم به.
فإذا كان هذا في خلق الله مما في الجنة ومما في النار، فكيف بما يتعلق بذات الله؟! ولا نقول كما قال أقوام: الله جل جلاله ليس داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق العالم ولا تحت العالم، إذاً أين هو؟! فهذه صفة المعدوم.
وهذا كلام ما أنزل الله به من سلطان، وهو كلام لا يقبل بحال من الأحوال، فالذي ليس في السماء ولا فوقها، ولا في الأرض ولا تحتها، ولا في الأكوان ولا خارجها إنما هو العدم.
ولكننا نقول ما قال الله، فقد قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
وهكذا نثبت لذاته العلية ما أثبته، ونقول ما قاله الإمام مالك: الاستواء معلوم، أي: في اللغة العربية، وباللغة العربية نزل كتاب الله، أما الكيفية فنجعلها، وهذا ما لم يبينه الله لنا ولا نبيه عليه الصلاة والسلام، فالكلام في هذا عبث قد يوصل إلى الكفر من حيث لا يشعر الإنسان.(126/7)
معنى قوله تعالى: (الرحمن فاسأل به خبيراً)
يقول تعالى: {الرَّحْمَنُ} [الفرقان:59]، أي: الله هو الرحمن.
{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59]، فاسأل عن الله خبيراً، والخبير المسئول عن الرحمن هو الله تعالى، فكأن الله يقول لنبيه: إن شئت زيادة البيان فسلني، والقرآن مليء بهذه المعاني.
وقد يكون المعنى كما قال بعض المفسرين: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59] أي: القرآن، فالقرآن فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما بينكم، فالله جل جلاله هو الخبير وهو العليم، فهو الذي أخبرنا، وهو الذي علمنا أن أسماءه الحسنى كثيرة، وقد حصرها النبي صلى الله عليه وسلم في تسعة وتسعين، وورد أنها تتجاوز الألف، ولا يحصيها إلا الله، {أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، فبأي اسم دعوناه كقولنا: يا الله، يا رحمن، يا لطيف، يا خبير، يا عفو، يا قادر فإنه يحصل المقصود، فكل ذلك من أسماء الله وصفاته.
واسم الجلالة هو (الله)، والأسماء الأخرى يسمى الناس ببعضها، وقد وصف ببعض ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن من الأئمة الأربعة الإمام مالكاً، والمالك هو الله، ولكننا قد نصف بالملك المخلوق، فنقول: هو مالك، وأقول: أنا مالك هذا، أي: ملكته الآن وقد كان مملوكاً لغيري، وسيكون مملوكاً لغيري، فأنا وما أملك لله فجرت العادة بذلك وذلك كان بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإقراره.(126/8)
تفسير سورة الفرقان [60 - 67]
لقد خلق الله الخلق، وزين السماء بمصابيح ليرينا قدرته، وأنه القادر على كل شيء، وما تفكر أحد في ذلك إلا وقاده إلى الهدى والتبصر.
وهؤلاء المهتدون المتبصرون هم عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.(127/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن)
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان:60].
هذه السجدة اتفق عليها جميع العلماء، والرحمن اسم من أسماء الله جل جلاله، وفي صلح الحديبية أمر صلى الله عليه وسلم بكتابة الصلح مع أعدائه، فأمر علياً -وكان الكاتب لهذا الصلح- فقال: (اكتب باسم الله الرحمن الرحيم) فقال سفير قريش: ما الرحمن؟! لا نعرف الرحمن ولا الرحيم.
اكتب ما كنت تكتب قبل: باسمك اللهم.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد قال قبل ذلك: (لا يسألونني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) و (باسمك اللهم) معناها: باسمك يا الله، فليس فيها وثنية، فأمر علياً بكتابتها.
وكانوا يقولون لـ مسيلمة الكذاب: رحمان اليمامة، ولا أدري ما هذه الكلمة؛ فقد عرفت في أيام دعوى النبوة، ولذلك قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: لا نعلم ما الرحمن، لا نعلم إلا رحمان اليمامة.
وكانوا لذلك يشنعون عليه، فيقولون: كان محمد يدعونا إلى إله واحد، فأصبح يدعونا إلى إلهين: الله والرحمن، فنزل قوله تعالى منكراً ذلك ومزيلاً لجهالاتهم: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110].
فأسماء الله كلها حسنة، وكلها تدل على الله جل جلاله، فإذا قلنا: يا رحمن، يا رحيم، فذلك يعني: يا الله، وإذا قلنا: يا مجيب، أو يا عفو، أو يا غفور، فمعنى ذلك: يا الله.
يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:60] أي: اعبدوا الرحمن، ومن تمام العبادة السجود؛ لأنه جزء من الصلاة، وهو وضع الجبهة والأنف واليدين والركبتين وأصابع الرجلين على الأرض لله، وهي صفة لا يجوز أن تكون لأحد إلا لله، بل الركوع وطأطأة الرءوس لا يجوز إلا لله وحده.
يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان:60]، فهم لا يزالون على كفرهم، حيث قالوا لرسول الله: أنطيعك بالسجود لهذا؟! قال تعالى: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان:60] أي: ازدادوا نفوراً لكفرهم، ولإصرارهم، وازدادوا بهذا كفراً على كفر، فقد عصوا الله، ثم عصوا نبيه، ثم أنكروا أسماء الله الحسنى، ثم امتنعوا عن السجود.
ولذلك اتفق الفقهاء الأربعة على مشروعية السجود عند هذا الموضع، لأن هذه الآية دعي فيها الكفار إلى السجود لله فأبوا، فكيف يدعى المؤمن ولا يسجد؟!(127/2)
تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بروجاً)
قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61].
يلفت الله جل جلاله أنظارنا ويرينا قدرته، ويرينا خلقه، ويرينا أنه القادر والخالق لكل شيء، ويعمم ثم يخصص، فهو تعالى الذي خلق السماوات العلى، وخلق الأرضين، وخلق مابين ذلك.
ثم عاد فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان:61]، فعظم نفسه، ونزه نفسه، وقدس نفسه، وهو الأهل لذلك، وهو الجدير بذلك، وبذلك يأمرنا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
والبروج: هي هذه الكواكب الكبيرة: كعطارد، والقمر، والمشتري، والزهرة.
وقال البعض: البروج هي منازل الكواكب، وذكروا الجدي والعقرب والحمل، وقالوا: هي اثنا عشر برجاً، ولكن لا شيء يدل على هذا من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان:61] أي: في العلو، وإلا فهذه البروج هي خلق الله بين السماء والأرض وليست داخل السماء كالقمر، ليس داخل السماء ونحن نراه، بل هي ما قال الله عنه: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5]، فهذه المصابيح التي نرى مصابيح زين بها السقف، والسقف هو السماء، فزينها الله بذلك، وجعلها علامات الاهتداء في الذهاب والإياب.
وكان بدو الجزيرة العربية أعلم الناس بذلك، فهم يستطيعون السير في الصحاري التي لا علامة فيها على شرق ولا غرب ولا جنوب ولا شمال، فبالأنجم يعلمون الطرق شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ومن لا يعلم ذلك يهلك في الصحاري عطشاً أو ضلالاً.
وقل مثل هذا الآن في الطائرات وفي السفن، إذ السماء لا علامة فيها، والبحار عندما تدخلها السفن لا علامة فيها، فيهتدون بإشارات الرادار ونحوه، ولكن كل ذلك مبني على النجوم، فهذه الإشارة تكون في الشرق، وهذه تكون في الغرب، وهذه تكون في الشمال، وهذه تكون في الجنوب، وهكذا.
قال تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} [الفرقان:61] أي: شمساً سراجاً، والسراج: المصباح، وهي كما قال تعالى: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح:16]، فجعل الشمس سراجاً أضاء الدنيا، فالضوء الذي نراه في النهار ناشئ عن الشمس، والعتمة التي تأتي في الليل نتيجة غيبوبة ضياء الشمس، فإذا أشرقت أو قاربت تجد الضياء قد شع والنهار قد سطع والأنوار ظهرت.
كذلك أنار الله تعالى القمر، وقد قالوا: إن نور القمر من غير نور الشمس، وذلك يحتمل، والآية لا تؤكده، فقد يكون نور القمر مستمداً من الشمس، وقد يكون للقمر نور خاص به، فالله ذكر القمر منيراً، ونحن نراه كذلك عندما يصبح بدراً، أما إذا كان هلالاً فإن نوره يتضاءل، ولكنه نور على كل حال، وإنما يكون أضوء ما يكون عندما يصبح بدراً منيراً في الليالي الإضحيانية كما سمتها السنة المطهرة، والليالي الإضحيانية هي ليلة الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.(127/3)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر)
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62].
جعل الله الليل والنهار خلفة، وقد اختلفوا في تفسير الخلفة، وكل ما قالوه يصح في تفسيرها.
فقد قيل: (خلفة): أي: عوضاً وبدلاً، فالنهار عوض عن الليل، والليل عوض عن النهار في العبادة والطاعة، ولذلك روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى يوماً في الضحى بركعات أطالهن، فقيل له: يا أمير المؤمنين! رأيناك تصلي صلاة ما رأيناك تصلي مثلها! قال: فاتتني ركعات من الليل، فأنا أريد أن أخلفها.
ومعناه: أن من فاتته عبادته في النهار أخلفها في الليل، ومن فاتته عبادته في الليل أخلفها في النهار، وهذا يؤكد قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن لله تعالى مغفرة يغفرها لتائب النهار في الليل، ومغفرة يغفرها لتائب الليل في النهار) أي: أن يقوم عبد في الليل فيتهجد، ويبكي ويتضرع، ويقول: يا رب! أذنبت، يا رب! أسأت، يا رب! ندمت على ما صدر مني، يا رب! اغفر ذنوبي، ويكون قد أذنب في النهار وتاب في الليل، فيغفر الله ذنوبه، فيكون قد عوض ذنوب النهار بالطاعة والدعاء في الليل.
وكذلك العكس، فحيث يذنب في الليل يصبح في النهار وقد ندم، وقد تاب، فيقول: يا رب! اغفر لي، يا رب! ارحمني.
فيغفر الله له، فيتوب على ماد يده بالليل، فيغفر ذنبه في النهار، وماد يده بالنهار يغفر ذنبه بالليل.
وقيل: المراد بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان:62] أن الله تعالى أدخل الليل في النهار وأدخل النهار في الليل، فالليل عتمة لا ضياء فيه، والنهار نور لا ظلمة فيه، وكلاهما متعاقبان يخلف أحدهما الآخر في نظام وترتيب، فهذا للنشور والمعاش والعمل، وهذا للسكون والنوم والراحة، فمن الذي خلق ذلك؟! ومن الذي نظم ذلك؟! ومن الذي رتب ذلك؟! إنه الله جل جلاله.
يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62].
فالله جعل للإنسان في اليوم أربعاً وعشرين ساعة، منها نهار ومنها ليل، فقد يطول النهار إلى ست عشرة ساعة، وقد يقصر إلى بضع ساعات، والليل والنهار أربع وعشرون ساعة، فجعل الله تعالى كل ذلك زمناً ووقتاً للاستغفار، وللشكر، وللذكر، وللعبادة.
وختم الآية بقوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62] وهذا يؤكد المعنى الأول، وهو أن من فاتته عبادة الليل قضاها في النهار، ومن فاتته عبادة النهار قضاها في الليل.
وقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} [الفرقان:62] أي: أن يعتبر، وقرئ في السبع: (أن يَذْكُر) أي: أن يذكر الله قائماً وقاعداً وساجداً باللسان وبالجنان وبالأركان.
وقوله تعالى: {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62] أي: أراد أن يشكر الله على كثرة ما أنعم عليه، فيقول: أشكرك يا رب! على نعمك وآلائك التي لا تحصى، وأول ما يشكر عليه تعالى هو هذه الهداية التي هدانا بها إلى دينه، واتباع نبيه، وإلى القيام بالإسلام.
ثم بعد ذلك الهداية إلى عمل الخير والطاعة، ثم يأتي الشكر بعد ذلك على الطعام والشراب، ومن جعل شكره مقصوراً على الطعام والشراب فهو كما قال الحسن البصري: لا يعد من النعم إلا الطعام والشراب، فهو كالدابة، فأعظم من الطعام والشراب الدين، والطاعة، والأخلاق، والامتثال، والدعوة إلى الله، والتحلي بمكارم الأخلاق، والتخلي عن مساوئها، فكل ذلك يشكر الله تعالى عليه {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18].(127/4)
تفسير قوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً)
قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63].
هذه بداية سلسلة من الآيات الكريمة في صفة عباد الله المؤمنين التي يجب أن يطيل الاعتبار بها المؤمن، فيزن نفسه بميزانها، فإن وجد نفسه متخلقاً بها فهو مؤمن، وإذا وجد نفسه غير متخلق بها فهو مؤمن ناقص الإيمان بمقدار ما نقص من هذه الصفات.
قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:63 - 64].
إن عباد الرحمن هم جميع خلقه، ولكن المراد هنا عباد الرحمن الذين يعبدونه بصدق، فهم عباد في الخلقة، وهم عباد كذلك في العمل، وهي صفة لا تكون إلا للمؤمنين.
يقول تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63] فهؤلاء تجد صفتهم في مشيتهم، وبعضنا تجده يمشي في الطريق وهو يترنح يميناً وشمالاً، فيمشي وكأن الأرض لا تحمله، ويكاد يشق الأرض والجبال، وهو أعجز عن ذلك، فيرفع رأسه كأنما يريد أن يطير! فإن قيل له: لم كل ذلك؟ يقول: أنا غني، أنا شاب، أنا جميل، أنا ابن فلان، وهذه صفة الكفار وليست صفة المسلمين.
وقوله تعالى: (الذين يمشون) أي: يعيشون، فحياتهم تمشي على هذا الأساس، وليس المراد المشي فقط.
وقوله تعالى: {يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63] الهون: الرفق واللين، فيعاملون الناس برفق، ويعاملونهم بلين، وإذا مشوا مشوا وعليهم السكينة والوقار، لا بالذل؛ إذ لا يليق الذل بمؤمن، فقد رأى عمر بن الخطاب يوماً شاباً يمشي متباطئاً، فقال له: ما بالك، أمريض أنت؟ قال: لا.
فقال: ولم تمشي هكذا؟! ارفع رأسك؛ فإن الإسلام عزيز منيع، وضربه بالدرة.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا مشى فكأنما ينحط من صبب، وكأنما يقلع من الأرض قلعاً، فإذا رفع رجله رفعها كلها بقوة، ولا يمشي وهو يسحب برجله على الأرض كما يفعل كثير من الناس، فإذا رفعها رفعها باقتلاع، وإذا وضعها فكأنما ينزل من صبب، وهذه هي مشية الرجولة.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى أسرع في خطاه، وهذا كله مع الوقار ومع السكينة ومع التواضع لله جل جلاله.
وقد قص الله علينا قصة لقمان مع ولده وهو يأمره وينهاه، حيث قال له: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان:18]، ثم قال له: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37]، فلا الأرض ستخرقها ولا الجبال ستدخل فيها، فيجب أن تمشي برفق وبلين وتواضع وعبودية، أما مشية الخيلاء فهي مشية من لا يؤمن بالله.
ولما دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة معتمراً بعد صلح الحديبية كان معه الشيخ والمرأة والمريض والصحيح، وقد قطعوا الطريق ومنهم الراجل ومنهم الراكب، فلما دخلوها قال الكفار: جاءكم محمد وأصحابه قد وهنتهم حمى يثرب، وهم عجزة يجرون أرجلهم جراً لا يكادوا يتحركون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (رحم الله امرءاً أراهم من نفسه قوة)، وأمرهم بالرمل، وهذا سبب مشروعية الرمل عند الطواف، فلما رأى ذلك كفار قريش أسقط في أيديهم.
وبقي ذلك مشروعاً، ولذا جاء عمر حاجاً أو معتمراً في خلافته، فقال: كان الرمل لإظهار القوة على الكفار، وليس هنا كافر، ثم عاد فرمل وقال: شيء صنعناه مع رسول الله لا نتركه.
فالرمل بقي ذكرى لذلك اليوم، وهو اليوم الذي دخل فيه الإسلام ضعيفاً، وكانت مكة بيد الكفار، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغيض الكفار ولو بهذا، فانتهت بعد ذلك تلك العلة، ولكن بقي الرمل، كالسعي بين الصفاء والمروة، وكرمي الجمار، فلكل ذلك معنىً ولكل ذلك مغزىً ولكل ذلك سبب سبق وقته.
يقول تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]، فعباد الرحمن الصادقون هم الذين يمشون على الأرض هوناً برفق ولين، فيمشون بالأقدام، ويمشون في السيرة مع الناس برفق وبلين، بلا عنف وجبروت، ولا طغيان وتكبر؛ إذ لا يليق ذلك بالمؤمن، ومن نازع الله كبرياءه كسره، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.(127/5)
معنى قوله تعالى: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً)
قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63].
فمن نبلهم ومن رفعة أخلاقهم أنهم إذا جاء الجاهل إلى أحدهم فشتمه وصاح في وجهه قال له: سلام، أي: سداداً فيقولون قولاً لا شتم فيه، ولا سب فيه، ولا خبث فيه، فيجب على المسلم أن يعيش بلين المعاملة، وطيب اللسان، فلا ينطق بلسانه ما يقوله السفيه، حتى ولو قال له ذلك، فلا يقول إلا سلاماً، أي: سداداً.
وقد قال الله تعالى في مثل هذا: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، فذاك العدو عندما يشتمك، وعندما يقول عنك ما يقول ادفعه بالكلمة الطيبة اللطيفة، وبالحركة البشوشة، فيصبح وكأنه أخ حميم وصديق مخلص.
قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، فلا يتحمل هذا ولا يطيقه ولا يصبر عليه المؤمن الصادق الواعي القوي الإرادة، أما عامة الناس فالواحد منهم بأقل حركة يثور، وبأقل حركة يشتعل.
وهكذا كانت سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد كانت قريش تشتمه وتهجره وتقول فيه وتقول، ومع ذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم سباباً ولا صخاباً في الأسواق، ولا رافعاً صوته، ولا يجيب هؤلاء على شتائمهم، وقد كانوا يقولون عنه: مذمم، وهو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيقول: (انظروا كيف يصرف الله عني شتائم قريش ولعنهم، يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمد) أي: أنا لست مذمماً، فليبحثوا عن المذمم الذي يشتمونه، بل أنا محمد، وسماني الله محمداً، فصلى الله عليه وعلى آله.(127/6)
تفسير قوله تعالى: (والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64].
قال الحسن البصري: تلك صفتهم في النهار، يعيشون مع الناس هوناً لا يشتمون ولا يسبون، وأما في الليل فيبيتون لربهم سجداً وقياماً.
ومعنى (بات): دخل عليه وقت البيات، وليس من الضروري أن يكون نائماً، أي: إذا جاء الليل كانوا بين قائم وساجد، فتجد الواحد منهم قائماً ثم راكعاً ثم ساجداً، أي: تجده عابداً لله متهجداً يرجو رحمة ربه، ويستغفر من ذنبه، ويشكر إلهه، ويذكر أسماءه الحسنى ويدعوه بها، فهذه صفة المؤمن.
و (سجداً) جمع ساجد، و (قياماً) جمع قائم، و (سجداً) صيغة مبالغة، أي: كثيروا السجود، فيبيتون يقومون ويركعون ويسجدون، متضرعين إلى ربهم ينادون في جوف الليل والناس نيام: يا رب! سجد لك جبهتي وأنفي ويداي وقدماي وجميع أعضائي، عبادة لك خالصة لا تصرف لغيرك، فاغفر ذنبي واكشف كربي، واستر عني عوراتي وآمن روعاتي، وهذه صفة المؤمن.(127/7)
تفسير قوله تعالى: (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65].
يبيتون لربهم سجداً وقياماً وهم يدعون ربهم فيقولون: يا ربنا! اصرف عنا عذاب جهنم، وأبعدها عنا، ولا تقربنا منها ولا تقربها منا، واجعل بيننا وبينها حجاباً، ولا تجعلنا من سكانها.
وقوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] أي: إن عذابها كان ملازماً، يقولون: فلان غريم فلان، أي: ملازمه لا يتركه حتى يعطيه حقه.
وقيل: شديداً، وقيل: دائماً.
فعذاب جهنم كان ملازم دائم ومقيم، ثم هو ثقيل لا تحتمله جسومنا، فنحن قد آمنا بك، فنطقت ألسنتنا بتوحيدك، واعتقدت قلوبنا بالإيمان بك والتوحيد، فلا تعذبنا واصرف عنا جهنم، واصرف عنا عذابها.
فالمؤمن باستمرار داع لربه قائماً وراكعاً وساجداً.
قال تعالى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:66] أي: جهنم، فما أسوأها مقاماً، وما أشد سوءها ومحنتها وقبحها للمقيم فمقامها سيء، والاستقرار فيها سيء.
فهؤلاء يدعون ربهم قائلين: أبعدها عن أن تكون مستقراً لنا ومنزلاً، وعن أن تكون لنا مقاماً وموئلا، وأبعد عنا عذابها.
فهؤلاء يبيتون الليل ركعاً وسجداً وهم يدعون ربهم بما يوصلهم إلى الجنة ويدفع النار عنهم، وإنما يكون دفع النار بتوالي الطاعات، وبفعل الحسنات، وبترك السيئات، وبالدعاء في الليل والناس نيام بأن يوفق الله العبد المؤمن ويلهمه الله العمل الصالح الذي يبعده عن جهنم ويصرفها عنه.(127/8)
تفسير قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].
هؤلاء المؤمنون عباد الرحمن إذا أنفقوا لا يسرفون ولا يقترون، والإسراف: هو إعطاء المال في غير ما يجب له، قال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27]، والتقتير: هو البخل وإمساك اليد.
فهؤلاء لا ينفقون أموالهم إلى حد التبذير والإسراف وضياع المال، ولا يقبضون أيديهم إلى درجة البخل ومنع أهل الحقوق حقوقهم.
وقد فسر الآية الحسن البصري فقال: لا يقبضون أيديهم فيجيعون أهلهم وأولادهم في النفقة، ولا يسرفون بصرف مالهم كله لهم فيصبحون وقد افتقروا، فلا يستطيعون شراءً ولا بيعاً ولا معاملة.
وقال غيره: الإسراف لا يكون إلا في باطل، بحيث ينفق أكثر مما يحتاج إليه، أما في سبيل الله فمهما أنفق في ذلك فإنه لا يعاب ولا يلام، ولا يقال: هذا مسرف ولا مبذر.
والتقتير أيضاً لا يسمى كذلك إلا إذا أمسك المرء يده عن حسنة أو عن عمل في سبيل الله.
وقد قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29]، فلا تغل يدك إلى عنقك -وهذه كناية عن البخل الشديد- حتى إذا حاولت أن تتصرف بها وجدتها مربوطة مغلولة إلى العنق، (ولا تبسطها كل البسط) فتبذر.(127/9)
تفسير سورة الفرقان [67 - 71]
يذكر الله تعالى بعض صفات عباد الرحمن التي يتميزون بها، فهم لا بخلاء ولا مبذرون، وهم أيضاً يوحدون الله تعالى ويدعونه وحده لا شريك له، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون، ومن صفاتهم أيضاً كثرة التوبة والإنابة إلى الله تعالى.(128/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا)
قال الله جل جلاله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].
لا نزال مع المؤمنين من عباد الله الصالحين فيما وصفهم الله تعالى به من التحلي بالأخلاق الكريمة، والتخلي عن الأخلاق السافلة، فكان من ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان:67].
فهؤلاء من عباد الله حقاً، فهم الذين لا يكون إنفاقهم إسرافاً وتبذيراًَ وضياعاً، ولا يكون تقتيراً وبخلاً ونقصاً وإضاعة حقوق، فلا يصل بهم الأمر إلى أن يجيعوا ويعروا من هم في حاجة إلى نفقتهم، ولا يصل بهم الأمر إلى أن يسرفوا ويبذروا ويصرفوا أكثر مما كان يجب أن يكون، وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما عال من اقتصد)، أي: لم يفتقر المقتصد.
وهذا كبيان الله في آية أخرى في قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29]، فلا تجعل يديك من البخل كما لو عقدتها وربطتها وقيدتها في عنقك، فلا تستطيع نفقةً، ولا تجعلها مبسوطة كل البسط فتقعد ملوماً بعد أن تبذر، وتضيع وتسرف في النفقة على من كان يجب عليك نفقته.
وقد قال قوم: النفقة في سبيل الله ولو كانت بكل مالك لا تعد إسرافاً ولا تبذيراً، واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب الأصحاب في غزوة تبوك أن يعينوا الجيش، وأن يعطوا كل ما يستطيعون جاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله، وجاء عمر بنصف ماله.
ولكن هذا في حالة خاصة، وأبو بكر عندما فعل ذلك لم يضيع أهله، ولم يحوجهم ولم يجعهم، وكذلك فعل عمر.
فعندما أعطوا أموالهم كانوا معتمدين على تجارتهم، ومعتمدين على الصفق في الأسواق والأخذ والعطاء، فلم يعطوا كل ما عندهم ليصبحوا في اليوم التالي في حاجة إلى طعام وشراب وكساء.
وهذه الآية تصف المؤمن بأنه إذا أنفق لا يكون مبذراً، ولا يكون مسرفاً، فالمبذرون كانوا إخوان الشياطين، والمسرفون لا يحبهم الله، إذ قد أفرطوا في تجاوز الحد بالنفقة على من كان يجب أن ينفق عليه من عيال وأولاد.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان:67]، قرئ: (يُقتِروا) و (يَقتُروا) و (يَقتِروا)، وكل ذلك بمعنى واحد، وبكل ذلك وردت القراءات السبع المتواترات.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا} [الفرقان:67] أي: ومن صفاتهم الكاملة أنهم إذا انفقوا لم يكونوا مسرفين ولا مبذرين، ولا بخلاء ولا مقترين، يعطون الأهل في نفقاتهم ما يحتاجون إليه من سكن ولباس وطعام وشراب، ولا ينفقون عليهم في اليوم كنفقة أسبوع أو شهر أو سنة، حتى إذا نفد المال وجد المرء منهم نفسه قد افتقر وقد أضاع ما عنده، فليست هذه صفة المسلم العابد الذي وصفه الله تعالى بهذه النعوت الكريمة.
وقوله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67] أي: وكان الإنفاق بين ذلك وسطاً بين الإسراف والتقتير، وكان الإنفاق بين هاتين الحالتين من الإسراف والتقتير، وهو العدل والوسط في الأمور.(128/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68].
ذكر الله جل جلاله في هذه الآية الكريمة أن من صفات هؤلاء العابدين الصادقين أنهم لا يدعون مع الله إلهاً غيره، فلا يشركون بالله، ولا يعبدون غير الله، وليس لهم إله إلا الله، ولا رب ولا خالق ولا معبود غيره، فهم المؤمنون بالله حقاً، وهم الموحدون لربهم ذاتاً وصفات وأفعالاً، فهم الذين إذا استعانوا استعانوا بالله، وإذا سألوا سألوا الله، وإذا خافوا خافوا من الله، وعلموا أن الله أكبر من كل كبير، فهو الله الخالق الرازق الجدير وصاحب الحق في العبادة، وكل من عداه من الشركاء إنما عبدهم من لم يعبد الله حقاً، وزعمهم شركاء من لم يوحد الله حقاً، فمن تمام صفة المؤمن أن يكون عابداً لله وحده، فلا يتخذ إلهاً غيره ولا معبوداً سواه.
ثم هو لا يقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، فلا يعتدي على الأرواح، ولا يسفك الدماء إلا بحقها، وحق سفك الدم يرجع إلى الحاكم لا إلى عامة الناس، فالروح عصمها الله تعالى عن أن تزهق، إلا إذا زلت في أعمالها، وارتكبت ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زناً بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس).
فإن كان مسلماً فارتد فأمر بالعودة إلى الإسلام وبالتوبة فأبى، فإنه يقتل حداً لردته، وإن تزوج يوماً -ولو بقي بعد ذلك بلا زوجة- فإنه يعتبر محصناً، فإذا زنى يرجم حتى الموت، وإن أزهق نفس مسلم بغير حق فإنه يقتل به قصاصاً جزاء إزهاقه لروح غيره ظلماً وعدواناً.
وهذا معنى الآية الحق: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:68].
فالنفس المؤمنة معصومة محصنة لا يجوز إزهاقها ولا يجوز قتلها ما لم يكن ذلك بحق، والقتل بالحق هو ما سبق ذكره، ومع ذلك لا يكون للإنسان أن يأخذ حقه بيده، ولكن الحاكم المسلم هو الذي يتولى ذلك.(128/3)
معنى قوله تعالى: (ولا يزنون)
قال تعالى: {وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]، فعباد الرحمن لا يزنون، والزنا انتهاك الأعراض، وهو إتيان فرج لا يحل كما يأتي الزوج زوجته حلالاً، فلا يفعل ذلك بعقد وزوجية صحيحة، ولا يفعل ذلك بملك يمين، ومن يفعل ذلك يكون قد اعتدى، وعدوانه هذا جزاؤه في الشرع إن كان عزباً مائة جلدة وتغريب عام، وإن كان محصناً فالرجم حتى الموت.
والمؤمن يبتعد عن هذه الأشياء كلها ابتعاد السليم من الأجرب، فالمؤمن لا يكفر بالله، ولا يشرك به شركاً خفياً ولا جلياً، ولا يزهق نفس المؤمن ظلماً وعدواناً إلا بحق، والحق يرفع إلى من ينفذه، وهو الحاكم المؤمن، ولا يعتدي على الأعراض المحرمة عليه، ومن اعتدى بعد ذلك فهو الظالم الذي يستحق العقوبة، وهو الذي لا يوصف بصفات المؤمنين العابدين.
وقد سأل ابن مسعود رضي الله عنه نبي الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- فقال له: (يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل الله نداً وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل وليدك مخافة أن يطعم معك)، كما كان يفعل في الجاهلية قبل، وكما يفعل اليوم في مختلف بقاع الأرض، فيزهقون الأرواح أجنة لا تزال في الأرحام وقد نفخت فيها الأرواح، ويقتلونهم وهم أطفال ليبتعدوا عن مسئولية النفقة عليهم، ولا تزال الصحف وأجهزة الإعلام في مشارق الأرض ومغاربها تقص من ذلك العجائب والغرائب، وذلك يدل على أن قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8] لا يعنى به أهل الجاهلية فحسب، فهذا الذنب وهذا الإجرام لا يزال قائماً بين الناس في جاهليتهم الجديدة، على أن الكافر يعيش في جاهلية مستمرة قبل وجوده وبعد وجوده إلا أن يؤمن بالله، ويعترف بالله جل جلاله خالقاً ورازقاً وواحداً، وبمحمد عبداً ونبياً ورسولاً وخاتم الأنبياء والرسل، وإلا فهو جاهلي لا يزال يعيش في الجهالة والضلالة.
والزنا من أقبح ما يبتلى به مجتمع، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما انتشرت الفاحشة في قوم إلا وبلوا بأمراض لم يكن يبتلى بها آباءهم وأجدادهم).
ونحن نرى اليوم في هذا العصر أمراضاً بين الناس في المشارق والمغارب هي نتيجة الزنا، ونتيجة الفساد، وهي أمراض ما كان الناس في القرون الأولى يعرفونها، وهذا جزاء في الدار الدنيا قبل جزاء دار الآخرة.
وسل أي طبيب فقل له: ما هي الأمراض التي يحملها أكثر المرضى عند علاجك لهم؟ فسيقول لك: أكثر أمراضهم أمراض الجنس، أمراض القبل والدبر، أمراض الفساد والفاحشة والزنا.
فالجراثيم والأقذار والأوساخ لا تكون في موضع كما تكون في موضع القبل والدبر، فإذا اتصل سليم بمريض عن طريق الفرج الحرام انتقل ذلك من الفرج الحرام إلى فروج أخرى، ومن كان متزوجاً ينقل ذلك إلى أهله، فيخرج الأولاد مرضى منذ الطفولة، بل منذ كانوا في أرحام أمهاتهم وهم أجنة، والمرض إذا خرج مع الجنين فقلما يسلم صاحبه، فيعيش مريضاً مدة حياته، وينتشر ذلك منه إذا كبر في أولاده.
وكثير من الأمراض التي ترى اليوم في الأطفال والنساء والرجال إن بحثت عنها فستجد أن البيئة ليست بيئة صالحة، وليس أهلها قوماً متقين ولا خائفين من الله، فهم يتصلون بكل فرج حرام، حتى إذا أفلتوا من الحد وقعوا في قبضة تلك الأمراض.
وكثيراً ما يفلتون من الحد، بل قد أسقطت الحدود في ديار الإسلام إلا شيء لا يزال في بلدنا هذه.(128/4)
ذكر عقاب مرتكبي الشرك والقتل والزنا
يقول تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68] أي: ومن يفعل ذلك من المؤمنين، والمراد الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله بغير حق، والاعتداء على الأعراض والفروج التي لا تحل له، فإنه يقابل ويجازى في الدنيا والآخرة بعقوبة، فقوله تعالى: (يلق أثاماً) أي: يلقى عقوبة، ويلقى نكالاً، ويلقى جزاءً وفاقاً، ففي دار الدنيا يعذب بإقامة الحد، وبهذا المرض المضني المهلك الملازم لهؤلاء الزناة والفسقة من الرجال والنساء، وفي الآخرة عذاب الله أشد إذا لم يقم على فاعل ذلك الحد جلداً أو رجماً، أو لم يتب مما صدر منه.
قال تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:69]، فهو في الدنيا يلقى العقوبة بالجلد، ويلقى العقوبة بالرجم، ويلقى العقوبة بالأمراض، فإن مات مع هذا مشركاً فإنه يخلد في العقوبة مهاناً ذليلاً حقيراً، فيكون خالداً في جهنم تحت غضب الله ولعنته مع الذل والهوان على الله وملائكة العذاب في جهنم وبئس المصير.
فالمؤمن لا يفعل ذلك، فإن فعل فقد خرج عن صفات المؤمنين، وكان مرتكباً لصفات المشركين ولنعوت الظالمين الفاسقين.(128/5)
تفسير قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً)
قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70].
إلا من سبق أن أجرم أو أذنب وكان كافراً، ثم تاب إلى الله توبة نصوحاً، ومن تاب تاب الله عليه، والإسلام يجب ويقطع ما قبله إذا كان مشتملاً على صفات التوبة من الندم على ما سبق، والعزم على ألا يعود، وارتكاب حسنة مكان سيئة صنعها كما قال صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا بأن نفعل حسنة مكان السيئة لتمحوها وتزيلها وتقضي عليها.
ومعنى ذلك أن جميع الجرائم من الكفر بالله وإزهاق النفس التي حرم الله وبقية الجرائم على مختلف أنواعها إذا أقيم على فاعلها الحد ثم تاب إلى الله بعد ذلك وعمل صالحاً فعوض سيئاته بأن أكثر من الحسنات، ومن الطاعات، ومن العبادات، فإن الله يبدل سيئاته حسنات.
وهذه الآية متعلقة بتوبة الكفار، فقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان:70] أي: تاب من ذنوبه، وآمن بعد كفره، وعمل عملاً صالحاً بعد ذلك، والعمل الصالح هو القيام بالأركان الخمسة فرائضها وسننها وآدابها، والتحلي بالأخلاق الكريمة والتخلي عن الأخلاق الرذيلة، وفعل الطاعات بقدر المستطاع، وترك السيئات جميعها.
فمن تاب وآمن ثم عمل الصالحات فإن الله لا يتوب عليه فحسب، بل يبدل سيئاته حسنات.
وقد فسر الآية علماؤنا وصحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: يلهمهم وهم في الدنيا أن يجعلوا مكان السيئة الحسنة، فيفعلون الحسنات، وفي مكان كل سيئة يعملون حسنة، فتمحوا السيئة الأولى.
وقال قوم: بل إنه في الآخرة يبدل الله سيئات المذنب بحسنات، فيعفو عنها، ويضع مكانها حسنات ويجازيه عليها ويدخله الجنة.
واستدلوا بحديث يدل على أن ذلك يكون بعد عذابه وبعد عقوبته، وهو إخبار النبي عليه الصلاة والسلام بآخر رجل يخرج من النار، فيعرض على ربه للحساب فتعرض عليه صغائر ذنوبه، وإذا بالله الكريم يعوض ذنوبه وسيئاته حسنات، فعندما يرى فضل الله وعفو الله وكرم الله فإنه يطمع بعد نجاته من النار فيقول: يا رب! إن لي سيئات كباراً ما رأيتها ذكرت، فيذكر ذنوبه الكبار، قال راوي الحديث: فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه.
والقول الأول: أن تغير الحسنات في الدنيا بأن يلهم الله المؤمن ويعطيه العون في تبديل السيئة بالحسنة، كأن يكون قد قاتل قتالاً أزهق فيه أرواحاً وهو ظالم، فهو بعد ذلك يقاتل في سبيل الله فيقتل أرواحاً كافرة إعلاءً لكلمة الله.
وكأن يكون قد منع حقوقاً لأناس، فيعود فيؤدي تلك الحقوق لأصحابها إن استطاع، وإلا طلب من أولئك العفو والسماح إن كان يعرفهم، وإلا تصدق وأكثر من الصدقات وأكثر من النفقات وأكثر من العطاء، ليبدل الله بذلك سيئاته حسنات.
أما يوم القيامة فالله جل جلاله يعطي من شاء ما شاء إن مات على التوحيد، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وقوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان:69] معناه أن عذابه يكون مضاعفاً مكرراً، فيجازى بالسيئة سيئة وبالعذاب عذاباً إن مات على الشرك، أما إذا تاب، وآمن، وعمل العمل الصالح فالله يبدل سيئاته حسنات.
قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70] (غفوراً) صيغة مبالغة، أي: كثير المغفرة لذنوب عباده التائبين النادمين على ما صدر عنهم، الآتين بالحسنات مكان السيئات، الرحيم بعباده بعد ذلك، فيرحم ضعفهم ويرحم ذلهم، فيعود عليهم بالتوبة، ويعود عليهم بالرحمة، ويبدل السيئات حسنات، فيدخلهم الجنة وقد كانوا في النار أولاً، وقد يدخلون الجنة ولا يدخلون النار البتة رحمة من الله وغفراناً.(128/6)
تفسير قوله تعالى: (ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً)
قال تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71].
هذه التوبة خاصة بالمؤمنين، ولذلك لم يذكر فيها الإيمان، وفي الآية الأولى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:70]، فهي في حق من كان مشركاً كافراً، ثم تاب من الشرك وتاب من الكفر، وعمل الصالحات، فالله تعالى يقبل توبته إن كان صادقاً فيها.
وفي هذه الآية مؤمن لم يشرك ولم يكفر، ولكنه ارتكب مخالفات وأتى بسيئات، فإن تاب هذا العبد وعمل صالحاً مكان ما صنعه من قبل من سيئات، وتاب إلى الله فإنه يتوب إلى الله متاباً، و (متاباً) مفعول مطلق، أي: توبة نصوحاً، أي: يتوب وهو نادم على ما صدر عنه، نادم على ما كان منه، عازم على ألا يعود إليه، وقرر في نفسه بعزم وثبات وحزم أن يعوض كل سيئة بحسنة مكانها.
فهذه الآية لم تكرر عبثاً، وإنما هي للتائبين المؤمنين، والآيات السابقة في توبة الكافرين من الكفر والشرك.
وعلى كل اعتبار فإن الله يتوب على من تاب، سواء أتاب من الشرك، أم تاب من العصيان والمخالفة، إن تاب توبة نصوحاً، فتاب وهو عازم في نفسه على ألا يأتي بالسيئة التي تاب منها، فالله يغفر الذنب ويعفو عن المسيء، وقد جاء قوم إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: يا رسول الله! قوم أشركوا وقتلوا وزنوا، وما من سيئة إلا ارتكبوها، ألهم توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتكلم -وكان اسمه أبا طويل الكندي -: أأسلمت؟ فأسلم في الحال فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبد الله ورسوله، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم، قد قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70])، وإذا بالرجل يخرج وهو يصيح ويقول: الله أكبر، الحمد لله، الله أكبر، الحمد لله.
يحمد الله على أن غفر ذنبه، وكشف كربه، وستر عيبه بعد أن شهد شهادة الحق، فباب الله مفتوح لكل تائب.
وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل).
ونزل في مثل هذه المعاني أيضاً قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53].
قالوا: هذه أرجى آية في كتاب الله، فهي أكثر رجاءً، وأكثر طمعاً، وأكثر أملاً، فعباد الله المذنبين -وأضافهم الله إلى نفسه- إن هم تابوا وأنابوا وعملوا الصالحات مكان السيئات غفر الله لهم الذنوب جميعاً.
وما الصحابة في الرعيل الأول إلا هكذا، فقد سجدوا للأصنام في الجاهلية، وارتكبوا المنكرات، وما إن هداهم الله وصرف قلوبهم عن الشرك وعن الكفر وعن تكذيب النبوة وتكذيب كتاب الله حتى انقلب حالهم، وأصبحوا قادة الدنيا، فكان منهم أبو بكر، وكان منهم عمر، وكان منهم عثمان، وكان منهم علي، وكان منهم من لا يحصي عددهم إلا الله، وأصبحوا خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله، وفي هداية البشر من الضلال إلى الهدى، ومن الظلمة إلى النور، وهكذا حكموا العالم ونشروا دين الله في مشارق الأرض ومغاربها.
وأصبح اسم الرجل منهم إذا ذكر تهتز له العوالم احتراماً وحباً وتقديراً واعترافاً بفضله، وما تخرجوا إلا من المدرسة المحمدية، فخلدوا في التاريخ إلى أبد الآباد، فكما صاحبوا نبينا في الدنيا فسيصاحبونه كذلك في الآخرة، أولئك الذين أشاد الله بهم ونوه بهم فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، فالله رضي عنهم، وأدخلهم الجنة، ورحمهم، وأكرمهم، وجعلهم سادة الناس في الدنيا، وسيكونون كذلك في الآخرة يوم القيامة، وقد رضوا عن ربهم في رحمته بهم وتوبته عليهم ومغفرته لهم، وفيما ألهمهم من التوبة، والدعوة إلى الله، والإيمان برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(128/7)
تفسير سورة الفرقان [72 - 77]
في هذه المادة ذكر بعض صفات عباد الرحمن الصالحين، فمن صفاتهم: أنهم لا يحضرون مجالس الزور، وإذا مروا باللغو مروا كراماً، فلا يردون السب بالسب، ولا يردون الشتم بالشتم، ومن صفاتهم أنهم إذا ذكّروا بآيات الله تعالى لم يتغافلوا عنها، بل يتعظون بها، ويتدبرونها، ويقفون عندها وقفات تأمر وتفكر.(129/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72].
هذه من صفات المؤمنين العابدين، حيث يقول تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72]، والزور هنا فسر بالباطل، وهو كل أنواع الآثام، وكل أنواع الذنوب، وكل أنواع الباطل، وكل أنواع اللغو.
وأصل الزور: تلبيس الباطل بلباس الحق المزخرف بالقول أو بالعمل، كما تزور المرأة القرعاء شعرها أمام الناس، فتأتي بالشعر فتضعه على رأسها، وكما يزور الأشيب ذو اللحية البيضاء لحيته فيسودها ليوهم الناس أو من يريد الزواج بها إن كانت امرأة أنه لا يزال صغيراً، وهكذا قل عن كل شيء زخرف وغير عن أصله تضليلاً وتزويراً وزخرفة، فكل ذلك يسمى زوراً.
فوصف الله هؤلاء المؤمنين بأنهم لا يحضرون الزور، فلا يحضرون مجالس الفسق، ولا مجالس الغناء، ولا مجالس اللهو، ولا مجالس الباطل.
وأيضاً لا يشهدون شهادة الزور، بأن يري المرء عينه ما لم ترى، ويسمع أذنه ما لم تسمع، فيشهد لزيد أو لعمر مقابل دريهمات وهو لم يسمع ذلك قط، ولم يره قط.
وشهادة الزور من أعظم الكبائر، ولذا عد النبي عليه الصلاة والسلام الكبائر، فذكر الشرك بالله أولاً، ثم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ثم عقوق الوالدين، ثم ذكر شهادة الزور، وكان صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، فقال: (ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)، وكرر ذلك حتى قال الصحابة: ليته سكت.(129/2)
معنى قوله تعالى: (وإذا مروا باللغو مروا كراماً)
قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72].
أي: إذا سمعوا شخصاً شتم أو سب أو استهزأ أو نطق بالسوء أو نطق بما لا يليق (مروا كراماً).
و (كراماً) حال، وهي جمع كريم، وذلك مأخوذ من قول العربي: فلان مر على فلان فشتمه فتكرم عليه فتركه وأعرض عنه.
أي: كان أكرم منه قولاً، وأكرم منه خلقاً، وأكرم منه سيرة، وأكرم منه ديناً.
فإذا سمعوا سيئاً من القول لا يجيبون بمثله، بل يعرضون عنه ويمرون عليه مرور الكرام، قيل: ومن اللغو: الغناء.(129/3)
تفسير قوله تعالى: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73].
إن المؤمن خطاء وغير معصوم، ولكنه إذا أخطأ بذنب أو صنع شيئاً أو غفل عن شيء، فإن من تمام صفة الإيمان فيه أنه إذا ذكر بالله تذكر، كما قال ربنا: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
المؤمن إذا سمع تذكير الله بآية من كتابه، وتذكير رسول الله بكلمة من سنته، وتذكير عباد الله الصالحين بنصيحة تجده إذا سمع ذلك ألقى سمعه واهتم به وعمل بمقتضاه.
وأما المنافقون والفساق فإنهم إذا سمعوا كلمة عن ربهم أمراً أو نهياً كانوا صماً وعمياناً، و (صماً) جمع أصم، و (عمياناً) جمع أعمى.
فالفساق كالأصم، يسمعون ولا يعون، ولا يفهمون، ولا يريدون أن يمتثلوا ولا أن يتذكروا، يرون المذكر، ويرون الداعية، ويرون العالم وهو يأمر وينهى ويذكرهم بالله من كتابه ويذكرهم برسول الله من سنته صلى الله عليه وسلم فلا يتعظون، بل إن سمعوا لا يريدون أن يدركوا ولا أن يعوا، وإن نظروا كانوا عمياناً لا يهتدون ولا يعتبرون، فهم صم بكم عمي كما وصفهم الله.
يقول تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [الفرقان:73]، فهم لم يتركوها، ولكن نسوا في عمل من الأعمال أو قول من الأقوال، فإذا نصحوا فسرعان ما يتذكرون، فإذا ذكروا بآيات ربهم، وبسنة نبيهم لم يكونوا صماً ولا عمياناً، بل يكونون سامعين متعظين، ولا يكونوا عمياناً، بل يبصرون الداعي والعالم فيتأثرون بقوله ويعزمون على تنفيذ أمره طاعة لله وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يكبر عن التذكير أحد في الأرض، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة؟ فقيل له: لمن؟ فقال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم) فتنصح أخاك المؤمن، وتنصح أبويك وأبناءك، وإخوتك وأقاربك، وتلاميذك وطلابك، وإخوانك في الله وعموم الخلق، وكما تنصح المؤمن تنصح الكافر إن وجدت عنده أذناً صاغية أو عيناً مبصرة، وقلما يكون ذلك عند الكافر، بل وقلما يكون ذلك عند الظالم وعند المخالف.
فالمؤمن إن رأى تقصيراً في أخيه نبهه عليه، فإن رآه يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها نبهه، وإن رآه يصنع شيئاً لا يليق به نبهه، فإذا نبهه وكرر التنبيه فأعرض فله أن يقاطعه في الله وأن يهجره في الله، والهجران في الله لا يقتصر على ثلاثة أيام، بل قد يكون إلى الأبد.
وأما حديث: (لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث) فالمراد به في شئون الدنيا، أما في أمور الآخرة فلا، فالحب في الله والبغض في الله من الإيمان، وقد هجر عبد الله بن عمر رضي الله عنه ولده في الله هجرة الأبد إلى الموت؛ لأنه أمره بألا يمنع نساءه من حضور بيت الله، وذكر له حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تمنعوا إماء الله بيوت الله)، فقال: والله لنمنعنهن، وإذا بـ ابن عمر يثور في وجهه ويقول له: أقول لك: قال رسول الله، وتقول: بلى والله لأفعلن! وهجره إلى أن مات ولقي الله وهو هاجر له.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73]، فالمؤمن شأنه أن يخر لله راكعاً وساجداً! وهؤلاء الكفار يستكبرون عن أن يخروا لله سجداً وركعاً، وإذا بهم يخرون سجداً لأهوائهم، فيصمون آذانهم عن كلمة الحق، ويعمون أبصارهم عن رؤية الداعي إلى الحق، ولا يقبلون موعظة ولا ينصتون للحكمة.(129/4)
تفسير قوله تعالى: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].
فهم الذين يدعون الله بألا يقصر الخير والصلاح عليهم، فيكون مع صلاحهم صلاح بيوتهم وأسرهم، فتكون زوجة الواحد منهم أو زوجاته مثله في عبادته، وفي طاعته، وفي تذكيره، وفي امتثال أمر الله، ويكون أولاده وبناته كذلك جميعاً، يطيعون الله في أمره، ويحافظون على أوامر الله من صلاة وزكاة وصيام وحج، ويمتثلون أمر الله إذا سمعوا (قال الله) وإذا سمعوا (قال رسول الله)، ويكونون مثل هؤلاء عبادة وتواضعاً وأخلاقاً وعملاً للصالحات وابتعاداً عن الباطل.
فعباد الرحمن يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا} [الفرقان:74] أي: أعطنا وتفضل علينا، {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} [الفرقان:74] جمع ذرية، وهي الأولاد، أي: فاجعل لنا من أولادنا ذكوراً وإناثاً، واجعل لنا من زوجاتنا قرة أعين، و (أعين) جمع عين، فتكون الزوجة قرة عين لزوجها ولأولادها، والأولاد قرة عين لأبيهم وأمهم، فذكرت الأعين هنا والإنسان ليس له إلا عينان.
وقرة العين: ما يسرك ويفرحك ويشرح صدرك، ويدعك بذلك مسروراً مبتهجاً.
وأصل القرة: البرود، والعرب تحب الشيء البارد، وتبتعد عن الشيء الحار.
وأيضاً يقولون عن العين: إنها إذا التهبت فاشتدت حرارتها فمعنى ذلك مرضها، ولذلك يقولون: الدمع الناتج عن السرور يكون بارداً، والدمع الناتج عن الحزن يكون حاراً.
فكون الزوجات والذرية قرة أعين معناه أنهم لا يجعلون في العين التهاباً ولا حرارة، وتلك كناية عما يسر وعما يطرب وعما يبهج وعما يشرح النفس، ولذلك كثيراً ما يقال للآباء في أولادهم: (جعله الله قرة عين لك)، وأصعب شيء على الإنسان أن يضطر إلى عشرة من لا يكون كذلك.
وتنصيص الله تعالى بآية خاصة في صفات عباد الرحمن على ذلك لعلو شأن هذا المعنى، وهو أن يكون الإنسان بين زوجته وأولاده على هذه الأخلاق والسمات الصالحة.(129/5)
معنى قوله تعالى: (واجعلنا للمتقين إماما)
قال تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].
أي: اجعلنا أئمة للمتقين العابدين الصالحين في الطاعة وفي الامتثال بالخير.
ومعنى ذلك: يا رب! لا تجعل عبادتي قاصرة على نفسي، بل اجعل غيري يهتدي بي، ويمتثل أمري فيما آمره به من طاعتك وطاعة نبيك؛ لأن النبي يقول عليه الصلاة والسلام لـ علي رضي الله عنه: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس).
ومن أصلحه الله على يدك، ومن آمن على يدك فلك أجره إلى يوم القيامة، ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
والله نوه بالمسلمين وأشاد بهم فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]، فالمؤمن اجتماعي بالطبع وليس انعزالياً، وليست عبادته قاصرة على نفسه، ومن هنا كانت الصلاة في الجماعة تعدل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة؛ لأن الاجتماع على العبادة والاجتماع على الطاعة فيه معنى التأسي، فيأتسي بك ولدك، ويأتسي بك تلميذك وأخوك في الله، وكما تكون قدوة حسنة لغيرك، فهنا تكون إماماً يؤتم بك في الخير كما يؤتم بالإمام في الصلاة، وكما يؤتم بالحاكم المسلم والإمام المسلم الذي يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويشرع لهم القوانين التي تتفق مع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.(129/6)
تفسير قوله تعالى: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} [الفرقان:75].
قوله تعالى: (أولئك) أي: عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً، والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، ولا يشركون بالله، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون، والذين لا يشهدون الزور، والذين لا يحضرون الباطل، والذين يضرعون إلى الله في كل أعمالهم، ويدعون الله أن يرزقهم زوجات صالحات وأولاداً صالحين يكونون لهم قرة أعين، هؤلاء الذين هم على هذه الصفة {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، فيكافئون بالغرفة، والغرفة أعلى منازل الجنة في الفردوس الأعلى.
وقوله تعالى: (بما صبروا) الباء باء السببية، أي: بسبب صبرهم على ترك الحرام وفعل الطاعات، وصبرهم على عبادة الله والدعوة إليه، وصبرهم على ترك مجالس اللغو ومجالس اللئام، وصبرهم على بذل نفوسهم رخيصة في سبيل الله، فقد بذلوا الأنفس، وبذلوا الأموال، وبذلوا الأولاد لإعلاء كلمة الله، وصبروا على طاعته تهجداً وصلاة في النهار، وإعطاء للنفقة والزكاة، وجعلوا أنفسهم تمتثل أمر الله في كل ما به أمر بقدر طاقتهم، وتركوا كل ما عنه نهى، فهؤلاء الذين صبروا على ذلك والتزموه وكانوا عباد الرحمن حقاً في جميع هذه الصفات، جزاؤهم الجنة بصبرهم على ذلك، وقيامهم به إلى لقاء الله.
قال تعالى: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} [الفرقان:75]، فيستقبلون بالتحية من الله جل جلاله، ويقال لهم السلام، والله هو السلام ومنه السلام، ويلقون السلام من ملائكة الجنة مرحبين ومسلمين على الكبار والصغار والنساء والرجال عندما يدخلون الجنة.
فقوله: (ويلقون) أي: يجدون ويستقبلون في الجنان بتحية وسلام.(129/7)
تفسير قوله تعالى: (خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً)
قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:76].
أي: خالدين في الجنة خلوداً أبدياً لا موت بعده.
وقوله تعالى: {حَسُنَتْ} [الفرقان:76] أي: حسنت الجنة، وحسنت الغرفة، وحسن الفردوس.
وقوله: (مستقراً ومقاماً) أي: قراراً لهم ومأوىً ومنزلاً أبدياً، فهي موضع إقامتهم الدائمة، وموضع نزولهم الدائم.
فالله يحض المسلمين ويبشر المؤمنين ويحرضهم على طاعته وعلى عبادته، وعلى أن يتصفوا بهذه الصفات من صفات عباد الرحمن؛ لعل الله يكرمهم بما قال.
ونحن بعد لا نزال نملك أمرنا، فمن كان ذا ذنب فليتب، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يستغفر الله مائة مرة في اليوم، فإذا كان النبي المعصوم يستغفر كذلك فماذا نقول نحن المذنبون الخطاءون؟! وما ذلك إلا تشريع لنا لأن نستغفر الله من ذنوبنا ما علمنا منها وما لم نعلم، وما أخطأنا فيه وما تعمدنا.(129/8)
تفسير قوله تعالى: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم)
قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:77].
أي: قل يا رسولنا: {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77] فلا يهتم بكم ربنا، ولا يعطيكم وزناً، (لولا دعاؤكم) والدعاء هنا العبادة، ودعاء الله عبادة، بل هو مخ العبادة كما قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
فالله تعالى يقول لكل البشر -وإن كان ختام الآية يدل على أن الخطاب للكفار-: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77] فالله لا يهتم بكم لولا تضرعكم، فلا وزن لكم عنده، إذا هم كفروا، والله ما خلق الجن والإنس إلا للعبادة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فإذا خرجوا عما خلقوا من أجله أصبحوا حيوانات، بل الله تعالى وصفهم بأنهم أضل من الأنعام، فالأنعام نستفيد من ظهورها، ومن بطونها، ومن أشعارها وأوبارها، ومن صوفها، والكافر الذي لا دين له يكون كلاً على الخلق، فضرره أكثر من نفعه، ووجوده في باطن الأرض خير لكل الناس من وجوده على ظهرها.
يقول تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77]، فما يعبأ بنا ربنا لولا عبادتنا، ولولا دعاؤنا وضراعتنا بأن يغفر ذنوبنا ويكفر عنا سيئاتنا.(129/9)
معنى قوله تعالى: (فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً)
قال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} [الفرقان:77] فالكافرون كذبوا بعبادة الله، وكذبوا بقدرة الله، وكذبوا بوحدانية الله، وكذبوا بكتابه ورسالته {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:77] اللزام هنا الهلاك، والعذاب الملازم، والغضب الملازم، واللعنة الملازمة.
و (سوف) للتنفيس البعيد.
أي: سيلقون -إن داموا على ذلك وماتوا على الشرك والكفر- يوم القيامة عذاباً لازماً، ومحنة ملازمة، وغضباً ولعنة لا تنفك عنهم أبداً سرمداً.
وهكذا النار يعذب بها الكافرون أبداً، وهكذا الجنة ينعم بها المؤمنون أبداً، فلا موت، بل الموت إذ ذاك يموت، فيجاء به على شكل كبش يذبح.(129/10)
تفسير سورة النمل [1 - 5]
أنزل الله هذا القرآن هداية للمتقين، يسترشدون به في دروب الحياة فيتعلمون كيف يؤدون حق الله وحق الخلق، وأما من أعرض عنه فإن الله يزين له عمله ابتلاء واستدراجاً.(130/1)
تفسير قوله تعالى: (طس)
سورة النمل سورة مكية اشتملت على ثلاث وتسعين آية.
قال الله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1].
الحروف المقطعة اختلف الناس فيها اختلاف طويلاً، ولا يوجد في القرآن ما يقطع بتفسيرها، ولم يصح عن نبي الله صلى الله عليه وسلم تفسير لها، وكثير مما قيل قيل بغير دليل، كقول بعضهم: اسم الله الأعظم، وقول بعضهم: هي تدل على رموز وأرقام، وقال ابن عباس: لقد أعجز العلماء تفسير هذه الحروف المقطعة في فواتح السور.
ولكن الإمام الزمخشري في تفسيره يقول: معنى هذه الحروف واضح بين، وقد استقرأ في فواتح السور وخرج بتفسير يقطع به ويتأسى به، وأكد تفسيره هذا صديقنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره الذي يعتبر أعظم تفسير في هذا الوقت، وهو أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، وقد مات قبل أن يتمه، وقد أيد ما ذهب إليه صاحب الكشاف، وقد قبلت ذلك وآمنت به عن قناعة قبل أن أقرأ ذلك للشيخ الشنقيطي رحمه الله.
فنحن نجد من استعراض هذه الحروف أنه يذكر معها القرآن، كقوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ} [البقرة:1 - 2]، وقوله: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، وقوله تعالى: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف:1 - 2]، وهكذا، فلا تكاد تذكر هذه الأحرف إلا ويذكر معها القرآن.
وهي حروف الهجاء التي منها تتركب اللغة العربية، كقوله تعالى: {الم} [البقرة:1]، {طس} [النمل:1]، {حم} [الأحقاف:1].
فهذه الأحرف منها كان القرآن الكريم المعجز الذي تحدى الله الخلق منذ أنزله إلى يوم القيامة في أن يأتوا بسورة من مثله، أو أن يأتوا بآية مثله، ولم يستطيعوا على كثرة البلغاء وكثرة الفصحاء، وسيدهم وإمامهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإننا عندما نقرأ السنة النبوية على فصاحتها وعلى بلاغتها ثم نقرأ القرآن الكريم نجد الفرق شاسعاً وعظيماً بين كلام الله في كتابه وبين قول نبيه في سنته صلى الله عليه وسلم.
فالمعنى: أن هذا القرآن الذي أعجزكم فلم يستطع أحد أن يأتي بمثله ما خرج عن حروف اللغة العربية.
وعندما أنزل القرآن كانت قريش والعرب تتكلم باللغة العربية سلاقة، وما كانت تحتاج إلى سيبويه ولا إلى الكسائي ولا إلى أحد من علماء النحو وعلماء اللغة، فالقرآن نزل بلغتهم.
فكانوا يفهمونه كما نفهم اللغات الدارجة بيننا اليوم، وطالما استمعوا إلى القرآن خفية وعلناً فلم يجدوه شعراً، ولم يجدوه نثراً، بل أخذوا يعجبون ويقولون: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق.
وما جاءوا بمثله، وما استطاع ذلك أحد، وقد حاول الكذاب مسيلمة معارضة القرآن فأتى بخزعبلات وأتى بهذيان وأتى بركيك القول الذي يضحك الثكلى، فأصبح موضع سخرية وهزء به وبنبوته وبقرآنه وبقوله أبد الآباد.
فنحن هنا نؤكد ما قاله الزمخشري وأكده الشنقيطي، فالقرآن عندما يأتي بهذه الحروف المقطعة فمعنى ذلك أن هذا القرآن المبين، كتاب الأولين والآخرين، دستور المسلمين وقانونهم ومجمع آدابهم ومجمع قصص من سبقهم ومن سيلحقهم وإلى يوم القيامة، نظم وجمع وقاله الله جل جلاله من هذه الأحرف بلا زيادة ولا نقصان، فما زاد فيها حرفاً ولا نقص منها حرفاً.(130/2)
تفسير قوله تعالى: (تلك آيات القرآن وكتاب مبين)
قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1].
آيات القرآن: معجزاته.
فمعجزاته وبيناته قد جمعت وألفت ونظمت من هذه الأحرف بلا زيادة ولا نقصان، فهي كلغة العرب لم تخرج عن أحرف الهجاء التي تبتدئ بالألف وتنتهي الياء.
والقرآن والكتاب كلمتان مترادفتان، فالقرآن دل على قراءة وتلاوة هذه الآيات، والكتاب دل على كتابتها بهذه الأحرف التي أنزلها الله تعالى على محمد سيد البشر صلى الله عليه وعلى آله، ومما يؤكد الترابط بينهما قوله تعالى في سورة أخرى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1]، فحلت هذه محل هذه.
فالقرآن ما يقرأ ويتلى، والكتاب يدل على كتابة هذه الأحرف بهذه اللغة التي كانت شريفة في نفسها؛ لأنها لغة نبي الإسلام وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وزادها الله شرفاً ورفعة فأصبحت سيدة اللغات على الإطلاق؛ لأن الله اختارها لغة كلامه في كتابه المهيمن على الكتب السابقة، وهو القرآن الكريم المبين الواضح الذي لا عيوب فيه ولا بعد فيه عن الحقائق.(130/3)
تفسير قوله تعالى: (هدىً وبشرى للمؤمنين)
قال تعالى: {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:2].
أنزل هذا القرآن على محمد صلى الله عليه وعلى آله حال كونه هدى، وليكون هداية للناس، فيخرجهم من الضلال ومن الظلام ومن الخزعبلات ومن عبادة الأصنام والأوثان ومن التعلق بالباطل إلى النور والحق والتوحيد والإيمان بالله الواحد الذي لا ثاني له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عبداً ونبياً وخاتماً للرسل صلى الله عليه وسلم.
فقوله تعالى: {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:2].
أي: حال كونه يبشر المؤمنين بالجنة، ويبشرهم بالرحمة، ويبشرهم بالهداية، ويبشرهم بالسؤدد، ويبشرهم بالسيادة على العالم، وقد كان كل ذلك، فقد سادوا الدنيا قروناً، وحكموا العوالم قروناً، وبشروا بخيري الدنيا والآخرة وعز الدنيا والآخرة، فما مضى على نزول القرآن خمسون عاماً حتى كان الإسلام ضارباً بين السند شرقاً إلى عمق أوروبا غرباً، تلك الأمم التي تموج في بعضها كانت تتعبد الله بشعائر الإسلام، ورفعت كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) على جميع منابرها، وعلم فيها القرآن، ودُرِّست السنة المحمدية.
قال تعالى: {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:2]، هذا في الدنيا، أما بشرى الآخرة فالخلود في الجنان والنظر إلى وجه الله الكريم.(130/4)
تفسير قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة)
ثم وصف تعالى المؤمنين فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل:3].
فالمؤمنون حقاً هم الذين يقيمون الصلاة في أول أوقاتها بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها ومستحباتها، من طهارة واستقبال قبلة وقيام وركوع وجلوس وذكر وخشوع وحضور قلب، فيؤدون حق الله من صلاة ونحوها، ويؤدون حق العباد فيما أمرهم الله به من أموالهم عندما تبلغ النصاب.
وكثيراً ما يقرن الله بين حقه وحق العباد، ومما يدل على مكانة الزكاة في الإسلام أن أول حرب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من أجل حقوق العباد، وهي أول حرب قام بها أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث حارب المرتدين الذين امتنعوا عن أداء حق الله وحق عباد الله لاعتقاد بعضهم أنها وجبت في حياة رسول الله لا بعده، فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه.
وعندما حاول الأصحاب أن يعترضوا على ذلك قال: والله لو منعوني عناقاً -أو عقال بعير- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.
قال تعالى: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل:3] أي: يؤمنون بيوم البعث، ويؤمنون بالحياة الثانية، ويؤمنون بيوم الحساب والعقاب إما إلى جنة وإما إلى نار.
ولا يؤمنون بذلك مع شك وريب، ولا يؤمنون به صباحاً ويجحدونه مساء، بل يوقنون إيقاناً باتاً لا ريب فيه ولا شك بأننا بعد الموت سنعيش مرة ثانية.(130/5)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم)
وتلك الحياة الدائمة وجد من أنكرها فكفر بيوم البعث والنشور، ولذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4].
وهذه عادة القرآن الكريم، ليبقى المؤمن بين الخوف والرجاء، فيجمع الله بين عمل المؤمنين وعمل الكافرين، وبين عذاب الكافرين وبين الرحمة للمؤمنين.
يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4]، فالذين لا يؤمنون بالآخرة ولا يؤمنون بيوم القيامة ولا يؤمنون بالحياة بعد الموت ولا يؤمنون بالبعث، وأصروا على شركهم؛ يزين الله تعالى لهم أعمالهم عذاباً ومحنة.
((فَهُمْ يَعْمَهُونَ)) أي: يعيشون في أمان وفي حيرة وفي تردد وفي ضياع، فيحاولون أن يؤمنوا بذلك ثم يشكون.
ولذلك فهم عمي صم بكم يعيشون عيشة الأعمى، الذي لا يعرف طريقاً أمامه أو خلفه.(130/6)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ} [النمل:5].
عدلوا عن الطريق السوي فعاشوا في التردد وفي الضلال {لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} [النمل:5].
أي: العذاب السيئ.
{وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} [النمل:5] فهؤلاء في الآخرة هم الأخسرون.
والحمد لله رب العالمين.(130/7)
تفسير سورة النمل [6 - 12]
يذكر الله تعالى قصة سيدنا موسى في القرآن كثيراً، وقد كان من أولي العزم الذين فضلهم الله على غيرهم، وفي قصصه ورسالته إلى فرعون وملئه الكثير من العبر والعظات.(131/1)
تفسير قوله تعالى: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم)
قال الله جل جلاله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6].
سورة النمل المكية تتحدث عن قصة موسى إذ خرج من عند صهره في أرض مدين، فكلمه الله وفاجأه بهذا الشرف العظيم.
وفيها قصة داود وسليمان نبيي الله ورسوليه الكريمين كذلك، وفيها قصة ملكة سبأ، وفيها قصص وأخبار وعقائد وأحكام وغير ذلك.
وسميت سورة النمل لذكر النملة فيها وإدراك سليمان ذلك منها.
وذكر النمل لا يكاد يتجاوز آية، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سمى السور، وهو الذي رتبها بأمر من ربه، والكل وحي من الله جل جلاله.
يقول تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6]، أي: إنك لتتلقى هذا الذكر وينزل عليك وحياً من لدن الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها أمراً ونهياً، العليم بكل ما خفي وما ظهر وما بطن، فكل ذلك يعلمه ربنا وهو أعلم حيث يجعل رسالاته، فاختار محمداً العربي صلوات الله وسلامه عليه لأن يكون خاتم الأنبياء، واختار تعالى أن يكون هذا الكتاب الكريم خاتم الكتب المنزلة على الرسل، وأن يكون منزلاً على خاتم الرسل كذلك، فهو من الله لفظاً ومعنى وتنظيماً، وكل ذلك وحي من الله نزل به الروح الأمين جبريل على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم فوعاه وأدركه.(131/2)
تفسير قوله تعالى: (إذ قال موسى لأهله إني آنست ناراً)
قال تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7] كانت تلك الآيات الخمس الأولى كالديباجة والمقدمة لهذه السورة الجليلة، ومنها اتخذ العلماء والمؤلفون المقدمات والديباجات لمؤلفاتهم.
قال تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} [النمل:7]، وقصة موسى تتكرر، وفي كل سورة يكون فيها معنى زائد، ومجموعها يعطي الحكمة والعلم والمعرفة.
وقد خص الله موسى بكثير من الخصائص، أما نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه فما من آية خص بها نبي متقدم إلا وأكرمه الله بها وزاده عليها.
يقول تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} [النمل:7] قال ذلك عندما خرج من أرض مدين من عند صهره شعيب، وليس هو شعيباً النبي، فشعيب النبي كان قبل ذلك، كان بعد قوم نوح وبعد قوم عاد وبعد قوم ثمود، فخرج موسى عليه السلام بعد أن أقام عنده السنوات التي اتفق عليها، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الذي قضاه موسى مع صهره شعيب، فأخبر بأنه قضى الأكمل، أي: عشر سنين، ثم أخذ أهله في ليلة باردة مطيرة وقصد أرض مصر حيث ولد وحيث توجد أمه وحيث يوجد أخوه هارون وحيث يوجد قومه من بني إسرائيل المستعبدون لفرعون وقومه.
فما كان يقصد سوى ذلك، ولا يعلم الغيب إلا الله، ولم يرسل بعد ولم ينبأ، وحين خرج من عند صهره من أرض مدين ضل الطريق، وكانت الليلة مظلمة مع شدة البرد وشدة المطر، فما درى أين يقصد، وإذا بنار تظهر من بعد في جبل الطور في أرض سيناء، فقال لأهله: انتظروني.
يقول تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} [النمل:7].
أي: اذكر -يا رسولنا- حين قال موسى لأهله -أي: لزوجته، والأهل لفظ يشمل الزوجة والولد- {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7].
رأى موسى ناراً تشتعل من بعيد في شجرة خضراء عند جبل الطور في أرض سيناء، فآنس خيراً ورجا خيراً في أن يعلم الطريق التي توصله لمصر، أو أن يأتي بما يتدفأ به هو وأهله بعد أن قرصهم البرد وأضر بهم، وأمرها أن تنتظره قليلاً، فانتظرته وذهب، وإذا به يرى ناراً متأججة في شجرة خضراء شديدة الخضرة، فلا الشجرة الخضراء يبست، ولا لونها تغير، ولا النار انطفأت، فوقف مندهشاً متعجباً.
وكان قد آنس النار، أي: أبصرها ورآها وفيها معنى الأنس، كما يقال في اللهجة المكية الحجازية: آنسكم فلان، أي: أنستم به ووجدتم به زوال الوحشة، ووجدتم به الصلة والقربة.
وكذلك موسى كان غريباً منفرداً منقطعاً في هذه الصحاري والفيافي، وكان في الليل لا يبصر الطريق، وكان في برد شديد، فعندما رأى النار استأنس بها وطمع في أن يجد هناك من يدله على سواء الطريق، أو لعله أن يأتي منها بجذوة نار يصطلي بها من هذا البرد الشديد هو وأهله.
وأتى موسى بخبر أي خبر! أتى بالخبر العظيم، فموسى الطريد الشريد من مصر الخائف على حياته المضطهد من فرعون وقومه كانت هذه الليلة بالنسبة له ليلة شرف وكرامة، وهي ليلة رسالته ونبوءته، وإدخاله في الخمسة من أولي العزم من الرسل، وكان له ما لم يكن لمن قبله من الأنبياء والرسل.
قال تعالى: {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7].
أي: إما أن يأتي بخبر ممن يدله على الطريق، أو -على الأقل- يأخذ من هذه النار شهاباً، والشهاب هو القبس، فنعت الشهاب بصفة هي منه وإليه، وقرئ في السبع: ((بِشِهَابِ قَبَسٍ))، من باب إضافة الشيء إلى مثله وإلى نظيره، على أن الشهاب هو عود اشتعلت النار في طرف منه فقط، ويمكن قبضه من الجهة التي لا نار فيها، والجذوة من النار القطعة من النار، فهي بذلك جذوة وهي قبس وهي شهاب، وكل هذه المعاني تؤدي معنى وجود نار يمكن أن يجد بها دفئاً له ولزوجته.
فلما وصل ورأى هذا المنظر المدهش العجيب وقف مشدوهاً ذاهلاً، وقد جاء في تسمية هذه الشجرة أشياء هي من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن نبي الله صلى الله عليه وسلم شيء ولا عن الصحابة، وقد يذكرها بعض الصحابة نقلاً عن كعب الأحبار، وهو من علماء اليهود الذين أسلموا وبقوا يروون من كتبهم ما صح وما لم يصححه كتاب الله ولم يصححه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عندنا كلام لا نقبله ولا نعتمده ولا نلتفت إليه.(131/3)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار)
{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8].
فلما جاء النار وهو يراها من بعيد {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8]، أي: قيل له: يا موسى! بورك من في النار.
يقال: باركه الله وبارك فيه وبارك عليه، وكلها بمعنى، والبركة: النماء والزيادة والفضل، فإن كان من الله فهي سلام وهي أمان وهي إكرام.
قال تعالى: {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8]، ووقف موسى وهو يكاد يصرع، إذ لا يدري ما الذي جرى، ومن المنادي ومن المتكلم، ولكنه بعد قليل أدرك أن المتكلم هو الله جل جلاله وأن المنادي الله جل جلاله.
وقوله تعالى: {وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل:8]، قيل: الملائكة، وقال سعيد بن جبير وابن عباس: هو الله جل جلاله، فهو يبارك نفسه وينزه نفسه ويسبح نفسه جل جلاله، وقالوا: النار: النور، ولكن الآية فيها النار.
فالله جل جلاله نادى عبده موسى، ومنذ ذلك الوقت سمي الكليم، أي: الذي كلمه الله وشرفه بكلامه.
ثم نزه الله نفسه عن أن يشبه أحداً من خلقه أو أن يشبهه أحد من خلقه، فسبح نفسه ونزه نفسه عن كل ما لا يليق بجلاله وكل ما لا يليق بإلهيته فقال تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8]، يسبح الله ذاته العلية، ويعلمنا لنسبحه.
فالله يكلم موسى، ولكن بكلام ليس ككلام البشر، وفي حال ليس كحال الخلق، ومن جهة ليست كجهة الخلق، ومن نار ليست كنار الخلق.
فالله جل جلاله هو المنزه عن كل عيب والمنزه عن كل نقص، فهو رب العالمين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، وكل ما يخطر ببالك فربنا مخالف لذلك، ولكننا نقول ما قال ربنا ونثبت ما أثبته نبينا صلى الله عليه وسلم من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف، ونقول بعد ذلك ما قال الله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8]، تنزه الله عن كل نقص وعيب، لا يشبه خلقه ولا يشبهه خلقه.
وفي الحديث الصحيح: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) جل جلاله وعز مقامه.(131/4)
تفسير قوله تعالى: (يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم)
وصل موسى إلى هذه النار التي رآها تتلألأ من بعيد، فلما وصل إليها وجدها ناراً ليست كالنار، فلم تحرق الشجرة ولم تتغير خضرتها، وإذا به وهو في هذا العجب ينادى {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل:8 - 9].
فنودي موسى باسمه أن الأمر والشأن الذي جئت إليه ليس النار وليس الشهاب وليس القبس وليس من يدلك على الطريق لمصر فقط، بل ما يدلك على ربك برسالتك وبنبوءتك لتهدي قوماً ضلالاً، ولتدعو فرعون وقومه إلى عبادة الله الواحد، ولتبين لهم أنهم عبيد من خلق الله ليس لهم ضر ولا نفع.
يقول تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل:9].
العزيز الذي لا يغالب، فلن يستطيع فرعون الكاذب المتأله الكذاب أن يغلب ربك، فالله هو الغالب، والله هو القاهر، والله هو القادر على كل شيء والخالق لكل شيء.
وكان ذلك مقدمة لرسالته حتى لا يخاف من فرعون ومن تألهه الكاذب ومن قومه مهما طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا.
والله هو الحكيم الذي يضع الأمور في مكانها حيث شاء أمراً وحيث شاء نهياً، فاختارك لرسالته دون غيرك؛ إذ هو العليم بما ينفع الناس والعليم بما يضر الناس، وهو العليم بأنك العبد المؤهل لذلك.(131/5)
تفسير قوله تعالى: (وألق عصاك)
قال تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} [النمل:10].
وكانت عصاه بيده، وفي سورة أخرى {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17 - 18]، فما اتخذها إلا كما يتخذ الناس العصي لرعي الأغنام وليحمل بها على عاتقه أحماله وأثقاله، وليضرب بها ما يمكن أن يؤذيه، وليضع عليها ما يتقي به من الشمس وحرها ومن المطر والبرد وما إلى ذلك، فقال الله له: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} [النمل:10]، فألقاها وهو لا يعلم الحكمة من ذلك.
قال تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل:10]، ألقى العصا وإذا بها حية صغيرة كثيرة الحركة، وذلك ما يسمى بالجان في لغة العرب التي بها نزل القرآن، فانقلبت العصا حية شديدة الحركة شديدة القفز، وموسى حديث العهد بمثل ذلك، فإذا به يترك العصا ويفر ولم يعقب ولم يلتفت ولم يرجع إلى أن ناداه ربه: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} [النمل:10] ليستأنس وليستطيع تلقي الكلام الأقدس والوحي العظيم والرسالة المكلف بها.
قال تعالى: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:10] فالمرسلون لا يخافون مني؛ لأنني ما أكرمتهم بالرسالة حتى أمنتهم بالرضا عنهم ورحمتهم، وهذا الخوف غير الخوف من النار ومن الغضب واللعنة، فالخوف الملازم للإيمان لا يفارق مسلماً، ولا يليق أن يفارق مؤمناً، وكان سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا أخشاكم لله)، فهو أشد الناس خشية وخوفاً من الله جل جلاله، فإذا كان هو أخوف الخلق فغيره من باب أولى أن يخاف ويهاب.(131/6)
تفسير قوله تعالى: (إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء)
استثنى الله جل جلاله -وهو استثناء منقطع كما قال المفسرون- فقال: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النمل:11].
والظلم هو الشرك، وهو المعصية، وإن أطلق فالمراد به الكفر.
فغير المرسلين إن ظلموا وأشركوا ثم تابوا وأنابوا فالله غفور رحيم يغفر للمسيء إذا تاب، ويغفر للمشرك إذا وحد، ويغفر للمسيء إذا أزال سيئته وعاد إلى الطاعة والعبادة، وهذا استثناء منقطع؛ لأن الرسل لا تشرك ولا تعصي، فهي في عصمة من ذلك.
ولذلك لا تتصور المعصية بالظلم والشرك من المرسلين ليحتاجوا إلى التوبة وعمل الخير بعد السوء، ومن هنا كان هذا استثناء منقطعاً عمَّا ما قبله.(131/7)
تفسير قوله تعالى: (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء)
قال تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [النمل:12].
هذه هي المعجزة الثانية والآية الثانية والعلامة الثانية التي سيذهب بها الكليم موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه، حيث أمره الله تعالى بكلامه فقال له بكلامه جل جلاله بلا واسطة ملك: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل:12]، أمره بأن يدخل يده في جيبه، قيل: وكان لابساً مدرعة صوف لا أكمام لها، ولعل هذا القول فهم من برودة الجو، ومن شأن الذي يعيش في فصل البرد أن يلبس الصوف، هذا إذا كان موسى قد وجد الصوف.
فأمره تعالى بأن يدخل يده في جيبه فقال: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} [النمل:12]، فأدخلها ثم أخرجها فإذا بها كالكوكب الدري تبرق كالبرق الذي يكاد يأخذ الأبصار سناه ونوره.
(من غير سوء): فليس ذلك النور برصاً ولا مرضاً ولا بياضاً ضاراً للون البشرة، فأعطاه الله هاتين المعجزتين والعلامتين والآيتين ليذهب بهما إلى من أمره بالذهاب إليهم.
قال تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل:12] من القمل والضفادع والدم وغير ذلك، وما زادهم ذلك إلا طغياناً واستعلاء وتكبراً وتجبراً إلى أن أخذهم الله جزاء وفاقاً لكفرهم.
قال تعالى: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل:12].
أمره أن يذهب إلى فرعون وأن يقول له: إني رسول رب العالمين إليك، وإن هذه آيتي وهذه علامتي.
ثم قال الله عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل:12] فقد كان فرعون فاسقاً متألهاً كاذباً، ومن قبلوا منه دعوى الإلهية الكاذبة كانوا فسقة مثله، وكذبة مثله، وضلالاً مثله.(131/8)
تفسير سورة النمل [13 - 17]
أرسل الله تعالى سيدنا موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه فكذبوه، فآتاه الله آيات مبصرة يعلمون بها صدقه؛ لكنهم جحدوها بعد علمهم بصدقها، ومن رسل الله المكرمين داود وسليمان عليهما السلام، وقد آتاهما الله الملك والنبوة، وأعطاهما من فضله، حتى علمهما منطق الطير.(132/1)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة)
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [النمل:13].
لقد جاءت فرعون وقومه آيات الله ومعجزات نبييه الكريمين موسى وهارون مبصرة بينة واضحة، فمن رآها يبصر بها النور ويبصر بها الحق ويميز بها بين الكذب والصدق، وبين الهدى والضلال، فكأنها في حد ذاتها منيرة مبصرة، فما زاد ذلك فرعون وقومه إلا طغياناً وكفراً وعلواً واستكباراً في الأرض، ومع كل هذا الطغيان {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [النمل:13].
أي: ليست هذه الآيات إلا سحراً وشعوذة ودجلاً مبيناً واضحاً، وذلك في قلوب هؤلاء الكفرة المظلمة، وعند هؤلاء الذين اشتروا الخير بالشر، واشتروا الظلام بالنور، والضلال بالهدى، فما زادهم ذلك إلا إيغالاً في الكفران والجحود.(132/2)
تفسير قوله تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)
قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14].
يخبر تعالى عن هؤلاء أنهم جحدوا بهذه الآيات التسع، وجحدوا برسالة موسى وهارون، وجحدوا بالحق البين المنير، فجحدوا بهذه الآيات وكفروا بها وأنكروها ولم يؤمنوا بها، على أن أنفسهم قد استيقنتها، فكانوا على يقين ثابت من أنها من الله وليست سحراً، وأنها نور وليست ظلاماً، وأنها هداية وليست ضلالاً، فأنكروا الحق الصراح وحاولوا أن يغلفوه بالأباطيل والأضاليل، فكان ذلك ظلماً لأجل الشرك الذي ابتلوا به وران على قلوبهم فأبصروا الباطل ولم يبصروا الحق.
فهؤلاء قوم استعبدوا بني إسرائيل وتصرفوا فيهم بالبيع والشراء، واتخذوهم لأعمالهم القاسية التي لا يكاد يطيقها العصبة أولو القوة ظلماً وعلواً وطغياناً.
قال الله: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14].
فانظر نظر القلب، فهؤلاء بظلمهم وباستعلائهم وبجحودهم للحق وقد تيقنت به نفوسهم كانت عاقبتهم أن أذلهم الله وأغرقهم في اليم، وأورث أرضهم وأموالهم ونعيمهم وجنانهم وكنوزهم لمن كانوا يستعبدونهم ويحتقرونهم ويبيعونهم بيع الدواب بدراهم قليلة معدودة.
فنصر الله الحق في شخص موسى وقومه، وأذل الباطل في شخص فرعون وقومه.
وعندما هاجر نبينا عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فنحن نصومه شكراً لله، فقال: (نحن أولى بموسى منكم، فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصومه)، وفي سنة وفاته عليه الصلاة والسلام قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر)، رغبة في مخالفة الكفار واليهود.
فكان صيام ذلك اليوم ذكرى، وكان شكراً من نبي الله ومن أمته المسلمة الموحدة.
وهكذا كان للحق أنصار ورموز، وكان للباطل أنصار ورموز، فإذا ذكر موسى ذكر معه الحق منتصراً، وإذا ذكر فرعون ذكر معه الباطل منهزماً.
فالله جل جلاله أعاد ذكر هذه القصة بهذا الاختصار وفيها وصف لموسى عبده وكليمه، ففي ذلك إجلال له وإجلال للبشرية في شخصه.
كما أن الله تعالى أكرم بني آدم بأن خلق أباهم آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وهكذا اختار عبداً من سلالة آدم فكرمه وشرفه بالكلام، ثم شرف وكرم بعده خاتم الأنبياء بما لم ينله ملك مقرب ولا نبي مرسل في ليلة الإسراء والمعراج، فما كان الناس يؤمنون به غيباً آمن به النبي صلى الله عليه وسلم شهوداً وحضوراً.(132/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علماً)
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15].
وهكذا ننتقل بعد اختصار قصة موسى كما ذكرها الله في سورة النمل إلى قصة داود وولده سليمان، فالله جل جلاله يخبر بأنه آتى داود وسليمان علماً، وداود نبي من أنبياء الله وملك، وسليمان ابنه نبي من أنبياء الله وملك، فهذان ممن جمع الله لهم بين النبوءة والملك، ونبينا عليه الصلاة والسلام خير بين أن يكون عبداً رسولاً وملكاً نبياً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، أي: لا يعيش عيشة الملوك ولا ترف الملوك ولا بأوامر ونواهي الملوك، بل عاش عبداً في أوامره وفي نواهيه وإن كانت ولاية الدولة لنبينا عليه الصلاة والسلام، فلا يد أعلى من يده، يولي ويعزل، ويقيم الحدود فيرجم ويقتل ويقطع ويجلد، ويولي الرسل، ويولي القادة، ويولي الأمراء على النواحي والمدن والأقاليم، ويرسل السفراء إلى الأباطرة والقياصرة ليأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويدعوهم إلى الله.
وهذه وظيفة الملك، ولكنه مع ذلك كان يفعل فعل العبد المتواضع لله بلا حشم ولا أتباع على كثرتهم، فكان صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يقام له، ولا يسمح أن يكون قاعداً وهم قائمون على رأسه، فكان يعيش عيشة العبد المتواضع لله على أن أوامره ونواهيه وأحكامه تشمل جميع جزيرة العرب جيوشاً ومدناً وقرى، وكل ما يفعله رئيس الدولة قد فعله، وكل ما يفعله ملك قد فعله.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل:15]، آتى نبييه ورسوليه الكريمين الملكين علماً.
والعلم هنا نكرة يشمل كل نوع من أنواع العلوم، ومع ذلك قد حدده البعض بأنه علم القضاء، وسياق الآية لا يحمل ذلك، بل آتاهما الله علماً في القضاء، وعلماً في الأحكام، وعلماً في الحقيقة، وعلماً في المعرفة، وعلماً في تجنيد الجيوش، وعلماً في تسيير شئون الدولة، وسخر سليمان الرياح، حتى طلب سليمان ألا يكون ذلك الملك لأحد بعده، فكان سليمان أوسع ملكاً وأعظم جاهاً وسلطاناً.
وبعد أن أكرمهما الله بما أكرمهما به شكرا الله على عطائه وعلى ما منحهما به، وعلى ما خصّهما به، قال تعالى: {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل:15] والذي يبقي النعم هو شكر الله على كل ما أنعم به من النعم الظاهرة والباطنة، والشكر يزيد النعم، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
وعذاب كفر النعمة أن يُسلبها من أُنعم بها عليه، ولا يفعل هذا إلا بمخذول.
قال تعالى: {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15] فحمد الله على أنه فضّلهما على كثير من المؤمنين، ولو قالا: (فضّلنا على جميع عباده المؤمنين) لما بقيت هناك رُتبة لنبينا خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، ومن المعلوم أن سليمان مر في إحدى سفراته وهو على بساطه في الجو على مكة، وطاف بالبيت، وحج كفعل جميع الأنبياء قبله وبعده، وقال لمن معه: في هذه البلدة سيولد خاتم الأنبياء وسيد الأنبياء، وحضّ على من عاش وأدركه على أن يؤمن به كما أُخذ عليهم العهد بذلك.
فلو قالا: (فضّلنا على العالمين) لكانا قد فُضِّلا حتى على محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يفضّل على محمد صلى الله عليه وسلم أحد، فهو سيد العبيد وإمامهم.(132/4)
تفسير قوله تعالى: (وورث سليمان داود)
قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل:16].
ذُكر داود في هذه الآية ليذكر سليمان، وستبقى القصة لسليمان وانتهى الكلام في هذه الآية عن داود عليه السلام.
قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل:16] أورث الله سليمان ما تركه داود، والذي تركه داود هو النبوة والرسالة والعلم والمعرفة.
ولم يكن لداود من الأولاد سليمان فقط، بل كان له سبعة عشر رجلاً كلهم من الأفاضل المؤمنين، ولكن لم يكن منهم نبي إلا سليمان، والإرث ليس إرث مال؛ لأن الأنبياء لا يورثون المال، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة).
فمات داود وورث سليمان نبوة أبيه ورسالة أبيه وعلم أبيه، وكان أهلاً لذلك، فقد أهّله الله لذلك جل جلاله، ومن أهّله الله لشيء كان هو الجدير به.(132/5)
معنى قوله تعالى: (وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير)
قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل:16].
يخبر سليمان بأن الله زاده على ما أعطى أباه شيئاً آخر، فقد علّم الله تعالى سليمان منطق الطير، أي: فهم لغة الطير والكلام معه، والألف واللام للجنس، أي: جميع أجناس الطيور، فكان يفهم لغاتها وتفهم عنه كذلك لتتلقى منه الأمر والنهي، فقد كانت جنداً من جنده، وكان ذلك مما أكرم الله به سليمان وخصّه به دون الأنبياء السابقين، وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد كلّمه الحيوان وكلّمته الأشجار وكلّمته الأخشاب وهي ميتة، ففهم عنها وفهمت عنه، وحصل له ما لم يحصل لمن سبق، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب على جذع في مسجده النبوي، فأرادوا أن يصنعوا له منبراً، فلما صنعوه ترك صلى الله عليه وسلم الخطبة على الجذع، فأخذ يحن حنين الناقة عندما تفقد فصيلها، وسمع حنين هذا الجذع كل من كان في صلاة الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار والرجال والنساء.
فما من معجزة أُعطيها نبي من الأنبياء قبل إلا وأُعطيها نبينا عليه الصلاة والسلام وزيد عليها، كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253].
قال المفسّرون: الذي رفعه الله درجات هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، رفعه الله درجات فوق موسى وفوق سليمان وفوق داود وفوق إبراهيم وفوق نوح وفوق أبيه آدم كذلك، ومن هنا اختص يوم القيامة بالشفاعة العظمى دون جميع الأنبياء والمرسلين، حيث يذهب الناس يوم القيامة إلى أولي العزم يريدون منهم أن يشفعوا لهم عند ربهم لفصل القضاء، وكل منهم يقول: نفسي نفسي، إلى أن يصلوا إلى عيسى، فيقول لهم: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتونه فيقول: (أنا لها، أنا لها) ثم يذهب فيخر ساجداً تحت ساق العرش، وهو المقام المحمود الذي سمّاه الله، وجعله له على رءوس الخلائق، وقد أخذ الله من جميع الأنبياء السابقين العهد على أن من أدركه وعاصره منهم أن يؤمن به، ولذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: (لو كان موسى حياً لما وسعه إلا أن يتبعني) وموسى كليم الله، ومع هذه الرتبة العلية والمنصب الرفيع لو عاش لما وسعه إلا أن يكون تابعاً من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن المعلوم أن عيسى -وهو آخر أنبياء بني إسرائيل- سينزل في آخر الدنيا، وهو من علامات الساعة الكبرى، فسينزل إلى الأرض من السماء وهو على دين محمد صلى الله عليه وسلم، وسيصلي صلاته ويحج حجه ويزكي زكاته ويصوم صيامه ويصلي خلف أئمة المسلمين، وبذلك أصبح صحابياً، ومن هنا ترجم له من كتب في تراجم الصحابة، كالإمام الحافظ العسقلاني في كتاب الإصابة؛ لأن تعريف الصحابي يشمله، فالصحابي هو من آمن برسول الله حياً ورآه ومات على ذلك، فقد رأى عيسى نبينا ليلة الإسراء في سماء الدنيا، ورحّب به أخاً، وسينزل عيسى بعد ذلك وسيبقى على دين محمد ويموت على دين محمد صلى الله عليهما وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
قال تعالى عن سليمان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} [النمل:16] يُذيع في الناس قائلاً: قد أكرمنا الله بأن علمنا منطق الطير، وذكر صوت الطير بأنه منطق لأنه لغة فهمها سليمان.
قال تعالى عنه: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل:16] آتى الله سليمان من كل ما يحتاج إليه الملوك، أعطاه من القوة، وأعطاه من الجيوش، ومن السلطان، وأعطاه من الذهب والفضة، وأعطاه من البُسُط التي يطير بها في الهواء، وأعطاه من الجند الذين يخضعون له جناً وإنساً وحيواناً وطيراً، وهو أحد الملوك من الأنبياء الكبار، فشكر سليمان الله معترفاً بأن هذا هو الفضل المبين الظاهر.(132/6)
تفسير قوله تعالى: (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير)
قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17].
قوله تعالى: (حُشر) أي: جُمع.
فسليمان كان يريد سفراً، فاجتمع له مواكب الجند من الجن والإنس والطير، وكانت وظيفة الطير وظيفة كبيرة يعلمها من يسكن الصحاري، فقد كانت تظلله في مدة سفره، بحيث تحجبه عن الشمس وحرّها، وكانت تحرّك أجنحتها بطبيعة الحال وهي تطير، فكانت كالمكيفات والمراوح.
أما جند الجن فكانوا مكبلين بالسلاسل والأغلال، لأنهم لا يؤتمنون، إذ يسرعون بالأذى للإنس، فهم لا يعملون إلا تحت القهر وتحت القوة، والإنس منهم القادة ومنهم الوزراء ومنهم المستشارون، ومنهم المبلّغون، والجن كانوا يشهدون المكان إن احتاج سليمان للنزول أو المقام.
وقد سخّر الله تعالى لسليمان الريح، وكان يضع فوق هذه الريح ما يشبه اليوم أعظم طائرات الأرض، وهو البساط الذي يحمل الآلاف، وكانت هذه الريح تطير رخاء بالشكل الذي يرغب فيه، وبلا إزعاج ولا إقلاق كطائرات اليوم.
قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ} [النمل:17] أي: من جنس الجن، وجنس الإنس، وجنس الطير، وهذا ما لم يكن لأحد ممن سبقه من الأنبياء، وإن كان سليمان طار في الأجواء فقد طار نبينا صلى الله عليه وسلم فيما لم يصل إليه سليمان ولا من سبقه، فقد طار في ثوان إلى بيت المقدس، واجتمع بالأنبياء فصلى بهم إماماً، ثم عُرج به إلى السماوات العُلى، إلى أن كان قاب قوسين أو أدنى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا ما لم يصل إليه سليمان بريحه ولا بجنه ولا بطيره ولا بإنسه.
يقول تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17] أي: يرتبون وينظمون كما تنظم المواكب في جيوش الدولة وجيوش القتال، فقوله تعالى: (يوزعون) أي: يُمنعون من أن يتقدم أحد عن رتبته، أو يتأخر عن رتبته، ومن كل أو مل أو مرض يُخرج ليقف حيث يكون أمثاله ويجلس حيث يجلس أمثاله.
فكانوا يلزمون بأن يكونوا مصطفين منظمين كل في مكانه وكل في رتبته، وفي الدرجة العليا نبي الله سليمان، وكان هذا الترتيب يحصل في الأرض وفي الجو وعلى البحار وفي الفيافي، وهو ملك خصّ الله به سليمان من بين جميع أنبياء الأرض، بل ومن بين جميع ملوك الأرض، فـ فرعون على فرعنته وطُغيانه لم يكن له أن يأمر ماء أو رياحاً أو جناً أو حيواناً أو طائراً.(132/7)
تفسير سورة النمل [17 - 27]
لقد أعطى الله سيدنا سليمان ملكاً عظيماً وعلمه منطق الحيوانات وجعل جنوده من الجن والإنس والطير وغيرها، وقد خرج يوماً بجنوده حتى أتى وادي النمل فتكلمت النملة ففهمها سيدنا سليمان عليه السلام، فحمد الله على ما أولاه من النعم، ثم تفقد الطير يريد الهدهد فكان ما كان من قصته مع بلقيس بنت شراحيل اليمانية.(133/1)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا أتوا على واد النمل)
قال الله جل جلاله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:17 - 18].
لا نزال مع سليمان عليه السلام في قصته مع جنده من الجن والإنس والحيوان والطير، وما خصه الله به دون الأنبياء السابقين من الجمع بين الملك والنبوة.
فهنا أخبر الله جل جلاله بأن سليمان جمع له وحُشد له وحُشر له جيوشه من الجن والإنس والطير، ((فَهُمْ يُوزَعُونَ)) أي أن النقباء والقادة من جيشه كانوا يكفّونهم وينظمونهم ويرتبونهم كما تُرتب الجيوش، فهذا أمام هذا وهذا خلف هذا، وهذا عن اليمين وهذا عن اليسار.
وذكر أن جنده بلغوا مئات الآلاف، ويظن أن ذلك مبالغ فيه وأنه من الإسرائيليات.
ومما ذكروه أنه كان ملكاً على كل الأرض، وهذا لا يُعرف؛ إذ كان سليمان نبياً أُرسل إلى قومه من بني إسرائيل خاصة كبقية أنبياء بني إسرائيل، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (وكان الأنبياء يبعثون إلى أقوامهم خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) وكون الدين عالمياً لا يُعرف إلا في دين الإسلام الخاتم وفي رسالة نبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
فقوله تعالى: ((فَهُمْ يُوزَعُونَ)) أي: ينظمون ويكفّون، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) أي: يدفع ويكف، فكثير من الناس لا يؤثر فيهم وحي الله ولا أمر الله ولا أمر نبيه، فإذا هُددوا بالسياط وبالسيوف تجدهم قد رُعبوا وذلوا وخضعوا خوفاً من القوة لا خوفاً من الله، والناس ليسوا سواء.
قوله: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ} [النمل:18].
أي: حتى إذا أتى هذا الجيش المحشود من الجن والإنس إلى واد النمل.
وقد قال قوم: وادي النمل في الشام، وهذا هو الأقرب إلى الواقع، وقال كعب: في الطائف، ومن المعلوم أنه لا يزال إلى اليوم في أرض الطائف على بعد ثلاثة أميال منها واد يسمى وادي النمل، وقد قيل: إن نمل هذا الوادي يكاد يكون قدر الأنملة أو يزيد، ويعلم هذا كل من وصل إلى هناك من أهل البلاد والسائحين والمارين، والوادي: هو الطريق بين جبلين.
فالنملة رأت الجيش اللجب الكثير المتراص من الجن والإنس والطير، فإذا بها تصيح في بقية النمل: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل:18] كي لا يسحقكم سليمان بأقدامه مع جنده ((وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)) لصغر النمل وحقارته، وكثرة الجيش.
وكان من خصائص سليمان إدراكه قول النمل وفهمه له، وقيل: إن الله سخّر لسليمان الريح، فتارة تحمله وجنده على بسط يتنقل بها حيث شاء من أرض الله، وتارة تحمل له الريح ما يقوله عنه الجن والإنس والدواب والطير، وكان مما حملته الريح إليه كلام هذه النملة، فسمع ذلك سليمان.
قال تعالى عنها: ((لا يَحْطِمَنَّكُمْ)) أي: لا يسحقنكم ولا يدوسنكم، فتذهبون تكسيراً وتحطيماً بين أرجله وجيوشه ((وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)) أي: حال كونهم لا يشعرون بما جرى لكم ولم قالت كذلك؟ لقد علمت أن سليمان نبي من أنبياء الله لا يظلم، وأنه إن حدث شيء من ذلك يحدث بغير علم منه وبغير شعور منه، ولو أدرك ذلك وشعر به لحرّمه ومنعه وعاقب عليه، ولكن هذه النملة كبقية النمل والدواب والطير أيام سليمان، علمت بأن ذلك لن يكون؛ لأن سليمان نبي عادل، ولا يليق بأنبياء الله ورسله إلا العدل، ولذلك لم تتصور أن يسحقها ويسحق النمل إلا إذا كان ذلك بغير شعور منه ومن جنده.(133/2)
تفسير قوله تعالى: (فتبسم ضاحكاً من قولها)
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19].
قال تعالى: ((فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا)) أي: سمع كلامها وصوتها فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا، وكان ضحك الأنبياء التبسم، وهكذا نبينا صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ورواه غيرها من الصحابة رضي الله عنهم، فقد كان عليه الصلاة والسلام جل ضحكه التبسّم، ولا تُرى لهوات لسانه، فإذا تبسّم لا يكون ذلك إلى أن تفتر شفتاه وتظهر صلى الله عليه وسلم.
وهكذا قص الله عن سليمان، وذلك يدل على أنه من أدب الأنبياء ومن أدب المرسلين أنهم إذا ضحكوا تبسّموا، ولا يصل ذلك إلى القهقهة وظهور النواجذ، وقد كان هذا في الحياة المحمدية النبوية يُعد على الأصابع، حيث تبسّم حتى ظهرت نواجذه صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل:19] عجباً من جانب وشكراً لله من جانب آخر على ما أولاه من نعمه وإفضاله وخصّه به من إكرامه.
وذهب يشكر الله، قال تعالى: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19].
قوله تعالى: (أوزعني) أي: ألهمني شكرك وألهمني حمدك، وألهمني الاعتراف بإفضالك والحمد على كل إحسانك.
{أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19] أي: أكرمتني بها من الإيمان بك ومن النبوة التي أكرمتني بها والرسالة، وأنعمت بمثل ذلك على والديَّ من قبل بأن جعلتهما مسلمين مؤمنين، وجعلت أبي داود نبياً ورسولاً، وأكرمته بما أكرمته به من النبوة والملك كذلك، وأشكرك على ما ألهمتني إياه من فهم لغات الطير ولغات الهوام ولغات الحيوان، وما سخّرت لي من الجن والإنس ما لم تسخّر مثله لأحد قبلي، فهو يشكر نعمة الله عليه وعلى أبيه وأمه.
قال تعالى: ((وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)) أي: ووفقني للعمل الصالح الذي يُرضيك من طاعتك والدعوة إليك والقتال في سبيلك، وإجبار أعدائك الكافرين على توحيدك والإيمان بك، وإذلال الكافرين وسحق المنافقين.
ولا بد من الرضا عن العمل، وإلا فقد يفعل الإنسان ما يظنه صالحاً في وهمه وهو باطل وضلال، فلا بد من أن يكون هذا الصلاح مما يُرضي الله جل جلاله لا ما يُرضي من يُسمون بالفلاسفة وبالمفكّرين وهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
ثم قال تعالى عن سليمان: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] اجعلني من جملة الصالحين من عبادك برحمة منك لا بشيء أستحقه ولا بعمل عملته، فأنا وعملي منك وإليك يا ربي وخالقي، خلقتني وألهمتني العمل الصالح، وجعلتني من عبادك الصالحين وابن نبيك داود، وأكرمتني كذلك بالرسالة والملك، فاجعلني من جملة عبادك الصالحين، وأدخلني في جملتهم واذكرني بينهم، واجعلني ممن صلح في دينه وصلح في عمله وصلُح في طاعته وقد استجاب الله له كل ذلك، كيف وهو نبيه المعظّم ورسوله المكرم؟! فعندما اختاره للنبوة والرسالة استجاب دعوته وزاده من أنواع النعم والإفضال ما لم يصنع مثله إلا مع مثله من الأنبياء والمرسلين.(133/3)
تفسير قوله تعالى: (وتفقد الطير)
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20].
قال تعالى: ((وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ)).
يقال: تفقد فلان كذا، أي: بحث عنه حين شعر بأنه مفقود غير موجود، وتفقّد فلان عمله: ذهب ليرى العمل هل يسير كما هو مطلوب، وهل العاملون يعملون كما خطط لهم.
قال تعالى: ((وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ)) تفقّد سليمان الطير، وما سبب تفقُّد الطير وهو بين جنده في سياحته وفي تنقله؟! قيل: كان سليمان إذا خرج سائراً ماشياً على الأرض تظلله الطير بأجنحتها من حر الشمس، وتحرّك أجنحتها لتخفف عنه حرها وأذاها، وكان إذا نزل نزلت معه وانتظرت أمره، فكان إذا نزل في الصحاري والقفار يبحث أول شيء عن الماء، وكان الهدهد من خصائصه أنه يرى الماء في تخوم الأرض كما نرى نحن الماء في الزجاجة، فقد أعطاه الله من قوة البصر ما يشق به الأرض نظراً إلى تخومها فيرى المياه في أعماق الأرض، فيشير على سليمان أن: انزل هنا، فهنا الماء.
فيأمر الجن بحفر الأرض مهما كانت المياه بعيدة.
وفي ذلك اليوم احتاج إلى الماء فبحث عن الهدهد فلم يجده.
قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20] ولم يقل تعالى: وتفقد الهدهد، وذلك أنه كان على الطير كذلك وازع ونقيب مسئول ومكلّف، قالوا: وكان وازعها والمكلّف بها هو الصقر، والصقر قوي البصر كذلك، يعلو إلى أجواء الفضاء بحيث تصبح الأرض بين عينيه كالصحن بين يدي الآكل والشارب، فالصقور كانت تحرس الطيور في طيرانها وذهابها وإيابها، فتأمر من يتقدم ومن يتأخر.
فتفقد سليمان الطير فسأل عن الصقر فحضر، وسأل عن الهدهد فلم يحضر {فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20] والهدهد طائر معروف موجود في كل مكان لطيف المنظر ذو عرف من شعيرات مرتفع القدمين والرجلين ذو عينين حادتين تظهر حدتهما من قرب لمن يراه.
وقوله: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل:20] يقال في اللغة: مالي لا أرى فلاناً، أي: ما باله لا يرى.
وقوله: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20] أي: أم كان غائباً فلم يحضر.
وعدم حضوره وسليمان وجنده بحاجة إلى الماء يُعتبر جريمة يستحق المخالف عليها كل عذاب وكل عقاب وكل محنة؛ لأن هذا الجند على كثرته معرض للعطش ومعرض للعطب، والعطش في الصحاري -خاصة في الأيام الحارة الشديدة- يُسرع بالموت إلى العطاش الذين تجف حلوقهم من الريق، فقد يصبر الإنسان على الطعام أياماً ولا يصبر على الماء إذا اشتد الحر.(133/4)
تفسير قوله تعالى: (لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه)
ولما لم يجب الهدهد بحضوره علم سليمان أن الهدهد غائب ليس بحاضر، فأخذ ينذر ويتوعد ويقول: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21].
تهدد هذا الهدهد لغيبته بأنه سيعذبه، وأقسم على ذلك، ودليل القسم اللام الموطئة للقسم مع نون التوكيد الثقيلة {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل:21] أي: أشد الذبح وآلمه ((أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)) أو يأتي بدليل يدل على أن غيابه كان لمصلحة الجيش ولمصلحة سليمان.
قالوا: والعذاب الذي تهدده به هو أن ينتف ريشه ويتركه للنمل حتى يموت، وقيل غير ذلك، وعلى كل فهو عذاب يليق بالهدهد.
وذبحه أن يفقده الحياة، والهدهد لا يُذبح، فقد روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه فيما أخرجه الإمام أحمد في المسند وأبو داود في السنن وابن ماجة في السنن (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد)، والصرد هو ذلك الذي يصيح صيحة مسترسلة متتابعة.
وفي رواية أيضاً (وعن قتل الضفدع)، فلا تقتل الضفادع، ولا يُقتل الصُرد ولا النملة ولا النحلة، نهى صلى الله عليه وسلم عن كل ذلك.
فسليمان كان يريد تعذيب الهدهد وقتله عقوبة لغيبته عنه دون إذن مسبق إن كانت غيبته فراراً من المسئولية، وقد أُمر بأن يكون معه لخدمة الجيش في شيء هام جداً، وهو الماء، فلم يكن سليمان يحمل ماءً، وما عسى أن يكفيه من الماء لمئات آلاف من الجن والإنس.(133/5)
تفسير قوله تعالى: (فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به)
قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22].
قوله: ((فَمَكَثَ)) قرئ في السبع: ((مكُثَ))، أي: أقام مدة قصيرة.
قوله تعالى: ((فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ)) أي: جاء إلى نبي الله سليمان متعالياً عليه على صغره وحقارته يقول له: ((أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ)) أي: جئتك بعلم لا تعلمه أحطت بحذافيره، وعلمت ما يجمعه ويُحيط بقصته بداية.
والإحاطة: العلم بالشيء من جميع جوانبه.
فجاء وهو يقول: قد أحطت بعلم ما سأقوله لك إحاطة كاملة، بحيث جعلت من العلم حوائط تُحيط بما سأقوله لك.
قوله: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:23] لست متردداً فيه ولا شاكاً فيه.
وسبأ في أرض اليمن، وهي قبيلة من قبائل العرب تنتسب إلى قحطان، سكنت اليمن في أرض مأرب على مقربة من مدينة صنعاء، ولا تزال تلك الأرض تسمى إلى الآن بمأرب، وسد مأرب الذي ذُكر في القرآن الكريم لا تزال آثاره في اليمن قائمة إلى اليوم، وهو من دقة الصنعة ومن بديع العمل.(133/6)
تفسير قوله تعالى: (إني وجدت امرأة تملكهم)
ثم انطلق يتكلم فقال: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23].
قال: وجدت في سبأ امرأة تملكهم، أي: ملكة عليهم تحكمهم وتصدر أوامرها ونواهيها فيهم، لها من كل شيء مما يحتاجه الملوك، أي: لست وحدك -يا سليمان- ملكاً عندك من أدوات الملك ما تحتاج إليه، فهذه المرأة وجدتها كذلك، فعندها جميع أدوات الملك من قصور ورفاهية وجند وسلاح وقوة وحضارة.
((وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)) وهو الكرسي الذي تجلس عليه، وقد قيل: طوله كذا وكذا، وعرضه كذا وكذا، وهذه التفاصيل تحتاج إلى نقل، ولكن ذكر الله جل جلاله وصف الهدهد العرش بذلك يدل على أنه كان عظيماً، قالوا: كان ذهباً خالصاً مرصّعاً بأنواع الياقوت والجواهر واللآلئ والحجارة الكريمة مما لا ثمن له، وكان طوله ثمانين ذراعاً وعرضه تسعين ذراعاً.(133/7)
تفسير قوله تعالى: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله)
فقال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل:24 - 25].
قوله: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} [النمل:24] فأتى بهذا الخبر المفجع المثير لسليمان نبي الله الداعي إلى التوحيد، فقال: وجدت هذه المرأة مشركة وثنية تسجد للشمس من دون الله، وتعبد الشمس كما يعبدها قومها، فهي وقومها يعبدون الشمس من دون الله، ويفردون الشمس بالعبادة، ويفردون الشمس بالطاعة، ويفردون الشمس بالتأليه.
قال: ((وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ)) فهؤلاء يظنون أنهم على خير، وأنهم على عمل صالح، فالشيطان وسوس لهم في خواطرهم بعبادتهم للشمس من دون الله، فهم يتيهون بذلك، ويتفاخرون بذلك، وينشرون ذلك ويذيعونه، ويبنون معابد لعبادة الشمس.
قال تعالى: ((وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)) أي: زيّن لهم الشيطان عبادتهم للشمس ووثنيتهم وكفرهم وجحودهم، فكان بذلك قد صدّهم عن السبيل، أي: عن السبيل المستقيم وعن الحق اليقين، وعن الواحد المعبود الحق جل جلاله.
قوله: {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} [النمل:24 - 25] فهؤلاء لا يهتدون فلا يجدون الهداية، ولا يجدون النور، ولا يجدون المعرفة ليتركوا عبادة الشمس وعبادة الوثن وعبادة الصنم وعبادة المخلوق من دون الله.
{فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا} [النمل:24 - 25] أي: كي لا يسجدوا لله، فصدّهم لكي لا يسجدوا لله ولكي لا يوحدوه، وذكروا هنا تلاوة، وهي: ((أَلَّا يَا سْجُدُوا)) فجعلوا (يا) ياء النداء، والمنادى محذوف، و (اسجدوا) فعل أمر، وهذا تكلُّف، وقدّروا القول: {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24]، ((أَلَّا)) يا هؤلاء اسجدوا لله، فيا هؤلاء، أو: يا قومنا، أو: يا سُكان مأرب، أو: يا أهل سبأ! ما الذي صدّكم عن عبادة الله؟ ألا فاسجدوا لله.
ولا حاجة لهذا الكلف في التلاوة، والتلاوة لا تكون إلا بما ورد تواتراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست هذه التلاوة كذلك.
والمعنى: فزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّوا بذلك عن الطريق الحق ودفعوا عنه وأبعدوا عنه كي لا يهتدوا إلى عبادة الله والسجود لله.
قال تعالى: ((الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: الذي يُخرج الغائب غير المنظور في السماء الذي لا يعلمه إلا هو جل جلاله، وكذلك ما غاب في الأرض من أعمال العباد، ومن كل ما اختبأ واختفى عن أعين الناس مما لا يعمله إلا الله، فلا يعلم الغيب في السماء والأرض إلا الله {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27].
قال تعالى: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل:25].
فهو يعلم جل جلاله ما نُخفي في أنفسنا وما نكتم في ضمائرنا، وما نعلنه كذلك قولاً وعملاً وكتابة وإشارة، فكل المعلن وكل المخفي لا يعلمه إلا الله.
فقوم سبأ بدلاً من أن يعبدوا الله العالم بكل شيء والمنفرد بعلم الغيب وبما تكنه الضمائر عبدوا خلقاً من خلقه، وهو الشمس، فقد استعظموا كبرها فذهبوا يعبدونها.(133/8)
تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم)
ثم قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:26].
فهو رب العرش الذي لا يقاس به عرش هذه المرأة، كل هذا من قول الهدهد، وكان الهدهد داعياً، وكان الهدهد جندياً مؤمناً، فقد قام بما لم يكلّف به وهو من جند سليمان، فدعا بما كان يدعو إليه سليمان من عبادة الله وتوحيده، ومكافحة الشرك وأهله، فجاء يكشف حال هؤلاء لنبي الله الملك سليمان.
قال تعالى: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) أي: الذي لا ثاني له ولا إله معبود معه بحق، ولكن الله وحده هو المعبود، وهو الخالق والمحيي والمميت.
قال تعالى: ((هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)) دعك من عرش هذه المرأة، فهو عرش مصنوع ومخلوق، ومهما يكن فهو من مواد أرضية خلقها الله، فأين يكون من عرش الله المحيط بالسماوات والأرض؟! فالكرسي فقط قال لنا عنه نبي الله صلى الله عليه وسلم: (إن السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة له كسبعة دراهم ألقيت في ترس والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة).
فلما قال الهدهد ذلك كان سليمان قد أنصت للهدهد وأعطاه أُذنه وأعطاه سمعه إلى أن وعى عنه كل ما قال من خبر عن هذه المرأة.
وهذه المرأة قيل: هي بلقيس بنت شراحيل، وهي قحطانية من سبأ، وكان أبوها ملكاً من الملوك العظام في أرض اليمن، ولم يخلّف سواها، وزعموا أن أمها جنية، وأن قدميها كانتا أشبه بقدمي الدابة، وهذا زعم لم يؤكده شيء من إجماع الصحابة ولا حديث نبوي، وهو أشبه ما يكون بما يروى في الإسرائيليات عن كعب الأحبار وعن نوف البكالي وعن وهب بن منبه وغيرهم من الذين أسلموا عن يهودية سابقة وحملوا بعض إسرائيلياتهم ورووها وأذاعوها ونقلوها، ودخل الكثير منها في الكتب، وهي مع ذلك مقطوعة الجذور لا سند لها ولا صحة.
فهذه المرأة قيل: اسمها بلقيس، وهي مشهورة في التاريخ به، وذكرها القرآن، وكفاها ذاك شرفاً، وقد كانت على غاية ما يكون من الدهاء والحكم والإتقان في إدارة الدولة وفي تسييرها على كثرة رجالها وكثرة أتباعها.
قالوا: كان لها من الأقيال والأمراء والحكام ما عد بعشرات الآلاف، ولا شك في أن في ذلك مبالغة، ولكنها كانت عظيمة الشأن كبيرة السلطان، ولعل بعض ما كان عندها لم يصل إليه الناس إلى يومنا هذا، كانت إذا أمرت ارتعدت الفرائس منها، وإذا نهت ارتعدت الفرائس منها، وسيقص الله علينا بعض محاورتها لجندها وأقيالها وكبار موظفيها.(133/9)
تفسير قوله تعالى: (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين)
قال تعالى عن سليمان: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27].
فالهدهد نطق، ويحتمل قوله الكذب والصدق، ولكن سليمان سيحقق في قوله وسيبعث من يؤكد له ذلك أو ينفيه ليحق على الهدهد العذاب أو ليستحق المكافأة والجزاء إن كان صادقاً.
((قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ)) والسين للمستقبل القريب، و (سوف) للمستقبل البعيد، فقال سليمان: ((سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ)) أي: هل كنت صادقاً في خبرك فلم تبالغ ولم تقل ما ليس بواقع، أم كنت من الكاذبين، فسنرى إن كنت صادقاً أم كاذباً بعد فترة طالت أو قصرت.(133/10)
تفسير سورة النمل [28 - 33]
لقد جاء الهدهد إلى سيدنا سليمان عليه السلام بخبر يقين عن مملكة سبأ، وأنهم يعبدون الشمس من دون الله، فأرسله بكتابه إلى ملكتهم ودعاها وقومها أن يأتوه مسلمين، فاستشارت الأقيال والأعيان فأظهروا لها أنهم مستعدون لحربه والأمر ما تأمر به.(134/1)
تفسير قوله تعالى: (اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم)
قال تعالى: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:28].
نادى سليمان أحد كتبته وأملى عليه سطرين أو ثلاثة، ثم أعطى الكتاب للهدهد وقال له: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} [النمل:28]، أي: ارمه إلى هؤلاء القوم الذين ذكرت، فأعطه لملكتهم التي تحكمهم وتملكهم.
{ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} [النمل:28] أي: ابتعد قليلاً {فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:28] أي: اسمع قولهم في هذا الكتاب، فما هو جوابهم وبم يعلقون عليه، وكيف سيستقبلونه، فهل سيستقبلونه مطيعين مستسلمين، أم عصاة مخالفين، كل ذلك أجبني عنه، وإنه لغريب في الدنيا أن يكون الهدهد سفير ملك إلى ملك، وسفير دولة إلى دولة، ولكن هذا من معجزات الأنبياء ومن خصائص سليمان، ومما خصه الله به من تسخير الدواب والجن والإنس والرياح، فهذا من عجائب قدرة الله، ولا عجب في قدرة الله التي أعطاها لسليمان.
وقد كان سليمان أعظم سلطاناً، وأدوم ملكاً وأوسعه، وكان داود أكثر عبادة، وكان كل منهما رسولاً كريماً على الله جل جلاله.
فذهب الهدهد بالكتاب يصل الوقت بالوقت إلى أن أصبح على رمية حجر من الغرفة الخاصة بـ بلقيس، وكانت مستلقية على قفاها منفردة بنفسها في خلوتها، فرمى بالرسالة كما أمره سليمان، على صدرها، ثم رجع إلى النافذة ينتظر ما ستفعله ليبلغ مولاه الملك النبي سليمان عليه السلام.
قال تعالى: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} [النمل:28] إلقاء، ولم يسلمه؛ إذ قد يقبض على الهدهد، ويعتبر طائراً غريباً، ويسجن في قفص، فلو سجن لمات، ولما احتمل القيد بعد الحرية.
قال تعالى: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:28].(134/2)
تفسير قوله تعالى: (قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم)
وتأخذ بلقيس الكتاب، وتتعجب من الرسول، ومن حمله للرسالة، وتتعجب من كون الكتاب من سليمان، وكان اسم سليمان قد طبق الشرق والغرب في عجائبه وفي غرائبه وفي تنوع جيشه، وفي تسخير الهواء له، وفي تسخير الطير له والدواب والجن، فكيف ستجيب هذا الملك العظيم الذي يقول: إنه نبي؟! فدهشت وذهلت.
ونادت قومها، ودعت من يدعو الملأ، والملأ: أشراف القوم وقادتهم ورؤساؤهم، فاجتمعوا، وإذا بها تخبرهم بما حدث، {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:29 - 31].
رسالة في سطرين، ولكن لدهشتها وذهولها وصفت الكتاب بأنه كريم، وما وجه كرامته؟! وما وجه شرفه؟!
و
الجواب
كونه من سليمان، فسليمان كلمها وكتب إليها، وإن كان أمرها بأن تأتي مستسلمة، وإلا فسيفتك بها وبجندها وببلادها، ومن الذي يستطيع أن يحارب سليمان ليحارب الجن والإنس والدواب والطير، وهو مع ملكه نبي لله ورسول من الله إلى الخلق؟! {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29] أي: وصلني كتاب ألقي إلي إلقاءً وما أخبرتهم بالهدهد، ولو فعلت لتلقوا الخبر بالاستغراب والتبسم، ولرأوا أن الأمر ليس بجد، وإنما هو إلى المزاح أقرب، ولكن دخلت في الموضوع من أول مرة؛ لأن الكتاب بيدها، فقالت: ((يَا أَيُّهَا المَلَأُ)) يا أيها الأشراف، يا أيها السادة، يا قوم، يا كبار عشيرتي وكبار دولتي: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29].
وهي بذلك تلفت أنظارهم، فكل واحد سيفكر قائلاً: من أين جاء الكتاب؟ وما النتيجة من هذا الكتاب؟ وما الذي أزعج الملكة؟ ولا شك في أنها كانت تكلمهم وتخبرهم بهذا الخبر وهي على غاية ما يكون من الانزعاج والقلق، مهددة في ملكها، ومهددة في سلطانها ممن لا تستطيع أن تقاتله ولا تحاربه ولا تقابل قوته بقوتها مهما كانت قوية.(134/3)
معنى قوله تعالى: (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم)
قال تعالى: {قَالَتْ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29] ممن؟ {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} [النمل:30].
قال جمهور المفسرين: إن سليمان كتب: (من سليمان إلى ملكة سبأ: بسم الله الرحمن الرحيم)، والأولى أن يقال: بسم الله الرحمن الرحيم، من سليمان إلى بلقيس ملكة سبأ.
أما أن يقال: (من سليمان إلى ملكة سبأ: بسم الله الرحمن الرحيم) فليس هذا شأن الرسائل النبوية، ولا كانت رسائل الخلفاء الراشدين على هذه الطريقة، ولا كان ذلك معروفاً من المراسلة بين كبار القوم صحابة وتابعين.
والذي يظهر أنها أخبرتهم بعد أن وصفت الكتاب وشرفته فقالت: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} [النمل:29 - 30] تخبرهم وتقول لهم: هذا الكتاب كريم؛ لأنه من سليمان، فهو الذي كتب إلي، وهو الذي تحدث إلي، وهو الذي قال ما سأمليه عليكم بالنص، فنصه: (بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين).
أمرهم أن لا يعلوا عليه، وألا يتكبروا، وأن لا يتجبروا، وأن يأتوه مستسلمين خاضعين، لا مسلمين بمعنى الإسلام، ولكن أمرهم بأن يأتوه ليحقق معهم، وليعلم قصتهم، إذ كيف يمكن أن يوجد قريباً منه من يعبد الشمس من دون الله، ويدعوا لها قومه، ويدعوا لها الناس، وهو نبي الله بين ظهرانيهم، أيجوز له أن يقرهم على ذلك، وأن يقبل ذلك منهم؟! كلا.(134/4)
أهمية الاستفتاح بالبسملة
قال تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30].
فالبسملة الكريمة التي عرفت في شريعتنا سبق أن استعملها سليمان الملك نبي الله ابن داود الملك نبي الله.
وهذه البسملة في القرآن الكريم ليست محلاً للريب ولا الشك، فهي البسملة المؤكدة، وما عداها في أول السور ابتداءً من الفاتحة إلى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ففيها خلاف، فالجمهور على أن تلك البسملات للتيمن، وللتبرك، ولافتتاح تلاوة كلام الله وذكره ووحيه، وفي الحديث النبوي الصحيح: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر)، وفي رواية: (أقطع)، وفي رواية: (أجذم)، والمعنى واحد.
فكل كلام، وكل خطبة، وكل رسالة، وكل محاورة، وكل درس لا يبتدأ فيه بذكر الله و (بسم الله الرحمن الرحيم) أبتر ناقص، ممحوق البركة، لا يكون كاملاً، فإذا قال المرء: (باسم الله) أي: أتيمن بذكر اسم الله جل جلاله، وأستعين باسمه وبعونه وبإرادته على أن أتم قولي، وأتم كلامي، وأتم دروسي، وأتم تفكيري، فإنه يوشك لأجل هذا أن يستجيب الله له، وأن يمكنه من تحقيق رغبته وأمنيته، وأن يكون عمله مباركاً ناجزاً تاماً، فهذا من بركة (بسم الله الرحمن الرحيم).
ولذلك كانت الرسائل المحمدية النبوية التي كان يرسل بها كبار أمراء وسفراء وضباط وقادة جيوشه، كلها كان يبتدئها بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، كتبت لمسلمين أو كتبت لكافرين.
والفرق بين الرسائل المرسلة للمؤمنين والرسائل المرسلة للكافرين أن الرسائل المرسلة للمسلمين تبتدئ بـ (السلام عليكم)، والمرسلة للكافرين يكون القول فيها: (السلام على من اتبع الهدى)؛ لأنه لا سلام على وثني مشرك، أو كافر، ومن باب أولى على اليهود ألعن خلق الله على الإطلاق، فلا يقال لهم: (السلام عليكم) بحال، فمن فعل ذلك كان جاهلاً جهلاً مركباً ومؤدياً ما لا يليق لكافر، وما لا يصح إلا لمسلم، فضلاً عن أن يكون ذلك لأذل الخلق وأشدهم لعنة وغضباً، إخوان القردة والخنازير وعبدة الطاغوت.
فالبدء بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، كان شأن رسائل الخلفاء الراشدين، وهكذا كانت رسائل من بعدهم من التابعين والصالحين، وهكذا الكتب، وهكذا المؤلفات، وهكذا المجالس، كلها تبتدأ بـ (باسم الله)، أولاً اقتداءً بما ورد في القرآن عندما ذكر الله لنا رسالة سليمان دون اعتراض، وأي اعتراض على (بسم الله الرحمن الرحيم) والنبي عليه الصلاة والسلام قد اتبع ذلك؟! فما ترك رسالة من رسائله إلا وافتتحها بـ (بسم الله الرحمن الرحيم).
وفي عصرنا هذا عصر الفجور والنفاق والخلاعة وما إلى ذلك من أنواع الفسق والفجور، أخذ الناس يبتعدون عن أن يبتدءوا المجالس باسم الله، أو الكتب باسم الله، ويعدون ذلك من المخلفات، ومن الرجعيات، ليمحق الله تعالى عملهم، ويزيل عنه البركة، واليُمن، والتمام، فيبقى العمل أشبه بالتبن، فلو أكل الإنسان التبن لكاد أن يغص به، والمرء بذلك يبتعد عن آداب القرآن، والآداب النبوية، وآداب السلف الصالح.
قال تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] أي: إن الشأن -يا بلقيس - أن أبتدئ قولي وعملي وكتابي إليك بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) الخالق، الذي لا أول له، ولا آخر له، ولا معبود معه.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] فهو الرحمن يرحم من تاب إليه واستغفر من ذنوبه وخرج من الشرك إلى الإيمان، الرحيم بعباده، حيث يقبل التوبة من كل من تاب.
ثم دخل في الموضوع فقال: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} [النمل:31] فلا تتعاظموا ولا تتكبروا، {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:31]، فلا تقولي: إني ملكة، وإن لي دولة، وإن لي شأناً، فكيف أستجيب لملك بمجرد كونه دعاني؟! لا تفعلوا ذلك، {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:31].(134/5)
تفسير قوله تعالى: (قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري)
فوضعت الكتاب ثم التفتت إليهم بعد أن أخبرتهم بالكتاب، فقالت لهم: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32].
فهذا الكتاب قد سمعتموه يا قوم سبأ، ويا أهل مأرب، فأنا أعرض الأمر مرة ثانية عليكم، فماذا ترون؟ وما هو الرأي في الجواب وفي العمل؟ {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} [النمل:32]، فاذكروا لي فتواكم، ومشورتكم، ورأيكم في هذا الأمر الذي ابتليت به، وكاتبني فيه سليمان القوي بملكه، والقوي بجنده، والقوي بنبوءته ورسالته.
{مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32]، فما كان ينبغي لي وأنتم رعيتي وأعيان دولتي ووزرائي ومستشاري أن أقطع أمراً، وأبت في أمر، وأنهي أمراً، ويصدر عني ما لم تحضروه وتشهدوه وتشيروا علي فيه، فاذكروا لي آراءكم لأستعين بها، ولم كل ذلك؟! لأن شأن الملوك إذا دخلوا قرية حاكمين قاهرين أن يفسدوا فيها، ولذا قال تعالى عنها: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34]، فلو جاءني سليمان وأخذ ملكي وأرضي، فالبلاء لا يخصني، بل سيعم الدولة برجالاتها وكبار موظفيها وكبار مستشاريها، ولذلك أجيبوني بما يمكن أن تجيبوا به أنفسكم، فلو تمت الغلبة وتم القهر وأخذ سليمان الدولة سيكون بلاؤه وإذلاله وسحقه للملكة وأعوانها من وزراء ومستشارين.
قال تعالى: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34]، فلن أقطع أمراً، ولن أبت فيه إلا بعد حضوركم وشهودكم، وأخذ آرائكم.(134/6)
تفسير قوله تعالى: (قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك)
وإذا بهم يجيبونها جواب التابع للمتبوع، وجواب الرعية للراعي {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:33].
فتكلموا بكلام المتأدب مع رئيسه وسلطانه، ومن إليه الأمر والنهي، {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ} [النمل:33] فابتدءوا كلامهم بأنهم مستعدون لو طلبت منهم المقاومة، وطلب منهم الحرب والقتال، فقالوا: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ} [النمل:33] فأعدادنا متوافرة، نعد بعشرات الآلاف، بل ذكروا أنهم كانوا مئات الآلاف، {وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} [النمل:33]، ولنا قوة من مجانيق وسيوف ونبال وحراب وخيل وأنواع آلات القتال الموجودة آنذاك بما نستطيع به الحرب والقتال والمقاومة لكل من حاول أن يدخل أرضنا، ويحارب قومنا، ويذل ملكتنا، ويستذل سكاننا، فنحن أولو قوة شديدة وسلطان قوي.
(والأمر إليك) فنحن قد أخبرناك أننا على استعداد، وأنت الآمرة، وأنت الناهية، وأنت الملكة.
{فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:33]، فمرينا بما رأيت، فإن أمرت بالحرب فنحن أولو قوة وأولو بأس شديد، وإن أمرت بالسلام فالأمر إليك ولن نخالفك في أمر.
وقد كانت تميل إلى المسالمة وترك الحرب والقتال، ولعلها حدثت نفسها -وهي امرأة على كل حال، ولم تكن متزوجة- بأن تضم مملكتها إلى مملكة سليمان، فتصبح الملكة الأولى في مملكة سليمان، وما يمنعها أن تتزوج، فعندما فكرت في ذلك مالت إلى المسالمة وعدم الحرب والقتال، وستجعل من نفسها الهدية الأولى لسليمان، وهذا ما لم تذكره هي، وهو ما سيحدث.
فبعد قولهم بأنهم أولو قوة وأولو بأس شديد، وأن الأمر لها فلتنظر ماذا تريد وبماذا تأمر، عادت فقالت قولاً يدل أنها لا تريد حرباً، قالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل:34] أي: إذا دخلوا فاتحين ودخلوا متملكين ودخلوا قاهرين.(134/7)
تفسير سورة النمل [34 - 44]
كانت بلقيس تميل إلى مسالمة سيدنا سليمان عليه السلام وترك حربه، فأرسلت إليه بهدية لتختبر مقصده هل هو الدنيا أم الدين، فرد عليها هديتها متوعداً، ثم أمر بعرشها أن يحضر إليه، فلما رأته بلقيس دهشت، فلما دخلت الصرح الممرد رأته فأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.(135/1)
تفسير قوله تعالى: (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها)
قال الله جل جلاله: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34].
لا نزال في محاورة بلقيس ملكة سبأ مع مستشاريها وقادتها ووزرائها وأقيال دولتها عندما أرسل لها سليمان عليه السلام رسالة مع الهدهد، يأمرها بأن تأتي وقومها صاغرة مستسلمة، أخبرتهم بذلك، ثم بعد ذلك قالت: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32]، فأجابوها {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:33].
تميل إلى المسالمة باعتبارها المسئولة الأولى عن مملكة سبأ، فعندما جاءتها رسالة سليمان كانت تسمع عن سليمان نبوءة ورسالة وملكاً عظيماً لم يسبق له نظير، فعرضت الأمر على كبار رجالها واستشارتهم، فتأدبوا معها وقالوا: إن شئت القتال فنحن ذوو قوة، وذوو عدد، وذوو بأس شديد، وذوو أسلحة وقوة وبطش، ولكن الأمر إليك، فما تأمريننا به صنعناه ونفذناه وامتثلنا له، فنبهتهم وهي لا تريد الحرب ولا تريد القتال فقالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل:34].
تقول لهؤلاء الذين أظهروا استعدادهم للحرب والقتال ومقاومة سليمان وجنده: ليس الأمر كما تظنون، فمن عادة الملوك أنهم إذا احتلوا أرضاً، أو استعمروا كياناً، يفسدون في الأرض، فالحرب من طبيعتها ذلك، فهم يخربون البلدة، ويهدمون القصور، يرملون النساء، وييتمون الأطفال، ويأخذون أموال البلدة التي يستولون عليها.
{وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل:34]، والأعزة: جمع عزيز، والأذلة: جمع ذليل، أي: حولوا السادة والأعزة والقادة والكبار في القرية والبلدة التي يدخلونها إلى أذلاء، فيجعلون عاليها سافلها، فيعزون الذليل ويذلون العزيز.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34].
قال بعض المفسرين: هذا قول الله جل جلاله، فما توقعته هو الذي سيكون، على أن سياق القصة لا يقتضي هذا، فهي لا تزال تحاور قادتها ويحاورونها، وتقول لهم ويقولون لها، والكلام قبلها والكلام بعدها هو من قولها وكلامها، ولذلك قالت بعد ذلك: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل:35].
فأرادت المصانعة وأرادت السياسة، فلم ترد حرباً ولا قتالاً، ولا هي قادرة على حرب سليمان ذي الطول والحول فيما ملكه الله إياه من جند من الجن ومن الإنس ومن الطير.
فجملة {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74] من قولها، ولو كانت من قول الله لتم الأمر، على أن سليمان لم يدخل إلى اليمن، ولم يحتل أرضها، ولم تجبره على ذلك، بل جاءت مستسلمة، موافقة على أمر سليمان لها بأن تأتي هي وقومها، فلم تبق حاجة هناك إلى احتلال بلدها، فقد وافقت واستسلمت، بل وآمنت وأسلمت، ولم تبق على عبادة الشمس كما جاء الهدهد يخبر ويعلن.(135/2)
تفسير قوله تعالى: (وإني مرسلة إليهم بهدية)
فكان جوابها: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35].
قالت لهم -لتستخبرهم وتستشيرهم، هل سيوافقون أو يعارضون- بأنها رأت أن ترسل هدية تليق بمقام سليمان ملكاً ونبياً، لتنظر بعد ذلك عندما يرجع مرسلوها ماذا سيقولون، فهل سيقبل سليمان الهدية أم لن يقبلها، فإن قبلها كان ذلك علامة الموافقة والمسالمة، وإن رفضها كان ذلك علامة الحرب.
قال تعالى عنها: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل:35] إلى سليمان وجنده {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]، بأي شيء سيعود رسلي الذين أرسلتهم بهذه الهدية إلى سليمان.
قالوا: وكانت الهدية من الشيء العظيم، الذي يليق بملكين كبيرين، وقد قال الله عنها فيما أخبر به الهدهد: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، وقال عنها: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23]، ويكفي أن يوصف عرشها في القرآن بالعظمة، وقد كان ذا مكانة عظيمة، كان ذهباً مرصعاً بالجواهر والزبرجد وأنواع اليواقيت، وأنواع اللآلئ، وكان مفروشاً بالحرير والديباج، وإذا نصبته ووقف جنودها بجانبه يمنة ويسرة تلقي الرعب والهلع والهيبة والاحترام بين رعاياها وأعدائها.
قالوا: فكانت الهدية التي أرسلت لسليمان كذا وكذا جارية، ومائة غلام، ومن أنواع الذهب والفضة والجواهر واللآلئ ما يعد ثمنه بمئات الملايين بتقديرنا في العصر الحاضر.(135/3)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال)
{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36].
قال تعالى عن سليمان عندما جاءته الهدية: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل:36]، فلما جاء الرسل سليمان بهذه الهدية الكبيرة العظيمة سخر منهم ومن هديتهم، وقال: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل:36] والمدد: العطاء والزيادة، أي: أتريدون أن تعطوني مالاً مع ما عندي من كثرته وتنوعه، ومع ما عندي من أدوات الملك.
هكذا كان حال سليمان، وإنما أمرها بالإتيان لتكرم من الله رب العالمين، ولتترك هي وقومها عبادة الشمس من دون الله، لا ليأخذ مالاً، على أنه لو أراد فهي ومملكتها وعرشها بين يديه، وهذا الذي سيحصل بلا حرب ولا قتال.
قال تعالى عنه: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل:36].
أي: ما أعطاني الله من أنواع الأموال، ومن أدوات الملك عظمة وقوة وسلطاناً لم يعط لكم منه إلا ما لا يكاد يذكر، فهو خير مما آتاكم، فأنا أعظم شأناً، وأقوى سلطاناً، وأكثر ملكاً لما يحتاج إليه ملوك الأرض.
مع ما وهبه الله من بسط الريح وتسخيرها ونقلها له شهراً في الغدو وشهراً في الرواح، وما سخر له من الجن والشياطين والدواب والطير بكل أنواعها.
وقد قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17]، فكان ذلك مما لم يخطر ببال ملك، ولا ببال إمبراطور، ولا ببال قيل من أقيال الأرض، فالهدية -مهما عظم شأنها في نظر بلقيس ملكة اليمن- لا تملأ عين سليمان، وهو عبد الله ورسوله المعصوم، الذي أخذ الملك لإعلاء كلمة الله، لا للتعالي به، ولا للتفاخر به، فهو أعظم من ذلك كثيراً.
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36]، فأنتم الذين تفرحون بهداياكم، قدمتموها أو قدمت لكم، فأنتم الذين تفرحون بالذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، والجواري والغلمان، سواء أقدمتم ذلك أم قدم لكم، أما أنا فلست كذلك على كثرة ما أعطاني الله وأكرمني به.(135/4)
تفسير قوله تعالى: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها)
{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37].
قال الله جل جلاله عن سليمان: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} [النمل:37] قال للمرسلين: ارجعوا إليهم، فارجعوا إلى ملكة سبأ وإلى قومها وأقيالها، وإنما جمع الضمير والحديث عن بلقيس لأن شأن الملوك والقادة والرؤساء أن يشركوا معهم مستشاريهم، فيكون عمل الملك وعمل الرئيس بما اتفقوا عليه وتبادلوا الرأي والمشورة فيه، فكان الكلام موجهاً لمن نفذ ولمن خطط وأشار.
قال تعالى: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37].
انتقل سليمان ليهدد وينذر ويتوعد توعد الملوك، وتوعد الأقوياء، وليهدد تهديد القادة ومن يقدرون على العقاب والبطش.
وقد كان سليمان وداود ملكين نبيين رسولين، فقال سليمان: ارجع إليهم بهديتك، فلا حاجة لي فيها، فليفرحوا هم بها، وليتيهوا بعددها، وأخبرهم أني سأرسل لهم جيشاً لا طاقة لهم به، وسأخرجهم، وأكد ذلك باللام الموطئة للقسم، وبنون التوكيد الثقيلة، أي: لأخرجنهم من بلدتهم، فهددت بنفس ما خافت منه وأنذرت به قومها، حيث قالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34].
فتوعدهم سليمان بجيشه القوي اللجب من الجن والإنس والطير والدواب، قائلاً: إذا لم تأت صاغرة مستسلمة خاضعة لأمري وسلطاني فسآتي بها مقهورة مجبرة ذليلة، وسأرسل لها جنداً لا طاقة لها بهم ولا بمقاومتهم، ولأخرجنها هي وقومها من أرضهم ودولتهم أذلة لا عزة لهم ولا سلطان ولا مال ولا جاه، فلن يأتوا راكبين الخيول المطهمة، ولا الإبل المرفهة، ولكن سيؤتى بهم في السلاسل، حفاة عراة، وهذا معنى قوله: (أذلة وهم صاغرون) أي: في ذل وهوان، لا يليق بالملوك عندما يكونون مالكين أمر أنفسهم.
وكان الرسل إليها هم رسلها إليه بتلك الهدية العظيمة عندها، فأرجعها لها وردها في وجهها، وبعث ينذرها مع هذا الوفد بأنه إن لم تأت سيبعث لها جيشاً يأتي بها وبقومها أذلاء صاغرين.(135/5)
تفسير قوله تعالى: (قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها)
ثم بدا لسليمان وفكر تفكيراً آخر يليق بالأنبياء لا بالملوك، ولكنه يقهر الملوك أكثر، ويذل الملوك أكثر، ويعلم الملوك أن ملوك الأنبياء والرسل لهم من القوة والسلطان ما ليس لملوك الأرض، مهما كانوا أكاسرة أو أباطرة، أو ملوكاً عظماء في الأرض، وإذا بسليمان يلتفت إلى كبار قادته: ((قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:38].
فأراد سليمان هذه المرة أن يأتي بذلك العرش العظيم، الذي طالما تاهت به، وتفاخرت به، وتعاظمت به، وجاء الهدهد يحكي من قصصه وغرائبه وذهبه وزبرجده وأنواع حجارته الكريمة ما لا يكاد يكون مثله عند أحد.
فقال: ((يَا أَيُّهَا المَلَأُ)) أيها الأشراف، أيها الأمراء والكبراء من دولتي ومن رعيتي ومن أتباعي: ((أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)) وقد توقع بما هددها به أنها لن تقاومه، ولا طاقة لها بمقاومته ومحاربته، وأنها آتية إليه لا محالة، قال المفسرون: وقد علم سليمان ذلك.
فعندما جاء الرسل فقالوا عن سليمان ما قالوا قررت المجيء إليه هي وكبار قومها، وأعظم ما كانت تخاف عليه هو عرشها، ففككته وجعلته في عدة غرف من القصر، وتركت عليه حرساً شديداً، وجعلت نائباً لها في إدارة المملكة، كشأن الملوك عندما يخرجون عن حدود دولتهم وأرضهم، فبلغ الخبر سليمان، فأراد أن يفاجئها بأن تجد عرشها قد سبقها إليه، فقال: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:38]، قبل أن يأتوني مستسلمين، خاضعين، أذلاء صاغرين.(135/6)
تفسير قوله تعالى: (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك)
فاستجاب له عفريت، قال تعالى: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل:39].
قوله تعالى: (قال عفريت): أي: شيطان مقتدر بوسائله، كشأن عفاريت الشياطين، {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39]، أي: في ثوان، فالإنسان إذا جلس وقام لا يستغرق قيامه من جلوسه الثواني فضلاً عن الدقائق.
{وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ} [النمل:39]، أي: ذو قدرة على أن آتيك به على ثقله وكثرة ذهبه، ثم إني أمين، فلن أخونك في جوهرة ولا زبرجدة ولا لؤلؤة ولا في أي شيء يتعلق به، فسآتيك به بين يديك، مع قوة، وأمانة كاملة في حليه وفي حلله وفي جميع ما عليه دون أن أخونك في شيء.(135/7)
تفسير قوله تعالى: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به)
{قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40].
فلم يكتف سليمان بذلك، بل أراد من يأتي به في زمن أقرب، وفي زمن أسرع من هذا الذي قاله العفريت، وإذا بآخر يجيب، كما قال تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40].
فما كاد ينتهي من الكلمة حتى أحضره بين يديه، ما كاد يأمر حتى أصبح العرش مستقراً بين يدي سليمان.
فقال سليمان شاكراً لله: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل:40].
وقد اختلف العلماء في هذا الذي عنده علم من الكتاب اختلافاً كثيراً، فقال الأكثر: إنه جني، وكان يعلم اسم الله الأعظم، وقال البعض: إنه إنسي، وهو كاتب سليمان الخاص، وذكروا له أسماء، وكل ذلك لا معنى له، والحكمة ليست في الأسماء، وتفاصيل القصة لا نجدها إلا في قصص بني إسرائيل وإسرائيلياتهم، والحق ما قاله الله، وما زاده بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاسم الهدهد، واسم النملة، واسم العفريت، كل ذلك زيادات ما أنزل الله بها من سلطان، ولا حاجة إلى هذه التفاصيل، ولذلك لم يذكرها الله، ولم يذكرها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد اختلفوا في المراد بالعلم في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل:40]، فقال الجمهور: هو اسم الله الأعظم.
وينبغي أن يعلم أن للتفسير أصولاً، وهي أن تفسر الآية بالآية أولاً، فإن لم توجد فبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يوجد فبما أجمع عليه الصحابة، فإذا لم يوجد فبما جاء في اللغة العربية المنزل بها الكتاب.
فكون ذلك العلم اسم الله الأعظم ليس له مستند، ولا يمكن الاعتماد عليه بغير دليل، والله سمى ذلك علماً فقال: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل:40]، فنسب إليه علماً، وهذا العلم مأخوذ من الكتب المنزلة على الأنبياء، فعلمها هذا الشخص.
والآية ليس فيها ذكر كونه عفريتاً أو إنساناً.
والعلم يعطاه المؤمن ويعطاه الكافر.
وقد قال الحاتمي: كل ما ذكر في القرآن من المعجزات لن تنتهي الدنيا حتى يصبح شيئاً عادياً، فلا يبقى معجزاً، وإنما هو معجز في وقته لمن أرسل إليهم.
فهذا العرش كان في مأرب في اليمن، وكان سليمان في بيت المقدس، والمسافة بين بيت المقدس وبين مأرب آلاف من الكيلو مترات.
ونحن نرى اليوم كفاراً وملاحدة استعملوا الصواريخ التي وصلت إلى أعلى الفضاء، والصاروخ يقطع في الثانية الواحدة الآلاف من الكيلو مترات، وهم لم يؤمنوا بالله يوماً، وبعضهم ملحد لا يؤمن برب ولا بنبي، والبعض يؤمن بعيسى ويؤمن بـ مريم، فهو مشرك بالله يعبد مع الله البشر والخلق والناس، ويعتقد الإلهية في الإنسان، ولا يعرف الله كما يعرفه المسلم، وهو أنه المنزه عن كل نقص، المتصف بكل كمال، القادر على كل شيء، فقد تصوروا ربهم قد تكيف في صورة رجل، ونزل إلى الأرض، وصلبه اليهود في زعمهم ليكفر عن سيئات خلقه، فكان ما يسمى عندهم بالصلب والفداء، حيث فداهم بما فعل بنفسه.
فزعم هذا اليهود واستمسكوا به، وزعمه النصارى واستمسكوا به، فكانوا جميعاً بين مغضوب عليه وضال، ومن هنا ركب الجنون اليهود، حيث قالوا: قدرنا على الرب والإله فصلبناه، وأذللنا النصارى، وما أذلوا إلا أنفسهم، فما النصارى إلا جزء من بني إسرائيل، فعيسى خاتم أنبياء بني إسرائيل، وهو لم يرسل إلا إلى بني إسرائيل.
فالله تعالى يقول عن ذلك الذي عنده علم من الكتاب: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40] الطرف: الأجفان، أي: قبل أن تحرك طرفك وتنظر أمامك أو خلفك أكون قد أحضرت العرش لك، وفعل هذا، فإذا به يجده بين يديه، قبل أن يرد الكلمة بعد.
فالإتيان بالعرش أو بشيء من صنعاء إلى بيت المقدس لا يعتبر اليوم معجزة ولا يعتبر شيئاً عظيماً، فكل ما ذكر في القرآن أنه معجزة لا تنتهي الأيام حتى يصبح شيئاً عادياً.
فهذا العلم قد يكون هو العلم الذي بين أيدينا من كتاب الله، وقد يكون علماً لدنياً كالعلم الذي أكرم الله به الخضر صاحب موسى، وكالعلم الذي أكرم الله به خاتم الأنبياء محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وكان سيد العلماء وإمام العارفين، علم ما لم يعلمه أحد في الخلق، ولا يعلم ما يعلمه هو إلا الله، وكل ذلك من علم الله، وكل ذلك من فضل الله.
ويبقى أن نقول: هذا علم لا نستطيع أن نقطع بأنه كان اسم الله الأعظم، على أن أقواماً قالوا أغرب من ذلك، قالوا: كان سليمان نفسه قد جاء إليه هذا الرجل وقال له: يا نبي الله! من أكرم منك؟! ومن أشرف منك؟! فإذاً أنت الذي تستطيع ذلك، فمد يديك واضرع إليه وقل: (يا رب) فسيستجيب لك.
فدعا فاستجاب الله له فجاء العرش، ولكن سياق الآية لا يدل على هذا بحال.
فعندما عرض ذلك العفريت على سليمان أن يأتي به قبل أن يقوم من مقامه، التفت إلى الحاضرين وقال: أريد زمناً أقرب من ذلك، وأسرع من ذلك، قال تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل:40]، فوصفه بأن عنده علم من الكتاب، ولا شك في أن هذا لا يكون إلا في كتاب من كتب الله، وفي وحي من وحي الله.(135/8)
معنى قوله تعالى: (فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي)
فذهب هذا الذي عنده علم من الكتاب ففتح تلك الغرف بمغالقها، وأعاد تركيب العرش قطعة قطعة، وأعاد إليه جواهره ولآلئه، إلى أن أتى به على شكله كما تجلس عليه بلقيس ووضعه بين يديه، وإذا بسليمان يريد أن يفاجئ بلقيس بما لا يخطر لها على بال، ويفاجئ قومها، فأمر الجن بأن يبنوا له قصراً من الزجاج تتخلله المياه، وأن تخلط المياه بأنواع الحيتان والأحياء البحرية، فأتموا ذلك خلال أيام، فقال: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل:40] فقام شاكراً لله على أنعمه، حامداً لله على ما أكرمه به، ثم قال: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40]، فنبي الله لا يطغيه جاه ولا مال، فقوله: (ليبلوني) أي: ليختبرني، وليفتنني، هل سأشكر النعم أم سأكفرها وأجحدها؟! وهذه القصة تلقى على أتباع النبي في أيامه عليه الصلاة والسلام، وعلى من بقي على كفره، فالله يصنع ما يشاء.
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أقدر من سليمان وأقوى من سليمان، وكانت مملكته ودولته تعم العالم كله.
أما سليمان فلم يكن إلا نبياً من أنبياء بني إسرائيل، ونبينا أرسل إلى الأبيض والأسود، وإلى العربي والعجمي، وبقيت رسالته إلى يوم القيامة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً لما وسعه إلا أن يتبعني)، ولم يكن هذا لسليمان.
وانتهت نبوءة سليمان بموته، كما انتهت نبوءات من مضى بموتهم، وأصبحوا أعلاماً في التاريخ، ولو لم يذكرهم الله في كتابه لما علمنا عنهم ولما قبلنا الكلام عنهم من بني إسرائيل، ولعددناهم كبقية قصص بني إسرائيل، ولكن الله كرمهم وذكرهم في كتابه الخاتم القرآن الكريم، فآمنا بهم، ولكن رسالاتهم ونبوءاتهم انتهت ونسخت، فلم تبق إلا الرسالة المحمدية، فختمت الرسالات السابقة والنبوءات السابقة ولم تأت بعدها نبوءة ولا رسالة قط، ومن زعم الإيمان بنبي جديد كان كاذباً كافراً، كما زعم ذلك كذبة قديماً وحديثاً، وآخر هؤلاء الكذبة الخبيث القادياني العميل الإنجليزي، المجرم الخائن المرتد هو وجميع أتباعه.
يقول تعالى عن سليمان: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل:40]، فالله غني عن الخلق وعن إيمانهم، كما في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
فسليمان يقول كما حكى جل وعلا ذلك عنه: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل:40]، أي: هو الذي أكرم نفسه، وهو الذي جدد شكره وحمده، وهو الذي عبد الله بشكره وحمده والثناء عليه، فالله تعالى هو كما أثنى على نفسه، لا نحصي ثناءً عليه جل جلاله.
قال تعالى عن سليمان: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، فمن كفر وجحد النعمة فالله غني عن شكره، وغني عن حمده، وغني عن ثنائه، فمن شكر فقد شكر لنفسه، وقدم الخير والثناء لنفسه، ومن كفر فإنما يكفر لنفسه، فهذا له الجنة، وذاك له النار واللعنة والخلود في جهنم.(135/9)
تفسير قوله تعالى: (قال نكروا لها عرشها)
ثم قال تعالى عن سليمان: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:41].
لقد أتي بالعرش، والأيام تمضي، وبلقيس آتية، وجندها معها، ونفسها تحدثها عما سيكون، ولا شك في أنه خطر ببالها الكثير، أما أن تجد عرشها قد سبقها فلن يخطر لها هذا على بال.
فقال سليمان: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل:41] أي: غيروه وبدلوه، وزيدوا فيه وانقصوا منه حتى يصبح كأنه ليس عرشها، فتستنكر شكله.
ففعلوا، فسودوا ما كان أخضر، وخضروا ما كان أسود، وحمروا ما كان أبيض، وبيضوا ما كان أحمر، ونقلوا الجواهر من جهة ووضعوها في جهة، وهكذا إلى أن أصبح عرشاً غير عرشها الذي يعرف.
قال تعالى عنه: {نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:41]، أي: هل تهتدي لهذا التنكير؟! وهل تنتبه لكون العرش عرشها، فأراد سليمان امتحانها كما يمتحن الأستاذ التلميذ، فنجحت وفهمت وأدركت وأجابت القوم بجواب حكيم، وكأنها شعرت به أنه عرشها، ثم أدركت أن عرشها ليس له نظير في الأرض، ولا عند سليمان، وكان الأمر كذلك.(135/10)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو)
{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل:42].
فجاءت بلقيس وقد نكر العرش وغير وبدل، فزيد فيه ونقص، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل:42].
فجاءت بلقيس، فأدخلوها المكان الذي فيه عرشها، فقيل لها: يا بلقيس! أهكذا عرشك؟! {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42]، ما استطاعت أن تقول: هو؛ لأن هذا لا يخطر لها ببال، فما الذي أخذه من هناك وأتى به بهذه السرعة؟! وما الذي فتح المغاليق والغرف؟! ومن الذي جمعه بعد أن تركته قطعاً صغيرة؟! وكيف أخذوه من الحرس وهم مسلحون أقوياء أشداء في حراسته ليلاً ونهاراً؟! ولكنها مع ذلك كانت تعرف ملك سليمان العظيم، فقد يكون هو، فقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42] فلم تقل: ليس هو، ولم تقل: إنه هو بالقطع.
فقال سليمان يشكر الله، ويعترف بإحسانه: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل:42] أي: أعطانا الله من العلم والمعرفة بالملك والحضارة وصنع العروش، وكنا مسلمين زيادة على العلم الذي سبقناها به، وكانت هي مشركة تعبد الشمس، فما الذي حدث لها؟ ولماذا لم تكن موحدة؟ قال تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43].
فالذي صدها عن التوحيد، وعن الإيمان بالله، وعن الإسلام أنها نشأت في قوم كفرة مشركين يعبدون الشمس ولا يعبدون الله، فكان ذلك الذي صدها ودفعها وأبعدها عن الإيمان، وأبعدها عن التوحيد، فظنت الناس جميعاً مشركين عبدة للشمس وللأوثان ولخلق الله دون الله.(135/11)
تفسير قوله تعالى: (قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة)
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44].
قال تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} [النمل:44]، وكان سليمان قد أعد لها قصراً مشيداً كله من زجاج، وأدخل فيه المياه تتخللها الحيتان ودواب البحر بأنواعها، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل:44] أرادت الدخول كما أمرت بذلك، وظنت أن سليمان يريد أن يقتلها بالماء غرقاً وهي أسيرة بين يديه يفعل بها ما شاء لو شاء، فلما رأت الصرح وأرادت المشي في ساحاته حسبته ماءً جارياً، ورأت بعينيها الحيتان والضفادع تقفز، فتقدمت وكشفت عن ساقيها حتى لا تبتل ثيابها، أو إذا ابتل ما تلبسه لا يزيد في نكبتها فتغرق لثقله، وجاءت بألبسة الملوك من الحرير والديباج والحلي، ولعلها ظنت أنها ستأسر سليمان بذلك، وستؤثر في سليمان بذلك.
فلما رأت الصرح -والصرح القصر- أعظم ما يكون، وأعلى ما يكون، وأوسع ما يكون؛ حسبته لجة، {وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل:44]، والساق هو ما تحت الركبة وهنا وجدنا طرائق للإسرائيليات للتلاعب بهذا النص، فقد زعم الكثير من المفسرين دون عودة إلى دليل من آية، أو حديث، أو إجماع من الصحابة أن أباها كان إنسياً، وأن أمها كانت جنية، قالوا: وكان أثر ذلك يظهر في ساقيها وفي قدميها، كانت قدماها أشبه بقدمي حمار، هكذا زعموا، وقالوا: لأن قدمي الشيطان وأقدام الجن هكذا، وكان على ساقيها من الشعر كما على رجلي الحمار كذلك، وأن سليمان عندما سمع عنها أراد الزواج بها، ولكن أزعجه أن تكون رجلاها كرجلي حمار، وأن يكون شعر ساقيها كشعر ساقي حمار، فاحتال فبنى هذا القصر فكشفت عن ساقيها فرأى الساقين.
وهذا لا يليق بنبي الله سليمان، ولكن اليهود لعنهم الله يشتمون أنبياءهم، فقالوا عن سليمان: إنه كفر، واتهموا لوطاً في عرضه مع بناته، واتهموا داود أبا سليمان بأنه رأى جارة له فأرسل زوجها للموت ليأخذ زوجته، وهذا مثبت في التوراة، ويزعمون أن الله أوحى به وأنزله، ونحن أكرم لأنبيائهم منهم، وأكثر احتراماً لأنبيائهم منهم، وأكثر إجلالاً لأنبيائهم منهم.
وقد تجاوز اليهود -لعنهم الله- ذلك إلى أن تكلموا عن الله جل جلاله بكلام كافر مشرك مرتد قذر، وبعض ذلك قد قصه القرآن، حيث قالوا عن الله جل جلاله: إنه فقير ونحن أغنياء، لعنهم الله وأخزاهم.
فسليمان عليه السلام تخيلوه ملكاً من غير الملوك الصالحين الأتقياء، بل من الفسقة، فكل ما فعله معها لا يرغب به في إيمان ولا في إسلام، وإنما أراد أن يجر إليه بلقيس ليتزوجها وليتملكها، وليأخذ عرشها ويستولي على أرضها، كشأن الملوك عندما يريدون توسعة دولهم وغناء خزائنهم، وليس هذا فعل الأنبياء ولا فعل الرسل، ولكن اليهود قوم إفساد وقوم فاحشة، وقوم كفر، فيجعلون الفساد والكفر والفاحشة ديناً، وجعلوا أئمة ذلك أنبياءهم، فوصفوهم بذلك ليكونوا قدوة لهم ولأمثالهم، أخزاهم الله وجدد عليهم لعناته وقد فعل.
قال تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل:44]، قال لها سليمان: ليس هو لجة ولا جدولاً، ولكنه صرح ممرد مملس مبني مشيد من الزجاج، والقوارير: جمع قارورة.
فإذا بملكة اليمن بلقيس ترى ذلك، وهي المرأة المشركة، فرأت القصر على حالة لم تكن تخطر لها ببال، ويظهر أن سليمان استقبلها بتكريم؛ لأنها جاءت مستسلمة دون حرب ولا قتال.
فما أن دخلت القصر ورأت ما فيه من أنواع الرفاهية وأنواع النعيم، ورأت سعته وجماله حتى صاحت، فقالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]، وإذا بها تعترف بأنها كانت ظالمة لنفسها، أي: مشركة ظلمت نفسها، حيث أشركت بالله الرازق الخالق المعطي المانع، المحيي المميت جل جلاله، فاعترفت بأن سجودها للشمس وعبادة قومها للشمس كانت شركاً وظلماً وعدواناً، وهي لذلك تتوب إلى الله، وتؤمن مع سليمان، وتعلن إيمانها برب سليمان رب العالمين، ربها ورب الأولين ورب الآخرين ورب أرضها وقومها.(135/12)
ذكر بعض ما قيل زيادة على ما أورده القرآن بشأن بلقيس
وقد أنهى الله القصة هنا، فقال القصاص الإسرائيليون، عندما رأى سليمان رجليها رآها شابة فارعة على أجمل ما تكون، ولكن ساءه أن يجد في ساقيها شعراً، فنادى الجن ليزيلوا هذا الشعر فأتوا بالموسى، فامتنعت هي من استعمال الموسى، وقالت: لا أستعملها.
فقال سليمان للجن: ائتوني بشيء غير الموسى، فأتوا بالنورة، وهي مادة توضع على الشعر فيسقط ويزول، فعادت ساقاها من أجمل ما يرى.
قالوا: وبعد ذلك تزوجها وأولدها وأصبحت ذات شأن عند سليمان.
أمر لم يقله القرآن، ولا النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يرو عن الصحابة إجماعاً، وإنما روي عن بعضهم، وهم الذين كانوا يروون عن وهب بن منبه وكعب الأحبار ونوف البكالي، وهؤلاء كانوا يهوداً فأسلموا، وملئوا صحائف التفسير -كما قال ابن كثير - بالغرائب والعجائب والأكاذيب والأباطيل التي لا حقيقة لها.
وبعضهم يقولون عن ذلك: هكذا في الكتب القديمة، وقرأنا في التوراة وقرأنا في الإنجيل، وهم يكذبون، فلا يوجد ذلك في التوراة وهي معلومة بين الناس، ولا في الإنجيل وهو معلوم بين الناس، ولكن أرادوا أن يغربوا، وأكثر هؤلاء الذين زعموا الإسلام كانوا منافقين كذبة، ادعوا الإسلام وهو منهم بريء.
وقال قوم -وهو الأشبه بفعل الأنبياء والمرسلين-: إن سليمان لم يلتفت إليها، ولكن عرض عليها أن يزوجها بمن تشاء من قومها، فقالت: يا نبي الله! أملكة تتزوج رجلاً؟! قال: نعم.
ولا بد من الزواج، ولا يصح أن تعيش امرأة بلا زوج، قالت: إذا كان هذا لا بد منه فبـ ذي يزن أحد ملوك اليمن المستقل بمقاطعة وإقليم، فأرسل إليه سليمان وزوجه بها، وأعادها لأرضها، وسلمها عرشها، وآمن قومها، وأصبحت أرضها على يد سليمان أرض إيمان وتوحيد لله، فلم يطمع في عرش، ولم يطمع في امرأة، وقد كانت له مائة زوجة حرة، ومئات من الإماء، فما عسى أن تكون بلقيس؟ فسليمان في مقام نبوته ومقام رسالته لم يطمع بها، ولم يتزوجها، ولم يأخذ عرشها، ولم يأخذ بلدها.(135/13)
تفسير سورة النمل [45 - 53]
أرسل الله سبحانه وتعالى سيدنا صالحاً عليه السلام إلى قومه ثمود يدعوهم إلى التوحيد وينذرهم عقوبة الله، فكذبوا وطلبوا منه أن يخرج لهم من الصخرة الصماء ناقة عشراء دليلاً على صدقه، فلما جاءتهم عقروها وتآمروا على قتل نبيهم فأهلكهم الله وكذلك جزاء الكافرين.(136/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً)
قال الله جل جلاله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45].
يخبرنا الله جل جلاله بأنه أرسل إلى قبائل ثمود أخاهم صالحاً، أي: أخاهم نسباً وعشيرة وقد كانوا ذوي حضارة وذوي بأس وذوي قوة، ولكنهم مع ذلك كانوا أهل شرك، وأهل ظلم، وأهل إفساد فأرسل الله إليهم نبيه صالحاً يأمرهم بعبادة الله وحده وتركهم لعبادة الأوثان والأصنام، فطلبوا معجزة، وهي أن يخلق الله لهم ناقة طولها كذا وعرضها كذا، وأن تكون حاملة في شهرها العاشر، وأن ينفجر بها صخر فتخرج كما لو عاشت قبل ذلك سنين، فكان ذلك، فما زادهم ذلك إلا عتواً واستكباراً وظلماً في الأرض.
لقد أمرهم الله تعالى بواسطة نبيهم صالح أن يعبدوا الله وحده ويتركوا الأوثان والأصنام {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] فأصبحوا فريقين: فريق آمن بالله وترك الأوثان والأصنام، وفريق بقي على شركه وبقي على وثنيته، فضاروا يختصمون: هذا ينصر دينه الباطل، والمؤمنون ينصرون دينهم ويستدلون على صحته بما ورد عن صالح من المعجزات، وبما عرفته نفوسهم وآمنت به عقولهم مما لا ينكره ذو عقل سليم.(136/2)
تفسير قوله تعالى: (قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة)
{قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46].
وعندما دعاهم صالح إلى عبادة الله وهددهم وأنذرهم بعقوبة الله أخذ أهل الكفر يستعجلون هذه العقوبة، وأخذوا يقولون له: إن كنت صادقاً فأرنا ما عندك، فقال لهم: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [النمل:46].
أي: (قال) صالح: (يَا قَوْمِ) وهم قومه وأبناء عشيرته (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) تطلبون العجلة بالسيئة والعقوبة والبطش والعقاب قبل الحسنة؟ وقال لهم: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46] أي: أما كان الواجب عليكم عوضاً عن أن تطلبوا السيئة والعقوبة أن تستغفروا الله من ذنوبكم لعله يرحمكم، ولعله ينجيكم من عذابه وعقوبته.
(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي: لعل الله ينقذكم وينجيكم من عذابه ومن عقوبته ويرحمكم بذلك.
وتلك عادة الكافرين قديماً وحديثاً، وهكذا قال كفار العرب أيضاً، وهكذا قال الكفار الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يزالون يقولون ذلك ويتحدون الحق ويطلبون أن يحل بهم العذاب والنقمة، وهو حال لا محالة.(136/3)
تفسير قوله تعالى: (قالوا اطيرنا بك وبمن معك)
وإذا بهم يجيبونه جواب الكافرين المعهود منهم قديماً وحديثاً: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل:47].
قوله: (اطيرنا) أي: تطيرنا، أي: تشاءموا بصالح ورسالته وبمن آمنوا به وتركوا عبادة الأوثان والأصنام، وهذا من فساد عقولهم، إذ عندما حدث ما حدث عاقبهم الله بالجدب، فقل الزرع وجاعوا، فأصبح هذا يدافع عن دينه الحق، وذاك يدافع عن باطله، فمن أجل ذلك قالوا: لو لم يكن صالح ولو لم تكن دعوته لكنا في غير خصام ولا نزاع، أي: سيبقون متوحدين بالوثنية، وما أدراهم بذلك؟! فالله يمهل ولا يهمل جل جلاله.
فقال لهم صالح: (طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ)، والتطير كان من عادة العرب، حيث كانوا إذا أرادوا عملاً يأتون إلى الطير وهي في أعشاشها، فيزجرونها لتطير، فإن طارت يميناً تفاءلوا بخير، وإن طارت شمالاً تشاءموا بشر.
تطيرنا أي: وجدوا طائر الشؤم في صالح وفي رسالته ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يقول: (لا طيرة ولا هامة ولا صفر)، فالله فاعل الخير، وهو فاعل كل شيء، فما من خير إلا برحمته، وما من شر إلا بعقابه، فهو خالق الخير وخالق الشر.
وهنا يقول صالح لقومه: (طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي: الله جل جلاله هو الخالق للخير والخالق للشر، خلق الخير برحمته وجعل الشر عقوبة لأهل الشر، وما من عقوبة إلا بذنب.
قال تعالى: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) تشاءموا بصالح وبمن آمن معه وبمن أسلموا ودعوا إلى الله وتركوا عبادة الأوثان والأصنام، فقال لهم صالح: (طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) فهو خالق الخير وخالق الشر، يخلق الخير رحمة بعباده، والشر عقوبة لأهل الشر من الكفرة والمخالفين.
ثم عاد صالح فقال لهم: (بل أنتم قوم تفتنون) أي: بل أنتم -يا هؤلاء- قوم فتنكم الله واختبركم وابتلاكم بالخير والشر، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، فالخير يكون فتنة والشر كذلك، أي: ابتلاء من الله ليرى عبده هل سيصبر على البلاء أم سيكفر؟ وهل سيشكر الله ويحمده على الخير أم سيطغى ويتجبر، فالشر ابتلاء وفتنة، والخير ابتلاء وفتنة والكل من الله جل جلاله.(136/4)
تفسير قوله تعالى: (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض)
ثم قال الله عن قادة الكفر والفساد: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48].
كان في أرض ثمود في الحجر بين حدود الحجاز والشام تسعة رهط، والرهط: الجماعة، ومعنى ذلك أنهم تسعة رجال يتزعمون تسع جماعات بأنواع الفساد، وأنواع الفتنة، وأنواع الكفر، يؤلبون على رسول الله صالح عليه السلام، ويؤلبون على من آمنوا به من أقوامهم وعشائرهم، وهؤلاء التسعة هم من كبرائهم وزعمائهم، وذكروا لهم أسماء، وما تلك الأسماء إلا عن مثل وهب بن منبه وكعب الأحبار وأمثالهما، والقول بذلك لا يسانده آية من كتاب الله ولم تؤيده سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسماء هؤلاء الرهط التسعة لا يزيدون ولا ينقصون، وإنما ضربوا مثلاً في أعمالهم لا في أسمائهم، ولو كان في أسمائهم مغزى وفائدة لذكرت أسماؤهم في القرآن أو لذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ} [النمل:48] أي: في مدينة الحجر -مدينة قوم ثمود- تسعة أشخاص من زعمائهم وكبرائهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، حيث يخالفون، ويؤلبون على أهل الحق، ويدعون لعبادة الأوثان والأصنام، فما قال صالح من دعوة إلى الله إلا وأتى هؤلاء التسعة فخالفوه ودعوا قومهم إلى عدم طاعته وعدم امتثال أمره.
قال سعيد بن المسيب: كان يأتون إلى الدنانير والدراهم فيقطعونها ويكسرونها، وينقصون من وزنها، فيأخذون حقوق الناس في هذه الدنيا، وهذا أمر قد حرمته الشريعة، وحرمته الشرائع السابقة.
هذا وقد كان جرمهم وإفسادهم أكبر من ذلك، وليس بعد الكفر ذنب، فهم يدعون إلى الكفر وإلى الشرك وإلى البقاء على عبادة الأصنام وترك الإيمان بالله، ومخالفة رسول الله صالح نبيهم، فهم مفسدون بكل نوع من أنواع الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فالله وصفهم بالإفساد وعدم الإصلاح.(136/5)
تفسير قوله تعالى: (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله)
ثم قال الله تعالى عن هؤلاء المفسدين التسعة: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49].
أي: تآمروا وتحالفوا بالله، فليذهب كل واحد منا حالفاً بالله ومقسماً به، ومعناه: أنهم كانوا يؤمنون بالله ويشركون به أوثانهم وأصنامهم.
قال تعالى: (قالوا) أي: هؤلاء الرهط التسعة (تقاسموا) يأمر بعضهم بعضاً، أي: ليقسم كل واحد منا وليحلف بالله، (لنبيتنه وأهله) أي: سنذهب إليه بياتاً، وأكدوا ذلك بلام القسم وبنون التوكيد الثقيلة، أي: سنقتله غدراً ليلاً، ونقتل معه أهله، ليبقي عملنا سراً لا يطلع عليه أحد ولا يخبر به أحد أحداً، فنحن سنقتل صالحا ًومن نجده معه من أهله، ((ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ)) ويقصدون بأهله الذين أسلموا وآمنوا به، ويقصدون بالولي هنا الورثة أولياء الدم.
أي: سيقسمون للوارث لصالح ولأهل صالح على أنهم ما شهدوا وما حضروا مهلكه ولا مهلك أهله، مؤكدين ذلك بلام القسم وبنون التوكيد.
قال تعالى عنهم: (وإنا لصادقون) أي: أقسموا بالله على غدره وقتله وقتل أهله، وبعد قتله في زعمهم سيقسمون لوليه ولوارثه قائلين: ما شهدنا مقتلاً وما شهدنا هلاكاً، وإننا لصادقون ما كذبنا.
وهكذا الغدر، وهكذا الوثنية والكفر.(136/6)
تفسير قوله تعالى: (ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون)
قال تعالى عنهم: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50].
مكر هؤلاء التسعة الرهط، أي: غدروا وخانوا، واتخذوا الغدر حيلة في زعمهم، فسيتسترون بالظلام ليلاً ليقتلوا صالحاً وهو نائم حيث لا يشعر بهم، وليقتلوا أهله حيث لا يشعرون بهم، ثم يقسمون لأوليائهم على أنهم لم يشهدوا ولم يحضروا ولم يعلموا ولم يسمعوا مقتلهم، وإنهم لصادقون.
قال تعالى: ((وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا)) فمكرهم غدر وخيانة، ومكر الله بهم جزاء على مكرهم، وإنما التعبير بالمكر من باب المشاكلة والمشابهة في اللفظ، أي: هذا المكر الذي مكروه كانوا يمكرونه بأنفسهم وهم لا يشعرون، فما كانوا ليشعروا بجزاء الله على مكرهم، وبأن مكر الله أتم وأكبر، وسيكون المدمر والمهلك أبداً لهم ولأقوامهم، كشأن كل كافر غادر وكل عدو متربص بالدعاة إلى الله من أنبياء وورثة الأنبياء.
قال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] فلم يشعروا بمكر الله بهم.(136/7)
تفسير قوله تعالى: (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم)
قال تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:51].
لقد جاءوا ليلاً ودخلوا مغارة ليهيئوا عدة سلاحهم وكانوا قريبين من صالح وأهله، وإذا بهذا الكهف الذي دخلوه تسقط عليهم الحجارة منه فأصبحوا هلكى جميعاً.
وكان هذا العذاب بعدما قتل هؤلاء التسعة الرهط الناقة بعد أن طلبوها لتكون معجزة لصالح داعية إلى إيمانهم وإسلامهم، وقد اشترطوا أن تخرج من صخرة، وأن تكون عشراء، أي: في شهرها العاشر من الحمل، فكان الأمر كما طلبوا، فما زادتهم هذه المعجزة التي طلبوا إلا إصراراً على الكفر، وتعالياً وتكبراً على نبي الله صالح وعلى من آمنوا به واتبعوه، فذهبوا فقتلوا الناقة، فأنذرهم صالح ثلاثة أيام ليحل بهم في اليوم الثالث الهلاك والدمار، ولذلك قال هؤلاء الثلاثة بعد قتل الناقة وإنذار صالح لهم خلال ثلاثة أيام: سنستبقه فنقتله في اليوم الأول قبل الوصول إلى اليوم الثالث من الهلاك، فنقتله وأهله جميعاً، فمكروا مكراً، وكان مكر الله وعقوبته أسرع من مكرهم السوء، ومن استعلائهم واستكبارهم في الأرض، فما كادوا يصلون إلى باب منزل صالح حتى استقبلتهم الحجارة من كل جانب، وكان الذي يضربهم بها ملائكة الله، فكانوا يرون الضرب ولا يرون الضارب، وسالت دماؤهم ثم هلكوا، فجاء قومهم صباحاً وقالوا لصالح: أنت الذي قتلتهم.
وعندما أنذرهم ظهر في اليوم الأول خراج أحمر في كل شخص من الكافرين، وفي اليوم الثاني صار أصفر، وفي اليوم الثالث ضربوا حتى أصبحوا كالعهن المنفوش، وأصبحوا كالعصف المأكول، كما وصف الله الذين جاءوا لتدمير الكعبة في السنة التي ولد فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم، فرموا بتلك الحجارة فجعلتهم كعصف مأكول.
ففي اليوم الثاني من تلك الأيام الثلاثة جاء جبريل فصاح بهم صيحة فقئت منها مراراتهم، وتمزقت منها أكبادهم، وأصبحوا جاثمين كأن لم يغنوا بالأمس، وأصحبوا كأنهم أعجاز نخل خاوية، فلا ترى لهم من باقية، قال تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:51]، فكانت العاقبة والنهاية لمكرهم وعصيان صالح ومحاولة قتله أن دمرهم الله تدميراً، وأهلكهم إهلاكاً، ومزقهم تمزيقاً، فأصبحوا وكأن لم يكونوا يوماً.(136/8)
تفسير قوله تعالى: (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا)
قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل:52].
وقد كان هذا في عصر نزول القرآن، حيث بقيت آثار ديارهم، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك مر على الحجر، فأخذ الجيش من ماء الحجر وعجنوا به وجعلوه للشرب والسقاية، وعندما علم ذلك صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن يعلفوا العجين الدواب، وأمرهم بالخروج منها، وكانت آثارهم لا تزال باقية، كما قال الله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل:52]، (أي): حال كونها خاوية.
أي: انظروا إليها، فالحجر في حدود البلاد المجاورة لكم، فقوله تعالى: (فتلك بيوتهم) إشارة قريبة إلى بيوتهم ومساكنهم وحضارتهم ومنازلهم.
(خاوية): خالية من حركاتهم ومن طغيانهم وجبروتهم.
(بما ظلموا) أي: بسبب ظلمهم، والظلم مدمر، والظلم ظلمات في الدنيا والآخرة.
ومن هنا جاء في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، والظلم يدع الديار بلاقع، وكما يدين الفتى يدان، وكما يفعل بغيره يسلط الله عليه من يجازيه بمثل فعله في الدنيا، ولعذاب الله في الآخرة أشد وأنكى.
قال تعالى: (إن في ذلك) أي: في قصة صالح وثمود وعقوبة الله لهم وتدمير الله لظالميهم، وقصة التسعة الرهط من قادتهم وزعمائهم.
(لآية) أي: لعلامة على قدرة الله وعظمة الله وبطش الله بالظالمين الكافرين، ومعنى ذلك أن من يفعل فعلهم ممن عاصروا نبيهم أو أتوا بعد نبيهم من أمته فكذلك يجازون وكذلك يعاقبون وكذلك يدمرون.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل:52] أي: يعلمون هذا ويقرءونه، ويطلعون عليه، ويعلمون سير الرسل والأنبياء مع أقوامهم، وكيف كان العقاب وكيف كان الجزاء بهلاكهم وتدميرهم والقضاء عليهم.(136/9)
تفسير قوله تعالى: (وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون)
قال تعالى: {وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل:53].
أنجى الله الذين آمنوا بصالح من قوم ثمود، وكانوا يتقون الله بعدم معصيته، وعدم المخالفة لنبيه صالح، فهؤلاء لم يدمرهم الله ولم يهلكهم، بل أورثهم الأرض التي كانت لهؤلاء الكافرين، وجعلهم سادة الأرض وملوكها وقادتها والمحكمين فيها، وهي سنة الله جل جلاله في المؤمنين مع الكافرين، كما أورث نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أرض الكافرين في جزيرة العرب وأرض فارس والروم وأرض كل كافر بالله، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (زويت لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها).
فهذه هي قصة صالح بما فيها من معانٍ وعبر لكل مؤمن.
ثم ننتقل منها حيث نقلنا الله جل جلاله إلى قصة لوط، وتأتي قصة لوط باستمرار بعد ذكر قصة صالح.(136/10)
تفسير سورة النمل [54 - 61]
كان أهل سدوم قد اخترعوا من الفاحشة ما لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، وذلك أنهم كانوا يأتون الرجال من دون النساء، فلما جاءهم سيدنا لوط عليه السلام ينهاهم عن ذلك أرادوا إخراجه ورجمه، فعاقبهم الله ودمر قراهم فجعل عاليها سافلها، ونصر رسوله والمؤمنين.(137/1)
تفسير قوله تعالى: (ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون)
قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:54 - 55].
أي: واذكر -يا رسولنا- لوطاً إذ قال لقومه.
وقد أرسل لوط إلى أهل سدوم من أرض فلسطين عند البحر الميت الآن.
فالله تعالى يقول: واذكر -يا رسولنا- قصة لوط مع قومه الذين أتوا من المنكرات ما لم يسبقهم إليه أحد قبلهم قط، فكانوا الأئمة للفساق، فمن فعل ذلك بعدهم فعليهم مثل وزره إلى يوم القيامة.
قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54] هذا استفهام تقريعي توبيخي، حيث يقول لوط: (أتأتون) يوبخههم ويقرعهم بهذا الاستفهام الإنكاري.
(أتأتون الفاحشة)، وقد قال في بعض السور عنها {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80]، وهنا قال: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54] فمعناه أنهم كانوا يفعلون فعل الكلاب والخنازير على مرأى من بعضهم لبعض، وكما وصفهم الله بأنهم يأتون المنكر في ناديهم، فهذا المنكر الذي يأتونه في مجالسهم هو أنهم كانوا يفعلون فعل الخنازير والكلاب والدواب بصفة عامة.
وكل ما حدث في الأمم الماضية سيحدث في الأمة المحمدية، وقد حدث هذا الأمر اليوم في الكثير من أرض الله، فيفعل علناً، وأصبح بعض الناس يتجر بهذه الفاحشة، فيضعون لها الأفلام التي تدخل البيوت وتدخل الدور وتدخل الأسواق بما لم يسبق له مثيل حتى في عصر لوط، فلم يوصلهم الشيطان إلى ما أوصل إليه الناس اليوم، فقد كانوا يفعلون ذلك فيما بينهم، أما أن يصور ذلك ويسجل بالفعل والنظر لتراه المرأة ويراه الرجل، ويراه العزب والأرملة والأيم، فذلك لم يسبق له حدوث في الماضي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54] أي: يا هؤلاء! أين عقولكم؟! يرى بعضكم بعضاً كالكلاب والخنازير تعملون ذلك وترونه رأي العين! أتتركون نساءكم وتذهبون إلى الرجال فيستغني الرجال بالرجال والنساء بالنساء؟!(137/2)
تفسير قوله تعالى: (أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء)
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55].
ثم عاد فقال موبخاً مقرعاً مستفظعاً ذلك ومستعظماً له: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} [النمل:55] وهذا استفهام إنكاري للتأكيد، أي: هل أنتم الذين يفعلون هذا؟! أين عقولكم؟! وقوله: (لتأتون) مؤكد بلام القسم للدلالة على إصرارهم على الفاحشة وبلائها ومصيبتها، أي: يا هؤلاء! {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [النمل:55].
أتتركون نساءكم وهن موضع الشهوة الطبيعية والمكان الذي جعله الله لذلك، وتأتون إلى الأدبار وما فيها من أوساخ وقاذورات لتنشروا بذلك أمراضاً وبلاء عظيماً تنقلونه لزوجاتكم ولغيركم من الفساق؟! فهل يصنع ذلك إنسان؟! ومن أين تعلمتم ذلك؟! فلم يسبقكم إليه أحد من جميع الأمم، فما فعل ذلك قوم هود، ولا قوم صالح، ولا قوم نوح الذين بقي فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعوهم إلى الإسلام والتوحيد، فما فعلوا شيئاً من هذا قط.
وقوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [النمل:55] أي: يقتصرون في هذا البلاء على الرجال دون النساء، فلا يأتون النساء، فأتم الله دمارهم وهلاكهم عقوبة لهم على صنيعهم.
قوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55] أي: تجهلون الحق، وتجهلون مكان الشهوة، حيث نقلتموها من النساء إلى الرجال، فأنتم أهل جاهلية لا دين لكم ولا عقل ولا شرف ولا فهم ولا إدراك.(137/3)
تفسير قوله تعالى: (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم)
قال تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82].
أصبحت الطهارة جريمة، وأصبحت القذارة والوساخة هي الحسنة.
أي: ما كان جواب قوم لوط للوط عن هذا الذي استنكره من فعلهم، ومن فواحشهم، ومن بلائهم الذي لم يسبقوا إليه، إلا أن اتفقوا وتآمروا وقال بعضهم لبعض: أخرجوا لوطاً وآله من قريتكم، وما جريمتهم؟! {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]؛ لأنهم طاهرون أتقياء مؤمنون، ولأنهم ابتعدوا عن الفحشاء والمنكر.
فجعلوا النجس الطاهر والمتطهر هو النجس، وجعلوا نجاستهم طهارة، وهكذا هو الكبر في كل وقت، وطالما شهدنا الفسقة يدعون لكفرهم وشيوعيتهم واشتراكيتهم وإباحيتهم فيجعلون المنكر هو المعروف، والمعروف هو المنكر، ويجعلون ذلك أشياء شخصية لا يملكها إلا صاحب الشأن، فالرجل يسلم نفسه أو لا يسلمها، والمرأة إن كانت متزوجة أو بلغت سن الرشد فالحق حقها، فلها أن تتصرف بما تريد وبما تشاء.
وقد سمعنا أشخاصاً كباراً ورؤساء محاكم يدافعون عن هذا، فيدعون إلى القذارة والوساخة والحقارة، وكنا ننظر إليهم نظرتنا إلى خنزير وكلب، فيسقط المرء منهم من أعيننا سقوطاً، لا يذكر معه في فصيلة الإنسان ولا في فصيلة الحيوان، إلا الكلب والخنزير.
قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [النمل:56].
قوله تعالى: (آل لوط) يشمل لوطاً وأهله، (إنهم أناس يتطهرون) (أناس) جمع لا مفرد له من لفظه.(137/4)
تفسير قوله تعالى: (فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين)
قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} [النمل:57].
أي: عاقبهم الله ودمرهم وسحقهم وقضى عليهم، وأنجى لوطاً وأهله إلا زوجته، أنجاهم من بلائهم، ومن تدميرهم، ومن لعنة الله عليهم، ولم يهلك من أهله إلا زوجته، قال تعالى: (قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ).
فسبق في قدر الله وقضائه المبرم أنها من الغابرين الهالكين، ومن الباقين في البلدة غير الناجين، لا لأنها كانت فاسدة في نفسها، فأنبياء الله أكرم على الله من ذلك، ولكنها كانت تدل قومها إذا جاء لوطاً شاب أو رجل، كما فعلت عندما جاء ملائكة الرحمن، حيث جاءوا يخبرونه بأن يترك البلد خلال ثلاثة أيام، وبأنه سبق في علم الله تدمير قرية سدوم والقضاء عليها وسحقها، وجعل عاليها سافلها وإمطارها بحجارة من سجيل.
فجاء جبريل في اليوم الموعود فحمل قرى قوم لوط كما يحمل الشيء إلى أن سمع نباح كلابهم وأصواتهم في السماء الدنيا، ثم قلب بهم الأرض فهووا إلى الأرض ممزقين مقطعين مبعثرين، وقد رماهم الله كذلك بحجارة من سجيل كانوا يرجمون بها رجماً، وكان من أصيب وقلب به يذوب ذوباناً.
قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} [النمل:57] فكانت في قدر الله السابق وإرادته المحكمة من الباقين في الهلاك، ومن المقضي عليهم؛ لأنها كانت تساعد قومها على هذه الفاحشة.(137/5)
تفسير قوله تعالى: (وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المنذرين)
قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [النمل:58].
أمطر عليهم ما يشبه المطر، والمطر عندما ينزل ينزل بالآلاف بل بالملايين، وهكذا كان الرجم بالحجارة ينزل نزول المطر، فسحقهم ودمرهم، وجعل الله عالي بلادهم سافلها، وفنيت معهم الأرض إلى الآن، وأصبحت موضع بحيرة سميت بالبحر الميت، فهذا البحر الميت لا ينبت وليس فيه حياة، فليس فيه سمك ولا غيره من أنواع الأحياء البحرية، ويطمع اليهود اليوم في أن يجدوا فيه شيئاً، ولكنهم لن يجدوا إلا اللعنة والخراب والدمار، وذلك شأنهم، فاللعنة منهم خرجت وإليهم تعود، وما يحصل لهم إنما هو استدراج للقضاء عليهم، وذلك وعد الحق، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167].
قوله: {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [النمل:58]، أي: فما أسوأ وأقبح مطر المنذرين الذين أنذرهم رسولهم العاقبة، وأنذرهم النهاية، وأمرهم بأن يتوبوا إلى الله، ويعودوا إلى رحمته، ويتوبوا مما صنعوا، ويكفوا عما هم فيه، وإلا فسيحل عليهم عذاب لم يحل مثله على أحد ممن سبق، ولكنهم مع ذلك ما زادوا إلا عصياناً واستكباراً في الأرض واستعلاء على نبي الله لوط، وقد سبق أن قلنا: إن لوطاً ابن أخي إبراهيم، وكان في عصره إبراهيم خليل الرحمن وأبو الأنبياء.
فما أسوأ وأقبح مطر قوم أنذروا قبل ولم يقبلوا النذارة ولم يقبلوا النصيحة، فكيف تكون العاقبة؟! ستكون تدميراً وهلاكاً ولعنة مستمرة.(137/6)
تفسير قوله تعالى: (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى)
قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59].
قال الله لنبيه بعد أن قص عليه تدمير هؤلاء العصاة الكفار وجعلهم مثلاً لقومه فيما إذا استمروا على كفرهم وعصيانهم: (قل الحمد لله) أي: على نصر عباده ونصر رسله وأنبيائه وورثتهم من المؤمنين المتقين الصالحين، والحمد لله الذي عاقب أعداءه، فعاقب من كفر بالله، وخرج عن أمر الله، وعصى رسول الله، وخرج عن طاعة رسول الله، فالحمد كثيراً.
فالله علم نبيه أن يقول ذلك، ولقد أصبح هذا شعار المؤمنين من ذلك الوقت، فلا يلقي المؤمن خطبة ولا محاضرة ولا يكتب كتاباً ولا رسالة إلا ابتدأها بالحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ولا نزال نعيش في هذا إلى الآن، وقد تستبدل الحمد لله بـ (باسم الله) كما فعل سليمان عندما كتب إلى بلقيس ملكة اليمن: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30].
قال تعالى: (وسلام على عباده الذين اصطفى) فمن هؤلاء العباد الذين اصطفى؟ قال جمهور المفسرين: هم رسل الله وأنبياء الله.
واستدلوا بقوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:181].
وقال ابن عباس: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59] أي: الصحابة الذين اصطفاهم الله تعالى لدينه، وللإيمان برسالته، ولاتباع نبيه وخاتم أنبيائه وأشرفهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقال بعض العلماء: الآية تعم كل المؤمنين ممن اصطفاهم الله للإيمان به، ولتقواه، وللبعد عن فعل الكافرين والوثنيين والعصاة من المخالفين.
أما كون الذين اصطفاهم واختارهم هم الأنبياء والمرسلين فهذا لا شك فيه، فقد كانوا هم المصطفين، وصفوتهم نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد أدبنا القرآن وأدبنا المنزل عليه صلى الله عليه وسلم إذا ذكرنا نبينا أن نصلي عليه، وقد أمرنا الله بذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وكان نبينا عليه الصلاة والسلام يقول: (من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً)، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي).
وأما الصحابة رضوان الله عليهم فلم يكن في عصرهم ولا بعد عصرهم ذكرهم بالسلام، فنقول: أبو بكر عليه السلام، أو: عمر عليه السلام، وإنما نخصهم بالرضا؛ وكان جماعة من سلفنا وجماعة من المفسرين والمحدثين وكبار العلماء المجتهدين يخصون بالسلام آل البيت بعد الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، صنع هذا البخاري، وصنع هذا المحدثون الأئمة، ووجد في كتبهم.
وأما السلام على الصحابة لصحبتهم فلم يذكر قبل ولا بعد، فمن المعروف أنه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نقول: صلى الله عليه وسلم، وإذا ذكر الصاحب نقول: رضي الله عنه، وإذا ذكر التابعي فمن بعده نقول: رحمه الله؛ لأن الله تعالى يقول لنا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، والرحمة دعوة بالمغفرة ودعوة والعفو ورفع الدرجة، وهكذا أمرنا أن ندعو لهم، ولا نصلي ولا نسلم.
وقوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59] أي: اختار.
{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59] يقول الله مقرعاً أولئك بقول يقوله لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوله كل مؤمن وكل مسلم وكل داع إلى الله، يقول لهؤلاء المشركين: الله الذي خلقكم، ورزقكم، وأعطاكم، وهو الذي صنع بالمخالفين من أقوام نوح وهود وصالح ولوط ما صنع، فهل يستطيع أولئك الذين عُبِدوا من دون الله أن يفعلوا كما يفعل الله؟
الجواب
لا.
والخيرية هنا ليست على بابها؛ لأن كلمة (خير) أصلها (أخير) وأفعل التفضيل تقتضي المشاركة وزيادة، فالخير كله في طاعة الله، وفي الإيمان به، والشر كله في الأوثان والأصنام والكفر والمخالفة.(137/7)
تفسير قوله تعالى: (أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً)
يعود الله ليعدد ويمتن على عباده بقدرته على كل شيء، فيقول تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60].
يقول الله جل جلاله: أم من خلق السموات والأرض؟! هل الله أو تلك الأوثان؟! هل الله القادر على كل شيء، أم تلك الأصنام؟! قال تعالى: (أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة) أنزل علينا من السماء أمطاراً وغيثاً مدراراً فأنبت حدائق -جمع حديقة- ذات بهجة، أي: ذات جمال وذات منظر حسن، والحديقة: البستان المسور المحدق به السور، فإذا لم يكن له سور يحدق به كان بستاناً، والحديقة تكون مسورة عادة؛ لأنها أكثر أشجاراً وأكثر ثمرة وأكثر مياها وأكثر بهجة وجمالاً، ولذلك يحافظ عليها بوضع سور خلفها يحيط بها.
فمن الذي خلق السموات بعلوها، وأفلاكها، وبأنجمها السيارة، وبما فيها، وخلق الأرض بما عليها من جبال وأشجار وأنهار جاريات ونبات يعيش به الإنسان ويعيش به الطير ويعيش به الحيوان؟! من الذي أنزل هذه الأمطار فسقى بها وأنبت بها الحدائق والبساتين ذات البهجة وذات الجمال الذي يسر العين، ويسر القلب، ويبهج النفس.
قال تعالى: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60] فلا ينبغي لنا، وليس في قدرتنا ولا في طاقتنا أن ننبت هذه الأشجار التي في الأرض، ولا نستطيع أن ننبت نبتة واحدة، فنحن أعجز من ذلك وأضعف من ذلك، بل نحن ومالنا خلق الله، وكلنا فعل الله، وكلنا من قدر الله، وإذا وقف مدد الله للإنسان أصبح جماداً كما كان.
يقول تعالى: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60] فما كان لنا وما ينبغي لنا، ولا نستطيع أن ننبت شجر هذه الحدائق ذات البهجة والجمال والأشكال والألوان من ورود وزهور وثمار، فلا يفعل ذلك إلا الله، ولا يقدر عليه غيره.
ولكثرة ما في الأرض من ذلك يظن أصحابها أنهم انفردوا بها، وليس لهم خلق شيء، فالذبابة التي ضرب الله بها المثل لا نستطيع خلقها، وإن أخذت الذباب منا شيئاً عجزنا عن أن نستنقذه، وكما قال تعالى: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73].
قال تعالى: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60].
أي: هل يوجد مع الله إله يعينه على هذا الخلق؟! وهل يوجد معه إله يستحق العبادة كما يستحقها الله؟! حاشا وكلا ومعاذ الله، ونبرأ إلى الله من كفر الكافرين، فلا إله بحق إلا الله الخالق الرازق، المعطي المانع، المحيي المميت جل جلاله وعز مقامه.
قال تعالى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60].
أي: بل هؤلاء المشركون قوم يعدلون بربهم غيره، فيجعلون له نظيراً، ويجعلون له نداً، ويجعلون له مثيلاً، تعالى الله عن ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، فلا شبيه له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهو الواحد الأحد جل جلاله وعلا مقامه.(137/8)
تفسير قوله تعالى: (أمّن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً)
ثم قال تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل:61].
يقول تعالى وهو يتكلم جل جلاله عما تراه عين الكافر والمؤمن والكبير والصغير، والرجل والمرأة: ((أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا)) أي: من الذي جعل الأرض قراراً نستقر عليها، ونقيم عليها، وننتقل عليها من قطر إلى قطر وقارة إلى قارة براً وبحراً وجواً؟! فهذه الأرض التي جعلها الله تعالى قراراً لنا ومستقراً ومقاماً وداراً وسكناً ما دمنا أحياء من الذي جعلها كذلك؟! ومن الذي خلقها كذلك؟! هل جعل ذلك هؤلاء الذين زعموهم شركاء أم الله؟! والجواب معلوم، وهو أن الله وحده لا شريك له، إلا في أذهان هؤلاء السخيفة المريضة، وما لهم على ذلك من برهان ولا دليل ولا سلطان.
يقول تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا} [النمل:61] أي: تخللتها في ترابها، وفي رمالها، وفي جبالها، أنهار عذبة للشرب ولمنفعة الإنسان والطير والحيوان ولا يستطيع الإنسان أن يحيا بدون ماء، ولا يأتي بالماء إلا الله، ولو أصبح هذا الماء غائراً في الأرض فمن الذي سيأتي به غير الله تعالى القادر على كل شيء؟! قال تعالى: ((وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ))، أي: جعل فوقها جبالاً لتستقر كيلا تميد بنا، ولو لم يثبت الله الأرض بهذه الجبال لمالت بنا يميناً وشمالاً، ولأصبح عاليها سافلها، ولكن الله ثبتها بالجبال، ولولا ذلك لما استقرت، فامتن علينا بأن جعلها قراراً لنا ومقاماً ومستقراً، وثبتها بالجبال.
قال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل:61].
أي: بين البحر الحلو والبحر المالح، والكل من الأرض وفي الأرض، ومع ذلك حجز الله تعالى الماء الحلو عن أن يتغير بماء البحر فيصبح مالحاً لا يشرب، ولا يصلح لطبخ، ولا لسقي، فمياه البحر لو سقي بها لمات النبات ولما أدرك ولما أثمر، ولكن الله جل جلاله جعل الأرض واحدة يتصل بعضها ببعض، وجعل هناك حواجز بين الماء الحلو الذي لا يعيش حي إلا به، والماء المالح الذي نحتاج إليه كذلك؛ لأن الأرض لو لم يكن فيها البحر المالح لفسدت الحياة بسبب الأوساخ والقاذورات التي تنشأ عن الموتى والأحياء، فلولا ملوحة البحر لمات الناس منذ زمن.
فالله جل جلاله يخبرنا عن وصف السموات، ووصف الأرض وخلقها وما جعل فيها من فوائد ومصالح لهذا الإنسان الذي يعيش على الأرض، ثم هو مع ذلك يعبد مع الله غيره، فهل له عقل؟!(137/9)
تفسير سورة النمل [62 - 64]
يذكر الله جل جلاله جملة من آياته الكريمات دلالة على قدرته وأنه الخالق الرازق الذي سخر للإنسان السماوات والأرض وأنزل له الأمطار وأنبت له الأشجار وأجرى له الأنهار، وهو الذي يجيبه عند الاضطرار ويهديه في دروب الأرض وظلمات البحار، وليس معه سبحانه من شريك في ذلك، أفيستحق العبادة معه أحد؟ تعالى الله عما يقول الظالمون.(138/1)
تفسير قوله تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)
قال الله جل جلاله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
يذكر ربنا جل جلاله جملة من آياته الكريمات في كلامه الشريف الكريم دلالة على قدرته، ودلالة على وحدانيته، ودلالة على أنه الواحد لا شريك له، ولا أحد يستحق عبادة أو إلهية أو ربوبية غيره جل جلاله، فيقول جل جلاله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
فيا أيها الناس من مؤمنين ومشركين! من الذي يستجيب للمضطر إذا دعاه، وكان في بلاء، أو كان في قهر، أو كان في ذل، ويكشف ما ابتلي به الإنسان من قهر ومرض وذل واستعباد إذا رفع يديه إلى الله ضارعاً وقال: (يا رب)؟! فمن الذي يستجيب له؟! ومن الذي يكشف عنه ضره؟! وهل يفعل هذا غير الله؟! هل تفعله تلك الأصنام وتلك الأوثان؟! وكل خلق الله هل يقدرون على أن يزيلوا كرب الناس وسوءهم؟! وهل يستطيعون أن يزيلوا ما يعيشون فيه من ضر وبلاء وسوء؟! فتعالى الله القادر على كل شيء، ملجأ كل فقير، وكل مريض، وكل مقهور، وكل مضطر لرحمته، ولا غنى بأحد من الخلق عن رحمته جل جلاله.
ولا ينكر ذلك إلا من ذهب عقله، وكثر الران على قلبه، فلا يميز بين نهار وليل، وبين حق وباطل، وبين نور وضلال.
وطالما ابتلي الناس بأضرار، فما زادوا عند دعاء ربهم على أن نادوا: (يا من يجيب المضطر إذا دعاه)، فاستجاب الله جل جلاله.
وتحضرني هنا قصة حكاها ابن كثير في التفسير، وهي أن رجلاً كان يكاري على بغل له بين مدينة دمشق إلى بلدة الزبداني، فركب معه رجل ذات مرة، فمرا على طريق غير مسلوكة، فقال له الراكب: خذ هذا الطريق فهو أيسر وأقرب، فقال له: هذه طريق مجهولة.
فقال: بل هي أقرب، فتبعه ودخل إلى أن وصلا إلى مكان وعر وواد عميق، فرأى جثث موتى، وعظاماً لبشر، فنزل ذلك الراكب وأخذ سكيناً ليقتل الرجل، فقال له: خذ هذا البغل ودعني، فقال: البغل قد أصبح ملكي، ولابد من قتلك.
فاستسلم له ثم قال: إن كان ولابد فدعني أصلي لله ركعتين.
فقال: عجل، قال: فقلت: الله أكبر، فأرتج عليّ القرآن فلم يحضرني منه حرف، وهو يعجلني، وإذا بي أتذكر هذه الآية الكريمة، فأخذت أضرع إلى الله، وأقول: (يا من يجيب المضطر إذا دعاه)، وإذا بفارس يظهر وبيده حربة، فيأتي إلى هذا الظالم ويطعنه بها فيصرعه على الأرض، فلما قضيت صلاتي التفت فرأيت ذلك فقلت للفارس: يا عبد الله! قل لي من أنت؟ فقال: أنا رسول الذي تضرعت إليه ودعوته! وهكذا أنقذه الله وأنجاه، فالله جل جلاله عليه الإجابة وعلينا الدعاء، كما قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
وهنا يقول جل جلاله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62].
فيا من تعبدون غير الله وتشركون به سواه! إن وقعتم في بلاء وضر وذلّ، فمن ذا الذي إذا دعوتموه استجاب لكم، وكشف ما بكم من ضر؟! هل آلهتكم هذه الميتة الجامدة التي لا تضر ولا تنفع، وتُخلق ولا تَخلق، ولا تعي ولا تسمع، أم الله الذي يقدر على رفع الضر وكشف السوء سواه؟!(138/2)
معنى قوله تعالى: (ويجعلكم خلفاء الأرض)
يقول تعالى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62].
أي: فمن الذي يجعلكم خلفاء يخلف بعضكم بعضاً، حيث يكون الأجداد، ثم يخلف الأجدادَ الأبناء، ثم يأتي بعدهم الأسباط والأحفاد، وهكذا خلف من بعد سلف، يخلف بعضنا بعضاً.
فقد كانت الدنيا لأجدادنا فخلفهم آباؤنا، وهي اليوم لنا، وستكون بعدنا لأبنائنا، وهكذا يذهب عصر ويأتي عصر، ويفنى جيل ويأتي جيل، ويبقى الله الواحد القهار: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
فمن الذي جعل بعضنا يخلف بعضاً، ويجعل من الماء بشراً سوياً كاملاً، ثم يجعل من الرجل الكامل تراباً وكأنه لم يكن؟! فهل يقدر على ذلك الآلهة الباطلة والأصنام الحجرية؟! لا أحد يقدر على ذلك إلا الله، فهو القادر على كل ذلك.
{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]، فربنا جل جلاله يذكر لنا بعض أنواع قدرته، وأنواع خلقه، وأنواع رزقه، ثم يقول لنا: هل مع الله إله سواه يقدر على ذلك؟!(138/3)
باسم الله الأعظم
وطالما تساءل الناس: ما هو اسم الله الأعظم؟! وقد ورد في الحديث المتواتر: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة)، ومن هذه الأسماء اسم ما دعي به الله جل جلاله إلا وأجاب الداعي، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وقد ذكر العلماء كثيراً من الأسماء كل يرى أن ما ذكره هو الاسم الأعظم.
ولكن الذي قاله المحققون، والذي قاله العلماء العارفون هو أن اسم الله الأعظم هو الذي يقال ساعة الاضطرار عندما يكون الإنسان في ضر وفي ضيق وفي بلاء، فيرفع يده إلى الله جل جلاله قائلاً: يا رب! أنت القادر على كل شيء، فلا أحد يستطيع كشف ما بي إلا أنت، ولا ينصرني سواك.
فهذا الاضطرار الذي يخرج من الأعماق، والذي يقوله الداعي وهو في حالة لهفة وحالة ضرورة، فيكون دعاؤه دعاء الصادق، ودعاء الراجي، ودعاء من يعترف بأنه لا أحد يقدر على إنقاذه وكشف ضره من سلاطين الأرض وجبابرتها وطغاتها، ومن ملائكة السماء، سوى الله جل جلاله، فلا ملك ولا رسول يقدر على ذلك، والذي يقدر عليه الرسول والملك هو ما أقدره الله عليه، أو ما دعا به الله كما تدعوه أنت، وما هو إلا عبد من عبيد الله، كما أننا وكل الخلق عبيد لله جل جلاله.(138/4)
معنى قوله تعالى: (قليلاً ما تذكرون)
قال تعالى: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
أي: فما أقل ما تتذكرون وتتفكرون وتعقلون الأمور! وما أقلّ ما تنفردون بأنفسكم، وتختلون خلوة تعيدون فيها النظر، قائلين: هل لهذا الكون من مكون ومن موجد؟! فمن الذي خلق هذه السماوات العلى وما فيها من نجوم وكواكب ثابتة؟! ومن الذي خلق هذه الأرض وما عليها من جبال راسيات، وبحار متلاطمات، وخلق يموج بعضهم في بعض، بلغات مختلفة وملل مختلفة وأشكال متباينة؟! فهل يفعل ذلك أحد إلا الله؟! وهل خلق ذلك غير الله؟! وقد فكر المؤمن فآمن واعتقد ذلك، ولكن غير المؤمن لم يفكر، ولم يتذكر، ولم يعِ، وإنما عاش مقلداً لآبائه الكفرة، وأجداده الفسقة، ومن اتخذهم أئمة في الكفر والشرك، فما زادوه إلا وبالاً، وما زادوه إلا مصائب، وما زادوه إلا شركاً وكفراً.(138/5)
تفسير قوله تعالى: (أمّن يهديكم في ظلمات البر والبحر)
ثم قال تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63].
إن الله تعالى خلق هذا العالم وهذا الكون، وهذا الكوكب الأرضي بما فيه من جبال ووهاد ورمال وسهول وبرار وقفار وبحار، فحين نريد التنقل من مشرق إلى مغرب، ومن جبال إلى وهاد، فإننا نهتدي في طريقنا في الليل أو النهار، فمن الذي يهدينا، ومن الذي يدلنا، ومن الذين خلق هذه الأنجم التي نهتدي بها كما يهتدى بالمصابيح التي تكون علامات على الطريق مشرقاً ومغرباً؟! فمن الذي خلقها لتكون كذلك، وليستفيد منها الإنسان؟! وقد كان العرب في هذا أئمة، يخرج البدوي في هذه الصحاري التي ليس فيها علم ولا دلالة على شرق أو غرب أو شمال أو جنوب، ولكنه يرفع عينه إلى السماء إن كانت مصحية، فيقول لك: الطريق هكذا أو هكذا، أو: قد ضللت الطريق، فذاك أمر علمه بفطرته، وبعيشه السنين الطوال في هذه الصحاري حتى أصبح عارفاً بها.
يقول تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل:63] فمن يهديكم وأنتم تشقون البحار التي لا علامة فيها لشرق أو غرب؟! ومن الذي يهديكم في البر وأنتم صاعدين وهابطين؟! ومن الذي يدلكم ويهديكم إلى الطريق حتى لا تضلوا؟! والضلال في الصحاري والبراري يعني الموت المحقق، فمن الذي يهدينا ويرشدنا ويدلنا على الطريق غير الله؟! قال تعالى: {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل:63].
فهذه الرياح التي تأتي مبشرة بالغيث، ومبشرة بالرحمة، من الذي يرسلها لتكون مبشرة بذلك، ثم يأتي وبعدها الغيث الغزير والمطر والرزق والخير العميم؟! ومن الذي يرسل مطره وغيثه لأهل الأرض إذا أجدبوا وأمسكت السماء قطرها؟! من الذي يرسل هذه الرياح حال كونها بشراً بين يدي رحمته يرحم بها خلقه ويرحم بها عباده؟! فيرحم بها المؤمن والكافر سواء، يرحم بها المؤمن ليزداد شكراً وحمداً لربه، والكافر ليستدرج، ولتبقى حجة الله عليه بالغة، ولعله يرحم فينتبه يوماً ويعي، ويقول: يا رب! كنت ظالماً، فاغفر لي خطيئتي يوم الدين.
ومن هنا كان الإمهال للكافر من الرحمة، وقد أرسل النبي عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين للمؤمنين والكافرين سواء، فالكافرون يمهلون لعلهم يتذكرون يوماً فيتوبون ويوحدون، والمؤمن كلما عاش يوماً ويزداد بذلك عبادة وأجراً وثواباً ورفعة، وذاك مما يحفظه الله له، ويجمعه له، فيجده يوم القيامة غيثاً ورحمة ورضى ورفع درجات مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
قال تعالى: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:63].
هذا إنكار توبيخي تقريعي، فهل هناك إله يفعل فعل ربنا، فيرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، ويهدي في ظلمات البر والبحر، ويكشف السوء، ويرسل الخير، ويرسل الرزق، ويرسل الغيث؟! الجواب باستمرار: لا أحد يفعل ذلك إلا الله، ولا قادر على ذلك إلا الله، وليس ذلك بيد أحد غير الله جل جلاله، فقد انفرد بالخلق وبالأمر وبالتدبير وبالزرق وبكل شيء.
قال تعالى: {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63].
تعالى الله ربنا وعز، وعلا مقامه وعلا شأنه وتنزه عن النقص والعيب الكائن في قول هؤلاء المشركين بأن لله شريكاً يعينه، وبأن لله صاحبة وولداً، فتعالى الله عن كل ذلك، ونعوذ بالله من أن نذكر ذلك إلا للتعلم والتعليم، وحاكي الكفر ليس بكافر، ولنزداد إيماناً بربنا، وكفراً بهؤلاء المشركين الكفرة الذين لا يعتقدون ديناً ولا يملكون فهماً ولا إدراكاً، فتعالى الله عما يشركون، وتنزه ربنا عن كل عيب ونقص.(138/6)
تفسير قوله تعالى: (أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض)
قال تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64].
أي: هل هناك غير الله يبدأ الخلق ثم يعيده؟! أما البدء فقد رأيناه، فقد بدأ خلقنا ربنا جل جلاله، ورأينا ذلك في أنفسنا، ورأيناه في غيرنا من خلق الله على وجه الأرض، فهو الذي بدأ خلقنا، وأوجدنا من عدم، وأوجدنا على غير مثال سابق، ومن استطاع بدء الخلق استطاع إعادته، كما قال تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79].
فإذا كان الخلق قد وجد، فمن الذي أوجده؟! ومن الذي كونه؟! ومن الذي حركنا بهذه الروح التي نعيش بها، بحسب ما قدر الله لنا من حياة ومن أجل؟! وما هي هذه الروح التي إذا نزعت أصبح الإنسان جيفة، يبادر أحب الناس إليه بأخذه وغمره في التراب حتى لا يؤذى الناس برائحته، وهو الذي كان في حال الحياة يتقرب إليه بالسمع والجلوس والأخذ والعطاء؟! فمن الذي أوجدها؟! ومن الذي خلقها؟! ومن الذي قدر على زرعها في جميع خلايا أجسامنا؟! ولطالما تساءل الناس عن الروح قبل نبينا وبعد نبينا وإلى الآن، وقد سأل الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فقال الله جل جلاله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، فالله جل جلاله انفرد بعلم الروح، ومعرفة الروح، ولم يجب نبيه ولا من سألوه عنها.
وقد ظن المجانين السخفاء المشركون الضائعون أن في إمكانهم أن يصنعوا الروح، فبذلوا الملايين وما خرجوا إلا بخفي حنين، فقد ذهبوا إلى الأفلاك والأنجم والكواكب لينظروا كيف كان ابتداء الحياة، فما زادوا بذلك إلا ضلالاً، ولو آمنوا بالله، وطلبوا من أهل العلم أن يعلموهم بما نزل في كتاب الله من ذلك لعلموا الكثير، ولاهتدت نفوسهم وأرواحهم إلى الإيمان بالله ورسول الله وبدين الحق الذي هو الإسلام خاتم الرسالات، بعد أن جاء به رسولنا صلى الله عليه وعلى آله.
يقول تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [النمل:64] فمن الذي يبدأُ الخلق، ومن يعيده؟! ومن الذي يحيينا بعد الموت؟! ومن الذي يبعثنا يوم القيامة بعد أن نموت من أول مخلوق إلى آخر مخلوق في الأرض؟! فالناس عندما يبعثون وتزرع أرواحهم في أجسامهم، سيقفون بين يدي الله يوم العرض على الله في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، ليحسن إلى المحسن ويعاقب المسيء {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، فذلك اليوم العظيم سنعود إليه، ونحيا فيه حياة ثانية، فتكون الحياة الباقية والحياة الدائمة التي لا موت بعدها أبداً، ولا تكليف فيها، والقوم بين مخلد في النار ومخلد في الجنة، ولا وسط بين ذلك.
قال تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [النمل:64] فمن الذي يرزقنا من السماء بالغيث المدرار، وبالأمطار التي يكون بها الاستنبات، وبها تكون الخيرات في الأرض؛ بحيث لو أجدبت الأرض لما أعطت قليلاً ولا كثيراً، ولما أعطت زرعاً ولا أعطت ضرعاً؟! فمن الذي رزقنا من السماء بالغيث المدرار؟! ومن الذي رزقنا من الأرض بما أكرمنا به من نبات وطير وحيوان؟! هل هؤلاء الشركاء الذين أشرك بهم من لا عقول لهم ولا إدراك لديهم ولا فهم، أم الله الواحد القهار؟! فهذه أدلة عقلية لا يدفعها إلا مجنون أرعن، وتقبلها كل النفوس السليمة، وتقبلها كل النفوس التي لم يبعها الآباء بكفرهم وبتقليدهم وبضلالاتهم، فالإنسان بالفطرة يدرك أن السماء والأرض لا بد من أن يكون لهما خالق، ولا خالق لهما إلا الله جل جلاله، الواحد المنفرد بالأمر والخلق.
قال تعالى: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:64].
فهل ثَمّ إله أعانه على هذا؟! وهل ثَمّ إله مما يعبد هؤلاء الأفاكون المجانين السخفاء يستطيع فعل ذلك؟! قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64] فهؤلاء يزعمون أن لديهم علماً على عبادتهم لغير الله، فقال الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64]، وهيهات أن يأتوا بالبرهان، وأن يأتوا بالدليل، وأن يأتوا بما يقبله ذو عقل سليم.
فهم عن الآخرة معرضون، وجاهلون، ومشركون كفرة.(138/7)
تفسير سورة النمل [65 - 75]
الله تعالى عالم الغيب والشهادة يعلم ما في السماوات والأرض، ويعلم ما تكن الصدور وما يعلنه الإنسان، وهو الذي يعلم الآخرة حين إدراك علمها على الناس، ولكن الذين كفروا يتساءلون عن الآخرة وعن قيام الساعة ويستعجلونها، ولعلها تبغتهم وهم لا يشعرون.(139/1)
تفسير قوله تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله)
قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65].
أي: قل -يا رسولنا-: لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله.
والسماء: ما علاك، وهي تلك السماوات التي هي طبق عن طبق، وبين الأولى منها وبين الأرض خمسمائة عام، كما قال صلى الله عليه وسلم.
فهذه السماوات فيها الملائكة وكبيرهم جبريل عليه وعليهم السلام، فكل من في السماوات وكل من في الأرض جميعاً لا يعلمون الغيب، فلا يعلم الغيب إلا الله، ولا يعلم الغيب ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وما ورد عن الأنبياء من الغيوب فليس ذلك إليهم ولا من تلقاء أنفسهم، ولكن الله علمهم، كما قال ربنا: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27]، كما أعلم نبينا صلى الله عليه وسلم بما كان ويكون إلى قيام الساعة، وما يؤمن به المرء غيباً آمن به نبينا شهوداً، كما في ليلة الإسراء عندما أسري به إلى بيت المقدس، طرد الله عنه القردة والخنازير وعبد الطاغوت، وقد صلى بجميع الأنبياء والمرسلين إماماً، وكان ذلك إشارة لإمامته ورئاسته وسيادته عليهم صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك ما كان صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب بغير تعليم الله له، فقد عاش بين قومه أربعين عاماً، وكان كما قال الله له: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48] أي: ما كنت تقرأ كتاباً ولا تخطه بيمينك، ولا تدري ما الإيمان ولا الكتاب، ولكن الله علمك وهداك بعد ذلك، ونبهك وأرسلك بعد ذلك، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113].
وكان ذلك أعظم معجزة له صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد عاشره قومه أربعين سنة، وهو لا يعلم شيئاً، وإذا به يصبح يوماً وقد عَلم علم الأولين والآخرين كما علمه الله جل جلاله، وكان ذلك من علم الله.(139/2)
معنى قوله تعالى: (وما يشعرون أيان يبعثون)
قال تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65].
فهؤلاء المشركون لا يشعرون ولا يدركون كيف سيبعثون، بل والمؤمنون كذلك لا يدرون ولا يشعرون كيف سيبعثون، كالنائم عندما ينام، فهو يحرص على أن يتابع نومه ليدرك ذلك، فلا يشعر إلا وقد استيقظ مع الصباح، ولا يعلم كيف نام.
وهكذا الإنسان لا يشعر بأنه كان نطفة في رحم أمه، وأنه كان قبل ذلك في صلب أبيه، ولا يذكر كيف ولد ولا كيف رضع، ولا كيف حبا، ولا كيف مات، وهكذا يوم القيامة لا نشعر إلا ونحن وقوف بين يدي رب العزة جل جلاله حفاة عراة غرلاً، وقد دهشت عائشة فقالت: (الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: يا عائشة! الأمر أشد من ذلك)، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36].
يوم يقول كل واحد من الأنبياء والرسل: نفسي نفسي! حينما يستشفع، فما بالك بغيرهم، والذي لا يقول: نفسي نفسي هو خاتمهم صلى الله عليه وسلم وحده، فهو الذي يجيب ويقول: (أنا لها، أنا لها)، ويذهب فيخر ساجداً بين يدي العرش، ويلهم إذ ذاك بما يلهمه الله إياه.
وكما لا نشعر كيف خلقنا فإننا سنبعث بعد ذلك، ولا نشعر كيف بعثنا، ولكنا نعلم ذلك علماً كما أخبرنا به الله في كتابه، وأخبرنا به رسوله في سنته صلى الله عليه وسلم، فصدقنا ذلك وعلمناه علم يقين، وآمنت به جوارحنا وجميع خلايا أجسامنا، ولو كشف لنا الغطاء لما ازددنا إلا يقينا بما علمناه عن ربنا، وتعلمناه من نبينا.(139/3)
تفسير قوله تعالى: (بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها)
قال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].
ادارك علمهم في الآخرة، وهو العلم الذي أضاعوه في الدنيا، ومما يدل أن الآية متعلقة بالمشركين وحدهم قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ} [النمل:21 - 66]، فهذا العلم كان يجب عليهم أن يعلموه في دار الدنيا، بأن يعلموا بأن هناك بعثاً ونشوراً، وبأن هناك عودة إلى الحياة بعد الموت دائمة للمؤمن والكافر، وما جهلوه في الدنيا سيعلمونه في الآخرة.
يقول تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ} [النمل:66]، أي: تدارك علمهم وتتابع، واتصل، وأصبحوا يعلمون أن الآخرة حق، بعد أن عاشوا في واقعها، وبعد أن عاشوا فيما كانوا ينكرونه، فأصبح علمهم متداركاً، وأصبح علماً يقينياً، ولكن هذا العلم جاء بعد فوات الأوان، ولن يفيدهم، فلا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، فهؤلاء آمنوا بعد أن بعثوا، وبعد أن زال التكليف، فأخذوا يتمنون الأماني بأن يعودوا إلى الدنيا مرة أخرى، ولكن هيهات هيهات، فعقارب الساعة لا ترجع إلى الخلف، واليوم الذي يذهب لن يعود.
قال تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} [النمل:66] بل هم لا يزالون -وهم في الحياة الدنيا- في شك من الآخرة، فما أبلغتهم به أنبياؤهم، ونزلت به كتب ربهم، ورأوا عليه الأدلة القاطعة لم يزدهم إلا كفوراً وجحوداً وتكذيباً.
قال تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66]، فهم لا يزالون في شأن الآخرة عمياً لا يبصرون ولا يدركون ولا يعون، فقلوبهم لم تعِ الحق، فهم -كما وصف الله تعالى- كالأنعام، بل هم أضل؛ إذ الأنعام تفيد بما في بطونها وبظهورها وبألبانها وبأشعارها وأوبارها وأصوافها.(139/4)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون)
قال الله جل جلاله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل:67].
لا يزال الكفار على إصرارهم، وليس المراد بهم كفار قريش، ولا كفار العرب فحسب، بل الكفار الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، والذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة، فكلهم على دين واحد، وملة الكفر واحدة، فكلهم يقولون هذا، ويشكون في البعث، ويسخرون إذا سمعوا بأن مؤمناً يعتقد بأن الإنسان بعد الموت سيبعث مرة أخرى، وسيقوم مرة أخرى، وسينطق مرة أخرى، وعندما تخاطبهم بالمنطق ولغة العقول يعرضون ويهزون الأكتاف جهلاً وتقليداً.
يقول تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل:67] قالوا هذا لنبينا وقالوه للأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، فلم تتصور عقولهم السخيفة أننا إذا متنا سنبعث كما كنا، فقالوا: {أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل:67].(139/5)
تفسير قوله تعالى: (لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل)
ثم عادوا فأصروا على الكفر فقالوا: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [النمل:68].
قال لهم ذلك اليهود والنصارى بعد أن بدلوا وغيروا كتابيهم، فقال الوثنيون عباد الأحجار والمخلوقات: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا} [النمل:68]، وهو أننا سنعيش بعد الموت، وسنعود بعد التراب إلى ما كنا عليه من قبل في دار الدنيا، وعدنا هذا نحن وآباؤنا من أنبياء سابقين، وسمعنا هذا عن آبائنا كذلك، قبل أن يقوله النبي عليه الصلاة والسلام، وينزل به القرآن الكريم.
ثم عادوا فقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [النمل:68]، فهذه عقيدتهم، وهذا إصرارهم على الشرك والكفر.
يقولون: {إِنْ هَذَا} [النمل:68] أي: ما هذا، فـ (إن) نافية، أي: ليس هذا إلا أساطير، فما هو إلا خرافة وحكاية سطرت وكتبت في القصص وأحاديث الأولين، رواها الآباء عن الأجداد والأبناء عن الآباء، وليس هذا الذي يقرأ في الكتاب المنزل عليك كما تقول إلا ترداداً لذلك، وهذا ما لا يزال يقوله الكفار إلى اليوم من يهود ونصارى ومجوس.
فمن النصارى واليهود من لا يزال يقول: إنما البعث بعث الأرواح، والأرواح عندهم شيء لا وجود له.(139/6)
تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين)
ثم قال الله لنبيه: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [النمل:69] يقول لنبينا: قل -يا رسولنا- لهؤلاء: ((سِيرُوا فِي الأَرْضِ)) فتنقلوا وسيحوا وانظروا في آثار من سبقكم من أمثالكم من المجرمين، كقوم نوح، فلا تزال آثارهم في الأرض، والحفريات التي تتجدد في كل قطر وفي كل إقليم فيها من العجائب والغرائب ما يؤكد ذلك، ونحن لا نحتاج إلى تأكيد، ولكن هذا دليل لهؤلاء الجاحدين الكافرين المنكرين.
وقد كنت في متحف حكومي في لبنان، وإذا بصاحب المتحف يخرج لي صليباً ويقول: هذا الصليب مضى عليه قرون، فقلت: كم؟ قال: أكثر من عشرة قرون، والصليب شعار النصارى، فقلت له: صدق الله، وصدق نبينا صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا به عن الله؛ إذ قال الله عن عبدة الأوثان: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:30] فهم في كفرهم كانوا مقلدين قردة، والصلب هو الفداء فيما يزعمونه، وقد وجد الصليب في وثنيين سبقوهم، وكفار تقدموهم.
فالله تعالى يقول: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [النمل:69]، فانظروا كيف كانت عاقبة قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط الذين عاشوا على أرض سدوم التي هي جزء من فلسطين، ومكانها يسمى اليوم بالبحر الميت، فهذا البحر ميت لا يعيش فيه سمك ولا دواب، ورائحته كريهة.
فأرض قوم لوط قد قذفت ورميت بالحجارة المنضدة من جنهم وبئس المصير.
وقبل سنوات قريبة أرسل ملاحدة مرتدون من الشيوعيين في أرض روسيا بعثة استكشافية، فقالت هذه البعثة: لقد ظهرت القنبلة الذرية قديماً، فلابد من أن قوم لوط ضربوا بقنبلة ذرية، فأصبحت الأرض هكذا.
وهذا صحيح، ولكن الضارب لهم هو ربنا جل جلاله.
وهكذا فعل بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وبـ فرعون وقومه، وإذا جاء فعل الله لا يبقى للبشر فعل ولا عمل.(139/7)
تفسير قوله تعالى: (ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون)
ثم قال تعالى يخاطب نبينا صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النمل:70].
ومن المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على إيمان قومه، وعلى إسلام من يدعوهم إلى الإسلام، ولذلك قال الله له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، أي: لعلك مهلكها، ولعلك مفنيها، وقال له: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] فلا تُضع نفسك تحسراً وتؤلماً وتوجعاً عليهم، وهنا يقول له: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النمل:70] إن عوملوا بما عوملت به الأمم السابقة التي كفرت بالله وبأنعمه، وتلك سنة، فكل من فعل ذلك يعاقب بما عوقب به المشركون قبل.
فالله يقول لنبيه: قد صدر أمر الله في عقوبة هؤلاء والبطش بهم، والقضاء عليهم، كما فعلنا بمن سبقهم من الأمم الكافرة، فلا يأخذك حزن من أجلهم.
((وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)) أي: فلا تضق نفسك، ولا تتبرم بمكرهم وشركهم وكفرهم، وقد كانوا يتآمرون عليه، فتارة بالقتل، وتارة بالسجن، وتارة بالنفي، وتارة بالشتائم والتكذيب واتهامه بالرغبة في الحكم والسلطان والنساء والجاه وجمع الأموال، ولكن الله ناصر عبده، والعاقبة كانت له، ومع ذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يحزنه ذلك، وكان يتمنى إيمانهم بعد أن فعلوا معه الأفاعيل، وقالوا الأقاويل، ونصره الله عليهم نصراً عزيزاً مؤزراً، فجمعهم ثم قال: ما ترون أني فاعل بكم؟ فقالوا له: أخ كريم وابن أخ كريم.
نسوا شتائمهم، ونسوا كلامهم وكفرهم وجحودهم، فقال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، فأطلقهم مما كان ينبغي أن يكون؛ إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يقول له الله جل جلاله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال عن نفسه بأمر الله: (إنما أنا رحمة مهداة)، فما كان يريد عذاب قومه، ولا البطش بقومه، ولكنه إذا أمر فلابد من أن ينفذ أمر الله وإرادة الله، فقاتل من قاتل، وقتل من قتل، ونفى من نفى، وصادر من صادر، وقطع رءوس من أمره الله بقطع رءوسهم، وقد قال الله له: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [النور:54]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272]، فالنبي مأمور بأن يبلغ رسالة ربه، وكتاب ربه، ودين ربه، أما أن يهديهم ويجبرهم على الإسلام فلا، فالهداية بيد الله وحده.(139/8)
تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)
قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:71].
يقول هذا الكفار وقد أشركوا بالله، واستبعدوا أن يعودوا بعد التراب والفناء إلى ما كانوا عليه من أجسام كاملة، وأرواح متحركة، فهددوا بالويل وبالثبور، بعد أن فهموا قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم بأمر الله: {سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [النمل:69]، فستعاملون معاملتهم، وسيبطش بكم بطشهم، فأخذوا يستعجلون العذاب ويقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:71].
وقد قال هذا قومه صلى الله عليه وسلم، وقاله الأقوام السابقون للأنبياء الذين سبقوه، حيث قالوا: ((مَتَى هَذَا الْوَعْدُ)) أي: الوعيد بالضرب وبالبطش وبالسحق وبالعقوبة وبالنقمة.
فقال الله لهم: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل:72].
و (عسى) في القرآن للتحقيق، أي: قد تحقق وسيتم بعض ما تستعجلون، فقوله تعالى: (ردف) أي: قرب وأتى، وأصل الرديف من هو وراءك، يقال: أردف فلان فلاناً، أي: أركبه خلفه، أو جاء له تابعاً.(139/9)
تفسير قوله تعالى: (قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون)
يقول تعالى: ((قُلْ)) أي: قل -يا رسولنا- لهم: {عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل:72].
أي: عسى أن يكون قريباً ما استعجلتموه من عذاب ونقمة وبطش، فلا تستعجلوه، فهو آت لا محالة، ومصيبكم في الدنيا قبل الآخرة لا محالة، فقد حدث هذا بالسابقين، أخذوا بغزوة بدر بين قتيل وشريد وأسير، وطردوا من مكة المكرمة بعد أن دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن آمن أطلق من العقوبة، ومن أبى إلا الكفر أجل أربعة أشهر، ثم بعد ذلك طوردوا، ونزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] بعد أن كانوا سادة البلد وقادتها وموجهيها، وهم الذين حاولوا إبعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، ومنعوه من أن يدخلها معتمراً إلا بعد سنة، فإذا بهم أذلاء بين يديه، ففعل بهم كما شاء، ولعذاب الله أشد وأنكى.(139/10)
تفسير قوله تعالى: (وإن ربك لذو فضل على الناس)
قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} [النمل:73].
يقول ربنا وهو يمتن ويتفضل ويتكرم على عباده: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} [النمل:73].
إن ربك -يا رسولنا- ذو إفضال وذو امتنان وذو إحسان إلى عباده المؤمنين وغيرهم، ولكن أكثر هؤلاء الخلق، وأكثر هؤلاء البشر، وأكثر هؤلاء المتفضل عليهم لا يشكرون النعمة، ولا يجعلون لها قيمة، ولا يرفعون بها رأساً، ولا يحمدون الله، وهكذا الجحود والكفر.(139/11)
تفسير قوله تعالى: (وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون)
قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [النمل:74].
أي: إن ربك وخالقك جل جلاله يعلم أحوال هؤلاء الذين معك، فيعلم منافقهم وكافرهم، وصادقهم وكاذبهم، يعلم ما يكنون في أنفسهم ويجعلونه مكنوناً مستوراً مخفياً.
ويعلم ما يعلنون، أي: وما يظهرونه ويتجاهرون به هل هو كما يظهرونه ويعلنونه، هو النفاق والكذب والدجل، فالله تعالى محيط بهم، محيط بأعمالهم، سميع لأقوالهم، وهذا في مقام التهديد والوعيد، فالله يعلم كل أحوالهم هما أخفوا وما أعلنوا، فلا يطمعوا يوماً في أن يظهروا لك شيئاً لا وجود له لتعتقده؛ لأن الله الخالق يعلم منهم ما خفي وما أعلن.(139/12)
تفسير قوله تعالى: (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين)
قال تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:75].
فما من قضية، وما من مسألة، وما من شيء غائب عن النفس لا يعلمه أحد، غائب عن تصورنا، وعن علمنا، وعن معرفتنا، إلا يعلمه الله، فلا شيء غائب عنه، فهو تعالى يعلم الغائب، ويعلم الحاضر، وكل ذلك مدون في كتاب مبين في اللوح المحفوظ، جفت الأقلام، ورفعت الصحف بما كان ويكون إلى قيام الساعة.
فالذي أعلنوه، والذي أخفوه، وما غابوا عنه ولم يعلموه، أو تظاهروا بالغيبة عنه هو عند الله في اللوح المحفوظ مكتوب مبين واضح، وعلى أساسه يتصرف جند الله من الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.(139/13)
تفسير سورة النمل [76 - 81]
أنزل الله كتابه الكريم على سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وهو هدى ورحمة للمؤمنين، وفيه القضاء الفصل والحكم الحق لمن توكل على الله ورجع إلى أحكام كتابه الكريم، وبه ينذر الكافرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مكلفاً باستجابتهم إن عليه إلا البلاغ، وليس هو بمسمع الموتى ولا الصم ولا بهادي العمي، إن يسمع إلا من يؤمن بآيات الله.(140/1)
تفسير قوله تعالى: (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون)
قال الله جلت قدرته: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76].
كتاب الله هو القرآن الكريم خاتم الكتب السماوية المنزل على خاتم أنبياء الله ورسله نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فهذا الكتاب هدى للناس، ونور يبدل الظلمات ويدعو إلى التوحيد وعبادة الله الواحد الخالق، ويمنع الناس من عبادة الأوثان والأصنام، وهو مع ذلك يقص على بني إسرائيل ويعلمهم ويبين لهم حقيقة ما اختلفوا فيه فيما بينهم، ويبين لهم ما نقلوا فيه الحق إلى الباطل، وما حرفوا فيه كتاب ربهم إلى خزعبلات وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان.
فكتاب الله القرآن الكريم يذكر قصصاً وأحكاماً، ويذكر حقائق بينات يعلم فيها بني إسرائيل ما اختلفوا فيه وتنازعوا فيه، فبين لهم أكثر خلافهم، وأكثر ما تنازعوا فيه باللسان والسيف، والعداوة بينهم دائمة منذ آلاف من السنين إلى يوم الناس هذا.
وبنو إسرائيل هم اليهود والنصارى؛ لأن التوراة أنزلت على موسى وهو من أنبياء بني إسرائيل، والإنجيل أنزل على عيسى وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكلاهما لم يؤمرا إلا بتبليغ بني إسرائيل، ولم يرسلا إلا إلى بني إسرائيل، وقد بعث موسى أولاً، وبعد دهور جاء عيسى قبل نبينا عليه الصلاة والسلام بقرابة ستمائة عام، فبنو إسرائيل من أتباع موسى وأتباع عيسى قد اختلفوا اختلافاً بيناً، وتنازعوا في اختلافهم بكل ما يملكون من أنواع العداوة والحرب والقتال.
وعيسى لم يرسل إلى غير اليهود من بني إسرائيل، فلقد قال في الإنجيل: (إنما أرسلت إلى خراف بني إسرائيل خاصة)، وأكد هذا المعنى كتاب الله في قوله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف:6].
فهو لم يرسل إلا إليهم، ولذلك يقول ربنا هنا في شأن بني إسرائيل أتباع موسى وعيسى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76].
فهم قد اختلفوا وغووا في عيسى، فقال بعضهم: إن عيسى ليس ابن طاهرة وليس نبياً ولا رسولاً، فأفكوا وكذبوا وافتروا على الله، وشتموا نبياً من كبار الأنبياء ومن أولي العزم منهم.
وبعضهم فرطوا وتجاوزوا الحد، وزادوا ما لم يؤمروا به، ولم يقل لهم على لسان عيسى ولا على ألسنة علمائهم، فزعموا أن عيسى هو الله، وزعموا أن عيسى ابن الله، وزعموا أن عيسى ثالث ثلاثة، وكذبوا على الله وتجاوزوا الحد في مقامه وفي رتبته.
فهؤلاء غلوا وضلوا وأولئك غووا وضلوا، هؤلاء غلوا فزعموا الإلهية في عيسى، وأولئك غووا فزعموا عن عيسى ليس ابن طاهرة عفيفة، فجاء كتاب الله جاء القرآن الكريم فبين هذا الخلاف وقال الحق، وقال: زعم اليهود أنهم صلبوا عيسى، وزعم النصارى بأنه فعل ذلك عن اختيار منه بما سموه الفداء والصلب، وأنه فدى البشرية من ظلمها وعتوها، فكذبوا وافتروا، فجاء القرآن الكريم حاكماً بينهم مبيناً الحقائق بوضوح، ومبيناً الحق الذي لا يقبل غيره، فقال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، وقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59].
فكان بأمر الله، وبقول الله: (كن)، فبين الله جل جلاله الحقيقتين اللتين طالما تخاصم فيهما بنو إسرائيل من أتباع موسى وأتباع عيسى، فقال رداً على من زعم عيسى إلهاً أو زعم كونه ابن غير عفيفة: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران:59].
فكما خلق آدم بلا أب ولا أم، خلق عيسى من دون أب، وتلك قدرة الله، فليس بينه وبين أن يكون الشيء إلا أن يقول: (كن) فيكون.
وقال عن الصلب والفداء: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] فقتلوا شبيهاً زعموه عيسى، وعيسى لم يقتل، فلم يكن ثم فداء ولا صلب، وإنما هي أباطيل وأكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان، اشتغلت بها آراؤهم وضلت بها عقولهم، فجاء القرآن يبين لهم الحقائق، فهدى الله بعضهم، كـ عبد الله بن سلام الذي أسلم وحسن إسلامه، وقلة معدودة على الأصابع، فكانوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادقين في إيمانهم، والصادقين في صحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [النمل:76] أي: يذكر من القصص ومن الأحكام ومن الحقائق والبراهين {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]، فيزيل حيرتهم، ويزيل خلافهم وأباطيلهم، وذاك لمن قبل الهدى، وأنار الله بصيرته، وإلا فأكثرهم بقوا على غوايتهم، وعلى ظلمة الشرك وظلمة الكفر والوثنية والتكذيب، فحرفوا كتب الله السابقة، ولم يؤمنوا بكتاب الله اللاحق.(140/2)
تفسير قوله تعالى: (وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين)
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:77].
أي: هذا القرآن الكريم كما قص الله فيه ما اختلف فيه بنو إسرائيل فاهتدى من اهتدى، وبقي ضالاً من بقي ضالاً ممن سبق في علم الله كفره وشركه وخلوده في النار، هو كذلك هدى ورحمة، هدى الله به المؤمنين الذين آمنوا بحقائقه، ثم هو رحمة لمن آمن به من العذاب، ومن ظلمات الشرك والكفر، ومن الخلاف الذي ما أنزل الله به من سلطان.
وهذه هي صفة القرآن، فالله يهدي به المؤمنين ويرحم به المؤمنين بتلاوته وبالعمل بأحكامه.(140/3)
تفسير قوله تعالى: (إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم)
قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل:78].
إن ربك -يا رسولنا- يقضي بين هؤلاء المتنازعين الكفار من بني إسرائيل بحكمه الحق يوم القيامة، يوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، يوم يقفون بين يدي الله يوم القيامة، فيفصل بينهم فيما اختلفوا فيه وتنازعوا، وفيما لم يؤمنوا به مما جاء به محمد سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فزادوا ضلالاً على ضلال، وكفراً على كفر، فهو يحكم بين من آمن بما جاء به كتاب الله فيقضي له بالرحمة والجنان، وبين من أبى إلا الكفر والعناد فيقضي عليه بالنار والغضب.
يقول تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل:78] هو العزيز الذي لا يطاول ولا ينال، وهو القاضي على المخالفين والمعاندين بالذل والعقوبة والنار خالدين فيها أبداً.
وهو العليم بأحوال عباده، عليم بكفر الكافر، فيجازيه عليه بالنار والغضب، وعليم بإيمان المؤمن، فيجازيه على الإيمان بالرحمة والجنة.(140/4)
تفسير قوله تعالى: (فتوكل على الله إنك على الحق المبين)
قال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79].
أي: اجعل الله وكيلك -يا رسولنا- واجعله مآلك ونصيرك ومؤازرك ومعينك، فأنت على الحق الذي لاشك فيه، وكل من سواك على الباطل والضلال، إلا من آمن بما جئت به، وصدق الكتاب الذي أنزل عليك، وآمن بالله واحداً وآمن بك نبياً عبداً خاتماً للأنبياء، فاجعل الله وكيلك، فهو الذي لا يكلك إلى غيرك، ويتولى أمورك وينصرك على من عاداك.
{إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79] أي: فأنت -يا رسولنا- بالنور الذي أنزل عليك، وبما بعثت به من رسالة على الحق البين الواضح المشرق المنير، فلا تتردد في بلاغ الرسالة، ولا تتردد في دعوة الناس إلى دينك، وإلى الكتاب المنزل عليك، فأنت ذو الحق المبين المشرق المنير الذي لا حق سواه، ولذلك لا يقبل الله تعالى من الناس بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلا الإسلام، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
فلا يقبل غير الإيمان بالقرآن كلام الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يقبل غير الإيمان برسالة محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، فكل رسالة بعده باطلة، فكل من ادعى النبوءة أو ادعى أنه أوحي إليه بعد ذلك فهو ضال مضل.
والنبوءات والرسالات السابقة نؤمن بها على أنها كانت حقاً يوماً وأرسل أصحابها إلى أقوامهم خاصة، ثم بعد ذلك انتهت نبواتهم واقتصرت على أقوامهم، فلم تبق خالدة دائمة إلى يوم القيامة إلا الديانة الإسلامية والرسالة المحمدية، وما سوى ذلك قد انتهى ونسخ، وما بقي من كتبها قد غير وبدل ونسخ.(140/5)
تفسير قوله تعالى: (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء)
قال تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80].
فهؤلاء في كفرهم وابتعادهم عن الحق كالموتى، فكما أن الموتى لا يسمعون ولا يعون ولا يدركون فكذلك هؤلاء، ولو أن لهم آذاناً، فهم لا يسمعون بها، ولو أن لهم أعيناً، فهم لا يبصرون بها، ولو أن لهم قلوباً، فهم لا يفقهون بها، فهم كالأنعام، بل هم أضل، لأنهم موتى العقول والقلوب، فحياتهم أشبه بموت، وموتهم أشبه بحياة، فالميت لا يسمع ولا يعقل ولا يدرك، فقد غطى الران قلوبهم وابتعدوا عن الحق فهم كالصم، فكما أن الأصم لا يسمع لأن الله أفقده السمع، فكذلك هؤلاء لا يسمعون ولو أن لهم أسماعاً؛ لأن أسماعهم لا يستفيدون منها، فلا يسمعون الحق، ولا يؤمنون به.
يقول تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80].
والصُمّ: جمع (أصم)، وهو من يفقد السمع فلا يسمع، فهؤلاء موتى لا حياة لهم، وهم صم لا سمع لهم.
وقد يقول قائل: إن الأصم لا يسمع، سواء أكان مقبلاً أم مدبراً، والله يخبر هنا أن نبيه لا يسمع الصم إذا أدبروا، فهل معنى ذلك سماعهم حال الإقبال؟!
و
الجواب
أن الأصم قد يفهم منك بالإشارة عندما يكون مقبلاً عليك، وقد يسمعك إذا صحت فيفهم من إشارات صوتك ما تريد أن تقول له، ولكن هذا الأصم عندما يدبر عنك ويوليك قفاه وظهره لا يرى إشارات ولا يسمع صوتك مهما علا، فهو لا يسمع.
وهكذا شبه الله الكفار من بني إسرائيل وغيرهم بأنهم موتى، والموتى لا يسمعون، وبأنهم صم مدبرون، فهم أبعد ما يكونون عن السمع وعن الوعي وعن الإدراك، فالرسالة لم ينتفعوا بها، فأبوا إلا الضلال والبقاء على الكفر والوثنية، فهم موتى لم يستفيدوا من الحياة، وهم صم قد فقدوا الفائدة من السمع، ومع ذلك فالأنبياء جميعاً رسالتهم التبليغ، قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54].
فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس عليه الهداية، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272].
فالهداية من الله، وأما البلاغ ونشر الدعوة فتلك وظائف الأنبياء، وتلك أعمال الأنبياء، وذلك ما يجب عليهم، فمن آمن فلنفسه اهتدى، ومن كفر فعلى نفسها جنت براقش، والنبي ليس عليه إلا البلاغ المبين الواضح، فالله يقول لنبيه: إنك قد بلغت وأمرت ونهيت، فليس عليك هداهم، فالهداية ليست بيدك، وإنما عليك البلاغ وقد فعلت، فتبين أنهم موتى لا يسمعون ولا يهتدون، وأنهم صم لا يستفيدون من سمع.(140/6)
تفسير قوله تعالى: (وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم)
قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل:81].
أي: لست -يا رسولنا- بهاد للعمي، فالأعمى لا يستطيع أن يهتدي في طريقه ولا يرى محجته، ولا يعلم ما بين قدميه؛ لأنه يفقد النور ويفقد البصر، فلست بهاد للعمي إذ أبوا إلا العمى، فهم -إذاً- عمي صم موتى، فيصف الله الكافرين بأنهم عمي بقوا في الظلام، فلم يستنيروا بهذا النور المشرق، نور القرآن ونور الإسلام وهدايته.
يقول تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} [النمل:81] فلست بهاديهم، وليس ذلك من وظيفتك، وإنما الهداية على الله، كيف وهم عمي، والأعمى لا يقبل الهداية إذ لا بصر له، فلابد من أن يؤخذ بيده ليعلم موطئ قدمه، ولكن هؤلاء يأبون أن يضعوا أيديهم في يد الهادي المبلغ الموحى إليه صلى الله عليه وسلم، فلم يقبلوا هداية من الضلال القائمين فيه والشرك والكفر والوثنية.
قال تعالى: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل:81].
أي: فلست -يا رسولنا- بهادي العمي عن ضلالتهم، وإنما أنت تهدي من آمن بآياتنا وبقدرتنا وبكتابنا، فالمؤمنون بالله قلباً والناطقون بالإسلام لساناً هم الذين يستفيدون من رسالتك، ومن القرآن المنزل عليك، فهم الذين كانوا أحياءً وليسوا بموتى، وكانوا سامعين وليسوا بصم، وكانوا مبصرين وليسوا بعمي.
فالمؤمنون الذين آمنوا بكتاب الله وآمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا بالنور الذي أتى به هم الذين استفادوا وأنار الله بصائرهم، فاهتدوا وتركوا الضلال، ورأوا الهدى وعلموا موطئ أقدامهم فلم يحيدوا عن الحق، ولم يقعوا في حفر الطريق، ولم تلههم بنياتها يمنة ويسرة، فهؤلاء هم المؤمنون بآياتنا، المسلمون الذين آمن جنانهم، ونطق لسانهم، قالوا باللسان ما اعتقده الجنان، فكانوا مؤمنين حقاً، مؤمنين بالقلب، ناطقين باللسان، فهؤلاء هم أتباعك وشيعتك وأنصارك، أما أولئك فدعهم، فهم موتى عمي صم.(140/7)
تفسير سورة النمل [82 - 87]
إذا قربت الساعة وانتشر الكفر والفسوق والعصيان، يخرج الله تعالى دابة تكلم الناس فتقول هذا مؤمن وهذا كافر، ثم تتابع العلامات الكبرى فتقوم الساعة ويحشر الناس إلى ربهم فيسألهم عن تكذيبهم بآياته، فيحق على المكذبين القول، فحينئذٍ تخرس ألسنتهم فلا ينطقون.(141/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض)
قال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82].
يقول تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} [النمل:82] إذا وقع القول باللعنة وبالغضب وبالعذاب وبالمحنة ((أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ))، يخرج لهم دابة من الأرض (تكلِّمهم)) وفي قراءة: (تَكْلُمُهُمْ) أي: تجرحهم، وتقول بالكلام إن الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون، فأكثر الناس لم يكونوا موقنين، حتى بعض المسلمين، فهم مسلمون باللسان شاكون ومرتابون في آيات الله ودينه غير موقنين به، ولا راسخين في الإيمان به.
يقول تعالى في هذه الآية الكريمة: إذا حل غضب الله وبعد أن أمهل الله عباده دهوراً الله أعلم بمددها وأزمانها -والله يمهل ولا يهمل- أخرج لهم من الأرض دابة تكلمهم وتقول لهم: إن أكثر الناس كانوا لا يوقنون، فهم مؤمنون بالألسن غير متيقنين، وغير مخلصين في الإيمان، فهم يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، يقرءون في كتاب الله تحريم الكذب، والزنا، والسرقة، والربا، والظلم، ولكنهم يرتكبون كل ذلك، فيكذبون ويزنون ويسرقون ويرابون ويأكلون أموال اليتامى ظلماً.
والقرآن يأمرهم بخمس صلوات في اليوم والليلة، وبصيام شهر رمضان، وبزكاة الأموال، وبحج بيت الله الحرام، وبالصدق، وباليقين، وبحسن المعاملة، ويحذرهم من موالاة اليهود والنصارى، فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، ومع ذلك يخالفون كل ذلك، فتجد بعض الذين يزعمون الإيمان والإسلام يوالون اليهود والنصارى ويجرون خلفهم.
فعندما تصل الحالة إلى هذا في آخر الزمان يخرج الله للناس دابة تتكلم بفصيح الكلام باللغة العربية كما قيل، وتقول للناس: هذا كافر، وهذا مؤمن، وتخبر عن أكثر الناس بأنهم كانوا لا يوقنون، فإيمانهم ليس عن يقين، ولا عن ثبات، ولا عن صدق وإخلاص، والدابة قد تكلم بها القرآن كما نرى، وجاءت بها السنة النبوية، والنطق المحمدي يزيد الآية بياناً.(141/2)
ذكر ما قيل في وصف الدابة ومخرجها
وهذه الدابة هي دابة على أي حال، ولكن قال بعض السلف: وجهها وجه إنسان بلحية رجل، وسائرها جسد دابة، ووصفوها على غير المعلوم في الدواب، ومن ذلك أنها كلها شعر، لا تكاد تظهر عينها ولا أنفها ولا فمها، وأنها ستخرج في مكة المكرمة عند الصفا، وقيل: ستخرج في أجياد.
وقد نقل أنها ستخرج ثلاث خرجات: خرجة باليمن ولا تدري بها مكة ولا بقية العالم الإسلامي.
والخرجة الثانية: في بادية قريبة من مكة، وتدري بها مكة، عاصمة الإسلام، وإذا درت مكة درى العالم كله.
والخرجة الثالثة: تخرج والناس في الحرم بين الركن الذي فيه الحجر الأسود، وبين مقام إبراهيم، فيحاول الناس أن يفروا منها ويبقى المؤمنون، فتضع يدها على وجه المؤمن فيشرق كأنه الكوكب الدري.
أما الكافر فيحاول أن يفر، ولا يفلت منها هارب، فتلحقهم فيصعقون ويقفون، فتسمهم في جباههم بالكفر، ويتعارف الناس في أسواقهم إذ ذاك والكتابة على الجبين، فيقول المؤمن: يا كافر! بعني واشتر مني، ويقول الكافر: يا مؤمن! أريد مبايعتك.
فينكشف نفقات المنافق المظهر للإيمان.
ومن المعلوم أن مكة لا يقيم بها إلا مؤمن، ولكن الإخلاص في القلب لا يعلمه إلا الله، فالدابة تأتي وتكشف عمل القلب، فتكتب على جبين المنافق: هذا كافر، وعلى جبين المؤمن الصادق: هذا مؤمن، وتظهر تلك الكتابة على جبين المؤمن وكأنها الكوكب الدري المضيء، وتقرأ جبين الكافر من بعيد، وتجول الدابة في مختلف أقطار الأرض تسم الناس: هذا مؤمن وهذا كافر، فيميز إذ ذاك المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، ويكون الناس إذ ذاك -كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام- مشتركين في أموالهم، وهذا خبر معجز من النبي صلى الله عليه وسلم، أي: تكون إذ ذاك الشيوعية والاشتراكية في الأموال قد انتشرت بين الناس، وهذا الأمر أخذ الآن ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ويكاد أهل الكفر من يهود ونصارى ومنافقين يجمعون على ذلك، والكثير ممن يدعي الإسلام من داخل بلاد العرب وداخل بلاد الإسلام يطلبون ذلك، ويسعون لذلك؛ وما في ذلك إلا لعنتهم وخزيهم وغضب الله عليهم.(141/3)
ذكر علامات الساعة الكبرى
وفي الحديث الذي رواه أبو هريرة وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص وأنس بن مالك وجماهير من الصحابة، وأخرجه مسلم في صحيحه، والترمذي في سننه، وقال: حديث حسن صحيح، وهو حديث متواتر يقول الصحابي أبو الطفيل عامر بن واثلة أصغر الصحابة وآخرهم موتاً عن الصحابي حذيفة بن أسيد الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة من علية، ونحن نتذاكر شئون الساعة، فقال لنا: (إن بين يدي الساعة لعشر آيات).
وهذه العشر هي من الآيات الكبرى، ولم تظهر منها إلى الآن واحدة، وهذه العلامات هي: أن تشرق الشمس من مغربها، ويكون دخان، وتخرج الدابة، وينزل عيسى بن مريم، ويخرج الدجال، وتكون ثلاثة خسوفات: خسوف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب، وتخرج نار من قعر عدن تبيت مع الناس إذا باتوا، وتقيل معهم إذا قالوا، أي: تكون مع الناس في نهارهم، وتكون معهم في المبيت، وتخرج الدابة.
وفي رواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص: (بادروا ستاً: شروق الشمس من مغربها، والدخان، وخروج الدابة، ونزول عيسى، وخروج الدجال، وعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة إذ العامة قد فسدوا).
وفي رواية أن هذه العلامات كالعقد تنفرط حباته، فبعد خروج الدابة ينزل عيسى، ثم يخرج الدجال، ثم تكون الخسوف، وتكون الفتن حتى لا تقوم الساعة على رجل يقول: ربي الله.
وفي رواية أنه تأتي ريح فتأتي على كل مؤمن، ويرتفع القرآن من الصدور، وترفع مصاحفه، ويموت من يموت من المؤمنين، ويرتد من يرتد، ولا يبقى في الأرض إلا لكع ابن لكع، أي: كافر خسيس قذر قد سبق الكفر في أبيه وجده.
فقصة الدابة أتى بها القرآن، فلا ينكرها إلا كافر منكر لكتاب الله، وأكدت ذلك السنة النبوية.
كما أن الشمس يوماً ستقف وتستأذن ربها في أن تطلع من المشرق فلا يؤذن لها، فتطلع من المغرب، ويكون يوماً عظيماً على الناس، وعندما تظهر هذه العلامات وهذه الآيات الكبرى لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل.(141/4)
ذكر بعض صنيع الدابة
وجاء في وصف الدابة أن امرأً يحاول أن يتعوذ منها بالصلاة من أجلها وهو لا يصلي، وإذا بها تأتيه من خلفه وتكلمه وتجرحه، وتقول له: الآن ذكرت الصلاة! فتجرحه في جبينه، وتكتب عليه: كافر؛ لأن تلك الصلاة لم تكن صلاة مؤمن مخلص، وإنما كانت صلاة منافق كاذب، ظن أن الدابة ستتركه، ولكن الدابة معلمة مرسلة مكلفة من ربها بأن تصنع ما تصنع.
ومهما قلنا في وصفها وفي مكان خروجها فهي دابة على أي حال، تكلم الناس بصريح الكلام، وتقول: إن الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون ولا يخلصون في إيمانهم، فيميز الله الكافر من المؤمن، ويبرز المؤمن بين الكافرين.
يقول تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} [النمل:82] وقرئ: (تَكْلُمُهُمْ) من الكلم، وهو الجرح.
قال ابن عباس: تُكَلّمَهم وتَكْلمُهُم، تُكَلمِّهم بقولها -كما قال القرآن-: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82].
ثم هي تكلمهم وتجرحهم على جباههم بأن هذا كافر وهذا مؤمن، ويبقى ذلك علامة، والمؤمنون إذ ذاك قلة.(141/5)
تفسير قوله تعالى: (ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ممن يكذب بآياتنا)
قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:83].
يوم يحشر الناس وقد قامت القيامة، فيحشر من كل أمة فوج ممن كذب بالقرآن وكتب الله السماوية وكذب بوحدانية الله، وممن أشرك مع الله غيره، وممن لم يؤمن بأنبياء الله.
يقول تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} [النمل:83] أي: طائفة وفريقاً ممن يكذب بآيتنا.
قالوا: (من) هنا ليست تبعيضية، وإنما هي بيانية، فكل من كذب بآت الله من الأمم السابقة، ومن الأمم اللاحقة إلى الأمة المحمدية يحشرون إلى العرض والعذاب، والحشر يكون للمؤمن والكافر، ولكن هذا الحشر هو حشر المغضوب عليهم من الكفار.
{فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:83]: يدفع بعضهم ببعض، ويلحق آخرهم أولهم، فيدفعون إلى غضب الله وإلى النيران خالدين فيها أبداً {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
يقول تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} [النمل:83].
أي: ممن يكفر بالله ويكفر بآيات الله ويكذب بها، فهؤلاء جميعاً يوزعون فيدفع بعضهم خلف بعض، ويساقون سوقاً يلحق فيه أولهم آخرهم، وآخرهم أولهم إلى جهنم وبئس المصير.(141/6)