تفسير سورة الكهف [1 - 8]
يحمد الله تعالى نفسه في فاتحة سورة الكهف ذاكراً في معرض ذلك منته على عباده بإنزال الكتاب على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، يبشر به المؤمنين وينذر به الكافرين المشركين على دعواهم اتخاذ الله الولد، ومبيناً تعالى حال نبيه الرحيم بأمته، حيث كاد أن يهلك نفسه أسفاً عليهم لإعراضهم عن اتباعه.(1/1)
نسبة سورة الكهف وفضلها وسبب نزولها
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه وبركاته على سيدنا محمد سيد العرب والعجم، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأبرار، أما بعد: فيقول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف:1 - 3].
سورة الكهف سورة مكية، فيها مائة آية وعشر آيات، وقد نزلت على نبينا صلوات الله وسلامه عليه بمكة المكرمة.
وقد ورد في تلاوتها وقراءتها يوم الجمعة أجر وثواب، وورد أن من قرأ عشر آيات من أولها، وعشر آياتها من آخرها، لا يضره الدجال، وورد أن قراءتها تنزل معها السكينة من السماء.
وورد أن من قرأها يوم الجمعة حفظ من الدجال، ويؤجر ويثاب بتكفير سيئاته من الجمعة إلى الجمعة.
وسبب نزول هذه السورة أن كفار مكة أرسلوا إلى علماء يهود في المدينة فقالوا لهم: أنتم أهل كتاب، ومحمد يزعم أنه أوحي إليه بكتاب، فأخبرونا عنه، فقال لهم اليهود: اسألوه عن ثلاث، فإن هو أجابكم عنها فهو نبي، وإن لم يجبكم فهو متقول، اسألوه عن فتية ذهبوا في الزمن الأول، واسألوه عن رجل طاف المشارق والمغارب، واسألوه عن الروح.
فعادوا فاجتمعوا بالنبي عليه الصلاة السلام فقالوا: يا محمد! إنا سائلون أسئلة إن أنت أحسنت الجواب عنها علمنا أنك نبي، وإن لم تجب فأنت متقول، ما قصة فتية ذهبوا في الزمن الأول؟ وأخبرنا عن رجل طاف المشارق والمغارب؟ وما الروح؟ فقال لهم: غداً أجيبكم.
وإذا بالغد يأتي، ثم يأتي اليوم الثاني والثالث إلى أن مضى خمسة عشر يوماً، ولم يأته الوحي بجواب هؤلاء، فانزعج صلى الله عليه وسلم جداً، وأخذ الكفار يقولون: ها نحن سألنا محمداً فافتضح عندنا ولم يحسن الجواب.
وفي اليوم الخامس عشر جاءه جبريل بالوحي، وعاتبه ربه في قوله: أجيبكم غداً، ولم يقل: إن شاء الله، وكان قد نسيها صلى الله عليه وسلم، وذاك قوله تعالى في السورة: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].
ثم تداركه الله بلطفه ورحمته فأوحى إليه بالجواب عن الفتية وعن الرجل الطواف، وأخبره بجواب سؤالهم عن الروح في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].
فكان الجواب عن الروح أنه لا جواب، وأن علم الروح من أمر الله تعالى؛ لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وجاء الجواب في سورة الكهف عن الفتية الذين ذهبوا في الدهر الغابر، وعن قصة الرجل الذي طاف الآفاق.(1/2)
تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)
يقول تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1].
يحمد الله جل جلاله نفسه، وقد ابتدأ تعالى الخلق بالحمد، وأنهاه بالحمد، وافتتح كتابه القرآن الكريم بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وختم أمر الجنة بقوله تعالى عن أهلها: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10].
وابتدأ هاتين القصتين بحمد نفسه جل جلاله، فله الحمد كله، وإليه يرجع الحمد كله، وإذا حمدنا زيداً من الناس أو عمراً فإنما نحمده ظاهراً ومجازاً، وإنما الحمد لله الذي شرح قلب هذا الذي عمل عملاً يخدمك به، أو يقدم خدمة للناس، أو للإسلام، أو في أي شيء كان، فالحمد الخالص الكامل لله، فنحمده على أن هدانا للإسلام، ونحمده على أن وفقنا لاتباع نبيه عليه الصلاة السلام، ونحمده على أن عافانا في أبداننا وأرواحنا، ونحمده على أن أكرمنا بأن أغنانا عن الناس، فلم يُرق ماء وجوهنا لأحد سواه، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، فالحمد لا ينقطع، والنعم لا تنقطع، وبالحمد والشكر تزداد النعم، والكفران يسلبها.
فالله تعالى هنا يحمد نفسه ويعلمنا أن نحمده وأن نشكره، وأن نؤدي الحق لأهله، فيقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَاب} [الكهف:1].
وعبده هنا هو محمد سيد الخلائق، سيد الأولين والآخرين، خاتم الأنبياء والرسل، عليه صلوات الله وسلامه.
فالله يحمد نفسه، ويعلمنا أن نحمده على أن أنزل هذا الكتاب المهيمن على كل الكتب، الجامع لكل ما مضى من خيرات وافرات، وهداية دائمة، وصلاح في الدنيا والآخرة، فهو الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]، وهو الكتاب المعجز الذي فيه خبر من قبلنا وخبر من بعدنا.
فهذا الكتاب الذي جعله الله خاتم كتبه خص به عبده وسيد عبيده محمداً صلى الله عليه وسلم.
والكتاب إذا أطلق يراد به القرآن الكريم، فهو كتاب جميع المسلمين، وكتاب جميع العلماء، وهو الكتاب الذي فيه ما ينفعنا معاشاً، وما ينفعنا معاداً، وهو الذي جمع كل العلوم.
وإذا أطلق الكتاب بين أهل اللغة والأدب والنحو فالمراد به كتاب سيبويه في النحو وقواعد العربية.
قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]، فلم يجعله ناقصاً، ولم يجعله مخالفاً، ولم يجعله غير معجز، ولم يجعل فيه تناقضا.
والعوج يكون في المحسوسات والمعاني، يقال: فلان أعوج الخلق، أي: فيه اعوجاج عن الحق، واعوجاج عن الطريق المستقيم، ويقال: البناء فيه عوج، أي: فيه اعوجاج في هندسته وفي نظامه.
وهذه الآية كقوله تعالى: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28]، أي: فلا نقص فيه، ولا شين، ولا تناقض.(1/3)
تفسير قوله تعالى: (قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه)
قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا} [الكهف:1 - 2].
فهو القيم والقائم والمهيمن على ما سبقه من كتب سماوية، والقيم على كل كتب الناس وعلومهم، فما وافقه فهو الحق، وما خالفه فهو الباطل.
قال تعالى: {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} [الكهف:2].
أنزل الله هذا القرآن القيم المهيمن المستقيم الكامل الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] على البشير النذير ليتخذه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أداة في الخطابة وفي الدعوة وفي العلم، وفي مخاطبة الأعداء وفي مخاطبة الأنصار، وفي دعوة الناس إلى الحق والهدى والنور.
وقوله تعالى: {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} [الكهف:2] أي: لينذر الناس الذين لم يؤمنوا وأصروا على الشرك والكفر البأس الشديد، والغضب الشديد، والقوة الشديدة، والعذاب من الله والطرد من الرحمة والخلود في النار، إن هم أصروا على الكفر، وأبوا إلا الشرك، وحادوا عن الإيمان والتوحيد.
وقوله تعالى: {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:2] أي: من لدن الله، ومن عند الله، لا من عند محمد صلى الله عليه وسلم ولا من عند أحد من الخلق، فالله عندما يريد أن ينزل بأسه بالناس يسلط رسله على من يشاء من عباده المشركين والكافرين، وقد سلط نبيه صلى الله عليه وسلم على الكفار والمشركين من العرب والفرس والروم، إلى أن دانوا لله، وذلوا للحق، وقالوا كلمة التوحيد، وحادوا عن الشرك، ومن لم يستجيبوا ذهبوا بين شريد وطريد وقتيل، وما عند الله أشد وأنكى.
فهذا البأس وهذه النذارة الشديدة وهذا التخويف بالعذاب هو من لدن الله، ولكن الله يسلط عباده بأمره وببأسه على من يشاء من الكافرين الجاحدين.
قال تعالى: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} [الكهف:2].
أي: يبشر الذين آمنوا بالله واحداً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة، فهؤلاء المؤمنون ضموا إلى الإيمان بالقلب العمل بالجوارح، فقاموا بالأركان الخمسة من قول الشهادتين والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، كما تحلوا بالأخلاق الفاضلة، وتخلوا عن الأخلاق الرذيلة السافلة.
فهؤلاء المؤمنون يبشر منهم من مضى، ويبشر من يأتي، وهي بشرى قائمة إلى يوم القيامة بأن من آمن بالله وبرسول الله، وعمل صالحاً كان له الأجر الحسن، والأجر هنا هو الجنة.
قال تعالى: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف:3] أي: مقيمين خالدين أبد الآباد.(1/4)
تفسير قوله تعالى: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً)
قال تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4].
فالإنذار بالسوء هنا في أعظم أنواع الكفر، وهو الشرك بالله، بزعم أن لله ولدا.
والذين قالوا ذلك هم العرب، قالوا: إن الملائكة بنات الله، وكذلك اليهود، حيث قالوا: عزير ابن الله، وكذلك النصارى حيث قالوا: عيسى ابن الله، ومريم صاحبته، تعالى الله عن كل هذا الإفك علواً كبيرا.
قال تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ} [الكهف:4 - 5].
فليس لهم علم ولا دليل ولا برهان ولا حجة ولا سلطان من الله على أن لله ولداً، فلم ينزل بذلك كتاب، ولم ير أحد هذا الولد، بل إنهم لم يتفقوا على هذا الولد، فقالوا: هو عزير، وقالوا: الملائكة، وقالوا: عيسى.
فمن قال: إن الله اتخذ ولداً فقد قال كذباً وبهتاناً على الله، ولم يأت بذلك برهان ولا دليل.(1/5)
تفسير قوله تعالى: (ما لهم به من علم ولا لآبائهم)
قال تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ} [الكهف:5].
فهم يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23].
فلقد كانوا هم وآباؤهم ضالين مضلين، كذبة على الله مفترين.
قال تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5].
(كلمة) تمييز، أي: كبرت هذه الكلمة وهذه المقالة، وهي أن الله اتخذ ولداً، وأن الله اتخذ صاحبة أماً لهذا الولد، فهذه الكلمة عظيمة تكاد السموات أن تتفطر منها.
فهؤلاء لم يقتصروا على الكذب على رسول الله، وعلى أصحاب رسول الله، وعلى الصالحين، بل كذبوا على الخالق جل جلاله بما لم يأت به سلطان ولا دليل ولا برهان.
يقول تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5]، والأفواه: جمع (فو)، وهو من الأسماء الخمسة، فيرفع بالواو، وينصب بالألف، ويجر بالياء.
قال تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5].
فلم يقولوا ما قالوا وما نطقوا إلا بالكذب وبالبهتان وبالافتراء وبما ليس لهم عليه دليل ولا برهان، فكل ذلك من إفكهم ومخترعاتهم التي خلت عن الدليل والبرهان.(1/6)
تفسير قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم)
قال تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6].
فما ستقصه على قومك مما سألوك عنه ووجههم إليه يهود المدينة سيكذبونك فيه، ولن يصدقوك، فقد سألوك وأجبت، فما آمنوا ولا صدقوا، فلم يسألوك رغبة في العلم، ولا سعياً في معرفة الحقيقة، وما ذلك إلا التحدي، وما هو إلا التعجيز، وما هو إلا العناد، فأرح نفسك، ولا تهلكها ولا تتعبها.
يقول تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف:6] أي: مهلك نفسك، وقاض عليها، ومميتها؛ حرصاً على قومك وهدايتهم، وأسفاً على قومك حيث لم يؤمنوا بالحق مع الأدلة القاطعة التي تأتيهم بها مساء وصباحا، وليلاً ونهارا، فما تلك مهمتك، ولم تطالب بذلك، وإنما عليك البلاغ، وليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء.
فنبينا عليه الصلاة والسلام هو كما وصفه ربه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة:128].
فكان عزيزاً عليه وصعباً عنت قومه، وعناد قومه، وإصرارهم على الكفر، بل عنت جميع الناس، فقد كان حريصاً على هدايتهم، فالله يقول له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6].
فلعلك مهلك نفسك أسفاً وحزناً عليهم وموجعها ومؤلمها؛ لأنهم لم يؤمنوا ولم يصدقوا، وليس عليك هداهم، فمن سبق في علم الله ضلاله وكفره فسيبقى كذلك، ولن تفيده موعظة، ولن تفيده دعوة، ولن تفيده معجزة.(1/7)
تفسير قوله تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم)
قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7].
يقول الله جل جلاله: إنه جعل ما على الأرض زينة لها؛ ليختبر بها عباده، وليختبر بها الناس، وليختبر بها الجن والإنس، فزين الأرض بما فيها من أشجار ومياه وثمار، وأنواع من الحيوانات التي تمشي على أربع، والتي تطير في الهواء، والتي تعيش في البحار، فكل ذلك جعله الله للإنسان ابتلاء من الله واختبارا، ليظهر الذي يرى ذلك، فيعمل بمقتضاه، ويشكر الله عليه، ولا يتخذ ذلك نكراناً وجحوداً وكفرانا.
يقول تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7].
فما على الأرض من جبال راسيات، وبحار متلاطمات، ونسيم وخضرة زين الله به الأرض وجملها؛ ليبلو عباده أيهم أحسن عملا، فيظهر الذي سيكون أحسن عملاً بالطاعة وبالتوحيد، وبالامتثال لأمر الله، ولأمر رسوله.(1/8)
تفسير قوله تعالى: (وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً)
قال تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:8].
فهذه الدنيا التي زينت وزخرفت سيأتي عليها يوم وكأن لم تكن، فإذا بالأرض تصبح صعيداً جرزاً، أي: أرضاً قاحلة، لا شجر فيها ولا نبات، ولا طائر يطير، ولا دابة تسير، ولا إنسان يتحرك، إذ يذهب الله بكل ما فيها وما عليها، بعد أن ظن الناس أن هذه الأرض التي زينوها وتعبوا فيها منذ آلاف السنين قديماً وحديثا، وأوصلوها إلى ما لم تكن عليه يوما لن تزول، وإذا بكل ذلك يدمر، فتصبح صعيداً زلقا وجرزاً لا ينبت، فليس فيها نبات ولا زهر، ولا نعيم، ولا ما يشرب ولا ما يؤكل، وتجف البحار والأنهار، وتنقطع العيون.
وهذه بداية الفناء، وإلا فبعد ذلك لا تبقى الأرض نفسها ولا السماء، قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].(1/9)
تفسير سورة الكهف [9 - 11]
لقد كان أصحاب الكهف الذي أخبر الله تعالى عن قصتهم فتية شباباً، فروا بدينهم من قوم مشركين، فجعلهم الله تعالى آية على البعث والنشور، واتضح من قصتهم دور الشباب الفاعل في التغيير، للحماسة الجارية في أبدانهم، ولبعدهم عما يقعدهم عن العمل من شواغل الحياة، وإدراك هذا الأمر يرفد الدعوة الإسلامية بطاقات عظيمة.(2/1)
تفسير قوله تعالى: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً)(2/2)
آيات الله وقدرته العجيبة
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9].
لقد قال اليهود لسفيري قريش في قلة: لقد كانت عجائب وغرائب لشباب كانوا في القرون الأولى، فذهبوا ولم يعرف مكانهم، ثم بعد قرون ظهروا وبرزوا وكان من شأنهم وغرائبهم وعجائبهم كذا، فأنزل الله تعالى خبرهم بعد أن مهد للقصة بحمده تعالى وبيان أن القرآن حق، وأنه الذي أوحى به وأنزله على عبده، فجاء به نذيراً للمشركين، وبشيراً للمؤمنين، وبياناً أن الدنيا بما فيها من زينة وزخرف لم تكن إلا ابتلاء، ولم تكن إلا اختباراً، كما يختبر الطالب في مدرسة ليعلم أيرسب أم ينجح، والعبرة بالمستقر في الآخرة، فإما إلى سعير وإما إلى جنة.
قال تعالى لنبيه: {أَمْ حَسِبْتَ} [الكهف:9] أتظن كما ظن هؤلاء {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9].
أيظنون أن هؤلاء الفتية من أصحاب الكهف والرقيم، كانوا من آياتنا عجباً، فأعجب من أمر هؤلاء خلقك -أيها الإنسان- من عدم، ثم إماتتك ثم إعادتك، وأعظم من قصة أهل الكهف خلق السموات والأرض وما بينهما، وأعجب منها الدقائق والغرائب والعجائب في هذا الكون المنظم الذي لا يزيد فيه الليل والنهار عن أربع وعشرين ساعة ثانيةً واحدةً، ولا يزيد فيه أجل إنسان ولا ينقص منه.
فالدنيا كلها من بدايتها إلى نهايتها لها أجل مسمى عند الله، لا تزيد ولا تنقص، ففصول العام الأربعة لا تزيد ثانية ولا تنقص، فهذا الكون المنظم، من نظمه؟! ومن دبره؟! ومن خلقه؟! إنه الله جل جلاله.
وماذا ستكون الغرابة في شباب أميتوا دهراً ثم بعثوا بجانب إعادتكم يوم القيامة بعد آلاف من السنين؟! فقصة البعث أعجب وأغرب.
يقول تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ} [الكهف:9].
أي: أتظن يا رسولنا، والخطاب له والمقصود أولئك الذين أتوا متآمرين متكبرين من مشركي مكة إلى يهود المدينة، فإن كان قد جاءهم بالقصة الغريبة العجيبة من شأن أولئك الفتية فهو نبي الله حقاً، ولكن إذا كان هؤلاء يريدون الإغراب، ويريدون الإعجاب.
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] ولا عجب ولا غرابة في قدرة الله، فهو القادر على كل شيء، يفعل ما يشاء كيف يشاء متى شاء، ولا يعجزه شيء.
فهنا جاء الجواب بعد انتظار نبينا صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً تأديباً له من الله؛ لأنه لم يقل: إن شاء الله.
وربما انزعج لقول الكفار في تأخر الوحي عنه، ولكن الله لم يخيب عبده، ولم يخيب نبيه، ولكنه أرجأه أياماً لكيلا يعود مرة أخرى إلى ترك الاستثناء بمشيئة الله تعالى، وقد قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ} [الإنسان:30].
فهو أدب له، وهو أدب لكل إنسان، فلا تقل: سأفعل غداً؛ لأن الغد لا تملكه، فكيف تتكلم عن الغد بأنك ستفعل فيه وستقول وأنت لا تعلم هل ستعيش غداً أو تموت، وهل ستملك العمل إن عشت أم لا، فإذا كان الأمر لله، فعليك أن تستسلم، وأن تجعل المشيئة له، فإن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.(2/3)
بيان معنى الكهف والرقيم
والكهف: هو الغار المتسع، ذو العمق الداخلي، بخلاف الغار، فالغار يكون صغيراً.
والرقيم فيه أقوال كثيرة، حتى إن عبد الله بن عباس قال: علمت القرآن من بدايته إلى نهايته، ولم أعلم ما الرقيم.
وإن كان بعد ذلك فسر الرقيم، فقال: لا أدري أهو كتاب أم مكان.
وقد ورد في تفسيره أقوال عن الصحابة والتابعين وأئمة التفسير، فقد قال بعضهم: الرقيم قرية، وهي قرية أهل الكهف.
ولكن سياق الآية لا يدل على ذلك، فالرقيم هو حجر أو رصاص جعل على باب الكهف.(2/4)
ذكر ما روي من خبر أهل الكهف
ويروى في الأخبار أن هؤلاء الفتية كانوا في عصر دقيانوس، وقد زعم بعضهم أنه كان في أرض العراق، وزعم بعضهم أنه كان في أرض فلسطين، والأسماء لا عبر فيها ولا ينبني عليها عمل، ولا يمكن القطع بشيء من ذلك؛ بل قد ذكرت أسماء هؤلاء الثمانية الذين كانوا في الكهف، وذكر اسم كلبهم كذلك، واختلفوا في الأسماء، ولا حاجة لهذه الأسماء؛ لأن العبرة ليست في الاسم، ولكن العبرة فيما جرى لهم، وفيما تم على أيديهم، وفي قدرة الله، وأن البعث قد حصل في الدنيا قبل الآخرة؛ ليعلم من ينكر البعث أن الله جل جلاله الذي جعل البعث إلى يوم القيامة قادر على أن يجعله في الدنيا ويبتدئه في الدنيا.
فـ دقيانوس كان وثنياً، فكان يؤتى بالناس كبارهم ثم صغارهم فيأمر بذبحهم على أصنام صنعها ويقول عنها: هي الآلهة، فكان من خالفه يذبحه من ساعته.
وكان له قرابة بأحداث صغار، ولعلهم كانوا بين الخمسة عشر والعشرين عاماً، فهؤلاء فكروا، فقالوا: كيف يصنع دقيانوس من حجر صنماً ثم يقول للناس: هذه آلهتكم فاسجدوا لها وتقربوا إليها، واذبحوا عليها قرابينكم، وكان كل إنسان منهم يفكر هذا التفكير على حدة.
وفي يوم احتفال اجتمع الناس، فاجتمع هؤلاء الفتية، وأخذ كل شاب يكلم الآخر بما في نفسه، فتبين أنهم أنكروا الشرك وعبادة الأوثان، وقالوا: لا بد من أن يكون لهذا الكون خالق، فآمنوا بالله، واتبعوا ما سمعوا من أديان سابقة.
وقد اختلف الناس: هل كان هذا بعد إرسال عيسى أم كان قبله؟ قال ابن كثير: لو كان هذا بعد عيسى لما دل عليه علماء اليهود، فهم لا يؤمنون بعيسى، ولا يعتقدونه نبياً، ويقذفون أمه، وكيف يدلون أهل مكة على أن يسألوا محمداً عليه الصلاة والسلام عن قصة فتية يؤمنون بما كفروا به؟! فذلك يدل على أن هؤلاء كانوا قبل عيسى، كانوا من الموحدين من أتباع الأنبياء السابقين.
فلما علموا الحق كفروا بالأوثان، واتخذوا مكاناً للصلاة وللعبادة، وإذا بـ دقيانوس يبلغه الخبر، فأرسل إليهم: ألستم بمؤمنين بآلهتي؟ فقالوا: لا.
وقد كان عليه شارة الملك، فأمر بإحضارهم، ثم أرجئوا إلى الغد تكرمة لقرابتهم، وقبل أن يأتي الغد فكروا طويلاً، فقال بعضهم لبعضهم: نحن غداً إما مشركون، ونعوذ بالله من الشرك، وإما مقتولون شر قتلة، فماذا نصنع؟! فتداولوا الأمر، وكانوا سبعة، واتفق الكل على الاختباء في غار ذكروا له اسماً، وذكروا له محلاً، وبينما هم ذاهبون إذا براع يلحق بهم فيسألهم أن يذهب معهم، فأبعدوه، فأصر، فاصطحبوه فتبعه كلبه، فأصبحوا ثمانية ومعهم كلب، فدلهم الراعي على كهف فساروا إليه، فلما دخلوه ضرب الله على آذانهم، فمنع أن يصل إليها سماع أي شيء، لأن النائم إذا كثرت عليه الأصوات أزعجته وأيقظته، والله أراد أن ينيمهم ثلاثمائة من السنين وتسعاً، فأصم آذانهم عن أن يسمعوا شيئاً.
وكانت الشمس تدخل عليهم صباحاً ومساء ولا تمسهم، فيبقى شعاعها وضوؤها، وإلا لو مستهم الشمس لأضرت بهم.
وكانوا يتحركون يميناً وشمالاً، فالهواء يدخل، والشمس تنظف وتطهر، ولكن لا تمس الأجساد، بل تتزاور عنهم يميناً وشمالاً في الصباح وفي المساء.
فلما أفاقوا قال بعضهم لبعض: {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]، وكان الله تعالى قد جعل عليهم في الكهف هيبة، حتى لا يكشف أمرهم قبل أوانه، فكان الناس يأتون الكهف، ومن يحاول الدخول إلى الكهف يشعر بقشعريرة ورهبة وخوف.
فلما أفاقوا أحسوا بالجوع، فأرسلوا أحدهم ليأتيهم بالطعام، فلما خرج أخذ يتلفت يميناً وشمالاً قائلاً: أهذه البلدة التي كنا نعيش فيها؟! فلقد وجد فيها شعارات الإيمان والتوحيد في الطرقات، ورأى أن الناس كلها تنظر إليه، ورأى لباسه غير لباسهم، وأن لحيته وشاربه قد طالا كثيراً، فشعر بأن الناس ينفرون منه، ويرون عجباً في شكله، فكان يمشي في الطريق وعيناه زائغتان، ويلتفت يميناً وشمالاً فلا يجد في البلد من يعرفه، فأخذ يتساءل: هل هذه المدينة قريبة من مدينتي؟! لا أعرف مدينة قريبة منها، وهكذا إلى أن تجرأ بعد ذلك في عيون زائغة، وفي حركات مريبة، وفي وجه مخيف، وفي حركات غير مستقرة، فوقف أمام صاحب دكان فقدم له درهماً فأخذ الدرهم، وبدأ يحقق النظر فيه، فالوجه غريب، واللحية طالت، وزيه غير الأزياء التي يلبس الناس، فلما أخذ الدرهم وجده قد مضى على ضربه قرون، وفيه اسم دقيانوس، فأخذ يتساءل: أين دقيانوس؟ ومتى كان دقيانوس؟ فأمسكه، وقال له: لعلك وقعت على كنز، فإما أن تدلني عليه وأما أن أبلغ بك الإمبراطور الحاكم؟! وارتعد وخاف أن يأخذه إلى دقيانوس قريبه، فيلزمه بالشرك أو يقتله، فينكشف إخوانه الذين تركهم جائعين في الكهف، ثم أخذ يطلع جيرانه في الدكاكين على هذا الدرهم، فجمع عدداً، وإذا بالكل يلتف حوله، قائلين: من أنت؟ ومن أين جئت؟ ومن أي بلد؟ فأخذ يتكلم، ثم أخذ يبكي حين شعر بأنهم موحدون، فأخذ يفرك عينيه، ليعلم أصاح هو أم نائم، وما هذه البلدة؟! فهل اختطفته الجن؟! ولم يعرف ما جرى.
فأخذوه إلى حاكم البلد، وهو يظن أنهم سيأخذونه إلى دقيانوس، فوقف أمام حاكم البلد، فوجد على الناس شارات الإسلام والإيمان، فسألوه: من أنت؟ فسمى نفسه، وأخذ يقول لهم: لا تأخذوني إلى دقيانوس، فلم يعرفوا الاسم، وسألوه عن قريبه فقال: دقيانوس، فقالوا: أنت مجنون، من أين جاءك هذا الدرهم؟! فقال: درهم -والله- لم أسرقه، ولم آخذه من أحد.
ثم قال: اذهبوا معي إلى إخواني في الكهف، وكانوا قد سمعوا قصة الكهف والرقيم، وهي أن جماعة من الشباب من الأسرة المالكة فروا بدينهم إلى الكهف، ولم يخرجوا، وأن أسماءهم كتبت على لوح من رصاص أو من حجر، ووضعت في جانب من الكهف، فذهبوا فقرءوا اللوح، فأدركوا آنذاك أن هذه معجزة وآية، ففرحوا بأن الله أحياهم ليعلموا أنهم على دين حق، وأن البعث والنشور المنتظر حق، أدركوا ذلك وهم أحياء، فبادروا واتصلوا بملكهم، فجاء مسرعاً، فرأى الرقيم، فدخلوا عليهم، فلما دخلوا عليهم رعبوا، وهابوهم وفزعوا منهم، وجاء ذلك الذي خرج ليأتي بالطعام فدخل الكهف، وبعد أن تجمع الآلاف وحصلت ضجة في البلد مات أصحاب الكهف، فقالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21].
فبنوا المسجد، وبقي ذكرى لوجودهم، وذكرى لإيمانهم، وذكرى لما أظهر الله من قدرته على البعث في الدنيا قبل الآخرة.
وفي سورة الكهف أيضاً ذكر قصة ذي القرنين الذي جاب الآفاق، وفيها قصة ذي الجنتين مع أخيه الذي لا جنة له، وهذه كانت زيادة في الوعظ والإرشاد والتعليم والإيمان، والبعد عن البخل، وعدم أداء الحقوق للفقير والمسكين.(2/5)
الاهتمام بالشباب
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} [الكهف:9].
والمراد بهم الفتية الشباب، والشباب أقرب إلى التبدل والتغير، فإذا جاء الخير كانوا إليه مسرعين، وإذا جاء الشر كانوا إليه مسرعين.
ولذا كان أول من آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام هم الشباب، وقلة من الكهول أسنانهم بين الثلاثين والأربعين، وكان ولاته صلى الله عليه وسلم من الشباب، فقد أمر على مكة بعد أن فتحها عتاب بن أسيد وهو شاب، وأمر علياً وهو شاب، وكان قادة الجيوش من الشباب، كـ أسامة بن زيد، فقد أمره صلى الله عليه وسلم وجعله القائد العام قبيل موته وفي الجيش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وكبار القوم، وسنه سبعة عشر عاماً؛ وأما الخليفة فإنه يختار كبيراً حكيماً، ليس نزقاً، حتى إذا ولى الشباب كان هو الذي يكف من حدتهم، وهو الذي يعدل من سيرهم، وكان مستشارو عمر رضي الله عنه من الشباب، فقد كان منهم عبد الله بن عباس ولم يبلغ عمره بعد عشرين عاماً.
فقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه ثلاثة عشر عاماً، فأتم الخمسة عشر بخلافة أبي بكر، ثم ولي الخلافة عمر، فاتخذه مستشاراً وهو ابن خمسة عشر عاماً، إلى أن لقي الله بعد عشر سنوات من الخلافة، ولم تزد سن عبد الله بن عباس على خمسة وعشرين عاماً.
وكان عمر عليه رضوان الله يقول: إنني أستشير الشباب أبتغي بذلك حدة أذهانهم.
فالشباب معروفون بالشجاعة والإقدام، فليس هناك مال ولا جاه ولا منصب يخافون عليه، فإن دفعوا للموت ماتوا، وإن دفعوا للمغامرة غامروا، أما الشيوخ وقد تمولوا وأصبحوا آباءاً وأجداداً، وأصبح لهم جاه وسلطان، فإنهم يخافون على أموالهم وعلى جاههم وعلى أولادهم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (الولد مجبنة مبخلة)؛ فالأولاد يحملون الإنسان على أن يكون جباناً، وعلى أن يكون بخيلاً.
فيكون جبانا إذا أقدم، فيقول: سأموت وتبقى المرأة أرملة، ويبقى الأولاد أيتاماً، وإذا أراد أن يعطي يقول: لمن أترك أولادي؟! أأعطي الناس وأترك أولادي فقراء؟! فالشباب غالباً يكونون مندفعين، وهذه سنة الله في الكون.
ودائماً تجد الدعوات تنجح بين العمال والطلاب، فالطلاب والعمال غالبهم شباب، فإن كان الداعية صالحاً كانوا صالحين، وإن كان الداعية فاسداً كانوا كذلك، ولذلك كان على الدولة أن تحفظ شبابها -طلاباً كانوا أو عمالاً- من دعاة السوء وأئمة الكفر، حتى لا يقع الشباب ضحايا الكفر والشيطان، لا لحسنة أدركوها في الدنيا، ولا لحسنة أدركوها في الآخرة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام ولى الشباب أعلى المناصب، ونحن نرى ابن العشرين لا يزال يقاد، فهو لا يزال مراهقاً، ونتكلم عنه على أنه لا يزال ولداً، ولا يزال بعيداً عن تحمل المسئولية.
وهكذا عندما يذل الله أمة ويبعدها عن الحق، وعن الطريق المستقيم، تعيش في السخط، وتعيش في الضلال، ويستعبدها عدوها عقوبة من الله وامتحاناً.(2/6)
ذكر بعض خبر النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9].
وقد عاش النبي عليه الصلاة والسلام في الغار حتى آن أوان نزول الوحي عليه، فألهمه الله أن يذهب إلى الغار وحده، ولم يكن معه جماعة، فكان يذهب إلى الغار الذي لا يزال معروفاً، وهو غار حراء، فكان يتحنث ويتعبد فيه بالفكر، ويقول في نفسه: هذه الدنيا على عظمتها أيمكن أن تكون بلا خالق؟! أيمكن أن يكون الدين ما عليه قومي، وهم يسجدون للأحجار وللأوثان، ويصنعون من التمر صنماً ثم يجوعون فيأكلونه؟! وقد أراد مرة أن يحضر لهوهم في مكة فقال لمن كان يرعى معه: بلغنا اليوم أن هناك عرساً واجتماعاً فارع غنمي حتى أحضر العرس فذهب ليطلع على عرس للمشركين، وإذا بالله الذي يهيئه لرسالة العالم، ولإمامة الأئمة يمنعه عن ذلك، فلم يكد يصل حتى أصيب بما أصيب به أهل الكهف، فنام إلى أن أصبح الصباح ومسه حره الشمس، وإذا بالقوم قد تفرقوا، وأعاد هذا مرة ثانية، فحفظه الله وصانه، وكان ذلك إرهاصاً لما يعد له، إلى أن نزل عليه الوحي في الغار، حيث جاءه جبريل فضمه إليه ضمة شديدة كادت أضلاعه أن تتداخل منها، وكان يقول له: اقرأ، وهو يقول: ما أنا بقارئ.
وقد اجتمعت برجل ماروني هو الآن أديب مشهور قد تجاوز التسعين، وقد ترك النصرانية وقارب الإسلام، وقد رأى رؤيا أولتها له بأنه قريب من الهداية، فاغتر وظن أنه نبي، وأخذ يدخل المغارات، ويصدر الكتب يعارض بها القرآن والتوراة والإنجيل، ويقول: يا بني آدم، يا ابن آدم، وهكذا تلاعب به الشيطان، حيث انتظر جبريل فلم يأته في الغار، وإذا به يأتيه الشيطان!(2/7)
تفسير قوله تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف)
قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10].
الفتية: جمع قلة، ولا يقال: فتى وفتية إلا للشباب الأحداث، ولذلك قالوا: كانت أعمارهم بين الخمسة عشر والعشرين عاماً عندما أرادوا الفرار بدينهم وبتوحيدهم، واعتزال المشركين وأهل الكفر.
ولذا قال علماؤنا: عندما تنتشر البدعة، وينتشر الكفر، ويعم الفساد في الأرض يجب على الإنسان أن يعتزل الناس، كما اعتزل الفتية قومه إلى الكهف.
يقول تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ} [الكهف:10].
و (إذ) هنا مصدرية زمنية أي: اذكر -يا رسولنا- وأنت تسأل عن قصة أهل الكهف، اذكر هؤلاء إذ أووا إلى الكهف، أي: اتخذوه مأوى، واتخذوه معزلاً، واتخذوه مكان اختفاء عن المشركين.
قال تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [الكهف:10].
أي: من عندك يا رب، لا بما نستحقه، فنحن في الكهف غرباء، لا طعام ولا شراب، ولا حراسة ولا حماية، إلا إذا شئت أنت، فارحمنا حتى لا يفتننا هؤلاء عن ديننا، وحتى لا يقهرونا، وحتى لا يقتلونا ويعذبونا، وحتى لا نضطر فنعود إلى دينهم.
قال تعالى: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10].
أعدنا لما يصلحنا، ولما يبعدنا عن المشركين والكافرين من قومنا، ولما نحتفظ فيه بتوحيدك، ونحتفظ فيه بعبادتك.(2/8)
تفسير قوله تعالى: (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً)
قال تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11].
أي: ضربنا على آذانهم فأنمناهم، والنائم لا يسمع المتكلم، وإذا كثر الضجيج عنده يستيقظ، ولكن الله تعالى أصم آذانهم، فضرب عليها النوم، فلم يسمعوا ضجيجاً.
يقول تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} [الكهف:11].
أي: أنمناهم لكي لا يسمعوا، وتركناهم يستغرقون في النوم سنين عدداً، وهي ثلاثمائة وتسع سنوات، أي: ثلاثة قرون وتسع سنوات.(2/9)
تفسير سورة الكهف [12 - 16]
لقد ذكر تعالى قصة أهل الكهف مجملة في آيات من هذه السورة العظيمة، ثم عاد فذكر تفاصيل قصتهم العظيمة في دلالتها على التوحيد والبعث والنشور، حيث ذكر تعالى أنهم أووا إلى الكهف راجين من الله أن يؤتيهم رحمة ويهيئ لهم من أمرهم رشداً، وذكروا حال قومهم وما هم عليه من الشرك الذي لا سلطان لهم عليه ولا دليل.(3/1)
تفسير قوله تعالى: (ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا)
قال الله جل جلاله: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:12].
لا نزال مع قصة أهل الكهف، حيث أنامهم الله دهراً وزمناً طويلا، ليكونوا مثالاً للبعث يوم النشور، وليؤمن من يؤمن، ولتقوم الحجة على من أبى إلا الكفران والجحود.
يقول الله جل جلاله عن هؤلاء الفتية وقد أنامهم في الكهف سنين عدداً: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف:12].
أي: ثم أيقظناهم وأقمناهم من النوم، وذلك يشعر الناس بأنهم ما ماتوا، ولا اندثروا ولا فنوا.
{لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:12].
ومعنى ذلك أن حزبين من الناس اختلفا في هؤلاء الفتية من أهل الكهف، كم لبثوا؟ وفي أي مكان رقدوا؟ وفي أي كهف غابوا؟ والله جل جلاله هو العالم سلفاً، فبعثهم الله وأيقظهم من رقادهم، لُيعلم أي هؤلاء الذين اختلفوا أحصى وأصوب، وأيهم أعلم بالواقع بمقام هؤلاء الذين أقاموا في الكهف.
هذا ما أجمل الله به قصة هؤلاء الفتية في الكهف، وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام، بعد أن أخبره بما سأله عنه قومه من اقتراح يهود المدينة: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:9 - 12].
ففي هذه الآي القصار أجمل الله الكلام عنهم، ولخصه، وهو أنه قد أنامهم في الكهف، وضرب على آذانهم فلم يسمعوا كلام أحد، ولم ينفذ الكلام والضجيج إلى آذانهم فيكون ذلك سبباً لإيقاظهم.(3/2)
تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك نبأهم بالحق)
ثم أخذ تعالى يفصل فقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13].
فما سمعت عن هؤلاء ليس إلا كلاماً دخله الحق والباطل، سواء ما قصه اليهود وغير اليهود، ولكن الحق فيهم، وفي مدة إقامتهم وعددهم، وأين كانوا هو ما نتلوه عليك ليسمعه من رغب من قومك، ومن تبعك من المؤمنين المسلمين، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13].
فالله جل جلاله يقول: سنقص عليك نبأهم، وخبرهم، فهؤلاء الفتية الذين غابوا زمناً ثم أحياهم الله، قد كان يظن أنهم ماتوا، ولم يكن كذلك، وإنما ناموا، وضرب الله على آذانهم فطال سباتهم، وطال نومهم قرونا.
يقول تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ} [الكهف:13] أي: نبأ هؤلاء الفتية (بِالْحَقِّ)، أي: نقص الحق من شأنهم ومن أمرهم.(3/3)
بيان معنى قوله تعالى: (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى)
قال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} [الكهف:13].
أي: جمع فتى، وهو الشاب الحدث، فهؤلاء الذين غابوا في الكهف كانوا شباباً فروا بدينهم وعقيدتهم من الكفر والطغيان وعبادة الأوثان، ومن جبروت دقيانوس الوثني ملك الروم آنذاك.
قال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].
فهؤلاء الفتية الشباب تركوا قومهم واعتزلوهم؛ لأنهم استنكروا وثنيتهم وعبادتهم للأصنام من دون الله، فهم قد آمنوا بالله الواحد القهار جل جلاله، وبأن كل ما في الكون من خلقه، فلا شريك له ولا معين، ولا ولي له من ذل، ولا شريك له في الملك جل جلاله.
يقول تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13]، أي: آمنوا بالله الخالق {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، أي: زدناهم هداية واطمئناناً وبصيرة وتمسكاً بالحق من غير شك ولا مين ولا تردد.
فهؤلاء الفتية كانوا شباباً أحداثا مؤمنين بربهم، فروا بدينهم، فزادهم الله تثبيتاً، وزادهم بصيرة، وزادهم في توحيدهم هداية، ولم يتأثروا بشرك مشرك، ولم يهابوا طغيان طاغية، وثبتوا على ذلك، وكانوا على بصيرة من أمرهم.
والربط على القلب يعني الثبات واليقين وعدم التردد والشك والميل في العقيدة.(3/4)
تفسير قوله تعالى: (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا)
قال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14].
قلنا في بداية القصة: إن هؤلاء الفتية كانوا أقارب للملك دقيانوس، فاجتمع كل منهم إلى غيره حتى صار عددهم ثمانية، واتخذوا معبداً يعبدون الله فيه، وينفردون عن أولئك الذين يعبدون الأوثان والأصنام والحجارة، وبلغ دقيانوس خبرهم فكاد يجن، فأرسل إليهم، فلما وقفوا بين يديه وهم شباب أحداث ربط الله على قلوبهم، ورزقهم قوة ويقيناً، ورزقهم شجاعة، فأعلنوا دينهم، وأعلنوا عقيدتهم، بل دعوا دقيانوس إلى التوحيد وعبادة الله.
فقاموا بين يدي دقيانوس عندما دعاهم وأخذ يقول لهم: كيف تركتم ديني وآلهتي واتخذتم لأنفسكم إلهاً غير الإله الذي أعبد؟! فقاموا بين يديه في ثبات ويقين، وكان قد أوقفهم لينذرهم وليتوعدهم بالبطش والرجم وقطع الأيدي والأرجل، فلم يهابوه ولم يخافوه، وقالوا له وهم قائمون بين يديه، وقد كان يظن بهم الهلع والجزع والخوف: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14].
أي: ليس الإله الحق ما تعبد يا أيها الملك، فنحن نعبد خالقك وخالقنا، نعبد رب السموات والأرض، وليس هو ربنا وربك فحسب، ولكنه رب الكل، وخالق الكل، فأخذوا يدعونه إلى الله، وترك الأوثان والإشراك في عبادة الله.
وقد قال لهم: اتخذتم رباً دون ربي؟! فقالوا له: لم نتخذ رباً، ولكنه الرب الموجود الأبدي الأزلي الخالد، الأول والآخر، والظاهر والباطن، الذي بيده الأمر، وبيده الخلق، وهو رب السموات ورب الأرض ورب كل شيء {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} [الكهف:14].
فلا تنتظر ذلك منا، و (لن) لتأبيد النفي، فخذ يقيناً منا أنا لن ندعو غير الله، والدعاء العبادة، ومن هنا قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (الدعاء مخ العبادة).
فلا يدعى إلا الله، ولا يطلب إلا الله، ولا يلجأ إلا إلى الله جل جلاله.
يقول تعالى عنهم: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} [الكهف:14].
أي: لا تنتظر ذلك منا يا دقيانوس، واصنع بنا ما تريد، فلن ندعو إلهاً من دون الله خالق السموات والأرض، فإلهنا وإلهك وربنا وربك ورب السموات والأرض جميعاً هو الله تعالى، فلن نعبد غيره، ولن نعترف بسواه.
قال تعالى: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14].
أي: إن نحن فعلنا فدعونا غيره وعبدنا سواه؛ فقد قلنا الشطط، والشطط: الزور والباطل والبهتان، والشطط في الأصل: تجاوز الحق، وتجاوز الواقع، ويجمع كل ذلك الزور والبهتان والكذب.
وإذا بالملك يزيل عنهم شعار الأسرة المالكة من لباس الذهب ونحوه، ويلبسهم ألبسة الناس العاديين، ويضرب لهم أجلاً إلى الغد، فإذا لم يفعلوا ولم يعودوا إلى دينه فإنه سيرجمهم، وسيقتلهم، وسيصلبهم في جذوع النخل، وسيقطع الأيدي والأرجل من خلاف، وخصهم بالإنظار لقرابتهم منه.
وكان هذا الإنظار لصالحهم، فتركوه وذهبوا ليلتهم يديرون الأمر والفكر، فما العمل؟ إن هذا الطاغية الجبار المشرك الوثني أبى إلا أن يشرك بالله، وأن يفرض شركه على غيره، فكان رأيهم الذي اتفقوا عليه أن يفروا بدينهم منه، وأن يذهبوا إلى مكان لعل الله ينقذهم، ولعل الله يبعدهم عن طغيانه وجبروته.(3/5)
تفسير قوله تعالى: (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة)
ولما ذهبوا وجلسوا وأخذوا يتحدثون قالوا فيما بينهم: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الكهف:15]، وليس إلهاً واحد {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15].
فأخذوا يقولون فيما بينهم، ويقولون لربهم وهم يدعونه بأن يلهمهم الرشاد في الفرار من هذا الظالم الطاغية: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا} [الكهف:15] أي: عشيرتنا، {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ} [الكهف:15] من دون الله الخالق جل جلاله، {آلِهَةً} [الكهف:15]، فلم يقتصروا على عبادة الله وحده، بل اتخذوا آلهة من دونه أفردوها بالعبادة، وخصصوها بالوثنية.
{لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:15] فهذا الذي قالوه ألهم عليه سلطان وحجة ودليل وبرهان، أم افتروه؟! فمن أين أتوا بالشرك والشركاء؟! فهل لهم بذلك نبأ عن نبي، وهل لهم كتب يتدارسونها يزعمون أنها من كلام الأولين من الحكماء والمؤمنين والعارفين؟! هيهات هيهات، وإنما هو اتباع الآباء والأجداد في دين لم يشرعه الله، ولم يأمر به، وليس عليه دليل ولا سلطان ولا برهان {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23].
يقول تعالى: {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:15] فهل يأتون على هذه الآلهة بسلطان بين؟! وجمعت بضمير العاقل على زعمهم، ولا يكون الإله إلا عاقلاً مدركاً واعياً، وإلا فهي أخشاب وجمادات وأحجار، وما كان كذلك فليس بعاقل.
فليس لهم على زعمهم سلطان بين، ودليل قاطع، وبرهان واضح، ولكن ظنوا أنها آلهة بحق، وعلى هذا الاعتبار عاد الضمير إليها بجمع العاقل، وليس ذلك إلا من مفترياتهم ومن مقولاتهم التي لا دليل عليها.
ففعلهم هو الهراء والسخف والجور والباطل، فلا شريك مع الله، ولا ثاني مع الله، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4].
قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15].
فهم كذبة حين قالوا ما لم يكن، واخترعوا ما لا وجود له، ومن أعظم جرماً وإثماً ممن افترى على الله كذباً؟! وإذا كان الكذب على الناس يعتبر جريمة وكبيرة، ومخلاً بالمروءة والكرامة؛ فكيف إذا كان على الله؟! فهؤلاء نسبوا إلى الله شريكاً ومعيناً ومؤازراً، فذلك أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم، وأقبح ما يعتقده إنسان ويخترعه.(3/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله)
ثم أخذوا يتفكرون فيما بينهم، ويقول بعضهم لبعض: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16].
فما دمتم قد اعتزلتم هؤلاء، وعشتم في عزلة دونهم، وقررتم أن تتركوا جموعهم، وأن تبتعدوا عن مدينتهم وعن ملكهم وسلطانهم، وأن تعتزلوا ما يعبدون غير الله، وقررتم تركهم، وترك آلهتهم التي عبدوها من دون الله، فأووا إلى الكهف، أي: اتخذوا من الكهف مأوى ومنزلاً ومعتزلاً وخلوة، ومكاناً تبتعدون فيه عن هؤلاء وآلهتهم الكاذبة، وفجورهم وظلمهم واعتدائهم.
قال تعالى: {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16].
أي: يعطيكم الله ويجللكم بالرحمة، بأن يرحمكم من أعدائكم، فلا يعرفون مكانكم، ومن ثم لا يرجمونكم ولا يجبرونكم على الدخول في دينهم والعودة إلى باطلهم.
فاتخذوا هذا الكهف مأوى، عسى الله أن ينشر عليكم من رحمته، فيجعل هذا الكهف الذي أنتم فيه مجللاً بالرحمة، وبالحفظ وبالصيانة حتى لا يصل إليكم عدوكم.
قال تعالى: {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16].
أي: يكرمكم، ويرشدكم، ويوفقكم إلى ما فيه مرفق لكم ترتفقون به، ويزول عنكم العسر، ويزول عنكم ما تتضجرون وتتبرمون به من طغيان هذا الطاغية وجبروت هذا الجبار.
والمرفق: هو ما يرتفق به في الحياة من سكن هادئ، وبيئة صالحة، ولباس مريح، وطعام لذيذ، فأي شيء يرتفق به الإنسان في حياته يسمى المرفق.
فهم يرجون أن يكون هذا الكهف مأوى لهم، ومرفقاً يرفق الله بهم فيه.
فدخلوا الكهف، وانتظروا الرحمة من الله والرفق بحالهم وحياتهم، واستجاب الله جل جلاله دعاءهم، فأكرمهم بالرحمة وبالرفق بهم.(3/7)
تفسير سورة الكهف [17 - 19]
وصف الله تعالى الكهف الذي أوى إليه الفتية المؤمنون، وبين أنه يقع موقعاً بحيث تدخله الشمس والهواء فتنفع الفتية النائمين صحياً ولا تصيبهم الشمس، ثم وصف كلبهم وتقليبهم حال نومهم وغير ذلك.(4/1)
تفسير قوله تعالى: (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين)(4/2)
معنى تزاور الشمس عن الكهف ذات اليمين
قال تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف:17].
ومعنى ذلك أنهم دخلوا الكهف بعد أن اتفقوا عليه، ثم بعد ذلك أصابهم النوم، حيث ضرب الله على آذانهم كما سبق ذكره في مجمل قصتهم، فَحُذِفَ من السياق كلام علم بما أتى بعده.
يقول تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17].
فالله تعالى أنامهم ففقدوا الإحساس كما يفقده النائم، وضرب على آذانهم، وللحفاظ عليهم ببقاء سلامة أبدانهم من البلى ومن الفناء صنع بهم ما ذكره تعالى، ولذلك قال: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف:17].
يقول تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} [الكهف:17].
فعند الشروق كانت الشمس إذا طلعت عليهم تزاور، أي: تميل عنهم، فلا تشرق على أجسادهم، ولا على ذواتهم، ولو أشرقت الشمس عليهم صباحاً ومساء مع الأيام والسنين والقرون لأحرقتهم، ولبدلت ألوانهم، ولكن الله كان يكرمهم بدخول الشمس بغير أذى، والمكان الذي تدخله الشمس تدخله الصحة والعافية.
ومن تمام المكان الصحي أن يدخله الهواء والشمس، وليس من الضروري أن تصيبك الشمس، بل يكفي أن تدخل الشمس بشعاعها وضيائها.
يقول تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:17].
فإذا دخلت الشمس صباحاً تميل عن أجسادهم فلا تمسهم، ويكونون في فيئها وفي ظلها، وإذا هي غابت وقت الغروب تقرضهم ذات الشمال، أي: تتركهم.
يقول تعالى: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف:17]، أي: في ساحة واسعة من الكهف، بحيث تدخل الشمس إلى الكهف، فينتفعون بضيائها وشعاعها وما جعله الله فيها مما يعود على البدن بالصحة والعافية، فهي تشرق في الصباح، فتطهر الكهف من الأنفاس التي احترقت، ومن الهواء العفن إن كان، ومما يمكن أن يحدث، فيبقى الكهف مدة رقادهم صحياً.
وقوله تعالى: {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} [الكهف:17] أصل القرض: القطع، بمعنى: تمر وتتجاوز عن أجسادهم، بمعنى أن الشمس تدخل في الصباح، وتدخل في المساء فتطهر المكان مما عسى أن يكون قد وقع فيه من أنفاس محترقة، ولكن أجسامهم لا تصيبها الشمس، حتى لا تسود ألوانهم.(4/3)
معنى قوله تعالى: (ذلك من آيات الله)
قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف:17].
أي: من قدرة الله، حيث مكث هؤلاء ثلاثمائة سنة وتسع سنوات، وهذا الجسم الذي هو من لحم ودم وعظم يؤثر فيه دوام الليل والنهار، وخلايا البدن التي في الجسم تعد بالملايين، فينتفع منها الحي ما دامت الحياة في بدنه، وما دامت أنفاسه تدخل وتخرج، أما إذا حدث الموت فليست هناك مسام ولا منافذ يمكن للجسد أن يستريح بها، فإن حدث ذلك فهو الموت، فهؤلاء تركهم الله أحياء، ولكنهم رقود.
وكان لا بد من هذا، وذلك من آيات الله، ولم يصنعوا بأنفسهم شيئاً لأنهم رقود، ولأن الله ضرب على آذانهم فناموا، ولكنه تعالى هو الذي صنع بهم ذلك، فألهمهم الدخول في الكهف كما تمنوا، فدخلوا كهفاً تدخله الشمس صباحاً ومساء، فتنظف الكهف ولا تضر الأجساد.
يقول تعالى: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف:17]، أي: من قدرة الله، ومن بديع صنع الله، ببقائهم ثلاثمائة سنة ونيفاً، ولم تفن الأجساد ولم تنته ولم تنقرض.(4/4)
معنى قوله تعالى: (من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً)
قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الكهف:17].
وقد هداهم الله لعبادته، وهداهم لتوحيده، وهداهم للفرار بدينهم من ظلم الظالمين وكفر الكافرين.
قال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17].
فمن أبى إلا الضلالة، ففسد قلبه الذي هو مناط العقيدة، فلن تجد له ولياً مرشداً.
وإن يعلم الله من قلوبنا خيراً يؤتنا خيراً، وإن يعلم سوى ذلك يؤتنا على ما في قلوبنا من غش وفساد وعدم رغبة في الخير والهداية والصلاح.
يقول تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17].
و (لن) للتأبيد، فمن يضله الله فلن تجد له من دون الله من يرشده ومن يدله على الخير.
وقوله تعالى: {وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] أي: ناصراً مؤازراً هادياً.
ولذلك فلا طريقة للهداية إلا طريقة الرسل، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، ورضي عن الأصحاب الذين رووا لنا شريعته وسنته، وهذا الكتاب الذي أكرمنا الله به وأكرم به البشرية كلها.(4/5)
تفسير قوله تعالى: (وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود)(4/6)
معنى قوله تعالى: (وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود)
قال تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18].
يقول تعالى: لو صح لك -يا رسولنا- أن تراهم لحسبتهم أيقاظاً، ولظننت من رؤيتك لهم أنهم ليسوا براقدين ولا نائمين.
قالوا: لأن أعينهم كانت مفتحة، وذلك لأن العين تحتاج إلى أن تفتح ليدخلها الهواء، ولتنتفع بشعاع الشمس وضياء القمر، فلو بقيت مغمضة طول هذا الدهر لفسدت وعميت، ولالتحم أعلاها بأسفلها، ولكن الله كما جعل الشمس تدخل كهفهم صباحاً ومساء، فتفيدهم بضيائها ولا تحرقهم بحرها ولهيبها، كذلك ضرب على آذانهم، وترك عيونهم مفتحة.
وقد حكوا عن الذئب أنه في الليل كله ينام بعين ويفتح الأخرى، ويراوح بين هذه وهذه، وذلك لشدة حذره، ولشدة خوفه، وخوفه من الكلاب أكثر من خوفه من الناس، فقد يجرؤ الذئب على الناس، ولا يجرؤ على الكلب.(4/7)
معنى قوله تعالى: (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال)
يقول تعالى: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:18].
وهذا من حفظ الله لأجسامهم، فلو بقوا على حالة واحدة لأكلت الأرض أبدانهم، فهم يميلون كما نفعل عادة، حيث نتقلب عشرات المرات في الليل ونحن لا نشعر، ولو قدر لإنسان ألا يتقلب يميناً وشمالا، لقام خبيث النفس معذب البدن، يكاد يشعر بأن أعضاءه ينحل بعضها عن بعض.
فالله كان يقلبهم في نومهم بين اليمين والشمال ليحفظ أجسامهم، وليصونها عن الفناء في هذه المدة.
فكانوا يتقلبون يميناً ثم يتقلبون شمالاً، لتأخذ أبدانهم حظها من الحركة، وتبقى دورة الدم جارية.
فالإنسان عندما يظل مقيماً في مكان قد يصاب بالشلل، ولذلك كان المشي من تمام العافية، ومن تمام الصحة، والتزام الجلوس والرقاد دوماً، والتزام الوقوف على حالة من الحالات يضر بالبدن.
فهؤلاء ضرب الله على آذانهم، وذلك من آيات الله، وهو أنهم يتقلبون في هذه السنوات الطوال عن اليمين وعن الشمال.(4/8)
معنى قوله تعالى: (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد)
قال تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف:18].
فالكلب كان معهم، وعادة الكلب عندما يجلس ليستريح أن يبسط الذراعين ويقعي.
قال تعالى: {بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18].
أي: بفناء الكهف، فكان عند باب الكهف، والوصيد هو الباب.
فهذا كلب ذكر في القرآن مع أهل الكهف، وأشيد به هذه الإشادة، والكلب كلب، والجار قد يؤتى بذنب الجار، فإن كان الجار صالحاً غلب أن يكون الجار الآخر كذلك، وإن كان الجار فاسداً غلب أن يعم فساده جاره، فيتعلم أولاده من أولاده، ونساؤه من نسائه، ولذلك جاء في الحكمة: الجار قبل الدار.(4/9)
فضل مصاحبة الصالحين
وعلمنا من هنا وفهمنا أن الاتصال بالصالحين وبالعارفين، ومعاشرة أهل الفضل والخير ترفع من مكان المعاشر ولو كان كلباً.
فقد خلد الكلب بذكره في القرآن، واختلفوا في اسمه، ولا حاجة إلى ذلك، ولكنه أصبح شخصية قائمة، حيث ذكره الله وتكلم عنه.
وللكلب -أيضاً- ذكر في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان جبريل على موعد مع نبينا عليه الصلاة والسلام في داره في المدينة المنورة، وإذا بالموعد يأتي ولا يأتي جبريل، فرآه بعد يوم أو يومين أو ثلاثة خارج البيت، فقال: يا جبريل! ما منعك أن تأتي؟ فقال: نحن -معاشر الملائكة- لا ندخل بيتاً فيه كلب أو صورة أو جنب أو كافر، وفي بيتك كلب.
فعجب النبي عليه الصلاة والسلام، من كون بيته فيه كلب لا علم له به، فدخل البيت، وإذا بجرو صغير تحت سريره، وهذا الجرو كان يلعب به حفيداه الحسن والحسين.
وللكلب قوة في حاسة الشم، فكان إذا شعر بمجيء النبي عليه الصلاة والسلام فر من بين يدي الحسن والحسين واختفى، وإذا خرج النبي عليه الصلاة والسلام بادر هذا الجرو فخرج إلى الحسن والحسين.
فالله تعالى كرم كلب أهل الكهف، فهؤلاء الفتية الصالحون العارفون بالله عندما تمسح بهم هذا الكلب، ولحقهم ودخل معهم في كهفهم أنامهم الله وأنام معهم كلبهم، وقد ورد أن هذا الكلب سيكون في الجنة مع أهل الكهف، كما ورد أن حمار عزير سيكون معه -أيضاً- في الجنة.
وهذا من باب ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام ذات مرة، حيث ذكر أن الجنة درجات ومنازل، ما بين كل درجة ودرجة كما بين الأرض والسماء، ولا ترى تلك الدرجة العليا إلا كما يرى النجم البعيد، وقال: (منازل الأنبياء في الفردوس الأعلى).
وإذا بأحد الأصحاب ممن إذا حضر لم يعرف، وإذا غاب لم يفتقد يغيب زمناً، ثم يحضر وعليه آثار شحوب، وآثار ألم نفساني، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ما بالك يا فلان؟! فأخذ يبكي، وقال يا رسول الله! سمعتك تتحدث عن الجنة ودرجاتها، وأن أعلاها الفردوس، وهي منازل الأنبياء والمرسلين، وأنا مهما أكن -إن أكرمني الله فدخلت الجنة- فلن أكون في الفردوس، فكيف أدخل الجنة ولا أراك؟! وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول له: (المرء مع من أحب)، قال الصحابة: مضى زمن طويل فلم نسر ولم نفرح بشيء سمعناه من رسول الله عليه الصلاة والسلام كفرحنا وسرورنا بهذا الحديث.
وهكذا حب الصالحين، فهؤلاء العارفون بالله لحقهم راعٍ فألحوا وحرصوا على أن يبعدوه عنهم، وخافوا منه، ويأبى ألا أن يلحق بهم، وكان معه كلب، وكان هو الثامن، فوقف يحرسهم على فم الكهف كعادة الكلاب، فكرمه الله وشرفه الله، وأنزل فيه وحياً يتلى في كتابه.
وقد كان أحد العلماء الصالحين جالساً مع أمير في القرن السادس أو السابع، وإذا بالعالم يقول شيئاً، ويغضب ذلك الأمير، فيشتمه ويقول له: يا كلب.
فضاقت نفس العالم، فذهب إلى بيته تلك الليلة، وكتب مؤلفاً اسمه: (تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب)، ولم ينم تلك الليلة، وفي الصباح أرسله إلى الأمير، ففهم الأمير أن العالم يقول له: هذا الكلب الذي شتمتني به أفضل منك، وفيه من الخصال والمزايا ما ليس فيك، لكن الأمير كان ذا فضل، وإنما أصابته نزوة من النزوات حملته على أن يقول ذلك لهذا العالم، فاعترف له، واعتذر إليه وطلب مغفرته.
وقد اشتهر الكلب بالوفاء، واشتهر بالقناعة، واشتهر بحسن الحراسة، وبالصبر.
فالكلب لا شك -كما قال ابن رجب - في أنه أفضل من كثير من الناس، فهو أفضل من الكفار والمشركين بما له من صفات، وأفضل من المنافقين بما له من صفات.
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، وبأن من كان عنده في البيت كلب فإنه ينقص من أجره وثوابه كل يوم كذا وكذا، أي: حسنات.
وقد أذن النبي عليه الصلاة والسلام بكلب الرعي وبكلب الحراسة، فمن كان له أغنام لا بد لها من كلاب ترعاها وتصونها من الذئاب فله أن يتخذ كلباً.
وكذلك من يسكن البراري، يحتاج إلى كلب لينبهه بنباحه، فله ذلك ولكن ليس من الضروري أن يدخله البيت، بل يكون في الفناء، ومن هنا قال تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18].
وإلا فالمكان مليء بالملائكة التي تحرسهم، ولو كان الكلب في الكهف لفرت الملائكة، ولكن الكلب بقي على الباب، فهؤلاء الفتية العارفون بالله بحثوا عن موقع للكلب، وكان الكلب معهم، فبقوا محروسين مصانين من ملائكة الله لا تصل إليهم يد، بل ولا تصل إليهم عين.(4/10)
معنى قوله تعالى: (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً)
يقول تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} [الكهف:18] يا رسولنا وغيرك {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18] أي: لعدت ولرجعت ولأدبرت من النظر إليهم فراراً وخوفاً، فقد طالت شعورهم وأظفارهم، وكان على وجوههم حالة مهيبة مرعبة، فلا يكاد إنسان تقع عينه عليهم إلا فر، وذلك حفظ لهم.
أما وهم يتحركون فإنه بمجرد النظر تهرب منهم، فتعتقد أنهم أيقاظ وليسوا براقدين.
يقول تعالى: {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18].
أي: لفزعت منهم لأجل الحالة التي كانوا عليها، فقد ألبسهم الله المهابة، والإنسان إذا طال شعره ولم يقص أظفاره، تكون صورته مخيفة، وشكله مهيباً، كيف وقد ألبسهم الله على ذلك رداء الهيبة والرعب، حفاظاً عليهم وعلى أجسامهم.(4/11)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم)(4/12)
معنى قوله تعالى: (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا)
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف:19].
وذلك أنهم دخلوا في الصباح فناموا، واستيقظوا عند غروب الشمس أو قبله بقليل، فظنوا أنهم ناموا من الصباح إلى المساء، ولذلك قال تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:19].
فليس هو بعث القيامة والحساب والعقاب والجنة والنار، ولكنه بعث حياة التساؤل، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:19] أي: ليسأل بعضهم بعضا {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف:19] كم أقمتم في هذا النوم {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19].
فقالوا: بعض يوم لأنهم، دخلوا في الصباح، وإذا بهم صاحون قبل غروب الشمس، فظنوا أن النوم كان ما بين الإشراق والغروب.
ولكنهم رأوا أظفارهم، ورأوا شعورهم قد طالت، فقالوا: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:19]، أي: فحالتنا لا تدل على نومنا يوماً أو بعض يوم، فالسنة يستبعدونها، والشهر يستبعدونه، فخرجوا بعدم العلم والمعرفة، فقالوا: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:19]، أي: فالله وحده أعلم كم أقمتم ولبثتم.(4/13)
معنى قوله تعالى: (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة)
ثم قالوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} [الكهف:19].
وكانوا دخلوا ومعهم بضعة دراهم، فشعروا بالجوع، فقالوا: لقد جعنا، فابعثوا واحداً منكم بورقكم.
والورق: الفضة، فقد كانت العملة التي يتعاملون بها من الفضة، وهذا دليل على أنهم كانوا يتعاملون بالورق، ولا يتبادلون السلع.
وفي الزمن السحيق ما كانت هناك دراهم ولا دنانير، وكان الناس يتعاملون بالمبادلة، فيعطيك الملح، وتعطيه الفلفل، ويعطيك لحم الدجاج، وتعطيه لحم الأغنام.
وسلكت هذا الأمر ألمانيا أيام هتلر، فلم يكن عندها ذهب، فأرادت أن تسقط قيمته دولياً، فأبت أن تشتري شيئاً بالعملة، فكانت تقول: عندي من المواد كذا وكذا، فأعطوني كذا وكذا، وخذوا مقابله هذه المادة، وبذلك أسقطت قيمة الذهب والفضة عالمياً.
قالوا: المدينة كانت طرسوس، والله أعلم بحقيقة الحال، وهناك كهف اليوم في الأردن يقال عنه: إنه كهفهم، وقيل: في أيلة، وقيل: في أرض تركيا، وهذه الأماكن متجاورة.
قال تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:19].
لقد كانوا يظنون بأن الملك الجبار الذي أراد قتلهم لا يزال حياً، وأن الدنيا هي الدنيا، وأن الحال هو الحال، فخافوا من دقيانوس ومن خدامه ومن مجتمعه الوثني، فأخذ هذا دراهم وخرج، فزاغ بصره، فكان يمشي في الشوارع كالهائم، فالمدينة ليست بالمدينة، كإنسان عاش فيما قبل عصر الطائرات والصواريخ والمخترعات، ثم بعث فأخذ ينظر إلى الأشياء فذهل، فقال: ارجعوني إلى قبري.
ففر ورجع إلى قبره، وما استطاع أن يعيش مع هؤلاء البشر.
فهذا خرج فوجد المدينة قد تغيرت معالمها، وقد تغيرت دورها، ولم ير أحداً في الطريق يعرفه، فأخذ يتساءل: هل أنا في طرسوس؟! ومن هؤلاء؟ وما هي هذه الأزياء؟! وما هذه الوجوه؟! ورأى شعارات الدكاكين تدل على التوحيد، وأن الناس مؤمنون، فقال: متى كان هذا؟! لقد دخلنا الكهف صباحاً، واستيقظنا مساء، فهل بين الصباح والمساء يحدث كل هذا؟! فكان يستغرب، ومن رآه يستغرب منه ويتعجب منه، إلى أن وقف أمام دكان، وأراد خبزاً، كما قال تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف:19].
أي: لينظر الحلال من الحرام، فلا يأتينا بما لا يحل، بل بشيء لذيذ طيب، وكانوا جياعاً.(4/14)
معنى قوله تعالى: (وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً)
قال تعالى: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:19].
أي: ليكن لطيف الحديث، لطيف الكلام حتى لا يكشف عن حقيقته، وحتى لا يعرف، فيؤخذ إلى دقيانوس، فيؤذيكم فيعيدكم إلى دينه.
وإذا به يذهب بهذه العملة التي مضى عليها قرون، ودقيانوس مصور فيها أو كان عليها اسمه، ومضت عليها قرون، فلم يخطر ببال صاحب الدكان إلا أنه وقع على كنز، فقال: له أين وجدت هذا الكنز؟ قال: ما وجدت كنزاً.
وأي علاقة للكنز بهذه العملة.
فصاح ذاك فحضر الثاني والثالث، واجتمع الناس بالمئات يسألونه: أين الكنز، فأخذ يبكي، وهو في أشد ما يكون من الهلع، ولا يعرف ماذا حدث، فقد خاف أن يقتل، وأن يجبر على الوثنية، وأن يقتل أصحابه الذين أوصوه وأكدوا عليه بقولهم: كن لطيفاً، فلا تشعر بنا أحداً.
فلما انكشف أمره، اضطر فقال: أنا فلان، أليست هذه مدينة دقيانوس؟! وكانوا قد سمعوا أن فتية من الشباب وحدوا الله وهربوا من ملكهم إلى الكهف، وأنه كتبت أسماؤهم في رقيم على باب الكهف، فذهبت هذه الجموع إلى باب الكهف، وقبل أن يصلوا إلى باب الكهف، قال حاكم البلدة: لا يجوز أن يقتصر الأمر علينا، فلا بد من الرجوع إلى الملك الكبير، فاتصلوا بالملك وأخبروه بالواقع.(4/15)
تفسير سورة الكهف [20 - 22]
عندما خرج أصحاب الكهف من منامهم شعروا بالجوع فأرسلوا أحدهم إلى المدينة ليطلب لهم الطعام وكانوا حذرين من أن يعلم بهم أحد، خوفاً من الرجوع إلى الشرك والوثنية، وقد ذكر الله عدتهم ونهى عن المجادلة فيها.(5/1)
تفسير قوله تعالى: (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم)
قال الله جل جلاله: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20].
لما استيقظ أصحاب الكهف من نومهم وأخذوا يتساءلون، كما قال تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:19].
فقد ظنوا أنهم قد ناموا يوماً أو بعض يوم، وشعروا بالجوع، وكلفوا أحدهم وقد أعطوه دراهم أن ينزل للسوق ويأتيهم بما يسد جوعتهم، ويشبع حاجتهم، وأخذ كبيرهم ينصحه ويوجهه ويرشده، ويقول له: تلطف في حديثك، وإياك أن يبدر منك ما يشعرهم بك {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف:20] أي: إنهم إن يطّلعوا عليكم يعرفوكم فيرجموكم.
فأصحاب الكهف لا زلوا يتحدثون عما مضى عليه ثلاثمائة سنة وتسع سنوات، وهم يظنون أنهم فارقوا البلدة بالأمس، فقال هذا لمن أرسله ليأتي بالطعام والشراب: إياك أن يبدر منك ما يعرفون به حالك، وأنك من أولئك الذين تركوا الأمة على شركها ووثنيتها، وفروا بالتوحيد كافرين بأوثان دقيانوس وشعبه، فإنهم إن يطلعوا عليكم ويعرفوا حقيقتكم، يلقوا القبض عليكم، ثم يرجموكم بالحجارة حتى الموت، على عادتهم في قتل الموحدين والبطش بالمؤمنين، وإن لم يفعلوا فلعلهم يطمعون فيكم ليعيدوكم في ملتهم، أي: في كفرهم وشركهم ووثنيتهم، وإن أنتم استجبتم لهم فلن تفلحوا إذاً أبداً، إذ تصبحون ضلالاً تعودون للوثنية والشرك ويذهب عنكم الفلاح والصلاح والإيمان والتقى، فنزل هذا الشاب المؤمن وإذا به يرى كما يقول الشاعر: أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجاله فرأى البلدة قد تغيرت واندثرت، ورأى نفسه غريباً بينهم، ولم ير أحداً في الأزقة والطرقات يعرفه لا من الصغار ولا من الكبار، بل لم يجد البنيان باقياً على شكله، فحصل له من الذهول والغرابة ما جعله يشك في نفسه، هل جن؟ هل فقد عقله؟ هل هو لا يزال نائماً أم قد استيقظ؟ وبينما هو في حركته هذه أراد أن يستعجل الأحداث فوقف عند أول دكان يبيع الخبز، فمد يده إليه وهو مضطرب ومستغرب، وإذا بصاحب الدكان عندما رأى دراهمه تعجب منها، فقد كانت من الدراهم التي مضى عليها دهر سحيق، فيها اسم دقيانوس الذي مضى على حكمه وملكه في هذه الديار قرون.
وأمسك به صاحب الدكان وقال له: من أين لك هذه الدراهم؟ هل وجدت كنزاً؟ أخبرني، فأخذ يضطرب، ولا يدري ما يقول له، وبماذا يجيبه؛ لأن كل ما في ذهنه أنه ما فارق البلدة إلا بالأمس، نام يوماً أو بعض يوم، فاجتمع الناس حوله وهكذا قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21].
يقول جل جلاله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:21] أي: كما أنمناهم وأدخلناهم الكهف وأيقظناهم وهم يتساءلون، كذلك أعثرنا عليهم، يقال: فلان عثر على كذا، أي: وجده من غير إعداد سابق، كأنه وجده اتفاقاً.
فقوله: (أعثرنا عليهم) أي: الله جل جلاله قدر الأسباب في العثور على هؤلاء الشباب المؤمنين الموحدين الذين أقاموا في الكهف قروناً.
فقوله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:21] أي: كشفنا أمرهم، وعرفوا بما لديهم من دراهم أنه قد مضى عليها قرون، وتجمع حوله الناس، وأخذ يقص قصتهم مضطرباً.
وهكذا علم بخبره ملك البلاد، وكانت الأمة كلها قد آمنت وأصبحت على التوحيد.
فعندما بلغ الملك أمرهم، وكان قد سمع بهم في التاريخ، ذهب مع الأفواج من الخلق، وأخذهم هذا الشاب إلى الكهف ودخلوا الكهف ورأوا الرقيم: فلان ابن فلان، سنة كذا تاريخ كذا أيام دقيانوس، وإذا بالملك يحمد الله ويشكره.
وكان صالحاً موحداً، فحاول دخول الكهف فرأوا وجوهاً مرعبة ومخيفة، رأوا شعوراً قد طالت وأظافر قد طالت مع ما ألبسهم الله به من رداء الخوف والهيبة والرعب، والكلب باسط ذراعيه بالباب.
فأخذوا يتنازعون فيما بينهم، وبينما هم في هذه الحال مات أصحاب الكهف موتاً حقيقياً.
والحكمة في ذلك أن الله جعل لكل زمن ولكل نبي معجزة من المعجزات، من أجلها آمن من آمن وصدق من صدق، وكانت بمثابة أن يقول: هذه معجزتي وعلامة صدقي، فآمنوا بالله ولن أكذبكم، ولا يكذب الرائد قومه.
فكان هؤلاء ورثة للأنبياء ودعاة لله والتوحيد بحالهم قبل مقالهم.
إذاً: عندما سقطوا موتى فعلاً أخذوا يتنازعون شأنهم، بعد أن وجدوهم من غير بحث سابق ولا طلب فتأكدوا وتيقنوا، أن هؤلاء أصحاب الكهف، وأصحاب الرقيم أي: اللوحة التي فيها أسماؤهم، وقد أكدنا أن المعنى كذلك، بخلاف من زعم أن الرقيم اسم لمكان قرب أيلة، أو قرب البلقان أو قرب نينوى، فالرقيم: كتاب مرقوم، أي: مكتوب، والكتابة رقم.
قال تعالى: {ليَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الكهف:21] أي: وعد الله بالبعث يوم القيامة، وأن الله يحيي الإنسان بعد أن يموت ويعيده إليه، وذلك لنحاسب على ما قدمت أيدينا، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وجعل الله هذا في الدنيا مثالاً لما هو أكبر من ذلك في يوم القيامة الذي لا ريب فيه ولا شك.
فقوله: {لِيَعْلَمُوا} [الكهف:21].
أي: ليعلم قومهم، وليعلم الناس الذين رأوهم، وعلموا حقيقتهم وأمر كتابهم المكتوب فيه أسماؤهم، والزمن المذكور فيه.
وقوله: {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21] أي: وعد الله في إرسال أنبيائه والبعث بعد الموت، ووعد الله في قيام الساعة الذي لا ريب فيه ولا شك، ولا يرتاب فيه إلا مشرك، ولا يشك فيه إلا كافر.
قال تعالى: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف:21].
في هذه الحال، والله قد أعثرهم عليهم أخذوا يتنازعون: كم عددهم؟ وهابوا أن يدخلوا إلى الداخل، إذ رأوا منهم أفراداً، وكأنهم تنقلوا من جنب إلى جنب، فأخذوا يتنازعون الكلام والقول، هذا يقول قولاً والآخر ينازعه، وعلى هذا الاعتبار فإنهم قد ماتوا، مع الهيبة التي ألبسهم الله تعالى إياها رداءً، وهي هيبة المؤمن الواثق بربه.
قال تعالى: {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} [الكهف:21].
لما ماتوا أمامهم، ولم يأكلوا ولم يشربوا، ولم يطل بهم الزمن، وقالوا: ابنوا عليهم بناءً، أي: قبةً مثلاً أو بناء حائط، حتى نقصدهم بالزيارة.
وعندما اختلفوا فيهم وفي أسمائهم والزمن الذي كانوا فيه وفي آبائهم وأجدادهم، قال الله عنهم: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف:21] فلا حاجة للتفاصيل.
إذ إن المراد العبرة والحكمة، وأنهم قوم في دار الدنيا، ناموا ثلاثمائة سنة وتسع سنوات، ولم يبلوا ولم يندثروا ولم يفنوا، ثم أحياهم الله بعد كل هذا الزمن الطويل، والرقيم هو الذي أكد لهم تاريخهم بالأسماء وتاريخ الملك الوثني الذي طاردهم.
وبينما هم في هذا العجب قالوا: لا فائدة من النزاع، ربهم أعلم بهم، أي: بعددهم وأسمائهم وأزمانهم، وبكل ما يتعلق بهم، فقالت طائفة ممن عثروا عليهم: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} [الكهف:21] أي: اجعلوا عليهم أثر بناء لنقصدهم بالزيارة ولنترحم عليهم وندعو لهم.
قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف:21].
ولا شك أن الذي غلب على أمرهم هو الملك الحاكم، وكان مؤمناً، وسموه تيدوسيس، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21].
وما ذكر المسجد إلا للمؤمنين الموحدين (لنتخذن) أي: أقسموا بالله، فهذه اللام موطئة للقسم، ومؤكدة بنون التوكيد الثقيلة.
كأنهم قالوا: والله لنتخذن عليهم مسجداً، وكأنهم تنازعوا في البناء، ويظهر أنهم كان معهم وثنيون جاءوا للاستغراب والتعجب، فقال هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم وأصبح أمرهم بيدهم (لنتخذن عليهم مسجداً)، ولا يكون هذا عادة إلا للسلطان، وكان الملك حاضراً ومعه كبار من قومه ورجاله.
فقوله: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21].
أي: مكاناً للعبادة، نسجد فيه لله.
يقول عبد الله بن عباس: ذهبت في حرب في بلاد الروم وإذ بهم يذكرون كهفاً، وأن فيه بقايا من عظام، فدخل ودخل معه آخرون وقالوا له: هؤلاء هم أصحاب الكهف، وهذا هو الكهف الذي ذكره الله في القرآن.
وقال ابن عباس: وكان قد مضى من الزمن ثلاثمائة عام.
ولكن هذا يخالف ما قلناه من قبل، فالنبي عليه الصلاة والسلام أرسل بالنسبة للتاريخ الميلادي سنة 640م وكون ابن عباس يخبرنا عن ذلك في أواخر القرن السابع الميلادي، فمعناه: أنهم كانوا نصارى من أتباع عيسى، وبما أننا قد علمنا من قبل أن الذين دلوا كفار قريش على أن يسألوا عنهم النبي عليه الصلاة والسلام هم يهود المدينة، واليهود لا يؤمنون بعيسى فضلاً عن اتباعه، أو أن يعطوهم هذا الاعتبار ويعترفوا بهم، وهذا مما يؤكد أنهم كانوا قبل عيسى، وكانوا من الشعوب المؤمنة السابقة.
ولم يكن الذي حكي عن ابن عباس إلا ظناً: {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:28].(5/2)
حكم بناء المساجد على قبور الموتى
ذكر الله عن هؤلاء اتخاذهم المساجد على القبور، وهذا في شريعة الإسلام لا يجوز، فقد روى الجمَّ الغفير عن نبي الله عليه الصلاة والسلام أنه قال عند موته: (لعن الله اليهود والنصارى، كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا عليه مسجداً، أولئكِ شرار الخلق).
يقول رواة الحديث: يحذر مما صنعوا، والحديث متواتر.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب).
وقد هاجرت أم حبيبة بنت أبي سفيان هجرتها الأولى إلى أرض الحبشة، وكانت زوجة لـ عبيد الله بن جحش فارتد، نسأل الله اللطف والسلامة، فبقيت هي ثابتة على إيمانها، فخطبها عليه الصلاة والسلام من النجاشي، وكذلك كانت هناك أم سلمة مع زوجها مهاجرة، ولما مات زوج أم سلمة تزوجها صلى الله عليه وسلم، فأصبحتا معاً من أمهات المؤمنين: فقالتا: يا رسول الله! عندما كنا في الحبشة رأينا كنيسة للنصارى فيها تصاوير وتماثيل وأصناماً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود والنصارى كانوا إذا مات أنبياؤهم وصالحوهم بنوا عليهم مسجداً، أولئك شرار الخلق عند الله) فكان هذا من آخر قول النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا ليس موضع جدال عند المسلمين، فالمسجد لا يجوز أن يدفن فيه ميت، ولا أن يتخذ مقبرة، ولا يجوز أن يصلى إلى قبر أو عليه، كل كذلك قد حرمه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأكد تحريمه، وما ذكر هنا قد يكون جائزاً لمن قبلنا.
إذا قيل: هل ما ذكر في القرآن مما هو شريعة لمن قبلنا يعتبر شرعاً لنا أو لا؟ ف
الجواب
أجمع العلماء على أنه إذا ورد ما يخالف شرعنا فليس شرعاً لنا، واختلفوا فيما لم يخالف سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم أو القرآن هل يصبح شرعاً لنا؟ فالحق أنه ليس بشرع إلا ما قاله الله لنبينا صلى الله عليه وسلم أو أخبرنا به الله جل جلاله أنه شرع لنا.
وقد نص النبي عليه الصلاة والسلام وأكد على حرمة بناء المساجد على القبور، أو إدخال القبور إلى المساجد، روي ذلك عن الجمع الغفير من الأصحاب، وأن القبر لا يقصد بالصلاة ولا يصلى إليه ولا يصلى عليه، وكل هذا ليس موضع جدال بين المسلمين.
ولم يرد في القرآن هل بنوا المسجد فعلاً أم لم يبنوه؟ إنما أخبرنا عن مقولتهم، وكونهم قالوا ذلك لا يدل على أنهم فعلوه.(5/3)
تفسير قوله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم)
عندما أخذوا يتنازعون أمرهم بينهم قالوا: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22].
وهذا قد يكون قولاً لأولئك الذين تنازعوا بينهم، وقد يكون قولاً لأهل الكتاب من اليهود، الذين أشاروا على أهل مكة الذين ذهبوا إليهم بسفارة عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، أشاروا عليهم أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أشياء، قالوا: سلوه عن قوم غابوا في الزمن الغابر، ما قصتهم؟ وأين هم؟ وسلوه عن الروح ما هي؟ وسلوه عن رجل طاف مشارق الأرض ومغاربها من هو؟ وما حكايته؟ فجاء الجواب بنزول هذه السورة الكريمة، ونهى الله جل جلاله النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين أن يماروا فيها، فإذا قال اليهود: هم ثلاثة، أو هم أربعة، أو هم خمسة، فكل ذلك كلام منهم، فالمطلوب معرفة القصة دون تفاصيل أو تحقيق في الزمن.
قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] أي: سيقول هؤلاء اليهود، ولعلهم من سبقهم كذلك، فالذين سبقوهم ربما يكونون قد دخلوا الكهف ورأوهم، فقالوا عنهم: ثلاثة والكلب الرابع، وقالوا: خمسة وسادسهم كلبهم رجماً بالغيب، أي: الذين قالوا: ثلاثة ورابعهم كلبهم والذين قالوا: خمسة وسادسهم كلبهم قالوا ذلك رجماً بالغيب، أي: قالوا ذلك رمياً لما غاب عنهم ولم يعلموه.
يقال: رجم بالغيب، أي: رمى الغائب عنه بغير علم ولا معرفة، كما يقال: رمية من غير رام.
فهؤلاء رجموا بالغيب، أي: قالوا كلاماً عن الغائب ولم يحضروه ولم يشاهدوه ولم يعلموا عنه شيئاً.
ثم قال تعالى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22].
قال هذا ربنا جل جلاله، ولم يقل: رجماً بالغيب، فدل على أن عددهم سبعة، وعلى أن الثامن الكلب.
قال تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف:22] أي: قل يا محمد في هؤلاء الذين ينازعونك في أسمائهم وأحزابهم: {رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم سبعة وثامنهم كلبهم، وأنا من القليل الذين استثنى الله، فكان يقول: إني أعلم، وأن الله قد أخبر بأن القليل يعلمونهم، وأنا من القليل.
وحاول ابن إسحاق أن يقول فهماً غريباً، فقال: هم ثمانية، ويفسر الآية الكريمة: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] أنه قد قرأ من قبل: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف:18]، قرأها: (كالبهم باسط ذراعيه) وفسر ذلك بأنه رجل حارس، أي: الراعي الذي تبعهم، ولكن (باسط ذراعيه) ليست صفة للإنسان، والجلسة التي تكون عند الباب جلسة كلب، فهو قول شاذ لا معنى له، ولم يُرو عن صحابي، ومحمد بن إسحاق كان عالماً بالسيرة، ولم يكن عالماً بالتفسير، ولا يعارض بمثل عبد الله بن عباس فهو حبر القرآن، وقد دعا له صلى الله عليه وسلم بالفقه والتأويل.
إذاً: هم سبعة على قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والضحاك، وجمهور المفسرين، وسياق القرآن وظاهره يؤكد ذلك، فقد عاب الله من قالوا: إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، ومن قالوا: خمسة سادسهم كلبهم فقال: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:22].
أي: قالوا ذلك ورجموه وقذفوه ولم يكن لهم علم بذلك ولم يحضروه ولم يشاهدوه.
وعندما قال: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] لم يقل: رجماً بالغيب، والله أعلم.
قال تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف:22] أي: قل يا محمد! إن جادلك أهل الكتاب، وقالوا لك: هؤلاء عددهم كذا أو العدد كذا أو العدد كذا: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22].
وقد أخبر الله تعالى أن الذي يعلم هذا العدد هم قليل، إذاً: هناك من يعلم عين الحقيقة، والله أعلم.
فقد قال ابن عباس: وأنا من هذا القليل الذي استثنى الله.
قال تعالى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22]، أي: عندما يجادلك أهل الكتاب، ومن يدعي المعرفة بهؤلاء لا تمار ولا تجادل إلا جدالاً ظاهراً، قل لهم: هم سبعة، والثامن الكلب، فإن عارضوا فلا تمارهم ولا تحرص على أن يعلموا ولا تجادلهم كثيراً، ولا تكن لدوداً في الخصومة، ولا تكن مماراتك لهم المماراة التي يريد صاحبها أن يعلمهم الحقيقة، فهم لا يريدون حقيقة، وقد زعموا هذه علامة على رسالتك ونبوءتك، أدركوها وعلموها ومع ذلك كذبوه ولم يؤمنوا، لا صناديد قريش آمنوا ولا علماء اليهود، فإذا أخذوا يجادلون، ويقولون: ليس هذا هو العدد، ولم يكن وقت كذا، ولم يكن كذا، فلا تجادلهم، فقوله تعالى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف:22] أي: لا تجادل فيهم إلا جدالاً سطحياً ظاهراً.
وقال تعالى: {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22].
وإياك أن تسألهم بعد أن نزل عليك الوحي، فلا تقل لهم: ما الذي عندكم، إذ ليس عندهم بعد هذا إلا الضلال والأكاذيب والأساطير وما ليس عليه من الله دليل ولا برهان، وهذا النهي للنبي عليه الصلاة والسلام، فكيف بنا نحن الذين نماري ونجادل؟ أما النبي عليه الصلاة والسلام فهو معصوم على أي حال.(5/4)
تفسير سورة الكهف [23 - 28]
ينهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول إنه سيفعل شيئاً في المستقبل دون أن يقول إن شاء الله، ويأمره بتفويض الأمر إليه والتمسك بكتابه والركون إليه.(6/1)
تفسير قوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً)
قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].
إن سبب نزول هذه الآية هو أن عقبة والنضر، وكلاهما عاشا على الكفر وأصرا عليه وعلى حرب الله ورسوله وقد مكن الله نبيه من رقبتيهما، وقتلهما صبراً في غزوة بدر، عندما جاءا مثيرين لأهل مكة، من قبل أعداء الله ورسوله اليهود؛ فقد سألوا النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن جعلوا له مجلساً عند الكعبة في فنائها، فقالوا له: يا محمد! إن كنت نبياً حقاً، فأخبرنا عن جماعة من الشباب غابوا في الدهر القديم، أين ذهبوا ومن هم؟ وأخبرنا عن رجل طواف بين المشرق والمغرب من هو، وما قصته؟ وأخبرنا عن الروح.
فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: غداً أجيبكم، فجاء الغد وجاء بعد الغد إلى اليوم الخامس عشر ولم يأتهم بنبأ، فكثرت الأقاويل، وكثر اتهام نبي الله عليه الصلاة والسلام بأن الله تركه، وأنه قد تخلى عنه شيطانه، وحاشا نبينا من كل ذلك عليه الصلاة والسلام.
وفي اليوم الخامس عشر جاء الوحي وجاء العتاب: لم تقول لهم غداً ولا تقول: إن شاء الله، قال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، فالأمر بيد الله، فلو قلت: إن شاء الله وانتظرت أمر الله لكان أفضل، ولذلك دخل هذا الاستثناء والعتاب والملام في صلب السورة، فقد قص الله عليه القصة التي سئل عنها، وأنهاها بتأديبه وأن لا يعود إلى ذلك مرة ثانية.
فقال له ربه جل جلاله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].
أي: قل: إن شاء الله، واجعل الأمر بيد ربك، فله الأمر وله النهي، خاصة وأنت نبي ورسول، تتحدث عن الله وبوحي الله وبأمره، على أن الخطاب كذلك عام، كما يقول علماء الأصول، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
والنبي لم يقل: إن شاء الله، لأنه نسي، فقال الله له: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].
فكان هذا هو الأصل، وأصبحت الآية عامة لكل الناس، لأن الغد ليس لنا، إنما الغد لله، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30].
فإذا كان الأمر كذلك فيجب على المؤمن الموحد المخلص لله طاعةً وعبادةً، ألا يتحدث عن شيء إلا ويحيل علمه إلى الله، فضلاً عن عمله.
حكي عن سليمان أنه قال يوماً: لأطوفنَّ هذه الليلة على مائة من نسائي - وكان أنبياء بني إسرائيل يتزوجون المائة والمائتين والثلاثمائة امرأة - ليرزقني الله من كل واحدة منهن فارساً يجاهد في سبيل الله، فمضى العام، ومضت الأشهر التسعة التي تكون عادة هي مدة الحمل ولم يلد من زوجاته إلا واحدة، وولدته نصف إنسان، كما في الصحاح.
وقال النبي تعليقاً على ذلك: (لو قال سليمان: إن شاء الله، لاستجاب الله له، ولرزقه مائة فارس كلهم يجاهدوه في سبيل الله)، ولكن لم يقل: إن شاء الله.
قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]، يعني: اذكر ربك إذا نسيت بعد التذكر للاستثناء، أي إذا قال أحدنا: سأفعل غداً، أو سأفعل بعد غد، ونسي أن يقول إن شاء الله، فذكر بعد ساعة أو ساعتين، فبمجرد أن يتذكر يقول: إن شاء الله.
وهذا هو علاج النسيان فيما إذا لم نقل إن شاء الله، وبذلك ترفع عنا المسئولية.
فالله علم نبيه وذلك، وهو أسوتنا الأعظم عليه الصلاة والسلام، فنحن نقول: إن شاء الله في كل ما نريد عمله، فإذا أنسانا الشيطان أن نذكر اسم ربنا، فعلينا إذا ذكرنا أن نقول: إن شاء الله.
وتجري على ذلك أحكام، فمن الناس من يطلق وبعد ساعة أو أكثر يقول: إن شاء الله، فتطلق عليه زوجته، لأنه أخر الاستثناء.
وابن عباس له في ذلك رأي وحكم عجيب، يقول: الاستثناء مقبول ولو بعد عام، ولكن علماءنا يقولون: ابن عباس أعلم وأكرم من أن يقول: الطلاق يبقى معلقاً سنة؛ لأنه خلال العام كيف يتصل بها وهي مطلقة، فقد فارقت زوجها وقد تتزوج غيره، وقد انتهت عدتها.
إذاً: فـ ابن عباس يقصد الأعمال الأخرى غير الطلاق، ولكن إذا طلق ثم استثنى قريباً، فعند ابن عباس يعتبر ذلك استثناء ولا يحدث طلاق، واختلف في هذا علماؤنا ومجتهدونا، فقالوا: إن كان الاستثناء متصلاً فنعم، وإن مضت مدة فلا يعتبر الاستثناء استثناءً من الفعل.
وهذا كقوله عليه الصلاة السلام: (من نسي صلاة أو نام عنها فوقتها حين يذكرها).
فالصلاة لا تؤخر عن وقتها، فإذا نسيها إنسان وتذكر بعد يوم أو بعد سنة، فبمجرد ذكره لها يصليها بلا تأخير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وذلك أصل من أصول الشريعة، فالإنسان لا يؤاخذ على ما فعله نسياناً، ولا على ما استكره عليه.
قال تعالى: {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:24] أي: يا محمد! عندما تنسى ادعُ ربك وقل: عسى، وعسى من الله تحقيق وليست للترجي، أي: إذا ذكرت ربي بعد ذلك فإن الله تعالى سيلهمني الصواب، ويرزقني الرشد والتوفيق والهداية للحق والصواب، فإذا نسيت أن تثني بإن شاء الله، أو إذا ذكرت بعد ذلك فقلت: إن شاء الله، فقل مع هذا: {عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:24].
قل: عسى الله أن يرشدني لأن أقرب الصواب، ولأن أكون قريباً للصواب والرشاد، وأن أمتنع وأبتعد عن الخطأ، وعن الضلال وعما لا يليق.
هذا ما يجب على الناس أن يفعلوه، أن يقولوا بعد أن يذكروا: إن شاء الله، فيدعون الله بهذا الدعاء، كما قال علماؤنا ومفسرونا.(6/2)
تفسير قوله تعالى: (ولبثوا في كهفهم)
قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25].
أخبرنا الله جل جلاله لتتم القصة وليعلمها النبي صلى الله عليه وسلم، وليبلغها لهؤلاء الذين أرادوا امتحانه واستفزازه فقال الله لنبيه: إنهم أقاموا في الكهف ثلاثمائة عام، وازدادوا تسعاً.
وزعموا أن في الكتب السابقة: أنهم ما أقاموا إلا ثلاثمائة عام، لكن الله قال: ثلاثمائة عام وازدادوا تسعاً، فإن قيل: لِمَ قال هكذا: (وازدادوا) ألم يكن كافياً أن يقال: ثلاثمائة وتسع سنوات؟ ف
الجواب
هناك السنة القمرية، وهناك السنة الشمسية، فهي ثلاثمائة عام شمسية، وهي ثلاثمائة وتسعة أعوام قمرية.
والقرن الشمسي يزيد عن القرن القمري بثلاث سنوات في كل مائة عام، فكل مائة سنة شمسية تساوي مائة وثلاث سنين قمرية، فهي ثلاثمائة عام شمسية، وثلاثمائة عام وتسعة أعوام قمرية، ومعنى القمرية: أننا نعد أشهرها برؤية القمر، فبرؤية القمر نصوم، وبرؤية القمر نفطر، وبرؤية القمر تكون مواعيدنا، وبرؤية القمر يكفر من يكفر بصيام شهرين متتابعين، وبالشهر القمري تحد المرأة على وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً، ولا عبرة بالسنة الشمسية البتة.
فالإثنا عشر من الشهور التي ذكرها الله كلها قمرية، وهي من المحرم إلى ذي الحجة، فنحج بيت الله الحرام على الحساب القمري.
ومن حسنات هذه البلاد أن الشهر القمري الشرعي الإسلامي لم يبقَ قائماً إلا فيها، ففي جميع ديار الإسلام تركوا الشهر القمري الإسلامي، واعتمدوا على تاريخ لا صلة لنا به، وهو تاريخ نصراني يتعلق بعيسى، ومع احترامنا لعيسى أنه نبي الله وعبده، فإنه ليس هو عيسى الذي يؤمن به النصارى.
فإن عيسى الذي يؤمن به النصارى يزعمونه إلهاً ورباً وابن صاحبة، وهم مع ذلك يقولون: إنه ولد، ويقولون: التاريخ الميلادي حسب ولادته، وحتى هذا التاريخ فإن فرق النصارى غير متفقه عليه، فالبعض يقول: قبل ذلك بعشرة، والبعض يقول: من بعد ذلك عشرة، وغير ذلك.
فما حاجتنا إلى أن نستخدم تاريخاً لا تربطنا به شريعة ولا عقيدة ونخالف إجماع الصحابة، فقد اتفق الصحابة على أن يبتدئ التاريخ من الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، فمعاملاتنا وصيامنا وحجنا ومواعيد شريعتنا، كلها مبنية على الشهر القمري، وتركه فسق، وخروج عن أمر الله وإجماع المسلمين، فكيف بإجماع الصحابة.
قال تعالى: {ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25].
من المعلوم أن تمييز العدد مائة يكون مفرداً، فتقول: جاء مائة رجلٍ، واشتريت مائة جمل، ولا تقول: مائة سنين ولا ثلاثمائة سنين، ولكن الكلام تقديره، ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة.
وفهم بعض النحاة من ذلك أن تمييز العدد مائة قد يكون مفرداً وقد يكون جمعاً، ولكن هذا غير معروف، فقد فسروها بقولهم: ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة، أي: من الأعداد ثلاث مائة سنة، وازدادوا تسعاً.
قوله: (ازدادوا) هل الضمير يعود للثلاثمائة؟ ولو كان كذلك يقيل: وازدادت تسعاً، ولكن الضمير لا يرجع إلى السنوات ولا إلى القرون، وإنما يرجع إلى أصحاب الكهف وهم عقلاء.
فقد أقاموا في الكهف ثلاثمائة من السنين، وازدادوا في الكهف على هذه المدة تسع سنوات أخرى.(6/3)
تفسير قوله تعالى: (قل الله أعلم بما لبثوا)
قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26].
وفي قراءة ابن مسعود وقراءته شاذة: (وقالوا لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين).
فنسب هذا القول لأولئك الذين أعثر الله عليهم، أنهم هم الذين قالوا ذلك.
وقال ابن مسعود: لم يقرهم الله عليه؛ ولذلك قال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26].
وهذا ليس بصحيح؛ لأن قراءة ابن مسعود شاذة لا تصح، وليست في القراءات السبع، فالخبر بمدة إقامتهم في الكهف، ثلاثمائة وتسع سنوات خبر إلهي، ولكن قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26].
لأن يهود المدينة وأدعياء الكتاب سيناربونك، وأن المدة ليست ثلاثمائة سنة وتسعاً، وأن العدد ليس سبعه والكلب الثامن، وسيقولون ويقولون.
أي: فإن نازعوك فلا تمار في ذلك إلا مراءً ظاهراً، ثم أخبرك ربك وأعلمك فإن عارضوك: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26].
فالله أعلم بمدة لبثهم وإقامتهم، هل لبثوا مائة سنة أم ألف سنة، أم سبعمائة، فأخبر يا محمد بما أُخبرت به، فإن نازعوك فقل: الله أعلم بالعدد.
قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26].
قال تعالى: هؤلاء إن جادلوك وماروك، ونازعوك، فلا تمارهم ولا تنازعهم، وقل ربي: {أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:26].
فالله وحده هو عالم الغيب والشهادة إذ لا يعلم غيبه أحد، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27].
ولا يدعي معرفة الغيب من قبل ذاته إلا دجال كذاب أشر، وغيوب الأنبياء هي بعلم الله، وبإعلام الله، من شاء أعلمه، ومن شاء لم يعلمه، وغيب الله لا يعلمه أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، إلا من شاء الله أن يعلمه.
يعلمه ببعض ما يريد.
قوله: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف:26].
تعجب للكثرة، أي: ما أسمعه، وما أكثر سمعه، وما أكثر بصره، فبعض العلماء نازعوا في هذا التعبير أن يقال على الله، والآية تدل على أنهم قالوا ما ليس بحق، والنبي يؤكد ذلك عليه الصلاة السلام فقال (لا أحد أصبر من الله)، أي: يكفر به الإنسان ويشرك به ومع ذلك يصبر، ويرفق بهم ويعطيهم عوناً وأرزاقاً، وهكذا هنا.
فالمعنى: ما أصبره وما أسمعه، فالله جل جلاله يعلمنا أن نقول: هو وحده الذي انفرد بأن يسمع كل شيء ويبصر كل شيء، وأن يعلم كل شيء.
هو عالم الغيب والشهادة لا يشاركه أحد في علمه ولا في غيبه ولا في شهوده جل جلاله وعلا مقامه.
قال تعالى: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} [الكهف:26] أي: ليس لأحد من الخلق من دون الله ولي ولا ناصر ولا معزز، ولا ما يعطيهم إذا هم جاعوا وذلوا وتضرعوا.
قال تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26].
لله الأمر والنهي، لا حكم إلا لله وحده، ولا يشرك الله في حكمه ولا في أمره ولا في إرادته أحد من خلقه، وكل ما زعم المشركون والكافرون إن هي إلا أسماء سموها، مالهم بها من علم ولا لآبائهم، ولا دليل عليها، ولا سلطان لها.
فالله لم يشرك معه أحداً لا في الخلق، ولا في الأمر، ولا في النهي، ولا في العطاء ولا في المنع، وكل هذا تأكيد لتوحيد الله وعبادته وإفراده بالعبودية وبالألوهية والربوبية جل جلاله.(6/4)
تفسير قوله تعالى: (واتل ما أوحي إليك)
قال تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27].
يخاطب الله أشرف عبيده، وكأنه يقول له: دع عنك اليهود والمشركين وأعداء الله، واقرأ ما أوحى الله إليك من كتاب، واعتنِ بهذا القرآن تالياً وقارئاً وحاكماً، وآمراً وناهياً، أحل حلاله وحرم حرامه، صدق بقصصه واعمل بموجبه، ولا تدعه أبداً، فهو الحق: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42].
فاقرأ كتاب ربك لتكون معانيه وحقائقه لازمة لك، استحضرها دوماً واعلم أن ما أخبرك به هذا الكتاب هو الحق، وما أثبته فهو الحق، وما لم يقله فهو الباطل، وما لم يزكه فهو الباطل.
فإياك أن تأخذ الحقائق عن أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا وتلاعبوا، وزادوا في دين الله ما ليس فيه، ونقصوا منه ما فيه.
وقد كان أحب شيء لرسول الله تلاوة القرآن، فقد كان عليه الصلاة والسلام يتلو القرآن في كل أحواله، يصلي بالمسلمين بالقرآن، ويتهجد به في أول الليل ثم ينام، ثم يتلو ثم ينام ثم يقوم في الثلث الأخير من الليل، نافلةً له.
فكان التهجد في حق المسلمين سنة مستحبه، وفي حق رسول الله صلى الله عليه وسلم واجباً عينياً.
فكان وهو يتهجد يتلو القرآن، فيتذكر معانيه، ولا ينساها عليه الصلاة والسلام، بل كان يزداد لها ذكراً وعملاً، وتعليماً ونشراً لدين الله.
ومن هنا كان يقول عليه الصلاة والسلام (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأدها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع).
أما القرآن فقد رواه أطباق المسلمين، عصراً بعد عصر، وجيلاً بعد جيل من الصدور والسطور، وبذلك لم يتغير فيه كلمة ولا حركة ولا آية.
وكذلك كانت السنة في الدرجة الثانية، إذ سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرواة والحفاظ من الصحابة والتابعين، بضبط الكلمة، وبشرح معناها، وتأكيد لفظها، ولذلك كان يقول: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها)، أي: حفظها أولاً: (فأدها كما سمعها)، حتى إذا سمع ولم يفهم، فسيأتي من يفهمها، (فرب مبلغ أوعى من سامع).
قال تعالى: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف:27].
هذا الكتاب الحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كلماته لم تغير ولم يتلاعب بها كما حدث في التوراة والإنجيل، وذاك قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فقد مضى على القرآن أربعة عشر قرناً من التاريخ ولم يعتره التحريف، وهذا أصدق دليل وأكبر معجزة، ومن هنا كان القرآن الكريم هو المعجزة المستمرة الدائمة في صدق رسول الله عليه أزكى الصلوات وأفضل التسليم.
فقوله: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف:27].
أي: لا مبدل لها لفظاً، ولا مبدل لها معنىً، مهما تلاعب المبتدعة من الفرق الضالة في تحريف معنى القرآن والتلاعب به، فإنه سيبقى من أكرمهم الله بعلمه، ومعرفته، فمع بيان رسول الله له، ومع السنة المطهرة المفسرة الشارحة، بقي القرآن بمعانيه وبألفاظه، لم يغير ولم يبدل.
ومهما حاول أن يبدل المبدلون في المعاني، سيبقى ذلك الكلام مضروباً به وجوههم، دالاً على بدعتهم، بل دالاً أحياناً على كفرهم.
قال تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27].
أصل الإلحاد: الميل، فقوله: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ} [الكهف:27]، أي: من دون الله ومن دون كتابه، والكل بمعنى، و (لن) لنفي التأبيد، أي: لن تجد مرجعاً ولن تجد من تحيد إليه وتستغيث به، إلا الله جل جلاله، وكتابه هو الذي يدلكم على ما أحل وعلى ما حرم، وعلى أنباء السابقين لرسل الله وأنبيائه المقربين.
فلا ملجأ منه إلا إليه جل جلاله، وكتابه هو الحاكم وهو المعلم، وهو الهادي المرشد، أنزله الله لنا، ليكون رفيقاً في المكتب والمدرسة، وحاكماً في المحكمة، ومؤدباً في الشارع، وموجهاً للأسرة، والحاكم بيننا وبين الأحباب، وبيننا وبين الأعداء.
فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، هو الجد ليس بالهزل، ما تركه من جبار إلا وقصمه الله، وما حكم به إمام إلا وهداه الله.(6/5)
تفسير قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم)
قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
هذه آية عباد الله المساكين الفقراء العابدين الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفقدوا، الذين يشغلون صباحهم ومساءهم بذكر الله؛ مصلين وصائمين وتالين ومسبحين ومنزهين ومعظمين.
وأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يصبر نفسه معهم إذا جالسهم وآكلهم وعاشرهم، فيتحملهم ولا يتبرم بهم، فقد مر النبي عليه الصلاة والسلام يوماً بالمسجد على جماعة من ضعفاء الصحابة بعضهم ليس عليه إلا ثوب واحد، وبعضهم ثائر الشعر، فجلس بينهم وقال: أنتم الذين قال الله لي عنكم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28].
أي: يذكرون في الصبح، ويذكرون الله تعالى في العشية والمساء.
والذكر كلمة عامة، وأفضل الذكر لا إله إلا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله).
وذكر الله يكون بالتهليل والتسبيح والتعظيم، والإجلال والإكبار.(6/6)
تفسير سورة الكهف [28 - 31]
يحث الله عبده محمداً صلى الله عليه وسلم على أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، وينهاه أن يعرض عنهم، ثم يذكر الله جزاء الكافرين ويهددهم ويتوعدهم بما أعد لهم من نار تحيط بهم وتحصرهم، ويبشر المؤمنين الذين عملوا الصالحات بما أعد لهم في الجنة من نعيم.(7/1)
تفسير قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي)
قال الله جل جلاله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
يعلم ربنا جل جلاله نبيه عليه صلوات الله وسلامه، ويوجهه لكي يصبر نفسه، ويتحمل أتباعه من المؤمنين القاصرين أنفسهم على ذكر الله وعبادته والدعوة إليه، وهم لا يريدون بذلك إلا وجه الله والدار الآخرة، وذلك أمر للمؤمنين جميعاً، وهذا أمر للنبي عليه الصلاة والسلام لكونه أسوة للمسلمين.
وسبب نزول هذه الآية أن فئة من كفار مكة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يجلس مجلسك ويحضر معك أمثال بلال بن رباح وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وأبي الدرداء، وهؤلاء مساكين الصحابة، وهم يلبسون ألبسة صوفية فعندما يشتد الحر تخرج منهم روائح العرق، فيتعالى الأغنياء والمترفون الجبابرة عن أن يجالسوا ضعاف ومساكين المؤمنين، وقالوا لنبي الله عليه الصلاة والسلام: خصنا بمجلس معك وأبعد هؤلاء واطردهم، فأمره الله بألا يفعل فقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52]، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] أي: تحمل هؤلاء المساكين ومسكنتهم وروائحهم، وجالسهم واصبر معهم وادع دعاءهم واعبد عبادتهم.
وكان هؤلاء يجلسون مكانهم في الغداة بعد صلاة الصبح يدعون ربهم ويتضرعون إليه ويسبحونه ويحمدونه ويكبرونه ويهللونه إلى شروق الشمس، ويفعلون مثل ذلك بعد صلاة العصر داعين ضارعين ذاكرين حامدين شاكرين مهللين ومعظمين ومنزهين إلى غروب الشمس.
وكذلك كان أهل الصفة الذين تجاوزت أعدادهم السبعين لا عمل لهم إلا العبادة والدعاء والذكر، والله ذكر هنا الدعاء؛ لأن الدعاء عبادة، والدعاء كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (الدعاء مخ العبادة).
واصبر نفسك يا محمد! وتحمل هؤلاء وهم يدعون ربهم، ويتضرعون إليه، وقد كان بعض هؤلاء لا يلبس إلا لباساً واحداً، وبعضهم يكون اللباس عليه أياماً، وبعضهم كان ثائر أشعث الشعر مسكنة وضعفاً وحاجة، ومع ذلك كان الواحد منهم يزن مئات من الأغنياء والمترفين والغافلين عن ذكر الله، فقد قلنا بالأمس بأن النبي عليه الصلاة والسلام كما روى الإمام أحمد وجد جماعة من أتباعه بعضهم ثائر الشعر، وبعضهم ليس عليه إلا ثوب واحد، وهم يذكرون الله غدوة، وهم يذكرون الله مساءً وعشية، فجلس معهم، وقال: (أنتم الذين أمرني ربي بأن أصبِّر نفسي معكم).
والمترفون من صناديد مكة عندما طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يخصهم بمجلس ويطرد عنه هؤلاء المساكين والضعاف، نهاه ربه أن يستجيب لهم، وإن كان لم يفعل عليه الصلاة والسلام، فهو لم يفردهم بمجلس ولم يجلس مختصاً بهم دون مساكين الصحابة وكل ما كان قد حدث يوماً بين ما هو مع أمثال هؤلاء جاءه عبد الله بن أم مكتوم وأخذ يسأله وكان أعمى لم ير من هم الجالسون فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام وعن جوابه، رجاء أن يؤمن به أولئك، وبإيمانهم قد يؤمن أتباعهم، وقد تؤمن الأكثرية من مكة، ولكن الله جل جلاله لم يقبل منه ذلك، وعاتبه عليه، وقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1 - 3].
فعاتبه الله ولامه، وبعد ذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا جاءه ابن أم مكتوم يقول: (أهلاً بمن عاتبني فيه ربي)، وكان يقبل عليه بوجهه الشريف عليه الصلاة والسلام، بل أكثر من ذلك كان إذا خرج من المدينة المنورة إلى غزوة كان يتركه أميراً للمدينة ونائباً عنه في حكم المدينة، والفصل بين الناس.
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف:28] أي: يعبدون ربهم، ويضرعون إليه، {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، أي: يفعلون ذلك في الغداة وهي الصباح، ويفعلون ذلك مساءً وعشية، فيذكرون ربهم داعين ضارعين، يصلون الصبح، ويبقون في مجالسهم إلى شروق الشمس، ويصلون العصر، ويبقون في مجالسهم إلى غروب الشمس، داعين لله ضارعين، شاكرين له على أنعمه بأن هداهم إلى الإسلام ووفقهم لدعائه وعبادته وحده، وترك الأصنام والأنصاب والأزلام والأوثان كما كان يصنع أقوامهم.
{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، وهم بذلك لا يقصدون من دعائهم ومن عبادتهم إلا وجه الله والدار الآخرة، ولا يريدون إلا ثواب الله، لا يريدون جزاء أو مكافأة دنيوية ولا جزاءً ولا شكوراً من أحد، ولا يريدون دنيا ولا مجاملة، ولا مراءاة، ولا شيء مما يفعله غير المخلص وغير العامر قلبه بالله وبعبادة الله وذكره.
{وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28]، أي: لا تتجاوز بعينيك عنهم، ولا تتطاول بالنظر إلى غيرهم من الأغنياء والمترفين، وترى أن أولئك أولى بالمجالسة، وأولى بالمحادثة، وأولى بالمذاكرة، بل جالس هؤلاء العابدون، هؤلاء الأخيار الصالحون، المنكسرة قلوبهم لله، الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، عباد الله المخلصون في العبادة له، ولا تتجاوز عيناك عنهم، لا تنظر إلى غيرهم، ولا تهتم بالمترفين وبالمعجبين وبالتائهين، دع أولئك لدنياهم، واصبر نفسك مع هؤلاء العابدين المخلصين لله.
{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28]، أي: ولا تطع أولئك الذين طلبوا منك اختصاصهم بهذه المجالس وإبعاد العابدين المخلصين في دعائهم وفي عبادتهم لله وحده.
أما أولئك المترفون الذين غفل قلبهم عن ذكر الله، وعن عباد الله الصالحين فلا تطعهم وأعرض عنهم، ولا تجالسهم، ولا تخصهم بالجلوس، وإياك أن تبعد هؤلاء وتطردهم لأجل أولئك.
{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28]، غفل قلبه فأغفلناه، ونسي ربه فنسيناه، لو يعلم الله في قلوبكم خيراً لآتاكم خيراً، ولأكرمكم، وفي الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله.
فهؤلاء عندما فسدت قلوبهم وغطى عليها الران، وما تركوا نبيهم عليه الصلاة والسلام والرسالة التي أنزل إليه، لم يتركوها عن جهل ولا عن عدم معرفة، ولكنهم أعرضوا عنها تكبراً وتعاظماً واستهزاءً، فدعهم واتركهم، فقد فعلوا بأنفسهم ما الله جل جلاله ودعهم إليها وتركهم.
{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28]، أي: عن توحيد الله، وعن عبادة الله.
{وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28]، أي: اتبع نزواته وكفره وشهواته، واتبع ما يظنه خيراً له في دنياه، وهو لا يؤمن بالبعث ولا بالنشور ولا بالآخرة، فكان إلهه هواه، فصد عن سبيل الله، وأغفله الله وتركه.
{وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، أي: كان أمره فارطاً ضائعاً ضالاً تائهاً من الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، كان أمره ضياعاً وضلالاً وفساداً، هؤلاء الذين يزعمون أنهم على شيء وليسوا على شيء، ممن جعلوا العبادة لغير الله، وممن جعلوا مع الله شريكاً، وممن اتبعوا شهواتهم ونزواتهم، وممن دعوا غير الله وأشركوا مع الله غيره، فهؤلاء كما أُمر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك وهو الأسوة والمعلم، وهو الذي جاء بالرسالة عن ربه ليبلغها لعباده.
وهو أمر لكل مؤمن ومسلم بأن يصبر نفسه مع المساكين من الصالحين والأتقياء، الذين يذكرون الله صباحاً ومساءً، وألّا يكبر في عينه المترفون والأغنياء والضائعون والمبتدعون والتابعون لأهوائهم وشهواتهم، والبعيدون عن الله في مجالسهم، وفي خلواتهم، هؤلاء الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وما هم على شيء، فقد ذهبت أيامهم ضياعاً وضلالاً، فلا تهتم بهم، ولا يهتم بهم مسلم، ولا يجعلهم المؤمن جلساء له، فإنهم يبعدون المسلم عن ربه، وينسونه ذكر ربه.
أما أولئك الذين إذا رأيتهم ذكروك بالله، والذين تتنزل الرحمات عند ذكرهم فجالسهم وعاشرهم، وهذه الآية الكريمة تحض المؤمن على عشرة الصالحين، والبعد عن المنافقين المبتدعين الضالين، وعلى ألا يكبر في عينه إلا الصالح التقي المستمسك بسنة نبيه وما كان عليه السلف الصالح، واترك ما عدا ذلك ممن اتبع هواه، وجعل دين الله شيعاً وأحزاباً، واتبع كل ناعق.
ومن هنا كان يعلمنا عليه الصلاة والسلام في الدعوات، ويقول لنا: (اللهم ارزقنا حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك)، فحب الصالحين مطلوب ومشروع أيضاً.
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة فحب الصالح يفيدك وينفعك، وعسى يوماً أن تنالك بركته، فتصبح من الصالحين كذلك.
وقديماً قيل في الحكمة: قل لي من تعاشر أقل لك من أنت.
أما أولئك التابعون لكل ناعق، المسترسلون مع كل فاشق، التاركون لنبيهم وسنتهم، التابعون لضلالات اليهود والنصارى والمنافقين والمبتدعة، فقد نهى الله عن عشرتهم، ونهانا عن مجالستهم، ونهانا عن أن نعترف بهم وبما عندهم من فساد وضلال وهوى.(7/2)
تفسير قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(7/3)
معنى قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم)
قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29] يقول جل جلاله لنبينا: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:29]، لست إلا بشيراً ونذيراً ومبلغاً من الله، والحق الذي أدعوكم إليه وأحضكم عليه، وأبعثكم له صباحاً ومساءً، فلست أنا الذي جئت به، وليس من قبلي، ولكن الحق من الله ربكم خالقكم، هو الذي أرسلني بهذا الحق ليزهق به باطلكم وباطل كل كافر، وباطل كل داعية للكفر والفساد والضلال، فما أدعوكم إليه هو من أمر الله.
أنا لست إلا رسولاً مبشراً، ولست إلا نذيراً ومبلغاً، قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272].
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:29]، فالحق الذي أدعوكم إليه هو عبادة الله وحده، وترك الشركاء والأوثان والأصنام من أي نوع، فضلاً عن الأحجار والأشجار والجمادات.(7/4)
معنى قوله تعالى: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)
قوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
وهذا تهديد ووعيد شديد، يقول الله جل جلاله لعباده بواسطة نبيه عليه الصلاة والسلام: بعد أن ظهر لكم الحق، وجاءكم به خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، بعد ظهور الحق ومعرفته بأدلته العقلية والمنطقية، فبعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فمن آمن فله الهدى والرحمة والرضا وله الجنة دائمة، ومن كفر وأشرك وعصى ربه وخالف نبيه فهو أدرى بنفسه، فليس له إلا الخزي والدمار والغضب والسعير الدائم، فطريق الجنة واضح، وطريق النار واضح، وهذه طريق الإسلام، قد بينها الله جل جلاله وشرحها، وأنزل بها كتاباً، وأرسل بها رسولاً يبينه ويوضحه، ليس فيه اعوجاج، قال عليه الصلاة والسلام: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يظل عنها إلا هالك).
{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29]، ثم قال: من كفر فهذا جزاؤه، ومن آمن فهذا جزاؤه، فقال عن الكافرين: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29]، أي: أعتدنا ناراً سعيراً محرقة، كلما نضجت جلود المعذبين فيها أعيدت ليزدادوا عذاباًَ، ويزدادوا هلاكاً ودماراً.(7/5)
معنى قوله تعالى: (إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها)
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} [الكهف:29]، والظالمون هنا بمعنى الكفار، وأظلم الظلم الكفر، يقال: ظلم نفسه فأشرك بربه، وأزال الحق عن أهله، فالله الخالق الواحد، فعندما يقول المشرك: إن لله شريكاً أو ولداً أو صاحبة، يكون قد ظلم وأزال الحق عن أهله، ولو كان ذلك في مخيلته وأوهامه، فيكون ظالماً لنفسه؛ لأنه أبعدها عن الحق وساقها للعذاب وسعى في هلاك نفسه ودمارها، وأي إنسان أكثر حمقاً ممن يظلم نفسه، ويسيء إليها، ويقع في عذابها ودمارها؟! {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29]، أي: أعد الله للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها، والسرادقات هي الحواجز التي تكون وراء الخيام، لكي لا يدخل ولا يخرج منها، ومعنى ذلك أن هذه النار محاطة بجدران، بين كل جدار وجدار قالوا: سبع جدران، والجدار سمكه ما يمشى فيه أربعين عاماً، بحيث لا يستطيع أحد أن يخرج منها مهما صاح ومهما ولول ومهما استغاث وبكى وتألم، وسيقال له: ألم تأتك الرسل؟ ألم تنزل على رسلك كتب دعتك لله الواحد، وأنت لا تزال في فسحة من عمرك؟ إنك لم تنتهز حياتك قبل موتك، ولا صحتك قبل مرضك، ولا شبابك قبل شيخوختك، وقد أرسل الله لك نبياً يأمرك وينهاك، ويدلك على الله، وأبيت إلا العناد والكفران والجحود، فهذا جزاء من ينكر ربه، ويشرك به، ومن يكذب نبيه ولا يؤمن به.
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29] أي: أحاط بالظالمين الكافرين، ومعنى حوطهم أي: حصرهم وحبسهم، فلا منجى ولا منفذ، فحبسوا في هذه النار، وصعدت جدرانها، وسمكت وتكررت وازدادت، بحيث لا يتصور أن يفر عنها فار، وهو خالد فيها سرمداً تحت العذاب والآلام، لا يكاد ينضج منه بدن، إلا ويعوض بدناً آخر وهكذا دواليك، أبد الآبدين ودهر الداهرين.(7/6)
معنى قوله تعالى: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه)
قال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف:29].
عندما لم يجد أهل النار مخرجاً ولا منفذاً ولا مهرباً، أخذوا يستغيثون أي: يطلبون الغوث، صاحوا في الملائكة: أغيثونا؛ فقد اشتد عطشهم، واشتدت آلامهم، واشتد جوعهم.
قال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]، أعاذنا الله منها، وأبعدنا عنها، وثبتنا على عبادته وتوحيده، والموت على دينه.
فالحبس محيط بهم من كل جانب فاستغاثوا وطلبوا الغوث والرحمة، وقد أصابهم العطش، ((وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ))، طلبوا الماء، فاحترقت منهم الأجواف، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29]، والمهل هو الصديد والدم والقيح، وهو سائل ثقيل كعكر الزيت.
أراد ابن مسعود أن يمثل هذا المهل، فجاء بذهب ووضعه تحت النار إلى أن ذاب وأخذ يقطره، وهو ينزل ثقيلاً قطرة قطرة، قال: هكذا المهل، ماء ثقيل يشربون ولا يغيثهم، بل إذا دخل أجوافهم، مزق أمعاءهم، وزادها حرقة، وآلاماً ووجعاً، وهو ماء ثقيل من ماء الصديد، من الدم، من القيح، من كل أنواع من البلاء، مضاف إلى أنه كالنار بل أشد، فهو نار، فيشربونه بهذه الحالة، فيشوي الوجوه لمجرد قربه إلى الوجه، يشوي ويزيل فروة الوجه، نسأل الله اللطف والسلامة، فكيف به إذا دخلت جوفه ودخلت أمعاءه.(7/7)
معنى قوله تعالى: (بئس الشراب وساءت مرتفقاً)
وقوله: {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29].
يا ما أبأس شراباً كهذا، يا ما أقبحه، يا بؤس وذل وهوان من يشربه ويضطر إليه! وهو طالبه لنفسه، محاطٌ بسرادق، يغلق عليه النار ويحبسه فيها، ثم يستغيث فلا يغاث، وإن أغيث أغيث بهذا الماء، الذي هو خلاصة الدماء، وخلاصة القيح والصديد، قيل: ذلك القيح والصديد الذي ينزل من فروج الزواني والفاجرات.
{بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]، أي: ساءت النار مرتفقاً يرتفق بها، ومنزلاً يؤوي إليه، ومكاناً يحتاج له ولا مفر، فهي المأوى إلى الأبد، وهي مكان مرفقهم، وهي مكان مجتمعهم، وهي دارهم الخالدة المؤبدة، التي لا مفر لهم عنها.
هذا للظالمين المشركين، أما الذين دخلوا تأديباً لعصيانهم، فهؤلاء مهما دخلوا وقعدوا فيها، فإنهم لن يخلدوا فيها ولن يبقى في النار أحد يقول: لا إله إلا الله، ولن يخلد في النار أحد يعلم أنه لا إله إلا الله، والله جل جلاله يأذن بالشفاعة العظمى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويأذن لغيره من الأنبياء والصالحين والعلماء والملائكة بالشفاعة، ومع ذلك فالمذهب الحق ثبوت كل الشفاعات، فقد يشفع للمسلم ويعفى عنه ولا يدخل النار ألبتة، ومن أولئك سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وهناك من يدخل ويشفع فيه ويخرج، وهناك من يدخل ويطول مقامه ثم يخرج ويدخل الجنة، ويقال لهم: الجهنميون، فتبقى على جباههم وعلى وجوههم آثار سوداء من شدة الحريق والآلام، ولكنهم بعد دخول الجنة وطول المقام بها، يستغيثون ربهم أن يرفع عنهم هذه العلامة، فهم قد تألموا من أن يقال لهم الجهنميون، فيستجيب الله لهم ويزيلها عنهم، ويصبحون كغيرهم ممن سبقوا إلى الجنان.
فهذه صفة المشركين الظالمين عندما تهددهم الله وأوعدهم، وعندما قال لنبيه فليقل لهم: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، إلا أنه من كفر فهذا جزاؤه.(7/8)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً)
أما من آمن فقد قال الله فيه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30].
أي: إن الذين آمنوا بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوة، ثم أتبع الإيمان بعمل الصالحات، فالإيمان عقد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، وهذه الجوارح بها نصلي، وبها نصوم، وبها نزكي، وبها نحج، وهذه هي الصالحات.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف:30] أي: آمنوا بالله قولاً وجناناً، ويعملون بمقتضى الإيمان، فيصلون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان، ويؤدون زكاة مالهم، ويحجون بيت الله الحرام مرة في العمر، ويتركون السيئة البتة، ويعملون من الصالحات ما في قدرتهم، والضابط في ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، أي: ما في قدرتكم وطاقتكم، فأمرنا بالصلاة قياماً، وإن عجزنا صلينا قعوداً، وأمرنا أن يكون الوضوء بالماء، وإن عجزنا عن الماء أو فقدناه ننتقل للتيمم بالصعيد الطاهر، وهكذا ما عجزنا عنه ننتقل لما شرع لنا عند الأعذار.
أما السيئات كالزنا والشح والربا والسرقة والاشتغال بأعراض الناس، والغيبة والنميمة، وما إلى ذلك مما أمرنا بتركه فيجب أن نتركه البتة.
وقوله: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] هذه جملة معترضة، أما جواب (إِنَّ الَّذِينَ) فهي الآية التالية: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:31]، وتقدير الكلام: أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار إنها لا نضيع أجر من أحسن عملاً، بمعنى: أنه مع هذا المقام لا نضيع أجر من أحسن العمل، وإحسان العمل إخلاصه، فتكون عبادتك لله، لا تريد بها لا رياء ولا تسميعاً، ولا تريد بها أحداً من الناس البتة.
وأما من جعل عملاً من أعماله يريد به زيداً من الناس فذلك الشرك الخفي، وعبادته يضرب بها على وجهه، ولا بد أن تكون العبادة خالصة لله، قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، فلا بد أن يكون الدين خالصاً لله، لا تشرك معه فيه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا غيرهما.(7/9)
تفسير قوله تعالى: (أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار)
وقوله: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:31]، أي: لهم جنات وليست جنة واحدة.
يحكى أن هارون الرشيد كان في بعض لياليه التي كان يسرف فيها على نفسه، فنازعته إحدى جواريه فقالت له: أأنت خليفة المسلمين؟ والله! لن تدخل الجنة، فقال لها: لي جنتان، وسأدخل الجنتين وأقسم لها بالطلاق، فبعد أن قال هذا إذا به أخذ يفكر ما الذي صنع، وكيف يحلف على غيب لا يعلمه إلا الله، وكان الوقت في منتصف الليل، فأرسل خلف أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، فجاء منزعجاً لأن هذه الأوقات لا يدعى فيها إلا من يراد تأديبه، فدخل عليه، فقال: أفتني يا أبا يوسف: الجارية الفلانية قالت لي: لن ترى الجنة، أأنت الذي تزعم أنك خليفة المسلمين؟ فأقسمت لها بالطلاق إني سأدخل الجنتين، فقال له: إني سائلك يا أمير المسلمين! قال: اسأل، قال: وتحلف لي بالله، فتردد هارون، قال: إما أن تفعل وإما أن لا جواب عندي، فقال: أقسم، قال: هل تخاف الله؟ قال: نعم، قال: احلف، قال: والله إني لأخاف الله، فقال: أبشر، فالله تعالى يقول: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، فسُرَّ هارون.
والكلام أولاً كان مزاحاً فأصبح جداً.
والمؤمن يرجو الله في كل الأوقات، وإن كان لا بد أن يكون بين الخوف والرجاء، فتارة يخاف العذاب والعقوبة، وتارة يطمع في الرحمة.
قوله: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [الكهف:31] والعدن أي: الإقامة الدائمة الخالدة، أي: جنة الإقامة الدائمة، وليست جنة واحدة، فالمؤمن يستحق الجنان، فيتنقل في منازل الجنة وفي درجاتها، فينزل لما هو أدنى ولا يصعد لما هو أعلى، ولكن المحب المتعلق قد يصعده حبه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب)، والفردوس منزلة الأنبياء والمرسلين، وهي أعلى درجات الجنان.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:31]، فأنهار الجنة تجري يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً، إلى ما يتصور الإنسان من لذائذ ومتع تتمتع بها العين، وتستمتع بها الأذن والبشرة، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وهي كما قال الله جل جلاله: {فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:71].
قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:31].
يقول جل جلاله: المنعمون من أهل الجنة، وهم الذين آمنوا بالله رباً وبنبيه محمد عبداً ورسولاً لهم الجنان، يمتعون بما فيها من حواسهم، فهم {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف:31]، أي: يلبسون فيها الأساور التي حرمت في الدنيا فإنها تحل لهم في الآخرة.
والذهب حرام على ذكور الأمة المحمدية، حلال لإناثها، وفي الآخرة يلبسونها، ويلبسون ثياباً من سندس خضر، وقديماً قالوا عن الخضرة ما قالوا، وبأن النظر إلى المياه المتدفقة وإلى الخضرة اليانعة، وإلى مايسر العين تزيد في صحة البصر، وتزيد من قوة النفس، وألبسة أهل الجنة الخضرة من سندس وإستبرق، والسندس رقاق الألبسة، وما يلبس عادة قمصاناً وما إليه من الألبسة الداخلية، فهي الألبسة الشفافة، وهي من حرير منسوج بالذهب واللؤلؤ وما إلى ذلك مما لا يخدش ولا يؤذي البدن.
أما الإستبرق فهي الأثواب الخارجية من الحرير ذي الذهب وذي الفضة، وذي اللآلئ على أشكال وألوان.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: كل ما ورد في الجنة من نعيم مأكول أو ملبوس أو مشروب أو منظور ليس من الدنيا فيه إلا الأسماء، وأما الذي في الآخرة فالله أعلم بشكله.
مع اليقين أن المتعة في الجنة تكون بالأجسام والأرواح، ومن أنكر ذلك فهو كافر حلال الدم، أي أن من قال: إن البعث لا يكون إلا بالأرواح، والتمتع لا يكون إلا بالأرواح، والعذاب لا يكون إلا على الأرواح، فلا يقول ذلك إلا أهل الكفر من أهل الكتابين، ويقول ذلك بعض المبتدعة ممن ضل وأضل وارتد.
فالبعث يكون بالأجسام وبالأرواح، والمتعة كذلك، لكن عندما نرى النبي عليه الصلاة والسلام يقول لنا: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت)، فلو أردنا أن نقيس ما في الجنة من نعيم على ما في الدنيا، لوجدنا أن الله قد ذكر الموز ونحن رأينا الموز في الدنيا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فيها ما لا عين رأت)، وفيها الحور العين مع أشباههن، فنحن رأينا النساء في الأرض، ورأينا الجمال في ذروته، ومع ذلك يقول لنا نبي الله عليه الصلاة والسلام: (فيها ما لم تر عينك، ولا سمعت أذنك، ولا خطر على قلب بشر).
لكن الله جل جلاله يقول: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:71]، إذاً كما قال ابن عباس: كل ما ذكر من نعيم في الآخرة من نساء، ومن طعام، ومن شراب ليس فيه ما يشبه الدنيا إلا بالأسماء، أما غير ذلك فالله أعلم بحقيقته، وهذا يؤكده القول النبوي الصحيح في الصحاح: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت)، ومعناه أن كل ما سنرى في الجنة بفضل الله وكرمه ورحمته لم تره أعيننا في الدنيا، ولم تسمعه آذاننا في الدنيا، ولم تتخيله ولم تتصوره خواطرنا وخيالاتنا.
{وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف:31]، الأرائك جمع أريكة، وهي المقاعد المرتفعة ذات الصوف والقطن والحرير.
قال تعالى: {نِعْمَ الثَّوَابُ} [الكهف:31] أي: هذا اللباس الأخضر، وهذا الدمقس الحرير، والسندس، وهذا الديباج على أشكال، هو نعم الثواب.
والإستبرق في الدنيا له أسماء، فيكون السندس ثياباً حريرية شفافة تلبس قمصاناً وأثواباً داخلية، ويكون الإستبرق ثياباً حريرية ديباجية غليظة، ويكون ألبسة خارجية، ومعنى ذلك أن الألبسة الداخلية والخارجية في الجنة هي من أعلى أنواع ما يتمتع به الإنسان مما لا يخطر ببالك في الدنيا.
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف:31] أي: يجلسون في قصورهم، وفي جنانهم على الأرائك وهي: الفرش الواسعة المرتفعة التي يتمتع بها الإنسان في دنياه، فمهما غلت، ومهما أترفت، ومهما تكن، فما في الدنيا مما في الآخرة إلا ما يشبهه بالأسماء.
قالوا: والأريكة هي سرير تحت الحجلة، كما يسمى اليوم الناموسية، فهي أسرة وعليها أغطية تغطي الإنسان.(7/10)
تفسير سورة الكهف [32 - 38]
ضرب الله مثلاً للمؤمن الشاكر لنعمة الله والكافر الجاحد لها برجلين من بني إسرائيل كان لأحدهما جنتين فكفر بنعمة الله وأنكر البعث، والآخر لم يكن له شيء من ذلك لكنه كان مؤمناً يشكر الله على ذلك.(8/1)
تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب)
قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف:32].
أي: اضرب يا محمد مثلاً رجلين أحدهما صالح والآخر طالح، فضرب المثل برجلين صديقين، وقيل: أخوين من بني إسرائيل، وقد ورثا عن أبيهما ثمانية آلاف دينار ذهبية، فأخذ كل واحد منهما نصفها أربعة آلاف، فاشترى الأول بالألف دينار بستاناً، ففصله وجعله بستانين، كما وصفه الله بقوله: {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} [الكهف:32]، فالجنتان اللتان جعلهما الله لهذا الرجل زرع فيهما نخيلاً في جميع جوانبهما، (وحففناهما) يكون في الجوانب، وكان ذلك بنخل، فزرعهما كروماً وأعناباً، وحفهما بالنخيل من جميع أطرافهما وجوانبهما، وجعل بين الجنتين زرعاً من قمح أو شعير أو ما إلى ذلك من أنواع الزروع، وشق فيها نهراً فزاد البستان والجنة جمالاً وبهاء وكمالاً.
وهاتان الجنتان (آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً)، أي: آتت أرزاقها بالكامل، وثمراتها وزرعها، وما فيها من زرع وأعناب ونخيل، (ولم تظلم منه شيئاً) أي: لم تنقص منه شيئاً.
وأخذ الرجل الثاني ألفاً، وقال: اللهم إني أشتري منك داراً في الجنة بهذه الألف، وتصدق بها على المحتاجين والأقارب والمساكين، وإذا بالأول يصرف على البستان ألف دينار أخرى، فيأتي الثاني يقول يا رب: هذه الألف الثانية أثث بها هذه الدار عندك في الجنة من أنواع الآرائك والبسط.
وتزوج الأول بالألف الثالثة، فجاء أخوه الآخر وقال: يا رب! هذه الألف الثالثة زوجني بها إحدى نساء الجنة، وذهب بالألف الثالثة يتصدق بها.
وأخذ الأول الألف الرابعة والباقية معه فاشترى لزوجته حلياً وفرشاً وأثاثاً ومراكب وخدماً وحشماً وما إلى ذلك، فقال الآخر: اللهم وهذه الألف الرابعة: أثث لي بها زوجتي في الجنة، وصرف الأربعة الآلاف ولم يبق له شيء، فمضى زمن وأترف الأول، فقد أخذ بستانه يزداد ثمرات وخيرات وزروعاً وتمراً وعنباً، والمياه تتدفق في جميع جوانبه، وإذا بالآخر يضطر يوماً إلى أن يحتاج لأخيه، فذهب إليه، فقال: ما بالك؟ قال: يا أخي أنا أحتاج بعض مالك، قال: وأين مالك الذي ورثته من أبيك، قال: تصدقت به لله رجاء ثواب الله في الآخرة، فقال: أأنت تؤمن بالآخرة؟ قال: نعم.
قال: والله! لا أعطيك شيئاً وأنت تؤمن بهذا الهراء الذي لم يأت به أحد ولم يقله أحد.
فذكر الله محاورة هذين الأخوين بعد أن استغنى الأول وبعد أن ازداد إيمان الثاني، فرعاه وحماه ربه، وما أعد له في الآخرة أعظم وأعلى شأناً.
فقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ} [الكهف:32]، لسان الذي أعطي زرعاً وجنتين لسان الفاجر الذي تمتع في الدنيا في أول أيامه، ثم أبى إلا الشرك والكفور، أبى إلا الإعجاب بنفسه، وأنه ما أغناه الله إلا لمزيد مكانته ومقامه عند ربه، وهو لم يشكر الله على ذلك، بل إنه لم يزدد به إلا شركاً وكفراً وعناداً، وأما الآخر حتى لو لم يغنه الله فهو مؤمن ومتمسك بربه، ولن يعبد غيره.
وهذا المترف الغني في الدنيا والذي لم يؤمن بالله، ولم يعمل بما يعمل به المؤمنون مثله كمثل صاحب الجنتين، ملك دهراً ثم أزال الله كل ما عنده، ومثل المؤمن الصابر في الدنيا الذي افتقر إلى الله وآثر ما عند الله في الآخرة على ما أعطاه في الدنيا رجاء رحمته ورضاه، ورجاء الجنة وهو لم يكن فقيراً في الدنيا، ولكن رغبته وخوفه، واعتماده على الله يوم القيامة جعله يعرض عن دنياه ونعيمها إلى الآخرة ونعيمها.
قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا) أي: مثالاً لهم بين الكافر والمؤمن.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} [الكهف:32] قالوا: أخوان أو قالوا: صاحبان، والآية ليس فيها تصريح بأنهما أخوان؛ لأن كل واحد منهما يقول للآخر صاحبي، ولم يرد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتأكيد، لكنها روايات وردت عن الصحابة والتابعين، وقد تكون صحيحة وقد تكون عن إسرائيليين، والحكمة ليس في كونهما أخوين، ولكن في كون أحدهما آثر الدنيا والآخر آثر الآخرة.
{جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} [الكهف:32] هاتان الجنتان زرعهما بالأعناب، والأعناب جمع عنب، أي: أنها جمع الجمع، والمفرد: عنبة.
{وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} [الكهف:32]، وحف الجنتين من جميع جوانبها، فالحفاف هو: الجانب، حفها بالنخيل، فزين بها الجنتين، واستفاد واستثمر أيضاً من التمر الناتج عن النخيل.
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف:32]، أي: جعل بين النخيل، وبين الجنتين وما فيهما زرع من القمح أو الشعير أو غيرهما.
قال تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ} [الكهف:33]، أي: هاتان الجنتان آتت أكلها أي: أثمرت وأينعت وأخصبت فقد عني بها سقياً وزرعاً، تنقية لفضول الخضرة والحشيش فـ {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف:33] أي: لم تنقص من هذه الثمرات شيئاً، فأعطت ذلك بالكامل، أي: أغنت صاحبها، وجعلته مترفاً معجباً.
{وفجرنا خِلالَهُمَا نَهَرًا} [الكهف:33]، وقرئت: {َفَجَّرْنَا} [الكهف:33] أي: شققنا في الأرض نهراً، وفجره من الأرض، فقد حفر على آباره، وعلى عيونه وكانت المياه قريبة من السطح، فأصبح جارياً يسقي به الجنتين.(8/2)
تفسير قوله تعالى: (وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره)
قال تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف:34] وقرئ: (ثُمر).
أي: كان لهذا البستان باعتباره جميعه، أو صاحب البستان كان له ثمر.
وثمر: جمع ثمرة، أي: هذه الجنتان أعطت من ثمارها خيراتها، وقد قال تعالى: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف:33] أي: لم تنقص، فقد أعطت ذلك بالكامل وقرئ (ثُمر) والثُمر معناه: الأموال بأشكالها، أي: وكان له أموال غير هذا البستان من الخيل والحمير والجمال وأنواع المواشي، والدواب، وأنواع التجارة، وكان له أموال ينميها فهو غني بالبستان وغني بأشياء أخرى، والمؤدى في الكل: أنه كان غنياً، نمى أمواله وساعده الحظ، فلو شكر الله على ذلك لأنعم عليه وزاده، ولكن العبرة بالخواتم فقد كانت خاتمته سيئة، فجاءه أخوه أو صاحبه يطلب رفده وحاجته، فقال له: أين ذهبت بالآلاف التي ورثتها؟! وإذا بهذا الرجل الصالح يعطيه درساً في الكفر والشرك، في الكبرياء والجبروت والتعالي على الله وعلى أخيه ورحمه، أو على صاحبه المؤمن.
{فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف:34]، فلم يقل الله: قال لأخيه، وإن كان لا يلزم قيل أخوه وقيل: مجرد صاحب، والأغلب أنه مجرد صاحب.
{فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، أخذ يتيه عليه بماله بعد أن جاء يطلب رفده فقال: أنا أكثر منك مالاً، عندي من المواشي، ومن الزراعة، ومن الذهب، ومن الفضة، ومن ومن (وأعن نفراً)، أي: أكثر زوجات وأولاداً، وأكثر خدماً وحشماً، فالعادة في المترفين والأغنياء أنه كلما ازداد المال زادت الزوجات، وكلما ازدادت الزوجات زاد الأولاد، وكلما ازداد الأولاد زاد الخدم والحشم والمراكب وما يتبع ذلك، فأخذ يتيه عليه مدلاً بماله وعزته بين قومه، يقول له: لست فريداً وأبتر، ولست غريباً.
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} [الكهف:35]، أي: أخذه معه فدخل جنته وأدخل صاحبه، ليدل عليه بهذه الجنة التي وصفها الله أنها آتت أكلها ولم تنقص منه شيئاً، وكان من جمالها أن مياه الأنهار تتدفق وتجري خلالها، وكان من جمالها أنها حفت بالنخيل، فهي في منتهى ما يكون من الجمال.
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [الكهف:35] لكونه مشركاً ظلم نفسه بالشرك، وسيصرح بالشرك لصاحبه، {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:35 - 36]، فإذا بهذا المشرك الظالم لنفسه، أخذه من التيه والعجب ومن النكران لما أغناه الله به، وأكرمه به، فعوضاً عن أن يشكر ربه ونعمته أخذ يتكبر على صاحبه ويدل عليه بجنته، ثم يقول له: ما أظن أن تبيد هذه أبداً، أي أنها لن تفنى، ولن تنتهي فقد جملتها وزرعتها وحرثتها وشققت أرضها أنهاراً ومياهاً.
{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:36]، أي: ولا أظن الساعة ستأتي، ولذلك لا مسئولية عما صنعت، إن أعطيت فمن كرمي، وإن منعت فمن حقي، ولذلك أنا محظوظ في دنياي، وليس هناك بعث ولا نشور ولا آخرة كما يقول: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} [الكهف:36]، وهذا يدل على أنه جرى بينهما حديث في التوحيد، وأن الآخر عندما طلبه أن يتصدق عليه أو يحسن إليه أو يسلفه، قال: أين مالك الذي ورثته معي؟ قال: جعلته لله لأجده عنده يوم القيامة.
والآخر يعتقد أنه لا قيامة ولا بعث، وأعلن الشرك بالله، وأعلن التيه بما يملك، ثم زاد فقال له: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} [الكهف:36]، أي: لئن كان هناك آخرة، ولئن كان بعث ونشور كما تزعم، {لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، فهو يزعم غروراً وجنوناً وكفراً وإصراراً وبلاءً من الله له أنه لا آخرة ولا بعث، ويقول لصاحبه مجادلاً: وعلى فرض أن هناك بعثاً فأنا محظوظ عند ربي في الدنيا، فكما أعطاني في الدنيا فإنه سيعطيني يوم القيامة أحسن منها.(8/3)
تفسير قوله تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب)
وإذا بالآخر يجيب: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف:37] والمحاورة هي: المحادثة والمذاكرة وتبادل القول والكلام، {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف:37] يا هذا! ما الذي دهاك وما الذي أصابك؟! أبعد أن أكرمك الله بالعافية وبهاتين الجنتين تكفر به وتقول: لا بعث ولا نشور، وتزداد تألهاً على الله وافتراءً عليه، كيف هذا، أكفرت بالله وهو الذي خلقك في الأصل من تراب؟! فقد خلق أباك الأول وجذرك الأول من تراب، ومنه خلق أبونا الأول آدم عليه السلام، ثم بعد ذلك سلسلك من نطفة من ماء مهين، أتتعاظم بهذا الماء المهين؟! أتتكبر على ربك وعلى خلقه وعلى عباده؟! أتشرك بالله وتكفر به؟! قال له صاحبه وهو يحاوره: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ} [الكهف:37] وهو الله جل جلاله، {مِنْ تُرَابٍ} [الكهف:37] أصل آدم فهو مخلوق من تراب ثم من نطفة، ثم بعد التراب توالدنا أباً وأماً من نطفة من الأصلاب إلى الأرحام.
{ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف:37] أي: جعل لك جوارح: النظر، والكلام، والسمع، والبصر، وجعلك سوياً ولم يشوهك، ولم يعم منك البصر، ولم يصم منك الأذن، ولم يجعلك تمشي زحفاً، ولم يقعد حواسك، ولم يمرضك، أهذا جزاء النعمة؟! أهذا جزاء الله منك؟! لقد خلقك وأكرمك وسواك بشراً سوياً، وجعلك جميل التقاطيع والخلقة، ورزقك من خيراته، ومن أمواله، ومع ذلك تأبى إلا الشرك والكفر، وأنه لا بعث ولا نشور! {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:38]، (لكنا) بمعنى: لكن أنا، ودمجت في كلمة لالتقاء الساكنين فأصبح يُنطق بها كما رسمت في المصحف، وتأويل الكلام: لكن أنا الله هو ربي، فإن كان ربك الشيطان فأنا ربي الله، وإن كنت تنكر البعث فأنا أومن بالبعث وبما قاله الله وأتى به الأنبياء، هكذا تقدير الكلام.
{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف:38] أي: أعترف بأنه خلقني من تراب، ثم من نطفة، ثم سواني رجلاً، ثم سيبعثني يوم القيامة ويجازيني على يقيني وعلى إيماني بما يجازي به المؤمنين.
{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:38] أي: معاذ الله أن أفعل فعلك، أو أصنع صنيعك، أو أن أشرك بربي أحداً من الخلق، فالله الخالق، والله الرازق، والله الباعث، وكل ما تقوله إفك وضلال، وهذا هو كلام الظالمين لأنفسهم، والمشركين بربهم.(8/4)
تفسير سورة الكهف [39 - 45]
يعظ المؤمن صاحبه الكافر فيأمره أن يشكر نعمة الله ولا يكفرها، ويحذره من عواقب الكفر والطغيان، فإن الله قادر على أن يذهب بجنتيه فيحرقهما ويجعل ماءهما غوراً، وحينئذ لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً.(9/1)
تفسير قوله تعالى: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله)
قال الله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف:39 - 41].
ذكرنا في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]، أن الخطاب لنبينا عليه الصلاة والسلام في ألا يتجاوز بنظره وعينيه وبمجالسته وعنايته ورعايته فقراء المسلمين وصعاليك المؤمنين، وأن يصبر معهم، وعلى فقرهم، وعلى بعض لأوائهم، وعلى بعض خشونتهم، فهم الذين يصبحون ويمسون ذاكرين ربهم جل جلاله، داعين له، ضارعين بين يديه، يسألونه الرحمة والمغفرة والتوبة.
وقوله: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]، هي مقولة للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت نفسه هي تأديب وتعليم وتوجيه للمؤمنين، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الذنوب والآثام صغيرها وكبيرها وليس له رغبة في الدنيا وزينتها، وهذا كقوله تعالى لنبينا عليه الصلاة والسلام: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يشرك، وهو معصوم، وقد أتى لتعليم الناس توحيدهم ودينهم والرسالة التي أوحي له بها، ومن هنا نعلم باستمرار أن ما كان كذلك فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المبلغ عليه الصلاة والسلام عن ربه، والمؤدب والمعلم والموجه، فيكون المكلف المخاطب أولاً، وعليه البلاغ لغيره.
قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] أي: لئن أشركت أيها المؤمن! ليحبطن عملك، ولست بمعصوم ولا محفوظ من الذنوب والآثام، فلا تتخذ من الدنيا زينة، ولا تتكبر وتتعاظم على عباد الله.
وهكذا في الآية التي مضت في سورة الإسراء في أنه لو تقوّل أو تزيّد لعاقبه الله، كما قال الله: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:75]، فهذا خطاب له، وهو أمر للمسلمين ألا يفعلوا ذلك حتى لا يصيبهم ذلك وأمثاله.
قال صاحبنا المسلم لصاحبه الكافر الذي كفر بربه عندما دخل جنته: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:35 - 36] إلى أن قال ما قال.
فأجابه صاحبه المسلم كما قال الله: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:37 - 38].
فهذا الصاحب المؤمن جادل صاحبه الكافر المشرك المنكر للبعث والمنكر أن تبيد جنته ودنياه أو أن تكون هناك حياة ثانية دائمة وهو متعاظم على صاحبه المسلم بماله وبأولاده وبما عنده فصبر عنه صاحبه الصالح المؤمن إلى أن انتهى من قوله الكفري الشركي ومن جنونه وهرائه، ثم كرر عليه وهو يحاوره ويحادثه ويبادله القول والحديث، فقال له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [الكهف:37]، لقد كنت كافراً بقولك: إنه لا بعث ولا فناء ولا حشر ولا عرض، فكفرت بربك الذي خلقك من تراب، إذ كلنا من آدم، وآدم من تراب، ثم أنت من نطفة، أي: من ماء مهين، ومن أب وأم، وصلب ورحم، ومع ذلك تشرك بربك، وتتعالى عليه، وتنكر الرسالات، والبعث! أيليق هذا بإنسان خلق من تراب ثم من نطفة من ماء مهين؟! {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:38] أي: لكن أنا، فحذفت الهمزة وأدمجت النون السابقة باللاحقة، فصارت الكتابة والنطق: لكنا، وتفسير القول: لكن هو الله ربي أنا، أما أنا فلا أشرك بالله، فهو خالقي من تراب، ومن نطفة، وهو سيعيدني مرة ثانية، ويبعثني كما يبعث كل الخلق، فأنا أومن بهذا وأعترف وأقر به، وأفرد ربي بالوحدانية وبالعبادة وبالدعاء، وأستعيذ بربي أن أصنع صنيعك.
{وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف:39] أي: هلا، فهو يعظه ويرشده ويعلمه الإيمان ويوجهه إليه، شأن المؤمن بربه الداعية إلى الله، وهكذا وظيفة المسلم حيث كان في بقاع الأرض، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
وهكذا هذا الصاحب المؤمن عندما رأى هذا الكافر القذر الوسخ، الذي ما كاد يملك شبراً من أرض وقطرة من ماء حتى تعاظم على الفقراء والمساكين والمؤمنين، وكفر وأشرك بربه، وأنكر البعث.
{وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف:39]، أي: هلا قلت إذ رأيت جنتك وأعجبت بها وبأشجارها وبخضرتها وبمياهها الدافقة، وإذ رأيت أولادك وأعجبت بهم وبكثرتهم وبمن يحيط بك من أولاد وخدم وحشم؛ هلا قلت عند ذلك: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف:39]، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30].
فلم تكن جنتك بقدرتك ولا بإرادتك، ولكنها كانت بمشيئة الله وقدرته، فأنت لا تملك مع ربك قليلاً ولا كثيراً، بل أنت خلق من خلقه كجنتك وولدك ومالك وما أعجبت به، فهلا عندما أعجبت بما أعجبت به قلت: ((ما شاء الله)) أي: الأمر والشأن قد شاءه الله وأراده، ((لا قوة إلا بالله)) أي: لا قوة لي ولا لأحد من الخلق إلا بالله، فبقوة الله زرعت بستاني وفجرت مياهه، وبقوة الله رزقني ما أتزوج به، وهو الذي أتى بالذرية والأولاد والخدم والحشم، فكل ما أنا فيه بمشيئته وبقدرته وبإرادته.
وكان الواجب عليك إذ كان الأمر كذلك أن تشكر ربك وتثني عليه وتنزهه وتعظمه وتجله، لا أن تتكبر على ربك، وعلى نبيك، وتنكر البعث والتوحيد والمشيئة والقدرة، فهلا خفت يا هذا المخلوق! وقد نظرت إلي نظرة التحقير والإزدراء، وأخذت تتعالى علي وتقول: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، فإن رأيتني كذلك أقل منك مالاً وولداً.
و (أنا) ضمير فصل هنا لا يعمل فيها الإعراب، ولا تعمل فيها الحركة، و (أقل) هي مفعول منصوب بالفعل، (ترني)، و (أنا) إنما جاءت فاصلة لتأتي بالقول وبالكلام، وليست هي من الضمائر المرفوعة ولا الرافعة لغيرها، ويكون المعنى: إن أنت رأيتني أقل منك مالاً، وأقل منك نفراً، ومالك أكثر من مالي، وأولادك أكثر من أولادي، ونفرك المحيطون بك من الخدم ومن الحشم ومن الجنود الذين تعتز بهم، إن كنت كذلك {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} [الكهف:39 - 40] أي: لعل الله أني يكرمني ويعطيني ويتفضل علي بجنة خير من جنتك، أوسع منها أرضاً، وأكثر منها أنهاراً، وأعلى منها أشجاراً، وأكثر منها ثمراً وفاكهة وكل ما يعود علي بالمال والغنى والثروة.
((فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ)) ويرسل على جنتك {حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} [الكهف:40] أي: صاعقة وناراً من السماء؛ إذ أعطاك وأكرمك ورزقك، فلم تشكر النعمة، ولم توحد الرزاق، ولم تحمده وتشكر له ما أعطاك وأنعم به عليك.
{فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} [الكهف:40]، ناراً محرقة تأتي على الأخضر منها واليابس، فتغير مياهها، وتجفف أشجارها، وتضيع ثمارها، فإن من يكفر النعمة جدير بأن يسلبها وبأن تزال عنه.
والحسبان الصاعقة والنار والأحجار التي تأتي عليها وكأنها لم تكن.
{فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف:40] أي: فتتبدل من الجنة ذات الأشجار الباسقات والأزهار المنيرات والمياه المتدفقة إلى أرض ملساء لا تنبت، وليس عليها شجرة ولا ورقة خضراء ولا قطرة ماء، كما قال تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف:40]، أي: أرضاً ملساء لا تنبت، قاحلة لا شجر فيها ولا خضرة ولا ما يعجب البتة.
زلقاً: أي: رمالاً، إذا أنت وقفت عليها تزلق رجلك؛ لأنها أصبحت سبخة صاعدة بارزة، وكأنها الصحاري والأرض ذات الرمال التي لا تكاد تحمل رجل الرجل حتى يزلق ويقع، وقد تدخل رجله في الأرض فلا يستطيع المضي ولا الذهاب ولا الإياب.
قال تعالى: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} [الكهف:41].
(غور) مصدر بمعنى فاعل، أي: أو يصبح ماؤها غائراً، أي: ضائعاً قد غار في الأرض بعيداً عن سطحها وعن فورانها وعن أن ينفع جنتك وأشجارها وزراعتها وثمارها.
{فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف:41] فيصبح غائراً ضائعاً في أعماق الأرض، فلن تستطيع له طلباً مرة أخرى، لا بحفر ولا بسعي ولا ببذل، فإذا كفرت بربك ولم تشكر نعمته أخذ نعمته عليك وسلبك إياها.
وقال سلفنا الصالح في قول هذا الصاحب المسلم: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف:39]: ينبغي للمسلم إذا رأى ما يعجبه من أهله أو أولاده أو ماله أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
فهو حري أن تدوم تلك النعمة وألا تصيبها آفة إلى الموت.
وقد ورد هذا نصاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد روي عن أ(9/2)
تفسير قوله تعالى: (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه)
قال تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:42].
صدق ما قاله المسلم لصاحبه الكافر عندما تعالى بماله، وظن أن ذلك قد أوتيه بحظ عنده، وبمقدرة انفرد بها، فوبخه وأنذره بأنه يوشك أن تزول عنه هذه النعمة، وترى البلاد والأرض والجمال والبستان وكأنه لم يكن يوماً من الأيام؛ بما يصيبه من قوارع وصواعق من السماء تحرقه، وبما يضيع من مائه فيغور في الأرض فلن تستطيع له طلباً.
وما كاد يقول له ذلك، وينام بعد ذلك ليلة أو ليلتين إلا وأصبح يجد بستانه على ما توقعه له صاحبه المسلم، فأصبح في البلاء وسلب هذه النعمة.
قال تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف:42] أحيط: من الإحاطة، أي ذهب بستانه وجنته وما فيها من ثمار، فقد ذهبت جميعها وكأنها لم تكن يوماً، وأصبحت صعيداً زلقاً بلقعاً لا تنبت ولا تؤتي ثمرة ولا زهرة ولا خضرة ولا قطرة ماء، وكان ذلك بسبب كفره وشركه وعدم اعترافه لله بنعمته، فسلب هذه النعمة، قال تعالى: (وأحيط بثمره) أي: ذهب جميع ثمار أرضه وعمله وجميع أتعابه، فأصبح خاوي الوفاض، ساقط العروش والسقف والمنازل.
{فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف:42].
قوله: (أصبح)، يدل على أن هذا حصل له بالليل، فما كاد يصبح ويأتي بستانه ليتعهده ويتنعم فيه على عادته حتى وجد هذا المنظر، فكاد يغمى عليه ويجن، وشك هل هذه هي أرضه وبستانه أو لا؟ وعندما رأى الحدود والجيرة والمكان الذي فيه بستانه تأكد أن هذا الذي حدث فيه هذا البلاء والصواعق المحرقة والمياه الغائرة هو بستانه وجنته وما فيها من ثمر، فأصبح يضرب على كفيه ندماً وأسفاً، وهكذا شأن من بلي ببلاء، فأخذ يندم ويتأسف ويتوجع، وقد مضى الوقت والزمن، وهيهات فالوقت سيف إن لم تقطعه قطعك.
فندم على ما كان منه من كفر ومن شرك ومن إنكار للبعث، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وما بذلت كفاه من مصروف ومن أموال، فقد بلغت من الكثرة أن استغرق جميع ماله في هذا البستان.
وحال كونه يتندم ويتأسف ويتوجع كان هذا البستان خاوياً على عروشه، فارغاً خالياً ساقطاً عاليه على سافله؛ من الصواعق التي نزلت وهدت ما فيه من بناء، وأصبح السقف أرضاً وصعيداً زلقاً، وأصبحت المياه غائرة لا يقدر منها على شربة، فذهب كل عمله، وأصبح نادماً آسفاً على كفره وشركه وما مضى منه، ولكن هيهات، فقد سبق السيف العذل! قال تعالى: {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:42]، فقال هذا بعد فوات الأوان، وبعد أن جرى عليه ما جرى وأحيط بثمرة، فعندما ندم وتوجع وقلب يديه بعضها على بعض أصبح يتندم ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:42]، يندم في نفسه بتقليب يديه، ويندم بلسانه ويتمنى بأنه لم يشرك بربه أحداً.
وهل آمن بعد ذلك وهو في الحياة، لم يذكر لنا الله هل آمن أو لم يؤمن، ولكنه ندم على كونه أشرك وكفر لما كانت هذه النتيجة، فقد ذهبت جناته وما فيهما من ثمار وأشجار وأنهر دافقة، فيمكن أن يكون قد آمن وندم على شركه، ولكن القرآن لم يبين ذلك، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام لم يبين ذلك؛ لأن العبرة في ضرب مثل بما جرى وبمن كان موحداً أيام بني إسرائيل، فضرب ذلك مثلاً في أغنياء الكفار وفقراء المؤمنين، وأن هؤلاء الأغنياء لا يتعاظمون على فقراء المؤمنين والمسلمين، بما لديهم من أولاد وأموال، فقد سبق أن كان مثل هذا لـ قارون، وإذا بالأرض تخسف به وهو في زينته وفي أمواله.
وكذلك ما ذكره الله تعالى عن هذين الرجلين الصاحبين أو الأخوين عندما تعالى أحدهما على الآخر.
والله يضرب هذه الأمثال ويقول للفقير المسلم: يا أيها الفقير! لا تتألم ولا تتوجع لحالك، وإياك أن تغتر بمال ذلك الغني الكافر العاصي، فأنت إن بقيت على الإيمان والطاعة أشرف من ذاك، والدار الآخرة الدائمة خير لك، وخير لولدك ولحشمك، وخير لك مآلاً وعاقبة وآملاً، وذاك الذي أنت تعتبره شيئاً كبيراً يوشك أن يأتي الله على ماله وعلى ولده في الدنيا قبل الآخرة، ولعذاب الله أنكى وأشد.
وقد ذكرنا أن سبب نزول سورة الكهف هو أن عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث ذهبا سفيرين من كفار مكة إلى يهود المدينة يسألانهم عن صفة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان ما قلناه قبل، وكانت النتيجة هذا المثال بالكافر المنكر للبعث عقبة والنضر وأمثالهما، وهكذا كان فقد مات عقبة والنضر على أشد أنواع الكفر، وكانا من أشد أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وممن لقي منهم رسول الله في مكة المكرمة عنتاً في الأيام الأولى عند اضطهاد الإسلام والمسلمين، كما لقى المسلمون، وكانت النتيجة أن نصر الله نبيه وعبده سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، واختار هذين بالذات دون بقية الأسرى من كفار قريش فأمر بقتلهما وقطع رقابهما صبراً دون قتال، فأخذ يصيح عقبة ويقول: مالي أنفرد بهذا دون إخواني من الأسرى، فسكت عنه النبي عليه الصلاة والسلام، فأخذ يقول: (يا محمد! من للصبية؟ فقال: النار).(9/3)
تفسير قوله تعالى: (ولم تكن له فئة ينصرونه)
قال تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} [الكهف:43].
هذا الذي تعالى يوماً وهو في عز جاهه وقوته وتيهه وما له من الخدم والحشم، بينما هو يتيه على هذا الصاحب المسلم ويقول له: (أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً) ذهب هذا النفر كله من ولد وزوجة وخدم وحشم، فقال الله عنه بعد أن ذهبت جنتاه بما فيهما: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الكهف:43].
فهذه الفئة والجماعة والطائفه من العيال والأولاد والخدم التي اعتز بها لم ينصروه من دون الله، ولم يكن لهم من الحول والطول ما يكونون به حزباً وأعواناً وفئة مناصرة وكيلة نائبة له، وهيهات، ومن يتوكل لأحد على الله، ويقف في وجه الله جل جلاله القادر على كل شيء؟ فهو الواحد الأحد، والكل له عبد ذليل يرجو رحمته ويخاف عذابه.
قال تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} [الكهف:43]، فلم ينتصر لا بمال ولا بأولاد ولا بشباب ولا وبقوة ولا بجنتيه اللتين افتخر بهما على المؤمنين من الفقراء والمساكين، فقد ذهبت جنتاه وفئته وخدمه وحشمه وأولاده في الحياة الدنيا، وإن مات على الشرك فلعذاب الله أنكى وأشد.(9/4)
تفسير قوله تعالى: (هنالك الولاية لله الحق)
قال تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:44].
هنالك أي: يوم القيامة الوَلاية، فإن قلنا: الولاية فهى الحكم والسلطان والأمر والنهي، وإن قلنا: الوِلاية فهى: النصرة والتعزيز والمؤازرة، وكل ذلك انفرد به الله جل جلاله، إذ يقول إذ ذاك: أنا الملك أين الملوك؟ فيقولها ويكررها جل جلاله، ولا جواب، فالكل ذل وخنع وأصبح يقول: نفسي نفسي، بما فيهم الأنبياء إلا نبينا محمداً صلى الله عيه وسلم، وعند ذاك يجيب نفسه بنفسه: أنا الملك أين الملوك؟ أنا ملك الملوك.
قال تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف:44].
وهناك الحكم الحق والمناصرة والتأييد والقوة لله وحده، وليس لأحد موالاة ولا نصرة ولا سلطان يعتز به ولا حاكم يعود إليه، فالحاكم الله، له الأمر والنهي، وبيده العز والذل، يعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير جل جلاله وعلا مقامه.
وهذا هو المغزى والنتيجة من ضرب المثل.
ولقد قال السلف الصالح: إذا سمعت ربك يقول: ياأيها الناس! يا أيها الذين آمنوا! فأعرها أذنك فهو خطاب لك، وامتثل ما قيل لك أمراً واترك ما قيل لك نهياً، وإلا حل بك ما حل بالكفار والمشركين من اللعنة في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف:44]، قرئ: (لله الحقِ) على أنه نعت لاسم الجلالة الله، والله هو الحق، وهو الواحد الأحد، الرازق الصمد، الذي بيده كل شيء.
وقرئ: (هنالك الولاية لله الحقُ)، على أن الحق نعت للولاية، أي: هنالك الولاية الحق، وهنالك الملك والسلطان لله وحده، وهنالك المناصرة والتعزيز والتأييد، فالحق لله وليس لأحد سواه، والكل تؤكده الآية وتدل عليه، وكلتاهما قراءتان سبعيتان متواترتان.
قال تعالى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:44].
فالله جل جلاله خير ثواباً ممن ترجو ثوابه من المشركين ومن الكافرين، فثواب الله خير، وهو خير في الواقع وفي الزمن القائم في الدنيا.
{وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:44]، أي: خير عاقبة في الآخرة.
وقرئت: (عقْبى) و (عقُبى)، فثواب الله خير في الدنيا وخير عاقبة يوم القيامة.
وقوله: (خير) أي: حسب توهم المشرك؛ لأن خير فعل تفضيل، وهي تقتضي المشاركة والزيادة، وإلا فلا أحد يشارك الله فضلاً عن أن يزيد عليه، ولكن ذلك حسب توهم هؤلاء المشركين من أن أربابهم المزيفة وأوثانهم الباطلة تثيبهم وتأجرهم وتعطيهم الخير، فقيل لهم: هذا الذي تنتظرونه من هذه الأوثان ثواب الله وإفضاله وخيره وإكرامه خير لكم في الآجل والعاجل، وفي الحال والاستقبال، ولولا أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من لم يشكر الناس لا يشكر الله)، لما شكرنا أحداً على كل جزئية أو كلية إلا الله؛ لأنه ما من إحسان بلسان أو قلم أو يد إلا والله هو الذي حرك القلب والفؤاد والنفس لأن تعمل هذا الخير، فأنا أشكر الله الذي حرك ودفع لذلك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام علمنا أن نشكر الواسطة، فمن لم يشكر الناس لم يشكر الله وهكذا.
ومع ذلك تأتي حالة لبعض الناس لا يشاهدون إلا الله في كل إحسان.
وعائشة أم المؤمنين رضوان الله عليها عندما بهتت بما بهتت به، وقذفت بما قذفت به من المنافقين ومن ضعفة من المؤمنين، ثم نزلت براءتها من فوق سبع سماوات، وكانت في بيت أبيها، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام يبلغها ذلك ويبشرها، وهى حزينة متألمة باكية، وكان أبوها أبو بكر رضوان الله عليه حاضراً، فعندما جاء يقول ذلك عليه الصلاة والسلام سكتت، فقال أبو بكر لابنته: اشكري رسول الله يا عائشة! قالت: والله لا أشكره، ولا أشكر إلا الله الذي برأني.
وهذه حالة تأخذ المؤمن.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: عرفت الحق لأهله.
وكان هذا من إدلالها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كانت غضبى على رسول الله صلى الله عليه وسلم لماذا يتشكك فيها؟ ولماذا يسأل الصغار والكبار ما تعرفون عن عائشة؟ فهذا الذي آلمها وأحزنها وأبكاها، فعندما جاءت البراءة من الله أبت أن تشكر إلا الله جل جلاله، وهذه حالة تأخذ الإنسان، فـ عائشة أم المؤمنين جديرة بأن تكون في هذا أسوة.
قال تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:44]، أي: هو خير عاقبة وخير ثواباً حاضراً ومآلاً، آجلاً وعاجلاً.(9/5)
تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا)
قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45].
وهذا مثال آخر لهذه الدنيا الفانية الغرارة، وهو للأغنياء؛ حتى لا يغتروا بمالهم وبسلطانهم، وللفقراء حتى لا يملئوا قلوبهم بما عند الأغنياء.
والمخففون قد استراحوا من التبعة ومن الحساب، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا وهكذا)، وقد هلك الأغيناء وذوو الكثرة من المال؛ لأن الأغلب فيهم أنهم لا يقومون بحقوق الله في مالهم، ولا يؤدون زكاته كاملة، ولا النفقة الواجبة عليهم، ولا يعطوا من مالهم حق للفقير والمسكين، وقد يتيه أحدهم بماله ويعجب بدنياه، وهذا شأن الأكثر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، (هلك المكثرون، إلا من قال هكذا وهكذا).
والمخففون هم الذين لا يملكون شيئاً، فلا يحاسبون يوم القيامة على دنيا إذا كانوا صالحين، وقد يذنبون بالقليل القليل من المال، فتجدهم فقراء في الدنيا والآخرة.
نسأل الله اللطف والسلامة.(9/6)
تفسير سورة الكهف [52 - 56]
ينادي الله الكفار يوم القيامة بأن يدعوا شركاءهم فلا يستجيبوا لهم، ولا يرون إلا النار جزاء تكذيبهم للرسل والرسالات.(10/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم)
قال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف:52].
هنا يعلمنا الله أن نتخذ الحيطة لأنفسنا ونجدد إيماننا وتوبتنا، وليؤمن من لم يكن مؤمناً، ويتب إلى الله من شركه وكفره وعصيانه، ويقول الله جل جلاله لهؤلاء الظالين المشركين: {نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [الكهف:52]، نادوهم لأراهم، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم، فقد نفذوا الأمر، وأخذوا ينادون: يا عيسى! يا مريم! يا عزير! يا عجل! يا هبل! {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [الكهف:52]؛ لأنهم ليسوا شركاء، ولأنهم يعلمون من أنفسهم أنهم عبيد لله، خاضعون لجلاله، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، فلا أمر لهم ولا نهي، فهم عبيد يصنع الله بهم ما يشاء، وأما أن يقولوا: إنهم شركاء، فلم يبلغوا هذا المبلغ من الجنون، هذا في الدنيا فضلاً عن الآخرة.
قال تعالى: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [الكهف:52]، أي: لم يستجيبوا لطلبهم.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف:52]، فالله فرق بين أهل الهدى وأهل الباطل، وبين المؤمنين والكافرين، وجعل بينهم موبقاً، وهو مأخوذ من أوبقه وأهلكه، أي: جعل خندقاً ووادياً في النار من القيح والدم والصديد، وهو جزء من النار، فلا هؤلاء يستطيعون أن يخرجوا من جهنم ليقابلوا أولئك الهداة الصالحين، ولا الصالحون يستطيعون ذلك لو شاءوا، فكيف وهم لا يخطر لهم ببال أن يتركوا الجنة ويدخلوا إلى جهنم؛ فقد جعل الله بينهم موبقاً ومهلكاً ودماراً وخندقاً ووادياً في جهنم حال بين هؤلاء وهؤلاء، هذا إذا كان من يشركون به دون الله من المؤمنين.
وأما إذا أشركوا به الجن ومن هو على شاكلتهم فقد حكى الله لنا خصومتهم في النار، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} [البقرة:166].
يقول الأئمة المتبعون للأتباع: نحن ما أمرناكم، وإبليس يقول حينئذٍ: لا سلطان لي عليكم، وإنما دعوتكم فاستجبتم لي، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي، فلا أنا أستطيع إغاثتكم، ولا أنتم تستطيعون غوثي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم.(10/2)
تفسير قوله تعالى: (ورأى المجرمون النار)
قال تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:53].
وهذا بعد الحساب والعرض على الله، وبعد أن جاءوا صفاً صفاً، وعرض الكتاب في يمين المؤمنين وفي يسار الكفار، وأخذ الكفار عندما أخذوا كتبهم بشمائلهم يصيحون ويندبون ويقولون: يا ويلهم! يا دمارهم! يا هلاكهم! ورأوا جهنم، وفي بعض الأحاديث: أنه يأتي بها كذا وكذا آلاف من الملائكة، وعندما يرون النار يظنون أنهم مواقعوها، والظن بمعنى اليقين، فيظنون أي: يتأكدون؛ ليزدادوا حسرة قبل أن يقذف بهم فيها؛ لأن توقع العذاب هو أعظم من العذاب.
ولذلك الكثير ممن يحكم عليه بالموت، ويكون بين الحكم وبين التنفيذ أيام، يكاد يموت قبل الموت، فيغمى عليه، وتذهل عيناه، ويضيع في نفسه، فيموت وهو مفتح العينين، وقد يموت فعلاً بسكتة قلبية، إلا إذا كان مؤمناً مثبتاً فهذا قد يفرح بالشهادة.
وهؤلاء يرون النار، ويتأكدون أنهم مواقعوها داخلون فيها، وواقعون فيها، فهؤلاء يزداد ألمهم، وتوقع العذاب عذاب.
قال تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ} [الكهف:53]، المشركون الكافرون {النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:53]، وسواء تحققوا أو لم يتحققوا، وظنوا أو توهموا فلا محيد لهم عنها، وليس هناك من يبعدهم عن عذاب الله وعقوبته.
فهم سيدخلونها ويواقعونها ويصبحون جزءاً منها؛ جزاء كفرهم بنبيهم وبكتاب ربهم وبالله جل جلاله، الذي طالما دعاهم ووعدهم وأرسل لهم رسله.
ونحن في الدنيا نشهد على هذا قبل الآخرة، فقد أرسل رسلاً مبشرين ومنذرين، فشهدنا بما سمعنا، وتيقنا به تيقن القطع الذي لا شك فيه، وتأكدنا أن هذا الكتاب الذي نتشرف بتدارسه كلام الله المنزل من عنده؛ لأن الله تعالى ذكر لذلك علامة ومعجزة، وهي أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد مضى على إنزاله على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام 1400 عام، فلم تغير منه كلمة ولا حركة، ثم الإعجاز الذي فيه، إعجاز اللفظ والمعنى، فآمنا علماً، وصدقنا واقعاً، وكنا على غاية ما يكون من الاطمئنان، والحمد لله أن ثبتنا الله على ذلك، وجمعنا بسيد البشر تحت لواء سيدنا المرسلين نبينا عليه الصلاة والسلام.(10/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل)
قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54] يقول الله جل جلاله لتبقى الحجة البالغة له: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ} [الكهف:54]، أي: بينا وأوضحنا بتفصيل وإجمال، بياناً واضحاً بليغاً فصيحاً مفصلاً في كل الجزئيات والكليات، ورزقناكم عقولاً للفهم، وأسماعاً للسماع، وأبصاراً للنظر، ورسلاً مبشرين ومنذرين ومعلمين، وخلفاء للرسل، من علماء منوعين، في علم القرآن وعلم الحديث وعلم اللغة، وجميع علوم الإسلام.
وقد صرف الله في كتابه بين مختلف الألفاظ والمعاني، والله جل جلاله طالما قص القصة ونوعها وذكرها في سورة بلفظ وفي أخرى بمعنى، وجمع أطرافها تارة، وذكرها مجزأة تارة، وكل ذلك لنفهم، والشيء -كما تقول القاعدة العربية- إذا تكرر تقرر، وهذا سر التكرار، وإن كان لكل تكرار معنى قائم بنفسه.
قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ} [الكهف:54]؛ لأنه نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبلغ كل الناس، ولكن اهتدى من آمن، وأبى الضلال من أشرك.
وقد صرف الله في هذا القرآن للناس من كل مثل ومعنىً وحكم ومثال، وصرف فيه من الحلال والحرام والعقائد والقصص وتاريخ الماضين والآتين والحاضرين، ما ترك شاذة إلا وذكرها، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].
وها نحن الآن نعيش في القرن الخامس عشر -ولا أقول القرن العشرين، فمالي ولتاريخ النصارى، فلا يهتم به إلا من خذله الله- الذي يزعمونه عصر علم وحضارة، وما هو إلا عصر فجور وفسوق ويهودية وعري وبعد عن الله، ومع ذلك فكل ما تجدد في العصر مما لم يكن يخطر ببال فإننا نجده في كتاب الله، قاله الله جل جلاله وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم، وفصله وبينه أصحابه والتابعون أئمة الهدى كـ أبي حنيفة ومالك وأحمد والشافعي والأوزاعي والليث جزاهم الله عنا جميعاً خير الجزاء.
قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54] وصدق الله العظيم، فمع هذا الحق البين الواضح نجد من أضله الله وسلبه عقله قبل أن يسلبه دينه، يجادلك بالباطل وبالهراء، وأنت تتعجب وتتساءل: هل يقول هذا الكلام قائل؟ ولكنه الجدل.
وفي صحيح البخاري ومسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق يوماً غرفة ابنته فاطمة وزوجها علي رضي الله عنهما فقال: ألا تصلون؟ وإذا ب علي يجيبه وقد استيقظ: إذا شاء الله أن يبعثنا بعثنا وصلينا، وإذا برسول الله عليه الصلاة والسلام يدبر، وإذا بـ علي يسمعه يقول وهو مدبر: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]).
وإذا قيلت هذه لمثل علي وفاطمة فكيف بغيرهما؟ فالمؤذن أذن، وهما قد استيقظا، وطرق عليهما بابهما، وهما يسمعانه، ففيم الجدل؟ قال تعالى: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54] ولا يجادل في الحق واليقين، والتوحيد والرسالة إلا من سلبه الله عقله، ولا يجادل في كتاب الله إلا من لعنه الله وأخزاه.
وأما من يطلب العلم ومزيد المعرفة والاستدلال؛ أو ليعلم غيره فليس من هؤلاء، ونقول له: قل الحق بالمنطق والعقل وبالبرهان القاطع كما ذكره الله، وهذا لا يجادل فيه إلا مجنون أو من غطى الله تعالى على قلبه بالران.(10/4)
تفسير قوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى)
قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف:55].
يذكر جل جلاله عن هؤلاء المعاندين الجاحدين، أن الذي منعهم من الإيمان بالرسالة وبصاحبها محمد عليه الصلاة والسلام واستغفار ربهم من جحودهم وكفرهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين؛ لأنهم قالوا مثلهم.
وما هي سنة الأولين؟ عاقب الله تعالى الأولين من المشركين والكافرين، فقد عاقب قوم نوح بالطوفان، وقوم هود بصواعق وزلازل، وقوم صالح بالصيحة، وقوم لوط بأن جعل الأرض عاليها سافلها عليهم، وفرعون وقومه بأن استدرجهم إلى أن دخلوا في البحر ورأوا اليابسة واغتروا بمشي موسى وهارون وأتباعهما عليها، فما كادوا يدخلون حتى أطبق عليهم الماء وأصبحوا في أمس الدابر.
وهؤلاء قالوا كأولئك، واستعجلوا العذاب وطلبوا إتيانه، وقالت قريش للنبي عليه الصلاة والسلام: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين.
فهنا يقول تعالى: إن الذي منع هؤلاء من الإيمان هو تقليدهم لأولئك الكافرين، ورغبتهم في أن ينزل العذاب عليهم، وإذا نزل فلا يقبل إيمان ولا توبة ولا استغفار، وهيهات، فقد سبق السيف العذل.
قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} [الكهف:55] أي: ممن لم يؤمن منهم، {أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} [الكهف:55]، إذ جاءهم الإسلام والقرآن ومحمد عليه الصلاة والسلام {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} [الكهف:55]، أي: ويطلبوا المغفرة من الكفر ومن الجحود ومن الشرك، {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف:55]، فقد امتنعوا من ذلك حتى يروا العذاب الذي نزل بالسابقين ينزل بهم، وإذ ذاك يصدقون، وماذا يفيدهم التصديق بعد ذلك! قال تعالى: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف:55]، أي: مقابلة ومواجهة ومكاشفة.(10/5)
تفسير قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)
قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [الكهف:56].
فليست من وظيفة المرسلين أن يأتوا بالعذاب ولا بالجنة والرحمة، فالعذاب والرحمة بيد الله، وهو الذي يعذب من شاء عندما يشاء، ويرحم من شاء عندما يشاء، وإنما وظيفة النبيين والمرسلين هي التبشير والإنذار، قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [الكهف:56]، أي: مبشرين المطيعين بالرضا وبالجنة، منذرين الكافرين الجاحدين بالغضب والنار، وبعد ذلك فالله إن شاء عذب في الدنيا قبل الآخرة، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى، وإن شاء أخر العذاب إلى يوم القيامة؛ لتزاد فرصة هؤلاء، وتزداد حجة الله البالغة عليهم، ويزدادوا عناداً وكفراً وجحوداً، إلا إذا أكرم الله أحدهم ممن لم يكفر جحوداً وهزءاً وسخرية، ولكنه كان ثقيل الطبع، بليد الفهم، يحتاج إلى زمن ليفهم وليعقل، فهؤلاء طول الزمان قد يفيدهم، ومن هنا فإن قريشاً لم تؤمن إلا في السنة الثامنة من الهجرة عندما فتح صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، فلم يسلموا إلا بعد ثماني عشرة سنة من الرسالة المحمدية، وكثير منهم ممن ضل وأضل -وكان أكثرهم لا يزال حياً- تاب إلى الله، وسموا الطلقاء ومسلمة الفتح، أي: عندما فتح رسول الله مكة عليه الصلاة والسلام وجمعهم وقال لهم: (يا معاشر قريش! ماذا ترون أني صانع بكم؟).
وما الذي يخطر ببالهم وهم يعلمون أنهم طالما آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشتموه وأخرجوه وجرحوه، وقتلوا أصحابه نساءً ورجالاً، واضطهدوهم، وتآمروا على صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام؟ وإذا بالنبي الكريم الرءوف الرحيم -كما وصفه الله جل جلاله- يقول لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
فعفا عنهم عن مقدرة، ولا يكون العفو إلا عن مقدرة، وبعد هذا العفو آمن الكل، ولم يقبل من قريش إلا الإسلام أو السيف، فآمنوا.
فبقيت طائفة إلى زمن تعد من المؤلفة قلوبها ممن لم يثبت الإيمان بعد في قلبها ثبوت الراسخين، وثبت الإسلام في قلوب الكثيرين، ومنهم عكرمة بن أبي جهل، وكان قد فر من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما فتح رسول الله مكة، وآمنت زوجته برسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تلحق به، وإذا بـ عكرمة يريد الفرار إلى أرض الحبشة، وإذا بالسفينة التي يركبها تضطرب وتموج ويرى الأمواج وكأنها الجبال يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً، وإذا بربان السفينة يقول للراكبين: لا يفيد الآن إلا دعاء الواحد، فادعوا ربكم ولا تشركوا به أحداً، وإلا فنحن هالكون.
وإذا بـ عكرمة وقد أراد الله به خيراً قال: إن كان لا يفيدني إلا الواحد وأنا في البحر فمن باب أولى ألا يفيدني إلا هو وأنا في البر، علي لله نذر إن سلمني الله فلم أغرق أن أذهب إلى مكة وأضع يدي في يد محمد، فسأجده رحيماً وشفيقاً ومستغفراً لي من ذنوبي، وهكذا كان.
فجاء إليه عليه الصلاة والسلام وقص عليه قصته، فقبل إيمانه وإسلامه، وقال لرسول الله عليه الصلاة والسلام: (علي عهد لله ألا أدع مكاناً ولا موقعة رفعت فيها السيف عليك وعلى الإسلام إلا رفعتها على عدوك وعلى عدو دينك يا رسول الله! أنا سيف من سيوفك فاضرب بي من شئت).
فأكرم الله عكرمة فكان من الفاتحين، وشارك في فتوح الشام والعراق وفارس، وأسلم وحسن إسلامه.
وهذه من فوائد إطلاق سراح أسرى غزوة بدر، فقد خرج من هؤلاء الكافرين مؤمنون بحق وصدق رفعوا سيوفهم وأقلامهم لله صادقين داعين لدين الله.
وكـ عدي بن حاتم الطائي المضروب به المثل في الكرم والنبل سيد آل طيء، فقد أسرت عصماء أخت عدي، وفر عدي مع عياله إلى الشام، فأتي بها مع الأسرى في معركة من معارك بلاد طيء في أرض اليمن، وإذا بها ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول له: يا محمد! أنا بنت سيد قوم كان يضرب به المثل في الكرم والجود، فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا ابنة حاتم الطائي، فأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخلها داره، ثم ذهبت إلى أخيها وقد فر إلى الشام، فأتى أخوها وكان متنصراً من قبل، فآمن وأسلم وحسن إسلامه، وكان من الدعاة إلى الله وممن أبلى البلاء الحسن.(10/6)
تفسير سورة الكهف [56 - 59]
أرسل الله المرسلين مبشرين ومنذرين، وأمر بالإيمان بهم وعدم الاغترار بالدنيا، فأبى الكافرون الظالمون إلا الكفر والطغيان.(11/1)
تفسير قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)
قال الله جل جلاله: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الكهف:56].
بعد أن أنذر الله جل جلاله وهدد وأوعد وأخبر عن الكافرين والمشركين السابقين في الأمم السابقة أنهم استعجلوا العذاب، وأنهم طلبوا من أنبيائهم المكر والغضب واللعنة ونزول العذاب، يخبر جل جلاله بأن وظيفة الأنبياء ليست العذاب ولا الرحمة، وإنما العذاب والرحمة بيد الله، ولكن المرسلين والنبيين أرسلهم الله جل جلاله مبلغين ومبشرين ومنذرين، فيبلغون الناس رسالات ربهم، ويبلغونهم ما أمرهم به ربهم، ويبلغونهم ما أنزل عليهم من كتاب الله، مبشرين أهل الطاعة بالجنة، ومنذرين العصاة بالعذاب والنار، فتلك وظيفة الأنبياء.
ولكن الله جل جلاله قد بشرهم وأنذرهم، فهو جل جلاله الذي يحقق البشرى للمؤمن المتقي برحمته ومغفرته ورضاه ودخول الجنة، وهو الذي يحقق النذارة والتخويف والتشديد والإيعاد، وينفذ ذلك على العصاة والمخالفين بلعنته وغضبه وبدخولهم النار.
قال تعالى عن هؤلاء المشركين والكافرين: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف:56] فيجادل هؤلاء وينازعون ويعترضون بلا حجة أو سلطان أو برهان أو دليل من عقل أو منطق، فضلاً عن أن يكون لذلك حجة من الله أو من رسله السابقين، وإنما هم يفتحون أفواههم ويغلقونها كما تعوي الكلاب وتصيح الحيوانات، فلا يدرون ما يقولون.
فلهم شأن الكافر الذي فقد عقله، فيريدون الجدال ولا جدال في هذه الأشياء إلا بالباطل؛ ظناً منهم أن هذا الباطل سيدحضون به الحق، وسيزيلونه ويمحقونه وسيزلقونه إلى أن يصبح زائلاً، وهيهات أن يبطل الحق باطل، وأن يقف في وجه الحق أحد! ومن أراد أن يفعل ذلك تكون النتيجة ذهابه وضياعه مع باطله وهرائه وكفره، ويبقى الحق والبارز الظاهر المتسلطن، ذو السلطان والبرهان والدليل.
قال تعالى: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف:56] أي: يدحضوا به الإسلام والقرآن، ويبطلوا به رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وهيهات أن يتم ذلك لأحد إلا لأرعن كافر أو لمجنون فقد عقله قبل أن يفقد دينه، وشأن الغواة شأن الذين لا يعلمون ما يقولون ولا ما يصدر عنهم، وهكذا إلى أن يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
قوله: {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الكهف:56] أي: لا يكتفون بالجدال بالباطل، بل يأخذون في الاستهزاء والسخرية بآيات الله التي أنزلها على أنبيائه من معجزات ودلائل واضحات من كتب لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ويهزءون بالرسل والكتب وبالحق.
قوله: (وما أنذروا هزواً) أي: أنذروا به، فيهزءون بما أنذرهم الله به من عذاب وغضب ونار، ويهزءون برسلهم وما أتوا به من معجزات بينات، ودلائل واضحات، ولا يكون ذلك إلا دلالة على كفرهم واتباع أهوائهم، وضياع عقولهم وهم في الدنيا كذلك، ويكادون ينتهون حتى يأخذهم الله في الدنيا أخذ ذل وهوان وسحق، ولعذاب الله أشد وأنكى.(11/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها)
يقول تعالى مستفهماً استفهام تقرير وتأكيد وتعليم وإيضاح، أي: يوجهنا ويعلمنا ويحقق رسالة نبيه التي أرسله بها.
يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف:57] أي: من أكثر ظلماً وشركاً، ومن أكثر جنوناً ممن جاءته الرسل وجاءته كتب الله بالدلائل الواضحات القطعية مما لا يدفعها منطق ولا عقل سليم فأعرض عنها.
قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} [الكهف:57] أي: ذكر بها ووعظ وأرشد وخوطب وكوشف.
فهذا الذي يأتيه رسول أو كتاب، ومع ذلك يأبى القبول والخضوع ويعرض عن آيات ربه ويهجرها فيترك الإيمان بها، ولا يلقي لها بالاً ولا يعتبرها، فهو ظالم لنفسه.
قوله: {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف:57] أي: أعرض عن تذكير رسله له، وأعرض عن كتاب ربه له ولأمثاله، ثم جاء فنسي ما قدمت يداه من شرك بالله وكفر بآياته، وظلم واعتداء على الأعراض والأموال وسلب الناس حقوقهم، وغير ذلك مما لا يجوز فيه الاعتداء على حق أحد من الناس، فهو ظالم لنفسه بكفره بالله، وهو ظالم لنفسه لأخذه حقوق الناس، وأكله أموالهم وانتهاكه أعراضهم، واشتغاله بشتائمهم وسبابهم، هزءاً منه بكتاب الله ورسوله، وما أتى به من معجزات وبراهين واضحات.
قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف:57] يقول جل جلاله: هؤلاء الذين لم يعطوا لأنفسهم فرصة التعلم والسماع والتذكير والتفكير فيما جاء به رسول الله فكذبوا، ثم أعرضوا، ثم استهزءوا، ثم نسوا ما قدمت أيديهم من شرك وظلم وإيذاء واعتداء؛ هؤلاء يقول الله عنهم: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الكهف:57] أي: غشاوة وغباراً غطاها عن سماع الحق ووعيه وفهمه، وهذا يحدث لمن سبق في علم الله أن جازاه بسوء الخاتمة وبأن يموت على الشرك؛ ليخلد في النار جزاءً وفاقاً، لا للكفر فقط، بل مع الكفر العناد والهزء بالأنبياء وبكتب الله.
قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الكهف:57] أكنة: جمع كنان، أي: ستراً، وغشاوة، حيث يسمعون فلا يعون، وينظرون فلا يبصرون، تسمع قلوبهم فلا تفقه ما يقال لها، كأنهم خشب مسندة، قد يفهم الحيوان ويعلم ويؤدب ولا يفهم هو ألبتة.
قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الكهف:57] أي: جعلنا على قلوبهم ما أفسد فهمهم ووعيهم وأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم، فلم يعوا ولم يدركوا ولم يتعظوا.
قوله: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف:57] أي: وجعل على آذانهم ثقلاً، وهذه أشياء معنوية؛ ولذا قال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198] أي: تراه ذا بصر وسمع وقلب وفهم وذكاء، ومع ذلك لا يستفيد ببصره؛ فيكون أعمى لا يدرك ما يدركه البصير، ولا يسمع ما يسمعه البصير، ولا يفقه ما يفقهه الذكي والعاقل والسامع والمبصر، فهو كأنه قد جعل على آذانه ثقلاً من حديد، وجعل على قلبه غشاوة، والران يغطي على القلب والسمع والبصر، فهو لا يبصر ولا يسمع، ولا يعي ولا يفهم، وعلى آذانه وقر.
قال تعالى: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:57] أي: هؤلاء -وقد صعد الران على قلوبهم، والآنك في آذانهم، والغشاوة على الأبصار- لو دعوتهم إلى الهدى لا يهتدون إذاً أبداً؛ لأنهم لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعون، فالأبصار والأسماع والقلوب قد عطلت عن فائدتها، فلا عين ترى، ولا أذن تسمع، ولا قلب يفقه، ولا عقل يدرك، فهم في بلاء ولعنة مسترسلة لعدم الفهم والوعي، وهكذا لم تفد فيهم رسالة، ولم يفد فيهم كتاب ولا علم ولا وعظ ولا إرشاد.
قوله: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:57] يقول الله عنهم: من كان كهؤلاء لم يهتد أبد الآبدين، فيعيشون ظالمين كفرة، ويبعثون كافرين ظلمة، ويخلدون في النار على ذلك، كالكثير ممن يحاول أن يسأل عن العلم وهو أجهل من الحمار، وكثير ممن يظن أنه يدرك ويعلم، وإذا به أبلد من حذاء، وإذا به الأجدر أن يربط في الإسطبل مع الدواب والمواشي، إن ذكرته بقال الله يظنك تتحدث معه في قصص ألف ليلة وليلة، وإن حدثته بقال رسول الله كأنك تحدثه بما يسميه الفنان والفنانة.
وإذا رأى فيك صفة مما تحترم أو تجل، تجده قد كفر بكل إجلال واحترام بدءاً من سيد البشر عليه الصلاة والسلام ورسالته، كما وصفهم الله بأنهم لم يؤمنوا ولن يؤمنوا، وأنهم يهزءون بكتاب الله ورسل الله وآيات الله، هؤلاء: {كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179] فلا يجوز أن يتركوا ليدخلوا مسجداً أو يعاشروا مسلماً أو يحضروا مجمعاً، هؤلاء أوجب الإسلام علينا أن نضرب على أيديهم، وأن نطهر المجامع منهم ومن أمثالهم.(11/3)
تفسير قوله تعالى: (وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب)
قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58].
يخبر الله تعالى أنه رحمة منه جل جلاله يمهل الإنسان الظالم فلا يؤاخذه، ويعطيه فرصة من حياته، خمسين سنة، سبعين عاماً، قرناً من القرون، سنة أو سنوات وما يشاء الله.
والله جل جلاله كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام: (لا أحد أصبر من الله) يقال عنه ويقال، وهو مع ذلك يرزق الكافر ويعطيه ويسلم حواسه، ومع ذلك يأبى إلا الكفر والعناد؛ لتبقى الحجة البالغة لله.
ذاك من رحمته لعله يوماً يعود إلى ربه، لعله يوماً يقول: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، لعله يفكر يوماً: أن الله لم يخلقنا عبثاً، وأن الله خلقنا لنعبده ولنطيعه، فما أوجدنا وخلقنا إلا لنعبده مخلصين له الدين جل جلاله وعلا مقامه.
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف:58] (الغفور) صيغة مبالغة أي: كثير المغفرة، وعلى عاقب يعاقب بالقليل على الجرم الكثير، ويكافئ ويجازي بالكثير على العمل القليل، ذاك من رحمته ومغفرته.
قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف:58] أي: صاحب الرحمة جل جلاله، ويوم خلق الرحمة كانت رحمته قد سبقت غضبه جل جلاله، فهو يرحم الكبير والصغير والمؤمن والكافر، ورحمته للكافر بأن يمهله ليعيش زمناً وليسمع زمناً عله يرعوي فيعود لربه.
ولقد فسر ابن تيمية قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95] في خطابه لرسوله عليه الصلاة والسلام، أن هؤلاء المستهزئين جميعاً ختم الله لهم بسوء الخاتمة، وهي خاتمة ذل وعقوبة وإذلال، ولعذاب الله لهم يوم القيامة أنكى وأشد.
واذكر إن شئت أبا لهب وأبا جهل وأبي بن خلف وعتبة وعتيبة والكثير الكثير، وهو قد قال رحمه الله: تلك سنة الله مع المستهزئين في الحياة النبوية وبعدها، وحكى أشباهاً مما حصل في عصره وقبل عصره، وقد كان في القرن الثامن، وهكذا قل عنا الآن، وإلى ما بعد الآن، وإلى يوم القيامة.
قد يكون الكافر كافراً عن جهل وبلادة، ولكنه لا يهزأ ولا يعاند، ولا يكون قليل الأدب مع رسول الله ومع المقدسات، ومع بيت الله الحرام ومع المسجد النبوي، ومع كلام الله، ومع السنة المطهرة.
قوله تعالى: {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف:58] يخبر تعالى أنه لو يؤاخذ الكافرين، ويحاسب الظالمين، لعجل لهم العذاب، ولما أمهلهم، ولما أعطاهم فرصة من حياة ليتعلموا، ومن هنا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يمهل ولا يهمل)، وهذا الإمهال تارة رحمة، وتارة لتبقى الحجة البالغة لله، وأن هذا المشرك أو الظالم مد في عمره وحياته، وفي ماله وقوته وسلطانه، ومع ذلك لم يزدد إلا كفراً، ولم يزدد عن الله إلا بعداً.
فهذا عندما يكون كذلك يكون قد صعد الران على قلبه، فلا تفيد معه موعظة ولا آية من كتاب الله، ولا حديث من سنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
قوله تعالى: {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [الكهف:58] أي: لو يؤاخذ الظالمين الذين قال عنهم إنهم استهزءوا بآيات الله، وبما أنذروا به، وهؤلاء الظالمون لو يؤاخذهم ويحاسبهم بما اكتسبوا وفعلوا من كفر وشرك، وكسبوا من ظلم، لأسرع بعذابه ونقمته، ولم يمهلهم ولا ساعة، ولكن لرحمته -وهو الغفور ذو الرحمة- قد شاء أن يعطي هؤلاء فرصة الحياة، فلا يؤاخذهم، ولا يحاسبهم، ولا يعجل لهم العذاب، ممهلاً لهم إما أن يعودوا إلى التوحيد وإما أن يكون ذلك حجة لله بالغة عليهم.
قوله تعالى: {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف:58] أي: في الدنيا قبل الآخرة كما كان يعامل الأمم السابقة قوم نوح وهود وصالح ولوط، وقوم فرعون، ولكن الله من رحمته بعباده لم يسرع العذاب لهم، بل أمهلهم لعلهم يعودون إليه.
قال تعالى: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58] أي: بل لهؤلاء المشركين والظالمين موعد وعدوا في وجودهم فيه وعرضهم فيه على الله، وهو يوم القيامة، قد وعدوا بالحياة الثانية، وبالبعث بعد الموت؛ ليحاسبوا على ما عملوا، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
فمن فعل الخير دخل الجنة، ومن ارتكب الشر دخل النار، فهذا الموعد لا موئل عنه ولا مفر، هو موعدهم ومرجعهم، وهو مآلهم (لن يجدوا عنه موئلاً) أي: لن يجدوا عنه مرجعاً ولا مفراً ولا مكاناً يئوبون إليه، ويستغيثون به، يفرون إليه من عذابه وعقابه، ولكن هيهات هيهات! يوم ينادي: أنا الملك أنا الديان!! أين الملوك؟! فلا يجيب أحد، ثم يجيب نفسه بنفسه جل جلاله.
نأتيه فرادى ليس معنا حول ولا طول ولا أنصار ولا أولاد ولا أشياع ولا جيوش، نأتي فرادى كما خلقنا فرادى.(11/4)
تفسير قوله تعالى: (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا)
قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59].
قوله: (تلك القرى) أي: أهل القرى السابقة في الأمم الماضية، عاقبهم الله تعالى وأهلكهم، ودمرهم بأنواع من الهلاك كالغرق والصواعق والزلازل، وبجعل الأرض عاليها سافلها، وبأنواع العذاب، فعجل لهم الهلاك وأسرع به لهم.
قوله: (لما ظلموا) أي: عندما أشركوا بالله وظلموا أنفسهم، ورفضوا الإيمان بربهم، وأبوا قبول الرسالات، والهدايات والمعجزات، والأدلة الواضحات الفاضحات، ولم يرغبوا إلا في الكفر والجحود، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف:59] معناه: يا هؤلاء! خذوا العظة والعبرة مما جرى لمن سبقكم، فالسعيد من وعظ بغيره، والشقي الذي لا يوعظ إلا بنفسه، فإذا بطش به، وإذا سحق وعوقب يكون قد فات الأوان، والوقت سيف إن لم تقطعه قطعك.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59] أي: وكان لهم موعد في هلاكهم ودمارهم وفي القضاء عليهم في عقوبتهم، فذهب ملكهم وسلطانهم، وذهب عزهم ونورهم، وذهبت حضارتهم، وذهب ما أسسوه وأتقنوه وعاشوا له قروناً، وكأنهم لم يكونوا يوماً في الأرض، بادوا ثم بادوا، وانتهى وجودهم وعادوا إلى عذاب ربهم بعد أن أعطاهم فرصة الإيمان والهداية، فأبوا إلا الفسق والعصيان والجحود والكفران.
قوله: {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ} [الكهف:59] قرئ (مَهلِكِهم) و (مَهلَكِهم) و (مُهلَكِهم) والمعنى واحد، وكلها قراءات متواترة صحيحة، ومعناه: أنه جعل لهم مكاناً وموعداً، وهو يوم القيامة، يوم العرض على الله، وقد يكون هذا العذاب له موعدان، موعد في الدنيا وموعد في الآخرة، كما صنع بأهل القرى الماضية، وكما صنع بالأمم السابقة.(11/5)
تفسير سورة الكهف [60 - 62]
كان سيدنا موسى عليه السلام من أولي العزم، ولكنه لما افتخر بعلمه أعلمه الله بمن هو أعلم منه وهو سيدنا الخضر عليه السلام، وكلفه الله تعالى السفر إليه ليتعلم منه، وجعل له علامة على مكان وجوده، فأخذ فتاه يوشع بن نون وسافر يبحث عن الخضر عليه السلام.(12/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين)
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60].
ندخل الآن في القصة الثالثة من سورة الكهف، وهي قصة الخضر وموسى عليهما السلام، فالله جل جلاله يقص علينا هذه القصص -قصص الأنبياء والصالحين والكافرين والمجرمين- لنتخذ منها العبرة، ولنتخذها درساً في حياتنا ومآلنا، وإعداداً لآخرتنا، لا لنتفكه، ولا لمجرد الحكاية والقصة؛ ولذلك فإن الله جل جلاله لا يتبع التفاصيل كما يفعل أصحاب القصص، ما اسم زيد؟ ما اسم عمرو؟ في أي سنة كان؟ ما اسم كلبهم؟ ما اسم أمه وأبيه؟ هذا خارج عن العبرة والعظة؛ ولذلك لا يلتفت القرآن له ولا يهتم به، وإنما يذكر العظة والعبرة لنتخذها دروساً كما مضى في النصف الأول من كتاب الله في جميع قصصه.
واذكر يا محمد (إذ قال موسى لفتاه) أي: موسى بن عمران، من أولي العزم من الرسل، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام، وكان موسى من أكابر الأنبياء، فهو كليم الله جل جلاله، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام كلمه الله في ليلة الإسراء عندما أمره بالصلاة، وكان ذلك بلا واسطة من جبريل؛ ولذلك ما من منقبة ذكرت في نبي من الأنبياء إلا وكان مثلها وأعظم لنبينا عليه الصلاة والسلام.
قوله: (إذ قال موسى لفتاه)، وفتاه نبي من الأنبياء، هو يوشع بن نون، كان خادماً له، وهذا شأن الكبار من العارفين بالله أنبياءً ورسلاً وعلماء، فلقد كان مع رسول الله عليه الصلاة والسلام جمع من الصحابة ذوي المقامات العلية كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد واذكر لهم هؤلاء الأخيار الأكابر، وهؤلاء السادات الأعاظم، وهؤلاء الذين هم أفضل الخلق بعد الأنبياء على الإطلاق.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خير القرون قرني) أي: خير قرون الأرض على الإطلاق القرن النبوي الذي بزغ فيه هذا العربي الهاشمي صلوات الله وسلامه عليه في هذه البقاع المقدسة، وقال: يا أيها الناس! إني رسول الله إليكم جميعاً، فكان أصحابه لشرفه شرفاء وعظماء، فكانوا أعظم الناس بعد الأنبياء على الإطلاق.
وقد أقسم الله بعصره كما في أحد التفاسير: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] أقسم بعصر محمد عليه الصلاة والسلام، وقيل: أقسم بوقت صلاة العصر؛ لأنها هي الصلاة الوسطى، كما ثبت ذلك نصاً في صحيح مسلم.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60] أنزل الله جل جلاله أنزل ما من هذه القصة، وهي قصة موسى والخضر، فموسى سماه باسمه ولم يقل: ابن فلان، والخضر لم يسمه، فلم يكن فيه نزاع أنه الخضر، وأما موسى فقد قال قلة إنه ليس موسى بني إسرائيل، ولكنه موسى بن موسى، هذا قول قاله أحد من أسلم وكان يهودياً، وهو نوف البكالي ربيب كعب الأحبار، ولكن عندما بلغ ذلك ابن عباس قال: كذب عدو الله! فكذبه ووصفه بعداوة الله، وكأن في نفس ابن عباس من كعب أشياء، كما كان ذلك عند العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام كان عند عائشة أم المؤمنين وكما كان عند عمر أمير المؤمنين، وكما كان عند معاوية ملك الشام ومؤسس الأمويين.
فقال ابن عباس: كذب عدو الله، وقال له ذلك سعيد بن جبير؛ فقال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرأ سورة الكهف أنه موسى بن عمران) وأما أنه موسى بن موسى فهذه من الإسرائيليات، ولا دليل عليها، وهي كذب وهراء، وقد كذبها حبر القرآن ابن عباس.
لقد كان موسى يخطب يوماً في قوم حتى خشعت قلوبهم تأثراً بالموعظة الحسنة، وبعد أن انتهى من الخطبة تبعه أحد المعجبين بكلامه وعلمه ومعرفته، فقال له: يا رسول الله! هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: لا أحد.
وإذا بالله الكريم بعد ذلك يعاتبه ويقول له: بلى عبدنا الخضر، والرواية في مسند أحمد، وفي صحيح البخاري ومسلم رواها أبي وغيره من الصحابة الكبار والصغار رضي الله عنهم جميعاً، والقصة مغزاها الأول واضح، والآن نأتي إلى المغازي جميعاً بعد نهايتها، فمنها: أنه إذا كان الله جل جلاله لم يقبل من موسى -وهو أحد أولي العزم من الرسل- أن يقول: لا أحد أعلم مني في الأرض، فكيف بغيره.
وإذا بموسى يبتدئ طلب العلم وكأنه تلميذ جديد دخل المدرسة الابتدائية، وكان ذلك إيثاراً من الله بأن يذهب موسى ويتعرف على الخضر ويتعلم من علومه ومعارفه، فسأل ربه وقال: يا رب! اجمعني بهذا، فقال: خذ حوتاً زاداً للطريق، واجعله في مكتل، وفي مجمع البحرين عند صخرة هناك سوف تفقد الحوت، فتلك علامة كانت لموسى في وجود الخضر.
والخضر عبد من عبيد الله، وهو يتنقل في هذه الأرض من قبل موسى لا مكان له ولا منزل، وهو في مختلف البقاع شرقيها وغربيها، يعبد الله ساجداً قائماً راكعاً موحداً مقدساً، وقالوا عنه: يعيش بشربة ماء من زمزم مرة في العام.
وقد عرفنا موسى وقصصه في كتاب الله، أما الخضر فلم يذكر مرة أخرى، ولولا أن النبي صح عنه أن هذا العبد الذي أخبر الله موسى عنه لقلنا هو عبد من عبيد الله الله أعلم من هو، وما اسمه، وهل لا يزال موجوداً.
وقد قال قوم: إن الخضر ابن آدم مباشرة، وقيل: ابن نوح، وقيل: من بني إسرائيل، أي جاء بعد إبراهيم من سلالة إسحاق، وقيل: هو أمير ابن ملك، وقيل: ليس اسمه الخضر وإنما هي صفة، فقد كان يتعبد الله في قطعة من الأرض لا نبات فيها ولا خضرة، فيبقى يدعو الله وهو يبكي بدموعه حتى تسقى الأرض بدموعه فتنبت، فيصبح وكأنه على فروة خضراء من النبات، وكأنه على جلد أخضر، فسمي الخضر من أجل ذلك.
هل لا يزال حياً؟ أما أصحاب الآداب والرقائق فيكادون يجمعون على أنه لا يزال حياً، ويحكون عجائب وغرائب في ذلك، وأما أهل الدليل والبرهان والمحدثون، فقد خصه برسالة الإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني إمام المحدثين، الذي لم يأت بعده مثله، وقد كان في القرن التاسع، وقليل نظراؤه فيمن تقدموه، فقد ترجم له في كتابه الإصابة في تراجم الصحابة، بناءً على قول من قال: إنه بقي إلى العصر النبوي، وأنه جاء إلى رسول الله مؤمناً به عليه الصلاة والسلام، وكانت رسالته مستقلة، وأظنها قد طبعت، وتجاوزت مائة ورقة، وقد طبعت ضمن كتاب فتاوى السيوطي فيما يسمى الحاوي في الفتاوي.
ثم هل كان عالماً عارفاً بالله وولياً فقط أو كان نبياً؟ الكثيرون يقولون: إنه كان نبياً، وكثرة أيضاً قالوا: إنه كان ولياً، ولكن ظاهر القرآن وسياقه يدل بما يشبه اليقين أنه كان نبياً.
ولنعلم أن فئة الرسل والأنبياء أشرف الخلق، أما الأولياء فهم طبقة ثانية بعد الصحابة، فالصحبة مقامها عزيز جليل.
فهل الخضر لا يزال حياً؟ وأتى بعضهم بأحاديث كثيرة لم يسلم سند حديث منها من مقال تدل على أنه جاء إلى رسول الله وآمن به، يقول ابن حجر: لو كان الخضر حياً لكان لابد من أن يأتي إلى رسول الله فيؤمن به؛ لأن الرسول نبي إلى جميع الخلق ممن أدرك حياتهم، فلا يسع الخضر إذا ظهر رسول الله وخاتم الأنبياء إلا أن يأتي مسلماً مستسلماً.
ولقد قال عن موسى وهو من أولي العزم: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي) وعيسى سينزل في آخر الزمان كما جاء في القرآن والسنة فيكون على دين محمد، فيحج حجنا، ويستقبل قبلتنا، ويقتدي بأئمة المسلمين، فكيف يكون الخضر حياً ولا يأتي إلى رسول الله مسلماً ومؤمناً؟! ومن هنا مال الحافظ إلى قول من أتى بأنباء وأخبار أخرى عمن ذكر عن نفسه -وهم مشهورون بالصلاح والصدق- أنهم اجتمعوا بالخضر فحدثهم وحدثوه، لكن لابد أولاً من معرفة هل كان حياً أيام رسول الله؟ فإذا لم يكن حياً فكل ما يذكر من بعد يجب أن نقابله بالشك والارتياب، وإن كان حياً فلا يسعه بحال من الأحوال إلا أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
وعلى هذا الأساس بحث العلماء والمحدثون، وأصحاب الأدلة والبراهين، فهو عند المحدثين لم يكن حياً أيام رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع ذكر الكثير ممن ينتسب للعلم والإمامة في العلم عن شيوخهم وعن علماء عارفين أنهم رأوه، وتحدث إليهم وتحدثوا إليه.
ولكن لابد أن يصاحب الدليل، وأن يعنى بالسنة، ومن لا يقبل الكلام هكذا على عواهنه فعليه أن يبحث المقدمة الأولى: هل أدرك الحياة النبوية؟ فإن كان الخضر قد أدرك الحياة النبوية فهو لا شك بعدها، وإذا لم يكن كذلك فمعناه أنه لم يكن في الحياة النبوية؛ لأنه لو أدركها لآمن به.
المقدمة الثانية: من المعروف الصحيح المتواتر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يبقى على وجه الأرض أحد ممن هو عليها الآن)، وقد قال هذا قبل موته بسنة أو سنتين؛ ولذلك حسبوا وتتبعوا فقالوا: من كان في هذا الوقت ممن رآه رسول الله أو رأى رسول الله فقد توفي، وهذا أبو الطفيل عامر بن واثلة من صغار الصحابة قالوا عنه: إنه كان آخر الصحابة موتاً، حيث مات على رأس القرن الأول من الهجرة، وعندما قال هذا الحديث عليه الصلاة والسلام قالوا: كان عمر الطفيل سنتين أو ثلاثاً، وعاش بعد تمام القرن بسنتين أو ثلاث ليتم القرن.
قالوا: فلو كان الخضر موجوداً لجاء مبايعاً مسلماً مستسلماً لرسول الله مؤمناً بأنه رسول الله إليه قبل أ(12/2)
تفسير قوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما)
قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} [الكهف:61] أي: بلغا مجمع البحرين {نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف:61] الناسي في الحقيقة هو يوشع، وهو الذي بيده مكتل الطعام والزاد، وعندما يقال: أخذوا الزاد، لا يكون الزاد إلا في يد واحد، ولكن ينسب إلى الكل حمل الزاد، فينسب العمل إلى الجماعة أو الرفقة.
كذلك نسبة النسيان ستمسهما، بل ستضر موسى الذي هو صاحب القصة والشأن.
(فاتخذ سبيله) أي: الحوت خرج من المكتل واتخذ طريقه (في البحر سرباً)، السرب: الكوة والطاق، كما نقول الآن: النفق.
فقد وصل إلى مكان فيه عين الحياة، ولعل الماء فوار، فمس الحوت من هذا الماء الفوار قطرات فإذا به يعيش ويحيا، قالوا: ومن الغريب أن موسى قد أكل منه، وليس هذا في الآية، ولابد أن يكون الشأن كذلك، لأنه لم ينقطع عن الأكل من سيناء إلى أن بلغ مجمع البحرين، ومشيه إما على دابة أو على رجليه، وذلك سيحتاج إلى فترة طويلة.
قوله تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف:61] أي: قفز الحوت بعد أن رش بماء الحياة بالصدفة فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وصار هناك نفق في الماء الذي مسه واتصل به فأصبح مجوفاً بحيث أخذ يجر وينسحب وينزلق، والماء مع ذلك مفترق، فيصبح فيه كأنه الصخرة داخل الماء.
فبقي الحوت محصوراً إلى أن يعود موسى، {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف:61] اتخذ طريقاً ونفقاً ونافذةً في داخل الماء.(12/3)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا)
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62].
فلما جاوزا: أي: تجاوزا المكان الذي نسيا فيه الحوت.
قوله تعالى: {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62] غضب موسى فهو من فطرته وطبعه غضوب، حيث تحاج مع آدم ودار بينهما كلام، وكان بينه وبين قومه وهارون كلام، وأخذ بلحيته يجره إليه، ورمى الألواح التي أتى بها عن موعد ربه بعد أربعين يوماً فكسرها، ولطم ملك الموت ففقأ عينه، وانتصر لإسرائيلي على خصمه في مصر فضرب قبطياً فقتله، قال تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15] بضربة واحدة بيده، فكان قوياً، ولا تنسوا قصته مع بنتي شعيب عندما جاء إلى البئر ورفع بمفرده صخرة يعجز عنها عشرون رجلاً؛ ولذلك قالت أحداهما لأبيها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26].(12/4)
تفسير سورة الكهف [62 - 70]
في رحلة سيدنا موسى عليه السلام لطلب العلم كان الله تعالى قد جعل له علامة يعرف بها أين يلقى سيدنا الخضر عليه السلام لكنه تجاوز ذلك، فلما تذكر عاد يقص الأثر حتى وجده وطلب منه أن يعلمه مما علمه الله.(13/1)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)
قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62].
لا نزال مع موسى نبي الله وكليمه، ومع الخضر نبي الله الصالح، ومع فتى موسى يوشع بن نون.
لقد أمر الله رسوله موسى أن يأتي الخضر ليتعلم منه، ويعلم بذلك أن في الأرض من هو أعلم منه، ولو أنه من أولي العزم من الرسل.
ونحن مع موسى وقد صحب معه فتاه النبي يوشع بن نون وقال له: {لا أَبْرَحُ} [الكهف:60] أي: لا أزال أمشي وأسافر وأقطع الفيافي والبراري والقفار إلى أن أصل إلى مجمع البحرين كما قال لي ربي، وأجتمع بعبده الصالح الذي عنده من العلم ما ليس عندي، فإما أن أصل وإما أن أبقى ماشياً مسافراً ولو أحقاباً وأزماناً ودهوراً.
(فلما جاوزا) أي: جاوزا بالمشي وبالانتقال وبالسير إذا بالغلام يوشع يفر منه الحوت حين مس ماء الحياة، ويقفز إلى داخل البحر حيث يصبح سرباً وطاقاً وممراً يدخل به البحر.
(فلما جاوزا) أي: فلما تجاوز موسى وغلامه يوشع مجمع البحرين وهو المكان الذي تواعد فيه مع ربه ليلقى فيه الخضر، والعلامة الحوت الذي كان طبيخاً مملحاً، يعود للحياة فيفر من بين يدي غلام موسى ويجعل لنفسه سرباً ونفقاً داخل البحر، ويوشع نسي الحوت ولم يقل ذلك لموسى بن عمران، وموسى لم يشعر بالجوع حتى جاوز مجمع البحرين، أي: حتى جاوز طنجة وأفريقيا، ولعله دخل في الأرض التي سميت بعد ذلك الأندلس والتي فتحها المسلمون أيام الوليد بن عبد الملك.
وبعد أن جاوز موسى ويوشع مجمع البحرين شعر موسى بالجوع فقال لفتاه ولغلامه: (آتنا غداءنا) الغداء: هو الطعام غدوة، والعشاء الطعام عشية، وقوله: (آتنا غداءنا) معناه أن ذلك قد كان في وقت البكور.
وقال مع ذلك: (لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)، أي: لقينا في هذا السفر إلى عبد الله الصالح الخضر تعباً ومشقة، وقد كانت المسافة طويلة جداً من سيناء إلى المغرب، وقد كان موسى مع أتباعه بني إسرائيل في التيه، ولم يصل إلى القدس، وإنما وصل كما قلنا إلى أريحا حيث مات فيها، كما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه في ليلة الإسراء رأى موسى يصلي عند الكثيب الأحمر في قبره في أريحا، وقال: (لو كنت هناك لأريتكم مكانه).
فذهب من هناك إلى مجمع البحرين: البحر الأبيض المتوسط، والبحر المحيط، قال هذا محمد بن كعب القرظي، وقال هذا الصحابي الجليل المقرئ العالم أبي بن كعب، وسيأتي معنا بعد ذلك اسم القرية التي دخلوها واستطعموا أهلها فأبوا أن يضيفوهما.
قال أبو هريرة عن هذه القرية: إنها بلدة في الأندلس.
إذاً: ثلاثة من كبار القوم صحابيان جليلان وتابعي مفسر، كلهم قالوا: إن المكان الذي كان عند مجمع البحرين هو في أرض أفريقيا في شمالها الفاصل بين قارة أفريقيا وقارة أوروبا.(13/2)
تفسير قوله تعالى: (قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت)
قال الله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف:63].
يقول يوشع: يا مولاي يا رسول الله أرأيت؟ أي: هل فكرت ونظرت؟ وهل خطر لك ببال أننا عندما وصلنا الصخرة فر الحوت عندما أصيب بماء هناك من عين تسمى عين الحياة، وهذه العين هي التي سبق للخضر أن شرب منها، وهي في أقصى الدنيا، وذلك عندما كان على مقدمة ذي القرنين، ويأتي هذا في القصة التالية، ومن شرب من هذا الماء عاش آلاف السنين، كما حصل للخضر وحصل أيضاً لإلياس، وكما عادت الحياة في هذا الحوت بسبب هذا الماء.
وقوله: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف:63] أي: أخطر لك ببال أننا عندما استرحنا عند الصخرة إذا بالحوت يقفز من المكتل بعد أن أصابه ماء من عين أخذت أتوضأ منها، وإذا به يقفز ويدخل البحر، ويتخذ سرباً وطريقاً يفر الماء منه، فيصبح طريقاً لا ماء فيه، يصبح كأنه الممر في الأرض داخل البحر.
ثم قال يوشع لموسى: ونسيت أن أخبرك بأن الحوت دخل البحر واتخذ سرباً ونفقاً وممراً فيه، وما أنساني أن أقول لك ذلك إلا الشيطان.
وهذا من أدب المسلم فضلاً عن أدب النبوة، أن ينسب الخير لله والشر لغيره، على أن الله جل جلاله خالق الخير وخالق الشر، وقد قدر الكل في الأزل.
وإذا بموسى لم يغضب على فتاه، بل قال: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف:64] أي: كان هذا هو العلامة بينه وبين ربه، أن يفر الحوت من المكتل، وأن يتخذ سرباً ونفقاً في البحر، يكون سرباً له وعجباً لنا.
وقوله: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64] وإذا بموسى وقد تجاوز مجمع البحرين عاد قصصاً متخذاً الآثار والعلامات فرجع من حيث أتى.
وقوله: (قصصاً) القصاص هو الذي يتبع آثار السارق وآثار المطلوب وآثار الفار، وللعرب في هذا علم وخبرة قليل نظيرها عند غيرهم، كانوا ولا يزالون كذلك.
فارتد موسى ومعه مولاه على آثارهما، ورجعا من نفس الطريق الذي سافرا عليه، وتتبعا أثر ما مشيا عليه من موطأ الأقدام والنعال.(13/3)
تفسير قوله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا)
قال الله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65].
وجد موسى طلبته ووجد بغيته وهو الخضر، بعد أن تعب ولقي نصباً، وبعد أن سافر أشهراً طوالاً، ومن لذة الوجدان والحصول على المقصود وجد نشاطاً في ذلك، وأخذ يعطي معه ويأخذ.
قوله: (فوجدا) أي: وجد موسى ويوشع، وسينقطع ذكر يوشع من هذه الفقرة في هذه الآية.
{عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65] لم يسم الله هذا العبد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري ومسلم وبقية الكتب الستة سماه الخضر، وقد قيل: هو ابن آدم مباشرة، وقيل: ابن نوح، وقيل: من بني إسرائيل، وقيل: كان ملكاً، وقيل: كان حاكماً، وقيل غير ذلك.
وكما قلت: من هدي القرآن الكريم عندما يأتي بالقصة لا يراد منها ما يراد من القصص عادة، وإنما يراد منها ما كان عبرةً وعظةً ودرساً للسامع، أما الأسماء والأزمان والقبائل فلا حاجة لذكرها؛ لأنه لا صلة بينها وبين العبرة والعظة والحكمة.
إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام سمى هذا العبد فقال: هو الخضر، وكما مضى ذلك مبيناً، يقول الله عنه: (آتيناه رحمة من عندنا) أي: أنعمنا عليه بها، ما هي هذه النعمة؟ هي الولاية أو النبوءة؛ لما سيظهر معنا في آخر القصة عندما يقول: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] وهذا يدل دلالةً واضحةً ظاهرة بأنه كان نبياً موحى إليه، وقد قيل في حديث فيه ضعف: كان رسولاً كذلك، ولكن الحقيقة والصحيح وما يدل عليه ظاهر الآي أنه كان نبياً موحى إليه.
وما عمله من قتل غلام لم يبلغ الحنث بعد، ومن خرق سفينة كان يركبها مساكين، فهذا العمل ليس بعمل ولي، ولو فعله الولي ولم يكن موحى إليه، لكان ذلك نتيجة الإلهام كما قال من قال عنه ولي، والإلهام لا يصل لدرجة الوحي، ولو صنع هذا في الأمة المحمدية رجل ولو كان من الصحابة، وقال: قتلت الطفل الفلاني؛ لأنني ألهمت أنه سيكون عاقاً لوالديه، فأردت أن أريحهما من طغيانه وكفره، لقلنا: إن الغيب لا يعلمه إلا الله، والوحي قد انقطع بعد محمد صلى الله عليه وسلم، والإلهام لا يجوز أن يكون معه هذا؛ لأن الإلهام يخطئ ويصيب، وليس كذلك الوحي.
وقوله: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الكهف:65] أي: آتاه النبوة والحكمة والوحي.
وقوله: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65] أي: علمه العلم اللدني الذي لم يتعلمه من شيخ أو من كتاب، ولكنه علم من الله علمه إياه بطريق الوحي، فكان بذلك الخضر أحد أنبياء الله الذين ذكروا في القرآن من غير أن يسموا، ولكن سماه من أنزل عليه القرآن ليبينه للناس صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يكون قد أشاد الله جل جلاله بعبده هذا الذي لقيه موسى، وأنه كان من العلماء النبيين، وقد أكرمه الله بعلم من عنده ولم يكرم به سواه، بل لم يكرم موسى بمثل ذلك.
وإذا بموسى يقف على الخضر ويجده ممتداً على فروة خضراء من الحشيش، في ثوب جعل طرفه كالمخدة عند رأسه، والطرف الثاني غطى به رجليه، فقال له: السلام عليك، فقال: وعليك السلام، ما بأرضك السلام؟ من أين لك بالسلام؟ وكان المكان الذي فيه الخضر ليس فيه إلا كافر ومشرك لا يعلم سلاماً ولا يعلم تحيةً بسلام؛ ولذلك عجب الخضر، فأجابه عن السلام وقال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.
هكذا في الحديث الصحيح.(13/4)
تفسير قوله تعالى: (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً)
قال الله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66].
تكلم موسى مع الخضر على جلالة مقامه ورسالته العظيمة، وتأدب معه أدب الطلاب المهذبين، فقال له: هل توافق على أن أصحبك لتعلمني مما علمك الله؟ {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] أي: على أن تعلمني مما علمك الله، رشاداً وهدايةً، مما كنت لم أعلمه قبل، وذلك عندما سئلت من أعلم منك؟ فقلت: لا أحد.
فموسى عنده علم اليقين، والخضر عنده عين اليقين، فاشتاقت نفس موسى على أن يقف على عين اليقين، فقال له: بكل أدب واحترام: (هل أتبعك) أي: أتوافق أن أكون تابعاً لك، طالباً لعلمك، مستفيداً مما علمك الله، بما يرشدني ويهديني ويزيل عن نفسي ما كان بها، عندما لم أستثن العلم لأحد سواي؟ فقال له الخضر: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:67].
ثم إن الخضر أخذ يدل على موسى بعلمه، وإذا بموسى يلح على الخضر، فأخذ الخضر يقول له من أول مرة: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:67] أي: ليس في قدرتك أن تصبر على علمي.
ومعنى ذلك: سوف تستنكر وتعترض عليه، ثم اعتذر له فقال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف:68] أي: أنت معذور، كيف يمكن أن تصبر على شيء لم تحط بحقيقته، ولم تعرف ظواهره ودواخله، وستراه لأول مرة في ظاهره منكراً من الفعل والقول، فلا يكاد يقبله عاقل فضلاً عن نبي ورسول، فأنا أعذرك بأنك ستستنكر وسوف لا تصبر، فكيف الآن تطلب مني أن أعلمك ما لا يمكن أن تعلمه.
وفي الصحيح أنه قال له: في التوراة التي أنزلت عليك كفاية من العلم، وإن في قومك بني إسرائيل لما يشغلك ويكفيك عني وعما عندي من علم، ولكن موسى ألح على الخضر وقال له: بذاك أمرني ربي، فاضطر الخضر للاستجابة له، بعد أن أنذره وحذره وقال: ما أراك ستصبر وما أراك ستتحمل علمي الذي لم تحط بحقيقته ولا بظواهره وبواطنه.(13/5)
تفسير قوله تعالى: (قال ستجدني إن شاء الله صابراً)
قال الله تعالى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69] استثنى من البداية؛ لأن موسى علم من نفسه أنه لا يكاد يصبر على ما لا يراه علماً، وما لم يؤمن به حقيقةً، فابتدأ بالاستثناء قبل المستثنى منه، قال: (ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً) وتعهد له بشيء أيضاً سوف لا يستطيعه ولا ينفذه ولا يقوم بحقيقته، فوعده وعدين وعلق بالمشيئة بأنه يصبر وبأنه سوف لا يعصيه، فيوافقه في كل ما يأمره به، وإذا بـ الخضر يشترط عليه ويوافقه موسى وهو لا يزال متردداً.
فقال الخضر لموسى: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي} [الكهف:70] لم يقل له: (اتبعني)، والمعنى: إن أنت أبيت إلا هذا وإن أنت تحملت الصبر كما تقول، وإن أنت أطعتني كما استثنيت، فأنا أشترط عليك أن تكون تابعاً لي لتسمع من علمي ولتستفيد من حقائق ما عندي.
{فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:70] أي: لا تكن فضولياً، سأفعل أمامك ما أفعله، دعني أتكلم، دعني أعمل، ولا تسألني لم هذا؟ (حتى أحدث لك منه ذكراً)، وعندما أنتهي سأقص عليك بواطن وأسرار جميع ما قلت وجميع ما فعلت وصنعت، ولكن لا تستعجل من أول قضية تسألني وتعارضني وتستنكر عملي.
قال الخضر: (إن اتبعتني فلا تسألني عن شيء) أي: أيُّ شيء، وكلمة شيء نكرة تدل على أن الخضر اشترط على موسى اشتراط العالم على الطالب: (لا تسألني) أي: لا تعترض قولي إلى أن أنتهي وأحدث لك منه القول والبيان والشرح الذي يذكرك ويوضح لك عملي، ويكشف لك الحقائق والبواطن.
فوافق موسى على هذا الشرط، وقبل الوعد بعمل شرط الخضر، وأخذا يقطعان الفيافي والبراري والقفار والبحر.
ومن هنا انقطع ذكر يوشع وسيبقى الكلام عن موسى فقط والخضر، وليس معنى ذلك أن يوشع ذهب، ولكنه كتابع لا حاجة لذكره، وذكر عندما احتيج للحوت والحفاظ عليه، وللجواب على النصب والسفر والتعب، أما وقد وجد موسى بغيته وطلبته، فإن يوشع لا وظيفة له إلا أن يكون تحت الطلب عند الاحتياط.(13/6)
تفسير سورة الكهف [71 - 82]
اشترط سيدنا الخضر على سيدنا موسى عليهما السلام شروطاً يلتزم بها إذا رافقه، ثم انطلق معه مسافرين حتى ركبا البحر، ثم بدأ الخضر عليه السلام يعمل حسب ما يأمره الله، فكان موسى لا يصبر على السكوت عما ظاهره المنكر حتى فارقه الخضر وذكر له تأويل ما لم يستطع عليه صبراً.(14/1)
تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها)
قال الله تعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71].
أي: قام الخضر وقد كان نائماً وقال لموسى: الحقني واتبعني، فأخذا يبحثان عن سفينة ليركباها، وموسى يمتثل، بعد أن اجتمعا في طنجة عند صخرة كبيرة، وهي ما تسمى اليوم بجبل طارق، وفي المقابل الآخر الجزيرة الخضراء وملقا من أرض الأندلس، وسيقول لنا أبو هريرة قريباً بأن القرية التي لم تضيفهما كانت في الأندلس.
قوله: {فَانطَلَقَا} [الكهف:71] أي: انطلقا ماشيين مسافرين متنقلين، وأخذا جهة الشاطئ يبحثان عن سفينة، فوجدا سفينة فركباها، {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} [الكهف:71] أي: قام الخضر وجاء إلى خشبة في عمقها ومعه قدوم فكسرها.
وهذا العمل يدل على أنه يريد إغراق السفينة بمن فيها وموسى معهم، وإذا بموسى ينسى شرطه، وينسى وعده بأنه سيصبر، فصاح مستنكراً فقال له: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف:71] أي: كأنه لم يعد صالحاً ولا نبياً، وإنما أصبح كمجرم يريد قتل هؤلاء الركاب في السفينة جميعاً، فقال له: أتريد من خرقك لها أن تغرقها وتغرق أهلها؟ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71] أي: شيئاً عظيماً منكراً.
فهو لم يكتف بأن يستفسر عن هذا الفعل، بل استنكره واتهمه بأنه يريد إغراق الركاب، ثم اتهمه بأنه أتى منكراً من العمل، قال موسى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف:71] وإن كان المفسرون قد قالوا إن هذه اللام ليست لام التعليل، وإنما هي لام العاقبة، ولكن ما أظن موسى يقصد العاقبة؛ لأن موسى بحدته اتهمه بأنه يريد إغراق هؤلاء الناس، ولولا أن الله أمره لما تحمل هذا العذاب الشديد في اتباعه.
وإذا بـ الخضر كان أهدأ منه عصباً وكان عنده رزانة المعلم، وكان موسى عليه الصلاة والسلام فيه حدة الطالب، فقال له الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:72] أي: ألم أقل لك من قبل عندما طلبت أن تكون تابعاً لي متعلماً من علمي، مسترشداً من رشادي، ألم أقل لك: إنك لن تستطيع معي صبراً؟ ولم يقل: إنني اشترطت عليك ألا تسأل عن شيء حتى أبينه لك، مع أنه اشترط عليه ألا يسأله عن شيء حتى يحدث من نفسه ذكر البيان.
وإذا بموسى يقول له: {لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:73]، فأخذ يعتذر ويقول: إنني نسيت فلا تحملني ما لا أطيق، ولا تصعب علي عشرتك وصحبتك وطلبي للعلم منك، فقبل الخضر الغلطة الأولى وسكت، فتابعا الرحلة ونزلا من السفينة.
وقبل ذلك لم يذكر الله لنا موقف الركاب عندما رأوا الخضر يأتي إلى السفينة فيخرقها ويعيبها، ويغرقها، وكان الشأن أن يثوروا في وجهه، وأن يرموه في البحر ويقوموا بإصلاح السفينة، ولكن الذي حدث أنه خرق السفينة بأن أزال منها ركناً من الأركان من عمقها، وكان معداً أخشاباً، وبمجرد ما نزع هذا وضع هذا، لكن كان التركيب يظهر السفينة معيبة غير صالحة؛ لكي لا يقع طمع الطامعين في أخذها كما سيأتي بعد.
ولكن موسى بادر وأخذ ثوبه وأراد أن يسد هذا الثقب والخرق بثوبه، وماذا عسى أن يصنع الثوب، قد يأتي حوت ويسحبه إليه يظنه لحماً أو طعاماً، ولكن النتيجة أن السفينة لم تغرق، والركاب لم يهلكوا، وموسى لم يحصل له شيء.(14/2)
تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله)
قال الله تعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74] أي: أخذا طريقهما منطلقين مشياً ورحلةً وسفراً، {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ} [الكهف:74]، فكانت الفعلة الثانية أفظع من الأولى.
فقد رأى الخضر غلماناً يلعبون فجاء إلى أجملهم وأذكاهم وأوضئهم، وكان دون البلوغ بين العشر والتسع سنوات فقتله، وإذا بموسى عندما رأى هذا المنظر نسي مرة أخرى وصاح: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74] ما هذا يا خضر؟ لقد أتيت إلى طفل صغير، (نفس زكية) أي: لم يعص الله بعد فقتلته بغير نفس، ولم يسبق أن قتل نفساً أو أجرم جرماً أو أذنب ذنباً.
(لقد جئت شيئاً نكراً) أي: جئت شيئاً مستنكراً مستفظعاً لا يقبله إنسان.(14/3)
تفسير قوله تعالى: (قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً)
قال الله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:75].
هذه أول آية من الجزء السادس عشر من كتاب الله، قال الخضر مرة أخرى لموسى نبي الله: ألم أقل لك يا موسى إنك لن تستطيع معي صبراً، أي: أنت لا تطيقه ولا تتحمله، وإذا بموسى يكتم على نفسه هذه فيقول له: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف:76].
أي: إن أنا عدت مرة ثانية وسألتك أو استنكرت عليك فعل شيء فلا تصاحبني، (قد بلغت من لدني عذراً)؛ لأنك صبرت على المرة الأولى والمرة الثانية وهذه المرة الثالثة، فيكون عذرك معك.(14/4)
تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها)
قال الله تعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77].
لما انطلق الخضر ومعه موسى وصلا إلى هذه القرية جائعين لا زاد معهما، وإذا بـ الخضر وموسى يطلبان من أهل هذه القرية الغداء أو العشاء، فطلبا منهم الضيافة فامتنعوا وكانوا لئاماً، {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف:77] أبوا ضيافتهما وإكرامهما، وهما نبيان مكرمان: نبي الله موسى وهو من أولي العزم، ونبي الله العبد الصالح الخضر.
فقام الخضر إلى جدار يريد أن ينقض، أي: يوشك أن ينهار، وإذا بـ الخضر يبني الجدار على الحائط بناءً جديداً.
قال أبو هريرة: هذه القرية كانت مدينة في الأندلس، وهي خلف الضفة الثانية الملاصقة للصخرة التي سميت بعد ذلك بجبل طارق، حيث دخل منها طارق بن زياد المغربي البربري فاتحاً قبل مولاه موسى بن نصير للأندلس.
قالوا: والذي أطعم الخضر وموسى وأضافهما امرأة مغربية من البربر، فدعا موسى والخضر على أهل هذه القرية، ودعوا لهذه المرأة بالبركة وفيضان البركة؛ لما تحلت به من الكرم والجود.
وذكر في التاريخ أن الأندلس اشتهرت قديماً وحديثاً، سواء في عصر الإسلام وقد عاشت ثمانية قرون، أو بعد ذلك وهي عائشة فيه منذ خمسمائة عام في الكفر والردة والنصرانية، فقد اشتهر الأندلسي واليوم الأسبان والبرتغال باللؤم والجوع والبخل، وهذا مما يؤكد أن المدينة كانت أندلسية.
ودعا الخضر وموسى للمرأة البربرية المغربية، وقد اشتهر المغرب قديماً وحديثاً وإلى الآن بالكرم والجود ومد الموائد، الفقير منهم والغني سواء.
قوله: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف:77] أي: أن ينهار ويسقط {فَأَقَامَهُ} [الكهف:77] أي: أتم بناءه، وإذا بموسى مرة ثالثة ينزعج ويقول: (لو شئت لاتخذت عليه أجراً)، يعني: هؤلاء اللئام الذين منعونا الضيافة ومنعونا الطعام والغداء والعشاء، فتأتي أنت فتبني لهم هذا الحائط ويكلفك وقتاً وزمناً، وتسعى في حجارته وفي طينه وفي ملاطه، وكل هذا دون أجر، وهم لا يستحقون ذلك مع لؤمهم وبخلهم؟! وإذا بـ الخضر يحكم على موسى تنفيذاً لحكمه على نفسه: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78] أي: الآن سأخبرك بأسرار وبواطن وتأويل وشرح وبيان هذه القضايا الثلاث التي لم تستطع صبراً على واحدة منها.
قال النبي عليه الصلاة والسلام هنا: (رحمنا الله وموسى، لو صبر على الخضر لأعطانا من علومه ومن عجائبه) ولكن موسى لم يصبر، وكان يمكن أن يصبر، لكن هي الحكمة الإلهية في المغزى، وكان يمكن أن تكون واحدة، لكن الله ثناها وثلثها لتكون الحجة والحكمة البالغة.
ومغزى القصة من الأصل: أن موسى عندما سئل: من أعلم منك؟ قال: لا أعلم، فقال الله له: بلى عبدنا الخضر، وعاتبه الله ولامه لِمَ لم يسند الأمر إليه ويقول: الله أعلم؟ فالله تعالى أراد أن يؤدبه تأديب الرب الخالق للمخلوق، والله يصنع ما يشاء مع عباده كيف شاء، فيأمر الله تعالى موسى رسول الله أن يسافر من المشرق إلى المغرب شهوراً وشهوراً، ويكابد تعباً ونصباً وجوعاً وعطشاً، ويكون تابعاً طالباً متتلمذاً متأدباً مع الخضر أدب الطلاب مع الأساتذة والمدرسين.
ومع ذلك لم يصبر لا على واحدة ولا اثنتين ولا ثلاث، ولكن عندما أخذ الخضر يؤول أعماله ويفسرها ويذكر باطنها وحقائقها، قبل موسى منه ذلك؛ لأن الله أمره بذلك، وهو الذي أشاد به الخضر أن الله جل جلاله آتاه علماً من لدنه، ولا يسع العبد إلا أن يمتثل وينفذ أمر الله.
قال: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78] أي: سأخبرك حقيقة الأمور الثلاثة التي استنكرتها واستغربتها.(14/5)
تفسير قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر)
قال الله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79].
كان هناك ملك طاغية جبار متسلط ظالم، يتسلط على الناس ويصادر أموالهم، كما يأخذ الظلمة الأموال الآن باسم التأمين؛ فالكفر ليس بجديد، فأخذ الأموال من الناس من قبل الحكام والكبراء والملوك كان قديماً ولا يزال إلى وقتنا، فالشيوعية التي تصادر أموال الناس باسم التأمين، والاشتراكية التي تصادر أموال الناس باسم التأمين، والتي تذل العامل والفقير والفلاح والمسكين باسم أنها تريد خدمته، وهي تكذب عليه، هذا نفس الذي أراد الخضر أن يزيله، ويقطع الطريق على هذا الظالم المتسلط، وقيل اسمه هدد بن بدد.
قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف:79] كان يملكها عشرة من الإخوة، خمسة كانوا مقعدين مرضى لا يستطيعون العمل، والخمسة الآخرون كانوا يعملون في السفينة فيستفيدون ويستفيد معهم إخوتهم المرضى، والخضر علم بعلم الله أن هذا البحر الذي فيه هذه السفينة قد تقع في يد ملك طاغية جبار يتعرض للسفن، وكان كلما رأى سفينة سليمة جديدة غصبها من أهلها.
والخضر نبي الله، والأنبياء يكونون رحمة للعباد ورحمة للمؤمنين، فأراد أن ينقذ السفينة من هذا الملك الطاغية، وينقذ هؤلاء المساكين بإنقاذ السفينة، فجاء إلى السفينة فخرقها وعابها كما قال هو: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] فهي عندما تكون معيبة وفيها خرق وثقب، فيراها هذا الملك الغاصب اللص قاطع الطريق، فسيزهد فيها ويتركها؛ لأنها لا تصلح.
وقوله: (فأردت أن أعيبها وكان وراءهم) أي: وراءهم في البحر، (ملك يأخذ كل سفينة غصباً) أي: يأخذها غصباً وقهراً بغير حق، فبعمله هذا أنقذ السفينة وبقيت لهؤلاء المساكين.
وهنا نفهم أن وجود سفينة لأفراد لا يزيل عنهم صفة المسكنة، فالمسكين قد يجد طعاماً وشراباً وسكناً، ولكن ليس عنده ما يكفيه في سنته أو في شهره، وفي الشرع أن المسكين يأخذ من الزكاة ما يكتفي به سنة إن شاء.(14/6)
تفسير قوله تعالى: (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين)
قال الله تعالى: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80 - 81].
أي: علمه الله وأوحى إليه أن هذا الولد الوضيء الجميل الذكي ذا الملامح الأخاذة سيكون عند كبره وبلوغه عاقاً كافراً طاغيةً جباراً، وسيصيب أبويه المؤمنين الصالحين منه كل بلاء وكل ضرر وأذى.
وقد يغلب حبهما وعطفهما له بأن يجرهما إلى الكفر، فرحمة بهما واستراحة من هذا الكافر سلط الله الخضر لقتله وقطع دابره قبل أن يظهر كفره وطغيانه وفسوقه وعصيانه وعقوقه.
ثم قال: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} [الكهف:81] أي: يبدل الله هذين الأبوين عن هذا الكافر الذي قتلته وأرحتهما منه خيراً منه زكاةً وأقرب منه إيماناً وصلاحاً ونماءً.
وقوله: (وأقرب رحماً) أي: أقرب لصلة الأرحام وللطاعة والبر، وأبعد عن العقوق والكفر والطغيان.
قالوا: وقد عوض الله هذين المؤمنين بنتاً جاريةً فكبرت وبلغت المحيض وتزوجت صالحاً، وأخرج الله من صلبها جماعةً من الأنبياء، عصراً بعد عصر وزماناً بعد زمان.
وقال علماؤنا: ومن هنا يجعل الإنسان إرادته في إرادة الله، وهي معنى قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، فلا شك أن الأبوين عندما قتل ولدهما صاحا وبكيا وتألما وتوجعا، ولكن كان قتله خيراً لهما.
ولذلك عندما يبتلى الإنسان -نسأل الله السلامة والعافية لنا ولكم جميعاً- ينبغي أن يعلم أن الرضا بالقضاء والقدر أصل الإيمان، ومن تمام اليقين والتوحيد، فإذا وقع ما يكرهه الإنسان فليعلم أن الله تعالى ما سلبك إلا ليعطيك، وما أخذ منك إلا ليزيدك، فيتقبل الإنسان ذلك بالرضا وبالقناعة.(14/7)
تفسير قوله تعالى: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة)
قال الله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ} [الكهف:82].
قوله: (أراد ربك) تعم الثالثة والثانية والأولى، أي: فلست أنا المريد، ولست إلا آلة، ولست إلا مأموراً.
قوله: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} [الكهف:82] هذان اليتيمان لم يبخلا، ولم يكونا يملكان من شيء؛ لأن أموالهما كانت تحت يد الوصي المشرف على أموالهما.
{وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] كان أبوهما مؤمناً تقياً، ومن هنا نعلم أن الأبوة الصالحة ترجع بركتها على الأولاد والأسباط والأحفاد والذرية إلى قرون.
قالوا: بأن هذا الأب كان السابع، وهذا ورد ولا أستطيع أن أقطع به، ولم يكن في القرآن مذكوراً، لكن الجد يسمى أباً إلى السابع والسبعين، ونحن نقول: أبونا آدم وهو الجد الأعلى، فيمكن أن يكون الأب السابع، ويمكن أن يكون الأب المباشر، ولكن الذي قال: إنه الأب السابع مجموعة من الصحابة والتابعين، وهذا لا يغير شيئاً من سياق القرآن ومن نظم الآيات، فإذا كانت بركة الأبوة الصالحة أفادت الذرية السابعة فما بالك بالأبوة الأولى والثانية والثالثة.
ومعنى ذلك: أن الله يكرم الصالح في أولاده وفي أحفاده وفي أسباطه، فكيف إذا كان هؤلاء الأولاد والأسباط والأحفاد أبناء لمحمد صلى الله عليه وسلم؟! ولا ينكر هذا إلا غشوم أو جحود أو في نفسه شيء، فإذا كانت الأبوة الصالحة المطلقة أفادت البطن السابع، فكيف بالأبوة النبوية الرسولية الخاتمة، الأبوة التي هي سيدة الأبوات منذ كانت الدنيا وإلى يوم القيامة.
ولذلك في الحديث المتواتر الذي نص على تواتره جماعة من العلماء كـ ابن تيمية وابن القيم والمزي وابن كثير والذهبي وطوائف من الحفاظ والأئمة أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وعترتي آل بيتي، لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) أي: لن تفترق السلالة عن القرآن حتى يردا على النبي صلى الله عليه وسلم الحوض، (فانظروا كيف تخلفوني فيهما)، وهو في أمهات كتب السنة.
وقوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} [الكهف:82] هذا الكنز قال الأكثر: كان مالاً وعلماً، قالوا: كان لوحاً من ذهب مصمد، أي: غير مجوف، ومكتوب فيه حكم من الواجهتين، في إحدى الواجهتين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك وما يشبه هذا من التسبيح والتحميد والتمجيد والتعظيم.
وكان في الوجه الثاني حكم أخرى في باب التوحيد.
لا شك أن أعظم الكنوز كنوز العلم، ثم كان مالاً؛ هذه القطعة من الذهب تسوى الكثير، ولرحمة الله تعالى بهذه الأبوة الصالحة رحم أسباطها وأحفادها، فأتى الخضر مع نبي الله موسى ليشرفا على إخراج هذا الكنز الذي كان تحت هذا الجدار ولا يعلمه إلا الله، ولا يعلمه الغلامان الصغيران، لكن عندما وصل الخضر أصبحا مراهقين.
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ} [الكهف:82] أي: تحت الجدار، {كَنزٌ لَهُمَا} [الكهف:82] جاء الخضر وجدد بناء الجدار، وأخذ الكنز ولم يره موسى، لأنه لو رآه موسى لما انتقد بما انتقد ولما عارض بما عارض، ولما قال له: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف:77].
لكن كان تحته كنز فأخذه الخضر وأعطاهما إياه.
وقوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82] أي: أراد الله ولست أنا الذي أردت، فأنا لا علم لي إنما الله الذي علمني وهو الذي أمرني، وأراد ربك الرحمة بهذين المسكينين، فأمرني أن أصنع ما صنعت لهما؛ رحمة بهما؛ ليأخذا حقوقهما رحمةً من ربك.
وكان هذان الطفلان قد بلغا أشدهما في الوقت الذي جاء الخضر فيه إلى هذا الجدار فأقامه، فهو هدمه ثم أعاد بناءه إلى أن صار قائماً مستقيماً وأخذ الكنز، {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:82] أي: يبلغا سن البلوغ، وأن يكونا عاقلين مدركين مع البلوغ.
وأن يحسنا التصرف في مالهما.
قال الخضر: (رحمة من ربك) أي: لم يكن ذلك إلا رحمة أرادها الله.
ثم قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] أي: ما فعلت ذلك من تلقاء نفسي.
ثم قال: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82]، أي: هذا تأويل هذه القضايا الثلاث التي لم تستطع يا موسى أن تصبر عليها.(14/8)
تفسير سورة الكهف [83 - 88]
ومن الأخبار التي ذكرها الله في سورة الكهف قصة الرجل الصالح ذي القرنين، الذي جاب شرق الأرض وغربها، ومكن الله له فيها بتهيئة الأسباب وإخضاع الرقاب لملكه وسلطانه.(15/1)
تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين)
قال الله جل جلاله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:83].
عرفنا أن سبب نزول سورة الكهف أن فئة من كفار مكة ذهبوا إلى يهود المدينة يسألونهم ليمتحنوا النبي صلى الله عليه وسلم هل هو نبي حقاً أو أنه متقول؟ فقال له هؤلاء الكذبة الفجرة من يهود المدينة وهم لا يريدون امتحاناً ولا اختباراً وإنما يريدون التشهير والتعجيز: سلوا هذا الذي قال إنه نبي من بينكم: ما قصة الجماعة الذين خرجوا يوماً في الدهر فغابوا ولم يعودوا؟ ومن هو الرجل الذي طاف المشارق والمغارب؟ ومتى كان؟ واسألوه عن الروح ما هي؟ فجاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام يسألونه فقال لهم: (غداً أجيبكم)، فمضى الغد وبعد الغد إلى أن مكث عشرة أيام ولم يأته الوحي، وفي اليوم الخامس عشر جاءه جبريل يعاتبه عن ربه أنه لم يستثن ويعلق الجواب في الغد بمشيئة الله، ومع ذلك أجابه فأنزل سورة الكهف، وأنزل قبلها الجواب عن الروح وكان جواباً سلبياً: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، فالله استأثر بعلمها ولم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً.
وأما قصة الجماعة فهي قصة فتية أهل الكهف التي مضت مفصلة، واليوم سنذكر قصة هذا الذي طوف الأرض مشارقها ومغاربها، فقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:83] أي: يا محمد! يسألك قومك عن ذي القرنين {قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:83] أي: سأجيبكم وأقص عليكم شيئاً من قصة هذا الرجل، وأذكر لكم خبراً يعرف به وماذا صنع، وهل كان مؤمناً أم كافراً؟ فقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ} [الكهف:83] أي: أقص عليكم يا معاشر العرب! ويا معاشر المسلمين! ممن عاصروه ومن لم يعاصروه، أي: سأقص عليكم خبراً من أخباره ونبذة من حياته، وأخبرنا عنه بياناً وتفسيراً نبينا صلوات الله وسلامه عليه كما في في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من الكتب الستة عن طائفة من الصحابة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا عن ذي القرنين وأنه كان عبداً بشراً صالحاً)، ومع ذلك اختلف الناس فيه: أكان ملكاً؟ ف
الجواب
ليس هذا الخبر إلا من الإسرائيليات، وكثيراً ما تمتزج الإسرائيليات بقصص القرآن عند تفسيرها وبيانها، ونجد فيها الكثير من الخرافات والأكاذيب مروية عن جماعة أسلموا وأدخلوا في هذه القصص ما ليس من القرآن ولا من صحيح السنة، وكان على رأس هؤلاء كعب الأحبار.(15/2)
نبذة مختصرة عن كعب الأحبار
وكعب الأحبار أدرك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين عاماً ولم يأت مسلماً، ولم يبحث عن اللقاء به، وما جاء إلا بعد أن استقرت الأحوال بالإسلام عقيدةً وديناً ودولة أيام عمر، أي: لم يأت أيام أبي بكر، وكانت الفتن قائمة وارتد من ارتد ومنع الزكاة من منعها وادعى النبوة من ادعاها، وإذا بـ أبي بكر يؤدب الخارجين ويجبر المرتد على العودة للإسلام، ويقتل مسيلمة الكذاب ثم يجمع المسلمين جميعاً فجندهم وجعلهم جيوشاً موزعة إلى أرض الروم وأرض فارس، فلم يكن لـ كعب أن يأتي في مثل هذه الظروف؛ لأنه قد يفصل فيها رأسه عن جسده، وجاء أيام عمر وأخذ يظهر الكثير من علمه ومعرفته وينقل عن التوراة وعن أهل الكتاب أخباراً، والتوراة معروفة، والإنجيل بنسخه الأربع معروفة متداولة بين الناس قديماً وحديثاً، غيرت وبدلت في العصور الأولى، وعندما نزل القرآن كان قد انتهى تبديلها وتغييرها على الشكل الذي نراه.
وإذا بنا نجد أن الكثير مما يعزو كعب إلى التوراة ليس فيها، ومما يعزوه إلى الإنجيل ليس فيه، ووجدنا أنه قد حصل الشك عند استشهاد عمر وقتله أن ذلك كان نتيجة مؤامرة، وقد قيل: قد كانت تحت إدارة كعب الأحبار الذي كان من أصل يهودي وكان حبراً من أحبارهم، وقد سأله يوماً العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام: كيف يا كعب! في سنك ونضج عقلك لم تأت لرسول الله وهو حي فتكرم وتتشرف برؤيته والاجتماع به وتصبح ضمن أصحابه؟ ما الذي أخرك؟ فأجاب بما لا يقبل.
وقالت عائشة عنه يوماً: إنا لنبلو عنه الكذب، وقد أخذه عمر معه يوم فتح القدس وأبى بطارقة القدس أن يسلموا مفتاح المدينة إلا للخليفة الأعظم، فوجد عمر أنه لا مانع من حضوره بنفسه وجاء وعلم مكان الأقصى فمسحه ونظفه بردائه وتبعه جميع من معه من الصحابة والجند، وكان معه كعب فقال لـ كعب: أين ترى نصلى يا كعب؟! وكانت قد عرفت الصخرة فقال له كعب: نصلي خلف الصخرة ونجمع بين قبلة بني إسرائيل وقبلة المسلمين، وإذا بـ عمر يقول له: لقد ضاهيت اليهودية يا كعب! بل ندع الصخرة خلفنا ونستقبل الكعبة ما لنا ولصخرة اليهود، وقد سأله بذلك أيضاً معاوية بن أبي سفيان عندما كان خليفة على المسلمين بعد سنة أربعين هجرية واستشهاد علي كرم الله وجهه.
ويخبر الله عن ذي القرنين أنه أعطي من الأسباب والتمكين، فقال كعب: كان يصل بجنده وجيوشه ويربط خيوله في الثريا، وأين الثريا؟ وأين الأرض؟ فقال عمر عنه: إنا لنبلو عنه الكذب.
فكان عمر يتهمه بالكذب وبالاختلاق، وهكذا نجد الكثير ممن زعم الإسلام ممن كانوا من أصول كتابية وكان على رأسهم كعب ثم يأتي بعد ذلك ربيبه وابن زوجته نوف البكالي.
فـ ذو القرنين لم يكن ملكاً ولا نبياً، وإن كان ستأتي معنا آية يشير ظاهرها إلى أنه نبي، ولكن الجمهور والكثرة الكاثرة على أنه لم يكن نبياً ومن باب أولى لم يكن مَلَكاً، ولم يكن للمَلكِ أن يتصل بالبشر على هذه الطريقة فيحكموه ويطوف بين المشارق والمغارب وبين السدين، ولقد كان كما قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فيما رواه الضياء المقدسي في كتابه المختارة وهو من أصح الكتب، وقد صحح فيه أحاديث انفرد بتصحيحها، وسلم ذلك له من أئمة الحديث وحفاظه وعلمائه، قال عنه: لقد كان عبداً صالحاً ناصحاً لله فمكن له في الأرض.
إذاً: نحن نتكلم عن ذي القرنين الذي ملكه الله العالم من مشرق الشمس إلى مغربها وما بينهما، وأعطاه من كل ما يعطاه الملوك من الأسباب الموطدة لملكه والممكنة له في الحكم والسلطان والأمر والنهي والتصرف في رقاب هؤلاء البشر ملوكاً وأجناساً شعوباً وقبائل.
قال تعالى: {قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:83]، أي: قل يا محمد! طالما وقد سألتم فهذا هو الجواب، وسأتلو عليكم منه نبذة تعطي صورة عن حياته.
وأتى الله بقصته كعادة القرآن، أن الله يأتي بالقصص لأخذ العبرة والدرس منها، لا ليقص علينا قصصاً تكون للسمر وللسلوى والسهر، ولذلك قلما تذكر الأسماء والتاريخ والعشيرة والأقوام، والحكمة تؤخذ كاملة مما قصه الله علينا في كلامه عن ذي القرنين.(15/3)
تفسير قوله تعالى: (إنا مكنا له في الأرض)
قال تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84].
فـ ذو القرنين هو عبد من عباد الله مكن الله له في الأرض وأعطاه سلطاناً ونفوذاً وحكماً، وأعطاه ما يحكم به بين المشارق والمغارب، قوله: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) أي: كل الأرض، والألف واللام للاستغراق، فقد حكم ذو القرنين ما بين شروق الشمس إلى غروبها وما بين شمالها إلى جنوبها، وعاش ألفاً وستمائة عام كما قال المفسرون من الصحابة والتابعين وأئمة الحديث.
فقوله: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) أي: أعطيناه من الأسباب، قوله: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) أي: آتيناه من كل ما يحتاج إليه لملكه وحكمه وسلطانه، وأعطيناه من العلوم والوسائل التي يتنقل بها بين المشارق والمغارب من جند ووزراء وأعوان ونصراء وآلات سفر وتنقل، ومن كل ما يحتاج إليه من قهر أعدائه والمخالفين له والمعارضين لسلطانه، وقد روي -ولا أستبعده- أنه سخر له السحاب كما سخر السحاب لسليمان عليه السلام، ومن المعلوم أن سليمان سأل الله أن يهبه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، لكن ذا القرنين كان قبل سليمان، فقد عاصر ذو القرنين إبراهيم الخليل عليه سلام الله وطاف معه بالكعبة، وكان من وزرائه الخضر.
فلقد مكن لـ ذي القرنين تمكيناً وكان أيام إبراهيم وسخر له السحاب فكان يتنقل بين مشارق الأرض ومغاربها ممكناً له بالأسباب والجند والقوة والجيوش وآلات الحرب والحكم والمال والثروة التي بها أخضع العالم لسلطانه ولأوامره ونواهيه، وكان موحداً لله مسلماً صالحاً.
فقوله: (إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً) أي: آتيناه من كل ما يصلح للملوك والحكام من آلات وعلم ومعرفة وأداة كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير والصحابة والتابعون.
قال تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:85] أي: اتبع ما أعطاه الله من أسباب في معرفة الطرق الموصلة إلى المغرب والمشرق ثم إلى ما بين السدين، قوله: (سبباً) أي: طريقاً ومسالك، فقد كان يعلم ذلك علم يقين، وله أعوان من علماء الأرض وجغرافيتها ومسالكها سواء بين الجبال أو الوهاد أو البحار، وهكذا أعطي سبب كل ما يمكنه في الأرض من التحكم فيها وإخضاع ملوك الأرض وشعوبها لسلطانه.(15/4)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس)
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} [الكهف:86].
أي: استخدم الأسباب ووسائل المواصلات والسير إلى الطرق إلى أن بلغ مغرب الشمس، وهي آخر رقعة من الأرض حيث ليس وراءها إلا الماء.
قال تعالى: (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) وقرئ: حامية، أي: وجد الشمس تغرب في مرأى العين في عين فيه ماء حام، أي: حار، وقوله: (حمئة) أي: من ماء وطين أسود فيما تراه العين، وقد قال علماؤنا في تفسير هذه الفقرة من الآية الكريمة: كل إنسان إذا وقف على شاطئ البحر عند غروب الشمس يرى قرصها وكأنه في عين حمئة، أي: في ماء من تراب أسود إلى أن تغيب فلا يعود يراها، ذلك وصف نظر العين إليها، وإلا فالشمس فوق السماء وليست من الأرض، فهي تغيب وتحضر وتشرق على الأفلاك كما تشرق على الأرض.
قال تعالى: {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} [الكهف:86] أي: وجد عند غروب الشمس قوماً، وقد وصفهم بعض الصحابة أنهم قوم حمر قصار، وهذه صفة الهنود الحمر من سكان أمريكا، ومعنى ذلك: أن ذا القرنين حكم أقصى غرب الأرض وهي أمريكا، وحكم قومها الذين سموا بعد ذلك بالهنود الحمر، فسكانها الأصليون كانوا قصاراً حمراً يعيشون في أقصى الأرض عند مغرب الشمس، وما المغرب الأقصى المسلم وأوروبا إلا طريق إليها، وكان اكتشافها على أيدي من سموا في التاريخ العربي بالشباب المغرورين قبل خمسمائة عام، فهم الذين دلوا عليها واكتشفوها قبل كولومبس بدهر وإنما اتبع طريقتهم.
فهؤلاء القوم في صفتهم كما ورد عن الصحابة والتابعين ومفسري هذه الآية الكريمة: أنهم قوم حمر قصار، وهي صفة لسكان أمريكا الأصليين الهنود، وإنما جاء هؤلاء البيض طارئين عليهم مستعمرين أرضهم، جاءوا أوزاعاً وأشتاتاً من مختلف أقطار الأرض.
قال تعالى: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86] وبهذه الآية قال من قال عن ذي القرنين: إنه نبي من عند الله، إذ يقول الله: (قلنا يا ذا القرنين) فكأنه وحي، ولكن علماءنا أحصوا الأنبياء المذكورين في القرآن، فوجدوهم لا يتجاوزون الخمسة والعشرين فيمن ذكروا بأسمائهم فلم يكن ذو القرنين ممن سمي، وقالوا: هذا من باب الإلهام وليس من باب الوحي، وهذا رأي الأكثرين، ولو وجدنا من قال سوى ذلك من الجمهور أو الإجماع لقلنا بقولهم، بأن الآية تدل دلالة قوية على نبوته، ولكن مع قوتها اعتبروا هذا القول ليس إيحاء وإنما هو إلهام.
فهؤلاء القوم وجدهم ذو القرنين قوماً كافرين لا يؤمنون بالله ولا يعرفونه ولم تصلهم رسالة، وانتقلوا في مختلف بقاع الأرض بعد طوفان نوح الذي أغرق الجميع، وما أفلت إلا أقوام معدودون بالأصابع، فكان هؤلاء القوم مشركين كافرين بالله، فأطلق الله تعالى يد عبده الصالح ذي القرنين في هؤلاء، فقال له إلهاماً: {يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} أي: إما أن تعاقبهم على كفرهم وعلى شركهم، وإما أن تحسن إليهم وتكرمهم حسب ما تراه من أحوالهم.
وإذا بـ ذي القرنين يجيب جواب المؤمن الصالح التقي، كما قال تعالى: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} [الكهف:87] وهذا الجواب منه كذلك إلهاماً.
قوله: (أما من ظلم) الظلم هنا الكفر، أي: أما من وجدته كافراً مشركاً بربه فإني سأعذبه، والعذاب مطلق، قد يكون بالقتل وقد يكون بالتعذيب حتى الموت وبما شاء من عذاب.
قال: (ثم يرد إلى ربه) معنى ذلك أن الرجل الصالح ذا القرنين يؤمن بالبعثة بعد الموت وباليوم الآخر شأن جميع المؤمنين الموحدين.
قال: (ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً) أي: ثم يرد هذا الظالم المشرك بعد تعذيبي له في الدنيا على كفره وشركه إلى ربه، أي: سيموت ثم يبعث يوم القيامة وسيكون عذابه على يد ربه عذاباً نكراً أي: موجعاً شديداً تستنكره نفسه ويجد عذاب الدنيا ليس عذاباً بالنسبة له، بل سيجده رحمة ونعيماً.
وهكذا شأن الكافرين بالله عموماً، يعذبون في الدنيا حسب ما أمرت به الشرائع، ثم إذا ماتوا على الكفر والشرك ولم يفد فيهم تأديب ولا تعذيب ولا عقاب، عذبوا يوم القيامة عذاباً موجعاً مؤلماً بما لم يكن يخطر لهم ببال.
قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:88].
أي: أما من آمن بالله واحداً، وآمن بالرسالات إلى الأنبياء، فهذا سيكون جزاؤه أي: مكافأته (الحسنى) والحسنى: الجنة، سيكون له من ربه الرضا ودخول الجنان والخلود فيها جزاء إيمانه وعمله الصالح، والإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، ولا يتم للإنسان أن يوصف بالمؤمن حقاً إلا إذا اعتقد قلبه اعتقاداً يقينياً بوحدانية الله، وبصدق رسله، وبما أنزله عليهم من كتبه، ثم بعد ذلك يصدق الاعتقاد والجنان بقول لسانه، بحيث يقول: أشهد أن لا إله إلا الله ويشهد لرسوله، كل حسب من كان في عصره من الرسل، أما بعد البعثة المحمدية فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يعمل الصالحات وفي الدرجة الأولى الأركان التي بعد الشهادتين: الصلاة ثم الصيام ثم الحج ثم الزكاة، وبصفة عامة أن يترك الشرك كلياً، وأن يعمل من الخير ما يقدر عليه.
وضابط ذلك ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا)، فلا زنا، ولا سرقة، ولا نميمة، ولا ربا، ولا رشوة، ولا سحت، ولا غير ذلك من أنواع الكبائر والمحرمات، يتركها المسلم البتة دون اختيار واحدة على واحدة.
أما عمل الصالحات فالقدرة العملية لها حد وطاقة، فمن عجز عن الحج سقط عنه، وقد يكون له بدل، وقد يعجز حتى عن البدل، وأمرنا الله بالصيام، فوجد منا المريض والحائض والنفساء والمسافر، فيسقط حال ذلك الصيام ويعوض، وأمرنا الله بالصلاة مستقبلين الكعبة طاهرين متوضئين بالماء، فمن عجز عن الماء أو فقده أو جهل الكعبة أو ما استطاع أن يصلي قائماً صلى قاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب، وينتقل من الماء إلى الصعيد الطاهر، وهكذا في الأفعال والأمر بها: (فأتوا منها ما استطعتم).
قال تعالى: {وَعَمِلَ صَالِحًا} [الكهف:88] يؤكد إيمانه بأن يعمل الصالحات من عبادة لربه، والإخلاص له، والإحسان إلى عباد الله المؤمنين.
قال تعالى: {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف:88] (جزاءً) منصوب على أنه مفعول مطلق، أي: جزاؤه الجزاء، ومكافأته المكافأة الحسنى، والحسنى: الجنة.
قال تعالى: {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:88] أي: من يدخل تحت إمكاننا وقدرتنا فنحن نقول له القول اللين والكلام الميسر، ونحسن إليه بمالنا ولساننا وبما نستطيع، ونعينه في أمرنا وسلطاننا وأحكامنا كل حسب مقدرته وعلمه وطاقته.(15/5)
تفسير سورة الكهف [89 - 98]
وفي رحلة ذي القرنين وصل إلى مشرق الشمس حيث العراة الذين ليس لهم من دون الشمس ستر، وقد سألوه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج ستراً، ففعل ذلك بما مكنه الله من الأسباب.(16/1)
تفسير قوله تعالى: (ثم أتبع سبباً)
قال تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:89].
لا نزال مع ذي القرنين، إذ قطع مكانه الذي كان فيه إلى مغرب الشمس، وأعاد للدين قواعد، ولا شك أنه ترك حكاماً ومعلمين يعلمون الناس التوحيد، وينشرون الإسلام كما نشره، ووضع بينهم من يعدل بينهم، ويفصل خصوماتهم، ويحول دون ظلم البعض للبعض، ثم ترك المغرب وهو الآن في طريقه إلى المشرق، فقال تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} أي: ثم أخذ طريقه مرة أخرى واتخذ الأسباب للسفر والتنقل في الأرض والضرب في أرجائها، وهكذا اتخذ الآلة والمراكب البرية والبحرية، وربما الجوية كما حكى علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة والتابعين: أنه سخر له السحاب؛ فقد سئل عنه علي فقال: ذاك عبد صالح ناصح لربه، فنصحه ربه وأكرمه، فسخر له السحاب وأعطى له الأسباب، ومكنه من كل ما يحتاجه حاكم على الأرض.
قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} [الكهف:90] أي: أقصى بلاد الصين حيث لا يعرف بعدها عمار ولا سكنى ولا شعوب من البشر، وصل هناك فوجد عند مطلع الشمس قوماً لم يجعل لهم ربهم من دون الشمس ستراً، فأرضهم لا تقبل بناء وليس فيها شجر ولا نبات، إذ تطلع الشمس في الساعة التي تطلع فهم معرضون لها ولحرها وبلائها، لا كهوف، ولا مغارات، ولا شجر، ولا أرض تقبل البناء، إذ الأرض تهتز وتتنقل فما بنوه يسقط، والشجر لا ينبت، وإنما يعيشون على ما يصطادونه من حيوان البحر وغيره.
فقوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90] أي: لا ستر لهم دون الشمس، وهم معرضون لها عراة لا لباس يسترهم إذ لا غنم ولا صوف ولا وبر ولا زرع يأخذون منه قطناً، وإنما يعيشون على الماء وسمك البحر، فهؤلاء عندما يبدأ حر الشمس يدخلون المياه ويبقون فيها إلى أن تميل الشمس إلى الغروب، فيخرجون من الماء.
وقد قال البعض: إنهم يحفرون أخاديد فيجلسون فيها، ولكنها أيضاً لا تمسك قد تنهار عليهم يميناً وشمالاً، فيجدون أنفسهم قد حفروا لها مقابر، ولذلك أصح ما قالوه: أنهم يتبردون من حرها ومن سمومها بالماء.
قال تعالى: {كَذَلِكَ} أي: مثلما في قوله تعالى: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86] فكان نفس
الجواب
{ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:87 - 88] فقوله: {كَذَلِكَ} [الكهف:91] أي: مثلما حدث مع قوم مغرب الشمس دعاهم إلى الله، وأحسن إلى المحسن، وأساء إلى المسيء، فقتل الكافر المعاند الظالم، وعذب المعارض، وأما من قبل الإيمان والتوحيد فإنه أحسن إليه ووجد منه كلمة طيبة وليناً ولطفاً وإحساناً، وهذا معنى قوله تعالى: (كذلك).
أي: كما صنعنا معه عندما وصل إلى مغرب الشمس كذلك، وصل إلى مطلع الشمس وخيرناه بأن يصنع معهم ما شاء إما أن يعذب وإما أن يتخذ فيهم حسناً، فكان جوابه: أن يحسن إلى المحسن ويعذب العاصي والمسيء.
قال تعالى: {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف:91] أي: نحن محيطون بعمله وبقوله فما من شاذة ولا فاذة إلا والله يعلمها، ولا يخفى عليه خافية جل جلاله، فكان بعين الله عمله وبعين الله تعذيبه للظالمين الكافرين، وبعين الله إحسانه إلى المحسنين المؤمنين المصلحين، والله قد أحاط به علماً وأحاط به خبراً جل جلاله، وهو المحيط بـ ذي القرنين وبغير ذي القرنين.
وسبب تسميته بـ ذي القرنين أنه كان له قرنان أو ما يشبه القرنين وهذا قول.
وقيل: لأنه بلغ قرن الشمس طلوعاً وبلغ قرن الشمس غروباً وهذا الأقرب.
وقال البعض: لأنه حكم فارس والروم ومعلوم أن فارس والروم لا تتعدى ولايتين من ولايات دولته وحكومته، فقد كان الإسلام قروناً وفارس والروم ولايتان من ولاياته، أما ذو القرنين فحكم العالم كله بما فيها أمريكا.(16/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم أتبع سبباً)
قال تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:89].
أي: ثم أخذ طريقاً، فهو لا يزال يقطع الأرض والبحار والجبال والفيافي وأعطاه الله الأسباب من الجند والمال والقوة السيادة والعز ليستطيع التصرف في ذلك تمكيناً له في الأرض مشرقاً ومغرباً وما بينهما، فهو يتنقل بأسبابها علماً بالطرق والمنازل والحكم، وإرشاداً لهذا وعقوبة لهذا والإحسان إلى المحسن والإساءة إلى المسيء.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف:93] أي: وصل بين إقليم وإقليم وبينهما ممر سحيق قد يكون ودياناً وقد يكون كهوفاً وقد يكون بحاراً، وعلى كل كان هذا بناحية وهذا بناحية.
قال: {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا} أي: من دون هذا الإقليم ومن دون هذا الإقليم، وجد {قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} أي: فيهم صفات الحيوانية من الجهل وعدم العلم والمعرفة فلا يكادون يفقهون قولاً من أحد، ومن قال: إنهم لا يفهمون اللغة فهذا ليس بصحيح، فإن الأمم التي تنقل فيها ذو القرنين كان لكل منهم لغته ونظامه لا تشبه هذه هذه إلا قلة قليلة لا تكاد تتجاوز الأصابع ممن تكلفت ذلك وتعلمته، ولا يقال: إن تلك اللغة انتشرت بين جميع شعوب الأرض، وقد قيل: إن ذا القرنين مما أعطي له من الأسباب أنه كان يتقن مخاطبة كل أمة بلغتها، فقد كان ذلك من الأسباب التي أكرمه الله بها، ومن الوسائل التي مكنه الله منها في الأرض.
قوله: (لا يكادون) يكاد: من أفعال المقاربة، أي: أنهم يفهمون قليلاً ويدركون قليلاً، ومن الإدراك الذي أدركوه أن هذا الذي وصل بلدهم بجيوشه وسلطانه وقوته قد أعطاه الله الأسباب على ذلك، وإذا بهم ينتهزون فرصة وجود ذي القرنين ويأتونه قائلين: يا ذا القرنين!(16/3)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض)
قال تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يأجوج وَمأجوج مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94].
وقرئ: (سُداً)، جاءوا إلى ذي القرنين وقالوا: يا ذا القرنين وأخذوا يرجونه ويتأدبون معه أدب الرعية للرؤساء والملوك والقادة، فقالوا: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) أي: عطاء وأجرةً ومالاً (عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) أي: أن تجعل بيننا وبين يأجوج ومأجوج فاصلاً وحاجزاً؛ لأن يأجوج ومأجوج شعب مفسد في الأرض، فقد كانوا من الظلم والجور يأكلون الإنسان، ويأكلون كل ما وصل إلى أيديهم من أنواع الحيوانات والمواشي والدواب، وكانوا عراة يتسافدون في الشوارع تسافد الكلاب والحيوانات، إذ كانوا لا يعيشون على نظام ولا خلق ولا دين، وكانوا يأتون المياه فيغورونها ويميتون أهلها عطشاً، وإذا وجدوا أرضاً مزروعة أفسدوها وقتلوا الماشية ولم يتركوا لهم شيئاً، فقد كانوا أشبه بالتتار الذين أفسدوا يوماً في بلاد العرب والمسلمين إلى أن وصلوا حدود مصر ثم دمرهم الله وقضى عليهم.
ويأجوج ومأجوج ورد ذكرهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم قوم مفسدون في الأرض، وقد جعل عليهم سداً وحال بينهم وبين الانتشار في الأرض ذو القرنين، استجابةً لهؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون حديثاً، ولكنهم سيخرجون إلى الدنيا عند زوال هذا السد، فيخرجون إلى الأرض وينتشرون، وخروجهم من العلامات الكبرى التي ستأتي بعد المهدي، فـ المهدي أولاً، ثم الدجال ثانياً، ثم عيسى ابن مريم عليه السلام ثالثاً، ثم يأجوج ومأجوج رابعاً، فيخرج يأجوج ومأجوج وعيسى في الأرض قد نزل من السماء ودان بدين الإسلام، وحج بحج المسلمين، وكسر الصليب، وقتل الخنزير، وهدم الكنائس، وألغى الجزية ولم يعد يقبل من أحد إلا الإسلام أو السيف، ودين عيسى إذ ذاك دين نبينا عليه الصلاة والسلام، فهي أوامر لعيسى من النبي عليه الصلاة والسلام، فعندما ينزل إلى الأرض يطلع عليها ويبلغها ويقوم بتنفيذها تنفيذاً لأمر نبيه محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو آخر الأنبياء ولا نبي بعده أبداً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).
وأخبرنا عليه الصلاة والسلام: (أن عيسى سينزل في آخر الزمان فيحج على غير القلص) والقلص جمع قلوص، والقلوص: الراحلة، أي: الجمل أو الناقة، وفي قوله: إنه سيحج على غير القلص إشارة للطائرات، فسيحج في الطائرات كما نحج نحن عليها اليوم، وقد تكون طائرات من نوع جديد، فنحن نرى كل يوم اختراعاً جديداً وشكلاً جديداً بحيث ما مضى عليه عشر سنوات أصبح كالدواب والمواشي بالنسبة لطائرات هذه الأيام، ويعد أيضاً من أنواع الطائرات الآن ما لا يكاد أن يتصورها أحد، وقد سبقت الإشارة لهذا في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8].
قال حبر القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن معنى قوله: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] ظهور أنواع المراكب في الأرض حتى كان ذلك من جنسها، قال هذا ابن عباس منذ ألف وأربعمائة عام، وفي هذا النصف من القرن العشرين أصبحنا نستطيع أن نقول كما قال ابن عباس: والخيل والبغال والحمير والسيارة والقطار والباخرة والصاروخ، وأيضاً لا نزال نقرأ قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] وهذا من معجزات القرآن الدالة على تصديق نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
ومن هنا كان القرآن المعجزة الخالدة الدائمة المستمرة، فقد آمنا بالمعجزات التي ظهرت لنبينا حال حياته عليه الصلاة والسلام إيمان تصديق، ونحن نؤمن اليوم بالقرآن ومعجزته معنىً ولفظاً، ونؤمن إيمان شهود وإيمان حضور وكل يوم نعيش في معجزة، فالصحابة الذين آمنوا بالمعجزات التي شاهدوها آمنوا بما سيأتي إيمان تصديق، كما آمنا نحن بالمعجزات التي كانت في عصرهم إيمان تصديق، ثم نؤمن بالقرآن الكريم إيمان شهود وحضور.
قال تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يأجوج وَمأجوج} [الكهف:94] وقرئ: (ياجوج وماجوج) {مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94] أي: هل نؤجرك ونكافئك؟ ونعطيك مالاً، على أن تفعل بيننا وبين يأجوج ومأجوج سوراً، فلا يدخلون أرضنا ولا ندخل أرضهم عسى أن نستريح من إفسادهم وقتلهم وسفكهم الدم الحرام وأكلهم لحوم البشر.
ولم يمكن الله ذا القرنين في الأرض إلا للإصلاح ونشر الدين والعدل وعقاب الظالم ورفع الظلم عن المظلوم، فأجابهم ذو القرنين: {قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:95] أي: ذلك الذي مكنني، قرئ: (مكنني ومكني).
فقوله: (مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) بمعنى: ما أنا فيه من التمكين في الأرض ومن الأسباب التي أكرمني الله بها، وما ملكني الله من الحكم بين البشر وخضوع الملوك والأمراء والحكام وجميع شعوب الأرض لحكمي، هو خير من خرجكم ومن مالكم وأجرتكم، فدعوا الخرج عندكم تفرحون به أنتم لا أنا، كما قال سليمان عندما أرسلت له ملكة سبأ الهدية لتنظر رده فكان
الجواب
{ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36]، أي: أنتم الذين تفرحون بهذا المال، أما أنا فأملك من السلطان والجاه والمال ما ليس عند أحد في الأرض.
قوله: (خير) أي: أخير من أفعل، أي: أكمل وأحسن تمكيناً وقدرة.
ثم قال: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف:95] أي: لا تعطوني مالاً ولكن أعطوني قوة منكم، تعاونوا معي بأجسامكم وبالأدوات التي أطلبها من حديد ونحاس وأخشاب وأحجار وبنائين، قوله: (بقوة) أي: فليكن هذا منكم بعزم وصلابة وإرادة وبكل ما أطلبه منكم ولا حاجة للخرج.
ثم قال ذو القرنين: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف:96]، والزبر: جمع زبرة، أي: آتوني بقطع الحديد، وقيل: كانت القطعة وزنها قنطاراً اتخذها كما يتخذ الآجر والحجارة في البناء، فجاءوه بما طلب من قطع الحديد، بمعنى: صبت وقطعت، وهذا يدل على أنه كان عند ذي القرنين من المصنع والآلات ما أذاب به الحديد وقطعه قطعاً متوازية متوازنة على وزن واحد ومقاس واحد، وبعد أن جمعوا الحديد -إما أخرجه من الأرض أو أخرج ما كان موجوداً- أذابه وصنعه وجعله قطعاً.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا} [الكهف:96]، فالسدان في الوادي بين جبل يسار وجبل يمين، وذو القرنين ومن معه في الوسط، وفي جانبه يأجوج ومأجوج، وفي الجانب الآخر هؤلاء الذين لا يكادون يفقهون قولاً، فقال لهم: اربطوا هذا الجبل بهذا الجبل وأبعدوا هؤلاء عنكم واجعلوا بينكم وبينهم ردماً، فردم هذه الفئة وبنى فيها سوراً بعلو هذه الجبال، فجاءوا بالحديد وبنوا الأساس، فكانوا يجعلون الحديد ثم فوقه الخشب، ثم فوقه الحديد ثم فوقه الخشب، ثم فوقه الفحم ثم فوقه الحديد، وهكذا طبقة من حديد وطبقة من خشب وطبقة من فحم إلى أن أصعده وواصل بين هذه الفئة من الجبل وهذه الفئة من الجبل حتى ساوى بين الجبلين واستوى هذا السد الذي أعلاه حتى أصبح في مستوى الجهتين، ثم قال: {انفُخُوا} [الكهف:96] أي: أشعل النار، فاشتعلت النار في الفحم واشتعل الخشب فإذا بالزبر تشتعل، فصار هناك فراغ حين احترق الفحم والخشب واحتاج الأمر إلى شيء آخر يعود به ما احترق، فقوله: (حتى إذا جعله ناراً) أي: جعل السد كله قطعة نار مشتعلة فيه، (قال آتوني أفرغ عليه قطراً) والقطر: النحاس المذاب، فقد أعد النحاس وأذابه كما يذاب الثلج، ثم أخذ يقول لهم: أعينوني بقوتكم وأبدانكم، فأخذ يصب هذا النحاس المذاب على السد فامتلأ المكان الذي كان فيه الفحم والخشب بالنحاس، إذ كان من فوق ومن خلف إلى أن ملأه يميناً وشمالاً، وهكذا إلى أن أصبح السد قطعة واحدة من فولاذ اختلط بها النحاس وهذا لا يكاد يؤثر فيه إلا بإرادة الله.
قال تعالى بعد ذلك: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97].
أي: أصبح وقطعة واحدة ملساء كالبلور، فلم يستطيعوا أن يصعدوا على الحائط ويصلوا للعلو؛ لأن التراب أصبح أملس ولا يستطيع إنسان أن يمسه بيده فضلاً عن رجله، فقوله: (فما اسطاعوا أن يظهروه) أي: أن يصعدوا ظهره، ويتمسكوا بجوانبه.
قال تعالى: (وما استطاعوا له نقباً) أي: ما استطاعوا خرقه لا من تحت ولا من الوسط ولا من فوق، وهكذا فإن حضارة اليوم التي يدندنون حولها لم تصل إلى هذا قط، ولم نقرأ في تاريخنا الحاضر في الآثار سوى سد ذي القرنين، فإن حصون بابل من أيام النمرود عاشت قروناً ولكنها أصبحت خراباً ولم يؤثر فيها الحديد، فأبقوا من هذه الحصون جزءاً كمتحف وأثر من آثار الأولين.(16/4)
تفسير قوله تعالى: (قال هذا رحمة من ربي)
قال تعالى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف:98].
يقول ذو القرنين وقد نفعهم بنشر الإسلام بينهم، وبزوال الظلم عنهم، ونفعهم بإبعاد هاتين الأمتين الظالمتين المفسدتين يأجوج ومأجوج، وحال بينهما وبين الوصول إلى هؤلاء وغيرهم من أهل الأرض، (قال هذا) أي: هذا الصنع الذي صنعه وبناه وكأنه قطعة من فولاذ مختلط بالنحاس المذاب (رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أي: نعمة رحم بها المظلومين والعاجزين، ورحم بها المستضعفين، فهي رحمة لمن عاصر ذلك، ورحمة لمن يأتي بعدهم من سلالاتهم الذين طالما عذبوا الآباء والأجداد بظلم يأجوج ومأجوج، وسفك دمائهم، وأخذ أموالهم، وانتهاك أعراضهم، وأكل لحوم صبيانهم وشبابهم.
ويصح أن يكون هذا من قول الله ويصح أن يكون من قول ذي القرنين وإن كان السياق في كونه من كلام الله أبلغ؛ لأنه خبر عن المستقبل ولا يعلم المستقبل والغيب إلا الله.
قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98] هذا الآن على شدته وصلابته إذا جاء وعد ربي جعله دكاء، أي: أصبح مستوياً مع الأرض، أو أصبح هو والأرض في مستوىً واحد، ووعد ربي لا بد كائن، والمقصود بقوله: (وعد ربي) هو ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: إن عيسى سينتصر على الدجال ويذوب الدجال كما يذوب الملح في الماء، ويتم الأمر لعيسى وتصبح الدنيا في أيامه آمنة، فيزول العداء بين البشر وبين الحيوان، بحيث يتآخى الذئب مع الشاة، والحية تتآخى مع الفئران، والوحوش الضارية تتآخى مع الوحوش غير الضارية، ويصبح الناس في مستوى واحد من الغنى.
هذا ما أخبر عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام تفسيراً لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28].
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
آية تكررت ثلاث مرات في سور: التوبة والفتح والصف، وقد فسرها رسول الله عليه الصلاة والسلام كما روى ذلك أبو عبد الله الحاكم وأحمد في المسند وأصحاب السنن وغيرهم عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين مبلغ النجم، والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين مبلغ الليل، والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين مبلغ كل شجر وحجر ومدر).
وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال الكلمة أعادها ثلاثاً، وليست هذه ألفاظ الرواة ولكنها ألفاظ رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيقسم بالله الذي نفس محمد بيده ونفوس كل الخلق أن الدنيا لا تنتهي حتى يصبح كل ما يظهر فيه الليل أو يصعد فيه النجم مسلماً، والنجم يطلع على جميع الأرض في جميع الكرة الأرضية، والليل يكون في جميع الكرة الأرضية، وما من بيت إلا وهو حجر ومدر، هم سكان الأرض الحاضرة، وأصحاب القرى البدوية، والبدو الرحل، ومعناه: جميع سكان الأرض من ذوي الحضارة ومن البدو الرحل، يقول عليه الصلاة والسلام مبيناً: (بعز عزيز أو بذل ذليل) إما أن يعزهم فيصبحون من أهله -أي: من أهل الإسلام- كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] وإما أن يذلهم فيؤدوا الجزية له عن يد وهم صاغرون، وهذا يكون أيام المهدي، ويتجدد أيام عيسى، وبعد عيسى ينزل يأجوج ومأجوج فيفسدون في الأرض، فيدعو عيسى ربه بأن يهلكهم، فيصيب كل رجل منهم نغف في ظهره أو في عنقه، فيهلكون جميعاً نتيجة دعوة عيسى ربه سبحانه، فتجيف الأرض وتنجس من جيفهم وأرواحهم، فيدعو الله ليريحهم من ذلك، فيرسل الله طيراً على شكل أعناق الإبل، فيأخذونهم ويطيرون بهم إلى حيث لا يرونهم، وتنزل أمطار تنظف الأرض وتغسلها وكأنهم لم يكونوا.(16/5)
تفسير سورة الكهف [98 - 102]
إذا جاء وعد الله تعالى فإنه يصير السد الذي بناه ذو القرنين دكاً، ثم يموج يأجوج ومأجوج في الناس ويعيثون الفساد، وحينئذٍ تكون الساعة قد آن أوانها فليس لأحد من دون الله ولي.(17/1)
تفسير قوله تعالى: (قال هذا رحمة من ربي)
قال الله جل جلاله: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98].
عندما استجاب لأولئك الذين وجدهم بين السدين وهم لا يكادون يفقهون قولاً، وجاءوه راجين ضارعين أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سداً أو ردماً، وكان يأجوج ومأجوج ظالمين ومفسدين، فاستعان ذو القرنين بقوته وبماله وبمعرفته في البناء حتى إذا أتم ذلك وقد جعله كأنه قطعة واحدة من فولاذ، صب النحاس بين الجبلين وقطع الطريق ما بين هؤلاء وهؤلاء، قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97]، فقد بلغ من الإتقان بحيث إنهم لا يستطيعون أن يعلوا ظهره ويتجاوزوه ويقفزوا عليه، ولم يستطيعوا له حفراً ولا نقباً ولا تدميراً ولا تخريباً.
وعندما أتم ذو القرنين ذلك، شكر ربه وحمد نعمته وقال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف:98] أي: هذا فضل من فضله، ونعمة من نعمه، وكرامة من كراماته، وهذا يدل على إيمان ذي القرنين.
وبهذا العمل الجيد حفظ هؤلاء عن الظلم والتسلط والفساد، ولم ينسب ذلك لنفسه ولكنه نسبه لربه وجعله نعمة من نعمه، ورحمة من رحماته، وهكذا شأن الصالحين.
وهذا الذي فعله نبينا عليه الصلاة والسلام عندما دخل مكة فاتحاً بعد أن لقي من كفارها وصناديدها العنت والكفر والظلم والفساد في الأرض، فلما دخل لم ينسب لنفسه شيئاً، بل دخل مكة وهو يقول: (الحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده)، فدخلها مطأطئاً الرأس تواضعاً لله وخضوعاً لجلال الله، وهكذا كان الأنبياء فضلاً عن خاتمهم وإمامهم الذي كان يعمل العمل وينسبه لله ولفضله ولنعمته، وكذلك ذو القرنين وهو شأن الصالحين جميعاً.
وقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98] أي: فإذا جاء وعد الله في خروج يأجوج ومأجوج للأرض ونشرهم للفساد، وتجاوزهم أرضهم إلى مختلف بقاع الأرض جعل الله هذا السد أرضاً ملساء وكأنه لم يكن حديداً ولم يكن نحاساً ولم يكن هناك عمل.
وقد ذكروا في الأخبار: أن يأجوج ومأجوج يحاولون يومياً أن ينقبوا هذا الجدار ويحفروه ويهدموه لكنهم يعجزون.
وأنهم كانوا يقولون: غداً نتمم هذا العمل، وإذا بهم يعودون في الغد فيجدون كل ما نقبوا وحفروا قد عاد كما كان، وسيلهمون يوماً أن يقولوا: إن شاء الله فيجدون عملهم بقي كما كان وإذا بهم يتابعون عملهم، وإذا بهذا السد وكأنه لم يكن، ولكن كما قال ذو القرنين وكما قال ربنا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف:98] فخروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة الكبرى.
وقوله: {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف:98] قرئ: (جعله دكاً) أي: جعله مسوى بالأرض كالأملس، لم يبق فيه أثر للسور ولا للسد ولا شيء يحول ويحجز بين يأجوج ومأجوج وبين هؤلاء الذين لا يكادون يفقهون قولاً.
وقوله: {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98] أي: وعد الله سيحق وسيتم، فوعد الله لا مناص منه ولا محيد عنه ولا مفر ولا مهرب.
وهذه الآية الكريمة تتعلق بخروج يأجوج ومأجوج لإتمام الفساد في الأرض، وقد ورد في الحديث الطويل أن عيسى عليه السلام سيقتل الدجال، فعندما يظهر عيسى وينزل من السماء يذوب الدجال كما يذوب الملح في الماء، فقد ورد في الصحيح: (أنه يبقى فيها أربعين يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وبقية الأيام كأيام الناس، فقيل له: يا رسول الله! اليوم الذي يكون كسنة كيف نصلي فيه خمس صلوات؟ قال: اقدروا له)، بمعنى: أن اليوم أربع وعشرون ساعة، والوقت ما بين الصبح والظهر بضع ساعات، وبين الظهر والعصر ساعتان أو ثلاث، وبين العصر والمغرب ثلاث ساعات أو ثلاث ونصف، وبين المغرب والعشاء ساعة ونصف وهكذا، وينطبق الحديث في عصرنا على أراض قريبة من القطب المتجمد، فاليوم هناك بسنة وهذا باستمرار، وقد وصلت قريباً من حدود هذه الأرض فكانت الليلة لا تزيد على ثلاث ساعات، وفي آخر الشهر القمري والليل أشبه بالمساء قبل المغرب وأشبه بالصباح قبل شروق الشمس، فاليوم عندهم بسنة: ستة أشهر ليل وستة أشهر نهار، وقد سئل أحد أقاربي وهو من شيوخ شيوخي أو من شيوخي وأنا صغير عن كيفية صلاة المسلمين في هذه الأرض؟ فأفتى لهم وكتب مؤلفاً بأن يقدروا للصلاة قدرهم للحياة والطعام والشراب وللإدارة والحكم، وهذا الحديث نص في هذا.
وبعد ذلك يخرج يأجوج ومأجوج فيعيثون في الأرض الفساد، فيهتكون الحرم، ويسفكون الدماء، ويشربون مياه البحر والآبار والأنهار، ويأتون للشجر وللغابات ويقطعونها ويحرقونها، فيضيق عيسى بهم فيرفع يديه لله ضارعاً أن يريح الناس منهم فيسلط عليهم النغف، وهي الدود تكون في أعناقهم، فيموتون جميعاً ويهلكون، فتنتن أجسادهم وذواتهم فيضج عيسى من ذلك فيرفع يديه لله أن يريحه منهم، فتأتي طير تشبه أعناق الإبل أي: في ذلك القدر، فيأتي كل طائر فيحمل جثة من تلك الجثث فيبتعد بها إلى مكان يعلمه الله، ثم بعد ذلك ينزل الله مطراً لا يكن منه بناء ولا غطاء ولا سقف فينظف الأرض من تلك الأدران والنتن والأوساخ.
وبعض شيوخنا من المغرب وهو القاضي العالم محمد سائح رحمه الله كتب كتاباً وأغرب فيه وأتى بالشاذ من القول، وهو أن يأجوج ومأجوج قد خرجوا، وهم التتر، وأخذ يذكر عن التتر وعن فسادهم وإجرامهم.
فما قاله عن التتر صحيح، فالتتر كانوا أشبه بيأجوج ومأجوج فساداً، فقد دخلوا ديار الإسلام إلى أرض سمرقند إلى ما وراء النهر، ثم إلى أرض فارس فالعراق فالشام إلى أن وصلوا حدود مصر، وكانوا يرغبون أن يصلوا إلى أقصى المغرب العربي والأندلس، فكانوا لا يتركون بناء قائماً ولا نهراً جارياً ولا شجراً ولا دابة حية، فكانوا يقتلون الرجال والنساء، والدواب والمواشي، ويحرقون الدور والمدن والقرى، ويأتون للأنهار فيبعدون منابعها إلى البحر، وهكذا من أنواع الفساد التي وردت عن يأجوج ومأجوج.
وقد لقي المسلمون من ظلم التتار وفسادهم الكثير، فقد قتلوا الخلفاء والملوك، وهدموا المساجد، وبقروا البطون، وقتلوا الأطفال، وفعلوا ما لم يفعل أحد في التاريخ، حتى كان الفساد ديدنهم وحضارتهم ودينهم، وكانوا يعلنون وعلى رأسهم جنكيز خان ويقولون: إننا سلطنا على البشر لقتلهم وللإضرار بهم، ولهدم دورهم ومدنهم عليهم، وقد ورد متواتراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأجوج ومأجوج سيخرجون من سدهم وسيصبح هذا السد يوماً وكأن لم يكن، وسيكونون من العلامات الكبرى قبل قيام الساعة ولا تكون بعدهم إلا الساعة.
فيأجوج ومأجوج إن كانوا التتر كما زعم شيخنا هذا فقد مضى على التتر إلى اليوم ما يزيد على ثمانمائة عام أو قريب منها ومع ذلك فالعلامات الكبرى مثل: المهدي والدجال ونزول عيسى والريح الحمراء وغيرها من العلامات الكبرى لم يأت شيء منها، وإنما لا نزال نعيش في العلامات الصغرى التي كانت العلامة الأولى منها: بروز نبينا عليه الصلاة والسلام الذي قال عن نفسه: (بعثت والساعة كهاتين).(17/2)
تفسير قوله تعالى: (وتركنا بعضهم يومئذٍ يموج في بعض)
قال تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف:99].
يخرجون من السد بعد أن يهدم وينتهي ويفنى فلا بناء قائم، ولا خلق من خلق الله باق، سينتهي ويبقى الله الواحد القهار، كل شيء هالك إلا وجهه جل جلاله وعز مقامه.
وهذان الشعبان الظالمان المخربان المفسدان يموج بعضهم في بعض مع بقية سكان الأرض من شعوب وأمم كأمواج البحار الهائجة، يختلط حابلهم بنابلهم، كبيرهم بصغيرهم، رجالهم بنسائهم، ضالهم بتقيهم، ويا ما أقل التقي في ذلك الوقت والزمان! وقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف:99] ليس بعد النفخ في الصور إلا قيام الساعة، وهذا يؤكد أن ما بعد خروج يأجوج ومأجوج إلا النفخ بالصور ومن بعده قيام الساعة، والمكلف بالصور إسرافيل من الملائكة، والصور عبارة عن بوق لا يعلم عظمته إلا الله.
وحديثه متواتر مستفيض بالنطق النبوي الكريم، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنا بجبهته ينتظر الإذن).
ويوم تقوم القيامة لم تبق حياة قط لأي حي كان، بل حتى الأراضي والسموات والجبال والبحار فإنها تتردى وتنهدم وتصبح الأرض كالعهن المنفوش وتتشقق السموات وتنتهي البحار وينتهي الكون بعد أن يتم النفخ في الصور، ومعنى هذا بصريح القول: أن يأجوج ومأجوج سيكونون آخر من على وجه الأرض من الأحياء، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)، وحديث: (لا تقوم الساعة على رجل يقول: لا إله إلا الله) ويكون الناس قد عاشوا عيشة دواب وبهائم لا يعلمون رباً من مربوب ولا خالقاً من مخلوق وينكح بعضهم بعضاً في الطرق والشوارع مثل الكلاب والقردة والخنازير.
ويوم ينفخ في الصور يقومون لرب العالمين حفاة عراة غرلاً غير مختونين، تعود تلك الجلدة من الختان إلى مكانها، يأتون صفاً صفاً أمام ربهم ينتظرون الحساب إما إلى جنة وإما إلى نار، واليوم إذ ذاك كألف سنة مما نعد في أرضنا، قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، ويكون يوماً شديداً وعظيماً، فيشتد فيه البلاء والمحنة، وهو اليوم الذي يعطى فيه نبينا عليه الصلاة والسلام المقام المحمود والشفاعة العظمى.
وقوله: {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف:99] يجمع الله الخلائق كلها منذ خلق آدم إلى آخر إنسان في الأرض، ويعرضون على الله لا تخفى منهم خافية، وينفذهم البصر فلا جبل يسترهم، ولا شجرة، ولا غيرهما، ويأمرهم الله فيستجيبون، وبعد الشدة والبلاء يعطون كتابهم هذا بيمينه وهذا بيساره، ووضع الكتاب باليمين علامة الرضا، ووضعه باليسار علامة الغضب.(17/3)
تفسير قوله تعالى: (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً)
قال تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف:100].
يوم النفخ في الصور يقوم الناس إلى ربهم للعرض عليه وللحساب، في ذلك اليوم تعرض جهنم للكافرين وتبرز لهم فيرونها يأكل بعضها بعضاً، ويزدادون ألماً وتوجعاً وتحسراً، لأنهم عاشوا كل حياتهم وهم ينكرون البعث والنشور والحساب، وإذا بهم يرون أنفسهم واقعين فيما أنكروه وفيما جحدوه، وعندما تعرض الكتب في يسارهم يوقنون إذ ذاك باللعنة والغضب، فعندما تعرض جهنم عليهم وتبرز لهم يعلمون أنهم مواقعوها لا محالة، ساقطون فيها لا محيد ولا مفر.
وقد برزت لهم، وتراها أعينهم، وتسمع نارها المتأججة آذانهم، ويشدد الحساب عليهم، فيعذبون قبل العذاب، وانتظار العذاب عذاب.(17/4)
تفسير قوله تعالى: (الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري)
قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:101].
فالكافرون كانت أعينهم في غشاوة، فهي عمياء مع تفتحها لم تر في محمد العربي أنه نبي حقاً، ورسول حقاً، ما كانوا يرونه إلا إنساناً من الناس يتيم أبي طالب حفيد عبد المطلب العربي المولود في مكة، المهاجر للمدينة ذو المرقد فيها، أما أنه نبي الله وأنه رسول الله، وأنه أتى برسالة من ربه وأنه أنزل عليه القرآن خاتم الكتب من الله، فهذا عميت أبصارهم عنه.
فكانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله وتوحيده، عن أن يتذكروا أن هذا الكون في سمائه وأرضه لم يوجد عبثاً، ولم يوجد بلا موجد، ولم يخلق بلا خالق، فكان كل ذلك قد عموا عنه.
وقوله: {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:101] ومن حقدهم على رسول الله، وبغضهم للتوحيد وللإيمان، وعدم البعد عن الشرك بكل أنواعه كانت آذانهم لا تستطيع السماع، وحتى إذا اجتمعوا قالوا لبعضهم: لا تسمعوا لهذا القرآن، ولا تقبلوا قوله فإن في قوله لبلاغة، وإن من البيان لسحراً، وإياكم أن يسحركم بفصاحته، وببلاغته، وبجماله، وبتأثيره، فكانوا بذلك لا يستطيعون السماع؛ لأن البغض والحقد والبعد عن الله وعن ذكره، وعن الإيمان بالله وما جاء به منعهم عن أن يسمعوا كلمة الحق، وأن يسمعوا آية من كتاب الله، وأن يسمعوا بياناً من رسول الله، هؤلاء الكافرون هم الذين تعرض لهم جهنم عرضاً، فتراها أعينهم، وتسمع ما فيها من البلاء آذانهم، فيتعذبون قبل العذاب ويتحسرون، وتباطؤ العذاب عذاب.(17/5)
تفسير قوله تعالى: (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء)
قال تعالى عنهم وعن أمثالهم ممن مضى وممن يحضر وممن سيأتي تذكيراً وموعظة وهداية وإرشاداً: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف:102].
الآية فيها حذف مقدر يدل عليه السياق تقديره: أفحسبوا أن يفعلوا ذلك ولا نعاقبهم، ولا نحاسبهم، ولا نؤدبهم، ولا ننتقم منهم، هيهات هيهات! فالكفر شيء عظيم، والشرك ظلم عظيم، فهؤلاء توهموا لجهالة وضياع عقولهم وفساد دينهم أن يتخذوا من خلق الله أولياء ونصراء يفردونها بالعبادة أو يشركونها مع الله.
اتخذوا عيسى -وهو عبد لله صالح- إلهاً، واتخذوا عزيراً -وهو عبد صالح- إلهاً من دون الله، واتخذوا مريم -وهي صديقة- إلهاً من دون الله، واتخذوا عباد الله المكرمين أولياء وآلهة وعبدوها من دون الله وأشركوها مع الله.
والكلام هنا مع نوع من المشركين الذين اتخذوا العباد آلهة من دون الله، مع أن الشرك عام وهو من أشرك مع الله إنساناً أو ملكاً أو جناً أو جماداً أو حيواناً وكل ذلك من خلق الله، وكل ما في الأرض آتي الرحمن عبداً، والكل يوحد الله ويذكر الله وإن كنا لا نفقه ذلك، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] فهم يعبدون مع الله إنساناً وحيواناً وملكاً وجناً وجماداً وكل ما خلق الله.
قال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف:102]، أي: إنا هيأنا لهم وجعلنا منزلهم ومأواهم ومقامهم الخالد الدائم جهنم يصلونها ويعذبون فيها، جزاء كفرهم وشركهم، ومخالفتهم وعصيانهم.(17/6)
تفسير سورة الكهف [103 - 110]
يختم الله تعالى سورة الكهف بذكر صنفين من الناس، الأول: الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، والثاني: الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولم يشركوا بعبادة ربهم أحداً، وذكر سبحانه جزاء كل صنف منهما.(18/1)
تفسير قوله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً)
قال الله تعالى لنبيه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104].
أي: قل يا محمد لهؤلاء: هل نخبركم بمن فسد عمله وضل عقله وضاع كل ما صنعه من أعمال يظنها حسنات وعبادات؟ إن خسارتهم أشد من غيرهم، وفسادهم أطم من غيرهم، فإنهم خسروا أعمالهم في الآخرة، وخسروا حياتهم في الوقت الذي يظنون أنهم يحسنون صنعاً، أي: حال كونهم يعملون ويتعبدون وقد يتصدقون ويفعلون الطاعات والنوافل ولكن عملهم قد ضل وتاه وصار في ضلال ولم يكن في رشاد وفي هداية فخسروا أنفسهم وأعمالهم ولم يكن لهم إلا الخزي والدمار واللعنة والغضب.
والآية تعني النصارى واليهود وأمثالهم من المبتدعة في الإسلام ومن مختلف الملل والنحل، فترى الذي يقول: إنه تبتل وترهب وقصر حياته على العبادة ولم يتزوج ليتفرغ للعبادة ولم يعمل عملاً لكيلا يشتغل عن العبادة، وقد يتتبع الجبال والكهوف والمغارات وفي هذه الحالة يضل يومه صائماً وليله قائماً وهو يتلو الكفريات المخزية، تارة يبكي على عيسى ويناديه بالألوهية، وتارة يقول: يا أبانا الذي في السماء، وهو لا يزداد بذلك إلا كفراً وشركاً! وكذلك الذي يعيش حياته وهو يظن أنه يعبد وأنه يطيع مثل المجوس الذين يدخلون إلى دور النار وأشكالها وأنواعها ويخرجون منها حفاة عراة مكشوفي الرءوس وهم يزعمون أنهم في عبادة وأنهم في زهد وأنهم في انقطاع، وقد يمدون أيديهم ويذلون أنفسهم ويزعمون أن ذلك لربهم، وأن ذلك ذل وخنوع لله لكيلا يكون لهم أي نوع من التكبر على الخلق وعلى ربهم، هؤلاء الذين يظنون أنهم يعملون عملاً صالحاً، وقس عليهم فئات زعمت في الأصل أنها مسلمة كالقاديانية التي زعمت عن الغلام القادياني الجاسوس البريطاني أنه نبي مرسل فأضلهم وأفسدهم واخترع لهم كتاباً زعم أنه أنزل عليه.
وقل مثل ذلك عن البهائية التي هي فرع من اليهودية، وقل مثل ذلك عن الوجودية الذين يعيشون للوجود بشهواتهم ونزواتهم يعبدونها ويقولون: هكذا خلقهم الله وعلى ذلك يجب أن يعيشوا، وقل مثل ذلك عن الماثونية وعن الشيوعية وعن الاشتراكية وعن كل شيء خلا من قال الله وقال رسول الله.
سئل الإمام البخاري رضي الله عنه: من المسلم؟ قال: المسلم الذي لم يكن له لقب آخر مع كلمة مسلم، لا يقول: مسلم قادياني، أو مسلم وجودي، أو مسلم ماثوني، أو مسلم شيوعي، فعندما يضم لكلمة مسلم كلمة من هذا النوع يكون مشركاً كافراً ضالاً مضلاً ادعى الإسلام وهو منه بريء.
وقل مثل ذلك عمن تلاعب بالقرآن والسنة، فمن الضلال من أنكر السنة البتة، أو ألغى النصوص من القرآن والسنة وزعم أن ذلك للمصلحة العامة، وذاك رجل كان في القرن الثامن اسمه الطوفي ترجم له الحافظ في الدرر الكامنة وزعم أنه شيعي وما هو بمسلم، وكتابه طبع ونشر ووزع منه عشرات الآلاف، وكلما ينتشر منه يزداد الناس ضلالاً، يزعم ويقول: من المصلحة العامة للإنسان أن يلغي نصاً من القرآن والسنة، وهكذا أخذ ذلك من أئمة الكفر والضلال ممن زعموا الإسلام إلى أن تركوا حكم القرآن والسنة، ورجعوا لحكم اليهود والنصارى، وأبعدوا الإسلام من برامج ومناهج التعليم ومن تربية الأولاد، وهكذا نشروا الفساد في الأرض فكانوا سادة وكبراء مع فرعون وهامان وقارون، وهم مع ذلك لا يزالون يزعمون أنهم مسلمون وممن قال الله عنهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} [الكهف:103]، أي: بالذين هم أكثر خسارة في أعمالهم حين يزعمون أنها عبادة.
{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:104] أي: الذين ضل عملهم وخدمتهم، وما كتبوه وأذاعوه ودرسوه ونشروه وبذلوا عليه من وقت ومال وجاه في حياتهم الدنيا، فهؤلاء الذين ضل سعيهم وأعمالهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً وما أحسنوا إلا الفساد، وما أتقنوا إلا عبادة الشيطان وعبادة أئمة الكفر.
وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة الفئة الناجية في كلمة ما أبلغها وأفصحها! عندما قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على واحد وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي -أي: المسلمون ممن يدّعون ذلك عموماً- على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله من هي؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي).
ومن هنا كانت السيرة النبوية التي يقول الله فيها: {لَقَدْ كَان لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، حيث يجب على كل مسلم كبير أو صغير طالب أو معلم رجل أو أنثى أن يتعلمها ويتدارسها ويعيش مع واقعها قصصاً وفقهاً وفهماً واستنباطاً؛ ليكون الرسول الأعظم إمامنا وهادينا ونبينا حقاً، فنأتسي به صلاة وصياماً وزكاة وحجاً وجهاداً وهدياً وسلوكاً، وما زاد على ذلك ففي النار، وهو من الفئة الضالة.
والصحابة السابقون الأولون هم كما وصفهم الله من المهاجرين والأنصار والذين جاءوا من بعدهم، وأما الفئة الضالة فهي تلك التي ارتدت عندما مات نبي الله عليه الصلاة والسلام، والتي امتنعت عن أداء الزكاة، وأما الصحابي فهو من رأى رسول الله عليه الصلاة والسلام مسلماً وعاش ومات على ذلك، وأما أولئك الذين بدلوا وغيروا وارتدوا وكانوا يزعمون أنهم صحابة فهم الذين ورد فيهم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنهم يطردون ويدفعون عن حوضه في يوم القيامة، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أصحابي أصحابي! فيقال له عليه الصلاة والسلام: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول عليه الصلاة والسلام: سحقاً سحقاً)، والسحق: هو اللعنة والطرد من الجنة.(18/2)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم)
قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105].
يصف الله المبتدعة الضالين من كل فئة ومن كل نوع سواء زعموا أنهم مسلمون، أو بقوا على النصرانية والوثنية واليهودية والمجوسية، الذين يظنون أنهم يحسنون صنعاً وهم الأخسرون أعمالاً، والذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا فكفروا بالقرآن وبمعجزات النبي عليه الصلاة والسلام وبما جاء عن الله مما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكفروا بلقائه وبيوم البعث والنشور، أما اليهود والنصارى فزعموا أنها تبعث الأرواح لا الأجساد، فكانوا أيضاً كافرين، وزعمت ذلك فئة تدعي الإسلام، ومن عجيب أمرها أنها تدعي كذلك العلم، ثم تزعم أن البعث يكون بالروح فقط، فهذا القول يدل على الشك والارتياب في البعث والشك في البعث والنشور كفر وشرك وخروج عن الإسلام.
فقوله تعالى: {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [الكهف:105].
أي: ذهبت هباء وكأنها لم تكن، وكأنها أصبحت أشباحاً لا ذوات، فلم يحسب لها حساب، ومعنى ذلك: أن الله تعالى لا ينظر إليها ولا يقبلها.
فلابد في العبادة أن تكون لله وحده، فمن صرف شيئاً منها لغير الله يكون مشركاً، إما الشرك الظاهر وإما الشرك الخفي، وكل ذلك بلاء ومصيبة.
قال تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105].
أي: يوم القيامة لا يكون لهم شأن، ولا توزن أعمالهم؛ لأنهم لا أعمال لهم، وإنما توزن أعمال من يأتي بخير كالمسلمين المقصرين أو العابدين الأتقياء، وقد يثقل في الميزان، وتكون كافية لتكفير الذنوب ولدخول الجنان كما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صاحب البطاقة التي لا يمتلك سواها من الأعمال الصالحة، فعندما يأمر الله ملائكته بأخذه للنار لأن كفة السيئات غلبت كفة الحسنات يأمرهم الله بالعود به، قال: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] ويقول: لا تزال لك حسنة واحدة، فأتي ببطاقة أي: بورقة أو بقصاصة ورق فوضعت في كفة الحسنات فترجح الميزان وتطيش كفة السيئات، فيؤمر به إلى الجنة، وقد كان يعجب في أول أمره ويقول: ماذا عسى أن يكون في هذه البطاقة؟! والذي كان في البطاقة هو كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه عند فساد الزمان وعند رفع القرآن من الصدور يعيش أقوام في أزمان متطاولة لا يعلمون إلا كلمة: لا إله إلا الله، ويقولون: ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ونحن نقولها، فلا يعملون صلاة ولا صياماً ولا زكاة ولا حجاً، ولا يعلمون لا حلالاً ولا حراماً، فسئل الراوي معاذ بن جبل: أيدخلون الجنة؟ فقال: من معه لا إله إلا الله دخل الجنة.
وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فمن قال: لا إله إلا الله ووحد الله، فاعترف لله بالوحدانية، وبما يليق بجلاله ومقامه وعظمته جل جلاله فهو على أي اعتبار مؤمن، وبعد ذلك إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له حتى ولو دخل النار.
وقوله: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] من هنا يتأكد قول من يقول: لا توزن أعمال الكافرين؛ لأنهم لا أعمال لهم، وهذا معقول مع النص.(18/3)
تفسير قوله تعالى: (ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا)
قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف:106].
أي: هؤلاء الذين أحبط الله أعمالهم بما أصابهم من اللعنة والطرد جزاؤهم جهنم؛ لأنهم كفروا بالله وأشركوا به واتخذوا القرآن الكريم والمعجزات والآيات الواضحات التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هزواً وسخرية، فكان الجزاء جهنم جزاء وفاقاً، فهذا حال الكافرين ومآلهم.(18/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:107 - 108].
يقرن الله تعالى في كتابه بين أهل النعيم وأهل الجحيم، وبين من رضي عنهم ومن غضب عليهم؛ لتكون المقارنة باستمرار بين الصالح والطالح، وبضدها تتميز الأشياء، كما تقول الحكمة العقلية.
فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف:107].
يقتضي أنه لابد مع الإيمان من عمل الصالحات: من صلاة وصيام وحج وزكاة وأنواع العبادات، وأهم ذلك الأركان الخمسة.
وقوله: {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107].
قد أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن الفردوس أعلى منازل الجنة، وهي منازل الأنبياء والمرسلين، وقد يكون المؤمن مع الأنبياء والمرسلين في منازلهم لحبه ولتعلقه بهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أنت مع من أحببت)، وقال: (يحشر المرء مع من أحب)، فحب الله وحب رسوله والصالحين يرفع الإنسان إلى مقامهم.
والجنان درجات كثيرة وما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها وليس فوقها إلا عرش الرحمن، ومنه تتفجر أنهار الجنة.
وكما كانت جهنم منزلاً ومكاناً للكافرين ينزلون فيه، فإن جنات الفردوس للمؤمنين منازل ومأوى دائماً أبداً سرمداً.
وقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:108].
كثيراً ما يتساءل الناس: ألا يمل الإنسان في الجنة، فيتخيلون الجنة كالنعيم في الأرض، فهم يأكلون اللحم باستمرار فيملونه، ويعيشون على البحار وشواطئها فيملونها، أما نعيم الجنة فلا يملون منه، فلهم فيها كل جديد في كل وقت وحين، وقد يتنقلون بين الدرجات في الجنان فيتزاورون مع المؤمنين وخاصة مع أرحامهم وإخوانهم الذين أكرموا معهم بالجنان، وقد يكون بعضهم أعلى درجة والآخر أنزل درجة فيزور هؤلاء هؤلاء، ومن هم في أعلى درجة يرفعون إليهم من هم في أدنى درجة، ولذلك فإنهم لا يتحولون عنها كما نتحول في الدنيا من دار إلى دار ثم نملها، ونسكن البلدة فيمضي عليها سنوات ثم نملها، وتتغير فصول السنة ثم نملها، فمن عاش في الصحاري ملها ويريد أن يعيش في شواطئ البحار أو في أعالي الجبال أو في محل الخضرة، فنعيم الدنيا زائل وهي فانية، ولم يكن كذلك في الجنان، فالمؤمن في الجنة في كل ساعة له شيء جديد، فلا يريد التحول عنها ولا يريد الخروج منها، فالمتعة فيها دائمة متنوعة لا تمنع ولا تنقطع مع التشكل ومع التجدد في كل ذلك، فأهل الجنة لا يريدون التحول منها بحال.(18/5)
تفسير قوله تعالى: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي)
قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109].
أي: لو كانت بحار الأرض حبراً وأشجار الأرض كلها أقلاماً، وكان كل الناس يكتبون علوم الله ومعارفه، فإن هذه البحار تجف والأقلام تنتهي، والأيدي تكل، وكلمات الله لا تنقضي، وحتى لو انتهت البحار وأمدت ببحار أخرى فإن كلمات الله لا تحد ولا تنتهي، وقد قال تعالى في آية أخرى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27].
فكلمات الله لا تنتهي لأنها الخالدة الدائمة، وأما غير الدائم من شجر وبحر وإنسان فإنها ستنتهي، وكما قال الخضر لموسى عندما أخذ طائر الخطاف قطرة من البحر فقال: يا موسى! ما علمي وعلمك أمام علم الله إلا كهذا الطائر يأخذ بمنقاره هذه القطرة من البحر.(18/6)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
يخبرنا تعالى أن رسوله عليه الصلاة والسلام مستمر على مقامه وإمامته وجلالته، وكونه سيد ولد آدم، وصاحب الشفاعة العظمى، والأنبياء كلهم خلفه، مؤتمون بإمامته ليلة الإسراء، ومع ذلك فلا يقع كثير من الناس فيما وقع فيه من سبقهم كقوم عيسى عندما رأوا منه بعض المعجزات كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص فاتخذوه إلهاً وقالوا عنه: ابن الله، تعالى الله عن ذلك.
فالقرآن يؤكد باستمرار ويعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول عن نفسه إنه من البشر، ومن هنا تجدنا باستمرار نقول: عبد الله ورسوله وهكذا علمنا رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فالله تعالى يخاطب نبيه ويقول له: (قل) يا محمد! (إنما أنا بشر مثلكم) أي: لست ملكاً، ولا خلقاً من غير البشر ومن باب أولى لست إلهاً، فأنا بشر مثلكم لي أب اسمه عبد الله، وأم اسمها آمنة وتزاوجا كما يتزاوج الناس، واجتمعا كما يجتمع الذكر والأنثى فكنت وليدهم أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر، أحارب وأقاوم، أنتصر يوماً وأمحص يوماً، أحزن وأسر.
وقد جاءه عليه الصلاة والسلام رجل فعندما رآه أخذ يرتعد ويضطرب، فقال له عليه الصلاة والسلام: (هون عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) أراد أن يقول عن نفسه: لست من الأباطرة ولا الأكاسرة ولا القياصرة، أنا ابن امرأة عادية فلم يحصل لك هذا معي؟ ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام مهما أحببناه ومهما عظمناه ومهما أكرمناه ومهما ذكرنا من صفاته السامية وسيرته العطرة فإنه يبقى في الدرجة الأولى أنه عبد لله من أبناء آدم وحواء، فهو مثلنا في البشرية من سلالة آدم وحواء، وما الميزة التي امتاز بها علينا إلا النبوة والرسالة وكذلك الأنبياء ممن أوحي إليهم، وإن كان كبيرهم وإمامهم محمداً عليه الصلاة والسلام.
فالرسول عليه الصلاة والسلام ولد في مكة، وكفار قريش يعرفون حسبه ونسبه، وقد عاش معهم أربعين عاماً ثم فجأة قال لهم: إنه مرسل من عند الله، وقد كانوا يلقبونه بالصادق الأمين، فمن لم يكذب في طول هذه السنوات الأربعين أيتصور أن يكذب يوماً على ربه ويقول: أرسلني، وهو لم يرسله؟ حاشا لله! وهو مع كونه بشراً فهو نبي نبئ من الله وأوحي إليه بالقرآن الكريم، وبأن يدعو الخلق جميعاً: من في المشارق ومن في المغارب، من عاصره ومن يأتي بعده إلى يوم القيامة؛ يدعوهم إلى عبادة الله الواحد، وأنه رسول الله إلى الأبيض والأحمر والأسود، ألا تعبدوا إلا الله الخالق الرازق، الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، فالكل خلقه، والأمر أمره، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
وابتداء العبادة الاعتقاد بأن الله الخالق الواحد لا شريك له لا في ذات ولا في صفات ولا في أفعال، له الكمالات كلها وهو منزه عن النقائص كلها.
فليس عيسى إلهاً ولا مريم إلهاً ولا العزير ولا مناة ولا هبل، ولا شيء مما يعبد الناس سوى الله، فقولنا: لا إله إلا الله ننفي جميع ما يعتقده الناس من ألوهية زائفة في خلق الله، ونثبت الألوهية لله الإله الحق.
والدعوة للإيمان تبتدئ بأن الله واحد، ولذلك كانت الرسالة في مكة المكرمة لمدة اثني عشر عاماً على أن لا إله إلا الله ولم يؤمر فيها بالشرائع أو التكاليف، بل كانت في تزييف الأصنام والسخرية منها وممن يعبدها ويؤلهها من الأحياء والأموات، ومن هنا كان سفهاء قريش يقولون: إن محمداً شردنا، وشتت جمعنا، وسفه آباءنا وفرق بين أولادنا ونسائنا وعبيدنا، أي: دعاهم إلى الله، وهداهم باسم الله، وزيف لهم ما يعيشون عليه من ضلال وباطل، فجعلوا من انفرد دونهم بالإيمان بلا إله إلا الله قد خرج عنهم وسموه الصابئ.
والتاريخ يعيد نفسه، فهكذا اليوم نسمع أن في المجتمعات والمؤتمرات التي تقام في ديار الفسق والكفر وفي جامعات الفساد والإلحاد، يقومون بنشر الإلحاد ويعتزون به ويجعلون أنفسهم تقدميين ومتجددين وحركيين، ويقولون عنا وعن أمثالنا: إننا رجعيون لأننا دعوناهم إلى الله، ورجعنا بهم إلى الله وإلى رسول الله وإلى الإسلام، ونبهناهم أنهم هم الرجعيون الذين رجعوا إلى عبادة الأوثان التي انتهى وقتها وزمنها، ورجعوا إلى عبادة اليهود والنصارى وعبادة الماثوني والبهائي وغيرهم من المؤلهين زيفاً وباطلاً.
وسيبقى الحق دائماً في أخذ وعطاء، ومن ألهمه الله وشد أزره ووفقه ثبت على التوحيد إلى لقاء الله، ونرجو من الله أن يثبت أقدامنا، وينصرنا عليهم وعلى القوم الكافرين.
وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
الرجاء يكون بالخوف ويكون بالأمل، فمن كان يخاف لقاء ربه يوم القيامة أو يؤمله بأن يغفر ذنبه، ويكشف كربه، ويستر عيبه، فلتكن أعماله أعمال الصالحين المؤمنين، ولا يشرك بعبادة ربه خلقاً من خلقه، لا شركاً خفياً ولا شركاً ظاهراً ولا شركاً قولياً ولا عملياً.
ولله الحمد والشكر أننا قد ختمنا سورة الكهف.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، اللهم إنا نشكرك ونحمدك من خلايا أجسامنا جميعها على ما أكرمتنا به من عافية ومن صحة وإيمان ويقين ودعوة إليك، وعمل على نصر دينك، ومدارسة كتابك.
اللهم أحينا على ذلك، وأمتنا على ذلك، واحشرنا تحت لواء سيد المرسلين، اللهم عليك باليهود والنصارى، شتت اللهم شملهم، خرب ديارهم، أغرق أساطيلهم، اللهم اقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارضنا وارض عنا، وأعز بنا الإسلام والمسلمين، والحمد لله رب العالمين.(18/7)
تفسير سورة مريم [1 - 11]
في هذه الآيات يذكر الله تعالى بعض أنبيائه وهو نبي الله زكريا، فقد دعا ربه أن يرزقه الولد الصالح، مع أنه قد بلغ العتي من العمر، وكانت امرأته عاقراً، فاستجاب الله تعالى دعاءه ورزقه يحيى ليرث عنه العلم وكلمة النبوة.(19/1)
قراءة جعفر بن أبي طالب صدر سورة مريم على النجاشي
قال الله تعالى: {كهيعص} [مريم:1].
هذه سورة مريم الصديقة أم عيسى عليه السلام، وهي سورة مكية، آياتها ثمان وتسعون آية، وعندما ذهب قوم من المسلمين بإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين إلى الحبشة بدينهم؛ فراراً من قهر الكفار لهم، ومن الضغط عليهم، بقيادة جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخي علي رضي الله عنهما، بعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد - وكان عمرو لم يسلم بعد - يطلبان من النجاشي أن يسلمهما هذه الفئة التي خرجت عن دين قومها، فقال عمرو للنجاشي: إن هؤلاء يدينون بدين جديد أتى به محمد بن عبد الله بن عبد المطلب في أرض مكة، ويقول عن ربك: ليس برب وإنما هو عبد، يعني: عيسى ابن مريم، فجمع النجاشي جعفراً والذين جاءوا معه من المهاجرين من مكة إليه فسألهم، فقال لهم: ما الذي أتى به هذا الذي يقول: إنه نبي؟ قال: يدعو إلى عبادة الله الواحد، وإلى أن عيسى عبد الله وابن الصديقة مريم، وإلى أن موسى نبي الله ورسوله، وأنه من أولي العزم من الرسل، وأن الله أنزل على أنبيائه السابقين كتباً وصحائف، وقد أنزل منها التوراة على موسى والإنجيل على عيسى، ثم قرأ عليه من سورة مريم ما يتعلق بالسيدة مريم.
وإذا بـ النجاشي يقول: إن هذا الذي تتلوه والذي جاء به عيسى لمن مشكاة واحدة، وطرد هذين اللذين أتياه رسولين عن كفار قريش، ورد عليهما هديتهما.(19/2)
بيان الخلاف في كون البسملة آية، والاختلاف في قراءتها في الصلاة
وبسم الله الرحمن الرحيم جزء من آية من سورة النمل، وهي: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، وأما ذكر البسملة والتعوذ في أول السورة فقد اختلف الأئمة هل ثبت بالوحي وفي التلاوة النبوية أو هي للتيمن والتبرك بها، وذكر اسم الله في بداية كل سورة؟ والقراءات في أكثرها تبتدئ السور بالبسملة إلا قراءة المغاربة الذين يقرءون بقراءة ورش، فيقولون: البسملة إنما هي آية في سورة النمل.
والإمام مالك وأبو حنيفة وقول لـ أحمد لم يوجبوها، والشافعي أوجب قراءتها في الصلاة في أول الفاتحة وأول السورة، واستدل على ذلك بأحاديث مستفيضة ومتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها حديث: (كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج)، وحديث: (لا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب)، وفاتحة الكتاب كما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته عندما طلب من نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه الصلاة كما يريد عليه الصلاة والسلام قال: (استقبل القبلة، وقل: الله أكبر، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين)، فنص على البسملة.(19/3)
الكلام على الحروف المقطعة
قال تعالى: {كهيعص} [مريم:1]، اختلف المفسرون في معنى الحروف المقطعة، فقال قوم: كل حرف يدل على اسم من أسماء الله، فالكاف هنا بمعنى: يا كريم! أو يا كافي! والياء بمعنى: يا بديع! والهاء هو الله جل جلاله، وهكذا.
وقال قوم: لكل حرف من هذه الحروف المقطعة عدد من الأعداد يستخرج به معنى من المعاني، وقد قيل هذا فهماً عن صحابة وتابعين، واختلفوا فيه كثيراً، ولم يثبت ذلك في آية من كتاب الله ولا في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أعجز الله البشر والخلق كلهم ملائكة وإنساً وجناً عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بسورة منه أو بآية، والتعجيز لا يزال قائماً منذ 1400 عام، وما زادت الأيام ومضي القرون هذا التعجيز إلا تأكيداً ويقيناً وقطعاً، فطوال هذه القرون لم يستطع أحد أن يأتي بمثل هذا القرآن لا سورة ولا آية، وسيبقى ذلك -على كثرة الكفار والملاحدة- المعجزة الدائمة المستمرة إلى يوم القيامة.
ولعل قائلاً أن يقول: كيف هذا الإعجاز؟ ومن أي شيء القرآن؟ أليس عربياً والعربية يعلمها عشرات الملايين من العرب ومن غيرهم؟ فنقول: هو كذلك، ومع هذا أعجز كل هؤلاء فلم يستطيعوا أن يأتوا بشيء مثله أبداً، ومن هنا كان الإعجاز، أي: عجزوا واعترفوا بعجزهم بأن كلام الله لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو بشبيهه أو بقريب منه.
يقول الزمخشري وتحمس لقوله أكثر المفسرين في عصرنا علماً وبياناً ويقيناً وأكدوه بالأدلة التي لا ترد: إن هذا القرآن الكريم صنع الله، تكلم الله به، وأوحى به إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وهو من حروف الهجاء العربية، وعليها كانت بنيته، وعليها قام قيامه، وعليها كان كتاباً جامعاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومع ذلك إن استطعتم أن تؤلفوا من هذه الحروف سورة أو آية فافعلوا، وقد حاول بعض الكفرة كـ المتنبي الكذاب ومسيلمة الكذاب وغيرهما ذلك، فما أتوا إلا بالباطل من القول، والهراء والغث مما لا تكاد تقبله أذن.(19/4)
تفسير قوله تعالى: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا)
قال تعالى: {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم:1 - 2].
تقدير الكلام: ذكر الله وذكر ربك عبده زكريا برحمته، أي: هذا اشتمل على ذكر الله رب زكريا لعبده زكريا برحمة منه، حيث استجاب دعاءه، وحقق طلبه، ورزقه الولد على عقر زوجته وكبر سنه، وعلى اشتعال رأسه شيباً، وعلى وهن عظمه، وعلى ذهاب أكثر ما يمكن أن يطمع فيه بالولد.
ولقد رحم الله عبده زكريا بأن استجاب دعاءه ورزقه الولد على كبر منه، وعلى عقر امرأته وكبر منها كذلك.
قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} أي: في هذه السورة ذكر الله رب زكريا عبدَه زكريا؛ رحمة منه ورضي عليه بأن حقق طلبه، وأجاب رغبته، فاستجاب لدعائه الخفي.
وقد قرئ زكرياء بالمد وبالقصر، والقراءتان سبعيتان متواترتان، وزكريا أحد عظماء أنبياء ورسل بني إسرائيل، وكان من أعاظم أنبيائهم طاعة ووحياً وإشرافاً على التوراة، وعملاً بها، وتحقيقاً لأحكامها، ونشراً لها، ودعوة إلى الله في السر والعلن، وفي الصبا والشيخوخة.
قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:2 - 3].
أي: كانت الرحمة عندما نادى زكريا ربه نداء خفياً سراً في آخر الليل، حيث رفع يديه لله قائلاً: يا رب! وهو يضرع إليه ويكتم دعوته؛ إما لأن الدعاء كان في الليل في الثلث الأخير من الليل، حيث (ينزل الله جل جلاله إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من داع فاستجيب له، هل من مظلوم فأنصره)، إلى آخر الحديث المتواتر القدسي، أو دعا ربه دعاء أخفاه عن قومه وعن أتباعه؛ خوف أن يكون في هذا الطلب رعونة وشيء لا يليق بمثل زكريا في سنه أن يطلبه، إذ العادة تأبى ذلك، وقد رفع زكريا يديه ضارعاً لله، سائلاً له، راغباً في تحقيق طلبه ورغبته، بأن يكرمه بغلام يرثه ويرث نبوة آل يعقوب.
وكان عندما طلب الولد - كما قال عن نفسه - قد انتشر الشيب فيه، والشيخوخة ظاهرة عليه، وقد رق عظمه، وأضعفت الشيخوخة باطنه، وكانت امرأته على كبر سنها عاقراً لا تلد، ومع كل هذا لم ييأس من ربه ومن دعوته ومن تحقيق الولد رحمة من الله له.
قال تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:3 - 4] أي: كان الذي قاله ونادى به ربه وضرع إليه أن قال: رب إني أدعوك لشيء أرجو تحقيقه ونواله على ما بي من هذه الحال، فأنت القادر على كل شيء، فامرأتي عاقر، والعاقر: هي التي لا تلد وهي صغيرة، ومن باب أولى إن كانت كبيرة، وقد رق حالي، فقد سقطت أسناني، ولصقت عظامي بجلدي، والشحم قد ذاب، واللحم أصبح هشاً، ومع هذا قد اشتعل رأسي شيباً، وأصبح مشتعلاً مضيئاً كما تضيء النار والأضواء؛ لكثرة الشيب، ولكثرة بياضه، وغلبته على السواد من شعره، فقوله تعالى: ((رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي)) أي: رق وضعف، وسقطت الأنياب، وزالت الأسنان، وأصبحت العظام لا تكاد تحمل الجسد إلا بمشقة، ولا تتحمله الرجلان إلا برجل ثالثه من عصا يتكئ عليها أو إنسان يعتمد على عاتقه، وأنا مع هذا السن والشيخوخة الفانية فإن امرأتي عاقر من الأصل لا تلد.
{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم:5] أي: أكرمني بولد يتولاني من بعدي، ويحمل اسمي وعلمي ونبوتي وعملي في الدعوة إلى الله.(19/5)
تفسير قوله تعالى: (يرثن ويرث من آل يعقوب)
{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:6].
لا يليق بالنبي أن يأسف ويهتم بالمال بعده، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)، فما تركه الأنبياء يعتبر صدقة على المؤمنين، فالمؤمنون كلهم له وارث، يرثون ماله وعلمه، ومن هنا كان العلماء ورثة الأنبياء كما قال ذلك صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فمعنى الآية: ((يَرِثُنِي)) أي: يرث نبوتي، أي: اجعله نبياً مثلي يرث علمي، واجعله عالماً مثلي يرث مني الدعوة إلى الله.
قوله: ((وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)) أين يعقوب من زكريا؟! فيعقوب هو الجد الأعلى لسلالة أنبياء بني إسرائيل، وهو إسرائيل، وليس هناك مجال لكي يرثه، وإنما مقصوده: ارزقني ولداً صالحاً يقوم مقامي في النبوة والتبليغ للوحي، ودعوة الخلق إليه، ومحاربة الشرك والوثنية وفساد الأخلاق.
ثم قال: ((وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)) أي: اجعله يرضيك في أمرك ونهيك، ويرضيني في البر والطاعة، ويرضي الناس برحمته وشفقته وخدمتهم ودعوتهم إلى الله، فيكون مرضياً عنه عند الله وعند الناس، فهو لا يطلب الولد فقط؛ لأنه قد يأتي الولد ولا يكون كذلك، وهو في هذه الحالة لا يريده ولا يسعى إليه ولا يحب مجيئه.
وقال قبل ذلك: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4] أي: لم أكن يوماً بدعائك يا رب! شقياً، أي: مبعداً بائساً غير مستجاب الدعوة، أي: عودتني بكرمك وبرحمتك وبفضلك أن تجيب دعائي وتستجيب ندائي وتحقق دعواتي، فلا تغير علي عوائدك الطيبة في هذا الدعاء، حتى ولو كنت شيخاً فانياً، وكانت امرأتي عاقراً، فأنت القادر على كل شيء، فافعل ذلك يا رب! ثم عقب بعد ذلك بقوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم:5] أي: خاف الموالي بعده، والموالي هم أبناء العم والعصبة والأنصار والإماء والعبيد؛ فهم الأقارب بالدم وبالصهر وبولاء العبودية والرق، فهو يقول عنهم كلهم: {إِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم:5] أي: خاف بعد موته أن يخلفه هؤلاء، ولا يكون منهم نبي ولا رسول ولا داعية إلى الله، فهو يدعو الله ألا يخيب رجاءه وألا يرد دعاءه في أن يرزقه ولداً يرثه في النبوة والكتاب.(19/6)
تفسير قوله تعالى: (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى)
قال تعالى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم:7].
هذا من بلاغة القرآن وفصاحته وإعجازه، فإن معنى الكلام: إنه دعانا فاستجبنا له وحققنا طلبه، وناديناه: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم:7] أي: أبشر يا زكريا! بغلام سميناه قبل خروجه، بل وقبل علوقه بالرحم، سميناه يحيى، ولم يكن لهذا الاسم من قبل سمياً، والمعنى يحتمل أمرين: إما أنه ليس له شبيه في العبودية والتقوى والطاعة والصلاح، وإما أن هذا الاسم (يحيى) لم يسبق أن سمي به إنسان من قبل قط.
والمعنى الأول ليس صحيحاً ولا يمكن أن يتم، فلقد سبقه نوح وجده الأعلى إبراهيم، وكانا أفضل منه؛ لأنهما من أولي العزم، فلا يصح إلا المعنى الثاني، وهو أن: ((لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا)) أي: لم نسم أحداً قبل وليدك هذا الذي استجبنا لك به بهذا الاسم (يحيى).
وقوله: ((يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ)) البشرى تكون بالوعد بالخير أو بزوال الوعيد من الشر، وقلما تستعمل في الشر، فإن استعملت كانت للهزء والسخرية.
وقوله: ((إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ)) أي: بولد، وهو الطفل، ((اسْمُهُ يَحْيَى)) أي: العلَم الذي يحمله والسمة والعلامة التي سيعرف بها: هي يحيى.
فإذا بزكريا لشدة فرحه وسروره يكاد تأخذه حالة المرتاب، إذ كيف يكون هذا وأنا شيخ وامرأتي عاقر؟! فأخذ يقول للملائكة المبشرين له عن الله: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم:8] أي: كيف يكون هذا الولد؟ وعن أي طريق سيأتيني؟ وهل سيكون مني ومن صلبي ومن امرأتي العاقر؟ وهل سيكون هذا وأنا في هذه الحال أو تزوجني زوجة صغيرة وتزيد في قواي وصحتي أو تصلح هذه العقيم أو ماذا؟ وهذا كقول إبراهيم لله تعالى: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، وكذلك زكريا كان هو الطالب والراغب والداعي والراجي، وعندما بشرته الملائكة بتحقيق طلبه واستجابة دعائه أخذ يعجب ويتساءل: كيف سيتم ذلك؟ ((قَالَ رَبِّ أَنَّى)) أي: كيف ((قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا)) (كانت) هنا من أفعال الاستمرار، أي: كانت ولا تزال، كقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:96] أي: كان ولا يزال، واسمها في لغة العرب فعل استمرار، وأفعال الاستمرار هي وأخواتها مادام وما يزال.
وقوله: ((وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)) عتي: جمع عات، يقال: عُت وعِتِ كصُلِ وصِلِ وكجُثي وجِثي.
((وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ)) أي: أصبحت أعظم وأكبر وأسن، فقد كان يكاد يمشي منحنياً، ويكاد يحمل نفسه حملاً، وكان قد تجاوز المئات من السنين، وكانوا في الزمان الأول يعمرون القرون، وقد ذكر هذا في التوراة وفي الإنجيل عن أنبياء بني إسرائيل، وقال القرآن المهيمن مثل ذلك، فأخبر عن نوح أنه لبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فإذا كانت مدة الدعوة إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً فكم كانت سنه وكم عمر عاش؟(19/7)
تفسير قوله تعالى: (قال كذلك قال ربك هو علي هين)
قال تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9].
أي: أجابته الملائكة الذين أوحوا له بذلك عن الله: (كَذَلِكَ) أي: وأنت على هذه الحال من السن والعتي والكبر ومن عقر المرأة سيصلح الله صلبك، ويصلح رحم زوجتك، فتصب فيه نطفة صالحة، وسينشأ الولد غلاماً زكياً في رحم هذه العاقر، وسينتج ذلك وليداً نبياً صالحاً صديقاً براً تقياً.
وقوله: ((قَالَ كَذَلِكَ)) إي: قال الملك الآتي بالوحي وهو جبريل عليه السلام: ((قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)) أي: قال الملك لزكريا: يقول لك ربك: ذلك عليه شيء هين، أي: أهون، والله جل جلاله إنما أتى بهذه التعابير بحسب اللغة التي نزل بها القرآن، وهي اللغة العربية، وإلا فالكل على الله هين سواء إيجاد الشيء من العدم أو إيجاده بعد ذلك من غير العدم ولذلك قال له ربه: ((قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا)) أي: تذكر يا زكريا! أصل خلقتك وأصل أبيك الأول وأمك الأولى، وأمم خلقتهم؟ فهل كان لهم أب صغير أو كبير؟ وهل كانت لهم أم صغيرة أو كبيرة؟ فلقد خلقت آدم من التراب، وخلقت حواء من ضلع من آدم، وخلقت عيسى من أم بلا أب، فلا يعجزه شيء جل جلاله من أن يخلق من العاقر ومن الشيخ الذي بلغ من الكبر ومن السن عتياً وكبراً وفناء أن يخلق منهما الولد الصالح.
((قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا)) فإن كنت ستعجب فاعجب من كونك خلقت من أصل خلق البشرية ولم تكن شيئاً موجوداً، فقد كانت عدماً وتراباً، ولم تكن حواء لا من تراب ولا من ذكر ونطفة ورحم، وإنما خلقت من ضلع من أضلاع آدم، كما قال تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] أي: من النفس الأولى آدم.
ثم إذ بزكريا من تشوقه للغلام ولظهوره أراد أن يعلم وقت صبه في الرحم وكينونته، ووقت مضغته وتحركه، فقال: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً} [مريم:10] أي: اجعل لي علامة أدرك بها وأفطن إلى أن الولد قد صب في الرحم وأخذ يتخلق وينتقل من طور إلى طور: من نطفة إلى علقة إلى مضغة مخلقة وغير مخلقة إلى جنين ذي روح إلى الولادة، فاجعل لي علامة استعلم بها وأميز بها وقت وجود هذا الجنين في رحم هذه العاقر.
فقال الله: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم:10]، قال: علامتك أنك ستعجز عن النطق والكلام مع الناس ثلاثة أيام وأنت سوي، فلست أخرس ولا أعمى ولا أطرش، ولكنك تعجز عن النطق وعن الكلام من غير مرض ولا عيب فيك، فعندما تشعر بهذا فتلك هي العلامة على أن يحيى قد وجد في رحم زوجك.
وقال بعض المفسرين: سوياً، أي: ثلاثة أيام متتابعات، ولكن الذي رجحه المفسرون والمعنى له أكثر قبولاً: إن الله أعجزه عن النطق فكانت تلك علامة، وأما كونه من نفسه يسكت ولا يجب ولا يتكلم إلا إشارة فهذا يحتاج أيضاً إلى علامة سابقة ليتصرف هكذا.
وكون ذلك سيكون خلقة من الله فتلك العلامة لا تحتاج إلى علامة جديدة، ففي الصباح الذي يحاول فيه النطق والكلام فيجد نفسه عاجزاً عن النطق والكلام فتلك العلامة.
((قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)) أي: لا تستطيع كلامهم وأنت سوي البدن والأعضاء من اللسان والسمع والبصر، فتعجز عند محادثة الناس وعن النطق، ولا تعجز عند الذكر والعبادة والطاعة.
وفي الآية طي وحذف يدل عليه السياق: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ} [مريم:11] أي: دخل خلوته ومحراب عبادته، وأغلق عليه الباب يتعبد ويضرع شاكراً وحامداً وضارعاً إلى أن يتم هذا، ثم بعد ذلك خرج، كما قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11] أي: أشار إليهم، فبعد زمن تم الحمل وخرج من خلوته ومعبده وفتح الباب المغلق، فأشار إلى قومه وأتباعه: ((أَنْ سَبِّحُوا)) أي: أن اعبدوا الله ((بُكْرَةً)) أي: صباحاً ((وَعَشِيّاً)) أي: مساء، أي: سبحوه مهللين ومكبرين ومسبحين وقائمين وقاعدين، واعبدوه بأنواع العبادات وخاصة التسبيح والذكر والتنزيه والتعظيم، وزيدوا على ما أنتم عليه من العبادات والطاعات والقيام لله خالصاً له من غير رياء ولا سمعة ولا شرك.
فقوله تعالى: ((فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)) أي: خرج مشيراً لهم وقد عجز لسانه عن النطق، فظهرت العلامة والأمارة التي بينه وبين ربه، فخرج وهو سوي اللسان لا يستطيع النطق، وإنما يشير إشارة.(19/8)
تفسير سورة مريم [12 - 15]
أمر الله تعالى عبده ونبيه يحيى عليه السلام أن يتمسك بالكتاب بقوة، وأن يجتهد في الأخذ به، وذلك الكتاب هو توراة موسى.
وقد آتى الله تعالى نبيه يحيى الحكم وهو لا يزال صبياً، فكان لا يلعب ولا يخالط الصبيان، ونشأ على الصلاح والجد في الأمور والتقوى منذ الصغر عليه السلام.(20/1)
تفسير قوله تعالى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة)
قال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12].
هنا حذف يدل عليه السياق، وهذا كما قال ابن مالك في ألفيته النحوية: وحذف ما يعلم جائز ((يَا يَحْيَى)) أي: بعد أن ولد الوليد، وذلك بعد أن حملت به أمه تسعة أشهر وتحققت العلامة بالإشارة من زكريا لقومه فتم الحمل ثم ولد الوليد، وبعد أن بلغ ثلاث سنين خاطبه ربه وأوحي إليه وهو طفل فقال: ((يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)) أي: باجتهاد، والكتاب هو التوراة، أي: خذ الكتاب الذي أنزل على موسى ليكون له ولمن جاء بعده هادياً ودالاً ومرشداً، ((خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)) أي: خذ التوراة باجتهاد وبحرص على تعلمه، وعلى حفظه، وعلى معرفة أحكامه، وعلى معرفة خاصه وعامه، وكن قوياً في طلب العلم وفي حفظه وفي وعيه وفي العناية به، ولا تضع وقتك وزمنك في اللعب وفي النوم وفي ضياع الوقت.
ولقد قيل عن يحيى: إنه طلبه الأطفال ليلعب معهم وهو ابن أربع سنوات فامتنع، وقال: لم أخلق لهذا، ومن هنا سماه الله الحكيم.
{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12].
يقول جل جلاله: إنه قد آتاه الحكم والوحي والنبوة والرسالة والحكم بين قومه من بني إسرائيل وهو لا يزال صبياً، قالوا: كان ابن ثلاث سنين.
قال تعالى: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا} [مريم:13] أي: كما آتاه الحكم وهو صبي فقد آتاه الحنان، وهو الحنو والشفقة على خلق الله من الفقراء والمساكين والمرضى والمحاويج، وآتاه الحنو في قلوب الناس، فكان لا يراه أحد إلا أحبه وأطاعه واحترمه.
قال تعالى: ((وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً)) أي: آتاه الزكاة في قوته وفي دينه وفي ماله وفي طاعته بحيث زكى جميع أعماله المادية والمعنوية، فإن كان له مال زكى منه، وإن كان له قوة أعطى من قوته، وإن كان له جاه أعطى من جاهه، فمن جملة ما آتاه الله يحيى: الحكم والنبوة والكتاب والرسالة والحنو على الخلق والزكاة والتزكية والتنمية في جميع أعماله المالية والمعنوية.
قال تعالى: ((وَكَانَ تَقِيًّا)) أي: كان صالحاً باراً مطيعاً لربه ولأنبيائه السابقين، فلا تعرف عنه معصية قط، وكان عبداً حصوراً لا يعرف النساء ولا يشتهيهن، وقد قيل عنه: إنه لم تعرف عنه زلة لا صغيرة ولا كبيرة، فقد كان من أنبياء الله الكبار الأربعة والعشرين الذين ذكرهم الله في كتابه.
قال تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:14]، وكذلك كان زكريا، ثم كان يحيى بن زكريا، فالله يشيد به هنا ويثنى عليه ويرفع من ذكره؛ لنحترمه ونؤمن برسالته ونقدره، ولا نفعل كفعل بني إسرائيل من شتمهم لأنبيائهم، وقذفهم لهم، وطعنهم في أعراضهم وفي أديانهم وفي أخلاقهم، وجعلهم من ذلك كتاباً مقدساً للناس، ومن هنا كان الفساد والكفر والفاحشة ديناً يدعو إليه اليهود ويعيشون عليه ويدعون له، وحيث وجد اليهود وجد الكفر والفساد وكل سوء، فهم الجرثومة البشرية في الأرض.
قال تعالى: ((وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ)) أي: كان باراً بأمه وبأبيه يطيعهما ويحقق رغباتهما ولا يعصيهما في معروف البتة، وكان أبوه زكريا نبياً من أنبياء الله، وكانت أمه من الصالحات القانتات، فكان براً بهما سمعاً وطاعة وخدمة وسعياً في كل ما يجلب الخير لهما.
قال تعالى: ((وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا)) أي: لم يكن طاغية أو جباراً، إذا غضب قتل أو ظلم أو اعتدى أو شتم أو سعى في سوء، فلم يكن من جبابرة الأرض، بل كان براً رحيماً تقياً صالحاً، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ولم يكن عاصياً، والعصي من أفعال المبالغة، أي: لم يكن عاصياً البتة، والمعنى: عاص، فهو لم يعص أباه ولا أمه البتة، ومن باب أولى لم يعص ربه ولا نبيه.
وهكذا كان يحيى بن زكريا نبياً وابن نبي، فهو سليل الأنبياء إلى إبراهيم عليهم جميعاً سلام الله وصلاته.
قال تعالى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15].
رفع الله جل جلاله السلام والأمان ليحيى في ثلاث حالات يكون الإنسان فيها أحوج ما يكون للأمان والسلامة.
الأولى: في قوله تعالى: ((سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ))، والوليد عندما يخرج من بطن أمه يخرج إلى عالم لا يعرفه ولا يشعر به، بل وهو في بطن أمه ورحمها يتخيل بعقله الصغير أن العالم كله هو الرحم، وعندما ينزل الوليد إلى الأرض وعالم الدنيا ينزل باك شاكياً متألماً متحسراً، فهو يحتاج إلى الأمان وإلى السلام، فتسعى أمه والمشرفون عليه إلى تهدئة نفسه وإسكاته عن هذا الضجيج والبكاء.
فالله أمن يحيى عند ولادته، فلا يخاف سوءاً ولا مكروهاً، فهو آمن على صحته وعلى حواسه وعلى تحقيق ما دعا أبوه له من النبوة والعلم والتقوى والصلاح.
والثانية: في قوله تعالى: ((يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ)) والإنسان عند الموت تراه في رعب وفي هلع: هل سينتقل إلى الجنة أم إلى النار، وهل سيكون إلى الرحمة أو إلى العذاب، وهل سيغفر له ربه أو يحاسبه، فتجده على منتهى ما يكون من الرعب والهلع، وفي هذا الموقف الشديد أمن الله نبيه يحيى بن زكريا؛ ليأمن من عذاب الحساب، فهو كما أمن عند خروجه للدنيا، يأمن بوعد الله الحق عند موته وذهابه للآخرة.
قوله: {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15] أي: أمنه الله وبشره بالسلامة والأمان عندما يبعث فلا غضب ولا نار ولا حساب، ولا ما يكون عليه أهل المحشر من عذاب وشدة وقهر، في ذلك اليوم الذي يفر فيه المرء من أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، في ذلك اليوم الذي ترى الناس فيه سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد يكون يحيى في أمن وسلام من الله جل جلاله، فلا يخاف عذابه ولا مقته ولا غضبه.
قيل: اجتمع يحيى وعيسى وهما ابنا خالة، وكلاهما في السماء الدنيا، فقال يحيى لعيسى: أنت أفضل مني، وقال عيسى: بل أنت أفضل مني، قال: أنت خلقك الله بلا أب، قال: وأنت خلقك من شيخ هرم وامرأة عاقر لا يلدان عادة، ثم قال عيسى: بل أنت أفضل مني، أنا عندما خرجت للدنيا أمنت نفسي وسلمت عليها فقلت: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:33]، وأما أنت فقد أمنك الله، ووعدك بالسلام والأمان، فلم يحوجك لأن تقول ذلك فقال: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15]، فسكت يحيى وحجه عيسى، ومع ذلك فعيسى أفضل، وهو من الخمسة أولي العزم من الرسل وليس يحيى منهم، وهما معاً من رسل الله الكرام الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون، فكلاهما إمامان صالحان، ونبيان معصومان.(20/2)
تفسير سورة مريم [16 - 21]
ذكر الله تعالى قصة مريم حين اعتزلت قومها وتفرغت لعبادة ربها، فجاء رسول ربها يبشرها بغلام كريم، ففزعت من ذلك الرسول الذي يدخل عليها فجأة، فلما هدأت بشرها بغلام زكي، وهو عيسى عليه السلام.(21/1)
تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم)
قال الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:16 - 17].
كنا مع زكريا عليه السلام ومع ابنه يحيى حين استجاب الله دعاء الوالد على كبر سنه وعقر زوجته، ورزقه الله الولد كما طلبه، فكان ذلك من علامات قدرة الله في مخالفة العادة والإتيان بكل ما لا يخطر على بال، ولا يقدر على ذلك إلا الله جل وعلا.
أما قصة عيسى فقد قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} [مريم:16] أي: اذكر يا محمد! في القرآن مريم، ومريم قد مضت قصتها وتحرير خدمتها لبيت الله عندما ولدتها أمها وقالت: إنها نذرت ما في بطنها محرراً للخدمة وللعبادة ولتنظيف بيت الله، ولكنها عندما ولدتها بنتاً أخذت تتحسر وتقول: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36].
فأم مريم جدة عيسى دعت لابنتها ولحفيدها ولد مريم بأن يقيه الله، وبأن يحفظه من نفث الشيطان ووسواسه وإيذائه لبني آدم، فاستجاب الله دعاءها وحقق لها رغبتها، فكانت مريم من القانتات العابدات الصالحات، وآتاها الله ماطلبت حسب رغبتها ورجائها في ربها.
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم:16] أي: اذكر يا محمد! ما أنزل الله عليك في كتابه الموحى إليك من قصة مريم عندما انتبذت وابتعدت وانفردت عن قومها في مكان شرقي عن بلد أهلها، وعن مكان تجمعهم وتكتلهم، فاذكر ذلك يا محمد! واتبع ما يتلى عليك عن الأنبياء السابقين من فضائل ومزايا ومحاسن.
قال تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} [مريم:17].
أي: عندما اختلت دونهم وابتعدت عنهم واتخذت مكاناً تخلو فيه لعبادة ربها، وجعلت بينها وبين قومها حجاباً من ثوب أو من حائط، أو حجاب البعد عنهم فلا تجالسهم ولا تخوض في خوضهم ولا تشتغل بفسادهم، وإنما هي العبادة لله وحده قائمة راكعة ساجدة.
قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17]، فعندما كانت مريم في خلوتها لعبادة ربها أرسل الله إليها شاباً جميلاً أمرد فدخل عليها، فإذا بها تفزع وتنزعج وأصبحت في غاية الهلع، فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18] أي: يا هذا الذي دخلت علي خلوتي دون إذن مني ولا سابق حرمة أو صلة، لست من محارمي فكيف تبيح لنفسك أن تدخل علي خلوتي وأنا أنثى وأنت ذكر؟ وكان الذي دخل عليها هو روح الله جبريل عليه السلام جاء رسولاً من الله إليها، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17].
أرسل إليها جبريل بالبشرى وبالأمر الغريب العجيب الذي لم تكن تتوقعه، أرسله إليها بما لم تطلبه ولم تتخذ له سبيلاً ولا طريقاً، فهي ليست كخالتها عقيماً، ولم تتزوج ولم تتشوق إلى ذلك، ومع ذلك رأت هذا الشاب الجميل الأمرد يدخل عليها منتهكاً خلوتها وحجابها.
فجبريل هو روح الله كما سماه الله، فتمثل لها في صورة بشرٍ سوي تام التقاطيع والحواس، جميل الشكل كامل القامة، وإذا بها عندما رأته خافت وبادرته بالتعوذ بالله منه، فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18] أي: أتحصن وأتوسل وأستغيث بالله وأجعله مرجعي ومآلي أن يحفظني منك ومما يمكن أن يحصل منك من سوء وشر، فظنته جاء لسوء، أي: ظنته جاء للفاحشة فأخذت تتعوذ بالرحمن منه وتقول: (إِنْ كُنتَ تَقِيًّا) أي: إن كنت ممن يقبل التعوذ والرجاء، وإن كنت صالحاً تؤمن بالله وتبتعد عن الفواحش وعن السوء وعن البلايا.
قالوا: فعندما سمع جبريل ذلك التعوذ من هذه العابدة الصالحة القانتة اهتز اهتزازاً ارتجت له الأرض حتى عاد لصفته الملائكية، ثم أكد لـ مريم أنه ليس ببشر، فلا خوف من ذلك، والملائكة عباد الله المعصومون {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فلا يأكلون ولا يشربون ولا يتزوجون، ولا يلدون ولا يتوالدون من باب أولى، فلما اطمأنت أخذت تعجب بعد ذلك: كيف ستلد وليس لها زوج، ولم تكن بغياً، أي: زانية في يوم من الأيام؟(21/2)
تفسير قوله تعالى: (إنما أنا رسول ربك)
قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19].
قال لها: لا تخافي ولا تتعوذي مني؛ فإنما جئت إليك رسولاً من ربك أبشرك بأنك ستلدين ولداً يكون نبياً ومعجزة، ويكون علامة من علامات قدرة الله على كل شيء، فأنا لم آت للهوى، ولست بشراً وما بي ذلك، وليس لي قدرة على ذلك، وإنما أنا عبد الله ورسول الملائكة إلى الرسل من الناس.(21/3)
اختلاف العلماء في كون مريم وغيرها نبيةً
من هذه الآية وأشباهها قال من قال بأن مريم كانت نبية؛ إذ جبريل لا يرسل إلا إلى الأنبياء والرسل، وهذا رأي طالما اختلف فيه الأئمة واختلفت فيه المذاهب، ولكن من يقول بأنه قد كان في النساء نبيات أدلتهم ظاهرة من القرآن وقصصه وآياته، ومريم قد جاءها جبريل رسولاً من عند الله، فخاطبها وخاطبته وكلمها وكلمته، وبلغها رسالة ربه فكانت بذلك نبية، وليس من النساء رسول، وفرق بين النبي والرسول، فالنبي عبد لله أمر بشرع في نفسه ولم يكلف بتبليغه للناس، والرسول نبي أمر بشرع وكلف بأن يبلغه لغيره.
فعلى ذلك فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، ومريم نبية وليست برسول.
قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ} [مريم:19] وفي القراءات السبع: ليهب لك، فسواء كان التعبير عنه أو عن ربه فالمعنى واحد، أي: ليهب لها ويعطيها ويكرمها، {لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19] أي: تقياً صالحاً ونبياً مباركاً، زكت أخلاقه وأعماله وعباداته وطاعته، وكان من أكرم الناس وأتقاهم وأكملهم، فقالت مريم إذ ذاك بعد أن اطمأنت: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم:20].
أي: يا أيها الرسول كيف سيكون لي ولد وأنا امرأة لستُ ذات زوج ولا بغيًّا فأزني، ولم يسبق أن مسني بشر لا بحلال ولا بحرام، والولد لا يتكون إلا من نطفة الرجل وأنا لا أعرف في حياتي زوجاً ولا خليلاً، والخليل لا يليق بي؟! فقوله تعالى: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم:20] أي: لم يتصل بي ولم يجامعني رجل بزواج أو كتاب أو عقد، فأنا لا أزال عذراء بكراً (ولم أك بغياً)، ولا يليق بي ذلك، فكيف سيكون هذا الولد ومن أي شيء سيتكون؟! وإذا بجبريل يجيب: {قَالَ كَذَلِكِ} [مريم:21] أي: كما تعتقدين أن الله سيرزقك وسيهب لك غلاماً بلا مس من رجل ولا من حرام ولا حلال، كذلك ستلدين وأنت عذراء ومحسنة وصالحة وبريئة.
قال تعالى: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم:21] فكونك ستلدين بلا زوج ولا خليل ولا نطفة رجل فذاك الذي سيحصل، والله قادر على كل شيء وهو عليه هين، وهذا قد مضى في قصة زكريا عندما دعا ربه بأن يرزقه غلاماً على كبر سنه، وعلى بلوغ زوجته السن الفانية، بحيث رق عظمه ووهى، وتساقطت أسنانه، وأصبح جلداً على عظم، وامرأته مسنة عاقر، فلما دعا ربه استجاب له ربه فقال {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران:40]، فقال له جبريل: {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9].
وكذلك يجب أن تعلمي يا مريم أن الله خلق آدم بلا أب ولا أم، وخلق حواء من أب بلا أم، وهو قادر على أن يخلق ولداً بلا أب، وذاك من قدرته وبديع صنعته وعالي أمره جل جلاله وعز مقامه، فإذا أراد شيئاً لا يكلفه أكثر من أن يقول له: كن فيكون.
قوله: (كذلكَ) هذه الكاف ليست من اسم الإشارة، فاسم الإشارة ذا، لكن هذه الكاف تضاف إليها وتكون حسب المخاطب، فإن كان المخاطب ذكراً مفرداً فيقال: ذاكَ، وإن كان المخاطب مذكرين أو مؤنثين فيقال: ذاكما، وإن كان مؤنثاً مفرداً يقال: ذاكِ، وإن كان جمع ذكور يقال: ذالكم، وإن كان جمع إناث يقال: ذالكن، واسم الإشارة بحاله لا يتغير وهو (ذا).
فهذا الذي تتعجبين منه يا مريم سيكون، فهو من قدرة الله، وأعجب منه أن أباك الأول آدم وأمك الأولى حواء قد كان آدم بلا أب ولا أم، وكانت حواء من أب بلا أم، وهذا سيكون من أم بلا أب، وقدرة الله صالحة لكل شيء جل جلاله، فهو الذي يصنع العادة.
قال تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً} [مريم:21] أي: علامة على قدرة الله وبديع صنعه، ورحمة من الله للخلق، حيث سيأتيهم فيدعوهم إلى الله الواحد؛ ليفردوه بالعبادة، وليخصوه بالطاعة.
قال تعالى: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21] أي: سبق ذلك في علم الله وقضائه أنه لا بد منه، وسبق أن قلنا في أكثر من مناسبة: إن اللوح المحفوظ لوحان: لوح من قبل الله لا يراه إلا هو، ولوح من قبل جند الله الملائكة يراه الله وملائكته، فما كان في اللوح الذي من قبل الملائكة فهو الذي يقول الله فيه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، أما اللوح المحفوظ الذي لا يراه إلا هو فيقول عنه: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:29]، فاللوح الذي من جهة الملائكة يعتريه المحو والإثبات، ويرد فيه الدعاءُ القضاءَ، ويرده البر والطاعة خاصة دعوة الأبوين عن ظهر غيب، فتزيد السن وتنقص، ويزيد الرفق وينقص، ويتغير ما في اللوح.
أما اللوح الذي من قبل الله الذي لا يراه إلا هو فهو ما يقول عنه: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، وهو ما حدث في الإسراء النبوي عندما أمر صلى الله عليه وسلم بخمسين صلاة في اليوم والليلة، فعندما نزل إلى موسى قال له موسى: ما الذي أمرك به ربك وأمر أمتك؟ قال: أمرني بخمسين صلاة، قال: ارجع إليه فإن أمتك لا تستطيع ذلك، وبقي يصعد وينزل، والله ينقص له خمساً، ثم خمساً، ثم خمساً إلى أن أصبحت خمساً فقط من خمسين، فقال له عند ذاك: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:29] أي: تلك الخمسة هي المكتوبة في أم الكتاب، فاللوح المحفوظ من قبل الله الذي لا يعتريه محو، ثم قال الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: هي خمس في الأداء وخمسون في الأجر والثواب، والحسنة بعشرة أمثالها.
قال تعالى: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21].
أي: وكان هذا من القضاء الثابت: أن نفخ جبريل في جيب قميصها نفخة وصلت إلى فرجها ودخلت في رحمها، فكان من تلك النفخة الحمل.(21/4)
تفسير سورة مريم [22 - 34]
عندما حملت مريم البتول بنبي الله عيسى عليه السلام، جاءها المخاض إلى جذع النخلة فولدته ثم جاءت به قومها فأخذوا يتهمونها ويقذفونها، فكانت تشير إلى هذا المولود، فإذا به يكلمهم بأنه مرسل وأن الله جعله مباركاً أينما كان.(22/1)
تفسير قوله تعالى: (فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً)
قال تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم:22].
أي: شعرت مريم بالوحم وبتغير الحالة، وإذا بها تنتقل من غم وهم إلى غم وهم أكثر، إذ أخذت تتساءل: أنا منفردة في المعبد ولا أحد فيه إلا يوسف، فماذا سيقول الناس عندما يبلغهم الحمل؟ لعلهم سيقذفونها ويعيرونها ويرتابون في دينها، وهذا الذي خافت منه وقع، فأول من ارتاب وشك خادم المعبد يوسف النجار، فقال لها يوماً: يا مريم! هل تنبت شجرة بلا حب، ويكون ولد بلا أب؟ قالت: نعم، قد كان آدم بلا أب ولا أم، وكانت حواء بأب فقط، والله قادر على كل شيء، فسكت، وأدرك أنها فهمت عنه، ولم يزدها تصريحاً بما يشكك في دينها.
فقوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم:22] أي: ابتعدت وزادت خلوة في مكان بعيد، قالوا: إنه بيت لحم، وهناك روايات في السنة النبوية ليست بثابتة ولكن ذلك وافق ما في الكتابين التوراة والإنجيل: أن ذلك قد كان في بيت لحم.
قال تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:23].
قال البعض: كان الحمل لحظات، وقال البعض: ثمانية أشهر، وقالوا غير ذلك، ولكن من المؤكد أن الحمل كان كالحمل العادي تسعة أشهر كاملة، بالوحم وبالنطفة ثم العلقة ثم المضغة المخلقة وغير المخلقة إلى أن أصبح جنيناً يتحرك، ثم أصبح وليداً فخرج من رحمها.
قال تعالى: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23] لما جد الجد أدركها الخوف والرعب من قومها، فجاءها المخاض، أي: حملها المخاض وألجأها وكأنه أسرع إليها وفاجأها إلى جذع النخلة، قد كانت قريبة من جذوع نخل قد يبست وماتت ولم يبق إلا غصونها لا تمر فيها، فجاءت إلى جذع من هذه الجذوع واستندت إليه، وليس معها إلا الله، ومع وجع ولادتها ومخاضها وآلام الطلق كانت تعتمد وتتكل على هذا الجذع فقالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ} [مريم:23] تتمنى لو أنها لم تكن حية لهذا اليوم الذي ستلد فيه بلا زوج، فما الذي سيقول عنها قومها وعشائرها وهي بنت الأنبياء الصالحين! وهي لم تعرف إلا بالعبادة والصلاح والتقوى! وكيف سيقولون عندما يرون الوليد معها، قال تعالى: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23] أي: كنت شيئاً هالكاً مهملاً لا يلفت نظراً ولا يهتم بوجوده أحد، ولأن أكون هذا الشيء المهمل الذي ينساه الناس ولا يهتمون به ولا يلتفتون إليه خير لي من هذا البلاء والفتنة في الولادة من غير فحل.
قال تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم:24].
قال أكثر المفسرين: المنادي هو جبريل، فقد كانت هي عند جذع النخلة، وكان هو يشرف على ولادتها من بعيد في أسفل الوادي، وفي هذه الحالة الحرجة نادى جبريل من أسفل الوادي ليقوي معنوياتها ويثبتها ويؤكد لها البشرى التي جاء بها من الله؛ لأنها ستلد نبياً يكون علامة ورحمة ومرجعاً لبني إسرائيل.
وقال مفسرون آخرون: الذي كان يناديها من تحتها هو وليدها عيسى وهو لا يزال طفلاً جميلاً، وإذا بها تسمع نداءه: {أَلَّا تَحْزَنِي} [مريم:24] أي: يجب أن تستبشري وتفرحي وتقابلي ربك بالسرور والفرحة لا بالحزن والآلام وتمني الموت، فمن سنة نبينا أنه لا يليق بالإنسان أن يطلب الموت من بلاء نزل به، ومع ذلك كثير من السلف الصالح عندما فتنوا في أنفسهم ودينهم دعوا الله بالموت.
وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو عند الفتنة بالدعاء النبوي الصحيح الثابت في الصحيحين وبقية الكتب الستة: (اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خير لي)، والخير والشر لا يعلم نهايته إلا الله، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام علمنا أن ندعو بالحياة ما دامت الحياة خيراً لنا في ديننا ودنيانا، ونطلب الممات إذا كان الموت خيراً لنا في ديننا ودنيانا، إذ الفتنة في الدين بلية ومصيبة، وقد يرتد الإنسان من أجلها عن دينه، فيكون الموت خيراً له في دينه ودنياه.
وهكذا حصل للسيدة مريم حيث تمنت الموت من هذه الفتنة التي ابتليت بها، من كونها ولدت غلاماً ولا زوج لها، فماذا سيقول الناس؟ فلما ألجأها المخاض إلى جذع النخلة الميت الذي لا تمر فيه؛ تمنت الموت، فناداها من تحتها جبريل أو ناداها عيسى: {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم:24].
فعيسى هو السري النبيل الكريم الشاب الصالح، الذي سيكون علامة وآية من آيات قدرة الله، ويكون رحمة للناس.
فمن قال: إن جبريل هو الذي ناداها، فالمعنى: قد أكرمك بهذا السري، أي: السيد الجليل والنبي الكريم، ومن قال: إن المنادي ولدها عيسى قال: السري هو النهر الصغير، أي: الجدول الجاري من الماء، فقوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم:24] أي: قد جعل وادياً جارياً بالماء.(22/2)
تفسير قوله تعالى: (وهزي إليك بجذع النخلة)
قال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25] تُساقِطْ أو تَسَّاقَطْ، وأصلها: تتساقط، وكلتا القراءتين سبعيتان متواترتان.
والنخلة الحية ذات السعة والتمر لا يعبر عنها بالجذع، ولكن بقدرة الله جعل الله ذلك الجذع نخلة حية ذات تمر وثمر في غير وقته، وجعل الماء تحتها حتى لا تتعب ولا تتكلف وهي نفساء من ساعتها، فتبحث عن الماء وعن الطعام وهي في خلوتها ليس معها أحد إلا الله، فحول الله الجذع إلى نخلة حية تحمل لذيذ التمر وشهيه، وجعل تحتها نهراً جارياً عذباً سلسبيلاً، فقال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25] أي: مجنياً يتساقط بين يديك شهي المطعم.
قال تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم:26] أي: كلي من الرطب واشربي من الجدول وقري عيناً ولا تحزني، يقال: فلان قرت عينه، أي: برد دمعها، ويكون ذلك عند الفرح والبشريات، ويقال: سخنت عينه، ولا يكون ذلك إلا عند الأحزان، إذ يكون الدمع ساخناً، فإذا قيل: قرت عينه فهو خبر عن أفراح ومسرات وبشائر، وإذا قيل: سخنت عينه فهو دعاء بالبلاء والامتحان، حتى يتساقط الدمع منه وهو ساخن لحزنه وألمه.
وهنا قال الله لها أو قال جبريل عن الله: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم:26] أي: لا تحزني ولا تقلقي، فهذا الطعام والشراب من الله، ومن المعلوم أنه قد مضى معنا في سورة آل عمران أن زكريا زوج أختها كان يدخل عليها المحراب فيجد عندها رزقاً، فيقول لها: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران:37] فتقول: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، فكان هذا قبل أن يأتيها الوحي، فكانت تأتيها فاكهة الصيف في وقت الشتاء، وفاكهة الشتاء في وقت الصيف كرامة من الله لها ورعاية، وهذا من باب أولى عندما أصبحت نبية أم رسول ونبي من أولي العزم.
{فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]؛ لتريح نفسها من كثرة السؤال والجواب، ومن كثرة الفضوليين: من أين لك هذا الوليد؟ وكيف ولدتيه؟ أزنيت يا مريم؟ أيليق هذا بك؟ من أبوه؟ أيليق بك أن تجعلي أباك وأمك موضع سوء وريب عند الناس؟ فقال الله لها: {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} [مريم:26] ومعنى ذلك: أنها لم تمنع من كلام الملائكة، فكانت تكلم جبريل ويكلمها؛ لأنهم يعلمون قصتها وحقيقة ولادتها، ولكن البشر لا يعلمون ذلك، ولن يعلم الكثيرون ما داموا معرضين.
فأمرها الله جل جلاله ألا تخاطب إنسياً قط، وتشير بأنها نذرت لله صوماً ألا تكلم اليوم إنسياً؛ والصوم: هو الإمساك، فيقال: صام عن الطعام، أي: أمسك عنه، وصام عن زيد، أي: أمسك عن مخاطبته، وصام عن الكلام، أي: لم يتكلم، فهي أشارت إليهم بأنها نذرت لله صوماً، وكان ذلك في شريعتها، أما في شريعتنا فإن ذلك لا يجوز.
يروى أن أبا بكر جاءته امرأة ساكتة فكلمها فلم تجب، وألح عليها فلم تجب، ونهرها فلم تجب، فعندما أكثر عليها أخذت تشير فقال لهم: ما بالها؟ قالوا: إنها نذرت الإمساك عن الكلام، فهددها بالتعزير والضرب إن بقيت كذلك فتكلمت، فلا يوجد في شريعة الإسلام الصيام عن القول إلا ما كان عن القول الباطل وقول الزور، كما قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]، فالكلام الكثير لغو باطل لا خير فيه.
فولدت مريم وهي عند جذع النخلة، وأخذت تهز إليها النخلة فتتساقط رطباًً، وتشرب من الجدول عند رجليها، ومن هنا قال علماؤنا: الرطب خير الطعام للنفساء، كما أن العسل خير الطعام للمرضى، فالله جل جلاله أمرها عن طريق جبريل ألا تنطق ولا تتكلم مهما رأت أحداً من البشر، وتشير بأنها قد نذرت الصيام عن الكلام.
ولكن بعد ذلك حملت وليدها على كتفها: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم:27] جاءت قومها وهي تحمل وليدها، جاءت العابدة التقية الصديقة البكر العذراء التي لا زوج لها، جاءت تحمل وليدها وإذا بالقوم يقومون إليها كالأوباش فقالوا: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:27 - 28]، نادوها وهي تحمل الوليد وقالوا لها: يا مريم! لقد جئت شيئاً عظيماً أتيت جرماً وذنباً جليلاً.
قال تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} [مريم:28] أي: لم يكن أبوك فاحشاً ولم يكن سيئاً ولا زانياً، قال تعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] وكذلك أمك كانت صالحة قانتة لم تكن زانية ولم تكن مسافحة، فمن أين أتيت بهذا البلاء وبهذه الفرية العظيمة؟ قوله: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] زعم قوم وأبعدوا في ذلك أنها أخت هارون أخي موسى نبي الله، فالأخوان نبيان ورسولان: موسى وهارون، وهذا زعم من لم يعرف عن سير وتاريخ الأنبياء شيئاً، فلقد كان ما بين موسى وهارون وما بين أيام مريم القرون السحيقة.
وقال قوم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] أي: كان فيهم رجل يسمى هارون، وكان يضرب به المثل في صلاحه وتقواه وعبادته، فكانت تشبهه، فأخذوا يهزءون بها ويقولون: ما هذا الوليد الذي أتيت به على كتفك؟ وكلا القولين ليس بصحيح.
والقرآن نزل بلغة العرب، فالعربي يقول للقرشي: يا أخا قريش! أي يا من أنت تنتسب إلى قريش، ويقول للتيمي: يا أخا تيم! ويقول للعربي عامة: يا أخا العرب! كذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] أي: أن المبذرين كانوا إخوة للشياطين في أعمالهم؛ لأنهم انقلبت حقيقتهم من إنس إلى جن فأصبحوا إخوة لهم من الأب والأم، والشبه يكون في الخير والشر.
فـ مريم عليها السلام معروف عنها أنها ابنة الأنبياء والرسل، وأنها من سلالات موسى وهارون إلى يعقوب فإسحاق فإبراهيم عليهم الصلاة والسلام.
فقوله: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] أي: يا ابنة الأنبياء! يا من تنتسب إلى الصالحين من قومها، ما هذا البلاء الذي أتيت به؟ قال تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28]، والبغي: الزانية، وامرأ سوء أي: فاحش سيئ لا يصلح، بمعنى كانت بيئتك صالحة وأبواك صالحان، فمن أين هذا البلاء وهذه الفاحشة؟! قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:29] أي: لم تجبهم، فقد أمرها الله ألا تكلم اليوم إنسياً، أي: تصوم عن الكلام وتنقطع عن الحديث مع أي إنسان.
فقوله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:29] أي: إلى عيسى، وإذا بهم يصيحون: أتهزئين بنا؟ أتطلبين منا مخاطبة الأطفال، ألم يكفك ما أتيت به من فحشاء وبغي؟ وإذا بالمشار إليه عيسى يتكلم، وبذلك كان عيسى سلسلة معجزات وسلسلة غرائب وعجائب منذ أن خرج إلى أن رفع إلى السماء.
قوله تعالى: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم:29] إما أن يكون في المهد بجانبها في المكان الشرقي القصي من قومها، وإما أن يكون المهد حضنها، قالوا لها: أتهزئين بنا؟! كيف تطلبين منا أن نكلم صبياً لا يزال في المهد، ومتى كان الصبيان في المهد يتكلمون؟!(22/3)
تفسير قوله تعالى: (قال إني عبد الله آتاني الكتاب)
قال الله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:30 - 33].
حاضرهم بمحاضرة وأعطاهم درساً، فوقفوا مندهشين: متى كان الأطفال في المهد يتكلمون؟ ففي هذه الآيات رد على اليهود الذين اتهموا أمه بالزنا، وقالوا عنه: هو ابن يوسف النجار، كذبوا وأفكوا لعنات الله عليهم تترى، وكذب النصارى عندما زعموا أنه الإله، وأنه الرب، وأنه ابن إله، وأنه ثالث ثلاثة، فكذبوا وفجروا، عليهم كذلك لعنات الله تترى.
فكان أول ما قال من الدرس الذي أعلنه بين المحبين والمبغضين، وبين المؤمنين والكافرين أن قرر حقيقة من الحقائق: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30] فرغم ما رأيتم مني وما سترون بعد، فأنا عبد لله وخلق من خلقه، أرجو رحمته ومغفرته، وأعوذ من نقمته وعذابه.
قال تعالى: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} [مريم:30] أي: علمه التوراة، ومن هنا يقول النصارى: العهد القديم والعهد الجديد، ويعنون بالعهد القديم التوراة، وبالعهد الجديد الإنجيل، فهم يهود أولاً، ثم زادوا إفكاً وأكاذيب في الإنجيل عندما حرفوه وبدلوه وغيروه عما أنزل عليه.
فقوله: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} [مريم:30] أي: آتاني التوراة وأنا في هذا العمر، وعلمني وأقرأني وفهمني إياه.
قوله: {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30] أي: جعله نبياً وهو لا يزال طفلاً، ولا يتكلم بهذا إلا الأنبياء، ولا يتكلم الأطفال بهذه اللغة، فتلك معجزة وعلامة وآية من آيات الله.
قال تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31] أي: جعله مبارك الطلعة، ومباركاً في بيته وقومه، ومباركاً في السماء وعند النزول إلى الأرض.
قال تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم:31] أي: أمره الله وأكد عليه في الوصية بأن يصلي لله صلاة كانت من شريعته، أي: أوصاه بالطاعة والعبادة والتهجد والسجود والركوع والابتهال إلى الله.
{وَالزَّكَاةِ} [مريم:31] أي: أوصاه أن يزكي من ماله وقوته وقدرته، والزكاة: التنمية في كل شيء، فتكون الزكاة في المال والمواد، وتكون في المعاني كالشجاعة والنبل والغيرة والكفاح وكل ما يتعلق بذلك، فالآية تشمل كل هذه المعاني.
قال تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31] أي: أوصاه ما دام حياً أن يصلي لله، وأن يزكي لله، ولا ينقطع عن ذلك مدة حياته، كما قال الله لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، واليقين: هو الموت، أي: كن يا محمد! عابداً صالحاً زاهداً آمراً بالمعروف نهاءً عن المنكر، ودم على ذلك إلى أن يأتيك الموت.
قال تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32] أوصاه بأن يكون براً بأمه لا يعصيها في معروف، بل يحسن معها القول والعمل والأدب.
قال تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32] أي: لم يجعلني من جبابرة الأرض: أقتل عند الغضب، وآخذ المال عند الغضب، وأعتدي على أموال الناس ونسائهم وأرزاقهم، فلم يجعلني جباراً شقياً، ولا شك أن كل جبار شقي، والشقي: هو البعيد عن الرحمة، السيئ الفاسد الظالم الجائر، وأنبياء الله قد أكرمهم الله من ذلك.
قال تعالى: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:33] قال ما بلغه الله أن يقوله بأن السلام والأمان عليه يوم ولادته، إذاً: فعيسى ليس رباً، فالرب لا يولد، وهو القديم بلا بداية الآخر بلا نهاية، أما عيسى فقد كانت له بداية وستكون له نهاية.
فقوله: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} [مريم:33] أي: الأمان واليمن والسلامة من وسواس الشيطان وظلم الإنسان والفساد الحاصل بينهم، وسيموت كذلك، والإله لا يموت، فهذا كله مما يؤكد أنه ليس برب كما زعم النصارى، وإنما هو عبد لله ونبي رسول يولد ويموت، ويسلم كذلك من العذاب والنقمة والغضب.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:33] أي: ويوم البعث عندما يحيا مرة ثانية عليه الأمان من الله، والأمان من الغضب واللعنة ودخول النار، فهو آمن من كل ذلك، فالله يرحمه ويرضى عنه ويدخله الجنة، ويكرمه بما يكرم به الأنبياء والمرسلين.(22/4)
تفسير قوله تعالى: (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق)
قال تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم:34].
ذلك كل ما تعلق بـ مريم منذ ابتعادها عن أهلها في مكان قصي، ومنذ حملها لعيسى وولادتها له إلى أن جاءت به تحمله، فتكلم الصبي في المهد وقال عنها قومها ما قالوا.
فذلك حال عيسى ابن مريم {قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم:34] لا كما قال اليهود لعنهم الله: إنه من سفاح، ولا كما قال النصارى لعنهم الله: إنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، فكل ذلك كذب وفجور.
فقوله تعالى: {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم:34] قول الحق: مفعول مطلق، أي: ذلك القول مما قاله الله وقرره وبينه، فعيسى نبي رسول من الخمسة أولي العزم، وذلك بيان ما كانوا يمترون فيه ويتشككون ويرتابون، وليسوا على يقين مما يزعمون ويرتابون.
فعيسى الذي يتشككون في حقيقته وهويته وإنسانيته وعبوديته لله ليس إلا عبداً لله، ولد كما يولدون، وسيموت كما يموتون، ويبعث كما يبعثون، ذلك الحق الذي يزيل الريب والشك من أنفس هؤلاء وكل الأحزاب.(22/5)
تفسير سورة مريم [35 - 40]
كذب الله النصارى وغيرهم في زعم الولد لله تعالى، ونزه نفسه عن ذلك، وذكر أنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.
ثم ذكر اختلاف النصارى واقترافهم من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، ثم هدد وتوعد الذين كفروا وظلموا من مشهد يوم عظيم.(23/1)
تفسير قوله تعالى: (ما كان لله أن يتخذ من ولد)
قال الله جل جلاله: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:35 - 36].
بعد أن علمنا الله جل جلاله وقص علينا قصة زكريا وقصة ولده يحيى، وقصة خلق عيسى من غير أب، ختم الله ذلك بقوله: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم:35] أي: لا يليق بجلاله ولا يليق بحق ألوهيته ولا بصفاته أن يكون الرب أباً كالمخلوقات.
قال تعالى: {سُبْحَانَهُ} [مريم:35] فالله ينزه نفسه جل جلاله عن أن يشبه خلقه في ولد أو ولادة أو في شيء مما يتعلق بالمخلوق، فالله هو الخالق والرازق والذي أكسب هؤلاء قوة ليكون لهم أولاد وصواحب، وأما هو جل جلاله فهو منزه عن ذلك ومعظم عنه فلا يليق به ولا بألوهيته، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
قال تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} [مريم:35] أي: إذا سبق في علمه وقضائه وإرادته أن يكون له أمر كأن يخلق شيئاً، فهو لا يحتاج لصاحبة ولا ولد، وإنما يقول للشيء: كن فيكون، فالله لا يريد ولداً ولا يليق بجلاله أن يكون له ولد من حمل أو من غير حمل.
فعيسى عليه السلام كان من نفخة الروح، فحملته أمه تسعة أشهر ثمَّ ولدته كما يلد النساء حملاً ووحماً وعذاباً ومخاضاً وولادة، والله جل جلاله لا يحتاج لذلك ولا يليق به أن يكون له ولد، {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم:35] أي: إذا تعلقت إرادته وقدرته بالشيء، فيكفي أن يقول له: كن فيكون، فكما خلق آدم من تراب وحواء من ضلع آدم، وخلق السماوات العلا والأرضين السفلى وما بينهما، فلم يحتج إلا إلى قوله: كن فكان ذلك، ولا يزال الخلق مستمراً، ولا يزال الله وسيبقى الخالق المدبر الرازق المعطي المانع المحيي المميت، فكل ما يريده جل جلاله لا يحتاج منه إلى أكثر من قوله له: كن فيكون.
يقول عيسى عليه السلام: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:36]، وقرئ {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [مريم:36] عطف على قول عيسى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31] أي: وأوصاني بأن اتخذ الله رباً؛ لأن الخلق جميعاً مربوبون فما خلقنا إلا لعبادته، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
فعيسى عندما ولد طفلاً رضيعاً أنطقه الله تعالى وآتاه الحكم والكتاب والنبوة صبياً، فكان أول ما قال: إنه عبد الله، وهنا يؤكد ذلك ويقول لنفسه وللناس: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [مريم:36] أي: إن الله جل جلاله هو ربي وخالقي ورازقي، فهو يزيف بذلك ما زعمه النصارى عنه من أنه الرب أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً.
فقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} [مريم:36] أي: كما هو خالقي فهو خالقكم، وكما هو رازقي فهو رازقكم، والأمر بيده إحياءً وإماتةً.
فالله جل جلاله أنطق عيسى عند الطفولة وهو لا يزال في المهد: أن يكذب ما سيكون بعد ذلك من اتهام اليهود له، وقذفهم له أنه ابن يوسف النجار، أو غلو ومبالغة النصارى عندما جعلوه الله وعبدوه، فعيسى قد قال عن نفسه: إنما أنا عبدٌ لله، وربي الله كما هو ربكم، فلا يعبد سواه، ولا ينزه سواه، ولا يعظم سواه جل جلاله.
قال تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:36] يقول عيسى: هذا الذي أتيتكم به صراط سوي واضح بين، ليس فيه عوج ولا أمت، وهو يدعو إلى عبادة الله الواحد، فالكل عبيد له ومخلوقون له، وأن دينه الذي أتى به دين سوي مستقيم لا يفسد على الناس عقولهم.(23/2)
تفسير قوله تعالى: (فاختلف الأحزاب من بينهم)
قال تعالى: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم:37].
مع هذا الذي أعلنه عيسى في بني إسرائيل من أتباع التوراة والإنجيل فقد اختلفوا، ولذلك فإن النصارى يقولون عن التوراة: العهد القديم، وعن الإنجيل: العهد الجديد، فلا تزال التوراة بالنسبة لهم غير منسوبة، والإنجيل مؤكد.
ومن هنا نعلم أن النصارى كانوا يهوداً أولاً ثم صاروا نصارى، فزادوا على فساد اليهودية وخزعبلاتها، وحرفوا كتاب الله الإنجيل، وقد جمعوا بين الشرين كما جمعوا بين الكفرين.
قال تعالى: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم:37] أي: اختلف قوم عيسى إلى أحزاب وطوائف ومذاهب، فكانت النصرانية موضع خلاف عند المتمسكين بها والعابدين على أساسها، فشكل قسطنطين وهو من كبار ملوكهم مؤتمراً ليخرج منه بشيء خاص يدعو إليه جميع النصارى، فاجتمعت أحزاب النصارى كلها، فقال بعضهم: عيسى هو الله، وقد قص الله علينا ذلك في كتابه، وقال قوم: هو إله وابن إله، وقال قوم: هو ثالث ثلاثة، وقد كذبوا جميعاً وأفكوا، حاشى لله من هذا القول، فاختلفوا إلى طرائق قدد كفراً منهم وجحوداً.
قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم:37] أي: كفروا بما أنزل الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وأنه كمثل آدم خلقه الله من تراب، ثم قال له: كن فكان، فكان عيسى فرعاً من آدم، فكما خلق آدم بلا أب ولا أم خلق عيسى من أم بلا أب، وخلق حواء من ضلع آدم.
فأحزاب النصارى كفروا بما أنزل الله، وأن عيسى عبد الله ونبيه، وابن الصديقة مريم، وأن الله واحد لا شريك له، ولا يليق أن يكون له ثان جل جلاله وعلا مقامه.
فقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم:37] أي: ويل للكافرين بالحق وبالوحدانية، والويل: نهر من قيح في النار، ومعناه: يا مصيبتهم، ويا بلاءهم يوم يدخلون النار فيكون شرابهم من قيح جهنم، ويخلدون فيها أبداً سرمداً إذا هم ماتوا على الشرك والوثنية.
واليوم العظيم: هو يوم القيامة، يوم العرض على الله، ويوم الحساب يوم يكون فيه قوم إلى الجنة وقوم إلى السعير، ويوم يعرض الناس على ربهم في يوم كألف سنة مما تعدون، ويكون اليوم عظيماً شديداً يشتد فيه العرق على المعروضين على الله جل جلاله، فالبعض يصل عرقه إلى كعبيه، والبعض إلى ساقيه، والبعض إلى ركبتيه، والبعض إلى ثدييه، والبعض يلجمه العرق إلجاماًَ.
ويكون في هذا اليوم من ميزة المؤذنين أن تكون أعناقهم طويلة، فمهما بلغهم العرق فإنه يبقى الرأس وما فيه من حواس بمنجى من الاختناق بماء العرق، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)، ومن لم يعلم هذا لا يعلم معنى الحديث، فكونهم دعاةً إلى الله وإلى عبادته ويؤذنون لدخول الوقت أكرموا بذلك.(23/3)
تفسير قوله تعالى: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا)
قال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم:38].
يقول الله عن هؤلاء الكافرين الذين لهم آذان لا يسمعون بها، وأبصار لا ينظرون بها، وقلوب لا يفقهون بها، وهكذا غفلوا وضاعوا، وضلوا عن سماع الحق ورؤيته وفقهه وعلمه، لكنهم لم يكونوا كذلك يوم العرض على الله، فالله يقول: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم:38] أي: ما أشد سمعهم وما أشد بصرهم، فلا تكاد تفوتهم كلمة تقال يوم القيامة، ولا يكاد يفوتهم منظر يوم القيامة، فهم حداد البصر شديدو السمع يوم القيامة، وهم إذ ذاك يرون ما أوعدهم الله به من عذاب أليم ومحنة دائمة، ومن الويل في نار جهنم، فتجدهم كلهم آذاناً وأسماعاً وقلوباً تفقه وتدرك، ولم يكونوا كذلك في دار الدنيا؛ لأنهم عاشوا شاكين مرتابين، ويوم القيامة أصبح الشك حقيقة والخيال واقعاً، وأصبح ما كانوا يكذبون به يعيشون في وقته وحاضره وواقعه.
فقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم:38] أي: ما اشد سمعهم وأقوى بصرهم يوم القيامة، وقد بعثوا من بعد الموت، وعرضوا على الله خالقهم؛ ليحاسب كل مخلوق على عمله إما إلى جنة وإما إلى نار.
قال تعالى: {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم:38] أي: لكن الظالمون أنفسهم بالشرك والكفر والضلال هم اليوم -أي: في دار الدنيا- في ضلال مبين وضياع واضح وفساد بين، فلا يعرفون الحق ولا يريدون أن يعرفوه، فإذا قرئ عليهم كتاب الله أعرضوا عنه وتولوا، وإذا قال لهم رسول من رسل الله: أنا رسول الله إليكم كذبوه وآذوه، وفرقوا الناس عنه، وصدوا عن طاعته، فهكذا هم اليوم في دار الدنيا يعيشون في ضلال واضح وبلاء بين، ولكنهم إذا أتوا يوم القيامة فما اشد سمعهم وما أقوى أبصارهم!(23/4)
تفسير قوله تعالى: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر)
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39].
أي: وانذرهم يا محمد! على ضلالهم وعلى فسادهم وصم آذانهم وعمي أبصارهم، ومعنى: (أنذرهم): خوفهم مما سيكون عليهم إن بقوا هكذا إلى الموت؛ لتكون حجة الله البالغة، وليكون أمر الله هو النافذ، فإذا أتوا ربهم يوم القيامة، وسألتهم الملائكة: ألم يأتكم رسول وينذركم ويبشركم؟ ألم يأمركم وينهكم؟ لم يجرؤ أحد أن يكذب، ولو كذبوا شهد عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم بأنهم كانوا كاذبين.
ويوم الحسرة: هو يوم القيامة، يوم يتحسر المؤمنون ويتحسر الكافرون، والحسرة: هي الندم في شدته والألم في نهايته، يوم يندمون كلهم ولات حين مندم، فيندم المسلمون ويتحسرون؛ لأنهم لم يزدادوا طاعة وإيماناً وإيقاناً وعبادة.
ويتحسر الكافر؛ لأنه طالما أنذر وذكر وهو حي يرزق، وقد يكون بعضهم عمر سنين وأعواماً وقارب المائة أو تجاوزها، ولم يزدد من الله إلا بعداً، وبالأنبياء كفراً، وبكتب الله الحق إبعاداً وتزييفاً وإفساداً، وصداً للناس عنها، ففي هذا اليوم يبعثون ويعرضون على الله، ويسمى بالنسبة لهم يوم الحسرة؛ إذ يتحسرون ويندمون ويتألمون ويتوجعون، ولو أنهم انتبهوا في دار الدنيا فآمنوا بالله على الأقل رباً، وبأنبيائه عبيداً مكرمين رسلاً لكان خيراً لهم، ولكن هيهات فقد سبق السيف العذل، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
فطالما أنذرهم كتاب الله، وأنذرهم الهادي رسول الله، وأنذرهم ورثة الأنبياء العلماء العارفون بالله مثل هذا اليوم، أنذروهم عذاباً وغضباً ولعنة، وما زادهم ذلك من الله إلا بعداً.
قال تعالى: {إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} [مريم:39] أي: الأمر الذي كانوا يرتابون فيه من بعث بعد الموت، وجنة ونار، فيكون قد قضي وتم وعلم أهل الجنة من أهل النار، وأهل الرحمة من أهل الغضب.
ومن هنا يزدادون حسرةً وألماً وندماً، فيمنون أنفسهم بأن العذاب إذا اشتد سيموتون ويستريحون وهيهات أن يكون لهم ذلك، بل يؤتى بكبش فيقال لأهل النار: أتدرون ما هذا؟ فيقولون: نعم، هو الموت، ويقال لأهل الجنة: أتدرون ما هذا؟ فيقولون: نعم، هو الموت، فيذبح الموت، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ويقال لأهل النار: خلود فلا موت، فيزدادون بذلك حسرةً وألماً وتوجعاً.
وكما ورد في الآثار النبوية يفرح المؤمنون يوم ذاك فرحة لم يفرحوا مثلها قط، ويزداد الكافرون حسرة إلى حسرتهم، فمن في النار {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، ومن في الجنة لا يملون ولا يقنطون، فهم من درجة إلى درجة، ويتزاورون ويجتمعون ويتحدثون عن تاريخهم في الدنيا، ويبحث المؤمن عن أهله في الجنة، فإذا وجدوا أهاليهم زادوا بذلك فرحاً وشكراً لله على نعمه وآلائه.
فقوله تعالى: {إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} [مريم:39] أي: إذ تم الأمر الذي كانوا فيه شاكين مرتابين، فيوم القيامة الذي أنكروه سيعيشون في واقعه، والجنة والنار التي أنكروها كذلك سيعيشون في واقعها، فبعضهم في الجنة وبعضهم في السعير.
فعندما يقضى الأمر تبدو حسرة الناس: حسرة المؤمنين أنهم لم يكونوا ازدادوا إيماناً وعبادة، وحسرة الكافرين أن لو كانوا آمنوا ولو باللسان: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] بمعنى: لو أنهم آمنوا بالله لساناً وجناناً حتى ولو لم يعملوا فهم مؤمنون على كل حال ويطمعون، والإيمان كلٌ لا يتجزأ، فعندما يؤمن الجنان تنطق الحواس، وكل حاسة نطقها بحسبها، فعبادة اللسان بالذكر وبالتلاوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا لكل حاسة عبادة.
قال تعالى: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]، فقد كانوا في دار الدنيا غافلين عن هذا القضاء، غافلين عن يوم القيامة لاهين ساهين رغم كونهم سمعوا ذلك أكثر من مرة، وحضروا ذلك أكثر من مرة، ولكنهم لم يستقبلوا ذلك إلا بالاستهزاء والسخرية بأنبياء الله وبالعلماء العارفين بالله، وما زادهم ذلك إلا خسراناً وكفراناً، وهكذا إلى أن وجدوا أنفسهم قد ماتوا ثمَّ بعثوا، عاشوا في الدنيا في غفلة وهم لا يؤمنون بالله رباً ولا بأنبيائه رسلاً.(23/5)
تفسير قوله تعالى: (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون)
قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40].
فيكون الكون قد ماتت فيه كل حركة ونسمة، وأصبح كل شيء تراباً، فمات الملك والسلطان، ومات النفوذ والأولاد، ومات الجند والعشيرة، وعادت الدنيا لما كانت عليه قبل خلقهم خراباً ليس فيها حركة ولا حياة، وفي هذه الحالة يقول الله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] فلا مجيب، فيجيب نفسه بنفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].
يوم يرث الله الأرض ومن عليها ويكون قد مات كل حي قبل البعث، فلا يبقى أحد في الكون: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، ففي هذه الحالة يكون الله هو الوارث، وهو من قبل الخالق، والكل له حتى في وقت ادعاء الملكية، فيرثهم الله ويأخذ ملكهم وقواهم وجيوشهم وجبروتهم وطغيانهم، فكل ذلك لا يبقى له مالك إلا هو، فهو ملك الملوك جل جلاله.
قوله: {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40] أي: هلكوا وماتوا ومرجعهم إلى الله، أي: أنهم يبعثون بعد الموت، وهناك الجميع يتحسرون على عبادة لم يقوموا بها، أو على إيمان لم يقوموا بواجبه، ولم يقوموا بحقيقته، فإن ماتوا وهلكوا لم يبق إلا الله وارث الكون، ثم إليه يرجعون ويبعثون للحساب وللعقاب وللعرض عليه.(23/6)
تفسير سورة مريم [41 - 50]
ومن القصص التي ذكر الله في سورة مريم قصة إبراهيم مع أبيه، فقد دعاه إلى الحق فأبى وكان من الكافرين، فلما رأى سيدنا إبراهيم ذلك من أبيه وقومه اعتزلهم وتفرغ لعبادة ربه، ثم وهب الله له إسماعيل وإسحاق، وحفيده يعقوب.(24/1)
تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إبراهيم)
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:41].
سميت السورة بسورة مريم من باب تسمية الكل بالبعض، فما قصة مريم في السورة إلا جزء منها، فهي قد تحدثت عن زكريا وعن يحيى وعن إبراهيم وعن موسى وعن أنبياء آخرين، ولكنها سميت بـ مريم، وهذه عادة الأسامي سواء في كتاب الله أو في واقع الحال في الدنيا، فنسمي القطر المصري مصر وما مصر إلا مدينة من القطر، ونسمي القطر الجزائري الجزائر وما الجزائر إلا مدينة من مدنها، ويسمي البعض المغرب مراصف وما مراصف إلا مدينة من مدائنها.
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} [مريم:41] يقول الله لنبيه محمد العربي القرشي الهاشمي صلوات الله وسلامه عليه: كما ذكر لك من قبل في هذه السورة مريم وولدها عيسى وزكريا وولده يحيى، اذكر كذلك إبراهيم، وإبراهيم أحد الخمسة أولي العزم من الرسل، وقد كرمه الله تكريماً انفرد به من بين من جاء بعده من الأنبياء والرسل، فجعل في ذريته النبوءة والكتاب، فما من نبي جاء بعده إلا وهو من أولاده وسلالته، سواء كانوا من بني إسرائيل أو كانوا من العرب، فكان إبراهيم هو والد إسماعيل الجد الأعلى لنبينا العربي صلى الله وسلامه عليهم أجمعين.
وكان هو والد إسحاق الجد الأعلى لجميع أنبياء بني إسرائيل إلى عيسى، فإبراهيم جد مريم، ومريم كذلك من بنات إسرائيل.
وهو خليل الله، وأحد أولي العزم من الرسل، ولا نبي أفضل منه إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، فهو أشرف الأنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر).
وإذا كان إبراهيم خليل الله فقد كان نبينا خليله وحبيبه، ولقد قال عن صديقه وصاحبه أبي بكر الصديق: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلاً).
قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:41] كان صادق القول والوعد والإشارة، صادقاً في الحرب والسلام، صادقاً في دعوة أبيه وقومه إلى الله، ودعوة أعدائه وخصومه إلى الله، كل ذلك سواء، فلم تشغله حالة عن حالة.
ويذكر الله لنا أنبياءه ورسله وعباده المكرمين ليكونوا أسوة لنا، ولنهتدي بهديهم ونجعلهم أئمة، وقد كانوا قبل ذلك أسوة رسول الله عليه الصلاة والسلام فيما لم يشرعه الله خاصة لنبيه من شريعة وآداب وسلوك، ونحن أسوتنا رسول الله، ومن كان أسوته رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مقتدٍ بجميع الأنبياء قبله، قال تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90].
قوله تعالى: {نَبِيًّا} [مريم:41] أي: من أنبياء الله الذين أوحى الله إليهم بشريعته وأمرهم بتبليغها، فهو نبي ورسول، وسبق أن قلنا: إن النبي هو من أوحي إليه بشريعة ولم يؤمر بتبليغها، والرسول: من أوحي إليه بشريعة وأمر بتبليغها، فنبينا إبراهيم نبي ورسول معاً، فقد ذكر في هذه السورة بالنبوءة، وذكر في آيات أخر بالنبوءة والرسالة معاً.
فقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} [مريم:41] أي: في القرآن الكريم، {إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:41]، فالصديق صيغة مبالغة من كثرة الصدق والديمومة عليه، والبعد عن كل ما يشينه من الكذب إشارةً أو تلميحاًَ أو غير ذلك، كل ذلك قد برأ الله إبراهيم منه.(24/2)
تفسير قوله تعالى: (إذ قال لأبيه يا أبت)
قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42] أي: واذكر إبراهيم في حالة {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]، فأول ما ابتدأ في دعوته دعوة أبيه آزر، وكون آزر هو الأب أو العم قد مضى هذا مفصلاً في مناسبة سابقة.
والمعنى: واذكر إبراهيم في الحالة التي يدعو أباه فيها إلى التوحيد، ويقول له: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42] أي: لماذا يا أبي تعبد أحجاراً وأصناماً وأوثاناً لا تسمع، وإن دعوت بصرها إلى النظر لا تنظر، وإن احتجتها في فقر أو ذل أو نصرة لا تغني عنك شيئاً؛ لأنها جماد مخلوقة.
فقوله تعالى: {مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42] أي: لا يفيدك في شيء، ولا يغني عنك في ستر ولا ذل ولا مرض، ولما كان الأمر كذلك فلم تعبدها؟ ولم تتعلق بها؟ أتترك الخالق الرازق السميع البصير الذي يغني عنك في كل شيء، فإذا سألته أجابك، وإذا استوهبته وهب لك، وإذا طلبت منه العافية عافاك؟! أتترك من بيده الأمر والنهي إلى أوثان وأصنام لا تغني عنك شيئاً؟! قال تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43].
أي: يا أبت أنت أبي وأكبر مني بطبيعة الحال، وأنا ابنك والأصغر منك بطبيعة الحال، ولكن الله اختارني وعلمني وعرفني به، وأعطاني الأدلة على وحدانيته وعلى كونه المعبود الحق، وكل ما سواه سراب في سراب وباطل في باطل.
قوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ} [مريم:43] أي: من العلم بالله والمعرفة به، والعلم بالتوحيد وبالدنيا ومن خلقها، والعلم بالحقائق والتمييز بين الحق والباطل ما لم يأتك منه شيء لا قليل ولا كثير، والعلم الذي جاءني وأكرمني الله به يؤكد أن الله وحده الخالق الرازق، وأن الله وحده المعطي، وأن الله وحده السميع البصير المغني في كل شيء عن كل شيء، وعلى ذلك اتبعني واجعلني أسوتك وقدوتك وإمامك.
ومن العادة أن يفخر الآباء بالأبناء عندما يصلون إلى رتبة علية، فما هم إلا جزء منهم، وقد قال السيد المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فاطمة بضعة مني يسرني ما سرها، ويسوءني ما ساءها)، فهي ابنته وباعتبارها كذلك فهي قطعة منه.
فالفرع تابع للأصل، فكان ينبغي لـ آزر أن يسر ويفرح بكون الابن هو الذي يدعوه، وهو الذي خص بهذا وأكرم به، فلو اتخذ الولد إماماً وأسوة فإنه يكون كمن تبع جزءه، واتباع الجزء اتباع للكل.
قال تعالى: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43] أي: صراطاً سليماً وطريقاً بينة واضحة لا اعوجاج فيها ولا أمت.
قال تعالى: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44] أي: يا أبي! فالتاء تقوم مقام الإضافة، وفيها نوع من التحبب والتعلق.
فقوله: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم:44] أي: يا أبت! هذا الذي تعبده هو شيطان، فلا تطع أطعت الشيطان الذي عصى ربه وكفر بألوهيته عندما أمره بالسجود لآدم.
وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44] أي: إن الشيطان كان بالغ العصيان للرحمن، وذكر لفظ الرحمن رجاء أن يرحم أباه، فيحن أبوه لهذه الدعوة، ويوحد الله، ويؤمن برسالة ولده الذي أمر فيها بدعوة الناس إلى الله.
فالمعنى: يا أبت! لا تعبد الشيطان الذي عصى ربه، ومن عصى ربه فهو لا ينتظر منه طاعة، وفاقد الشيء لا يعطيه، وما عند الشيطان إلا المعصية والخسران، فأنت بذلك تأخذ ما عنده وتتبعه وتكون بذلك عابداً له في الطاعة، فأنت قد عبدت الشيطان بذلك وعصيت ربك وخرجت عن التوحيد.
قال تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45].
أخذ الولد يتحبب إلى أبيه ويقول: يا أبت! أنا خائف عليك أن يمسك عذاب من الرحمن؛ جزاء كفرك ومعصيتك ومخالفتك، كما سيجازي الشيطان وقد فعل، فلا تكن عبداً للشيطان، ولا يكن الشيطان إمامك، ولا تكن له تابعاً.
فقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:45] أي: أخاف عليك إن دمت على عبادة الأوثان، وأبيت طاعتي وأنا أدعوك إلى عبادة الله السميع البصير المغني عنك وعني وعن كل الخلق أن تكون للشيطان ولياً، وتكون تابعاً ومرافقاً ونصيراً، ومآل الشيطان إلى النار وإلى اللعنة والغضب، ولا يليق ذلك بك وأنا أنزهك عنه، وأربأ بك عن أن تكون مثله، وإذا بـ آزر أبي إبراهيم لم تنفع معه دعوة ولا موعظة ولا ذكر لله فيجيب.(24/3)
تفسير قوله تعالى: (قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم)
قال آزر: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46].
يقال: رغب فيه ورغب عنه، رغب فيه: أحبه واتبعه وعمل بمقتضاه، ورغب عنه: تركه وكفر به وجحده.
فقوله: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي} [مريم:46] أي: أمبغض أنت لآلهتي الأصنام؟ أتارك لها أمعرض عنها؟ قال: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46].
أي: لئن لم تنته عن هجرك وسبك وشتمك وصدك الناس عن عبادة هذه الأوثان لأرجمنك، أي: لأضربنك بالحجارة حتى الموت، ولكن الأبوة سبقت في نفس آزر وإذا به يخاف على ولده من نفسه، فقال: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] أي: ابتعد عني، ولا حاجة لي إلى رجمك وتعذيبك.
{وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] ملي من الملوان، وهما الليل والنهار، يقال: (ملي) للحقبة الصغيرة أو الزمن القليل المعدود من الأيام، ويقال عن الزمن الطويل والهجران الأبدي، وأغلب الظن أن أبا إبراهيم طلب منه أن يهجره هجر الأبد ما دام أنه لم يرجع إلى عبادة الأوثان؛ لأنه قال له: لئن لم تنته، أي: إذا لم تنته عن صدك للناس عن عبادة آلهته من الأوثان، فعند ذلك سيرجمه.
وأقسم على ذلك باللام الموطئة للقسم، وأكد ذلك بنون التوكيد الثقيلة، وكأنه يقول: والله لأقتلنك رجماً بالحجارة، ثم بادر رجاء أن يعود إبراهيم عن شتمه لآلهته، بأن يبتعد حتى لا يناله منه عذاب ولا رجم.
فقوله: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] أي: اهجرني الأبد، واخرج من بلدي وابتعد عن بيتي، ولا أريد أن أراك ولا أرغب في رؤيتك، فإذا بإبراهيم الولد المطيع يقول لوالده: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47] قال له: يا أبت! سلام عليك، سلام هاجِر محترم داع يؤمنك من عذابه وقتاله، فإبراهيم سيقاتل الكفرة ولكنه لم يفعل ذلك مع آزر؛ لأن آزر مات بعد فترة وجيزة.
فقوله: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47] أي: سأدعو لك الله أن يغفر لك، فتسلم ما دمت حياً؛ لتأمن عذاب الله ولعنته وغضبه، قوله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47] أي: كان بي لطيفاً براً، وعودني الإجابة والبر واللطف، وأرجو هذه المرة ألا يغير علي عوائده الطيبة ولطفه وبره؛ فيهديك للإيمان والتوحيد.(24/4)
تفسير قوله تعالى: (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله)
ثم قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48].
قال هذا إبراهيم وزاد: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48] أي: سأبتعد عن مجتمعاتكم، وكان إبراهيم في العراق فهجرهم إلى الشام إلى الأرض المقدسة، وهي التي سماها النبي عليه الصلاة والسلام وهاجر إبراهيم، وقال: ستكون هجرة بعد هجرة، أي: هجرة أخرى في مستقبل الأيام بعد الهجرة الأولى من مكة إلى المدينة.
فقوله: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: سأعتزلك يا أبي، وأعتزل أمثالك ممن يعبدون الأصنام والأوثان، (وَأَدْعُو رَبِّي) أي: يعبد ربه ويدعو لعبادة ربه، فتكون حياته قاصرة على هذا؛ امتثالاً لطاعة الله سبحانه.
وهكذا وظيفة الأنبياء ووظيفة الورثة من العلماء: أن تكون حياتهم كلها دعوة إلى الله، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: من الجهاد باللسان والقلم إلى الجهاد بالسيف.
قال تعالى: {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48] عسى في القرآن تحقيق، وفي غير القرآن ترج، يقول إبراهيم: عسى أن يتحقق من ربي ألا أكون بالدعوة لعبادته شقياً أو مشركاً أو عاصياً.(24/5)
تفسير قوله تعالى: (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله)
قال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:49].
أي: ما سلبه إلا ليعطيه الحكمة، فسلبه أباه وأهله وعشيرته وبلدته، وعوضه الله أرض الشام المقدسة.
وكان قد بلغ عمر إبراهيم مائة وعشر سنين، وبلغ عمر زوجته تسعين سنة، فرزقه الله جل جلاله الولد والحفيد وهو لا يزال حياً، فرزقه أولاً من هاجر إسماعيل، ورزقه بعد ذلك إسحاق، ثم جعل يعقوب نافلة من إسحاق {وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:49].
فالله أحاط إبراهيم بمجموعة من الأنبياء من سلالته، ففي حياته رزقه إسماعيل الجد الأعلى لنبينا صلى الله عليه وسلم، وشريكه ومعينه في بناء الكعبة المشرفة، ورزقه بعد ذلك إسحاق من زوجة أخرى، ثم رزقه حفيداً من إسحاق وسماه يعقوب، فعند اعتزالهم والبعد عنهم أكرمه الله بالذرية الصالحة وجعل فيها النبوة والكتاب.
قوله: {وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:49] التنوين في (كلاً) لغةً ونحواً يقال له: تنوين العوض، والمعنى: عوض عن كلمة، والمعنى: كل ذريته جعلهم الله أنبياء ورسلاً مكرمين.(24/6)
تفسير قوله تعالى: (ووهبنا لهم من رحمتنا)
قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:50].
أي: وهب للأب والولدين والحفيد من رحمته، وفسرت الرحمة هنا بالمال والنبوءة والأرزاق والحب والتعلق، وكل ذلك صالح في التفسير، فالذرية الصالحة التي لم تأكل حراماً ولم تأت بحرام رحمة.
وكما قال نبي الله عليه الصلاة والسلام: (نعم المال الصالح للرجل الصالح)، والنبوءة والرسالة والعبادة وأنواع الخيرات الأخروية هي كلها بلا شك من رحمات الله.
فقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ} [مريم:50] أي: للأب والولدين والحفيد، لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق.
قوله: {مِنْ رَحْمَتِنَا} [مريم:50] أي: من أرزاقنا ونعمتنا.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:50] أي: خلدناهم في الدهر وفيما سيأتي بعد ذلك إلى يوم القيامة، فكان لهم لسان صدق في كونهم أنبياء الله ورسله، فخلد ذكرهم في التوراة والإنجيل والزبور، مع تغير كل هذه الكتب وتبديلها وتحريفها، كذلك خلد ذكرهم في القرآن الكريم المهيمن على كل الكتب السماوية، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فخلدوا فيه خلوداً أبدياً، فكانوا لسان صدق للعالمين عالياً، وهكذا علا إبراهيم في السماوات، واجتمع به سبطه وحفيده ليلة الإسراء، فخلدوا حساً ومعنىً وذكراً في الصالحين، ونبراساً بين العابدين، وهداية بين كتب السماء التي يقتدى بها ويهتم بها.(24/7)
تفسير سورة مريم [51 - 57]
كان سيدنا موسى عليه السلام مخلصاً لله تعالى ومطيعاً، وكان رسولاً نبياً، وقد ناداه ربه من جانب الطور كي يكلفه بتبليغ رسالته إلى بني إسرائيل، وكذلك سيدنا إدريس عليه السلام، وقد رفعه الله تعالى مكاناً عالياً في الدنيا والآخرة.(25/1)
تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب موسى)
قال الله جل جلاله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:51 - 53].
بعد أن ذكر الله لنا كيف ولد يحيى وكيف ولد عيسى، ثم ذكر لنا إبراهيم الخليل، يذكر لنا الله جل جلاله موسى، وهو أحد الخمسة من أولي العزم، وهو الذي أوحي إليه بالتوراة، ووصفه الله جل جلاله بعالي الصفات وزاكيها، فأثنى عليه ومجده.
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} [مريم:51] أي: اذكر في القرآن الكريم موسى فهو كان نبياً رسولاً أوحي إليه بشريعة وأمر بتبليغها، فكان من أنبياء الله الكبار العظام أولي العزم.
قوله: {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} [مريم:51] قرئ (مخلَصاً) و (مخلِصاً)، وكلتاهما قراءتان سبعيتان متواترتان، فـ (مخلَصاً) أي: مختاراً ومصطفىً، أي: مخلَصاً من الشوائب والإجرام والنقائص والعيوب.
و (مخلِصاً) أي: أخلص العبادة لله جل جلاله من غير رياء ولا سمعة ولا شرك خفي، بل كان من عباد الله الدعاة إليه ومن الأنبياء الصادقين.
وموسى مع النبوءة كان رسولاً، إذ لم يوح إليه بشرع فقط، ولكن أوحي إليه بشريعة وأمر بالبلاغ، وأنزل عليه التوراة، وكان كتاباً يجمع الحكم والأحكام والتوحيد والتعظيم والتنزيه وتقدير الأنبياء والرسل، ولكن بني إسرائيل بدلوا وحرفوا وغيروا.
قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52].
أي: اذكر موسى في أعلى حالاته وأسماها وأعظمها: وذلك حال مجيئه إلى الطور وقد رأى ناراً، وقد خرج من عند صهره شعيب، واصطحب زوجته بعد أن وفى بالعهد الذي بينه وبينه، فأخذ موسى زوجته وتركه وأراد الذهاب إلى حيث يريد الاستقلال بنفسه، وبينما كان البرد شديداً رأى ناراً من جانب الطور {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10] أي: لعله يقتبس من النار قبساً ليصطلوا منه وليتدفئوا به، فيذهب عنهم هذا البرد والشدة، فلما وصل إلى الطور نودي من قبل الحق جل جلاله: أنا الله رب العالمين، فألق عصاك، واخلع نعليك.
والله اصطفاه بذلك، وأوحى إليه برسالته وكلمه، وأمره بالذهاب إلى فرعون وقارون وهامان، وإلى قومه المستعبدين من بني إسرائيل في مصر؛ ليأمرهم بعبادة الله وحده، وبأن يصحبوه إلى أرض فلسطين، فعندما وجد ذلك قرت عينه وتمت بذلك صفته النبوية، فهو رسول الله وكليمه ونبيه، كليمه أي: كلمه، وهذه صفة خاصة بموسى.
وقد كان ذلك قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام، وإلا فنبينا كذلك ليلة أسري به ورفع إلى السماوات العلى، ثم إلى سدرة المنتهى، ثم إلى حيث كان قاب قوسين أو أدنى، ما زاغ البصر وما طغى، كلمه ربه وأمره بخمسين صلاة، وبقي يتردد عليه بمشورة موسى، وهو يقول له عند كل نزلة: إن قومك لا يستطيعون ذلك، فاسأل الله التخفيف، حتى أصبحت خمساً في اليوم والليلة وخمسين في الأجر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم قد كلمه الله جل جلاله مرات عديدة حتى أصبحت خمساً.
قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} [مريم:52].
أي: جبل الطور، ويقال له: جبل زبير، وهو في أرض سيناء في مصر، وموسى عندما ناداه الله وكلمه كان الطور على جانبه الأيمن، فنودي من جانبه الأيمن من الطور، وليس موسى أيمن الطور، وإنما الطور أيمن موسى، حيث كان جبل الطور على يمينه.
قال تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] أي: قربه قرب معنىً ونبوءة وتشريف، وإلا فإن الله جل جلاله يسمعه موسى، وموسى سيجيب عن كلام ربه له، نجياً أي: مناجياً، كما تقول: جليس ونجي، ففلان نجي لفلان أي: يناجيه ويحادثه، فكان بذلك موسى نجي الله، كما تقول: جليس ونجي.
فقوله: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] قربه مناجياً ومتحدثاً معه، ومقرباً إليه بما أولاه من رتبة النبوة العالية والرسالة العظيمة.
قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53].
إن موسى عندما أصبح رسولاً كان بلسانه لكنة، فلا يكاد يفصح ولا يبين، وكان ذلك من أثر الجمرة التي وضعها في فمه وهو طفل صغير في قصر فرعون عندما أخذ يلعب ويعبث بلحية فرعون.
فقال فرعون لزوجه: إن هذا الطفل من بني إسرائيل، ولا شك أنه يريد العبث بلحيتي مهانة ومذلة.
فقالت له زوجه: إنه طفل صغير لا يميز بين الجمرة والتمرة، فاختبره إن شئت.
فجاء بتمرة وجمرة، وأشار إليه ودفعه ليحمل إحداهما، فألهمه الله على أن يحمل الجمرة ورماها في فيه فحرقته في لسانه، وتركت آثارها على لسانه، فأثرت في فصاحته، وبذلك أنجاه الله من قتل فرعون، وكان فرعون يقتل كل ولد يولد لبني إسرائيل من الذكران، وكان يترك النساء والبنات على الحياة ليكن جواري وإماءً وخدماً في بيوت الفراعنة.
وعندما اعتذر لربه للكنة لسانه رجاه أن يرسل معه أخاه هارون وزيراً، قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:30 - 32] فقد كان هارون أسن منه في العمر، وأفصح منه في المنطق، وأسلم منه لساناً وأبلغ كلاماً.
ولذلك يقول في آية أخرى: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء:13] أي: أرسل له؛ ليكون رسولاً وزيراً معيناً معي، واستجاب الله دعاءه، وقد قيل: لم يكن أخ بركة على أخ له مثل موسى، فقد طلب له أعلى المقامات وأعظمها، طلب له من الله أن يشركه معه في النبوءة والرسالة، فاستجاب الله له.
وقد قال عليه الصلاة والسلام لـ علي رضي الله عنه: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) كما في الصحيح، يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ علي: أنت وزير من وزرائي ومعين من معيني وساعد من سواعدي، ولكنه لا نبي بعدي، أخوتك لي كأخوة هارون من موسى إلا أن هارون كان نبياً ولن يكون بعدي نبي.
وهكذا كان علي مع النبي عليه الصلاة والسلام الوزير والمعين والمسدد والمحارب والمقاتل، والمتنقل بين أقطار الجزيرة يدعو لله ولرسوله بأمر رسول الله، ولم تكن هناك غزوة ولا معركة إلا وحضر فيها وبذل نفسه وحياته، ولكن الحياة كانت عنده أقوى من حضوره المعارك فجرح ولم يمت.
فقال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53] أي: من رحمته لموسى ومساعدته في الدعوة والكلام والبيان لـ فرعون وقارون وهامان وبني إسرائيل المستعبدين، أن أكرمه بأخيه شريكاً في الرسالة والنبوءة، فكان كما طلب ورجا، فكان ذلك من رحمة الله بموسى وهارون، وكانت هبة من الله وعطية ومنحة.
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53] أي: حال كونه نبياً ورسولاً، فأمر بأن يؤدي مع موسى الكتاب المنزل عليه وهو التوراة والصحائف العشر، فيقوم مع موسى بدعوة قومه إلى الله وعبادته.
وقصة موسى مفصلة قد مضت في غير ما سورة من السور الماضية في النصف الأول من كتاب الله، وهنا ذكرها اختصاراً وإشادةً ولفت نظر؛ لأنه كان من كبار الأنبياء والرسل، ومن أولي العزم منهم.(25/2)
تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إدريس)
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:56 - 57] يقول الله: واذكر يا محمد! في القرآن الكريم المنزل عليك إدريس، وإدريس هو جد والد نوح عليهما السلام، وهو أول من خط بالقلم، واخترع الكتاب، والكتابة وما تشمل من خزن المعاني هي في حد ذاتها تكاد تكون نبوءة قائمة بنفسها ورسالة مستقلة، فهذه الشرطات على الورق تشمل كل شرطة معطوفة وملتوية ومنحنية ومرتبطة بغيرها جميع المعاني التي كانت في الكون من قبل.
فتجد الإنسان يولد في حقبة من الدهر، ثم يعمر بضع سنوات وتجده إذا أكرم بالتعلم والقراءة والكتابة يلازم قراءة الكتب ومطالعتها، وإذا به يعيش مع الأولين والآخرين، ومع الكون قبل أن يكون ومعه بعد فنائه، ومع أنبياء الله ورسله الصالحين، ومع الجبابرة والطغاة الجاحدين، كل ذلك وهو لم يجاوز مكانه ولم يخرج عنه.
فكان إدريس أول من اختط بالقلم، وأول من عُني بعلم الحساب وعلم النجوم، وأول من عني بلبس الثياب الصوفية والقطنية وأول من خاطها، وكان الناس قبله شعوباً بدائية كالإفريقية اليوم، وكهؤلاء الأقزام الذين يوجدون في أشتات من الأرض يلبسون جلوداً على أبدانهم أو أجزاءً من أبدانهم أو على عورتهم: القبلية والدبرية فقط، وهكذا كانوا قديماً.
ولكن إدريس حضرهم وعلمهم، فاخترع لهم القراءة والكتابة، ونبههم إلى أخذ الثياب من القطن والصوف، واخترع لهم خياطتها ولبسها، ونبههم إلى علم الحساب وإلى علم النجوم، وإدريس نبي من أنبياء الله العظام، وكان ما تعلمه توقيفياً، أي: بوحي من الله لتعليم خلقه وعباده ما يعود عليهم بالخير العميم في حياتهم ومستقبلها.
قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:56] فصديق صيغة مبالغة من كثرة الصدق، أي: كان صادقاً في كل كلامه وإشاراته ومعاركه، وكان لا يخطر على باله أن يقول ما ليس بواقع لا إشارةً ولا تلميحاً، ولا تصريحاً من باب أولى.(25/3)
اختلاف المفسرين في رفع إدريس هل هو حسي أم معنوي
قال تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57].
قال البعض من المفسرين: إنه رفع معنوي وإن كان في الواقع حسياً، فقد رفع إلى الجنة حيث يعيش اليوم، ومنذ توفي وهو في الجنان.
وقال قوم: ليس هو في الجنان، ولكن المقام العلي نبوءته ورسالته ورحمة الله له، وإلا فهو ميت في الأرض.
ورويت هنا إسرائيليات مصدرها كعب الأحبار ووهب بن منبه، وقد تسللت هذه الإسرائيليات إلى كتب التفسير والعلوم مطلقاً.
روى ابن عباس عن كعب بسند لم يصح: أن إدريس خرج مرة في يوم مشمس شديد حره، وإذا به يعود وقد وجد من تلك الشمس وشعاعها حراً وألماً ووجعاً، فقال: يا رب! إن كان يوماً لم أحتمل فيه شدة الشمس وشعاعها وحرارتها، فكيف بالملك المكلف بحملها وهو يحملها في يوم كان مقداره خمسمائة عام؟! فخفف الله على هذا الملك حامل الشمس، فشعر بذلك فقال: ربي! ما الذي حدث، شعرت اليوم بخفة حملي لهذه الشمس؟ قال: نبي من أنبيائي من البشر اسمه إدريس دعاني أن يُخفف عنك فاستجبت له.
قال: يا رب! اجمعني به، فاجتمع به، وقال: يا إدريس! أنا ملك من ملائكة الله، أنا المكلف بحمل الشمس، ما حملك على الدعاء بالتخفيف لي؟ قال: شعرت بثقلها وحرها وشدة إشعاعها، فقلت: إذا عجزت أنا عن وجودي فيها اليوم فكيف بمن يحملها؟ فقال: لك عندي طلب، فاطلبه مني أفعله لك.
قال: ألك صلة بملك الموت؟ قال: نعم.
قال: اطلب لي من ملك الموت أن يؤخر أجلي؛ لأزداد طاعة وعبادة لربي وتقرباً، وعلى ذلك احملني من الأرض المكلف بها، وخذني إلى أعلى مكان.
قال: آخذك إلى السماء الرابعة من السماوات فحمله، وبينما هو يستأذن الملائكة المكلفين بأبواب السماء الرابعة وجد ملك الموت، فقال: عنك أبحث، جئتك شفيعاً لإدريس نبي الله بأن تؤجل موته؛ حتى يزداد قرباً من الله وطاعة، فانظر متى يموت، فنظر في السجل الذي بين يديه.
وقال: كان ينبغي أن يكون في هذه الساعة ميتاً، ولكن العجب عندي أنني مأمور بأن آخذ روحه في السماء الرابعة.
فقال: هو ذا، وإذا به يلتفت إليه فيجده ميتاً، فيلقي به في السماء الرابعة حيث مات.
وقال قوم: نبيان من أنبياء الله لا يزالان حيين في الأرض، ونبيان حيان في السماء، أما النبيان الحيان في الأرض: الخضر وإلياس، وأما النبيان الحيان في السماء: فعيسى وإدريس، فهذا قول بأنه استجيب له وبقي حياً، وسيبقى إلى يوم النفخ بالصور يوم لا تبقى نفس منفوسة.
على أنه من الثابت في قصة الإسراء النبوية أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما أسري به إلى السماوات السبع إلى سدرة المنتهي، ثم إنه كان قاب قوسين أو أدنى، فاجتمع بإدريس في السماء الرابعة، وهل اجتمع به حياً أو ميتاً، على كل اجتمع بروحه، والروح لا تموت.
والأمر كما يقول الحسن البصري: خلقنا للأبد، وإنما هي نقلة من دار إلى دار، كمن يرتحل في الأرض من حي إلى آخر، ومن قطر إلى آخر، فنحن ننتقل من دار الدنيا إلى دار الآخرة إلى دار البقاء.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:56 - 57] فنقول: معنى العلو هنا: معنوي وهو حسي، أما المعنوي فهو قد رفع برتبته وبنبوءته وبرسالته إلى أن كان بها في المقام العلي بين الخلق، وهو علو حسي بأن رفع إلى السماء الرابعة ولقيه هناك نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو رفع وعلو حسي ومعنوي معاً.(25/4)
تفسير سورة مريم [54 - 58]
لقد كان إسماعيل عليه السلام من أنبياء الله الصادقين للوعد، وكان نبياً رسولاً، وقد كان إذا وعد لا يخلف وعده، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وكان عند ربه مرضياً.(26/1)
تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إسماعيل)
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54 - 55].
يقول الله لنبيه: واذكر في كتاب ربك إسماعيل جدك الأعلى ابن إبراهيم عليك وعليهما السلام، وقد خص الله جل جلاله إسماعيل بآيات خاصة ومقتطع خاص؛ لأنه أعظم من إسحاق ويعقوب وأشرف منهما.
فقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54]، فإسماعيل بن إبراهيم أتى به أبوه إبراهيم خليل الرحمن، وذلك لأن أم إسحاق غارت من هاجر فحمله وحملها معه بأمر من الله ووحي إلى مكان زمزم، وكانت الأرض خلاءً في جزيرة العرب، فوضع إبراهيم الوليد وأمه، ولم يكن في الأرض نبع ولا نبت ولا أنيس، لا من أنس ولا حيوان ولا طائر، وأخذ نفسه وعاد.
وإذا بزوجه هاجر تسرع خلفه وتقول: يا رسول الله! إلى من تتركنا؟ فلا يجيبها، فتشتد وتناجي وتزأر خوفاً على طفلها ووليدها، وهو لا يجيب.
وبعد مدة قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم.
قالت: إذاً: لا يضيعنا.
فمكثت تناغي وليدها أياماً بلا حليب، فبحثت عن الماء فلم تجد، فكان الولد يتضور عطشاً وجوعاً، إذ لا حليب ترضعه ولا ماء يشربه، فتركته وذهبت إلى الصفا والمروة، ابتداءً من الصفا وصعدت على أعلاه، وأخذت تلتف بنفسها يميناً وشمالاً لعلها ترى رجلاً أو حياة سواء من حيوان أو دابة أو طائر فلم تجد، فنزلت وأخذت تسعى إلى المروة وتصعد إلى قمتها وتلتف يميناً وشمالاً، وتبحث في كل الجهات الست لعلها ترى من يؤنسها وتأتنس به، وتأخذ ماءً لوليدها حتى لا يموت عطشاً، وهكذا إلى المرة السابعة.
وكان هذا سنة السعي بين الصفا والمروة شكراً لله أن أحيا الوليد إسماعيل الذي لولا حياته لما كان محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن إسماعيل هو الجد الأعلى له، فلو مات طفلاً لمات محمد صلى الله عليه وسلم في صلبه ولم يدر به أحد.
فلما أتمت هاجر من الأشواط سبعاً رأت في المكان الذي فيه ولدها طيراً تحلق، والطير لا يحلق إلا حيث الماء، فجاءت مسرعةً ثائرةً، وإذا بها تجد الماء نابعاً عند رجلي طفلها، وكان الماء خفيفاً قليلاً فأخذت تضمه لبعضه وتقول له: زمزم، أي: اجتمع وتضاءل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن هاجر فعلت ذلك لكانت زمزم نهراً جارياً إلى يوم القيامة).
فنزلت وارتوت هي وطفلها، وبعد أيام رأى أقوام الطير يحلق حيث زمزم فقالوا: عهدنا بهذا المكان خراباً يباباً، صحراء لا ماء فيها ولا نسمة، وإذا بهم يجدون هاجر ووليدها إسماعيل، فاستأذنوها بأن ينزلوا معها، فاشترطت عليهم أن الماء ماؤها والأرض أرضها، ولهم أن ينتفعوا بالأرض والماء، وماذا يطلب الإنسان أكثر من ذلك، ولكنها احتاطت لوليدها وسلالته من أن يتغلبوا على الماء وعلى الأرض فيخرجوهم.
فكبر الوليد وشب وأخذ يتردد عليه أبوه إبراهيم ويتعهد حاله، فوجده مرة قد تزوج، وكان قد أرسله الله سبحانه، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54].
فهذا النبي الرسول الجليل أخذ يتعهده أبوه، فجاءه مرة فسأل عن بيته فأشير عليه به، فطرق الباب وخرجت زوجته.
فقال: هل إسماعيل هنا؟ قالت: لا.
قال: أين هو؟ قالت: ذهب ليتصيد ويأتينا برزق اليوم.
قال: كيف طعامكم وشرابكم؟ قالت: في أسوأ حال.
قال: إذا جاء إسماعيل فقولي له: يغير عتبة بيته.
فجاء إسماعيل وكأنه شعر بأن إنساناً زائراً قد جاء، فقال: هل جاء أحد وسأل عني؟ فقالت: نعم.
قال: من؟ قالت: لم يذكر اسمه، ولكن صفته كذا وكذا قال: ما الذي قال لك؟ قالت: قال لي: غير عتبة بيتك.
قال: ذاك أبي رسول الله وخليله إبراهيم، وأنت عتبة بيتي، فقد أمرني بطلاقك فطلقها؛ لأنها لم تكن من الحامدات الشاكرات، فتزوج غيرها.
ومضى وقت وجاء إبراهيم فطرق الباب، فوجد امرأة أخرى، فقال: من أنتِ؟ قالت: زوجة إسماعيل.
قال: كيف حالكم؟ وكيف طعامكم وشرابكم؟ فقالت: نحن في أحسن نعمة، نحمد الله ونشكره ونطلبه المزيد.
قال لها: إذا جاء إسماعيل قولي له: فليثبت عتبة بيته، فجاء إسماعيل وجرى الكلام معها كما كان مع الأولى.
فقال: ذاك أبي خليل الله إبراهيم، وأنت عتبة البيت، فوالدي قد رضي بك وأمرني بتثبيتك وإبقائك.
فأرسل الله إسماعيل إلى قبائل جرهم العربية العاربة، وإسماعيل جد الحجازيين؛ ولذلك يقال عن الحجازيين: العرب المستعربة، فإسماعيل لم يكن أصلاً من العرب، ولكنه جاء على الفطرة لا يعلم كلاماً ولم يسمع اللغة العربيَّة، فنشأ بين العرب العاربة الأصليين، فتعلم لغتهم وفصاحتهم وبلاغتهم، وهكذا كان أولاده من بعده.
فقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54] فقد رأى إبراهيم -ورؤى الأنبياء وحي- رؤيا في المنام، فقال: يا إسماعيل! إني أرى في المنام أني أذبحك.
وكان الغلام قد شب وبلغ معه السعي، فقال: يا أبت! افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين، ولن أعصي لك أمراً.
فقد وعد إسماعيل بالصبر وصدق في وعده، وهل هناك وعد أكثر من أن يعد الإنسان برقبته أن تذبح؟! فتنفيذاً للوعد جاء إبراهيم وتله للجبين، أي: أماله لجانبه وأخذ السكين وتله للجبين، وإذا بالله جل جلاله يناديه: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105] {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107].
ومن هنا يقول علماء الكلام: السكين والنار والماء والطعام وكل شيء من هذه المعاني تشبع وتروي وتؤثر عندها لا بها، عند الابتداء بها والأثر من الله، والأمر أمر الله بدليل أن هذه السكين لم تذبح ولو أراد الله لها الذبح لذبحت، فكان بذلك صادق الوعد عليه السلام.
ومن ذلك أيضاً لقي مرة صديقاً وعده بشيء، فقال له: انتظرني سآتيك قريباً، فانتظره إسماعيل عليه السلام ثلاثة أيام ولم يأت، ومر صديقه مروراً مصادفاً فوجده فقال: ما زلت في انتظاري؟ قال: ألم تعدني وقلت لي: أنتظرك؟ وقد شققت علي، وحدث هذا لنبينا صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54] كان رسولاً من الله، إذ أمر بالرسالة ليبلغها لجرهم، وأوحي إليه فهو نبي رسول، ونلاحظ أنه ذكر أخاه إسحاق بالنبوءة فقط، فقال: {ووَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:49]، فلم يصف إسحاق ويعقوب إلا بالنبوءة، فكان إسماعيل أفضل منهما وأشرف منهما.
وأكد هذا النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل) فإسماعيل هو المصطفى المختار المميز من بقية الأنبياء الآخرين.
ولليهود لعنهم الله كتاب يتجولون به في أقطار العالم الإسلامي أسموه التوراة، يشتمون فيه إسماعيل، ويفضلون عليه إسحاق جدهم ويعقوب أباهم المسمى بإسرائيل؛ كذباً على الله وافتراءً.
قال تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55]، وكان من خصائصه حرصه على تبليغ الدعوة، فكان لا يأمر بها جرهماً فقط، بل يأمر أهله نساءً وأولاداً، غلماناً وإماءً، بنات وذكوراً.
ويأمرهم كذلك بالزكاة إن وجد عندهم ما تم نصابه، فيزكون من مالهم للفقراء والمساكين، ويزكون معنى لجاههم وقوتهم ونفوذهم، ومما أكرمهم الله به، ومما هم أقدر عليه من غيرهم.
قال تعالى: {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55].
أي: كان رضياً عند الله، وكان عمله مقبولاً مرضياً عنه من صبر وصدق في الوعد، وأمر لأهله بالصلاة والزكاة، وقد فسر الأهل بالأمة والأتباع كلها، فكلهم أهله وأنصاره وأتباع دينه، فكان مثابراً على ذلك ليله ونهاره، لا يكل ولا يمل.(26/2)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58].
قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [مريم:58] أي: الأنبياء الذين ذكروا ومن كانوا على صفتهم في النبوة والرسالة {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [مريم:58] أي: جعلهم يعيشون في نعم وخيرات وأرزاق متتابعة، وشرفهم ورفع أقدارهم، وجعلهم سادة الخلق.
قال تعالى: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} [مريم:58] ذكر الله هنا ذريات ونبوءات بعضها من ذرية آدم وبعضها من ذرية نوح، وبعضها من ذرية إبراهيم، وبعضها من ذرية إسرائيل (يعقوب).
فقوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم:58] فمن ذرية آدم: إدريس، وإدريس ليس ولداً لنوح، ومن باب أولى ليس ولداً لمن جاء بعده، فهو من سلالة آدم، ولا أبوة لنوح عليه، بل هو جد والد نوح.
وقوله: {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [مريم:58] فإبراهيم هو ابن سام بن نوح، وقد حمله نوح معه في السفينة، وكان ممن آمن وأنجاه الله في السفينة مع المؤمنين، فكان ممن حُمِل مع نوح سام، وهو الجد الأعلى لإبراهيم.
وقوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} [مريم:58] من ذرية إبراهيم: إسماعيل وإسحاق، فهما ولداه البكران وليس لمن بعدهم أبوةٌ عليهما.
ومن ذرية إسرائيل: زكريا ويحيى، وعيسى من قبل أمه مريم، فكان هؤلاء أنبياء من ذريات هؤلاء الأنبياء جميعاً.
قال تعالى: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} [مريم:58] أي: من القوم الذين هديناهم لطريق الحق وتوحيد الرب، وهديناهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاختارهم الله أنبياء وأصفياء ورسلاً له ومقربين عنده.
قال تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58] هؤلاء الأنبياء جميعاً إذا سمعوا كتاباً، أو سمعوا آيات وعلامات من وحي الله ومن ومعجزاته، سجدوا لله عند ذكر آياته وتلاوتها.
{خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58] أي: بادروا إلى السجود بين يدي الرحمن، و (بكي): جمع باكٍ، أي: خروا ساجدين باكين، وعندما قرأت هذه الآية بمحضر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال: هؤلاء السجود فأين البكي؟ ويريد الباكين ممن حوله، ولكن من لم يبك فليتباك.
وقد وجد عمر رضي الله عنه رسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر يبكيان، وذلك عندما نزلت آية فيها تأنيب لهما على ما أخذا من فداء على الأسرى، قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67]، فقال: قصوا علي ما بكم فإن لم أجد بكاءً تباكيت؟ فقص عليه رسول الله، فقال: كان العذاب منا أقرب من هذه الشجرة -شجرة قريبة منهما-، ولو نزلت لعمت الناس إلا أنت؛ لأن عمر كان معارضاً في أخذ الفدية من الأسرى، فقد أشار على رسول الله بقتلهم، وهذه من الآيات الكريمة التي وافقت رأي عمر رضي الله عنه.
ومن هنا كان يقول صلى الله عليه وسلم: (إن يكن في أمتي محدثون فـ عمر).(26/3)
تفسير سورة مريم [59 - 60]
ذكر الله تعالى في هذه الآيات أنه يخلف الصالحين خلْف يتركون الصلاة، ويتبعون الشهوات، فمصيرهم جهنم وبئس المهاد، ثم استثنى الله تعالى من تاب من ذلك وآمن وعمل الصالحات فأولئك يتوب الله عليهم، ويدخلهم الجنات، ولا يظلمهم شيئاً.(27/1)
تفسير قوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف)
قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:59 - 60].
بعد أن ذكر الله حزب الصالحين من الأنبياء والرسل وورثتهم، عقب ذلك بذكر حزب الشياطين الذين بدلوا وغيروا وخرجوا عن أمر الأنبياء وطاعتهم ورسالاتهم، فقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم:59] أي: خلف من بعد هؤلاء الأنبياء: زكريا ويحيى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل، خلف أضاعوا الصلاة، يقال لغةً: خَلْف وخَلَف، فَخلَف يقال للذرية الصالحة، وخَلْف يقال للذرية الطالحة، فيقال: فلان كان خير خلَف لخير سلف، ويقال: فلان كان شر خلْف لخير سلف.
والله أخبر أنه قد جاء من بعد هؤلاء أقوام خلفوهم وكانوا على غير هديهم وطريقتهم، فبعد أن انتهوا ومضوا وهلكوا جاءت قرون تخلفها قرون وأجيال تخلفها أجيال، فهؤلاء خَلَف من بعدهم خَلْفٌ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.
قال ابن عباس وجمهور من السلف الصالح: كان إضاعتهم للصلاة تركها، فهؤلاء تركوا الصلاة وكفروا وأشركوا، وخرجوا عن سبل الإسلام وعن هدي الأنبياء، وقيل: أضاعوا أوقاتها فذلك ضياعها، فمن أسباب الهلاك تضييع أوقاتها سهواً أو إغفالاً أو عدم اهتمام أو بعداً عن أمر الله وطاعته.
وكون تارك الصلاة كافراً هو ما عليه الجمهور من السلف الصالح، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الفرق بين المؤمن والكافر ترك الصلاة)، وقال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وذلك مذهب أحمد بن حنبل وقول للإمام الشافعي.
وسواء فسرنا بضياعها تركها أو بالسهو عن أوقاتها وإغفالها، فبسبب ذلك حشرهم الله مع الذرية الضائعة الطالحة التي خلفت الأنبياء والرسل على غير ما يجب أن يخلفوا به من الطاعة لله والطاعة لرسله، والقيام بالعبادة كما أمر الله ورسله.
فمن صلى الصلاة في غير أوقاتها فقد أهمل وسها وتهاون وتلاعب، وأما من تركها البتة فقد كفر، ويكون بذلك خَلْفَ سوء لسلف صالح من الأنبياء والمرسلين وورثتهم من العلماء الصالحين.
ومن خصائص الصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهؤلاء لم يبق عندهم ما يحصنهم ويردعهم ويبعدهم عن السوء والفحشاء.
فعندما يتهاونون بالصلاة تركاً لها أو تركاً لأوقاتها فإنهم يتبعون الشهوات والمعاصي وشرب الخمور وأكل الربا وأكل السحت وظلم الناس والاعتداء على أعراضهم ظلماً وعدواناً وعلواً في الأرض وفساداً، فما كان تحصيناً وما كان سياجاً وحفاظاً على حياتهم الإسلامية وأعمالهم الدينية زالت عنهم بتركهم الصلاة، ولم يبق لهم ما يحصنهم ولا ما يحفظهم، فبسبب تركهم الصلاة وعدم القيام بها في أوقاتها اتبعوا الشهوات من فسق ودعارة وأكل للحرام وارتكاب للسوء بكل أنواعه.
وقال عبد الله بن مسعود: هؤلاء فئة لم تأت بعد، يتركون الصلاة فينزو بعضهم على بعض في الشوارع والأزقة والطرقات نزو الكلاب والخنازير والدواب، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
وهؤلاء قد ابتدأ عصرهم وآن أوانهم، فهم يرون في الكثير من ديار الإسلام، أما ديار الكفر فمن جاء على أصله فلا سؤال عليه، ولكن العجيب أن يكون ذلك في ديار الإسلام وأرض المسلمين، وهم لا يحللون حلالاً ولا يحرمون حراماً.
قال تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] السين للتسويف القريب، وسوف للتسويف البعيد، فهؤلاء الذين يضيعون الصلاة ويأتون الشهوات بأنواعها والموبقات بأشكالها، سيلاقون في مستقبل أيامهم عند هلاكهم غياً، والغي: الفساد والهلاك والتدمير والذل والهوان.
فهؤلاء الذين أتوا الفواحش سيكون جزاؤهم الخزي من الله والخراب والدمار والفساد، فتفسد عليهم دنياهم وآخرتهم.
وقال الجمع الغفير من المفسرين: إن الغي: واد في جهنم تسيل فيه دماء وقيح الكافرين من أهل النار، وهو في قعر جهنم، وكلما حاولت جهنم أن تنطفئ إذا بهذا الوادي يسعرها ويزيدها لهيباً واشتعالاً، وهي غذاء وشراب هؤلاء المفسدين التاركين للصلاة، والذين ارتكبوا الشهوات.
وتارك الصلاة ليس بكافر على قول، ولكنه مع ذلك يعتبر وباءً يجب أن يزال من الأرض.
فقال المالكية: يجب زوال تارك الصلاة من الأرض حتى لا يعدي غيره قريباً أو بعيداً من أسرته أو من طلابه أو من عموم الناس، فيجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقال بمثل ذلك الشافعية.
وقال أبو حنيفة: لا يقتل، ولكن يسجن سجناً أبدياً، بحيث إذا خرج وقت الصلاة ولم يصل يدعى للصلاة فإن صلى فذاك وإلا بقي في السجن، وهكذا إلى أن يموت في السجن.
وقال الظاهرية: لا يسجن ولا يقتل ولكن يجلد عشر ضربات، إلا أنه إذا جلد العشر فلم يصل تعاد عليه، فإن صلى فذاك وإلا سيعاد عليه الضرب عشراً فعشراً إلى أن يموت أو يصلي.
إذاً: فكلهم اعتبروه شخصاً موبوءاً يجب أن يبعد عن الناس؛ لكي لا يعديهم بقلة دينه، وباستهتاره بطاعة ربه؛ ولكي لا ينشر بينهم ترك عبادة ربه وترك السجود له والصلاة.(27/2)
تفسير قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً)
قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:60].
ربنا جل جلاله من رحمته بخلقه وعباده حتى بالعصاة المذنبين يقرر العذاب ونوعه وينذر ويتوعد، ثم يدعو خلقه وعبيده إليه: إن أنتم تبتم وتراجعتم فالله يتوب على من تاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، وقال أيضاً: (الإسلام يجب ما قبله) أي: يقطع ما سبق من الذنوب والآثام كما قال سيد البشر صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيستثني الله من هؤلاء التاركين للصلاة: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم:60]، وشروط التوبة ثلاثة: ألا يعود للذنب الذي ارتكبه، وأن يندم على ما صدر منه، وأن يعطي عهداً بينه وبين نفسه لربه ألا يعود لذلك الذنب الذي تاب منه.
فإن كان الذنب مع ربه فإنه يشترط في التوبة هذه الثلاثة الشروط، فإن خلا من التوبة شرط من هذه الشروط لم تقبل توبته، فتارك الصلاة إذا قال: تبت، فمن تمام التوبة أن يعود للصلاة، ويعوض ما فاته، ويندم على ما فات من الذنب، فيجد ألماً وحسرة ويتعهد ألا يعود لذلك، فإن غلبه الشيطان أو رفاق السوء فليجدد التوبة مرة أخرى.
وأما إذا كان الحق للإنسان فيشترط هذه الشروط ويزاد رابعاً وهو: إن كان مالاً قد أخذه فيجب أن يعيده له، وإن كان حداً قد ارتكبه في حقه فيجب عليه أن يسلم نفسه لقيام الحد إلا أن يعفو صاحب الحد، وإن كان شتيمة أو سوءاً أو كان شيئاً دون ذلك فليذهب إلى من أساء إليه وليتحلل منه، وبعد ذلك يغفر الله ويتوب، وكما قال الشاعر: كن كيف شئت فإن الله ذو كرم وانسَ الهموم فما في الأمر من باسِ سوى اثنتين فلا تقربهما أبداً الشرك بالله والإضرار بالناس إذ الشرك لا مغفرة له، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]، وحقوق الناس لا تغفر إلا إذا غفرها أصحابها وتنازلوا عنها، وإلا فسيدانون عليها، ويؤدونها بالوافر يوم القيامة، فإن لم يوجد عند أحدهم ما يؤديه فإنه يؤخذ من حسناته وتضاف إلى ميزان من ظلمه.
{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [مريم:60] أي: آمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، قوله: {وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم:60] أي: لا بد مع الإيمان والتوبة أن يعمل الصالحات، والصالحات تجمعها الأركان الخمسة: الشهادتان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام، فمن قام بما عليه من أركان فقد أفلح، إلا المال فإن وجد مالاً زكى وإلا فلا زكاة عليه، وكذلك الحج إن وجد زاداً وراحلة فليحج.
قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:60]، فالتائبون من الذنوب كمن لا ذنوب لهم، فهم القائمون بالصلوات في أوقاتها، والصائمون شهر رمضان بما أمر الله به من واجبات وسنن ومستحبات وترك للمكروهات، والقائمون بما عليهم من حج بيت الله الحرام، والإتيان بكل حسنة وبكل شعيرة من الشعائر الطيبة، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
وضابط ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، فإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر فليأت المأمور بما استطاع، فأمرنا بالصلاة قياماً فمن عجز لمرض فليصل جالساً، وأمرنا بالوضوء للصلاة فمن عجز فليتيمم، وأمرنا بالحج فمن عجز فلا حج عليه، (فأتوا منه استطعتم).
{وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] أي: فلا تفعل لزوماً، فلا زنا ولا سرقة ولا ربا ولا ظلم ولا شرك ولا كفر، إلى آخر ما هناك من المنهيات، فعلى المؤمن الحق أن يفعل من الخير ما استطاع ووجد إليه سبيلاً، وأن يترك جميع ما أمر بتركه.
قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [مريم:60] أولئك يكونون مع المؤمنين الصادقين في الجنان، وهي درجات ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، فأعلاها الفردوس، وهي مساكن الأنبياء والمرسلين.
قال تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:60] أي: لا يظلمون في كل ما قدموه من طاعة وفعل خير، حتى ما سبق أن فعلوه قبل المعصية وقبل الذنب فإنه يعود لهم ويجازون عليه ولا يظلمون منه شيئاً، وما تابوا منه تاب الله عليهم، والإسلام يجب ما قبله، ومن تاب تاب الله عليه، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).(27/3)
تفسير سورة مريم [61 - 68]
يصف الله تعالى الجنة التي وعد بها عباده الصالحين، وأنها دار إقامة لا انتقال منها، ولا يسمع فيها اللغو ولا الإثم، ثم يصف الله ملائكته أنهم لا يتنزلون ولا يعلمون أي عمل إلا بإذنه وأمره سبحانه فهم لا يعصون الله أبداً، ويفعلون ما يؤمرون.(28/1)
تفسير قوله تعالى: (جنات عدن التي وعد الرحمن)
قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم:61].
خلق الله الجنة وأكد أنها جنات عدن، أي: جنات إقامة دائمة، يقال: عَدِنَ في المقام في المكان إذا أقام فيه، فهؤلاء في الجنات سرمداً لا خروج ولا موت أبداً.
والجنة جنات وليست جنة واحدة، وهي جنات عدن مقيمة باستمرار يمتع فيها أهلها وسكانها، تلك الجنة التي وعد الله سبحانه بها عباده بالغيب، والله خير من يوفي بوعده، فقد وعدهم غيباً وهم لم يروها، أي: وعدهم بشيء آمنوا به بالغيب، قال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3].
والإيمان بالغيب أصل الدين؛ لأن الذين أخبرونا بذلك عباد لله مكرمون صادقون مصدقون، لا تعرف عنهم كذبة في حياتهم فكيف بالكذب على الله؟! هذه الجنات التي وعد الله عباده غيباً قبل أن يراها أهلها وسكانها سيدخلونها مع الأنبياء والصديقين، وحتى العصاة والمذنبون إذا تابوا وأنابوا وعادوا للطاعة مستغفرين من ذنوبهم نادمين على ما سلف منهم.
قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم:61] أي: كان موصولاً إليه، وذكر بصيغة اسم المفعول، وذلك أسلوب من أساليب العرب، يكون المفعول فاعلاً ويكون مفعولاً، فتقول: بلغت علي ستون سنة، وبلغت ستين سنة، ووصلني الخير من فلان، ووصلت الخير الذي لفلان، فسواء وصلك أو وصلته فأنت قد أتيته وأتاك، فأنت آت مأتي.
وكذلك وعد الله بدخول الجنان هو آت، بحيث سيبلغك وستكون فيه، وستمتع بما فيه من متع أهل النعيم، من المرسلين والصديقين والشهداء، وستبلغ أنت له فتمتع به، والشيء واحد، أتيته أو أتاك المهم أنه قد بلغك، وبلغت ما وعدك الله به ولقد كان وعد ربنا مأتياً، أي: لا بد أن يؤتى ويأتي، أن يأتي عباد الله الصادقين التائبين ويأتونه.(28/2)
تفسير قوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً)
قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62].
هذه الجنان عندما يكرمون بالدخول إليها لا يسمعون فيها لغواً، أي: لا يكون فيها من قول الباطل شيء، ولا من الكلام الذي لا يفيد، فهم لا يسمعون لغواً إلا سلاماً، وهذا استثناء منقطع، فالمستثنى من غير جنس المستثنى منه، أي: لا يجدون فيها إلا الأمان والسلام واليقين والراحة والسعادة.
كذلك يسلم عليهم الله جل جلاله فهو السلام ومنه السلام، وتسلم عليهم ملائكة الرحمة، وما السلام إلا العيش في سلام وأمان ويقين وكل ما يريد أن يعيش فيه المتنعم من سكان أهل الجنة.
فقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [مريم:62] أي: آذانهم لا تسمع إلا الحق والصواب، فلا تسمع اللغو ولا الباطل ولا ما لا يليق سماعه إلا سلاماً، فلا يسمعون إلا الأمان والسلام والتحية من الله ومن الملائكة من حين يصبحون وإلى أن يمسوا.
قال تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] فأهل الجنة يأتيهم رزقهم، ويأتيهم النعيم والطعام والشراب بكرة وعشياً، صباحاً ومساءً، ومع ذلك فالجنة لا بكرة فيها ولا عشي، أي: لا ليل ولا نهار، ولا حر ولا زمهرير، ولا ما يؤذي، إن هو إلا النور والإشراق.
فإذا أرخيت السبل فهو وقت النهار في دار الدنيا، فإذا أرخيت الحجب فذلك معناه وقت الراحة، مع أنهم لا يتعبون ليستريحوا، فهم في راحة أبدية مستمرة، ولكن ذلك باعتبار الدنيا، فقد كان أهل النعيم في الدنيا يأكلون صباحاً ويأكلون مساءً.
فالزمن الذي كانوا يأكلون فيه صباحاً ومساءً في الدنيا يرزقون فيه في الآخرة باعتبار زمن الدنيا، لا أن الآخرة فيها ليل أو نهار أو شمس.
فقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] بحسب تقدير البكور والعشايا في دار الدنيا، وإلا فإن الآخرة لا بكرة فيها ولا عشي، فالوقت كله نور وإشراق.(28/3)
تفسير قوله تعالى: (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً)
قال تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63].
تلك الجنة التي لا لغو فيها ولا تأثيم، وتلك الجنة التي يأتي الرزق فيها بكرة وعشياً، وتلك الجنة الدائمة الخالدة التي لا موت فيها ولا صخب ولا غم ولا هم، تلك الجنة يرثها المتقون من عباد الله، فهم ورثتها وسكانها وأهلها والقائمون عليها وفيها.
كما قال ربنا في تلك الصفات الكريمة النبيلة من سورة المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، حين قال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9] إلى أن قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11].
فأولئك هم ورثة جنة النعيم، الذين يورثهم الله جنته وجنانه خالدة دائمة.(28/4)
تفسير قوله تعالى: (وما نتنزل إلا بأمر ربك)
قال تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].
هذه الآية سبب نزولها مجيء كفار قريش يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الكهف من هم؟ وعن الروح ما هي؟ وعن قوم كانوا في أول الزمان فتاهوا فلم يعرف لهم مقام؟ فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (غداً نخبركم)، ولم يستثن ولم يقل: إن شاء الله، فلم يأته جبريل إلا بعد خمسة عشر يوماً، وقيل: أربعين يوماً، حتى ظن الظانون من كفار قريش أن الله قد قلى محمداً.
فعندما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي: (قد أطلت علي البعد حتى اشتقت إليك، قال: أنا لك أشوق، ولكننا عباد مأمورون، {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64]) أي: لا ننزل إليك من السماء ولا إلى خلق من خلق الله إلا بأمر من الله، فإن أمرنا نزلنا وإن لم يفعل بقينا.
قال تعالى: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم:64] أي: له ما بين أيدينا من مستقبلنا ومستقبل العالم والكون، قوله: {وَمَا خَلْفَنَا} [مريم:64] أي: وما سبقنا من دهور وعصور منذ كانت السماء دخاناً، والعرش على الماء، إلى أن خلق الله السماوات السبع والأرضين السبع، ثم خلق ما خلق، ثم خلق آدم ومن جاء بعده من أولاده من الأنبياء والرسل، إلى أن جاء خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه.
فهو سبحانه يملك المستقبل وعلمه، ولا يملكه أحد معه، ويملك الماضي وعلمه، ولا يملكه أحد معه، وله ما يستقبلنا من حياة وأعمال، فنحن لله بجسومنا وبأرواحنا وبتفاصيل أعمالنا، وبكوننا الذي نوجد فيه، ولذلك لا نأتي كمخبرين ولا معلنين ولا موحين إلا بشيء يوحيه إلينا، فإن أمرنا فعلنا.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] أي: لم ينسك ربك ولم يتركك، كقوله تعالى: {وَالضُّحَى} [الضحى:1] إلى قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] أي: لم يدعك ربك ولم يهملك ولم يقلك ولم يبغضك، ولكن ذاك شيء يقوله خصومك وأعداؤك من الكافرين.
ولكل من الآيتين سبب في النزول، فسورة الضحى نزلت عندما تأخر الوحي سنتين أو ثلاثة سنين بعد نزول الوحي في غار حراء، بحيث إن النبي صلى الله عليه وسلم اشتاقت نفسه لتمام الوحي والرسالة، فكان المشركون من أهل مكة يقولون عنه: ولقد قلاك ربك وودعك، فنزل قوله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:1 - 5]، فدع هؤلاء في هذيانهم وهرائهم وباطلهم، فكل ثانية تمضي من وجود الكون إلا ولك فيها من الإفضال والأجر والثواب والخير والصلاح، بل وأكثر من ذلك.
ثم قال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] أي: لا كما زعمت قريش بغضاً وكفراً وتمنياً في العداوة.
وعن أبي الدرداء كما في مسند أحمد وكما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما حرم الله فهو حرام، وما أحله فهو حلال، وما سكت عنه فهو عفو، فخذوا من الله عافيته) أي: ما لم ينص على كونه حراماً فهو حلال، ثم تلا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، فربك لا ينسى ولا تأخذه سنة ولا نوم، فالله جل جلاله لا ينسى خلقه ولا ينسى تدبيرهم ولا رزقهم ولا عطاءهم ولا عقوبة أهل العقوبة منهم.(28/5)
تفسير قوله تعالى: (رب السماوات والأرض وما بينهما)
قال تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] أي: ليس هو ربك وحدك، بل هو رب السماوات ورب الأرضين ورب ما بينهما من هذه النجوم التي نرى، والتي لا يحصي عددها إلا الله، ومن هذه المجرات التي تعد بالملايين، وما بين ذلك، فهو رب كل شيء سبحانه.
فقوله تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم:65] أي: رب كل سماء وكل أرض، ورب ما بين كل سماء وأرض.
قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:65] أي: لا تكل ولا تمل، بل اعبد الله حتى يأتيك اليقين، واعبد الله ما دمت حياً، واعبده بما أمرك به، ولا تكون العبادة اختراعاً أو اجتهاداً، ولا تكون بالأماني والأحلام، فقد أمرنا بخمس صلوات في أوقاتها المعهودة، فمن نقص أو زاد أو صلاها قبل الوقت أو بعده يكون متلاعباً لا تقبل منه صلاة، وما كان كذلك هو بالجهالة أو بالمستهزئين أقرب إلى صفة المسلم.
فقوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:65] أي: لا تمل ولا تكل، بل قم بالعبادات والطاعات كلها، فأمر بالصلاة فعلينا أن نصلي، وأمرنا بالصيام فعلينا أن نصوم، وأمرنا بالحج فعلينا أن نحج، وأمرنا بالعطاء فعلينا أن نعطي، وأمرنا بالجهاد فعلينا أن نجاهد، وهكذا في جميع أبواب الخير.
قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] أي: هل تعلم لله شبيهاً يخلق السموات والأرض كما خلقها سبحانه؟
الجواب
لا، لا نعلم ولا يوجد، فليس له شريك ولا شبيه ولا ند، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4].(28/6)
تفسير قوله تعالى: (ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حياً)
قال تعالى: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم:66].
هذا الإنسان الطاغية المتجبر والضعيف الخلقة والنشأة مع ضعفه وهوانه وخلقه من ماء مهين، يأبى إلا الطغيان والكفر والشرك والخروج عن أمر الله.
فقوله تعالى: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم:66] أي: أيعقل أنني إذا مت وصرت فتاتاً في التراب سوف أرجع كما كنت؟! أيعقل أن أخلق مرة أخرى وأن أكون شيئاً مذكوراً؟! أيعقل أن أخرج من الأرض سميعاً بصيراً حياً متكلماً؟! وإذا بالله يقرعه ويوبخه بالدليل العقلي القطعي الذي لا يرده إلا مجنون.
فيقول الله له: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم:67] أي: أنسي الإنسان أننا عندما خلقناه أخرجناه لهذا الوجود ولم يكن قبل البتة، فلم يكن له ذكر ولا وجود ولا كيان، ثم بعد ذلك كان وأخرجناه، فأيهما أصعب: الإيجاد من عدم أو تجديد الحياة بعد أن كانت؟ وذلك أهون عليه، والكل هين عليه جل جلاله.
فالله يقول: ألا يذكر هذا المخلوق الضعيف أنا خلقناه وأبدعناه وكوناه وأوجدناه ولم يكن شيئاً مذكوراً، قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، نعم قد أتى.(28/7)
تفسير قوله تعالى: (فوربك لنحشرنهم والشياطين)
قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم:68].
يقسم الله بذاته العليا أنه سيحضر يوم القيامة هؤلاء المنكرين للبعث وسيأتي بهم يوم القيامة مقرنين مع الشياطين، ثم يجمعهم معهم جمعاً.
فقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} [مريم:68] أي: يحشرون يوم القيامة، ثم يؤكد الله ذلك باللام الموطئة للقسم تأكيداً للقسم الأول ليحشرنهم مع الشياطين، ويقسم بأنه سيقذف بهم في جهنم مع الشياطين.
قال تعالى: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم:68] أي: ثم لنأتين بهم ليحضروا محاطين بجهنم جثياً، أي: قائمين على الركب، وهو جمع جاثٍ؛ لذلهم وهوانهم وكفرهم وإشراكهم، نعوذ بالله من أحوالهم.(28/8)
تفسير سورة مريم [68 - 72]
يتوعد الله تعالى الكافرين والصادين عن سبيل الله تعالى بأن يحشرهم ويجمعهم مع الشياطين حول جهنم وهم جاثون على ركبهم من الخوف، ويذكر تعالى أن البشر كلهم واردون النار، وذلك هو المرور على الصراط، فينجو المؤمنون ويكب الكافرون في النار على وجوهم عمياً وبكماً وصماً.(29/1)
تفسير قوله تعالى: (فوربك لنحشرنهم والشياطين)
قال الله جل جلاله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم:68 - 70].
كنا مع الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين، وما أعد الله لهم من جنان وخيرات ونعيم ورضوان، وهانحن أولاء مع من أنذروا بكفرهم وخروجهم عن أمر الله، وهكذا فإن الله جل جلاله في كتابه الكريم يقابل بين نذارة وبشارة، كما هي وظائف الأنبياء فإنهم يبشرون الصالحين بالجنة والرضا، وينذرون الطالحين بالسعير والغضب من الله.
يقول جل جلاله عن هؤلاء الذين عصوا وتمردوا وكفروا وأشركوا ويقسم الله بذاته العلية: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم:68] أي: بعد أن يلعنهم ويبعثهم ويجدوا أنفسهم في يوم القيامة مع الشياطين الذين عبدوهم واتبعوهم في دار الدنيا، يحشرهم جميعاً إليه ويقذفهم في النار.
قوله تعالى: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم:68] أي: ثم ليكونن حاضرين موجودين مقيمين حول جهنم جثياً، والجثي: جمع جاث، وهو الواقف على ركبتيه؛ زيادة في الذل والهوان مع الازدحام الشديد من أهل النار، فلا يكادون يجدون مكاناً للجلوس إلا ما كان من الوقوف على الركب.
قال الله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:69].
وبعد أن يحشر الله الكفرة الظالمين أئمةً وتابعين، يجمع الأئمة وينزعهم من بين أتباعهم، كما قال: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ} [مريم:69]، أي: يزيل هؤلاء الأئمة الذين كانوا يصدون عن سبيل الله، وكانوا يدعون للشرك والضلال، وكانوا يصدون عن النبوءات والرسالات، فينزعهم من بين جموعهم وأتباعهم.
قال: {مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} [مريم:69] أي: من كل أمة، أو من كل طائفة أو جماعة.
قال: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:69]، (أيهم) هنا بمعنى: الذي، فهي تعامل معاملتها في أنها تبقى مبنية لا ترفع ولا تنصب ولا تجر، فتقول: رأيت أيُّهم أعلى مقاماً، ومررت بأيُّهم أحسن علماً، وجاء أيُّهم أرفع شأناً؛ حتى ضرب بها المثل فقيل في النحو: أي كذا خلقت، أي: خلقت مبنية على الضم أبداً، فلا تؤثر فيها المؤثرات من الإعراب.
قوله: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:69] أي: أكثرهم ظلماً وطغياناً وعتواً وفساداً في الأرض، فهؤلاء يجمعهم الله ليكون عذابهم أشد ومحنتهم أنكى، فيتحملون عذابهم وعذاب أتباعهم بحيث لا ينقص من عذاب أتباعهم شيء.
فقوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:69] أي: ثم يخلع الله وينزع من كان أشد عتواً وظلماً وكفراً وغلواً من بين أتباعه، ليكون مزيد العذاب له؛ جزاء كفره وإمامته في الكفر، قال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12]، وهكذا نبه الله على قتالهم بالذات.
قال تعالى: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم:70] أي: أعلم منك يا محمد! وأعلم من الخلق كلهم بمن يستحق العذاب والحريق والغضب واللعنة، قال: {بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم:70] أي: حريقاً، وصلي جمع: صالٍ، أي: محترق في النار، وهو من التصلية أي: التحرقة بالنار، إذ تصلى وتشتعل وتلتهب، ويكون هو وقودها وأعوادها وفحمها.
فقوله: {هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم:70] أي: أولى بالنار من غيرهم؛ لشدة كفرهم وطغيانهم وتعديهم، ولشدة صدهم عن الله ورسالاته، فهؤلاء يكونون في قعر جهنم وينالون من العذاب ما لم ينله أحد، إذ يُزاد في عذابهم لإمامتهم وكفرهم، وبعدهم عن الله ورسالاته.(29/2)
تفسير قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها)
قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71].
قوله: (وإن منكم) أي: ليس منكم من أحد برٍ أو فاجر، مسلم أو كافر إلا ويرد على النار ويمر عليها، ثم ينجي الله كل واحد بعمله، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، فكان ورود هؤلاء أبراراً وفجاراً على ربك حتماً مقضياً، أي: أوجب ذلك على نفسه فأقسم عليه بذاته العلية، وكون كل إنسان سيدخل النار هي عقيدة المسلمين جميعاً، وينكرها الكثير من الطوائف المبتدعة من المسلمين، مثل نافع بن الأزرق وكان من الخوارج، وكان يسأل ابن عباس عن آيات القرآن وعن بيانها وتفسيرها من اللغة والسنة، فقال نافع: يا ابن عباس! قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] من الوارد؟ قال: أنا وأنت، قال: لا؛ يردها الكافر، قال: أنا وأنت، أما أنا فسأخرج منها، وأما أنت فستبقى فيها لتكذيبك، فضحك نافع.
ويعتقد هؤلاء أن الآية خاصة بالمشركين، ولكن الأحاديث الصحيحة المتظافرة تؤكد هذا المعنى، يقول عليه الصلاة والسلام: عندما يحشر الناس يوم القيامة: (يضرب ما بين الجنة وبين النار صراط، هو أحد من السيف، على جانبيه كلاليب تحملها الملائكة، وهذا الصراط مدحضة مزلة) أي: لا تكاد تقر عليه رجل الإنسان، فيجد نفسه أنه لا يستطيع أن يستقر عليه، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أما أنا فسأكون أسرعكم مروراً عنه، فسأمر عليه مرور الريح المرسلة، وتمر عليه الأنبياء كذلك، وسيمر عليه الصالحون وعباد الله المتقون: بعضهم كأجاويد الخيل، وبعضهم كالمسرع من الدواب، وبعضهم كالمسرع من الإنسان، وبعضهم يمشي عليه حبواً فيقف ويسقط، والبعض لا تكاد تقف رجلاه حتى يسقط في قعر جهنم، وتأخذه الملائكة بالكلاليب وتسحبه إلى النار، وتقول الملائكة والمؤمنون والأنبياء والصالحون والشهداء: اللهم سلم سلم) أي: يكون دعاء الملائكة ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يمشون على الصراط: اللهم سلم، اللهم سلم.
فهذا الحديث متواتر، وقد تواترت الرواية فيه عن الجماهير من الصحابة، ومما يؤكد ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما من إنسان يموت له ثلاثة من الولد إلا وأنجاه الله من النار إلا تحلة القسم)، وتحلة القسم هي قسم الله أن يرد النار كل إنسان، ولتحليل يمينه جل جلاله يمر هؤلاء عليها مروراً لا تكاد تؤذيهم ولا تمسهم، ولكنهم مع ذلك يدخلونها ويمرون عليها.
فقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] أي: سبق في علمه السابق أنه من الحتم المقضي القائم الواقع أن يدخل كل إنسان براً كان أو فاجراً إلى النار، كما قال تعالى بعد في الآية: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] أي: واجباً وقائماً واقعاً.
والآية الثانية تؤكد هذا المعنى، إذ يرد النار كل إنسان سواء كان مؤمناً أو كافراً براً أو فاجراً، أما التقي الصالح فقال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:72]، ولا تكون النجاة إلا من الوقوع في تهلكة، ثم تقع النجاة، فهم قد وردوا النار ولكن الله نجاهم لتقواهم وصلاحهم.
فقوله تعالى: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72] أي: نترك وندع الظالمين لأنفسهم بالكفر والشرك جاثين على ركبهم، إذ لا يكادون يجدون مستقراً زيادةً في النقمة والعذاب والآلام، ولما في النار من الزحام الشديد لا تكاد تحمل من فيها وهي مع ذلك تطلب المزيد، فيضع عليها الرحمان قدمه، فتقول: قطني قطني.
وأما الجنة فيبقى فيها فراغ كثير، فيخلق الله لها خلقاً ليتمتعوا ويؤنسوا المؤمنين.(29/3)
تفسير سورة مريم [73 - 84]
إن الله تعالى يزيد من اهتدى وسعى في الخير خيراً ويوفقه إلى الصالحات، ومن تنكب طريق الخير واتبع الشر فإن الله يمد له في الشر حتى يستدرجه، ولا يبقى إلا الأعمال الصالحة التي تنفع العبد في الدنيا والآخرة، وغير ذلك يضمحل ويفنى.(30/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات)
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73].
ينزل الله جل جلاله آياته البينات ومعجزاته الواضحات وعلامات قدرته على الخلق، والإيجاد مما لا يستطيعه إلا هو جل جلاله وعز مقامه، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} [مريم:73] أي: إذا تتلى على الناس قصص الأنبياء، وقدرات الله تعالى على الخلق والإيجاد بما يعجز عنه الناس.
قوله: {بَيِّنَاتٍ} [مريم:73] أي: واضحات معروفات لا ينكرها إلا أعمى البصيرة قبل أن يكون أعمى البصر، فعندما يحدث ذلك في دار الدنيا يقول الذين كفروا للذين آمنوا: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73] أي: فريق الكفر وفريق الإيمان أيهما أحسن مقاماً؟ والمقام: هو المنزل، والندي: هو المجلس، فهؤلاء السخفاء يظنون أنهم الأفضل؛ لأنهم أغنى من المؤمنين، وأكثر رفاهية، وأوسع دوراً، وأعظم قصوراً، وأحسن مجلساً، وأما الفقير المسكين فقد قال صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره)، فهؤلاء الطغاة والأغنياء والعتاة والمرفهون يجلسون مجالسهم في دار الدنيا بالحرام وأكل السحت، وأخذ أموال الناس ظلماً وعدواناً في الأرض، ويقولون للمؤمنين: انظروا أينا خير مقاماً؟ أنحن في بهاء وجوهنا، وجمال قصورنا، وسعة مرافقها؟ أم أنتم في ضيق عيشكم ومساكنكم التي لا تكاد تظلكم ولا تكاد تئويكم؟ ويقال عن المجلس: النادي.
وكان قصي جد النبي صلى الله عليه وسلم قد بنى مجلساً وأسسه في مكان الصفا والمروة، وكان يجلس فيه مع كبار قريش والعرب عندما يفدون للعمرة أو الحج إلى مكة المكرمة، وكانت تسمى دار الندوة إلى أن أدخلت في المسجد، فكان نادي حفيده المصطفى صلى الله عليه وسلم أعلى شأناً من ناديه، فقد كان نادي قصي في شئون الدنيا، وكان نادي رسول الله بيت الله الحرام وبيوت الله بنيت للقيام فيها والركوع والطواف والسعي، والقيام بكل خير لصالح الإسلام والمسلمين، فضم النادي الأول إلى النادي الجديد وأصبح جزءاً من بيت الله الحرام.
فقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73] يعني: أي الفريقين أعلى منزلة: فريقهم الكافر، أو فريق المؤمنين الصالح؟ وهكذا ضحكوا على أنفسهم، واستدرجوا بذلك استدراجاً، ومن الذي ملكهم إياه ونفعهم به؟ فبدلاً من أن يجعلوه سبباً للشكر والإيمان والحمد على النعم جعلوه زيادة في الكفر والمعصية.
ويسخر الله منهم ويقول: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم:74].
فهؤلاء السخفاء قد سبق قبلهم من الأمم الضالة والعشائر الكافرة من كانوا أقوى سلطاناً، وأعظم مكاناً وقصوراً، وأوسع مرافق، وأجمل ندياً، ومع ذلك عندما كفروا وطغوا عاقبهم الله جل جلاله بالهلاك والدمار واللعنة والغضب، ونزع عنهم كل ذلك، وأورثه الذين جاءوا بعدهم من المؤمنين والمؤمنات، وعوضهم عن كل ذلك السعير والنار الدائمة المقيمة، ولعنة الله المحيطة بهم من كل جانب.
قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} [مريم:74] القرن يطلق على الزمان وعلى أهله، فيطلق على الفئة التي عاشت خلال مائة عام، والعصر الذي دام مائة عام، والكلمتان متلازمتين، فلا يأتي زمن إلا وله أهله، والزمن ملازماً لحياتهم ووجودهم، فالمآل واحد.
قال تعالى: {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم:74] أي: أحسن رئاسةً ولباساً وزينة وفرشاً، فهم أحسن في كل ما يزين القصور ويعلي شأنها أمام أهل الدنيا، فهؤلاء لا يعبدون إلا الدينار والدرهم.
الرئي: المرأى، أي: أحسن جمالاً ورؤية وصباحة وأشب أجساماً، وأطول قامات.(30/2)
تفسير قوله تعالى: (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً)
قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا} [مريم:75].
يذكر تعالى هؤلاء الذين ما زادتهم الموعظة إلا كفراً، وما زادتهم دعوة الأنبياء إلا فراراً، وما زادهم حرص الأنبياء والعلماء على هدايتهم وصلاحهم إلا عناداً وكفراً.
{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ} [مريم:75] قل يا محمد: إن هؤلاء الذين عاشوا في الضلالة والشرك والعصيان والخروج عن طاعة الله سيستدرجهم الله من حيث لا يعلمون، ويمد لهم الرحمن في الضلالة، بحيث يزيد أموالهم وجاههم وسلطانهم فيزدادون بها كفراً وطغياناً وصداً عن الله، وما ذلك إلا استدراج لهم للعذاب الأليم، قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم:75] أي: يمد له من الحياة والصحة والشباب ومن الجاه والمال والسلطان.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} [مريم:75] أي: حتى إذا وقعوا فيما أوعدهم به أنبياؤهم وعلماؤهم، قال: {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} [مريم:75] أي: إما عذاب الدنيا من نصر المؤمنين وأسر الكافرين واستعبادهم، وغنم أموالهم وتحقيرهم، وهو عذاب الدنيا على يد عباد الله الصالحين.
وإما أن يمد الله لهم إلى أن يموتوا فيحشرون، وإذا بهم يعيشون في واقع القيامة، فيكون عذاب الله أشد وأنكى من عذاب المحشر وعذاب الويل في جهنم، وشرب القيح والصديد وما يخرج من فروج الزواني في النار والسعير، فيصرخون ويندمون ولات حين مندم.
قال تعالى: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا} [مريم:75].
وقد كانوا في الدنيا من قبل يتيهون بجمالهم وكثرة قصورهم وأموالهم، وكثرة جندهم وجاههم وسلطانهم، فعندما يكونون بين يدي العذاب الأليم فسيعلمون الحقيقة إذ ذاك، فقوله: {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا} [مريم:75] أي: من هو الأشر والأقبح ألمؤمنون أم الكافرون؟ قوله: {وَأَضْعَفُ جُندًا} [مريم:75] أي: ومن جنده أذل وأضعف سلطاناً وأقل شأناً وأكثر هواناً، فلا يكادون ينفعون مواليهم لا بنقير ولا بقطمير، بل يزدادون عليهم لعنة وشتيمةً وتحقيراً.(30/3)
تفسير قوله تعالى: (ويزيد الله الذي اهتدوا هدى)
قال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم:76].
أي: كما زاد الله هؤلاء الكافرين استدراجاً للعذاب، فاستدرجهم نكايةً بهم وتأديباً ليكونوا مثلاً للآتين، كذلك يزيد أهل الصلاح والفلاح إيماناً، قال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76] أي: الذين اتقوا الفواحش والمعاصي، والتقوى والطاعة: فعل أوامر الله ورسوله، وترك نواهي الله ورسوله.
فقوله: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76] أي: صلاحاً وعافيةً وتقىً واستمساكاً بالدين وكثرة طاعات وبعداً عن المعصيات، قوله: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) أي: الهداية بالباقيات الصالحات، قوله: (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا) أي: أكثر ثواباً من غيرها عند الله في دار الدنيا والآخرة، فتسجلها الملائكة وترفعها لله جل جلاله؛ ليحاسب بها ويجازي عليها، قوله: {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم:76] أي: خير مردود، ومردودها: ربحها من الأجر والثواب وكثرة الرضا والرحمات.(30/4)
معنى الباقيات الصالحات
قال الجمهور: الباقيات مأخوذة من لفظها، أي: الصالحات الدائمات، فصالح المال ينتهي، وصالح اللباس ينتهي، وصالح السكن ينتهي، وصالح الجاه ينتهي، أما صالح العبادة وذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جنب فهي الباقيات، وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحواله، روي عن أبي سلمة وأبي الدرداء: أن الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أي: الذكر بالتهليل والتعظيم والتسبيح والتنزيه، فهو الذكر الدائم الخالد الصالح، وهو أكثر ثواباً من غيره، والصلاة أشرف العبادات، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، ويقول عن الذكر: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، والصلاة مشتملة على الذكر وأنواع العبادات من قيام، وقعود، وجلوس، وتلاوة قرآن، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهي عبادة جامعة.
وقال أبو الدرداء: إني لأهلل ربي وأسبحه وأعظمه وأنزهه حتى يقول الرائي والمبصر لي: مجنون، وهذا تحقيق لقوله صلى الله عليه وسلم: (اذكر الله حتى يقال: مجنون)، ولم لا يجن الإنسان بذكر الله وقد جن البشر بالبشر، فـ مجنون ليلى جُن بـ ليلى وهي إنسانة من لحم ودم، وليست نبية ولا بنت نبي ولا صالحة، ولا بنت رجل صالح، ولكنها امرأة من عامة الناس جن بها وتاه، وضاع سنين طويلة، فكان لا يرى إلا مع الحيوانات في الفيافي والبراري، ولقد حكى أحد كبار العارفين أن ليلى بعد أن تزوجت قالت لزوجها: بلغني أن المجنون في هذا المحيط فهل تسمح لي أن أبحث عنه وأقف عند رأسه وأكلمه؟ قال: افعلي، فأخذت تبحث عنه فوجدته فقالت له: قيس! وهو لا يجيب، فقالت له: أنا ليلى، فعندما قالت ذلك رفع رأسه فصوبه وصعده ثم قال لها: إليك عني أنا مشغول بك عنك.
وفسر هذا العارف الكبير قولته هذه: أن طريق حب مجنون ليلى لـ ليلى كان طريقه لحب الله والفناء فيه؛ لأنه عندما رفع بصره إليها وجدها قد تغيرت، إذ لم تكن على الصورة المعروفة عنها منذ أكثر من عشرين عاماً، فقال لها: أنا مشغول بك عنك، فمن الذي أعطاك ذلك الجمال الذي تيمني؟ ومن الذي أزاله عنك؟ إذاً: أنا مع الذي لا يزول ولا يحول، أنا مع الله جل جلاله، وهكذا تيم المجنون في الله، وأصبح شعره في الله جل جلاله.
فقوله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [مريم:76] أي: ذكر الله وتسبيحه وتهليله وتمجيده، قوله: {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} [مريم:76] أكثر ثوابا، ً وأصل خير: أخير، ولكن خير صيغتها هكذا بلا ألف، قوله: {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم:76] أي: في مردودها الأجر والثواب، ورضا الله ورحمته بالذاكرين الموحدين المهللين المسبحين، إذ يكون أجرهم في الدرجات العلى عند الله في جناته.(30/5)
تفسير قوله تعالى: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا)
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} [مريم:77 - 79].
هذه الآيات نزلت في العاص بن وائل، فقد كان له حداد يخدمه ويصنع له الأسلحة والسيوف والدروع، وهذا الحداد هو خباب بن الأرت من دراويش الصحابة، ومن كبار العارفين بالله منهم، فجاءه ذات يوم يريد أن يقبض ما عنده من دين له لسيوف صنعها له، فقال له العاص: لا أعطيك شيئاً حتى تكفر بمحمد، فقال خباب: والله لو مت ثم بعثت ثم مت ثم بعثت فلن أكفر بمحمد، فقال العاص: فإن بعثت أنا فسأكون أكثر مالاً وولداً، فتأتيني إذ ذاك وأقاضيك، فسخر الله منه لكلامه الذي يدل على صغار عقله وشدة كفره برسل الله.
فقوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} [مريم:77] أي: كفر بالقرآن وبقدرة الله وتوحيده، وكفر برسوله، ومع كفره قال: (لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا) إن أنا بعثت يوم القيامة، وأقسم على ذلك بلام التوكيد للقسم، وبنون التوكيد الثقيلة، فقال الله له: {كَلَّا} [مريم:79] وهي تقال لردع ما قبلها، ولتأكيد ما بعدها، فقد ردع بها العاص بن الوائل لما تألى على الله وكذب، ومن يتألى على الله يكذبه، وجاءت (كلا) لتأكيد ما بعدها، فقال الله تعالى: {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} [مريم:79] أي: ستسجل عليه ملائكتنا كفره وهراءه، ويؤتي بكتابه يوم القيامة فيحمله بيساره، ونمد له مداً من العمر فيستدرج وتطول حياته ويكثر ماله وجاهه استدراجاً من الله له ليزداد عذابه؛ لأن كفره ليس ككفر الجاهلين، ولكنه كفر الصادين المعرضين.(30/6)
تفسير قوله تعالى: (ونرثه ما يقول ويأتينا فرداً)
قال تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:80].
فهو يتكبر بأن عنده مالاً وولداً وطغى بذلك في دار الدنيا، فسنكون الوارثين لماله ولولده، أي: نفقره ونميت أولاده، ونجعله أبتر لا مال ولا ولد، زيادةً في الإذلال، ويكون الوارث لهما هو الخالق لهما جل جلاله، والذي قاله العاص: إن له مالاً وولداً، ويريد أن يطغى به على النبوة والرسالات، ومع ذلك سيأتينا يوم القيامة فرداً لا مال له ولا ولد، فكلنا نخرج إلى لعالم فرادى ونعود إليه فرادى: ملوكنا وخلفاؤنا وكبراؤنا وأغنياؤنا وعلماؤنا، وكل من على وجه الأرض، فكما جئنا فرادى سنعود يوم القيامة فرادى، ولن يأتي أحد بمال ولا جاه ولا سلطان، إن هو إلا الجسد العاري قد انتهى كفنه، ونقف بين يدي الله حفاةً عراة غرلاً، قالت السيدة عائشة: يا رسول الله! أينظر بعضنا لبعض ونحن مكشوفو العورات؟ قال: (هيهات يا عائشة! الأمر أعظم من ذلك).(30/7)
تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً)
قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا} [مريم:81 - 82].
يقول تعالى عن هؤلاء الكفار: سيكفرون يوم القيامة بعبادتهم، أي: المعبودون من الشياطين والإنس والملائكة والأحجار والأوثان كلهم سيتبرءون من هؤلاء العابدين، فيقولون: ما أمرناهم ولا طلبناهم ولسنا لأحد بآلهة، إنما نحن خلق الله وصنعه.
فقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} [مريم:81] أي: أشركوا بالله في دار الدنيا، فمنهم من عبد الملائكة، ومن عبد الجن، ومن عبد الإنس، ومن عبد الحجارة، وكلُّ عبد ما شاء له هواه واتخذ إلهاً له.
قوله: {ليَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم:81] أي: أرادوا أن يعتزوا بهم، وأن يأخذوا بهم سلطاناً، وأن يتعاظموا بهم على خلق الله وهيهات، إن هي إلا عقول أضلها بارئها، والشرك لا يحفظ للإنسان عقلاً؛ لأنهم عبدوا حجارة وخلقاً لا يضرون أنفسهم ولا ينفعونها، فكيف يريدون منها الاعتزاز؟! قال تعالى: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:82] أي: سيكفرون يوم القيامة بعبادتهم، فيقولون لهم: ما طلبناكم في عبادة ولا كلفناكم بعبادة، ولسنا المعبودين، فالمعبود هو الله الخالق وحده، ونحن عباد من عباده، فقد أكرمنا سبحانه بالتوحيد، فكوننا نطلب أن يعبدنا أحد فهيهات هيهات، فتلك افتراءاتكم وأكاذيبكم وخزعبلاتكم ما أنزل الله بها من سلطان.
قال تعالى: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:82] أي: ويكون هؤلاء المعبودون من دون الله أضدادهم وأعداءهم وخصومهم المحاربين لهم المشوهين سيرتهم، وهكذا يوم القيامة يبين الله الحقائق بعد أن أنكر هؤلاء الكفار الإيمان بالغيب، ورسالات الرسل، وكتبه سبحانه التي أنزلها على عباده المصطفين الأخيار.(30/8)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً)
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83].
أي: ألم تر يا محمد! أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين وهم أشد كفراً من كفار الإنس؛ لتؤزهم ولتحسن لهم كفرهم وتزين لهم ظلمهم، وليزدادوا كفراً على كفر ما داموا قد أشركوا بالله، وابتعدوا عن طاعة الله، وأبوا إلا أن يعيشوا كالحيوانات التي لا تكاد تصنع لنفسها أو لغيرها خيراً في دار الدنيا ولا في الدار الآخرة، فقوله: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83] أي: تقلقهم وتزعجهم وتزين لهم أعمالهم وكفرهم.
قال تعالى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] أي: يا محمد! لا تعجل على هؤلاء الكفار، فما أنذورا به واقعون فيه لا محالة، وسيعذبون في النار، وسينكر معبودوهم عبادتهم، وسينكر عبادتهم شياطينهم ويكونون أضداداً لهم، أي: أعداءً لهم، فلا يهتمون بهم بل يحتقرونهم ويقللون من شأنهم ولا يلتفتون إليهم، فقوله تعالى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} [مريم:84] أي: فالعذاب آت لا محالة، ولكل أجل كتاب.
قوله تعالى: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] أي: سيبلغ الكتاب أجله بعد سنين، وستنتهي أعمارهم فيقبلون على الله هلكى، ويدخلون القبور فيأتيهم منكر ونكير محاسبين لهم ومعزرين ومعذبين؛ لما صدر عنهم من معاصٍ وآثام.(30/9)
تفسير سورة طه [1 - 8]
افتتح الله سورة طه بخطاب نبيه صلى الله عليه وسلم أنه ما أنزل عليه القرآن ليشقى، ولكن تذكرة لمن يخشى، ثم ذكر سبحانه أنه لا إله إلا هو، وأنه مستو على عرشه، وله ملك السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى وأن له سبحانه الأسماء الحسنى.(31/1)
تفسير قوله تعالى: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)
قال الله جل جلاله: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3].
طه: اختلف المفسرون في تفسيرها وبيانها أكثر مما اختلفوا في فواتح السور والحروف المقطعة، وقيل عنها: إنها من الحروف المقطعة الماضية، وحكمها حكمها.
وقيل: طه: يا رجل، في لغة عكل وذبيان.
وقيل: يا إنسان.
وقيل: بأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما نزل عليه الوحي وأكرم بالنبوءة بالغ في العبادة حتى كان يقوم الليل كله، فاضطر بأن يراوح بين قدميه، ويقف على رجل ويرفع أخرى، كما روى عياض ذلك في الشفاء فقال الله له: {طه} [طه:1].
أي: طأ الأرض بقدميك، ولا تتعب نفسك، فلم ينزل عليك القرآن لشقاء ولا عناء ولا تعب.
وروي: بأن طه اسم من أسماء الله جل جلاله.
وروي: أنه اسم من أسماء السورة.
وروي أنه اسم من أسماء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا عند ربي قد سميت بعشرة أسماء، فذكر منها طه وياسين).
وكما سبق أن قلنا: لا يمكن البت والقطع بمعنى من هذه المعاني؛ لأننا لم نرو حديثاً صحيحاً في ذلك نعتمده ونلغي جميع الروايات، ولم يحصل لنا إجماع من الصحابة أو ممن جاء بعدهم، فنحن نلقي كل ذلك، ونقول: يحتمل المعنى أن يكون واحداً من هذه المعاني.
{طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2]: أي: لم ننزل عليك يا محمد هذا القرآن لتتعب به وتشقى منه، وقد قالت له كفار قريش عندما رأوا عناءه وتعبه وما يدخله على نفسه من مشقة السهر والقيام عابداً وقائماً وساجداً وراكعاً، قالوا له: لقد شقيت بهذا الكتاب يا محمد، فكذبهم الله وقال لنبيه: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2].
فلم يكن القرآن للشقاء لا لك ولا لأتباعك، بل كان للهناءة والراحة، والهداية والصلاح، ولسعادة الدنيا والآخرة، ولا يقلب من ذاك إلى غيره إلا إذا كان القارئ غير مسلم، أو مسلماً ناقصاً، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (رُبَّ قارئ يقرأ القرآن والقرآن يلعنه).
فالقرآن يلعن الكاذبين، ويلعن الفاسقين، ويلعن الظالمين والكافرين.
قوله: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:3].
استثناء منقطع من غير جنس الأول، أي: ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى الله والدار الآخرة، وما أنزلناه إلا عظة لمن يخاف الله، ويخاف عذابه ويخاف نقمته، وهو على ذلك ما أنزل إلا أمانة، وما أنزل إلا سعادة، وما أنزل إلا راحة، وليس كما زعم هؤلاء.
وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
وفي معجم الطبراني عن ثعلبة بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله جل جلاله للعلماء يوم القيامة عندما يستوي على الكرسي للقضاء بين الخلائق: ما أعطيتكم من علمي ومن حكمتي إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي).
قال الحافظ ابن كثير المفسر الجليل: هو حديث، جيد السند متصل الرواية، وثعلبة بن الحكم صحابي جليل ترجم له في كتب الصحابة.
قوله: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:3].
أي: ولكننا أنزلناه تذكيراً وتذكراً، وتفسيراً وتمعناً لمن يخشى الله والدار الآخرة، ويحسب حساب ما بعد الموت.(31/2)
تفسير قوله تعالى: (تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى)
قال الله تعالى: {تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى} [طه:4].
(تنزيلاً) بدل من (تذكرة).
أنزله الله جل جلاله على خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليكون خاتم كتب السماء، وليكون كتاب الحياة وكتاب الممات، وكتاب العظة والدرس، وكتاب الحكم والسلوك، كتاب ما يحيون من أجله، ويحيون له، وما يموتون على سلوكه والأدب معه.
{تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى} [طه:4].
والذي خلقها هو الله جل جلاله، والذي أنزل القرآن على عبده ونبيه صلى الله عليه وسلم هو الله جل جلاله، فمنزل القرآن هو خالق الأرض وخالق السموات السبع.
والعلى جمع عالية، وهي عالية بالنسبة لمن في الأرض، والأرض سافلة بالنسبة لمن في السماء، والكل خلق الله، والكل من أمر الله، والكل تحت جلال الله وتدبيره.
ولن يقدر على إنزاله، وعلى الوحي به إلا من قدر على خلق السموات السبع العلى، وخلق الأرضين السبع السافلة، وأوحى بالكتاب لنبينا عليه الصلاة والسلام.(31/3)
تفسير قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)
قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
الرحمن هو الله جل جلاله، وهو من الأسماء التي لا يليق أن يسمى بها إلا هو جل جلاله، قد نسمي مالكاً، ونسمي عزيزاً، ونسمي رءوفاً، ويكون ذلك مجازاً، ولكن اسم الجلالة الله واسم الجلالة الرحمن من خواص أسماء الله جل جلاله، لا يسمى بهما غيره، ولا يليقان بسواه.
وما العرش؟ وما الاستواء؟ العرش: خلق من خلق الله، كما في الصحاح والأحاديث المتواترة، يقول جل جلاله: (ما السموات العلى وما الأرضون السفلى أمام عظمة العرش إلا كحلقة ملقاة في صحراء من الأرض أو في فلاة من الأرض).
لا يعلم عظمه، ولا يعلم كبره، ولا يعلم كم يصل إلا خالقه جل جلاله، وقد فسر هذه الآية سلف وخلف.
أما الخلف: فزعموا أنهم يريدون بذلك أن يخضعوا قواعد التوحيد إلى الفلسفة اليونانية وإلى مذاهب علم الكلام من الأشعرية والماتريدية والمعتزلة وما إلى ذلك، فقالوا كلاماً عند فهمه وتحقيقه نخرج بأنا لا نعلم أين الله، فهم يقولون: لا في السماء ولا في الأرض، ولا خارجاً عنها، ولا داخلاً فيها، لأن كل شيء من ذلك إذا قلناه قلنا بالحيز، وذلك من صفات المخلوق.
فقلنا لهم: ما حملكم على ذلك، ألا يكفيكم ما جاء عن الله، وعن رسول الله، فنثبته كما جاء ونؤمن به كما أنزل وكما فسره صلى الله عليه وسلم؟ ويقولون عن تفسير السلف: رأي الخلف أعلم، ورأي السلف أسلم.
ونحن نقول: رأي السلف في هذا أعلم وأسلم معاً، أسلم لأننا نروي فيه آيات، ونروي فيه أحاديث، وما كان الاستدلال عليه بقال الله قال رسوله كان أعلم بالقطع واليقين، وما كان فيه آية كريمة وحديث نبوي صحيح كان أسلم عاقبة، وأسلم مسئولية، أمام السؤال في القبر، وأمام سؤال الله يوم الحشر، ويوم العرض عليه جل جلاله.
ومن هنا عندما يقال في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، ونقول: إن هناك رأيين وتفسيرين أحدهما: وصفه بالأعلم، والثاني: وصفه بالأسلم، نقول نحن: الرأي الذي فسره السلف أسلم عاقبة، وهو أعلم دليلاً وبرهاناً.
وقد سئل الإمام مالك رحمه الله وهو في المسجد النبوي: يا أبا عبد الله! ما معنى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؟ فأطرق ملياً وفكر برهة ثم التفت إلى السائل قائلاً: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة، يا شرطي أخرج هذا من مسجد رسول الله.
فاعتبره من المفسدين! وذلك لأن السلف لم يدققوا في هذا فقد فهموه بلغته العربية، وبالدلالة عليه عندما حصروا المعنى في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فقالوا: لا شبيه له لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكل ما ورد مما يشبه ذلك أو يتشابه فالله أعلم بحقيقته، وليس معناه على ظاهره، إذ الله جل جلاله لا يستوي استواء خلقه، ولا يجلس جلوس خلقه، ولكننا نقول كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، ونعتبر التدقيق في ذلك والنبش عليه من بدع علماء الكلام.
ومن هنا كان السلف الصالح يكرهون علم الكلام، وقالوا: علم الكلام كلام بلا دليل، كلام بفلسفة تشبه الفلسفة اليونانية التي تعدم الحجة والدليل من قال الله وقال رسوله، ومن هنا كتب ابن تيمية كتاباً يذم فيه علم الكلام، وينفر عنه، وكتب بعده بأكثر من قرن السيوطي كتاباً زيفه وقبحه ونفر عنه، وكلا الكتابين مطبوعان منتشران.
والقرآن منه متشابه وغير متشابه، {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7].
وكقاعدة عامة سلفاً وخلفاً: لا نكاد نجد طائفة ضالة مبتدعة إلا وتحتج على بدعتها بالآيات المتشابهات، وقد قال لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم من يتبع المتشابه فذلك الذي حذر الله منه).
خاصة إذا كان الاهتمام بالمتشابه قبل الاهتمام بالمحكم من الحلال والحرام، ومن القصص ومن ذكر الأنبياء، ومن ذكر الدنيا والآخرة، ومن ذكر الجنة والنار، ومن ذكر ما جرى على الضالين المكذبين، وما سيجري على الصادقين المتقين الأخيار من عباده.(31/4)
تفسير قوله تعالى: (له ما في السموات وما في الأرض)
قال تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:6].
الله جل جلاله الذي وصف ذاته العلية بأنه على العرش استوى ذكر أن له السموات السبع والأرضين السبع، وما بين السموات والأرضين، وما بين كل سماء وسماء، وما بين كل أرض وأرض، {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:6].
يقول صلى الله عليه وسلم عن السموات: (ما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام) ولم يحدد لنا هل هي من تقدير سنوات الأرض، أو مما قال الله عنه في كتابه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، أو كخمسين ألف سنة كما في مقدار العروج إليه، وبما أنه لم يفصل فإننا نمر ذلك كما ورد ونقول: الخمسمائة عام يحتمل أن تكون خمسمائة ألف عام، ويحتمل أن يكون اليوم بخمسين ألف سنة.
وما بين سمك بداية السماء ونهايتها خمسمائة عام كذلك، والأرض التي نراها وما تحتها، وما نراه من المجرات والنجوم التي لا حصر لها هي ما بين السماء والأرض، فهي خلق الله، وتحت أمر الله وجلال الله.
والثرى: التراب الندي، كالتراب الذي يصيبه طل وندى، وبهذا المعنى ورد في مسند أبي يعلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قفل من غزوة تبوك، وكان الوقت وقت حرارة شديدة، ففرق الناس وحداناً وجماعات، يقول جابر بن عبد الله: (كنت مع فرقة بين ثلاثة وأربعة، وإذا برجل يمر علينا ويقول: أفيكم محمد؟ قال: فيذهب رفاقي وأبقى أنا واقفاً، وأقول له: هو ذاك محمد الراكب الجمل الأحمر، فوقف ينتظر، فجاء صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، وهو على جمله الأحمر، مقنع بثوبه من حرارة الشمس، فتقدم هذا الرجل السائل عنه وقال له: أأنت محمد؟ قال: نعم.
أنا محمد، وما تريد؟ قال: أريد أن أسألك أسئلة تجيبني عنها؟ قال: سل عما بدا لك.
فأخذ يسأل: أينام الأنبياء؟ قال: تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم.
قال: مم يكون الشبه في الأولاد بين الآباء والأمهات؟ قال: للرجل ماء أبيض غليظ، وللمرأة ماء رقيق أصفر، متى امتزج الماءان وغلب أحدهما على الآخر كان الشبه.
قال: ما للولد من الأب وما له من الأم؟ قال: له من الأب العظام والعصب والعروق، وله من الأم اللحم والدم والشعور.
ثم قال له: ما هذه الأرض وما الذي تحتها؟ قال: خلق من خلق الله.
قال: وماذا تحتهم؟ قال: أرض.
قال: وما تحت الأرض؟ قال: الظلمة.
قال: وما تحت الظلمة؟ قال: ماء.
قال: وما تحت الماء؟ قال: الثرى.
قال: وما تحت الثرى؟ ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم دمعاً وقال: هنا انقطعت علوم الخلائق إلى علم الخالق، وما المسئول أعلم من السائل، وإذا به لم ير، فقال للحاضرين صلى الله عليه وسلم: ذلك جبريل).
هذا الحديث استغربه ابن كثير، واستغربه يحيى بن معين وقالا: إن فيه علة لأنه من رواية القاسم بن عبد الرحمن وقد تفرد به، ولا يحتمل تفرده بمثل هذه الأحاديث؛ ولكنه على أي حال أقرب لتفسير الثرى المذكور في الآية، ومجموع الآثار الواردة في ذلك من أحاديث وإسرائيليات فيها ما يشبه هذا المعنى، وأن بعد الثرى ثور، وبعد الثور نوناً، والنون كذا كذا في عظمه.
أما هذا الحديث فمتصل السند معروف الرجال، وكون القاسم لم يحتمل لكنه يستأنس به في تفسير الثرى من الآية، ولا يغير لنا حكماً، ولا يغير لنا قاعدة في علم التوحيد وتفسير كتاب الله.(31/5)
تفسير قوله تعالى: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى)
قال تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7].
أي: يا أيها الإنسان قد علم الله بحالك، وعلم بقولك، سواء جهرت به وأعلنته أم أسررته، أم كان أخفى من السر، فهو في علمه سواء.
والسر: هو ما أسررت في نفسك، ولم ينطق به لسانك.
وأخفى منه ما سيكون غداً أو بعد غد مما لا يعلمه إلا الله ولم تحدث به نفسك بعد، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً.
ولما كان الأمر كذلك فأنت لم تتحدث بعد بما غاب عنك، وبما لا يعلمه إلا الله.(31/6)
تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى)
قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:8].
القرآن كله مبني على هذه الكلمة العظيمة كلمة التوحيد فهذه الكلمة الجليلة قامت عليها السموات والأرضون وما بينهن، وهذه الكلمة هي التي أرسل الله من أجلها رسله وأنبياءه؛ ليعلموا خلقه أن لا إله إلا هو ولا خالق غيره، ولا رازق سواه، ولا مدبر للخلق إلا هو جل جلاله، وهذا أكد في القرآن في غير ما سورة، والشيء إذا تكرر تقرر حتى يصبح ضبطاً ملزماً، وقضاءً مبرماً.
وإلى كلمة (لا إله إلا الله) دعت الأنبياء منذ آدم أبي البشر إلى خاتمهم نبينا صلى الله عليه وسلم، وما اختلفوا في هذا، وإنما تختلف الشرائع والأحكام وأنواع العبادات، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48].
وقال صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات، أبونا واحد وأمهاتنا شتى) والعلات هن الضرائر، بمعنى: أن شريعة الله لنا في الدعوة إليه، ولوحدانيته ولعبادته وحده لم نختلف فيها، ولكن شرائعنا وطرقنا متعددة، وكلها موصلة إلى الله.
وقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [طه:8]: أي: الله جل جلاله الذي انفرد بهذا الاسم العلي علماً على ذاته العلية، لا إله غيره، ولا رب سواه، انفرد بالخلق وبالرزق وبالتدبير، لا ثاني له في صفة ولا ذات ولا أفعال، فالكل لله ومن الله جل جلاله، فلم يحتج إلى معين، ولا مساعد، ولا شريك، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً.
قوله تعالى: {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:8].
أي: أن الله واحد، والأسماء التي ندعوه بها، ونضرع إليه بها، ونتعبده بها كثيرة وقد ذكر بعضها في كتابه، وكلها حسنى، والحسنى مؤنث الأحسن، وقد مضت هذه الآية مفسرة في السور الماضية، ونعيد ملخص ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة).
وكلها أسماء حسنى، وقد أمرنا أن ندعوه بها؛ ليستجيب لنا ربنا جل جلاله قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180].(31/7)
تفسير سورة طه [9 - 14]
كان أول أمر موسى حين بدأه الوحي أنه لما عاد من مدين ومعه أهله قد رأى في الطريق ناراً، وذلك في طور سيناء، فأراد أن يقتبس من النار ما يستدفئ به، وإذا بربه يناديه ويصطفيه بالرسالة.(32/1)
تفسير قوله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى)(32/2)
معنى قوله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى)
قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طه:9].
هنا كان المدخل لقصة موسى وكيف بدأه الوحي، وكيف اختاره الله لكلامه حتى صار كليم الله، أي: كلمه الله جل جلاله، فقال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طه:9].
هل: استفهام تقريري، أي: وقد علمت ذلك وتقرر عندك، وتأكد علمه لك، وعلى ذلك فموسى فيما علمت وأوحي إليك نبي صادق، ومن أولي العزم الخمسة من بين الرسل، وهذه قصة بدء نبوءته وبدء الوحي له.
فقوله: {حَدِيثُ مُوسَى} [طه:9]: أي: قصة موسى وما حدث بينه وبين ربه.(32/3)
قصة بدء الوحي لسيدنا موسى عليه السلام
قال تعالى: {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10]: وبيان ذلك: أن موسى بعد أن قتل الذي قتل من قوم فرعون نصرة لبعض قومه من بني إسرائيل، جاء بعض قومه في مصر فحذره قائلاً: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] أي: كانوا يريدون قتله والثأر منه، فخرج موسى من مصر خائفاً يترقب الجواسيس الذين يتبعونه، ولما وصل ماء مدين وجد قوماً يستقون من بئر في ازدحام كبير، ووجد بعيداً من السقي امرأتين تدفعان غنمهما، {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23].
أي: نحن ضعيفات لا نحتمل الزحام، ولا يليق بنا ونحن نساء أن نزاحم الرجال، بل ننتظر إلى أن يذهب هؤلاء الأقوام الأقوياء فنسقي.
وكان موسى قوياً شديد الشكيمة شاباً كامل الرجولة، فسقى لهما، وأوى إلى الظل، فجاءتا أباهما قبل وقتهما المعروف بزمن، فتساءل: ماذا حدث؟ فأخبرت بقصة الرجل الذي سقى لهما، وأنه قوي أمين؛ لأنه جاء إلى الصخرة التي يحملها عشرة من الناس وحملها بمفرده.
وأما أمانته فإنه لما كان ذاهباً إلى شعيب كانت البنت أمامه تدله على الطريق، وكانت الريح تتلاعب بثوبها، وتحدد بدنها، فقال: تأخري، ودليني على الطريق برمي حصاة، فتلك أمانته.
فلما أوى إلى الظل قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24].
وكان جائعاً متعباً خائفاً، فلما وصل إلى شعيب قال له: بلغت الأمان فلا خوف عليك، فإنه لا حكم لفرعون في هذه الأرض، ودعا له بالطعام وبالشراب، ثم عرض عليه أن ينكحه إحدى ابنتيه على أن يأجره ثماني حجج، أي: ثمان سنوات، ثم طمع فيه وقال: وإن أتممتها عشراً فمن عندك.
وسئل صلى الله عليه وسلم: (ما الذي فعل موسى مع شعيب؟ قال: فعل معه الأكرم والأوفى) أي: خدمه عشر سنين.
ولما تمت العشر أخذ زوجته، وكان لا يخرج بها إلا في الليل؛ لشدة غيرته كي لا يراها أحد، وكانت حاملاً في شهرها التاسع، وكان البرد شديداً، وكان هذا عند طور سيناء، وتلك البلاد شديدة البرد كثيرة الثلج، فأخذها وقد ابتعد عن الطريق حتى لا تقع عليها عين، وإذا به يشعر أنه قد ضل الطريق، وهو يريد أن يعود لمصر ليزور أمه وأخته اللتين ابتعد عنهما عشر سنوات كاملة، وبينما هو في هذه الحيرة إذا به يبصر من بعيد ناراً في الجانب الأيمن من جبل الطور.(32/4)
معنى قوله تعالى: (إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا)
قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} [طه:9 - 10] كانت معه زوجته فقال لها: أقيمي وانتظريني، {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه:10] أي: أبصرت ناراً، وهو يريد ناراً ليصطلي ويدفأ بها مع زوجته.
{لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} [طه:10] والقبس من النار جذوة كما عبر عنها في آية أخرى، وهي قطعة من جمر تؤخذ فتشعل لإيقاد نار أخرى، وأخذ ورقاً من الأرض يابسة يريد أن يشعلها، وعندما أتاها رأى عجباً؛ رأى شجرة سمر خضراء شديدة الخضرة والنار محيطة بها، وكانت النار على غاية ما يكون من الصفاء، كاللون الأبيض، فرأى أنه لا الشجرة احترقت، ولا النار تأثرت بماء الشجرة وخضرتها، وإذا به يدرك بعد ذلك أن هذه النار نور وليست ناراً، فهي نور الله جل جلاله الذي تجلى للجبل فجعله دكاً وخر موسى صعقاً، والذي كلم الله منه كليمه موسى صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا.
وبهذا قال جمع من الصحابة والتابعين، أي: أنها نور وليست بنار، وإنما كانت ناراً في ظن موسى، ولكن الحسن البصري كان يقسم ما هي بالنور، وإنما هي نار، ومن حجب الله التي احتجب بها النار، ولو كشف عنها لأحرقت سبحات وجهه من انتهى إليه البصر من خلقه.
وقد قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: (هل رأيت ربك عندما أسري بك إليه؟ قال: نور أنى أراه).
قوله: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10].
ففهمنا من (قبس): أنه كان في برد شديد، والوقت وقت برد شديد، فذهب ليصطلي ويأتي بجذوة من نار وقبس منها.(32/5)
معنى قوله تعالى: (أو أجد على النار هدى)
قوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10] أي: أنه ضال ضائع قد تاه عن الطريق فرجا أن يجد إنساناً هناك يهديه للطريق الذي يوصله إلى مصر، وقد كانت ولا تزال صحاري تتيه فيها القطا لا يعلم أولها من آخرها، وقد تاه قوم موسى فيها أربعين عاماً، لا يصل موسى للقدس، ولا يصل قومه في حياته للقدس، يقرب إلى مدينة أريحا على أميال منها، فيموت في أريحا ولا يدخلها، وقد قال عليه الصلاة والسلام في قصة الإسراء: (لقد رأيت موسى يصلي على الكثيب الأحمر عند أريحا، ولو كنت هناك لأريتكم مكانه).
والذي وصل بعد أخوه هارون فقد عاش بعده، ثم خليفته على قومه يوشع بن نون.
قوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10] أي: من يهديني.(32/6)
تفسير قوله تعالى: (فلما أتاها نودي يا موسى)
قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} [طه:11].
أي: لما وصل إلى هذه النار، ورأى ما رأى كما ذكرنا، وإذا به يسمع اسمه ينادى به: يا موسى، يا موسى! فقال: من يناديني فإني أسمع الصوت ولا أرى المنادي؟ فقال: أنا فوقك، وأنا معك، وأنا أمامك، وأنا من خلفك، وأنا بين يديك! فقال: ذاك الله، ولا يليق هذا الوصف إلا به.
وإذا بالله يقول له: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12].
وعندما سمع النداء كان كله آذاناً صاغية منتبهاً لمن يناديه، وما الذي يراد منه، فقول الله جل جلاله: {أَنَا رَبُّكَ} [طه:12] أي: المنادي هو الله ربك، {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12].
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سبب أمره من الله بخلع نعليه أن نعليه كانتا من جلد حمار ميت لم يذكَّ.
وقيل: لقدسية المكان وطهارته، ولذلك وصف الله المكان بعد ذلك: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12].
وذكر هذا بعد قوله: (اخلع نعليك) يدل على أن خلع النعلين لم يكن لأن النعلين لم تذكيا، ولا لأنهما من جلد حمار، ولكن لطهارة المكان، كما إذا دخلنا إلى جوف الكعبة يجب أن نخلع النعال.
قوله: {طُوًى} [طه:12] هو اسم الوادي، قرئ: (طوىً) بالتنوين (وطوى) بلا تنوين على أنه ممنوع من الصرف؛ لأنه معدول عن (طاو)، كعمر عن عامر وزفر عن زافر.(32/7)
تفسير قوله تعالى: (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى)
قال تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13].
أي: أنا اصطفيتك لرسالاتي واخترتك لنبوءتي على من في عصرك ومن في زمانك، فأنت مختارهم، وأنت مصطفاهم، ولا يلزم أن يكون ذلك دائماً، فنبينا أفضل منه، وهو المصطفى والمختار، وقد قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر).
قوله: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13]: أي: لما سأوحيه إليك، وأكلمك وأخاطبك به.
قال تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14].
فكان أول ما قال له من الوحي: إنه الله الواحد لا إله إلا هو.
قوله: (فاعبدني) أي: أفردني بالعبادة ووحدني، فلا ثاني معي، ولا شريك لي، وما زعمه من زعم من أعداء الله السابقين واللاحقين كلها أكاذيب، وكلها أضاليل ما أنزل الله بها من سلطان.
قوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14].
أقم الصلاة: أي: استعد لها، وجهز نفسك وأعضاءك وحواسك لذكري؛ لتكون بذلك ذاكراً لي وحدي، عابداً لي وحدي، متفرغاً لعبادتي وحدي، ولا يليق بالله الواحد أن يشرك به في شيء، لا في ذات ولا صفة ولا فعل، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال عمن نسي صلاة كما في مسند أحمد والصحيحين: (من نسي صلاة فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها).
فقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] أي: إذا نسيت وقتها وغفلت عنها فصلها عندما تذكرها، وذلك وقتها، وقد رفع القلم عن الناسي حتى يذكر.(32/8)
تفسير سورة طه [15 - 22]
يهيئ الله رسوله موسى عليه السلام للرسالة، فيخبره بأن الساعة آتية، ثم يحادثه في شأن العصا التي في يده ويأمره بإلقائها فتصير حية تلتهم كل ما تجده ثم يأخذها فإذا هي عصا، ويأمره بضم يده إلى جناحه لتخرج بيضاء من غير سوء، فهاتان معجزتان يرسل بهما موسى.(33/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها)
قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15].
لا نزال مع ربنا جل جلاله وهو يكلم موسى عند جانب الطور الأيمن، ووصلنا إلى قوله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15] فنقول: مما أتى به الأنبياء جميعاً ولم يختلفوا فيه، بل كان دينهم في ذلك واحداً: عبوديتهم لله وحده ووحدانيته وألوهيته والصلاة، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ولاشك.
وقوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15].
أكاد: من أفعال المقاربة، أي: يكاد يخفيها جل جلاله حتى لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهكذا حدث؛ (ثقلت في السموات والأرض لا يعلمها إلا هو) وكان هذا ما أنزل إلى موسى وما أنزل إلى من قبله، وهو كذلك ما حدث مع نبينا عليه الصلاة والسلام عندما جاءه جبريل في صورة رجل فسأله: (متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي: لست أعلمها كما أنك لا تعلمها، ولا جديد عندي عليها كما لا جديد لك عنها إلا معرفة أماراتها.
يقول هنا جل جلاله في مكالمته لموسى: {إَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} [طه:15] أي: مقبلة لاشك فيها ولا ريب.
{أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15].
أي: تكاد أن تخفى على القريب والبعيد، ولا يعرفها أحد قبل ولا بعد.
وقرأ سعيد بن جبير: (أكاد أَخْفيها) أي: أظهرها، أي: آن أوانها وقرب زمانها بالنسبة لما مضى قبل، وقد جاء نبينا عليه الصلاة والسلام وكان من علامات الساعة فقال: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، فكان أقرب إلى الساعة وقيامها من السبابة إلى الوسطى، ولكن ما بقي من السنين لا يعلمه إلا الله، وسيبقى ذلك غيباً على كل الخلق.
{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15].
فالله جل جلاله قضى بقيام الساعة وبالبعث بعد الموت؛ لتجزى كل نفس بما صنعت، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فيوم القيامة هو يوم الحكومة الكبرى والعرض على الله لأجل الحساب على كل ما صنعت يد الإنسان من خير أو شر، وذلك هو يوم العدل الأكبر، يوم معرفة الحق الأكبر، يوم مجازاة كل إنسان على عمله، إن خيراً فله الجنة، وإن شراً فله النار.(33/2)
تفسير قوله تعالى: (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها)
ثم قال تعالى: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16].
الخطاب للنبي موسى عليه السلام وهو خطاب للمؤمنين من أشياعه وأنصاره.
قوله: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا} [طه:16].
أي: فإياك يا هذا المؤمن أن يصدك عنها صاد، وأن يردعك عنها رادع، أو يبعدك عنها مبعد كي لا تؤمن بوقوعها، ولا بإتيانها، بل آمن بها وبمجيئها، وإياك أن تفعل كما يفعل الكفرة الجاحدون.
وقوله: {مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا} [طه:16]: أي: من لا يؤمن بيوم القيامة، ولا يؤمن بالبعث بعد الموت.
{وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16].
أي: اتبع أهواءه، واتبع وساوسه، واتبع فساده، فلم يؤمن بالأنبياء ولا بالكتب المنزلة عليهم، فصدوا عن الحق، وابتعدوا عنه، فإن أنت فعلت ترد فتهلك وتخسر وتكون من أصحاب النار.(33/3)
تفسير قوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى)
قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17].
المكالمة بين الله وبين عبده ورسوله موسى كانت طويلة، وفيها ذكر الأحكام والتوحيد والعبادة والحض على الطاعة وغيرها من علم يوم القيامة وأنه آت لا محالة، وفيها هذه الفقرة: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17].
وهي مؤانسة من الله لنبيه موسى، ثم هي من المعجزات التي سيبعث بها إلى فرعون وهامان وقارون وبني إسرائيل، فابتدأ يسأله ويستفهمه استفهاماً تقريرياً: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17].
أي: ما التي تحمل يدك اليمنى؟ وكان يعلم أن موسى يعلم أنه يحمل عصا، ولكنه يريد منه أن يتأكد بأن هذه عصاً وبأنها جماد لا يتحرك، ولكنها بتلك الحالة ستنقلب إلى حية تسعى معجزة كبرى له مع فرعون، ولذا قال: {قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه:18].
والله يريد منه أن يقر بأنها عصاً وأنها ليست حية، وبأنها ليست شيئاً زائداً عن كونها جماداً لا يتحرك ولا روح فيه، ليعلم موسى أنها معجزته، وأنها الخارقة للعادة، وأنه بها سيرسل إلى فرعون.(33/4)
تفسير قوله تعالى: (قال هي عصاي أتوكأ عليها)
قال تعالى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18].
كان
السؤال
ما هي هذه؟ وكان يكفي أن يقول: هي عصاي.
أي: هي عصا أملكها وليست عارية، ولكن موسى كان حريصاً على إطالة مكالمة ربه والبسط معه فلم يكتف بقوله: إنها عصاً، بل أخذ يقص على ربه جل جلاله فوائدها وما يصنع بها فقال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18].
ومن هنا نعلم أن المسئول إذا أجاب أحياناً عن أكثر مما سئل عنه سواء كان تلميذاً، أو معلماً متبوعاً، وأن ذلك إن كان لحكمة ولسبب وعلة، فلا مانع منه.
قوله: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه:18].
الاتكاء: الاعتماد، بمعنى: أنه يعتمد عليها في سفره، وفي سيره، وفي أعماله، ويتخذها رجلاً ثالثة يستعين بها على السير، ويستعين بها على الإسراع، ويستعين بها على الحركة.
{أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه:18].
ومن المعلوم أن موسى آجره شعيب على مصاهرته بأن يرعى له شياهاً ثمان سنوات، وإن أتم عشراً فبفضل منه، فكان يهش بها على الغنم، والهش على الغنم أن يأتي إلى الأشجار عندما تيبس أوراقها فيضرب الغصن ضرباً خفيفاً لتتحات تلك الأوراق وتسقط للغنم فترعاها في وقت القحط والجدب.
وهذه العصا كانت ذات لسانين وكان لها تعكيف يعتمد عليها، وكانت تصلح له حيث قال بعد ذلك: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18].
مآرب: جمع مأرب، أي: أشغال وأعمال أخرى، ومنها: أنه يحملها على عاتقه، ويضع القفة عند تعكيفها ولسانيها كما يفعل الناس ذلك عادة، ويضربها في الأرض ويضرب عليها خيمة من هنا ومن هنا، فيستظل بها من حر الشمس ووهجها، ويستعين بها على الدفاع والكفاح إن خرج له عدو إنسي أو حيواني، فيضربه بها، فينتصر بها عليه.
والمآرب لا تقف ولا تنتهي، وهناك روايات إسرائيلية أنها كانت تضيء، وكانت تكلمه، وكانت وكانت، وهذه أشياء لم يأت وقتها بعد، وموسى لم يرسل بعد، ولم ير معجزة بعد، ولو كان معتاداً ذلك من عصاه لما خاف منها عندما انقلبت حية، ولما ولى هارباً.(33/5)
تفسير قوله تعالى: (قال ألقها يا موسى)
قال تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه:19].
قال الله له ذلك ليريه المعجزة، وليريه هذه العصا وما يمكن أن تصنع.
{فَأَلْقَاهَا} [طه:20].
يظهر هنا أنها كانت في يده، {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20] أي: ما كاد يلقيها حتى انقلبت حية ساعية، تلتقم الحجارة وتلتقم ما تجده في طريقها، وفي بعض الآيات أنها انقلبت ثعباناً، والثعبان أعظم ما يكون، فهي ابتدأت صغيرة وتمت كبيرة، وإذا بموسى يخاف ويفر، فناداه ربه: {قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:21].
أي: خذها يا موسى من غير خوف، وستعود عصاً كما كانت، وهكذا مد يده عليها وهي ثعبان يكاد يفترس كل ما يجد في طريقه، فما كاد يضع يده على خياشيمه حتى عاد المعقف الذي كان يعتمد عليه كما هو عصاً، فالله يصنع ما يشاء، وهو القادر على كل شيء.
وسيرتها الأولى كونها كانت عصاً، فانقلبت حية، فعادت عصاً.
ثم قال تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} [طه:22].
وجناحا الإنسان ما تحت إبطه إلى جانبه الأيمن كله وإلى الجانب الأيسر، فالجناحان هما الجانبان، أي: مكان الجناحين من الطائر.
(واضمم يدك) أي: مد يدك إلى جناحك، وقال في آية أخرى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل:12] أي: في شق ثوبك من الجناح إلى الجانب.
فوضع يده وسحبها وإذا هي كالشمس في رابعة النهار ضياءً ونوراً تأخذ بالأبصار، وقد قال الله له: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه:22] أي: من غير برص ولا مرض، ولكنها معجزة من المعجزات.
فخرجت كأنها الكوكب الدري يضيء في الظلام الحالك، وينير في الظلمات من غير سوء ولا مرض ولا عيب.
قوله: {آيَةً أُخْرَى} [طه:22].
أي: معجزة وعلامة أخرى على صدقك مع فرعون، وكانت العلامة الأولى هي العصا التي تنقلب حية، وكانت العلامة الثانية والآية الثانية يده نفسها عندما يضمها إلى جانبه وإلى جناحه فتخرج بيضاء من غير سوء ولا علة، ولا مرض ولا عيب.(33/6)
تفسير سورة طه [23 - 36]
يأمر الله عبده موسى عليه السلام أن يذهب إلى فرعون لينذره، فطلب موسى من ربه أن يشرح صدره وييسر أمره، وأن يحلل عقدة من لسانه، ويرسل معه أخاه هارون ليؤازره.(34/1)
تفسير قوله تعالى: (لنريك من آياتنا الكبرى)
قال تعالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه:23].
أي: فعلنا هذا بك يا موسى لنرسلك إلى خلق من خلقنا، عتوا عن أمرنا، وادعوا ما ليس لهم، فادعوا أنهم الآلهة الأرباب، وقال فرعون لقومه وقد استخف بهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38].
فاستعبدهم واستذلهم وقتل شبابهم، واستحيا نساءهم، وأخذ يقول عن موسى وقومه: إننا فوقهم قاهرون، فأخذ يدعي لنفسه الذليلة الضعيفة الزائفة من القهر والقوة ما ليس لها.
فقوله تعالى: {لِنُرِيَكَ} [طه:23] أي: لنعلمك ولنطلعك، {مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه:23] أي: من علامات صدقك، ومعجزات رسالتك الكبرى مما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يأتي به أحد إلا وكان العلامة البينة على صدق من جاء به وأنه رسول من الله حقاً وصدقاً.(34/2)
تفسير قوله تعالى: (اذهب إلى فرعون إنه طغى)
قال تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24]: النتيجة كانت بعد الكلام، وبعد إظهار المعجزتين: معجزة العصا، ومعجزة اليد، فأمره بالرسالة بعد ذلك وأعده لها، فقال له: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24].
أي: اذهب إلى فرعون الذي طغى طغياناً، وتجبر جبروتاً، وظلم ظلماً، ونشر الفساد في الأرض، واستباح الأعراض، وسفك الدماء، واستقل بالأرزاق، وأذل الكرامات، هذا الذي حاول أن يشارك ربه في الأرض والسماء، اذهب إليه فأنت رسول الله، فادعه إلى الله ومره أن يعبد الله وحده، وأن يتوب عما صدر منه.
ولم يكتف بذلك جل جلاله، بل استجاب له بتزكيته وتأييده بأخيه هارون، قال: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
فمع طغيان هذا الكافر، أمرهما أن يخاطباه بلين، ويخاطباه بيسر، فلا يغضبانه ولا يزعجانه؛ لعله يعود إلى الله، فليس القصد من الرسالة أن يذل ويخزى، فذاك ليس عمل الرسالة ولكنه عمل المرسل جل جلاله.
وأرسل له رسولين كريمين عظيمين حتى لا تكون لفرعون حجة على الله، ويقول: لم أدر ولم أسمع ولم أعلم، أدركت آبائي يدعون الألوهية فادعيتها كادعائهم.
قال تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24].
وإذا بموسى يرى المهمة صعبة والعمل شاقاً، ويرى أنه أعجز من أن يقوم به؛ لأنه نشأ في دار فرعون كولد من أولاده، وعلى فراشه ترعرع، وبطعامه تغذى، وفي صغره وهو لا يزال رضيعاً جر لحيته إليه فأذله الله بذلك، فغضب فرعون وكاد أن يقتله.
ثم هو بعد ذلك قتل قبطياً من الأقباط انتصاراً لرجل من الإسرائيليين، وكان الأمر سراً ثم عرف وأعلن، وأرسل فرعون إلى موسى من يأتيه برأسه ويذبحه، ففر هارباً إلى أرض مدين فتعرف على ابنتي شعيب، وقد سقى لهما من البئر، فدعاه شعيب فأنكحه إحدى ابنتيه أجرة على رعاية الغنم عشر سنين، وفي هذه المدة الطويلة لم يأت مصر، لا لصلة رحمه بأمه، ولا لصلة رحمه بأخته.
وعندما كان رضيعاً في بيت فرعون أصيب بعاهة دائمة، فعندما لعب بلحية فرعون غضب وكاد أن يذبحه، وقال: هذا من أعدائي أبناء بني إسرائيل، فأخذت زوجته تقول له: هو طفل صغير لا يفقه، وإن أردت اختباره فأعطه جمرة وتمرة، فإن أخذ التمرة فاقتله، وإن أخذ الجمرة فاتركه! فأخذ الجمرة ووضعها على لسانه فأحرقت لسانه فعقدته، فأصبح ألكن في الحديث يقول الكلمة ولا يتمها، فهو يقول: كيف أستطيع أن أفعل هذا ولساني لا يبين، ولفرعون معي حساب، فهو يريد أن يقتلني بالقبطي الذي قتلته، ولذلك طلب من ربه أن يعينه ويؤازره فقال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26].
فكان موسى ضيق الصدر من هذا الطلب؛ لأنه خاف عواقبه، وخاف أن يعجز عن تبليغ هذه الرسالة إلى الطاغية الجبار فرعون، فطلب شرح الصدر؛ لتنشرح أعضاؤه وحواسه، ويشتغل بنفس قابلة راضية.(34/3)
تفسير قوله تعالى: (قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري)
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26].
أي: يسر لي الأمور الصعبة، بحيث لا ينتقم مني فرعون، لا بقتلي للفرعوني الذي قتلته، ولا بما كنت صنعت به وأنا طفل عن غير قصد، ولا بالفرار الذي فررت منه عشر سنوات كاملة، وبأن تغفر لي أمي وقد غبت عنها وعن أختي عشر سنين، وأنا لا أعلم من مرض أو مات منهما.
قوله: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:26].
(أمر) مفرد ويراد به الجنس، أي: اجعل جميع أموري ميسرة منذ أن أبتدئ تنفيذ الرسالة وتبليغها لمن أمرتني، فيسر لي أموري ولا تصعبها علي يا رب، واشرح لي صدري.
قال تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28].
أي: احلل هذه العقدة التي في اللسان حتى أبلغ عنك ما يفهمني به فرعون وقومه، وما يفهمني به بنو إسرائيل، فأبلغ ما أمرت به أحسن بلاغ وأحسن بيان، وأحسن شرح وتفصيل.
والمعنى: أفصح لساني وأزل اللكنة التي فيه مما كنت قد أصبت به عند وضع الجمرة في لساني.
{يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:28].
أي: يدركوا ما أريد من المعاني، وموسى كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يطلب أن تزول العقدة كلها، ولم يطلب الفصاحة كلها، وإنما طلب ما يستطيع أن يؤدي به عن ربه، وما عدا ذلك ففضل.
وقيل عن ابن وهب: إنه كان عالماً بالحديث والتفسير وكان يلحن، فعيره بذلك أحد زملائه، فقال: أتفهمني؟ قال: نعم.
قال: وأفهمك عندما تسألني؟ قال: نعم.
قال: كذلك كان موسى ولم تمنعه لكنة لسانه من أن يكون رسولاً، بل كان رسولاً عظيماً، ومن الخمسة أولي العزم، وهو عندما طلب زوال العقدة لم يطلب الفصاحة كلها، ولا البيان كله، كفصاحة نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما طلب ما يستطيع به أن يبين، وكان فرعون يذمه بذلك وينتقصه ويقول لقومه: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52].
أي: هذا الذي ادعى النبوءة وجاء يطلب أن أكون خلفه ووراءه، وهو مهين فلا يلبس الدمقس ولا الحرير، ولا هو مثلي في طوله وعرضه، ولا في قصوره وخدمه وحشمه، فعده بذلك مهيناً، وحاشا النبوءة من ذلك.
{وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] أي: له لكنة وعقدة في لسانه، فإذا أراد البيان في القول لا يكاد يستطيع ذلك إلا بمشقة، وهو ما طلبه موسى من ربه فقال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28].(34/4)
تفسير قوله تعالى: (واجعل لي وزيراً من أهلي)
قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} [طه:29].
وطلب من الله جل جلاله وهو لا يزال يخاطبه ويكلمه فقال: اجعل لي وزيراً من أهلي؛ لأن الأهل عندما يصدقون الحب، وعندما يصدقون الأخوة، تكون أخوتهم مفيدة، ولا يعدل عنها، وإن انتقلت إليهم العداوة تكون أشد من عداوة الأباعد.
فطلب أن يكون المعين والوزير والمساعد والمؤيد من أهله يعينه على البلاغ لفرعون.
ثم بادر فصرح به فقال: {هَارُونَ أَخِي} [طه:30].
هذا بدل من الكلمة السابقة، أي: واجعل هارون أخي وزيراً، فهارون أخي بدل من الوزير، ولذلك أعطي حكمه في النصب والمفعولية.
وكان هارون أسن وأفصح وأجمل من أخيه موسى، كان إذا تكلم أفصح، وإذا رئي مقبلاً بهر، وإذا كان في المجلس يكون المنظور إليه دون الحاضرين جميعاً.
تقول السيدة عائشة رضوان الله عليها: سمعت مرة بدوية تكلم بدوياً، فتقول له: ما رأيت أخاً لأخ أحسن عائدة وأحسن سعياً وأحسن إخلاصاً وسكتت، فانتظرت عائشة تسمع وقالت: من هذه المتألية على الله، كيف تجزم بأن يوجد أخ أحسن لأخيه من كل الخلق؟ وإذا بها تقول: ما رأيت كأخوة موسى لأخيه هارون! عند ذاك قالت عائشة: صدقت! ذاك الحق، وذاك الصواب، قد سعى لأخيه فلم يطلب له ملكاً، فالملك دون ذلك، ولم يطلب له مالاً، فالمال أحقر من ذلك، ولم يطلب له نساءً فالدنيا مليئة بالنساء، ولكنه طلب له النبوءة، لا أن يكون تابعاً وخليفة كالخلفاء الراشدين مع نبينا عليه الصلاة والسلام، بل أن يكون نبياً من الله في رتبته.
وهكذا عندما عين صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وهو ذاهب إلى غزوة تبوك على إمارة المدينة ليخلفه في الناس والحكم والأهل والعيال قال المنافقون: خلفه مع النساء والأطفال استغناءً عنه.
وكان علي لم يترك غزوة ولم يترك معركة حضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وكان من الأولين الذين حضروها فأبلوا فيها البلاء الحسن، وأتى الله بالنصر المبين على يده، فرجع للنبي صلى الله عليه وسلم يقول له ذلك، وكأنه يستقيله من إمارة المدينة، فقال له عليه الصلاة والسلام: (أما ترضى أن تكون مني كهارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).
أي: ألا ترضى أن تكون وزيري ومساعدي وخليفة بعدي مقيماً لهذا الإسلام بسيفك وقلمك كما كان هارون مع موسى، إلا أن هارون قد كان نبياً مع موسى وأنا لا نبي بعدي.
قوله: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه:31].
أي: اشدد به ظهري وقوني به، وانصرني بإخلاصه وفصاحته ووجاهته وإيمانه ورسالته، والشد: التقوية والتأزير، والأصل: فقرات الظهر، ويطلق على القوة، أي: قوني به واشدد به ظهري حتى أكون مطمئناً من ورائي عن أن أغدر أو يهجم علي سواء الهجوم الحسي، أو المعنوي، أي: أن يؤتمر علي، وأن يسعى خلفي بالسوء وأنا لا أعلم.
فقوله: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:32].
أي: ليست مجرد الوزارة، ولا المساعدة، ولا المؤازرة، ولكن أشركه معي واجعله نبياً كما أني نبي، واجعله رسولاً كما أني رسول، فاجعله شريكاً لي في الرسالة، {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه:33 - 34].(34/5)
تفسير قوله تعالى: (كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً)
قال تعالى: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه:33 - 34].
نسبحك أي: كي نصلي لك، ونعظمك ونمجدك وننزهك، ونعلي اسمك ونفخر به، ونبقى ذاكرين حامدين شاكرين عابدين، فأستعين به على عبادتك وذكرك وشكرك.
قوله: {وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه:34].
أي: في أوقات الصلاة وفي غير أوقات الصلاة، وفي غير أوقات العبادات الراتبة، فنذكرك على كل أحوالنا: نذكرك عند النوم، وعند الصحو، وفي الحضر وفي السفر، وبين الملأ وعلى خلوة، أي: كما كان نبينا عليه الصلاة والسلام يذكر الله في جميع أحواله، وقد أشاد ربنا في كتابه بالذاكرين الذين يذكرونه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم وعلى كل الحالات، فلا يستغنون عن ذكر ربهم في حالة من الأحوال.
وقوله: {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:35].
أي: إنك يا ربنا كنت بنا البصير العالم المدرك، فأنت عندما اخترتنا لنبوءتك أعلم بنا وبما يمكن أن نعمله، فأعنا وألهمنا الثناء عليك، وألهمنا دوام عبادتك، وأعنا على أن ننصر في الدعوة إليه.(34/6)
تفسير قوله تعالى: (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى)
قال الله جل جلاله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36].
أي: أجاب دعاءه فأزال العقدة التي على لسانه ليبين ويفصح، وأكرمه بنبوءة أخيه وألهمهما الشكر والذكر، وشد أزره وظهره بأخيه.
فقوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ} [طه:36] أي: قد أعطاك ربك وأكرمك ووهب لك ما سألته، فاذهب أنت وهارون نبيين رسولين حبيبين قريبين إلى فرعون؛ لكن ذلك لم يفد فيه شيئاً وبقي على طغيانه.(34/7)
تفسير سورة طه [37 - 47]
يذكر الله تعالى مننه على عبده موسى عليه السلام إذ حفظه سبحانه منذ ولادته وقذفه في اليم إلى أن نجاه من فرعون بعد قتل القبطي، ثم بعودته رسولاً إلى فرعون وقومه.(35/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد مننا عليك مرة أخرى)
قال الله جل ذكره: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} [طه:37 - 39].
يذكر الله جل جلاله مننه على نبيه ورسوله موسى عليه السلام، فكما أنه كلمه وشرفه واستجاب دعوته وحقق رغبته في جعل أخيه هارون نبياً معه ووزيراً، يقول الله له: ولقد فعلنا بك ذلك قبل أن تخرج لهذا الوجود، وقبل أن تلدك أمك، وبعدما ولدتك أمك وكنت رضيعاً، وعندما صرت غلاماً يافعاً، وعندما تركت مصر خائفاً، وعندما ذهبت إلى أرض مدين، فابتدأ الله بقوله: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه:37].
وهذه المرأة الأخرى كانت قبل سنين، وكانت هي الأصل من حيث العدد لا من حيث الترتيب الزمني.
فقوله: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} [طه:37 - 38].
كان المن والإكرام، وكان الحفاظ والرعاية والعناية وهو لا يزال في بطن أمه، ثم عند ولادته، وكيف كان ذلك؟ قيل لفرعون الطاغية: إن بني إسرائيل يعتقدون أن منقذاً سيولد لهم، وقد كانوا يظنونه يوسف، وإذا بهم ينتظرونه هذه الأيام ويقولون: سيكون هلاك ملكك وإزالة سلطانك على يده.
فإذا بفرعون يقرر أن يقتل كل وليد يولد لبني إسرائيل منذ اليوم الأول، وإذا بقوم فرعون لا يقبلون ذلك منه، وردوه عليه وقالوا: إذاً يهلك بنو إسرائيل وهم عبيدنا وخدمنا، فمن يتولى خدمتنا بعد فنائهم؟ فاتفق معهم على أن يقتلهم عاماً ويتركهم عاماً، فولد قبل موسى هارون في العام الذي لا يقتل فيه الأطفال من بني إسرائيل، وإذا بموسى يولد في العام الذي يقتل فيه أطفال بني إسرائيل، فمنذ حملت أمه به واسمها مريم، وكانت من فضليات المؤمنات العابدات من بيت النبوءة من بني إسرائيل، فعندما حملته وتوقعته ولداً ركبها من الغم والهم ما الله به عليم.
وإذا بالخوف الذي كانت تخافه أم موسى قد تحقق، فولدت ولداً، وكان الذباحون يتنقلون بين الأزقة والدروب لقتل كل من يبلغهم أنه ولد لبني إسرائيل.
قوله: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} [طه:38].
قال جمع من المفسرين: المعنى: إذ ألهمنا أم موسى ما ألهمناها، ووفقناها لما وفقناها.
ولا حاجة لهذا التكلف، فنقول: أوحى الله لها وهي نبية وليست برسول، والعمل الذي عملته لا يكفي فيه الإلهام، فلو جاءنا إنسان وقال: سألقي هذا الولد في البحر، فلو مات الطفل لقتلناه به ولو ادعى أنه ألهم.
إذاً الإلهام لا يصل إلى أن يهلك بسببه ويمات بسببه ويدمر بسببه، والذي منع الله منه أن تكون المرأة رسولاً، فإن الله جل جلاله لم يوح لامرأة أن تكون رسولاً إلى الناس، وأما النبوءة والوحي الذي لا رسالة فيه ولا تكليف معه فلا مانع يمنعه، وقال بذلك جمهور من علماء العقائد وعلماء الكلام وعلماء التفسير في شريعة الإسلام.(35/2)
تفسير قوله تعالى: (أن اقذفيه في التابوت)
قال تعالى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي} [طه:39].
أوحي إليها أن تأخذ طفلها ووليدها وأن تجعله في تابوت، وأن تغلق سداده وشقوقه بإحكام حتى لا يتسرب له الماء، وهو لا يطول بقاؤه في الماء.
فأخذت الوليد وصنعت له تابوتاً وقذفته في بحر النيل، وما كادت تفعل حتى لم يبق لها فؤاد، وأصبح فؤادها فارغاً، حتى لقد كادت تبدي به وتظهر سرها من ولهها على وليدها، وأن تعلن أنها قتلت الوليد وقذفته في البحر، فألهمها الله الصبر، وأوحى إليها بأن تقذفه في التابوت وأن تقذف التابوت في اليم.
قوله: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} [طه:39].
هذا إخبار من الله أنه عندما أوحى إلى أم موسى أن تقذفه في التابوت وأن تقذف التابوت في البحر أنه سيقذفه بعد ذلك اليم في ساحل البحر، وكان قصر فرعون على ساحل بحر النيل، وإذا به على الشاطئ ومعه زوجه آسية بنت مزاحم وجوار من القصر، وإذا به يرى الماء آتياً بتابوت متجهاً إلى شاطئ قصره فأمر بفتحه، وإذا به يجد طفلاً جميلاً أحبه من أول نظرة إليه، وقد قال الله له: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39].
قوله: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه:39].
وكان العدو الذي أخذه هو فرعون، فهو عدو لله بكفره، وعدو لموسى بظلمه واعتدائه على قومه، قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي.
} [طه:39].
لولا هذه المحبة لقتله فرعون عندما وصل إليه، لأنه يجد أنه من أطفال بني إسرائيل قذفوه لعله يقع في يد من يعتني به ويصونه عن القتل فيقتله، ولكن الحب الذي ألقي على موسى وهو لا يزال طفلاً كان سبباً في كف يد فرعون عن قتله وذبحه وإيذائه وظلمه وهو لا يزال طفلاً لا يستطيع الكفاح ولا الدفاع عن نفسه.
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39].
أي: ولتنشأ ولتكبر ولتربى ولتعيش طفلاً ورضيعاً وحابياً ويافعاً وشاباً وكهلاً وشيخاً على علم الله وعنايته ورعايته وحفظه، فكان من تمام رعاية الله أن ربي هذا الوليد وغذي في بيت عدوه الذي يخاف من قدومه، والذي أمر بذبح الأطفال بسببه، ولكن الله ساقه حيث سيحفظه عدوه بنفسه.(35/3)
تفسير قوله تعالى: (إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله)(35/4)
معنى قوله تعالى: (إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله)
قال تعالى: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} [طه:40].
وكيف كان ذلك؟ فموسى عندما تركه فرعون ولم يذبحه ألقيت محبته في نفس آسية بما يزيد أضعافاً على حب فرعون له، وكانت آسية عقيماً لا تلد، فاستلمت الولد وتبنته ورعته وأخدمته وبعثت له المرضعات وإذا به لم يقبل ثدي واحدة منهن حتى خافت هلاكه وموته، وإذا بالأم الحنون التي فرغ فؤادها من الصبر أرسلت أخته وقالت لها: تتبعي آثاره وانظري أين سيصل به النيل، وهكذا فعلت وأدركت أنه وصل إلى شاطئ الفرع الذي يكون باتجاه قصر فرعون، فأخذت تنتظر من بعيد ماذا ستكون النتيجة؟ وإذا بها تسمع الناس يدخلون ويخرجون والمرضعات يدخلن ويخرجن، وكل واحدة تخرج متأسفة متألمة لعدم قبولها في رعاية ابن فرعون التي كانت تنتظر خدمته، وإذا بأخت موسى تتقدم إليهم وتقول لهم: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12].
قالوا: وما أدراك بنصحهم؟ قالت: أليس الوليد رضيع فرعون؟ أليس كل الناس ترجو رعايته؟ فهؤلاء كذلك، فذهبوا معها إلى البيت وجاءوا بالأم فدخلت على آسية زوج فرعون فمدت إليه بثديها وإذا به يبادر لامتصاصه وأخذه بكلتا يديه، فقرت عين الأم، وسرت آسية كما سر فرعون، وبهذه الفرحة نسوا أن يتساءلوا: هذه التي ترضع ألها وليد ترضعه، وأين هو، ومن هي؟ فنسوا ذلك وأغفلوه ليحفظ الله موسى من بطشهم.(35/5)
معنى قوله تعالى: (فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها)
قال تعالى: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [طه:40].
والحذف في القرآن يكون فيما يدل عليه السياق كما يقول إمام النحاة ابن مالك في الألفية: وحذف ما يعلم جائز.
ومعنى ذلك: أنها عرضت عليهم من ترضع فوصلت فأرضعته فاكتفوا، وكان بذلك قد رجع الولد إلى أمه فزال حزنها وزال غمها، وجمع الله الشمل في أسرع وقت.
قوله: {وَلا تَحْزَنَ} [طه:40].
أي: لا تحزن عليك، ولا تحزن كيف ستحفظك وتصونك وترضعك، ولو لم يكن الذي تم قد تم فستبقى خائفة من جواسيس فرعون أن يبلغوا عنها، فيرسل من يذبح الوليد.
وقد رزق الله أم موسى فأعاد إليها ولدها وأعطاها أجرتها على إرضاع ولدها فهي التي ترضعه وتأخذ أجرة على إرضاعها له.
قال تعالى: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} [طه:40].
يذكر الله منَّه وإفضاله على موسى ليزداد شكراً لله، ويزداد عبادة لله، ويزداد طاعة لله، وهو يعدد عليه مننه وأياديه وإحسانه من مكالمته ونبوءته واستجابة دعوته في نبوءة أخيه وإنجائه من ذبح فرعون وعودته إلى أمه لترضعه، ثم قتل نفساً فاهتم وحزن وخاف من فرعون أن يقتله به، فقال: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} [طه:40].
بأن فررت بنفسك وذهبت إلى أرض مدين فقابلك شعيب وقال: لقد أمنت فلا حكم لفرعون هنا، وأزال خوفك وهلعك، وعدت من الفقر إلى الغنى، ومن الانفراد إلى الزواج، ومن كونك لا ولد لك إلى الولادة والذرية؛ كل ذلك قد أكرمك الله به.(35/6)
تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (وفتناك فتوناً)
جاء سعيد بن جبير قبل المغرب فطرق باب حبر القرآن عبد الله بن عباس يسأله: ما معنى قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40].
قال: استقبل اليوم يا ابن جبير، فإن حديثها طويل، ولا تكفي فيها هذه الفترة من العشي.
ومع الصباح الباكر جاءه سعيد وقال: أنجز وعدك، والقصة رواها النسائي في سننه وحكم عليها بالغرابة وأن أكثرها إسرائيليات مروية عن كعب الأحبار، والمرفوع منها قليل وهو مذكور بنص القرآن.
قال ابن عباس: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40] جمع فتنة، والفتنة الابتلاء والاختبار وكما تكون الفتنة بالشر تكون الفتنة بالخير، كما قال ربنا جل جلاله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35].
فكل ذلك فتنة، وقد فتن أحمد بن حنبل رضوان الله عليه بالمحنة وفتن بالضرب والسجن فتقبل ذلك راضياً، وبعد ذلك فتن بالمال وبالجاه، وفتن بتقرب الخلفاء، فوجد في نفسه ألماً، ومال بعض أولاده للخلفاء فهجرهم وقاطعهم.
والفتنة هنا كانت لموسى مجموعة من البلايا والمحن، فلا تكاد تنتهي فتنة حتى تأتي فتنة أخرى، وفي كل تلك الفتن ينجيه الله جل جلاله ويبعده عنها وينقذه منها.
يقول ابن عباس: وكان أول ذلك عندما قيل لفرعون: إن بني إسرائيل ينتظرون منقذاً ينقذهم من طغيان فرعون فأمر فرعون بقتل كل من يولد لهم، وبعد ذلك اصطلح معه قومه على أن يقتلهم عاماً ويستحييهم عاماً، فولد موسى في العام الذي يقتلون فيه، وكانت فتنة للوليد وهو لما يخرج للدنيا بعد، فأنقذه الله وأزال فتنته، وأوحى إلى أمه أن تقذفه في التابوت وأن تقذف التابوت في البحر، وأن البحر سيقذف به إلى ساحل فرعون، وهكذا بقي عند فرعون زمناً.
وذات يوم أراد فرعون أن يداعب الوليد فأجلسه على حضنه، فأخذ بلحيته وجره إليه حتى آلمه، وإذا بفرعون يقول: لاشك أن هذا من أعدائي بني إسرائيل، أين الذباحون؟ فنودي بهم وكادوا يذبحونه لولا تدخل زوجته آسية، وانتهت القصة بأن يمتحن على طفولته، فأتي بجمرة ولؤلؤة، فأخذ الجمرة فوضعها على رأس لسانه فأحرقت لسانه وجعلت فيه عقدة تدعه بذلك ذا عاهة دائمة، ولذا عندما كلمه ربه وأرسله إلى فرعون وهامان وقارون وقومه من بني إسرائيل: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28].
وكان قد وجد إسرائيلياً وقبطياً في خصومة ومضاربة، وإذا بالإسرائيلي يستنصره على القبطي فوكزه موسى فقضى عليه، أي: ضربه موسى ضربة كانت سبباً في موته والقضاء عليه.
فجاء من بلغه أن القوم يأتمرون به ليقتلوه، ونصحو بأن يفر ويترك البلد، فذهب وهو خائف يترقب ويتحسس هل هناك من يتبعه أو يلحقه؟ إلى أن وجد نفسه في بئر يستقي الناس عليها في أرض مدين، ووجد امرأتين تذودان تريدان أن تسقيا غنمهما، فسقى لهما ثم أوى إلى الظل، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24].
وبعد برهة جاءت إحدى البنتين اللتين سقى لهما: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25].
وذهب موسى إلى شعيب وتعرف إليه فقال له: {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]، فهذه الأرض ليست تحت حكم فرعون.
ثم فاوضه على أن يكون أجيراً له لمدة ثمان سنوات يرعى له غنمه مقابل تزويجه بإحدى البنتين، وقال له: إن أتممت عشراً فمن عندك، فزاد العشر وأتمها، ثم خرج بزوجته، وضل الطريق وكان البرد شديداً، وكانت المرأة حاملاً، وإذا به يرى ناراً من بعيد في جبل الطور، فجاءها يريد جذوة يستدفئ بها وزوجته لتذهب عنهما شدة البرد، وإذا به ينادى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12].
يقول ابن عباس: وهكذا كانت المحن والفتن آخذ بعضها برقاب بعض.
وبعد ذلك فر من فرعون بقومه، وأوتي العلامات التسع والآيات التسع ودخول البحر وغرق فرعون، وامتناع أتباعه من أن يعملوا عملاً، ثم بعد ذلك ردة من ارتد من السامريين ومن أكثر قومه عندما ذهب لميقات ربه أربعين يوماً، وكانت في الأرض ثلاثين، فقالوا إن موسى أخلف وعده، وهكذا كانت أيام موسى كلها فتن آخذ بعضها برقاب بعض، ولكن العاقبة للمتقين والنصر لموسى.(35/7)
معنى قوله تعالى: (فلبثت سنين في أهل مدين)
بعد كل ذلك قال تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40].
أي: فلبثت بعد ذلك يا موسى سنين في أهل مدين، أي: أقمت إلى أن بلغت سن الأربعين، والنبوءة عادة تأتي الأنبياء وهم على رأس الأربعين.
{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]، جئت على موعد بيني وبينك قدرته في الأزل، ولم يكن لموسى علم، ولكن القدر الذي قدره الله في تنبيء موسى وإرساله إلى فرعون كان موافقاً لخروجه من عند شعيب.
قال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41].
أي: اخترتك لتبلغ عني رسالتي وأوامري ونواهي، وأنشأتك وربيتك كما أريد أدباً وحسن سلوك وأخلاق ورسالة ونبوءة وعبادة وطاعة ودعوة إلى الله.
فهيأه الله جل جلاله ليكون المبلغ عنه كما صنع بجميع الأنبياء، فكانوا رسلاً إلى الناس كل منهم إلى قومه، إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه أرسل إلى الناس كافة، ولا نبي بعده.(35/8)
تفسير قوله تعالى: (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري)
قال تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42].
أي: وبما أني اصطنعتك لنفسي فاذهب أنت وأخوك لتبليغ رسالتي.
وكانت آياتهما من آيات الله ودلائله وقدرته في العصا وفي اليد، وفي الضفادع والقمل والدم، وفيما سلط الله على فرعون وقومه منذ أرسل لهم موسى وهارون إلى أن غرق في النيل هو وقومه.
فقوله: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} [طه:42].
أي: بدلائلي ومعجزاتي على صدقكما.
{وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42].
أي: ولا تضعفا ولا تملا ولا تعجزا ولا تتراخيا عن ذكري.(35/9)
تفسير قوله تعالى: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى)
قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 - 44].
أي: قولا لفرعون قولاً ليناً لطيفاً ولا تعنفا عليه ولا تقولا له قولاً جارحاً مؤلماً، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
وقد قال يحيى بن معاذ: هذه رحمة الله لمن قال: أنا إله، فكيف برحمته لمن قال: أنت الإله وأنا العبد! أرسلهما نبيين كريمين إلى الطاغية المتأله، ومع ذلك وجههما أن يقولا له كلاماً ليناً مهذباً بأن يكنياه مثلاً: يا أبا فلان وأن يقولا له أنت لم تقصد سوءاً ولكنك جهلت الحق، فنحن رسولا ربك إليك جئنا لخيرك وجئنا لسعادتك وجئنا لتعليمك، فاقبل منا تسعد في الدنيا والآخرة.
وقد قال المفسرون: وعد موسى فرعون بأن يحفظ الله عليه شبابه ما دام حياً، وأن يبقى ملكاً ما دام حياً، وأن يمتع بلذة الطعام ولذة الشراب ولذة المنكح، ومع ذلك أبى وتمرد وطغى ففقد دنياه وآخرته.
قوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
أي: لعله يفكر ويعود إلى نفسه فيراجعها في ادعاء الألوهية، فيخشى الله ويخشى العواقب، ويخشى النار التي أنذره بها موسى وهارون.(35/10)
تفسير قوله تعالى: (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا)
قال تعالى: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45].
كان لا يزال خوف فرعون متمكناً من نفس موسى وهارون، {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45].
أي: أن يفرط بأن يبادرهما بالعقوبة وبالبطش وأن يبادرهما بالقضاء عليهما بالقتل، أو أن يطغى بتجاوز الحد في عقوبتهما والتمثيل بهما بعد ذلك.
فكان جواب الله لهما: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46].
أي: لا تخف يا موسى، ولا تخف يا هارون؛ إنني معكما بسمعي، إنني معكما بتسديدي لكما عندما تتكلمان وتسألان أو تجيبان، أو ترغبان أو تهددان، فأنا معكما بالتسديد ومعكما بالتوفيق ومعكما بالحفظ، فأنا أراكما وأرى الذين معكما فأحفظكما من طغيان وجبروت وإفراط وظلم وفرعون.
قال تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47].
قال الله لهما: اذهبا إليه وادعواه إلى الله وعبادته وقولا له: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [طه:47].
أي: جئناك رسولين عن ربك نبلغك أمره ونهيه، ونبلغك تهديدك بالبطش بك إن بقيت على عنادك وطغيانك.(35/11)
تفسير سورة طه [49 - 55]
عندما وصل موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون ودعواه إلى الله، إذا به يستنكر فيسألهما: من ربهما، فأجاباه إجابة مسددة وبينا له أن الذي خلق كل شيء وهداه وصوره وأنه الذي جعل الأرض مهاداً وأنبت فيها من كل زوج، وهذا ما لا يقدر فرعون على شيء منه لأنه عبد مخلوق.(36/1)
تفسير قوله تعالى: (قال فمن ربكما يا موسى)
قال الله جل جلاله: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49 - 50].
ما زلنا في قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه، فقال تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49].
وهذا سؤال من فرعون، أي: قال فرعون لموسى وهارون: من ربكما؟ فكانا قد أرسلا من الله فما كان من فرعون إلا أن أخذ يتساءل، وكان المتكلم موسى وكان أخوه ومعززه ووزيره وشريكه في النبوءة والرسالة حاضراً، وهكذا الوفد إذا حضر يتكلم أحدهم ويسكت الآخرون، فيكونون جميعاً قد قالوا بقوله، ودعوا بدعوته.
وخص موسى بالنداء؛ لأنه المتكلم عن نفسه وعن أخيه بالهداية والرسالة.
وهذا السؤال من فرعون لأنه كان يعتبر نفسه رباً، ويقول لقومه: لا أعلم لكم من إله غيري، فعندما جاء موسى وهارون يكذبانه ويدعوانه عبداً لله الخالق الرازق أخذ يتساءل متعجباً متعاظماً: من هو هذا الرب الذي تدعواني إليه؟ {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
موسى لم يسم ربه، أراد أن يعرف فرعون وقومه به بنعوته وصفاته وأسمائه العليا التي يعجز عنها فرعون وقوم فرعون وكل متكبر جبار.
{قَالَ} [طه:50] أي: موسى.
{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] ربنا الذي أعطى ما خلق صورهم وأشكالهم وصنوفهم، أعطى الإنسان والحيوان والطير، وما يمشي على رجليه، وما يمشي على أربع، وما يزحف على بطنه، أعطى من يعيش على الأرض واليابس ومن يطير في الأجواء محلقاً، وأعطى من يعيش داخل البحار عائماً وسابحاً.
أعطى للإنسان صورته من يد ورجل وعين وفم وأذن، أعطاهم خلقهم وصورهم، ثم هداهم للتصرف فيها.
أعطى اللسان للنطق، وألهمهم أن ينطقوا بلسانهم، ويفصحوا به عن ما في نفوسهم، أعطى الأذن للسمع، والعين للبصر، واليد للبطش، والرجل للمشي، والعقل للفكر والتذكر والاعتبار، كما أعطى لكل ذكر أنثى، ولكل أنثى ذكراً، وهداهما كيف يعيشان وكيف يتزاوجان، وكيف تحمل الأنثى فترضع وتحضن، وكيف يربي الأب فيهذب ويعلم.
وقال موسى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [طه:50] وقرئ: (كل شيء خَلَقَه ثم هدى) أي: أعطى الإنسان كل ما خلق، وجعله خليفته في الأرض يتصرف فيها كما يشاء بإذنه، وأعطى كل مخلوق صفته وصورته، ثم هداه وألهمه إلى ما يصنع بصورته وبحواسه.
أي: يا فرعون، هذا هو الرب الذي ندعوك إليه، أتستطيع أن تأتي بمثل ذلك؟(36/2)
تفسير قوله تعالى: (قال فما بال القرون الأولى)
وإذا بفرعون المصر على الشرك وعلى الكفر أخذ يتساءل تساؤل الجاهلين قديماً وحديثاً، وما أشبه اليوم بالأمس: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51].
أي: ما هو حال القرون الأولى من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح، ما بالهم عاشوا كفرة منكرين للبعث وللقدرة وللنبوءات ومشركين مع الله غيره، ما بالهم لم يأتهم أنبياء ولم تأتهم رسل؟ وهذا الذي تساءل عنه فرعون من جهله ومن ضلاله، فكان جواب الله له فيما نطق به موسى وحياً عن ربه: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} [طه:52].
أي: علم القرون الأولى، وعلم العصور الهالكة السابقة، {عِنْدَ رَبِّي} [طه:52]، فلم يرد موسى مجادلته، ولا الخروج عن القصد، بل جاء لدعوته للتوحيد، وإشعاره بأنه عبد وليس برب، وأن الرب واحد وهو الخالق القادر الرازق.
والمعنى: علم تلك القرون عند ربي في اللوح المحفوظ، وفي كتاب الأعمال، أكانوا حقاً مشركين أو موحدين؟ قوله: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52] أي: لا يخطئ ربنا جل جلاله، ولا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يغفل عن الشيء، فهو القادر المتصف بكل كمال، فليس الأمر كما زعم فرعون.
وقد أرسل الله لقوم نوح نوحاً، وبقي بينهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الإسلام، وآمن معه قوم وإن كانوا قلة، {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40].
وأرسل للأمم الأخرى هوداً، وأرسل صالحاً، وأرسل لوطاً، فلم يغفلهم ولم ينسهم، ولم يضيع العناية بهم والسعي في هدايتهم، لا كما زعم الضال المضل الذي حاول أن يحاجج موسى وهو أحد الخمسة أولي العزم من الرسل.
ففرعون كانت حجته بعدما رأى الآيات البينات التي أتى بها موسى تقليد السابقين من مشركي قوم نوح، وكفرة قوم هود وقوم صالح.
وهكذا اليوم أيضاً تجد أقواماً صفتهم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه.
قيل: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن)؟ وهكذا اليوم تجد من ضل من المسلمين ومن أشرك ممن كان مؤمناً يوماً يقول: أفعل ما فعله المتحضرون المتقدمون، فهم يسعون ويجرون وراء كل ناعق من اليهود والنصارى وأضرابهم وأشباههم.
{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] يتساءل فرعون ويسأل موسى عليه السلام: فما حال القرون الأولى؟ كيف عاشوا مشركين ملحدين، زنادقة كافرين، لم لم ترسل إليهم رسل وأنبياء؟ فكان هذا الذي زعمه فرعون دالاً على جهله وإصراره في ضلاله، وإلا فالله جل جلاله كما يقول له موسى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52].(36/3)
تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهداً)
قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [طه:53].
أي: ربنا وربك يا فرعون ورب الخلق كلهم هو الذي جعل لنا من الأرض مهداً وفراشاً.
مهداً: إما أن نعتبره مفرداً لمهاد، أو مصدراً بمعنى الفرش، والكل بمعنىً واحد.
أي: جعل لنا الأرض نفترشها لأعمالنا ولراحتنا ولأشغالنا، ولحياتنا كلها، فمن الذي خلق الأرض، أأنت أم الله؟ ثم قال: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [طه:53] يقال: سلك أي: أدخل شيئاً في شيء، ومنه السلك للخرزات تسلك فيه.
فجعل في الأرض مسالك وطرقاً يميزون بها بين مشرق ومغرب، بين وهاد وجبال، بين تهامة وتلال، أي: لتميزوا بها مناكب الأرض للتجارة ولطلب العلم وللسياحة، فالذي خلق ذلك الله ربي وربك يا فرعون.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [طه:53] أي: طرقاً، فالسبل: جمع سبيل.
{وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [طه:53].
الكلام إلى هنا من قول موسى لفرعون، وما يأتي فهو من كلام الله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه:53].
يقول الله جل جلاله: وهذا الماء الذي أخبر موسى فرعون بأنه الذي أنزله من علو، الذي أنزله مطراً وغيثاً مغيثاً فأنبت الأصناف والأشكال من النبات، أحمر وأخضر وأصفر، حلواً وحامضاً ومراً، والطعوم مختلفة، والألوان مختلفة، والأزهار مختلفة، والماء واحد، والخالق واحد جل جلاله، فما أعظم قدرته وأعلى مكانه، وأقدره على كل ما يريد جل جلاله! قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} [طه:53] أي: بماء السماء.
{أَزْوَاجًا} [طه:53] أي: أصنافاً، جمع زوج، وكل صنف فيه ذكر وأنثى، من الإنسان والحيوان والنبات والجن، إلا الملائكة فهم لا يتزاوجون ولا يتناكحون.
قوله: {شَتَّى} [طه:53] أي: متفرقاً ومتنوعاً ومن كل صنف وشكل.
وهذه الآية هي كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] أي: هذا الماء الذي ينزل من السماء جعل الله النبات به وجعل به الإنسان وغيره من الأحياء، وبه خلق كل شيء.
{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه:54] أي: خلق الله ذلك لنا وللدواب ولمن يأكل على وجه الأرض.
فقوله: {كُلُوا} [طه:54] أي: أيها الناس.
{وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه:54] الأنعام جمع جمع، ويشمل كل الدواب إبلاً وبقراً وأغناماً وماعزاً، وما يشبه ذلك.
أي: كلوا ما ينفعكم ويصلح لكم من ذلك، وارعوا أنعامكم غيره، يقال: (رعى) لازم ومتعد، رعى نعمه ورعت نعمه، والكل بمعنى واحد، فرعت أي: أكلت وتعيشت بما على الأرض من نبات شتى، مما خلقه الله من الماء الذي ينزله من السماء.(36/4)
تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآيات لأولي النهى)
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:54]: أي: إن في هذه الصفات والنعوت وأسماء الله الحسنى من أن الرب جلاله هو الذي أعطى كل شيء خلقه وصورته، وألهمه كيف يتصرف بها وبحواسه، وهو الذي أنزل من السماء ماءً وخلق أزواجاً من نبات شتى، وهو الذي جعل من الأرض مهاداً وفراشاً لكل من عليها وما عليها، وهو الذي جعل في الأرض سبلاً وطرائق يهتدى بها للذهاب والإياب والتجارة وطلب العلم والسياحة وكل ما يحتاج إليه إنسان على وجه الأرض؛ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:54] أي: لذوي العقول.
النهى: جمع نهية، وسميت العقول نهى لأن العقل ينهى الإنسان عن الشرور وعن المعاصي وعن الظلم وعن الإيذاء، وعن الجهالة والضلالة.
والمعنى: يعلم ذلك أصحاب العقول الناهية عن الشر والمعاصي، ويدرك ذلك ذو العقل السليم الذي ينهاه عن الشرك والكفر والذهاب طرائق قدداً في الكفر بالله.(36/5)
تفسير قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم)
قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55]: هذه الأرض التي وصفها ربنا بأنها جعلت فراشاً لكل خلقه، وجعل فيها سبلاً ليذهب فيها ويسافر عليها؛ هذه الأرض منها كان خلق الإنسان، وإليها عودته بعد موته، ومنها خروجه للبعث والجزاء.
وقوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه:55] فقد خلق الله أبانا الأول بيديه من تراب، ثم نفخ فيه من روحه وقال له: كن بشراً سوياً فكان، وأسجد له ملائكته.
ثم خلق زوجه من ضلع من أضلاعه، ثم تسلسل الخلق بعد ذلك من نطفة إذا تمنى، فكان الخلق الأول وكان الأب الأول أبو البشر آدم من تراب، وبما أن الأصل من تراب والفرع من الأصل فكلنا من تراب.
وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام وهو يمنع الناس أن تتفاخر بالأحساب والأنساب: (كلكم من آدم وآدم من تراب).
وقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
فالتراب أصلنا ومنه خلقنا، ولا تفاضل في التراب إلا بخصب وإنبات ومعادن توجد هنا ولا توجد هناك، وذاك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيركم في الجاهلية خيركم في الإسلام).
وكذلك الإنسان أفضليته في تقواه، وفي عبادته، وفي طاعته، وفيما يقدمه لأخيه المسلم من خير وهداية وابتعاد عن الضلال والجهالة.
وقوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه:55] الخلق إيجاد الشيء على غير مثال سابق، وليس ثم رب آخر ليكون لخلقه شبيه ومثال، فهو الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، وهو في السماء إله وفي الأرض إله، هو الخالق للأولين والخالق للآخرين، لا شريك له ولا ثاني في صفة ولا فعل ولا قدرة ولا في ذات من باب أولى.
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه:55] وذرأناكم وأنشأناكم.
{وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه:55] وهذا نراه رأي العين لا ينكره إلا فاقد العقل، فلو أن موتانا منذ آدم إلى الآن على كر العصور والقرون جعلت على أديم الأرض وظاهرها لامتلأت الأرض من الأموات ولا يبقى مكان للأحياء، ولكن الله خلقنا من تراب وأعادنا إلى التراب.
فالميت منا عندما يموت مهما كان عزيزاً على قومه، ومهما كان حبيباً لقومه، تجد قومه وأحبابه وأقرب الناس إليه يحفرون له في الأرض ويدسونه في التراب، وإذا به بعد أيام، أو أشهر، أو سنين طالت أو قصرت يصبح تراباً، فترجع تلك الجثة كلها لأصلها الأول، حيث كانت تراباً فعادت تراباً.
{وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] فعند البعث بعد الموت سنخرج من التراب، وسيبقى في التراب جزء من جسدنا يسمى عجب الذنب كقدر العدسة في آخر سلسلة الظهر، فننبت بأمطار يرسلها الله جل جلاله، وإذا بنا قيام ننظر.
فالله جل جلاله يصف قدرته ويصف خلقه، وأنهم خلقوا من تراب، ثم أماتهم فأعادهم إلى التراب، ثم سيحييهم مرة ثانية فيعودون بشراً سوياً خالدين مخلدين بعد العرض على الله وبعد الحساب، ثم إلى جنة أو نار، هؤلاء لأبد الآباد، وهؤلاء لأبد الآباد.(36/6)
تفسير سورة طه [56 - 63]
واجه موسى فرعون بالآيات البينات فاتهمه بالسحر والشعوذة وأنه يريد أن يفسد في مصر ويخرج منها أهلها، ثم تواعدا على أن يجمع فرعون سحرته ليناظروا موسى، وكان الموعد يوم الزينة، فحضرت الجموع وبدأت المناظرة.(37/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أريناه آياتنا كلها)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه:56].
يقول الله عن عناد فرعون: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} [طه:56] أي: فرعون.
(آيَاتِنَا كُلَّهَا) الآيات: المعجزات والعلامات على وحدانية الله وقدرته، وقد أتى بها موسى، والتي منها العصا تنقلب حية، واليد تدخل إلى الجيب فتخرج وكأنها الكوكب الدري، والدم والضفادع إلى آخر الآيات التسع.
فكل ذلك لم يزد فرعون إلا كفراً وعناداً واستكباراً في الأرض ومكر السيئ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} [طه:56] رآها رأي العين وعاش في واقعها من أول آية، إلى آخر آية وهي شق البحر فرقين وجبلين عظيمين.
{فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه:56] كذب كل ذلك، وأبى إلا تكذيب موسى في رسالته وفي نبوءته وفي وحيه.
قال: {فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه:56] ولم يذكر المكذَّب، وأخذ من عموم اللفظ، أي: كذب الآيات التسع وكذب موسى وهارون في كل ما أتيا به من دعوة إلى الله، والأمر بطاعته، واتباع وحيه، والإيمان بالله الخالق، وبالبعث والنشور وبالجنة والنار.
وتلك قضية جميع الرسل منذ آدم إلى خاتمهم نبينا عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فقد أتوا بها مبشرين المؤمن بالجنة، ومنذرين الجاحد بالنار.
{فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه:56] أبى الإيمان والتصديق وامتنع عنه.(37/2)
تفسير قوله تعالى: (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى)
قال تعالى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} [طه:57].
وهذه عادة الكفرة عندما يعجزون عن البرهان والدليل، فموسى يجادل فرعون ويعلمه ويرشده بالمنطق ورؤيا العين وسماع الأذن وواقع الحال، وإذا بفرعون عندما يعجز عن الأخذ والعطاء والاستدلال بقضايا العقول، إذا به يبهت ويقول له: ما جئت إلا وأنت ساحر تريد الملك والسلطان وإخراجنا من أرضنا والتسلط عليها، واعتبار نفسك ملكاً ورئيساً وعظيماً.
قال فرعون: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} [طه:57].
يتساءل سؤال المستنكر الجاحد الكافر: يا موسى! هل مجيئك إلينا تريد منه إخراجنا من أرض مصر؟ وكان قد اتخذ نفسه فيها إلهاً من دون الله، وهو قد استغفل قومه، واستخف عقولهم، وما أشبه اليوم بالأمس.
فعندما قال لهم: لا أعلم لكم إلهاً غيري كانت حجته أن قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] وكأن مصر هي العالم كله، فلكونه جعل عليها سلطاناً وحاكماً فترة من الزمن تبعاً لمن سبقه من أب وجد اتخذ ذلك دليلاً على ربوبيته وعلى ألوهيته، وكان سخيف العقل، سخيف الفهم، معرقاً في الكفر والضلال.
{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} [طه:57].
أي: نحن علمنا وأدركنا ذلك، فما جئتنا إلا لتخرجنا من الأرض بالسحر، واعتبر كل ما جاء به موسى من عصاً وغيرها سحراً، ولم ذلك؟ لأن مصر اشتهرت منذ القدم بالسحرة، وخاصة في عصر الفراعنة، فقد كانوا يعدون بالآلاف، ولضلاله وذهاب عقله، ولإصراره على الكفر، والجحود عد المعجزات والنبوءات والرسالات الإلهية ضرباً من ضروب السحر والشعوذة.(37/3)
تفسير قوله تعالى: (فلنأتينك بسحر مثله)
قوله: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} [طه:58].
اللام هنا لام القسم، ثم أكد القسم بنون التوكيد الثقيلة، فيحلف فرعون بما يحلف به، ولعله يحلف بنفسه.
{فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} [طه:58] أي: سنأتي نحن كذلك بسحرنا ونرى من الغالب ومن المغلوب، وهل كل هؤلاء السحرة رسل وأنبياء؟! فما أنت إلا ساحر منهم، ولعلك كنت كبيرهم وشيخهم! أي: فالسحر مثل ما أتيت به من معجزات ورسالات ونبوءات، فشبه النور بالظلمة، والهداية بالضلالة، والكفر بالإيمان، وهذا شأن الكافرين قديماً وحديثاً.
ثم عاد فطلب منه: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه:58].
أي: نحن نعلم أنك ساحر ماهر، وبالسحر تريد أن تخرجنا من أرضنا وتمتلكها، وها نحن سنأتيك بسحر كسحرك، فاضرب معنا موعداً لذلك لتراه بعينك.
وذاك ليخزيه الله ويكسفه على رءوس الخلائق، وليميز قبل غيره بين السحر والوحي، وبين المعجزات والخزعبلات.
والموعد مصدر واسم مكان الوعد والاجتماع الذي يتواعد فيه، وبكل ذلك يصح التفسير.
{لا نُخْلِفُهُ} [طه:58] أي: لا نتجاوزه، ولا نخرج عنه.
{مَكَانًا سُوًى} [طه:58] أي: حال كون الموعد مكاناً سواء، بيناً مستوياً لا تلال فيه ولا كدى، مبسوطاً مسطحاً قريباً منا ومنك بحيث إذا حضرته الخلائق يرون جميعاً ما سيحصل من فعلك وفعل السحرة، ليحكموا عن رؤية لا يحجبهم عنها جبل ولا شجر ولا حائط.
يقال: سُوى وسِوى وسواء، والمعنى واحد، مثل: طُوى وطِوى بكسر السين وضمها مقصوراً، فإذا فتحت السين فلا بد من المد، يقال: سواء، أي: المكان الذي للموعد يكون أرضاً مستوية قريبة منا ومنك لا تبعد عنا ولا تبعد عنك، وتكون ظاهرة وواضحة يستطيع أن يرى فيها الرائي والحاضر كل ما يحدث فيها من سحرك وسحرنا.
هكذا يريد فرعون، وإذا بموسى يجيبه لذلك، وقد طلب مهلة أربعين يوماً ليجمع مكره وحيله وسحرته، فوافقه موسى على الموعد والزمن.(37/4)
تفسير قوله تعالى: (قال موعدكم يوم الزينة)
قال تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59].
أراد موسى أن يكون اليوم يوم السحر في نظرهم، ويوم المعجزات في نظر نبي الله موسى ونبي الله هارون.
ويوم الزينة هو يوم عيدهم الذي يتزينون فيه ويكونون عاطلين عن العمل ليحضر جميعهم، ولا يتأخر أحد عن حضور ذلك اليوم ليرى من سيفلح غالباً ومن سيخزى مغلوباً.
وقد قال ابن عباس: كان اليوم يوم عاشوراء، أي: اليوم العاشر من محرم.
وقد ثبت في الصحيح: أن يوم الغلبة كان هذا اليوم، وثبت في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما ذهب للمدينة مهاجراً وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم: لم ذلك؟ قالوا: ذاك يوم نصر الله فيه موسى على فرعون.
قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (أنا أحق منكم بموسى)، فصامه وندب الناس إلى صيامه.
وفي السنة التي سيموت فيها عليه الصلاة والسلام أراد مخالفة اليهود الذين يصومون اليوم العاشر فقال: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر) فأصبحت السنة صيام يوم عاشوراء مع صوم اليوم التاسع قبله مخالفة بذلك لليهود في ذلك العصر، وأما بعد ذلك فلا يعرف لليهود صوم في يوم عاشوراء.
وانفرد المسلمون بصيام هذا اليوم، إذ هو يوم أعز الله فيه الحق وهزم الباطل وخذله، فكان صيامه رمزاً لنصرة الحق ورمزاً لهزيمة الباطل.
قوله: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59].
أي: وأن يحشر الناس ويجمعوا، بأن يجمعهم فرعون ويحشدهم ويكتلهم ضحىً، أي: عند طلوع النهار وبعد إشراق الشمس بزمن لتصح الرؤية، ولا يكون ليلاً، ولا تكون عتمة ولا ظلمة فتضيع على الناس الرؤية ويتيهون فلا يدرون هل انتصر نبيا الله الأكرمان موسى وهارون أم السحرة المشعوذون مع ساحرهم الأكبر المشعوذ فرعون؟(37/5)
تفسير قوله تعالى: (فتولى فرعون فجمع كيده)
قال تعالى: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:60].
ذهب فرعون فشرع في جمع كيده، فجمع سحرته وجمع ضلاله، وجمع الأفاكين، وجمع المشعوذين والضالين ليحضروا في اليوم الذي عينه موسى، وليكون نصره -كما توهم- على رءوس الخلائق ليعلموا أنه هو الصادق، هكذا توهم وهكذا أوحى له شيطانه.
فتولى فرعون فجمع كيده الذي ظن أنه سيكيد به موسى وهارون وأتباعهما.
قوله: {ثُمَّ أَتَى} [طه:60].
أي: أتى الموعد، فأتى فرعون ليحضر يوم الموعد، ونُصب له كرسي عال وجاءه سحرته يتمنون عليه الأماني إذا هم انتصروا ماذا سيكون جزاؤهم ومكافأتهم، ووعدهم بأنهم سيكونون من المقربين مع ما سيأخذونه من مال وجاه ومناصب.
فتولى: ذهب، والفاء للتفريع وللعطف المتقارب نسبياً، كان قد تم له جمع كيده وسحره وشعوذته، قيل: جمع اثنين وسبعين ساحراً مع كل ساحر عصي وحبال.
وقيل: بل أربعمائة.
وقال كعب الأحبار: اثنا عشر ألفاً.
وقيل: آلاف لا تكاد تعد ولا تحصى.
جاء كل واحد ومعه عصي وليست عصا واحدة، وحبال وليس حبلاً واحداً؛ ليقذفوها أمام موسى ليرهبوه وليرعبوه وليوهموه أن ما أتى به من آيات ومعجزات هم أيضاً يفعلون مثل ذلك.
أتى فرعون يرأس حفله ومواكب شعوذته وسحره، ونصب له كرسي بحيث يرى الناس كلهم ويرونه، فعندما جاء وإذا بموسى نبي الله قد حضر فلم يخلف الموعد، وحضرت خلائق مصر إذ ذاك كلها بحيث ضاقت بهم الأرض، فلا يكاد يرى الناس على مد البصر إلا خلقاً، وبينهم السحرة المشعوذون، واصطفوا صفاً واحداً.
وفي الجانب المقابل رسول الله موسى وأخوه هارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وإذا بموسى وهو نبي الله، وهو الداعية إلى الله، ولا يليق بنبي أن يحضر محضراً كهذا كله ظلمة وضلال وكفر إلا ويبتدئه بكلمة يدعو فيها إلى الله، ويحذر هؤلاء من الكذب والضلال ويحضهم على الصدق والإيمان.(37/6)
تفسير قوله تعالى: (قال لهم موسى ويلكم)
سكت موسى أولاً وقد تم الجمع، فلا تسمع بينهم إلا همساً، فكل كلمة تقال تسمعها الآذان وتسجلها القلوب والأفئدة، وترى الحواس كلها مشرئبة لترى من المنتصر ومن المنهزم.
وإذا بموسى في مثل هذا الوقت يقول لهم: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:61] دعا عليهم بالويل، والويل هو النهر من قيح وصديد في جهنم.
أي: يا ويلكم يا هؤلاء السحرة ويا مصيبتكم إذا بقيتم على الكذب على أنفسكم وعلى الناس، فالويل في جهنم ينتظركم.
والخطاب للسحرة ولمن جاء، وهو فرعون وهامان.
قال تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61].
{لا تَفْتَرُوا} [طه:61] لا تكذبوا، ولا تخترعوا القول عن غير وجود ثابت.
{لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:61] لا تسحروا الناس وتوهموهم باطلاً حقيقة، وتزعموا الحق باطلاً والباطل حقاً.
{فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه:61] فيسحقكم بعذابه ويستأصلكم، فيذهب فرعون وقومه في الأمم البائدة المنتهية كما حدث من بعد.
وقيل: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه:61] أي: يمكن منكم أعداءكم فيقتلون ويشردون ويصادرون ويستعبدون، ثم يمحقكم في النار كلما نضجت جلودكم بدلناها جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.
{وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61] ليس للمفتري وللكاذب إلا الخيبة والرجوع بخفي حنين، أي: بالهزيمة الساحقة، وبالذل والهوان على رءوس الملأ ورءوس الخلائق.
فموسى نبي الله ما أراد أن يبدأ عمله ويلقي عصاه إلا بعد أن ينصحهم ويدعوهم إلى الله، فإن أبوا فيكون ذلك عن علم، فيسحتون ويسحقون بالعذاب.
وقرئ في السبع: (يسحتكم) ثلاثي ورباعي، والمعنى واحد، والسحت السحق والاستئصال.
أي: يأتي عليهم من أصولهم بحيث لا يبقى أصل ولا فرع، فإذا ذهب من الشجرة أصلها واجتث ماتت فروعها وذبلت، وهكذا إذا قتل الرجال وقتل النساء واستعبد الأولاد فالنهاية الاستئصال والإبادة الكاملة، فهذا الذي حدث لهم بعد ذلك.(37/7)
تفسير قوله تعالى: (فتنازعوا أمرهم بينهم)
قال تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:62].
بعد أن قال لهم موسى هذا الكلام تنازعوا فيها بينهم وتشاجروا وتخاصموا، وأسروا النجوى لكيلا يسمعها فرعون خوفاً منه، ولكيلا يسمعها الناس فيفرون، فقالوا في ما قالوه في النزاع: ليس هذا الذي قاله موسى بكلام ساحر، وما السحر إلا الكذب والشعوذة، فما باله يتكلم عن الكذب والافتراء على الله، ما هذه إلا نبرة نبي ودعوة نبي وليس ذلك بكلام مشعوذ ولا ساحر.
والنجوى اسم للمنجاة أو مصدر، والمعنى واحد، أي: تناجوا فيما بينهم سراً بحيث لا يسمعهم الناس وهم يتشاجرون ويتنازعون ويتخاصمون، يقول البعض: إن انتصر موسى كنا أتباعه وآمنا بدعوته.
وبعضهم يقول: لن ينتصر، ما هو إلا ساحر مثلنا، وكيف يمكن ذلك؟ فيقول آخرون: ليس الأمر كما تقولون، فليس من شأن الساحر أن يدعو إلى الله وينفر من الكذب عليه ويخوفكم من عذاب الله وسوء العاقبة.
وقد قيل: إن المناجاة التي كانت بينهم هي ما يقول الله في هذه الآية: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه:63] وكأن الله قد كشف نجواهم.(37/8)
تفسير قوله تعالى: (قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم)
فقولهم: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63].
قالوا: وليس هذان -أي: موسى وهارون- إلا ساحران، أي: هما مثلنا في الشعوذة يرون الناس ما لم يروه ويسترهبونهم بما يأتون.
فقولهم: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [طه:63] تأكيد لما قال فرعون، والناس على دين ملوكهم.
{مِنْ أَرْضِكُمْ} [طه:63] أي: من مصر، أي: أن يطردا من كان على دين فرعون وعبادة فرعون وتأليه فرعون.
{وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63].
أي: ويذهبا بدينكم الأمثل، وأنث (المثلى) مراعاة للطريق، وهي مؤنثة من حيث اللفظ والمعنى، يقال: عمل أمثل، وطريقة مثلى، أي: أن يذهبوا بدينكم الأفضل من دينهم، وطريقتكم الأمثل والأفضل من طريقتهم.
هكذا أوحى لهم شيطانهم، وهكذا أكدت لهم وثنيتهم، فهؤلاء تناجوا بذلك ليأخذوا به قوة وليردعوا من تردد وضعف.
وقد قرئ في السبع، بل وهو المشهور في القراءة: (إنَّ هذان لساحران)، فإن: تنصب الاسم وترفع الخبر، ولكن هنا في الآية الكريمة لم تنصب المثنى, ولو نصبته لقيل فيه: إن هذين لساحران.
وقد خرج بعضهم الآية على أن (إنّ) هنا ليست (إنّ) المؤكدة، بل معناها هنا: نعم.
ومن عادة العرب في جاهليتها وإسلامها، وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا ابتدأ في الكلام يقول: نعم.
ثم يتحدث.
وفي زوائد عبد الله بن أحمد على مسند أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم في رواية الكثيرين من الصحابة كان يخطب ويقول: إن الحمدُ لله) أي: نعم، الحمد لله.
وجاء رجل إلى عبد الله بن الزبير وهو خليفة على الحجاز وأرض الإسلام كلها إلا الشام، فطلبه شيئاً فمنعه منه، فقال له هذا الشاعر: لعن الله راحلة نقلتني إليك، فأجابه ابن الزبير: إنّ وصاحبها.
أي: نعم وصاحبها؛ لأنك جئت تطلب ما ليس لك وليس لي، حيث جئت تطلب مال غيرك من بيت مال المسلمين.
وقد روي في الشعر العربي الفصيح: بكر العواذل في الصبا ح يلمنني وألومهنّهْ ويقلن شيئاً قد علا ك وقد كبرت فقلت إنّهْ والعواذل: من يتغزل بهن، فأخذ يلومهن ويلمنه، فهو يقول: لا زالت في بقية، وهن يقلن له: لا، لقد كبرت وأصبحت ذا شيب ولا يطلب مثل ذلك الغواني.
قوله: (فقلت إنه) أي: نعم، ولم ينكر ذلك.
فهذه رواية، ويصح المعنى بها.
فتكلم هؤلاء السحرة وهم يتناجون ويقولون عن موسى: ما به إلا أن يخرجنا من أرضنا ويذهب بديننا، فنعم هذان لساحران، أي: كما يقول فرعون سيدهم ومربوبهم المزيف الباطل.
وقيل: (إنَّ) إذا دخلت على المثنى تعطل عن العمل ويبقى المثنى مرفوعاً حالة النصب وحالة الرفع وحالة الجر، وهي لغة فصيحة عند الكثير من قبائل العرب، ورووا في ذلك قولهم: إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها وكان ينبغي أن يقال: إن أباها وأبا أبيها.(37/9)
تفسير سورة طه [63 - 70]
اجتمع سحرة فرعون وعزموا على الكيد بموسى وهزيمته، ثم ألقوا حبالهم وعصيهم فخيل إلى الناس أنها حيات تسعى، حتى أوجف في نفسه خيفة موسى، لكن الله ثبته وجعل عصاه تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين.(38/1)
تفسير قوله تعالى: (قالوا إن هذان لساحران)
قال الله جل جلاله: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63].
لا نزال مع موسى وهارون في دعوتهما فرعون وملئه إلى الله وهم يصرون ويعاندون، ويأبى الله إلا أن ينصر الحق ويزهق الباطل.
فجمع فرعون سحرته في يوم اتفق فيه موسى وفرعون، وحضر السحرة ونظروا إلى رسولي الله ونبييه: موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فأخذوا يتناجون خفية بعد أن وعظهم موسى بألا يفتروا على الله الكذب، وأن المفتري الكذب على الله له الدمار والبوار، وله الخسارة في الدنيا والآخرة.
وإذا بهم يسرون النجوى قائلين: ما هذا الكلام من موسى بكلام ساحر مشعوذ، إن هو إلا كلام داعية لله، ولا يبعد أن يكون نبياً كما يقول.
أسروا ذلك عن فرعون وملئه.
ثم عادوا فقالوا ما قاله فرعون: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه:63] أي: ما هذان الشخصان موسى وهارون إلا ساحران، أرادا بسحرهما أن يخرجا هؤلاء السحرة عما لهم من رزق وما لهم من مقام، وأن يخرجا فرعون وملأه عن ملكهم وسلطانهم وأرضهم، هكذا سول لهم الشيطان، وهكذا قص الله علينا مناجاتهم.
{قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} [طه:63] فطريقة الإخراج تكون بالسحر والغلبة فيه.
{وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63] أي: الطريقة الفضلى، والدين الوثني الفاضل كما يتوهمون ويزعمون.
وقد قلنا إنه قرئ في أكثر القراءات السبع: (إنَّ هذان لساحران) على خلاف المعروف من قواعد النحو والعربية في أن (إنَّ) تنصب الاسم وترفع الخبر.
وقد زعم قوم من الصحابة وغيرهم أن هذا لحن كتبه الكتاب ونقلوه باطناً عن عثمان، وأن ذلك كان كذلك، ولكنه وقد طلب في أن يلغيه فقال: لا يحلل حراماً، ولا يحرم حلالاً، فاتركوه كما هو.
وما أظن ذلك صحيحاً عن عثمان وعائشة كما نقل عنها هذا، وما أعتقد ذلك إلا خطأً تسرب ممن قال ذلك.
القرآن عليه تتخذ القواعد، ومن قواعد قبائل كثيرة من العرب قبائل خثعم وغيرها كانت تعطل عمل إن، وإنما تدخل للتأكيد فلا ترفع ولا تنصب.
وقد ورد بذلك النطق الفصيح لسيد العرب وفصيحهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ففي زوائد مسند أحمد عن ولده الإمام ابن الإمام عبد الله بن أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يبتدئ خطبه بقوله: إن الحمدُ لله.
وفسروا ذلك بأن إن معناها: نعم، ليست للتأكيد، وبالتالي لا تعمل فيما تدخل عليه من الكلم لا نصباً ولا رفعاً.
وقد ورد أعرابي على عبد الله بن الزبير وهو إذ ذاك أمير المؤمنين في جميع بلاد المسلمين إلا الشام فطلب رفده وقد مدحه كما يفعل الشعراء، فلم يعطه ما كان يؤمله فقال له: لعن الله ناقة نقلتني إليك، قال له ابن الزبير: إن وصاحبها.
أي: نعم ولعن صاحب الناقة وراكبها كذلك.
قيل: إن هنا بمعنى نعم.
وفي ما قالوه هي بمعنى التأكيد لا نعم، وجاءت على لغة ولهجة الكثير من القبائل، ورووا في ذلك قول النجم: إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها قواعد النحو في غير هذه اللغة كان ينبغي أن تكون: إن أباها وأبا أبيها قد بلغا في المجد غايتيها ولكن إن والقائل بالحال، والقائل نطق بلغة فصيحة أكدها القرآن عندما نزلت به.
وفي معنى نعم أيضاً ورد قول الشاعر: بكرا العواذل بالحديـ ـث يلمنني وألومهن ويقلن لي شيب علا ك وقد كبرت فقلت إنه العواذل من عذله ولامه من الشابات لمنه لم يتغزل ويشبب بهن وقد شاب شعره وعلاه البياض وكبرت سنه، ولا يليق بمن كان هكذا أن يفعل مثل هذا، فأقر عندما قلن له هذا القول فقال: إنه أي: نعم.
وسواء فسرنا إن هنا بمعنى نعم أو بإن المؤكدة ولكنها لا تعمل، فالقرآن قد تواتر نزوله بإن في هذا المكان غير عاملة نصباً في اسم، ولا رفعاً في خبر، والقرآن هو الإمام المحتذى للغة العرب، وعلى أساس ما فيه نطق سيبويه وغير سيبويه من أئمة النحو.
ولا مجال لقائل أن يقول: أخطأ كاتب في الكتابة، فالله قد تعهد بحفظ القرآن نحواً ولغة ولفظاً ومعنى.
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وحافظون عامة في نحوه وبلاغته ولغته ولفظه ومعناه.
{قَالُوا} [طه:63] أي: السحرة.
{إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63].
أي: يتخذا السحر والبراعة فيه طريقاً للاستيلاء على مصر وإخراج أهلها منها وترك دينهم الوثني وإحلال دين التوحيد، دين الحق إذ ذاك من موسى وهارون.
وكما تقول العرب في أمثالها: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها.
ثم أخذوا يتعاونون ويقولون: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} [طه:64] بعد أن قرروا مع أنفسهم وتناجوا في أنفسهم بالكيد، بالكذب، بالخزعبلات، بالسحر والشعوذة وقالوا لبعضهم: أجمعوا أي: اعزموا واحتموا أمركم، لا تترددوا ولا تتشككوا، ولا يصرفنكم ما سمعتم عن فرعون ودينه.
{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} [طه:64] ائتوا صفاً واحداً، رأياً واحداً، يداً واحدة، لا تختلفوا ففي الاختلاف الهزيمة والخسارة.
{وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:64] وقالوا لبعضهم: قد أفلح وفاز وانتصر اليوم من استعلى، أي: من انتصر ونجح وغلب وقهر موسى وهارون، هكذا تناجوا، وهكذا تحدثوا، وهكذا سول لهم الشيطان.
ثم عادوا فقالوا: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65] أخذوا يشرعون في السحر وعمله وعرضوا على موسى متأدبين أو متحدين، ولا يظهر إلا أنهم يتحدون، أما الأدب فلم يأت وقته ولا مجاله بعد.
{قَالُوا} [طه:65] أي: السحرة، {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65] أي: يلقون ما أتوا به من حبال وعصي وأعواد وآلات للسحر، ويلقي هو عصاه التي كانت المعجزة الأولى التي أتى بها فرعون فأفزعه وأرعبه ثم انتكس على عقبه وقال: هذا سحر، وبلادي عامرة بالسحرة.
{قَالَ بَلْ أَلْقُوا} [طه:66] أي: فقال لهم موسى: بل كونوا الأول فيمن يلقي ويشرع في سحره وشعوذته وكيده.
{قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} [طه:66].
هنا حذف دل على السياق، وهو من الفصاحة في القرآن، ويأتي في لغة العرب كذلك، وقد قال ابن مالك في أرجوزته: وحذف ما يعلم جائز والتقدير: فألقوا الحبال والعصي فإذا بها تتحرك.
{قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66].
الحبال: جمع حبل، وهو معروف.
والعصي: جمع عصاً، وهي كذلك معروفة.
فكانوا قد أتوا بأحمال من الحبال وأحمال من العصي وهي أدوات سحرهم في يوم الزينة هذا، يوم نصر الله للحق في شخص موسى وهارون، وخذلانه الباطل في شخص فرعون وسحرته.
فألقوا وهم على مستوىً من الأرض وكان اليوم يوم عيد، وأتوا متزينين.(38/2)
تفسير قوله تعالى: (قال بل ألقوا فإذا حبالهم)
قال تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66].
فألقى السحرة أولاً كما قال لهم موسى، ألقوا في هذه الصحاري حبالهم وعصيهم وإذا بها أفاعي فيما تظن العين ويتراءى لها.
{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} [طه:66] أي: إلى موسى، {مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] فكان هناك من الكيد ومن الشعوذة ما صنعوه في الحبال والعصي، فبدت وكأنها تتحرك وترتمي على بعضها، وأنها تزحف يمنة ويسرة حتى كأنها أفاعي حقاً.
فأخذت تتحرك وتسعى وتجري وما كان إلا الزئبق قد لطخت به الحبال ولطخت به العصي، فحمي هذا الزئبق عند حر الشمس ضحى، والزئبق بطبيعته متحرك غير ثابت ولا مستقر، وبكثرة ما صنعوه بدت الحبال والعصي في عين الناظر تتحرك وتمشي وتسرع.
{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، خيل: أي هي خيالات خادعة، وأوهام كاذبة لا حقيقة لها في نفس الأمر، فلو وضع شخص يده على أفعى منها لما وجدها إلا عصاً أو حبلاً.
والسحر أقل وأحقر من أن يغير ذات الشيء إلى ذات أخرى، ولا يفعل ذلك إلا الله جل جلاله، ولكنها الخزعبلات والألاعيب والخفة في اليد توهم الإنسان، وهو متشكك النفس في أن هؤلاء يريدون مخادعته، ويريدون اللعب على إدراكه وفهمه.
وقد كاد يحصل بعض ذلك لموسى، وهو بشر بعيد عن السحر، فلم يسبق له أن رآه فضلاً عن أن يقوم به، وهو نبي معصوم، يقول الله عنه: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67].
أي: أن موسى أضمر الخوف، وقال: معي عصاً واحدة وهؤلاء أتوا بالآلاف، فما تصنع هذه العصا مع هذه العصي والحبال التي انقلبت حيات وأفاعي؟ وهذا من ضعف البشرية، ولكن الوحي يساند ويؤيد ويقوي.
وقيل: لم يخف موسى في نفسه وهو مؤيد بالوحي، ولكنه خاف على الحاضرين أن يغرهم ذلك فيبعدهم عن الحق وعن الهدى، فيعتبروا هذا نصراً وفوزاً فيفروا عنه ويتركوه وحده، ولا يؤمنوا به.(38/3)
تفسير قوله تعالى: (قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى)
كان هذا رسول الله ومعه الوحي يشد أزره، ومعه الله يسنده ويعززه فلم يتركه وحده، قال تعالى: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68].
أي: أنت الفائز، وأنت المظفر، وأنت المنتصر.
{قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68] أنت الذي ستعلوهم وتنتصر عليهم، وهم المهزومون على ملأ من الخلق بمحضر فرعون إلههم الكاذب.
{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69].
أمر الله عبده ونبيه موسى بعد أن طمأنه وأزال خوفه وتردده بأن يلقي ما بيمينه وكانت العصا التي كانت المعجزة الأولى لموسى مع فرعون.
{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ} [طه:69] وقرئ: (تلقَّف) أي: تتلقف، أي: تزدرد وتبتلع وتأكل، فعصاك تفعل ما يعجز عنه كل هؤلاء السحرة.
{إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه:69] الذي فعلوه ليس إلا كيداً وشعوذة وخزعبلات وسحراً، ولا وجود لها في نفس الواقع، وإنما هي تخيلات وتوهمات، فصنعهم ليس إلا صنع ساحر.
{وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69] لم ينجح الساحر حيث حضر متحدياً أو منفرداً، وكيف يفلح والذي يتحداه نبيان ورسولان كريمان: موسى وهارون.(38/4)
تفسير قوله تعالى: (فألقي السحرة سجداً)
قال تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} [طه:70].
أيضاً حذفت كلمة دل عليها السياق، أي: فاستجاب موسى لربه وألقى ما في يمينه وهي عصاه، وكان هذا المنظر قد رأته عينا كل حاضر من فرعون وهامان وقارون وأتباعهم.
وإذا بعصا موسى أفعى فاغرة فاها كأعظم ما تكون عرضاً وطولاً، ناباً وسماً يقطر، وإذا بها تجري وتسعى خلف هذه الحبال والعصي فازدردتها وابتلعتها وقضمتها حتى لم يبق في الساحة عصاً واحدة أو حية واحدة فيما يزعم السحرة.
وإذا بالذين أصبحوا سحرة قد انقلبوا وأمسوا شهداء، أصبحوا وثنيين وأمسوا موحدين، أصبحوا من أهل النار وأمسوا من أهل الجنة، {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} [طه:70].
والساحر هو الذي يعرف ما كان سحراً حقاً وما لم يكن كذلك، فهم أول من يعلم أن الحبال والعصي التي ألقوها لم يكن من شأنها أن تزدرد أو تبتلع لأنه لا حقيقة لها، فالحبل لا يزال حبلاً، والعصا لا تزال عصاً، فكيف ازدردت عصا موسى كل ذلك؟ هذا هو الدليل القاطع على أن موسى ليس ساحراً، وأن عصاه ليست من أنواع عصينا، ثم أين ذهب كل هذا في جوفها وهي لا تزال على حالها طولاً وعرضاً، وقد كانت هذه العصي والحبال جبالاً متراكمة؟ فتأكدوا وقطعوا في أنفسهم أن موسى نبي صادق، وأن هارون نبي صادق، فارتموا ساجدين لله، تائبين من ذنوبهم السابقة ومن السحر، متحدين في ذلك فرعون وملأه، متعرضين للابتلاء وللعذاب، ولكن الله قواهم وثبت أقدامهم ليتحملوا من فرعون ما يتحملون رضاً لله وإيماناً بالحق، ولينصر الله الحق في هذا اليوم العظيم، وفي هذا المشهد الشامل.
وانتصر الحق في شخص موسى وهارون، وزهق الباطل المتمثل في شخص فرعون وسحرته، وقد تخلى عنه سحرته وآمنوا بالله الذي أرسل موسى وهارون.
وقوله: {سُجَّدًا} [طه:70] جمع ساجد.
وإذا بفرعون كعادة الظلمة الجبابرة الطغاة عاد للوعيد والتهديد بسلطانه وبطغيانه، مع أنه هو الذي جمعهم، وهو الذي طلب من موسى أن يعين له ميقاتاً ليعلم الكاذب من الصادق، لكنه أبى أن يعترف على عادته، وظل في الإصرار على الباطل والكفر.(38/5)
تفسير سورة طه [71 - 76]
لما آمن السحرة لموسى وما جاء به من الحق عاد فرعون لطغيانه وجبروته وكفره، فاتهم السحرة مهددهم بالقتل والصلب؛ لكنهم كانوا قد عرفوا الحق وخالطت قلوبهم بشاشة الإيمان ففضلوا القتل على الردة.(39/1)
تفسير قوله تعالى: (قل آمنتم له قبل أن آذن لكم)
قال تعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71].
جاء فرعون للتهديد والوعيد والإنذار بالهلاك والتقتيل والتعذيب، ومع كل ما صنع تحداه هؤلاء الصالحون التائبون.
قال لهم فرعون: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71] يستفهم في استنكار: كيف آمنتم به وصدقتموه: {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71]، وكأن الإيمان بالله ينتظر إذناً من أحد، عظيماً كان أو حقيراً، كبيراً أو صغيراً، ذكراً أو أنثى.
ولكن كان قد فصل بينهم وبينه الحق والنور فلم يعد له مكان في قلوبهم وليصنع ما يصنع.
ثم عاد فأنذر وهدد: {فَلَأُقَطِّعَنَّ} [طه:71] وكان يكفي أن يقول: فلأقطع؛ لكنه يؤكد ويقسم بنفسه وبوثنيته، واللام هي التي تدل على القسم، فيؤكد ذلك بنون التوكيد الثقيلة، ويقسم بأنه سيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أي: يقطع يداً يمنى ورجلاً يسرى، أو يداً يسرى ورجلاً يمنى.
{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71].
أي: وبعد أن يفعل ذلك بهم ودماؤهم تنزف لا يوقفها، بل يصلبهم أحياءً على جذوع النخل، أي: على سيقانها وأعوادها ودمهم ينزف حتى الموت.
والجذوع جمع جذع، وهو أصل النخلة وعودها التي تقوم عليه.
{وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71] أيضاً يقسم لهم ليعلمن من أشد عذاباً وأبقى، أي: من شديد العذاب أنا أو رب موسى؟ فهو يتحدى الله، وقد لقي جزاءه.
قوله: (وأبقى) أي: أدوم، أي: هذا العذاب يبقى في التاريخ، ولقد علم هؤلاء الشهداء كما علمنا نحن ومن سبقنا ومن يأتي بعدنا أن الله أشد عذاباً، وأبقى وأخلد.
وقد مات فرعون غريقاً كافراً وشرد وأخرج من أرضه ذليلاً حقيراً، وانتصر الحق وخذل الباطل.
قالوا: ولم يسبق أن عذب أحد إنساناً بهذا بأن قطع منه رجلاً ويداً من خلاف.(39/2)
تفسير قوله تعالى: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا)
وإذا بهؤلاء الشهداء وقد أنذرهم وتوعدهم وتهددهم فرعون يتحدونه بكل صلابة وإيمان، فكانوا القدوة والأئمة لكل مظلوم يكره على الكفر وقد بان له الحق وأتته البينات، فيثبت متحدياً الأباطرة والظلمة والجبابرة.
وإذا بهؤلاء السادة الموحدين التائبين العابدين يجيبون فرعون ويقولون: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
أجابوا فرعون محتقرين له أمام هذه الجموع الحاشدة من أهل البلد.
وقولهم: {لَنْ نُؤْثِرَكَ} [طه:72]: أي: لن نختارك، ولن نقدمك، ولن نعبدك بعد اليوم، ولن نرتكب سحراً حتى ولو عشنا.
{لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:72]: أي: ما كان لنا أن نختارك ونقدمك بعد اليوم، وقد رأينا هذه البينات الفاضحات، والمعجزات الواضحات، وما أتى دليلاً على صدق موسى وهارون من أنهما نبيان رسولان جاءا ليبلغا الحق والهدى عن الله تعالى.
وكانت البينات بالنسبة لهم هذه العصا التي ازدردت كل العصي والحبال التي جاءوا بها، وهم أعلم بالسحر من فرعون؛ فعرفوا أن هذا لم يكن سحراً أبداً، وأنه دلالة أكيدة صادعة من الله الخالق المحيي المميت، وليس ذلك سحراً، وليس ذلك شعوذة.
وكانوا من قبل عندما حضهم موسى قبل الشروع في السحر ودعاهم إلى الله قائلاً: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61]؛ أخذوا يترددون ويقولون: ليس هذا بقول ساحر، ليس هذا بقول مشعوذ، بل هذا الكلام لا يخرج إلا من في نبي، وخاصة في مثل هذه المواقف.
قال هؤلاء التائبون لفرعون الكاذب: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72]: أي: لن نختارك ولن نقدمك على هذه البينات وعلى الله الذي خلقنا وأنشأنا، والذي أرسل لنا موسى وهارون لنعلم الحق من الباطل ونخرج من الوثنية إلى عبادة الله الواحد، ونترك الأصنام حية كانت أو ميتة، ونترك هذا الباطل الذي تعيشون فيه.
وقد يكون قولهم: {وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72] قسماً؛ أي: ونقسم على ذلك بالله الذي أنشأنا على غير مثال سابق، وأوجدنا بلا مواد سابقة، وأوجد المواد التي كوننا منها كالتراب.
أو: لن نؤثرك ولن نختارك على البينات الهاديات والمعجزات الواضحات، وربنا الذي فطرنا وخلقنا، فربنا هو المختار لنا والمعبود وحده بعد اليوم.
قولهم: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72]: أي: اصنع ما أنت صانعه، وافعل ما أنت فاعله، فاقتل واصلب وقطع.
{إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]: أي: لن يكون لك ذلك إلا في هذه الحياة غير الدائمة، هذه الحياة التي لم تكن ثم كانت، وهي إلى عدم بعد ذلك ويبقى الله الواحد القهار.
فلن نؤثر الفاني على الدائم، ولن نؤثر الباطل على الحق، ولن نؤثر الإله الكاذب على الإله الحق فاطرنا وخالقنا جل جلاله.
وقولهم: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]: أي: لن تستطيع أن تفعل شيئاً إلا في هذه الأيام القليلة التي ابتلي بك قومك، وابتلينا نحن كذلك بك ليختبر الله صدقنا بعد أن أرسل لنا نبيين كريمين، وبعد أن بدت لنا العلامات والبينات على صدقه.(39/3)
تفسير قوله تعالى: (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا)
ثم عادوا فقالوا بكل شجاعة وبكل يقين وإيمان بما بقوا به أئمة ورموزاً للحق والدعاة للحق مهما لقوا في سبيل الله من الجبابرة والطغاة، وما أكثرهم قبل وبعد، قالوا له بعد ذلك: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73].
فقالوا له: لن نخضع لموسى على أنه رب أو إله فيما تريد أن تزعم وتظن، فما جاء موسى إلا عبداً رسولاً لربه، وما جاء هارون إلا عبداً رسولاً مبلغاً عن ربه، وعندما آمنا لم نؤمن إلا بالله الفاطر الخالق وحده، المرسل لنا عبديه ونبييه موسى وهارون، فقد آمنا بهما رسولين وآمنا بالمرسل الحق خالقاً ورازقاً ومعبوداً وحده لا شريك له.
وكان هذا على الملأ، فأذل الله فرعون وأحقره أمام أتباعه وملئه من الناس، ولم يجد هنا ما يفعله مع هؤلاء المؤمنين التائبين إلا الطغيان والظلم، وإلا التهديد وتقطيع الأيدي والأرجل والصلب، ولكن بقي الحق حقاً ولو صنع ما صنع، وهكذا يأبى الله إلا أن ينصر الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون، فللباطل جولة ثم يضمحل ولا يدوم إلا الحق.
{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} [طه:73]: أي: ولا تملك أنت ذلك، آمنا بالله رباً، وبموسى وهارون نبيين رسولين؛ عسى الله أن يغفر ذنوبنا وسيئاتنا الماضية في الشرك وعبادتك واتباعك في الباطل والوثنية.
{وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73]: أي: معنى هذا: أن هؤلاء أكرهوا على أن يكونوا سحرة، فقد أتى بهم صغاراً وأجبرهم على تعلم السحر تحت الحديد والنار، فمن عارض قتله، ومن وافق قبله، ولكنه مع ذلك ما وافقه إلا مكره خائف على نفسه وحياته.
فيقولون: آمنا ليغفر الله ذنوبنا ويغفر لنا هذا السحر وهذه الشعوذة الباطلة التي لم تكن من ذواتنا، ولم نكن نعرفها قبل لولا أنك أكرهتنا عليها بالحديد والنار ظلماً وعتواً واستعلاءً في الأرض.
قولهم: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]: هذا جواب على قوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71] فقالوا له: ربنا هو الأشد عذاباً لمن عصاه، وربنا هو الأبقى نعمة وجزاء وخلوداً في الجنة لمن أطاعه.
كنت تغرينا بقربى منك وهي مضمحلة وفانية، ثم تهددنا بالتقطيع والصليب والتعذيب، وزعمت أن عذابك أشد من عذاب الله، وزعمت أن ثوابك أبقى من ثواب الله، ولكن هيهات، فعذاب الله في ناره أشد وأنكى وأخلد، وجزاء الله بالحسنى وبالجنان أدوم وأخلد وأبقى على مدى الدهور والأزمان.(39/4)
تفسير قوله تعالى: (إنه من يأت ربه مجرماً)
قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74].
انقلبوا من وثنهم وعبادتهم لفرعون، إلى مؤمنين دعاة إلى الله يتحدون فرعون في طغيانه وألوهيته الكاذبة، ثم يدعونه ويدعون الملأ كله إلى الله وقد حشدوا جميعاً على رءوس الخلائق ضحىً بحيث يسمع الكل ويرى.
قولهم: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74]: أي: يا فرعون! إذا أتيت ربك مجرماً مشركاً فإن لك جهنم.
وأشد أنواع الإجرام الشرك بالله.
{فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} [طه:74]: أي: جزاؤه هذه النار الخالدة التي من دخل فيها من المشركين يخلد أبد الآباد ودهر الداهرين، ولكنه مع خلوده لا يحيا حياة يستريح فيها، ولا يموت موتاً يستريح فيه من عذابها، فهو لا حي فيرتجى، ولا ميت فيستريح، بل هو أبداً في عذاب: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
وقد يخرج من النار من مات على التوحيد ولو بقوله عن يقين: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو الإيمان بأنبياء عصره.
أما من مات مشركاً كافراً فقد حرم الله عليه الجنة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وجهنم درجات أيضاً كالجنة، ففي الدرجة العليا الضحلة من لا تمس النار إلا قدميه، ولكن يغلي من هذه النار دماغه، وهناك من هو في قاع النار: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145].
والبعض يهوون فيها سبعين خريفاً، هكذا عمق النار وعذابها لمن يستحق ذلك ممن استكبر على ربه وأبى إلا الإشراك والظلم والطغيان والاعتداء على الأرواح والأعراض والأموات، ذاك جزاء فرعون وجزاء كل من صار على دينه وعلى طريقته.(39/5)
تفسير قوله تعالى: (ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات)
قال تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:75]: أي: الذي يأتي ربه مؤمناً أنه الله الواحد لا شريك له، وأنه أرسل عبيداً من عبيده اختارهم أنبياء ورسلاً مبلغين عنه دعوته لعبادته وتوحيده وطاعته فله الدرجات العلى في الجنة.
قوله: {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} [طه:75] أي: لا يكفي أن يؤمن باللسان، ولا بد أن يؤكد ذلك بالأعمال.
وعمل الصالحات من طاعة الله ورسوله حسب ما طلب الله وأمر، ولا اجتهاد في الطاعة.
وقد قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:1 - 3] كل خلق الله في الأرض من الجن والإنس خاسرون ضائعون، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3] أي: إلا من آمن بالله رباً.
{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] تأتي الدرجة الثانية وهي العمل الصالح.
وهكذا لا يذكر الإيمان إلا ويذكر معه العمل الصالح.
والرتبة الثالثة هي ما يفعله الآن هؤلاء التائبون من سحرة فرعون، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] أخذ يأمر بعضهم بعضاً بالحق، وما الحق إلا الإيمان، وما الحق إلا التوحيد، وما الحق إلا الإلهيات والنبوات، طاعة لله وطاعة لرسوله في كل ما أمرا به.
والمؤمن يقول بعد الرسالة المحمدية: آمنت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبمحمد نبياًً، وبالمؤمنين إخوة، وبالكعبة قبلة.
هذا هو الإيمان.
ويأتي العمل الصالح من ترك المنكرات جميعها، وفعل الصالحات حسب القدرة والطاقة؛ (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا).
فالباطل والزيف والمنكر أعمال سلبية لا تحتاج إلا إلى إيقان وقوة إرادة في تركها.
أما الفعل فحسب القدرة، فالقوي يفعل ما لا يستطيعه الضعيف، والضعيف يستطيع أن يفعل ما لا يفعله الأضعف، وكل حسب قدرته وطاقته.
وأما الإيمان فلا هوداة فيه ولا تسامح، ومن آمن ببعض وكفر ببعض فذلك أيضاً كافر، الإيمان كل لا يقبل التجزئة.
ومن يأت ربه مؤمناً قد عمل الصالحات فله الجنة، وما عمل الصالحات إلا القيام بالأركان الخمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلاً، وإيتاء الزكاة على من عنده نصابها، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولم يجعل علينا في الدين من حرج.
قوله: {لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:75]: العلى: جمع علياء، وهي مؤنث أعلى، والدرجات في الجنة، ويقال عن درجات النار دركات؛ لأنه ينزل إليها نزولاً إلى أسفل السافلين.
وأما الجنة ففي العلو، وما يفعل بالعلو يقال عنه درج، فللجنة مقامات ودرجات.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للجنة مائة درجة، ما بين درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، ومن في الدرجة الثانية يتراءون من فوقهم كما تتراءون النجم الدري في أعلى السماء، وإن عمر لمنهم).
فهذه الدرجات العلى أعلاها الفردوس، وبين كل درجة ودرجة مثل ما بين السماء والأرض.
ويبشر صلى الله عليه وسلم الخليفتين الراشدين أبا بكر وعمر أنهما من هؤلاء الذي لهم الدرجات العلى، وأنعم بهما ما أكرمهما.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الجنة درجات وأعلاها الفردوس الأعلى وهي للمؤمنين، فقال بعض الحاضرين: تلك منازل الأنبياء يا رسول الله! قال: بلى، هي لمن آمن بالله وعمل صالحاً، وإن أبا بكر وعمر لمنهم، وأكرما وأنعما).
{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:75] أي: أعلى الدرجات في الجنة وليس الدرجة السفلى منها، وليس في الجنان أسفل، إنما درجة أعلى من درجة، ومقام أعلى من مقام، وإلا فكلهم مرضي عنهم مرحومون، يمتعون برضا الله والنعيم الخالد الدائم.(39/6)
تفسير قوله تعالى: (جنات عدن تجري من تحتها الأنهار)
قال تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:75] ثم فسرها الله، فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:76].
فهذه الدرجات عُلى، ثم شرحها الله تعالى وبين أنها جنان: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} [طه:76] أي: جنات إقامة دائمة، ومنه المعدن، أي: النوع المقيم في الأرض قبل أن يستخلص ويؤخذ ويستفاد منه.
فقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} [طه:76] أي: جنات دائمة، جنات مقيمة، جنات جعلت للدوام والبقاء الخالد.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [طه:76]: أي: ومع كونها مقيمة خالدة أبداً سرمداً إلى يوم القيامة فإن الأنهار تجري من تحتها.
وكما أن أهل النار كلما نضجت جلودهم أبدلهم الله غيرها، فالجنة تتجدد خلايا ساكنيها وشبيبتهم وحيويتهم وشهواتهم ورغباتهم وكأنهم لم يكونوا يوماً شيوخاً ولا مرضى ولا أمواتاً.
وهم شباب في سن ثلاث وثلاثين على أجمل ما يكونون شكلاً وقوة ونفساً وراحة.
هكذا يقول هؤلاء الشهداء قبل أن يستشهدوا، فيتحدون الباطل في شخص فرعون، ويتحدون الظلم في شخص قوم فرعون، ويأبون إلا أن يؤمنوا تائبين، عابدين دعاة إلى الله مذكرين.
وكانوا يتحدون فرعون وهامان وموسى ينظر إلى ذلك وهارون وهما قريرا العين، بل في لذة النصر ولذة الاتباع في الإيمان، وأن فرعون الطاغية الظالم قد أخزاه الله وأذله على ملأ من قومه.
وهؤلاء الذين أكرههم على السحر قد تحدوه، وقد حقروه، وقد ازدروه، بل وانقلبوا يقولون عنه فاجر ظالم كاذب.
ثم أخذوا يدعونه إلى الله، وأن الله يقبل التوابين ويغفر للمذنبين إن استغفروا وتابوا وأنابوا، وأن من بقي على كفره إلى الموت لا مكان له في الجنة، بل مكانه جهنم خالداً فيها أبد الآبدين، ومن أتى ربه تائباً مستغفراً فمكانه الجنان والدرجات العلى منها منعماً، مكرماً.(39/7)
تفسير سورة طه [97 - 99]
عاقب الله تعالى السامري الذي أضل بني إسرائيل، وقد أمره موسى باعتزال الناس، وهدده بالموعد الذي سيأتيه فيحاسبه على ما أجرم وافترى.(40/1)
تفسير قوله تعالى: (قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس)
قال تعالى: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه:97].
أي: ابتعد واعتزل، وليبتعد الناس عنك وليعتزلوك.
وقد استوحش وأصبح في الصحاري، وكأنه الحيوان الوحشي لا يألف ولا يؤلف، فإذا رأى إنساناً بعيداً صاح وفر.
قال له موسى: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} [طه:97]: أي: لك موعد من ربك في عقوبتك وفي عذابك يوم القيامة لن تخلفه، ولن يتخلف هذا الموعد عنك ولا عن كل مذنب يوم الحساب والعقاب والعرض على الله.
وهكذا أنذره موسى بعد أن عاقبه عقوبة الدنيا التي يملك، وترك عقوبة الله التي لا يملكها غيره، فله موعد من الله يوم القيامة لن يخلفه.
ثم قال له: {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه:97]: ثم انظر إلى هذا العجل الذي زعمته إلهاً ماذا سنصنع به؟ والذي صنع أنه حرقه وأذابه وعاد به إلى أصله، ثم برده إلى أن أصبح برادة كالنخالة، وجاء في يوم عاصف إلى شاطئ البحر فنفثه ونسفه إلى أن تشتت في الهواء.
{الَّذِي ظَلْتَ} [طه:97] أي: ظللت، حذفت إحدى اللامين للتخفيف، وهي من بلاغة القرآن الكريم، يقال: ظل فلان يومه يصنع، أي: اليوم كله، وكان ذلك عمله.
ومعنى {ظَلْتَ عَلَيْهِ} [طه:97]: دمت على عبادته وزعمت أنه إله، فانظر ماذا سنصنع به؟ ثم أقسم موسى: (لنحرقنه) واللام هنا لام موطئة للقسم، وأكدت بنون التوكيد الثقيلة.
وكان التحريق لهذا الذهب والمعدن بأن يذاب إلى أن يعود لأصله، ثم يبرد.
{ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ} [طه:97] النسف: الذر والتشتيت في الهواء، كمن يأتي إلى نخالة دقيق أو تراب فينفخه، فيبعثر ويذر على مختلف النواحي.
{ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ} [طه:97] واليم هو البحر.(40/2)
تفسير قوله تعالى: (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو)
قال تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98].
ثم عاد موسى داعياً إلى الله مؤكداً دعوته لعبادة الله الواحد، وأنه هو ومن سبقه من الأنبياء ومن يأتي بعده كعيسى ونبينا عليهم جميعاً الصلاة والسلام؛ كلهم ما جاءوا إلا للدعوة إلى الله الواحد، فلا صنم ولا شريك لا من حي ولا من ميت، لا من ملك ولا إنسي ولا من جني، لا من صامت ولا متحرك، فالله الواحد هو المعبود الحق والإله الحق في الأولين والآخرين.
قوله: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ} [طه:98] إنما: أداة حصر، أي: الألوهية والعبودية محصورة في الله الذي لا إله غيره، فلا ثاني له ولا شريك له لا في ذات ولا صفة ولا فعال.
{وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98]: علماً: منصوبة على التمييز، أي: وسع علمه كل شيء، وأحاط بعلم كل شيء، فلا تخفى عليه خافية لا في الضمائر ولا في النفوس، ولا في البر ولا في البحر، ما من غائبة إلا يعلمها، ما من ورقة تلقى في ليل أو نهار أو شرق أو غرب إلا وعلمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
وبهذا تكون قصة موسى قد انتهت هنا في سورة طه، وقد كررت في القرآن في أكثر من مناسبة، وعند كل مناسبة يؤخذ منها معنى جديد، وقد تساءل الناس قبلنا: ما حكمة الإلحاح على قصة موسى وقصة النصارى بما صنعوا لعيسى.
وما صنع معهم عيسى في القرآن؟ والأمر بين وواضح؛ فالأديان السابقة كلها انتهت بعد أن حرفت، ولم يبق آثار من وثنيات وعبوديات زائفة وباطلة تظهر في عبدة الفروج وعبدة القرود وعبدة البقر وعبدة الحيوانات، لكنهم لا يملكون كتاباً يقولون إنه من عند ربنا، انحرف أو لم ينحرف.
ولم يبق من ذلك إلا ديانة موسى وعيسى بعد أن حرفتا وبعد أن بدلتا، وبعد أن غيرتا، وبعد أن انتقلتا من عبادة الله الواحد إلى الوثنية وعبادة من دون الله، فالنصارى عبدوا ثلاثة: الله وعيسى ومريم.
واليهود عبدوا العجل مع الله، وعبدوا العزير مع الله، وزعموا أنهم جميعاً أبناء الله، فأعطوا لله صورة مخلوقة بشرية على حسب فساد عقولهم وفساد أديانهم، ولاقوا في حياتهم ولا يزالون يلاقون من عذاب الله ونكاله.
فالله جل جلاله قال ذلك في الكتاب المنزل على نبينا، والذي أمرنا وغيرنا من سكان الأرض منذ الدعوة المحمدية وإلى قيام الساعة أن نلتزم ما فيه، وأن نحلل حلاله، ونحرم حرامه.
فكان مما وعظنا به الله وأنذرنا، أن بشرنا وأنذرنا أنكم الآن على دين الحق، فإذا غيرتم أو بدلتم فمن بدل منكم عن علم كما بدل اليهود فستكون عقوبته في الدنيا عقوبة اليهود.
ومن بدل منكم عن جهل ولم يكلف نفسه علماً ولا تعلماً فسيعاقب عقوبة النصارى الذين ضلوا عن جهل.
وهكذا دواليك، ولكن مع هذا الوعظ الشديد والنذارة الشديدة والبشارة الدائمة ضل الكثيرون منا وجروا خلف اليهود، فاتبعوا ماركس ولينين وأمثالهما من اليهود، وإذا بالله الكريم يعاقبهم عقاب اليهود، بل ويسلط عليهم اليهود، وما تسليط اليهود علينا إلا لأننا خرجنا عن أمر الله وطاعته، وسعينا في أن نقتفي أثرهم، ونعبد العجل معهم، ونشرك شركهم، فكان ما ترون.
ولا أحد أصبر من الله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه سبحانه يرزقنا ويعطينا ومنا من يدعو مع الله إلهاً، ومنا من يظل ليله ونهاره على المعصية والكفر والشرك والردة، ولن يرفع الله عقوبته ولا عذابه ما لم نتب إليه ونعود إليه تائبين وله حامدين في أن يرفع عنا ما ابتلينا به.
وهكذا اليوم تجد الإنسان يزعم أنه متحضر، ومن تحضره في ما يزعمه ويعلنه أنه قَبِل الهوان والاستسلام، وقبل الكفران والبعد عن القرآن.
يقول موسى كما قال الله عنه: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98].
أعطى عباده عقولاً يعقلون بها أنفسهم عن الباطل والفحشاء والسوء، ولكنه علم من سيفعل ذلك منهم ومن سيخالف ذلك، وهو العالم بكل شيء قبل أن يكون وبعد أن يكون، ولو لم يكن لو كان كيف سيكون.(40/3)
تفسير قوله تعالى: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق)
ثم قال تعالى ممتناً على رسوله ومعلناً لنا بأن ما يقصه الحق: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه:99].
أي: وكما قصصنا عليك قصة موسى وفرعون ولم تكن تعلمها قبل، وكانت مشوشة عند الناس مبدلة محرفة، كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق.
وقد قص الله علينا قصص خلق آدم، ونوح مع قومه، وصالح مع قومه، وهود مع قومه، ولوط مع قومه، وإبراهيم مع قومه، وقصص جميع أنبياء بني إسرائيل، وهكذا دواليك.
وقص علينا قصص شعوب بائدة، وكان كل ما قصه لم يكن معلوماً عند العرب، فقد كانوا أمة أمية لا يحسبون ولا يكتبون، فمن أين جاءته هذه المعارف؟ أليست هذه معجزة المعجزات الخالدة إلى يوم القيامة؟ إنسان عاش بين قومه أربعين عاماً لا يعلم شيئاً، ففيه ذكاء ونبوغ، ولكنه لم يقرأ ولم يكتب ولم يتتلمذ على شيخ، وإذا به بعد الأربعين سنة يصبح وقد فاجأ قومه وفاجأ الخلق كلهم مشارق ومغارب بهذه العلوم التي وسعت الأولين والآخرين، بقصص السابقين واللاحقين، بما كانوا عليه وبما يكونون، من أين جاءه كل ذلك؟ وأتى به بكلام معجز على فصاحة العرب وبلاغتهم وما أعطوا من تفنن في القول، وقد عجزوا عن أن يأتوا بآية من مثله، بسورة من مثله، ولا يزال العجز قائماً، والتعجيز قائماً، لا أمة في الماضي، ولا أمة في الحاضر ولا في الآتي، ولا إنسان مهما بلغ من الفصاحة والبلاغة، لن يستطيع الإتيان بسورة من مثل سور القرآن، بل ولا بآية.
فإن حاول أتى بالغث، أتى بالسخيف من القول، أتى بما يتضاحك به وتضحك منه الثكلى، فالله جل جلاله يقول لنبيه ولنعلم نحن ذلك: لو لم يكن محمد نبياً حقاً صلى الله عليه وآله فمن أين أتته هذه العلوم وهذه المعارف؟ على من درسها وكيف درسها وهو لم يعش إلا في أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ولا تحسب.
{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه:99] أي: من أنباء القوم السابقين كما لو عشت معهم.
ومن هنا نعلم متأكدين قاطعين أن قصص القرآن هي قصص واقعية، هي قصص كانت ذات يوم لأشخاص وأعيان وأزمان وأجيال وأوقات، لا كما زعم من ارتد ممن يدعي العلم ويدعي المعرفة منذ مائة عام وهلك مع الهالكين.
قال عن قصص القرآن: هي أشياء متخيلة، ذكرت لضرب الأمثال وأخذ العبرة، ولم يكن لها في التاريخ والواقع وجود.
وضل هذا وأضل غيره، وجاء بعده من قال بذلك وكتب عنه أطروحات وكتباً، وهذا كله ضلال في ضلال، ردة في ردة، خروج عن كتاب الله وخروج عن أمر الله ومعصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقصص كله حق.
ومن هنا عندما ابتدأ الناس البحث عن الآثار في الأرض، هذه الآثار قد لفت الله نظرنا إليها فأمرنا أن نضرب في الأرض ونرى الآثار، وقد وجدنا آثار كل من قص الله قصصهم من قوم فرعون، ومن قوم لوط، ومن قوم إبراهيم، ومن جميع أنبياء بني إسرائيل.
فكان ذلك مكذباً للواقع المحسوس الملموس باليد حتى للكافر، حتى لضائعي العقل، حتى للذي يعيش في الزيف والباطل.
{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه:99] من أخبارهم.
وقوله تعالى: {مِنْ} [طه:99] من هنا للتبعيض، أي: يذكر لنا بعض ما سبق من قصص هؤلاء، هذا القرآن الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن فيه خبر من قبلنا، وأن فيه خبر ما بعدنا، وأنه الحكم الفصل، ما تركه من جبار إلا وقصمه الله، ورأينا ذلك رأي العين، بل ولا نزال نعيش في واقعه.
قال تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه:99] والذكر هنا القرآن، كما أن الذكر محمد عليه الصلاة والسلام، لأن لله عباداً إذا رؤوا ذكر الله، وكان في طليعة هؤلاء العباد نبينا صلى الله عليه وعلى آله، ما رئي إلا وذكر الله، وقيل ليس هذا بوجه كذاب، وقيل: هذا الناطق عن الله، وقيل: هذا المذكر لله وفي الله.
وكثيراً ما جاء أعراب سذج لا يكادون يميزون فرأوا إشراق النبوءة، ورأوا النور النبوي على جبينه فقالوا: والله ما هذا بوجه كذاب، فآمنوا به دون أن يسمعوا معجزة ولا برهاناً ولا دليلاً، كان ذلك بالحدس، كان ذلك باليقين أن مثل هذا لا يكذب.
ومن لا يكذب على البشر مدة أربعين عاماً وقد عاش بين قومه، عرفه الصغير والكبير، وهو ابن زعمائهم وابن قادتهم، ابن عبد الله بن عبد المطلب، أيكذب على الله بعد أن بلغ أربعين عاماً؟ حاشا الله ومعاذ الله.
{وقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه:99] أي: من عندنا، ومعناه: أن الكتاب كتاب الله، والذكر ذكر الله، وما محمد عليه الصلاة والسلام إلا مبلغ عن ربه، قد خلت من قبله الرسل فهو خاتم الرسل.
ومن أسماء القرآن: القرآن والفرقان والذكر، ما قرأه إنسان إلا وتفكر الحق وميز الباطل، وذكر ربه، وذكر بشراه، وذكر عقوبته فتذكر ورجع إلى الله، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].(40/4)
تفسير سورة طه [99 - 104]
القصص التي يذكرها الله في القرآن هي تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه قد آتاه من عنده ذكراً، وهو القرآن، فمن كذب به وأعرض عنه عوقب يوم القيامة بما يستحقه.(41/1)
تفسير قوله تعالى: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق)
قال الله تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه:99].
يقول الله جل جلاله: كذلك يا محمد، قصصنا عليك قصة موسى وهارون مع فرعون وهامان وقارون وملئهم حتى كأنك حاضر فيها زمناً وشخصاً وحالاً وغضباً ورضاً وانتقاماً ووحياً ودعوة إلى الله.
{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه:99]: أي: نقص عليك من أخبارهم، وأنباء: جمع نبأ، أي: من أخبار الأمم السابقة والعصور الماضية، وأنبياء الله السابقين، وبدء الخلق، وما جرى على العصاة والمتمردين المكذبين لرسلهم وأنبيائهم؛ ليكون لك من ذلك عبرة، ويشد ذلك ظهرك، وتتخذ الأنبياء والملائكة قدوة لك، لتجد السلوى في ما جرى لك من قومك عندما تعرف ما جرى لهم من أقوامهم.
{مِنْ أَنْبَاءِ} [طه:99] من: للتبعيض، أي: قص الله تعالى على نبينا وعلينا بالتبع بعض أحوال من مضى لنأخذ منها العبرة والعظة والدرس، ونأخذ منها العلم والمعرفة.
{وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه:99] كما قصصنا عليك أنباء السابقين كذلك أنزلنا إليك من عندنا ذكراً.
والذكر هنا هو القرآن الكريم، ففيه ذكر من قبلنا وذكر من بعدنا، وفصل ما بيننا، ما تركه من جبار إلا قصمه الله، فيه الحق بداية ونهاية، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
{وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه:99]: أي: وأوحينا إليك وأكرمناك بكتاب لم يسبق مثله في السابقين، ولم يأت بعده في اللاحقين، خاتم الكتب السماوية وجامع ما فيها والزائد عليها معرفة وذكراً وعلماً وقصصاً للذكرى وللعبرة والموعظة.
وفي قوله: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه:99] أي: تذكر به، فهو شرف لك، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44].
وهو شرف لك رفع اسمك في الخافقين، وخلد اسمك بين الخالدين، وكنت بذلك خاتم الأنبياء وإمامهم، وكان دينك دين العوالم كلها منذ أوحي إليك هذا الكتاب الكريم وإلى يوم النفخ في الصور، وهو للأبيض والأسود والأحمر والأصفر، للمشارق والمغارب، للعرب والعجم.
فهو ذكر وتذكير لهم بما سيئول إليه أمرهم، وهو عظة لهم، بشير للمستقيم، ونذير للكافرين.(41/2)
تفسير قوله تعالى: (من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً)
قال تعالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} [طه:100].
أي: من أعرض عن هذا الذكر فكذبه وتركه وراءه ظهرياً، وجعله في عرض الكلام وزائده، ولم يعتبره كلاماً من الله، ولم يعتبره كتاباً أنزل لتذكير الخلق ودعوتهم كلهم لعبادة الله الواحد، وإبعادهم عن الكفر والجحود والعصيان، فإنه يحمل يوم القيامة وزراً.
وقوله: {مَنْ أَعْرَضَ} [طه:100]: أي: فهو كتاب أنزل على محمد سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، ليكون الكتاب العام الشامل لجميع العوالم، لمن عاصره صلى الله عليه وسلم ولمن أتى بعده وإلى يوم النفخ في الصور.
وعلى ذلك فمن بلغه كتاب الله المنزل على خاتم الأنبياء فلم يعمل به وأعرض عنه وتجنبه {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} [طه:100].
والوزر: الذنب الثقيل الذي ينوء بحمله الإنسان ويثقل ظهره.
فمن أعرض عن القرآن وكفر به فإنه يأتي يوم القيامة ظالماً آثماً، حاملاً من الأوزار ثقيلها وعظيمها مما ينوء به حمله، ولا يكاد يطيقه زيادة في عذابه وآلامه.
وهذه الآية من الآي التي تعتبر دليلاً على أن القرآن كتاب الله للبشر كلهم، فهي كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، هكذا أمر صلى الله عليه وسلم أن يصدع بالحق وأن يصدع بالإسلام من تلك البطاح المقدسة (مكة المكرمة والمدينة المنورة)، وأن يبلغ من بلغه ممن يأتي بعده، وهكذا دواليك إلى يوم القيامة.
ومن هنا كما في الحديث المتواتر يقول صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع).
وفي الحديث: (تسمعون مني ويسمع منكم، ويسمع ممن سمع منكم).
ومن هنا كان القرآن الكريم على خلاف الكتب السابقة المنزلة على الأنبياء السابقين، فتلك كلف بحفظها ربانيوها وعلماؤها، ولكنهم عجزوا عن حفظها ورعايتها وبقائها سالمة من التحريف والتبديل.
أما القرآن الكريم فقد تعهد الله بحفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
ومن حفظه أن ألهم أبا بكر أن يقبل مشورة عمر في أن يجمع القرآن، كما ألهم عثمان أن يجمع ما جمع أيام أبي بكر في كتاب واحد ويحرق ما عداه مما خلط به بعض كتاب التفاسير والشروح والبيانات، وقد خاف عثمان وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يختلط الأمر على من يأتي من المسلمين بعد، فيخلط ما ذكر شرحاً وبياناً مع الوحي، فيصبح القرآن كالتوراة والإنجيل، ولكن ذلك لا يتم؛ لأن الله الذي تعهد بحفظه، فجمعته الصدور، وكتب في السطور، وتلي في المحارب والمساجد والمعابد.
وهكذا توارثناه لفظاً لفظاً، وآية آية عن آبائنا عن أجدادنا عن أجدادهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا تلوناه وحفظناه عن شيوخنا وعن أساتذتنا عن مشايخهم متواتراً، مطبقاً على ما فيه حركة وسكنة وسور وآي، وبكل ما بين دفتيه.
قد يقرأ اليهودي من التوراة، ويقرأ النصراني من الإنجيل ممن يدعى أنهم علماؤهم فيبدل ويغير ويزيد وينقص، ولا يجد من يقول له أخطأت، ولكن كتاب الله إذا تلاه تال وسها عن كلمة وغلط في آية تجد الحاضرين جميعاً يصيحون في وجهه أن ليست التلاوة كذلك، وإنك قد أخطأت وغفلت وسهوت، دون حاجة للرجوع للمصاحف، على أن ما في المصاحف يؤيد كل ذلك ويزكيه ويعززه ويؤازره.
ومن هنا كان نص الكلام في كتاب الله هو هو، كما كان يتلوه صلى الله عليه وسلم في بيت الله الحرام وفي مسجده النبوي، وحيثما انتقلت سفراً وحضراً، سلماً وحرباً.(41/3)
تفسير قوله تعالى: (خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملاً)
قال تعالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} [طه:100 - 101]: أي: هذا الذي يأتي كافراً به، مكذباً بما فيه يأتي يوم القيامة وهو يحمل الأوزار والآثام خالداً في ذلك، وهي ذنوب أهل الشرك والكفر في جهنم أبداً سرمداً.
فمن لم يؤمن بالقرآن فقد كفر، ومن لم يؤمن بمحمد نبياً ورسولاً فقد كفر، ومن لم يعمل بما جاء في كتاب الله على أنه وحي الله فقد كفر، فهو يأتي يوم القيامة مثقلاً بالذنوب والآثام، ويكون بذلك خالداً في جهنم، خالداً في وزره، خالداً في ذنوبه وآثامه، وما ذاك إلا خلود في جهنم أبداً سرمداً إلى حيث لا نهاية.
{خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه:101]: أي: ساء ما يحملونه من ذنب يوم القيامة عندما يأتون، فإنها أثقال تحمل الأوزار وتحمل الذنوب والمعاصي وتقود حاملها إلى النار وإلى السوء.
يا سوءتاه ويا ما كثرة السوء من حمل ذلك! يأتي سيئ العقيدة، يأتي سيئ الحظ، يأتي بالسوء بدخوله جهنم وهو يحمل أثقالاً وأوزراً وآثاماً.(41/4)
تفسير قوله تعالى: (يوم ينفخ في الصور)
قال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه:102 - 103].
يكون هذا المجيء وهذه الأثقال والأوزار التي يحملها على عاتقيه من مات وهو لا يؤمن بكتاب الله يوم القيامة.
وذلك يوم ينفخ في الصور، ويوم النفخ في الصور هو يوم البعث، عندما يفنى الكل ويموت، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
والصور قرن على قدر السماوات والأرض يكلف به ملك اسمه إسرافيل، وإذا كان هذا الصور قدره قدر السماوات والأرض، فالذي يحمله لينفخ فيه كم يكون طوله وعرضه وثقله، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68].
قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحاح: (كيف أسر وملك الصور فاتح فاه محن رأسه على الصور ينتظر الإذن لينفخ فيه)، وهما نفختان بين كل نفخة ونفخة أربعون عاماً.
والعام من أعوام القيامة، أي: اليوم فيه كألف سنة مما تعدون.
فينفخ النفخة الأولى فلا تبقى حياة في الأرض أبداً، ولا في السماوات ولا في البحار ولا في عمق الأرض.
وبعد أربعين ينفخ ثانية فينتصب الخلق قياماً لله، زاحفين إلى الحشر، متخافتين لا يسمع لهم إلا الهمس ووقر أقدامهم على الأرض وهم يتخافتون ويتسارون: كم لبثنا وكم أقمنا في الأرض؟ {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [طه:102] يأتي هؤلاء بأثقالهم، وبذنوبهم، وبمعاصيهم.
والمقصود: النفخة الثانية عندما يقومون منتصبين للعرض على الله، وإسرافيل يقول: يا أيتها العظام النخرة، يا أيتها الجلود الممزقة، يا أيتها اللحوم المنتثرة في الرمال وفي الأرض وفي التراب استجيبي لله، فينتصب الكل قياماً ويلهمون المشي إلى أرض المحشر.
وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أن أرض المحشر هي أرض الشام، والتي هي مهاجر إبراهيم، والتي دعا لها صلى الله عليه وسلم من بعد الهجرة إلى المدينة وإلى مكة وإلى الحجاز، والتي قال عنها صلى الله عليه وسلم: (في مدينة من خير مدائن الدنيا يقال لها دمشق).
قوله: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102]: أي: يحشر الله جل جلاله المجرمين ويسوق الناس إلى المحشر حفاة عراة غرلاً.
وعندما سمعت ذلك أم المؤمنين عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: (يا رسول الله، أنكون هكذا عراة ينظر بعضنا لبعض؟ فقال لها صلى الله عليه وسلم: هيهات، كل في ما يشغله).
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
فلا فراغ لأن يرى أحد أحداً، وهيهات قد انتهى يوم ذلك، كل يقول: نفسي نفسي! {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [طه:102] مبني للمجهول الذي بينه صلى الله عليه وسلم وأنه إسرافيل.
{وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102]: أي: المشركين الكافرين الظالمين، يحشر الكل، ولكن الذي يحشر أزرق على غاية ما يكون من الآلام البدنية والنفسية هم المجرمون، والإجرام هنا الشرك بالله، وليس بعد جريمة الشرك جريمة.
زرقاً: جمع أزرق.
قالوا: زرق العيون، هكذا فسرها ابن عباس حبر القرآن.
قال: وشدة الغم، وشدة الهم، وشدة البلوى والمصيبة تجعل هذا المجرم المعذب في غاية ما يكون من الذهول بحيث لا تطبق عيناه ولا أهدابه، فيشتد ألمه حتى يصبح البياض أزرق، لا كالزرقة التي تكون بالفطرة فيمن يخلق الله فيه ذلك، ولكن زرقة الألم والوجع.
وقيل: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] أي: عمياً، تزرق أعينهم فلا يقدرون على الإبصار.
وقيل: عطاشاً، وإذا اشتد عطش الإنسان ولم يشرب تتأثر بذلك عيناه حتى تزرقا.
والمقصود من الآية: أن هؤلاء المجرمين يحشرهم الله للعرض عليه على غاية ما يكونون من حمل الأوزار والأثقال والذنوب والآثام، وهم مجهدون في الأبدان وفي النفوس على غاية ما يكون من الألم والجهد.(41/5)
تفسير قوله تعالى: (يتخافتون بينهم)
قال تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه:103]: يتخافتون: يتسارون، والخفوت: الصوت الذي لا يكاد يرى منه إلا حركة الشفتين، فلا يكاد يسمعه من بجانبه.
فهم يتساءلون: كم لبثنا؟ وكم أقمنا في قبورنا؟ وكم أقمنا ما بين النفخة الأولى والنفخة الثانية؟ ولكون الدنيا مهما طالت فهي قصيرة بالنسبة للآخرة، يقومون وكأنهم لم يعيشوا قط، وهذا ندركه في الحياة قبل الممات، فكل من زادت سنه عشر سنين يتصور أن السنين العشر لم تكن، وقل هذا على ابن العشرين فالثلاثين فالسبعين فالتسعين فالمائة.
فلا يرى إلا أن هذه السنين كأنها لحظات، ولا يبقى له منها في نفسه إلا الصدى.
فنحن الآن نقرأ أخبار هذه الأمم في كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مضت عليهم القرون والآلاف من السنين ومع كل ما أمضوه من ذلك أصبحوا كلمات على الأوراق، وقصصاً تحكى، والذي جاء من التراب عاد إلى التراب وكأنه لم يكن.
{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه:103]: يقول بعضهم لبعض مبالغاً في تقدير الزمن الذي عاش فيه سواء بين النفختين أو في حياته: ما لبثنا وأقمنا في قبورنا أو ما بين النفختين إلا عشرة أيام.
يقول تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:104].
فالله جل جلاله يقول: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} [طه:104] أي: رغم كونهم يتحدثون سراً حتى لا يكاد الكلام يسمع، ولكن الله جل جلاله يعلم ويسمع ما يتخافتون به وما يقولونه، فأخبرنا بما يقول المجرمون، ونرجو الله أن يجعلنا من أهل الجنة البعداء من النار.
{أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} [طه:104]: أي: أعقلهم وأوسعهم فهماً وإدراكاً في نفسه.
{إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:104]: كل ما مضى من حياتهم وما بين النفختين لا يتجاوز اليوم.(41/6)
تفسير سورة طه [105 - 112]
عندما تقوم الساعة تزلزل الأرض وتنسف الجبال حتى تصير قاعاً صفصفاً، وحينئذٍ تخضع الرقاب وتذل الجبابرة لله الواحد القهار، فلا تنفع الشفاعة إلا بإذن الله لمن رضي له.(42/1)
تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن الجبال)
قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه:105]: قيل: إن رجلاً من الطائف سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الجبال على سعتها وعرضها وطولها وثقلها، أين تكون إذ ذاك؟ فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107].
يقول الله تعالى لنبيه: قل يا محمد عندما يسألونك عن هذه الجبال على طولها وعرضها وثقلها الذي استقرت به الأرض فلم تمل يميناً ولا شمالاً ولم تنقلب بأهلها: (ينسفها ربي نسفاً).
قوله تعالى لنبيه: {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105]: أي: يطيرها ويذرها في الهواء هباء وكأنها لم تكن، فتصبح هباءً منثوراً، فكما قال لها يوم خلقها: كوني فكانت، يعود فيقول لها يوم القيامة: اذهبي، فتذهب وتصبح ذرات وهباءً إلى ألا يبقى منها حتى الذر.
{فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} [طه:106] والقاع الأرض المستوية، والصفصف الملساء.
وأكد الله فقال: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:107]: أي: لا ترى فيها حفراً ولا وهاداً ولا ودياناً.
والأمت: التلال والجبال الصغيرة.
تصبح قاعاً صفصفاً، مستوية ملساء لا حفرة فيها ولا تل ولا اعوجاج، ولا ما يحول دون البصر لمن يريد أن يرى هؤلاء الخلائق واقفين معروضين على الله منذ آدم إلى آخر مخلوق على وجه الأرض.
فالكل يقف معروضاً على الله، محشوراً إليه، ينتظر
السؤال
هل هو إلى جنة أو إلى نار، هل هو ممن يحمل كتابه بيمينه أو هو ممن يحمل الكتاب بشماله؟(42/2)
تفسير قوله تعالى: (يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له)
قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108].
والداعي هو إسرافيل يدعو بالصور في النفخة الثانية، يوم يدعو الكل إلى الذهاب والمشي إلى ساحة العرض على الله يوم الحساب.
{يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} [طه:108]: أي: من يدعونا بأمر الله للاستجابة إلى الله.
{لا عِوَجَ لَهُ} [طه:108]: أي: لا اعوجاج ولا زوغان ولا فرار، ولا يستطيع أحد أن يختفي من هذا الداعي.
{وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108].
أي: تخشع الأصوات فتخفض وتخضع بالقول، ولا تكون مرتفعة، فلا تسمع إلا همساً.
وذكر الرحمن في هذا الموطن رحمة من الله وكرم، وإلا فهو يوم الجبروت، ولكنه جبروت على أهل الكفر والمعصية، ورحمة بالمؤمنين.
{وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه:108].
أي: أن هؤلاء عندما يتكلمون لا يتخافتون إلا همساً، والهمس لا يكاد يكون معه إلا حركة الشفتين، وهو ما يطلق على حركة الشجر، وما يطلق على حركة الماء دون أن يكون هناك أمواج.
فيكون حديث هؤلاء وهم مشاة إلى الله جل جلاله ومتبعون الداعي إسرافيل، فيتحدثون: ما الموقف؟ وما المآل؟ وهل نحن من أهل الجنة أو من أهل النار؟ على أن الكلام هنا عن المجرمين، فهم الذين سيكون الحال شديداً عليهم، فلا يرون أمامهم -وهم أعلم بأنفسهم- إلا العذاب واللعنة والغضب.
ومن أول يوم فإنهم يزعجون إزعاجاً، وذلك عندما ينفخ في الصور، فيدعون للاستجابة وللعرض على الله في اليوم الذي طالما أنكروه في حياتهم، فقد أنكروا البعث، وأنكروا الحياة بعد الموت، وأنكروا الجنة والنار، وأنكروا العرض على الله، وأشركوا مع الله غيره.
فهؤلاء عندما يعيشون في واقع ما كانوا ينكرونه تجدهم بين الهمس والخفوت والتحدث بأصوات ذليلة خاشعة، فيتحدث أحدهم مع من بجانبه فلا يكاد يسمعه، ولا يكاد يفهمه إلا من حركة شفتيه.
وكما في حديث السيدة عائشة: (من نوقش الحساب عذب).
ولا يعذب إلا المجرمون الكافرون المشركون، وأما المؤمن فمهما صدر منه إذا مات على التوحيد، وعلى اليقين بالله واحداً وبمحمد نبياً ورسولاً، فإنه إما أن يغفر الله له إن شاء ذلك، وإما أن يعذب برهة -الله أعلم بقدرها- ثم يخرج بعد ذلك إلى الجنة بالشفاعة لمن يأذن الله تعالى له بأن يشفع.(42/3)
تفسير قوله تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة)
قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109].
في يوم الحشر، ويوم العرض على الله، ويوم البعث من الموت إلى الحياة الخالدة في الجنة لأهل الجنة، والخالدة في النار لأهل النار، فإن هؤلاء لا يطمعون في أن يشفع لهم أحد إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً.
قال ابن عباس: هذا القول هو لا إله إلا الله، أي: لا يشفع إلا المؤمن، ولا يشفع إلا للمؤمن.
وأما من مات مشركاً فهو يائس من الجنة، ويائس من الرحمة، والله لا يغفر لمشرك كافر أبد الآباد.
فالمذنب إذا مات مؤمناً غير مشرك فإنه يطمع في رحمة ربه، وأما الكافر فلا يرحمه الله، ولا بد من عذابه خالداً مخلداً كخلود المؤمن في الجنة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وإذا كان المشرك لا غفران له إذاً فلا شفاعة له، وإذا كانت الشفاعة بإذن الله ولا يشفع أحد إلا بإذنه، فإن الله لا يأذن إلا لمن رضي قوله شافعاً ومشفعاً، بأن يكون الشفيع موحداً مؤمناً، وأن يموت المشفوع له أيضاً مؤمناً، وقد رضي الله قوله، وهو يعلم أن لا إله إلا الله.
والشفاعة لا تكون إلا من الأنبياء والصالحين، وهؤلاء أطوع لله من أن يكونوا فضوليين في الشفاعة بلا إذن.
وليست الساعة ساعة معصية، وهم في الدنيا كانوا مطيعين فكيف يعصون يوم القيامة ويشفعون بلا إذن.
{يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ} [طه:109]، فلا تنفع الشفاعة مجرماً، ولا تنفع عاصياً إلا لمن أذن الله له أن يشفع بخصوص هذا المشفوع فيه، ووصْف ذلك وعلامته وبيانه أن يرضى الله قول الشافع الذي سيشفع بعد إذن الله، وقول المشفع فيه الذي ستنفعه الشفاعة.(42/4)
تفسير قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)
قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110].
أي: يعلم ما قدموه من أعمال صالحة أو طالحة، وما صنعوه في دار الدنيا من طاعة لله ولرسل الله: من تحليل الحلال وتحريم الحرام، والله في هذه الساعة هو وحده العليم، فهو أعلم بأنفسنا من أنفسنا، فيعلم من الذي كان في الدنيا يعمل الصالحات، ومن الذي كان يعمل الطالحات، وماذا سيستقبلنا، فالصالح له الصلاح، وله الرحمة والرضا، والطالح له اللعنة والغضب.
فيعلم ما بين أيديهم، أي: ما هو أمامهم، وما سيستقبلهم، ويعلم عرضهم على الله تعالى، وإلى أين يكون مآلهم إلى جنة أو نار، ويعلم ما خلفوه في دار الدنيا من معصية وكفر وجحود، فعلى أساس ذلك من يعمل الصالحات يلق صالحات، ومن يعمل الطالحات يلق طالحات.
وفي هذه الساعة يحتاج الإنسان إلى الزاد، ولا زاد هنا إلا التقوى، والدنيا قد ذهبت بما فيها واندثرت، فخلّف الإنسان زوجته لغيره، وأولاده لأنفسهم، والأموال يقتسمونها، ولا يلحقه للآخرة إلا العمل الصالح، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]: لا يحيط مخلوق بعلم الله، بل ولا يعلم إلا النزر القليل مما علمه الله إياه، فهي كلمات أفادته في الدنيا، وكلمات ستفيده في الآخرة، وأما علم الله الذي وسع كل شيء، فلا يحيط به ملك مقرب ولا نبي مرسل، فلا يحيط بعلم الله إلا الله الذي وسع علمه كل شيء، وأحاط بعلم كل شيء، وهيهات أن يعلم المخلوق من علم الخالق إلا ما لا يكاد يذكر.
ونحن نعلم القصة التي قصها الله علينا في سورة الكهف بين موسى والخضر، والتي دلت على علم الله الواسع الذي لا يحاط به، فعندما سئل موسى كليم الله: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: لا، قال الله له مؤدباً: بلى! عبدي الخضر، قال: يا رب اجمعني به، فجمعه به بعد محنة وعذاب ومشي من المشرق إلى المغرب حتى وصل إلى مجمع البحرين: البحر الأبيض والبحر المحيط، فكان ما كان واجتمع به، وأراه من غرائبه وعجائبه، وموسى لم يتحمل ذلك لأنه لا يعلمه، وبعد أن أراه وأطلعه على ثلاثة من القضايا في العلم واستقرت نفس موسى رأيا طائراً صغيراً وقف يشرب من البحر بمنقاره فقال الخضر: يا موسى! ما علمي وعلمك أمام علم الله إلا كهذه القطرة التي يأخذها هذا الطائر من البحر، وماذا عسى أن تكون هذه القطرة من البحر! قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27].
يقرب لنا الله جل جلاله سعة علمه بأنه لو كانت بحار الأرض كلها حبراً ومداداً، وكانت جميع أشجار الأرض قد بريت أقلاماً، وأخذت هذه الأقلام تكتب وتستمد من هذه البحار لجفت البحار، وبعدها سبعة أبحر من أنواعها، وتبقى كلمات الله وعلم الله لا ينفد ولا ينتهي، فكيف يحيط بعلمه جل جلاله أحد من الخلق، وأين الخالق من المخلوق؟! قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]: أي: علمهم لا يحيط بالله ولا يعرفون له حقيقة، فكل ما يخطر ببالك فربنا مخالف لذلك، ولكن الذي نعلمه ونوقنه وأتى به كتاب ربنا، وزادته سنة نبينا بياناً وشرحاً وتفسيراً: أن الله هو المتصف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، ذو الصفات العلى، والأسماء الحسنى، الخالق الرازق، القيوم على خلقه، المحيي المميت، الذي لا أول له ولا نهاية، فكان الله ولا خلق، وسيفنى الخلق ويبقى الله، والله هو الخالق الرازق القادر على كل شيء.(42/5)
تفسير قوله تعالى: (وعنت الوجوه للحي القيوم)
قال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111].
أي: خضعت الوجوه وخنعت لله، خضعت وجوهنا وجباهنا ساجدين، ولنا الشرف بذلك.
والحرية كل الحرية في العبودية لله، والعبودية كل العبودية في التأله على الله والكفر به، وهؤلاء المرتدون الكفار عندما يصفون أنفسهم بالتحرر والحرية ويكفرون بالله يكونون أذل نوع من العبيد، وأحقر من في الأرض، فقد استعبدتهم شهواتهم، ونزواتهم، وبطونهم، وفروجهم.
وأما المتحرر فهو الذي علم لله حقه فخنع له وعنى وجهه له، ومن هنا يقال للأسير العاني، أي: الذليل بين يدي آسره، ذاك بالنسبة للخلق بعضهم مع بعض، أما الذل لله فهو أشرف وصف، ولذا وصف به نبينا في القرآن عندما سماه عبد الله، وأشرف صفة يتشرف بها مخلوق أن يكون عبداً لله، ومن هنا لا يجوز ولا يليق ولا ينبغي أن تحنى هذه الجباه التي خلقها الله بيده إلا لخالقها، ومن هنا كان مالك يسمى حني الرأس سجدة صغرى.
ومن هنا كان السجود لغير الله حراماً، وقد حاول بعض الأصحاب وقد رأوا أتباع كسرى وقيصر ينحنون له، رأى ذلك معاذ بن جبل وغيره، فعندما عاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يا رسول الله؛ أنسجد لك؟ قال: لا، لا يكون ذلك إلا لله، ولو كنت آمراً أن يسجد أحد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها)، لو: حرف امتناع لامتناع، منعت الزوجة من السجود للزوج؛ لأن السجود لا يكون إلا لله.
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111] أي: ذلت وخضعت فلا إله غيره، ومن هنا نسجد لله في الفرائض الخمس في كل ركعة، فنسجد على سبعة أعضاء: على الجبهة والرأس واليدين والركبتين وأصابع الرجلين، ولا يتم ذلك ما لم تكن الجبهة ملتصقة بالأرض، إلا إذا كان هناك مانع من مرض، فما جعل علينا في الدين من حرج، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم).
ومن هنا كانت الصلاة جلوساً، ومن هنا كانت الصلاة إيماءً، ومن هنا كان الصلاة إشارة، فالصلاة لا تسقط إلا عن شخصين: لا تسقط إلا عن غير المكلفين، وإلا فهي واجبة على العبد ما دام حياً ولو في الغرغرة، إلا إذا فقد عقله فقد سقط ما وجب؛ لأنه أخذ ما أعطى، فلا تسقط الصلاة إلا لإغماء أو جنون، وللمرأة لحيض أو نفاس، وكذا الصغير لعدم البلوغ، على أن الصغير أمر وليه ومربوه أن يؤدبوه على الصلاة وهو ابن سبع؛ لأن الصلاة إذا لم يعتدها الإنسان من الصغر لا يكاد يثبت عليها ولا يلازمها.
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111].
الوجوه هي أشرف ما في الإنسان، لم تخضع ولم تضع جباهها على التراب، ولم تذل إلا لله الحي القيوم الحق الواجب الحياة، الحي الدائم، وأما حياتنا فهي حياة زائلة، لم تكن فكانت بإذن الله، وستعود للتراب بأمر الله.
أما الحي الدائم واجب الحياة فهو الله القيوم القائم على كل شيء، والمقتدر على كل شيء، والرازق لكل شيء، والقائم بكل شيء، له حياتنا، وله مماتنا، وعليه رزقنا، منه العز ومنه المغفرة ومنه الرضا؛ لأننا خلقه وملكه، والمالك لا يلام إذا تصرف في ملكه بما يراه الصالح، والله جل جلاله الخالق المختار يصنع ويعامل خلقه كما يشاء، على أن الله جل جلاله حرم الظلم على نفسه كما حرمه على غيره.
ففي الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا)، مع أن المتصرف في ملكه لا يعد ظالماً إن صنع به ما شاء.
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111]، الحي الذي لا ينام، الذي لا يغفل ولا ينسى، القيوم على كل شيء، الذي لا يغفله شيء عن شيء، ولا ينسيه شيء شيئاً، ولا يسهو ولا ينام، هو القائم بأرضه وبكونه وبخلقه وبملائكته وبإنسه وبجنه، وبجميع ما في العوالم، هو الذي خلق ذلك ودبره وقام عليه، القيوم المدبر للأشياء والقائم على الأشياء، والرازق للأشياء، والذي يرى لها ما ينفعها مآلاً، وما ينفعها حالاً.
{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111]: والظلم الشرك، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، أي: قد خاب وخسر، وذل وهان من حمل ظلماً، أي: من كان وزره الشرك وظلمه الشرك، وكان ظالماً لنفسه، بل لم يعط الله حقاً بأن يعبده وحده، وبأن يعتبره وحده الخالق القيوم الحي الدائم.
وهذه حال المجرمين، وحال الكافرين، فإن الله جل جلاله لا يكاد يذكر بطشه وقدرته وجلاله حتى يصحب ذلك برحمته وبمغفرته، كما يذكر أهل النار، ويذكر بجانبهم الجنة ليرقق قلوب أهل النار فيعودون لله عابدين تائبين، ويخوف أهل الجنة ما داموا أحياء حتى يثبتوا ويلتزموا، ولا يغرهم الشيطان فيرتدوا على أعقابهم.(42/6)
تفسير قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن)
قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112].
(من) هنا للتبعيض، لم يطلب من الإنسان بأن يفعل جميع أنواع الصالحات، فهو أضعف من ذلك وأعجز، ولكن على الأقل يعمل من الصالحات بعضها حسب أمره، وهذا يفسره قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم).
أمرنا الله تعالى بالتطهر ماءً، فإن عجزنا عن الماء لمرض ونحوه ننتقل للصعيد الطيب، وأمرنا بالصلاة قياماً، فإن عجزنا لمرض أو لركوب طائرة صلينا جلوساً؛ لأنه لا يمكن للمريض وكذلك راكب الطائرة إلا ذلك.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه:112]: أي: لا بد من شرط الإيمان، فلا صلاة ولا زكاة ولا عبادة إن لم يكن هناك إيمان.(42/7)
تفسير سورة طه [113 - 116]
أرسل الله سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم من العرب وأنزل عليه كتابه بلغته التي هي خير اللغات وأفصحها، حجة قائمة على الناس، فمن أعرض عنه فإنما يحمل يوم القيامة أوزاراً ويصلى ناراً.(43/1)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد)(43/2)
معنى قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً)
قال تعالى: {((وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه:113]: أنزل القرآن بلغة العرب وبأساليبهم وبقواعدهم وبمفرداتهم، ومن هنا لم تبق اللغة العربية لقوم من الناس خاصة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من تعلم العربية فهو عربي، ليست العربية لكم بأب ولا أم، وإنما هي لسان).
ومن هنا اعتبرت بلاد المغرب التي تتكلم العربية عربية، ومصر عربية، والعراق عربية، بل وكل شخص نطق العربية فهو عربي، والأصل آدم أباً وحواء أماً، وما اللغات واللهجات إلا أداة للتعبير عما يجول في النفس.
قوله: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} [طه:113].
أي: بينا وأوضحنا وفصلنا، وهو الإيعاد والنذارة والتهديد لمن لم يؤمن بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وما كانت البشارة إلا بالقرآن العربي، وما كانت النذارة إلا بالقرآن العربي، بل وفي العصور الأولى الثلاثة الفاضلة نجد معارف الإسلام كان أكثر من قام بها وتخصص فيها من غير العرب، فنجد الكتب الستة التي أثبتت السنة مغربلة مصححة، بعيدة عن الكذبة والكاذبين، أعني: صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن ابن ماجة وسنن النسائي؛ إنما صنفها رجال من غير العرب.
بل اللغة العربية اهتم بقواعدها وأحكامها سيبويه وألف كتابه (الكتاب)، وهو غير عربي، وتفسير محمد بن جرير الطبري يعتبر أعظم تفسير للقرآن، ومؤلفه ليس من العرب.
وهكذا في علوم القرآن، وعلوم السنة، ونجد في المذاهب الأربعة مذهباً وسع الدنيا وحكمها قروناً بعد قرون، -أعني مذهب أبي حنيفة - وما كان في الأصل إلا فارسياً.
ولم كل ذلك؟ لأنهم آمنوا بالله رباً وبكتابه وحياً؛ وقد نزل بالعربية، وأن الإسلام ينبغي أن يكون كذلك؛ لأنه لا يتم فهمه ولا تعلمه ولا دراسته إلا باللغة التي أنزله الله بها، فتعلموها منذ الصغر، وأصبحوا عرباً كبقية العرب؛ لأنه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العربية ليست لكم بأب ولا أم وإنما هي لسان).
بل إن إسماعيل الجد الأعلى لنبينا عليه الصلاة والسلام أتى به إبراهيم من العراق -أرض بابل- طفلاً صغيراً، وفي الأصل لم يكن عربياً، فجاء إلى مكة ونشأ بين جرهم من قبائل العرب، فاستعرب وأصبح من سادة العرب وفصحائهم، وبعد قرون أصبحت العربية لغة منتشرة واسعة، وصارت أوسع اللغات على الإطلاق، وما كتب فيها يعد بآلاف المجلدات، ولا يزال إلى الآن كتابٌ جامع في لغتها يسمى (السماء والعالم) لـ أحمد بن أبان في مائة مجلد، ولا يزال موجوداً في المكاتب وخاصة في مكاتب المغرب، وكله في لغة العرب ودقائقها وتعابيرها.
وما لسان العرب المطبوع لـ ابن منظور الإفريقي الذي طبع في عشرين مجلداً ضخماً إلا دليل على أن هذه اللغة أوسع اللغات، ولا يضرها تنكر من تنكر لها من قومها أو غيرهم، فعندما يحارب شيئاً فإنما يحارب ما يتعلق به، فحرب العربية حرب للإسلام، ومجابهة العربية مجابهة للنبي العربي صلى الله عليه وسلم.(43/3)
معنى قوله تعالى: (وصرفنا فيه من الوعيد)
وقوله: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه:113].
بين الله هذا الكتاب العربي وفصله وأوضحه مجملاً ومفصلاً، وأوعد به من لم يؤمن به من جميع الناس، عربهم وعجمهم، وأنذرهم بالنار خالدين فيها، وأنذرهم باللعنة والطرد من الرحمة إن لم يؤمنوا بهذا الكتاب أنه وحي من الله، ويؤمنوا بهذا النبي العربي الهاشمي رسولاً.
فقوله: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [طه:113].
أي: صرف الله في القرآن للناس وبين وأوضح لعلهم يتقون الذنوب والمعاصي والفواحش فلا يرتكبونها ولا يقربونها بحال، ويجعلون بينهم وبين المعاصي وقاية وحاجزاً، ويقومون بما أمر الله به من توحيده وطاعته وطاعة نبيه، وما أمر به من عبادات، وحسن معاملة، ومن صلة أرحام، وإحسان للمسلمين، والوقوف يداً واحدة في وجوه أعداء الله وأعداء رسوله والإسلام.
قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه:113].
المعنى: لعلهم يرعوون ويعودون إلى الله تائبين منيبين، ويحدث لهم ذكر، والذكر الشرف، أي: يحدث لهم شرف الطاعة والإيمان، وشرف اليقين، وشرف العبودية لله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، ومنه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] أي: شرف لك أن الله جل جلاله اختارك للرسالة العامة، ولقومك أنهم كانوا جندك وأنصارك والمهاجرين معك، والذين بذلوا أنفسهم لأجل الإسلام.
مات صلى الله عليه وسلم والإسلام لم يخرج بعد من جزيرة العرب، وما خرج وفتحت الدنيا إلا على يد أصحابه من المهاجرين والأنصار، فكان محمد رسول الله إلى العرب والناس كافة، وكان أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه رسل رسول الله إلى غير العرب.
وما مات صلى الله عليه وسلم وذهب للرفيق الأعلى حتى كان العرب جميعاً قد أسلموا، ولم يبق منهم كافر، ومن جاء بعد وزعم أنه نصراني أو يهودي فقد كذب، لأن هؤلاء قوم كانوا من أجناس أخرى فتعلموا العربية وأصبحوا يقولون إنهم عرب بلا دين بلا إسلام، وهم كذابون.
أما عمر فقد فتح الشام وفتح العراق وفتح مصر وفتح المغرب وفتح بلاد فارس، حيث بشر النبي صلى الله عليه وسلم في حياته عندما مزق كسرى رسالة النبي عليه الصلاة والسلام: (مزق الله ملكه كما مزقها، لا فارس بعد فارس، ولا كسرى بعد كسرى).
وهكذا ما كادت تمضي سنوات على الوفاة النبوية ويأتي عبقري الخلفاء الفاروق عمر حتى خضعت فارس للإسلام، فلم يبق فيها إلا مسلم أو ذمي، وبقيت هكذا وإلى عصرنا، فهي ولاية من ولايات المسلمين، وجزء من العالم الإسلامي.(43/4)
تفسير قوله تعالى: (فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن)
قال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
الله جل جلاله ينزه نفسه، ويعلمنا أن نقدسه ونعظمه، ونعرف مقامه وجلاله، بعد أن ذكر كفر الكافرين ممن أشرك مع الله وعبد العجل، وعبد الحيوان، وعبد الملك، وعبد الجن، وعبد الإنس، وجعل الآلهة ثلاثة، أو اثنين، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقال الله بعد قصه لذلك: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طه:114].
أي: تعالى عن شركهم، وتقدس عن كفرهم وجحودهم، فهو الملك الحق الذي لا ملك معه، وما الملك في الأرض إلا عارية تزول عما قريب، فالملوك جاءوا من التراب ويذهبون إلى التراب وكأنهم لم يكونوا، ولكن الله ملك الملوك الدائم الحق القيوم هو ملك الدنيا وملك الآخرة، ولذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: (أخنع الأسماء رجل تسمى ملك الملوك) أي: أذل الأسماء وأحقرها هذا العبد الذي يحاول أن يسمي نفسه باسم الله، فيكون ذليلاً في الدنيا، حقيراً في الآخرة معذباً.
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طه:114]: هو جل جلاله الحق في ذاته، والحق في صفاته، والحق في أفعاله، والحق جل جلاله في أسمائه الحسنى، وما أتى به الحق، وما تكلم به الحق، فالنار حق، والجنة حق، وعذاب القبر حق، والعرض على الله حق، ولذلك كان من أسماء الله الحسنى الحق، فيتسمى العبد باسم: عبد الحق.
قوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114]: فقد كان عليه الصلاة والسلام عندما ينزل عليه جبريل بآية أو آيات يسابق جبريل فيتلو تلك الآية معه، كما قال الله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16].
فكان يعجل عليه الصلاة والسلام حرصاً منه على عدم نسيان آية من الآيات، وحرصاً منه على حفظها منذ نزول الوحي عليه من جبريل عن الله، فقول الله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} [طه:114]، معناه: لا تعجل بتلاوته حال نزول الوحي عليك.
فالله جل جلاله نهاه عن ذلك، وتكفل وتعهد بأن ما يريد جمعه عليه الصلاة والسلام من القرآن وعدم نسيانه وتفلته وحفظه ووعيه أن مهمة ذلك على الله، أي: دع الأذن تسمع، ودع الحواس مع الوحي وقت نزوله، ولا تعد ذلك ولا تكرره إلا بعد أن ينتهي جبريل من بلاغك ما أمر بتبليغه، وفي هذه الحالة تعهد الله لك بجمعه في صدرك، وبقراءته من لسانك ليجمعه غيرك من أتباعك من المهاجرين والأنصار ومن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، وليحفظوه وليقرءوه، وقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114].
أي: الوحي الذي أوحى الله إليك بواسطة جبريل عليه وعلى نبينا السلام.
قوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
ومعنى ذلك: أن العبد لا يستغني عن طلب العلم مدة حياته، فقد كان نبينا أعلم الخلق على الإطلاق ملائكة ونبيين، إنساً وجناً، ومع ذلك لا يزال في حاجة إلى التعلم فيطلب ربه أن يقول له: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
وهكذا كان، فلقد روي في الأحاديث المستفيضة المتواترة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينزل عليه الوحي متتابعاً إلى وفاته، وهو يعي ويحفظ ويزداد علماً، وفي سنن الترمذي وابن ماجة ومسند البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو الله ويقول: (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما لم أعلم، وزدني علماً، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار)، فكان يقول هذا امتثالاً لأمر ربه عندما قال له: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام محتاجاً إلى أن يطلب المزيد من العلم إلى ساعة وفاته فكيف بنا نحن، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (طلب العلم من المهد إلى اللحد)، أي: لا نهاية لطلب العلم، بل الإنسان وهو عالم، وهو مؤلف، وهو كاتب، وهو خطيب يزداد بذلك علماً لم يطلبه ولم يتعلمه ساعة الطلب، فهو في كل يوم في جديد من المطالعة والفهم والاستنباط، وجديد من المذاكرة، وهكذا إلى لقاء الله، وليس للعلم حدود، فالنبي عليه الصلاة والسلام يعلمه ربه، وقد أمره بأن لا يعجل في قراءة القرآن قبل أن يقضى إليه وحيه؛ علمه أن يقول: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
وهكذا كان عليه الصلاة والسلام كل يوم في مزيد، بل كل ساعة في مزيد من العلم، ولذلك نحن نجد السنة النبوية في المدينة المنورة كانت أوسع وأشمل وأعم؛ لأن الوحي تتابع إلى المدينة وكثر وقوي فضم إلى علم مكة.(43/5)
تفسير قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل)
قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]: الله جل جلاله عاد فذكرنا بقصة آدم وقصة خلقه وإسجاد ملائكته له، ودخوله الجنة ثم خروجه ونزوله للأرض، وقد مضى ذلك مفصلاً مبيناً في سورة البقرة، وفي سورة الأنعام، وفي سورة الكهف.
قول ربنا جل جلاله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} [طه:115]: أي: أمرنا آدم أمراً، وأوصيناه وصية من قبل الخلق كلهم، فما جاء الأنبياء إلا بعده وكلهم أولاده.
ويمكن أن يكون ذلك العهد قبل نبوءته وقبل رسالته لتبقى النبوة محفوظة معصومة عن الذنوب والمعاصي، وسنجد في هذه الآي أن الذي كان من آدم مما كان قبل النبوة، فقوله: {مِنْ قَبْلُ} [طه:115]، أي: من قبل النبوة.
وحاول بعض المفسرين أن يفسروها بما لا يليق بمقام آدم ومنزلته، ففسروا (من قبل) أي: وكما عصى هؤلاء وأخطئوا وزلوا أخطأ آدم وعصى وزل.
ولا يقول هذا عالم محقق، ولا يجوز للواحد منا أن يقول: إن آدم عاص، لأنه لا يوصف الإنسان بالعصيان إلا مع التمرس عليه وتتابعه، كما لا يقال الخياط إلا لمن خاط حتى أصبح ذلك مهنته وعمله، ولا نقول للإنسان عاصياً إلا إذا عرف بالمعصية، وكل بني آدم خطاء سوى الأنبياء الذين عصمهم الله بحفظه.
وقد قال الله بعد أن حكى قصة أكله من الشجرة: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ} [طه:122] أي: اجتباه نبياً ورسولاً، فلم يكن قبل ذلك نبياً ولا رسولاً، ووقوع الذنوب من الأنبياء قبل الرسالة قد قاله البعض، ولا يخدش في عصمتهم؛ لأن العصمة متلازمة مع النبوة والرسالة، فإذا كان ذلك قبل الرسالة فلا معصية؛ لأنه قبل الرسالة لم يكن قدوة، ولم يكن أسوة، ومع ذلك فمن تكريم الله لأنبيائه أن من أذنب قبل النبوة فإنما صدر منه ما يعبر عنه بخلاف الأولى.
وقد صان الله نبينا صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها، وقد سئل عليه الصلاة والسلام: (هل صدر عنك مما كان يصنع قومك من شيء؟ قال: مرتين فقط) وذلك أنه كان في البادية وسمع أن في مكة عرساً في الليل فنزل ليحضر، فعندما نزل ليحضر الغناء ما كاد يدخل دار العرس حتى غلبه النوم؛ يقول عليه الصلاة والسلام: (ما صحوت إلا وحر الشمس في ظهري)، ثم أعاد ذلك مرة ثانية، فعاد الله لحفظه وصيانته قبل النبوة، فضربه النوم فلم يصح إلا والشمس على ظهره ولم ير شيئاً.
ولذلك ألهم أخريات العام الأربعين الذي سيكرم فيه بالنبوة أن يصعد إلى غار حراء وينفرد ويتعبد الليالي ذوات العدد، وكان تعبده التفكر في هذه السموات العلا، وهذه الأرض السفلى، وهؤلاء الخلق بين عزيز وذليل، وكبير وصغير، وسعيد وشقي، أليس لهم خالق، أليس لهم مدبر؟ وهكذا بعد أن هيأه الله لقبول الوحي والرسالة الثقيلة، وقبل أن يزل عليه جبريل ويقول له كفاحاً مواجهة: اقرأ! قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه:115].
أي: عهدنا إلى آدم قبل إرساله ونبوءته.
وقد يقول قائل: إنه كان نبياً لأولاده ولأسباطه، وقد عاش بينهم دهراً طويلاً، فنسي وغفل، وكما قال ابن عباس: ما سمي الإنسان إنساناً إلا للنسيان، ويقول قوم: سمي بذلك لأنسه، وكل ذلك صحيح، فالإنسان لا يستطيع العيش منعزلاً منفرداً، وإن حدث قد يصيبه ذلك بصرع وجنون وألم نفسي بالغ.
ولو ذهبنا نتفكر في كل ما مضى من أعوامنا لما وسعتنا سنوات أخرى، وإن كنا نجد بعضنا أكثر حضوراً وذاكرة من الغير، أما البعض فما أسرع ما ينسى، فقد ينسى ما صنعه في أمسه! قوله: {فَنَسِيَ} [طه:115]، أي: نسي وصيتنا وأمرنا الذي سيبينه بعد بأنه قال له: ادخل الجنة ولك ألا تجوع فيها ولا تعرى، ولا تظمأ فيها ولا تضحى، وكلها متعة لك إلا هذه الشجرة فدعها، ولكن آدم عليه السلام نسي هذه الوصية ونسي هذا الأمر.
قوله: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]: أي: لم تكن له إرادة قوية، ولم يكن له صمود على الحفاظ على الوصايا التي وصاه ربه بها، فغفل ونسي، ولأجل ذلك لم يكن من أولي العزم.(43/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [طه:116]: أجمل أولاً ثم فصل، فقد أخبرنا في آية ماضية أنه عهد إلى آدم عهداً، وأوصاه وصية فنسي تنفيذها والقيام بها، ولم تكن له عزيمة، ولم يكن له صبر، ولم يكن له تصميم وذاكرة ليحفظ، ثم أخذ يفصل هذا الذي تركه فقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [طه:116].
والقصة أن الله جل جلاله أراد أن يخلق خلقاً ليعبدوه ويطيعوه، ولكن قضى أن يدخلوا الجنة أولاً، ثم ينسى آدم ويتسبب في نزولهم من الجنة مع زوجه حواء، ونبقى في الأرض للتعب والشقاء، وهي أيضاً مدرسة وابتلاء واختبار، وتكون بعدها إما جنة أو نار.
فخلق آدم من تراب، جمع من مختلف تربة الأرض، من خصبها ومن صحرائها، ومن جبالها، ومن الأرض الرملية، ومن هنا خرجت ذريته بعضها أبيض ببياض التراب، وبعضها أسود بسواد التراب، بعضها ذكي لخصوبة الأرض، وبعضها بليد لعدم خصوبة الأرض، بعضها ناشف ويابس ومتحجر كالجزء الصحراوي من الأرض.
وهكذا تغيرت الذرية وتشكلت بتشكل التراب الذي صنع منه آدم، وبقي آدم تمثالاً ترابياً (صلصالاً) أربعين عاماً، ثم نفخ الله فيه من روحه وقال له: كن بشراً سوياً فكان، وعندما وقف حياً ناطقاً متكلماً واعياً عاقلاً أمر الله الملائكة أن يسجدوا له، فسجدوا امتثالاً لأمر الله، ولا يليق بالعبد أن يتساءل في أمر ربه: لم؟ ويطلب الحكمة؛ ويوقف الطاعة إلى أن يعلم الحكمة، فهذا عمل الشيطان، وهو الكفر والجحود والعصيان.
قوله: (فسجدوا) أي: فسجد الملائكة، وكان إبليس معهم في الجنة، ولم يكن منهم، فقد ذكر الله عنه في صريح القول أنه كان من الجن ففسق عن أمر ربه، فلم يكن من الملائكة، وقص الله عن إبليس السبب المبرر لعدم سجوده لآدم، فقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76].
وأما الملائكة فليسوا من طين ولا من نار، ولكنهم مخلوقون من النور، فأصل الإنسان التراب، وأصل الملائكة النور، وأصل الشيطان وإبليس النار، وشتان بين النور والنار، فالنور مضيء والنار محرقة مدمرة، وقد تنفع ولكن عندما تكون في حدود النور، أما إذا جاوزت دمرت وخربت.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [طه:116] امتثلوا لأمر الله وسجدوا، {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [طه:116] أي: امتنع متعاظماً متكبراً، ولذلك كان التكبر من الأسباب الخطيرة لإفساد المرء ودخوله في الكافرين المشركين.(43/7)
تفسير سورة طه [123 - 129]
أخرج الله جل جلاله أبانا آدم وإبليس من الجنة جراء معصية، وأهلك كثيراً من القرون بسبب ذنوبهم وجحودهم، وهو يتوعد من أعرض عن ذكره سبحانه بالعيشة الضنك والعمى يوم القيامة.(44/1)
تفسير قوله تعالى: (قال اهبطا منها جميعاً)
قال الله عزت قدرته: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123].
لا نزال مع أبينا الأعلى آدم وأمنا الأولى حواء وقد صنعا ما صنعا من أكل الشجرة المحرمة، ثم استغفرا ربهما فغفر لهما، ثم أرسل آدم بعد ذلك نبياً رسولاً إلى سلالته وإلى زوجته، ولكن مع ذلك أخرجهما من الجنة كما أخرج إبليس الذي كان مقامه بين الملائكة، {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه:123].
وقول الله: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه:123]، معناه: انزلا من الجنة إلى الأرض، والأمر لآدم وإبليس بدليل قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123]، فكان الجن أعدل للإنسان، وكان الإنسان عدواً للجن.
ونزول آدم يلزم منه نزول زوجته معه فهي داخلة في الهبوط معه، {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه:123].
وهناك يحصل أحياناً خلاف لا ينبغي أن يذكر؛ لأنه لا معنى له وليس إلا من هذيان الجهلة والمتلاعبين، أو من دس الدساسين والإسرائيليين، ولكن هناك سائل سألني: هل الجنة التي أهبط منها آدم هي الجنة المعهودة الموعود بها المتقون والمؤمنون أو هي جنة أخرى؟ وكأن هذا السائل سمع من زعم من المبتدعة والجهلة أن هذه الجنة هي بستان ورياض في أرض عدن! وهذا كلام لا يقال ولا يذكر لسقوطه في نفسه؛ وذلك لأن الله عندما ذكر الجنة لآدم مناه بها وبالمقام بها، وحذره من إبليس فقال له: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118 - 119].
وهل عدن وجنانها -إن كانت لها جنان- فيها هذا الوصف؟ وهل الجنة التي في عدن أو البساتين التي في مختلف قارات الأرض؛ هل فيها بستان يوصف بأن من أقام فيه لا يجد غماً ولا هماً ولا جوعاً ولا عطشاً ولا شيئاً مما وصف الله به الجنان؟ إذاً فإنما يذكر هذا من لا يعلم ولا يعقل ويريد أن يتلاعب بالفهم في القرآن، ومن هنا كان قول النبي عليه الصلاة والسلام بأن التأويل بالرأي كفر، وهو أن الخروج بالتعابير العربية التي نزل القرآن عن معناها ومؤداها كفر وجحود لمعنى القرآن الحقيقي.
ثم هنا يقول الله: {اهْبِطَا} [طه:123]، ولا يكون الهبوط والنزول إلا من علو، والأرض مهما كانت فهي قطعة واحدة بجبالها وأنهارها ووديانها وتلالها، ولذلك فإن هذا القول لا يلتفت له ولا معنى له وليس عليه دليل لا من كتاب ولا من سنة.
قال الله جل جلاله لآدم ومن معه ولإبليس: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه:123]: أي: اهبطا من الجنة جزاء وفاقاً بما خالف وأكل الشجرة التي حرمت عليه، وجزاء وفاقاً لدس إبليس وقسمه بالله كاذباً لآدم بالغرور وبالبهتان.
قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123]، ومنذ قال الله هذا وأهبطوا من الجنة إلا وبعضهم لبعض عدو، وحتى من استسلم من الإنس للشيطان وعداوته لا يكاد يستسلم له إلا ليبطش به ويذله ويرده عن دينه ويعيش في حياة ضنك.
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [طه:123]، أي: فإن أتاكم رسل وأنبياء يدعونكم إلى الله وعبادته وطاعته، وإن أنزلت على رسلكم كتب كالزبور والتوراة والإنجيل والقرآن، فأطيعوا ذلك واهتدوا بهديه واستمسكوا به.
{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123]: أي: فمن اتبع هداي فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، والمقصود من اتبعه إيماناً وطاعة وامتثالاً.
وقوله: {وَلا يَشْقَى} [طه:123]، أي: لا يكون من حزب الأشقياء الكفار، حزب من طرد من رحمته ومن جنته ودخل النار مع الظالمين لأنفسهم، الأشقياء بكفرهم وشركهم وضلالتهم.
وقد قال عبد الله بن عباس حبر القرآن رضي الله عنه: لقد ضمن الله بهذه الآية لمن آمن بالرسل وما أنزل عليهم ألا يضل في الدنيا، كما ضمن له في الآخرة ألا يشقى.(44/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري)
قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
من أعرض عن كتاب الله وهو الذكر الذي يذكر الإنسان بربه بمعاشه ومعاده، وعن رسل الله الذين جاءوا ليذكروا الخلق بالله؛ فله معيشة ضنك.
والذكر يطلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلق على القرآن الكريم، فالقرآن مذكر، والرسول صلى الله عليه وسلم مذكر.
قوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]: من عاش مكذباً فإن الله جل جلاله يشقي حياته في الدنيا حتى ولو ملك الدنيا بمن فيها وما عليها، فسيشقى نفسياً، وسيشقى بأكل الحرام، وسيشقى بالأمراض، وسيشقى بالضلال، وسيعيش عيشة ضنكاً.
والضنك هنا: الشقاء والعذاب والمحنة، ونحن نرى هؤلاء الأغنياء من الكفار وهؤلاء الكفار من الفقراء كيف يكثر بينهم الانتحار ويكثر بينهم الغم والهم، وكيف أنهم يعيشون سكارى حشاشين يعيشون بأكل الربا يعيشون بأكل السحت يعيشون بأكل الرشا يعيشون بأكل الحرام يأكلون حتى يمرضون فيعذبونه بعد ذلك بالأكل، ويأكلون بالحمية ولا يكادون يستسيغون شيئاً مع الهموم النفسية والغموم.
وكذلك من اقتدى بهم ممن يصف نفسه بالإسلام عندما يستبيح الربا عندما يستبيح الرشا عندما يستبيح الأموال بالباطل سرقة واغتصاباً وتحايلاً عندما يرتكب من أنواع الحرام ما حرم ربه عليه ونزل الوحي في كتبه بتحريم ذلك.
فتجد الذي صنع ذلك بالأصالة كافراً يعيش عيشة ضنكاً ولو كان غنياً يملك الدنيا وما عليها فنفسه في محنة، ونفسه في عذاب، وجسده كله أمراض وكله بلاء لا يكاد يجد شيئاً يرجع إليه مما يطمئن نفسه من يقين ومن إيمان ومن عودة إلى الله؛ لأنه لا يؤمن بالله.
وهكذا تكون عيشة الضالين من عصاة المسلمين، هم يعلمون أن الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وإذا بهم يمعنون في ارتكابها، فتجد عيشتهم كعيشة اليهود والنصارى، عيشة شقية ضنكاً شقية بأكل السحت والحرام حتى ولو ملكوا ما عسى أن يملكوه.
ونحن نرى المؤمن الفقير يعيش في راحة فيما إذا كان ملتزماً بطاعة ربه ولو لم يملك إلا قوت يومه، ونجد الذي يدعي الإسلام وهو من أغنى الناس عندما يرتكب الحرام تكون حياته مثل حياة الكافرين والجاحدين.(44/3)
تفسير قوله تعالى: (ونحشره يوم القيامة أعمى)
قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]: يحشر يوم القيامة أعمى البصر لا يبصر، أعمى البصيرة لا يميز، وذلك نتيجة ضلاله في الدنيا وإعراضه عن الله، بمعنى: أن عذابه في الدنيا يكون بالضنك وبالشقاء، وأن عذابه في الآخرة أشد وأبقى بعمى البصر والبصيرة.
ومن هنا قد يكون عاش حياته مبصراً بعينين ناظرتين مفتحتين، فتجده يتناسى فعلته ويتناسى ما قدمت يداه في الدنيا فيقول: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه:125]؟ يسأل ربه بكل جرأة: لم حشرتني أعمى وقد كنت أبصر في الدنيا.
وقد يكون في الدنيا يبصر بالبصر ولكنه أعمى البصيرة، لم يقم بحجج الله عليه، ولم يصدق أنبياءه على كثرة ما أتوا به من معجزات وآيات بينات على صدق رسالتهم، ولم يوفق إلى طاعة ما أنزل على نبيه من وحي.
لذلك أتى الله به يوم القيامة أعمى البصر كما هو أعمى البصيرة، {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه:125]، قال الله: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126].
أجابه الله بذلك إما مباشرة أو على لسان ملائكته.
قال الله: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126]، أي: ذلك جزاء وفاق، فكما أتتك الرسل وأتتك الكتب الموحى بها إليهم فنسيتها في الدنيا وأعرضت عنها ولم تهتم بها، فكذلك اليوم تنسى.
{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا} [طه:126].
أي: علامات صدق رسلنا، وأن الكتب التي أنزلت عليهم كانت وحياً من الله حقاً، وقد كان ذلك بالآيات البينات والمعجزات الواضحات، وقد أعرضت عنها جميعاً، وما زادك ذلك إلا إمعاناً في الكفر وإصراراً على الجحود، وكما فعلت ذلك في دنياك ونسيت ذلك وتركته، {كَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126]، أي: تترك.
والله تعالى لا ينسى ولا تأخذه سنة ولا نوم، ولكن هذا من مشاكلة الكلام، وهو من بلاغة القرآن وبلاغة اللغة التي نزل بها القرآن، فإنه قال: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه:126]، أي: فتركتها، {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126]، أي: كذلك اليوم تترك وكأنك قد نسيت فطرحت وأهملت، جزاء وفاقاً على فعلتك في الدنيا بالإعراض عن الرسل وعن كتب الله.(44/4)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه)
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127].
يقول الله جل جلاله: (وكذلك) أي: كما أعرضنا عن هذا في الآخرة وتركناه من رحمتنا وأتينا به أعمى البصر والبصيرة؛ كذلك نفعل بمن جاء يوم القيامة مسرفاً على نفسه بالشرك.
قوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي} [طه:127]: أي: نعاقب جزاء وفاقاً.
{مَنْ أَسْرَفَ} [طه:127].
أي: أسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي إلى أن وصل حد الكفر والشرك.
{وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ} [طه:127].
أي: لم يؤمن بالله رباً واحداً، ولم يؤمن بالله مرسلاً لرسله وعباده المكرمين أنبياء ورسلاً إلى البشر، ولم يؤمن بآيات ربه على كثرتها وتتابعها، وبيان حقائقها بما يؤكد العقل صدق ذلك وقبوله.
قوله: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127]: يقول الله جل جلاله: هؤلاء الذين عذبناهم بالشقاء بالحياة المتعبة المفجعة، وبعدم الراحة في الأبدان ولا في الأموال ولا في الأهل والأولاد حتى عاشوا عيشة الضنك والشقاء في الدنيا، وأتي بهم عمي البصر والبصيرة؛ عذاب الآخرة أشد عليهم من عذاب الدنيا وأبقى وأدوم وأخلد.
فعذاب الدنيا مهما يكن فإنه سينتهي يوماً من الأيام، لكن عذاب الآخرة لا ينتهي، وعذاب الدنيا مهما يكن فعذاب الآخرة أشد وأشق وأكثر آلاماً على النفس.
وفي الصحاح في حديث الملاعنة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يذكرهما عند الشهادة الخامسة بعذاب الآخرة، وقال لهما: إن عذاب الآخرة أشد وأبقى، ويحذرهم عقوبة ربهم إن هم أقسموا ولعنوا أنفسهم كاذبين، وهو قد أخذها صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127].(44/5)
تفسير قوله تعالى: (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم)
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:128].
أي: ألم يروا ويتبين لهم ويتضح {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} [طه:128].
أي: من الأجيال ومن الأمم السابقة الكافرة من قوم نوح وعاد وثمود، ومن قوم لوط ومن بني إسرائيل، أفلم يمشوا في مساكنهم فيعتبروا.
والآية في الأصل خوطب بها كفار الجزيرة، وكان لهم رحلة إلى الشام في الشتاء، فكانوا يمرون على أراضي ثمود وعاد الذين أهلكهم الله لكفرهم، وبقيت آثار مساكنهم تدل عليهم، فرأوا آثار اللعنة عليهم وخراب دورهم، ونتيجة البلاء والعذاب الذي سلط عليهم؛ أفلم يخافوا يوماً أن يعاملوا مثل معاملتهم وقد فعلوا فعلهم فكفروا كما كفروا، وأشركوا كما أشركوا، وعصوا كما عصوا؟ وكيف أمنوا على أنفسهم وقد فعلوا أفعالهم ألا يعذبوا عذابهم، وألا ينتقم منهم كالانتقام من أولئك؟ والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فهذا سيبقى خطاباً لكل كافر في الأرض ولكل مؤمن منذ البعثة النبوية إلى يوم القيامة، فهؤلاء الذين كفروا بالله في جميع العصور: أفلم يروا آثار الأمم السابقة الذين كفروا كيف عاقبهم الله جل جلاله بالهلاك وبالغرق وبالعواصف وبالزلازل وبالصيحة، عاقبهم بأنواع العذاب مما لا تزال آثار ذلك ظاهرة فيما كانوا يسكنون فيه من الأرض.
وهذه الحفريات التي ابتدأت هذا القرن في البحث عن آثار هؤلاء تزيد ذلك تأكيداً وبياناً، والله تعالى ينبه الكافر قبل وبعد حتى يفكر في العواقب؟ والمعنى: أفلم يفكر يوماً بأنه سيعذب عذابهم، ويعاقب عقوبتهم، فيتوب إلى الله ويعود للإسلام والصلاح والتقوى.
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا} [طه:128]، كم: للتكثير، أي: أهلكنا وعذبنا وقضينا وعاقبنا كثيراً من الأمم السابقة والأجيال الماضية.
والقرن كما يطلق على الحقبة من الزمن يطلق على الأمة وعلى الجيل وعلى العمر، وهو هنا بمعنى الأجيال والأمم.
قوله: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} [طه:128].
أي: هاهم أولاء يرون أراضيهم والمساكن التي كانوا يسكنونها لم يبق بها حركة، وإنما آثارهم التي دلت على العذاب والهلاك الذي سلط الله عليهم في وقتهم.
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:128].
أي: إن في حال الأمم الماضية وما عوقبوا به من هلاك وبوار وزلازل وصواعق وصيحات لآيات لأولي النهى.
والنهى هي العقول التي تنهى عن السوء والفحشاء وعن العصيان، وهكذا الشأن في العقل يقال عنه: نهية؛ لأنه ينهى عن الفحشاء والمنكر ويدعوك للطاعة والصلاح والفلاح، وسمي في الأصل عقلاً؛ لأنه يعقل الإنسان عن السوء وعن الضرر في الدنيا والآخرة.
ومن هنا كان من لم يطع ولم يستفد بعقله كمن لا عقل له، فهو أشبه بالمجنون.
قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [طه:54]، أي: في هلاك الأمم السابقة والناس تمشي في مساكنهم ويرون آثارهم، {لَآيَاتٍ} [طه:54]، أي: لعلامات تدل على صدق الرسل وصدق الكتب المنزلة عليهم، {لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:54]، أي: لأصحاب العقول التي تنهى عن السوء والمعصية، وللعقلاء الذين يدركون ويعقلون ما يقال لهم.(44/6)
تفسير قوله تعالى: (ولولا كلمة سبقت من ربك)
قال تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه:129].
وهذا من فصاحة القرآن وبلاغته، وفصاحة لغة العرب التي نزل بها القرآن، وتقدير الكلام: لولا أنه سبق في حكمه وفي إرادته أنه يرسل رسلاً مبشرين ومنذرين، وألا يعذب إلا بعد إرسال الرسالات والهداية والتعليم والتربية، للزم العذاب.
قوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ} [طه:129].
أي: حكم وإرادة إلهية علية، فلولا حكم من الله سبق بأنه لا يعذب عباده قبل إرسال الرسل ولا يعذب عباده إلا بعد أن يمهلهم زمناً هو مدة أعمارهم وإلى يوم القيامة؛ لولا ذلك لعاقبهم الله في الدنيا قبل الآخرة، كما صنع جل جلاله مع السابقين حيث عوقبوا في الدنيا قبل الآخرة.
ولكن تكرمة لنبينا صلى الله عليه وسلم رفع المقت والغضب في الدنيا بمثل ما كان تعذب به الأمم السابقة، فلا خسف ولا مسخ ولا غرق ولا صواعق ولا زلازل تأتي على الأمة كلها كما أتى الغرق لقوم نوح ولقوم فرعون، والزلازل والصيحات لعاد وثمود، والصواعق والرجم من السماء لقوم لوط بحيث كانت الأرض ترفع ويجعل عاليها سافلها حتى تسمع أصوات الديكة إلى السموات، ثم يرمى بها إلى الأرض لفعلهم.
واليوم الناس يفعلون كل ذلك الذي أهلكت الأمم السابقة بسببه، ولكن سبق في علم الله أن هذه الأمة لا يقع عليها عذاب كالأمم السابقة.
قوله: {لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه:129].
أي: لولا الحكم ولولا الإرادة الإلهية العلية التي سبقت من الله بضربه الأجل في العذاب وبإعطاء المهلة مدة الحياة لكان العذاب لازماً، ولكان العذاب مفاجئاً، ولكان العذاب في الدنيا قبل الآخرة بمثل ما عوقبت به الأمم السابقة التي نمشي في مساكنها ونرى آثار اللعنة والهلاك والدمار والخراب عليها.
ولولا: حرف امتناع لوجود، امتنع أن يعذب الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا بمثل ما كانت تعذب به الأمم السابقة، لوجود سبق عهده وحكمته وكلمته بذلك، فامتنع عذابها إلى حلول الأجل.
ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يمهل ولا يهمل)، أي: يمهل العصاة المشركين ولكنه لا ينساهم ولا يهملهم، بل لهم أجل مفروض يوم يجمع الله الخلائق كلها فيأتون إلى الله حفاة حاسري الرءوس قلفاً، وإسرافيل ينفخ في الصور: يا أيتها العظام النخرة! يا أيتها الجلود الممزقة! يا أيتها اللحوم المبعثرة! أجيبوا داعي ربكم، فيأتون للعرض على الله وتراهم يتخافتون فلا تسمع إلا همساً.
والأجل الذي سماه الله هو يوم القيامة، فهو مسمى عند الله، لكن لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، لا تأتيكم الساعة إلا بغتة، كما سأل جبريل نبينا عليه الصلاة والسلام عنها فقال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، ولكنها مع ذلك محددة بيوم وساعة.
والله جل جلاله قد ذكر لنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أماراتها الصغرى والكبرى، وقد ذهب من الصغرى الكثير ونكاد نبتدئ في الكبرى.
وكان من العلامات الصغرى الرسالة المحمدية نفسها، قال فيها صلى الله عليه وسلم: (أرسلت والساعة كهاتين)، أي: كان قريباً من الساعة كقرب السبابة من الوسطى، ولكن كم مضى من الدنيا لنعلم كم بقي؟ لا يعلم ذلك إلا الله.
فقوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا} [طه:129]، أي: لكان العذاب لزاماً ملازماً قائماً مهلكاً.(44/7)
تفسير سورة طه [130 - 132]
يأمر الله تعالى عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يصبر على ما يقوله المشركون، وأن يسبح ربه بحمده ويصلي له الصلوات المفروضات، وأن يقنع بما آتاه الله من الدنيا ولا يطمع فيما عند الآخرين؛ لأنه قدوة للمؤمنين.(45/1)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون)(45/2)
معنى قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون)
قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130].
هذه الآية من الآيات التي جمعت الأمر والحث على الصلوات الخمس في كتاب الله.
قوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه:130]: الله جل جلاله يسلي نبيه عليه الصلاة والسلام ويدعوه للصبر على ما يسمع من قول الكافرين عنه إنه ساحر وكاذب وشاعر ومجنون؛ وحاشاه من كل ذلك، ولكنهم يرون وجوههم وأنفسهم في المرآة فيرون بذلك صورة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يصفونه إلا بصفاتهم القائمة فيهم، فدعاه الله جل جلاله للصبر، وكان هذا قبل الإذن بالقتال.
ولا ننسى ونحن في خواتم السورة أن سورة طه مكية، وفي مكة لم يشرع القتال، فلم يكن إلا دعوته للصبر والتحمل إلى أن يبلغ دين الله ولو إلى جماعة، ولكن الواحد من هذه الجماعة كألف، والألف كمليون.
وهكذا ثبت الإسلام عقيدة ونظاماً وحكماً وحلالاً وحراماً، ثبت بأصوله وفروعه عند المهاجرين في مكة، وما كادوا يذهبون إلى المدينة حتى وجدوا الأنصار قد سبقوهم بنصرة رسول الله بالقوة والسيف قبل اللسان، وأعدوا له المقام لينصروه بما ينصرون به أنفسهم وأهلهم وأموالهم وأولادهم، وأن يبذلوا الحياة والأرواح رخيصة في سبيله.
وأما مكة فكان يدعوه الله إلى الصبر؛ ولذلك صبر على الأذى وعلى الشتائم وعلى الهجران، وكان بدوره عليه الصلاة والسلام يمر على أصحابه مثل عمار بن ياسر وأبيه ياسر وأمه سمية وهم يعذبون العذاب النكر، فلا يزيد على أن يقول لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
وما أذن بالقتال إلا في المدينة إذ نزل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، إلى آخر الآيات.(45/3)
معنى قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)
قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130]: التسبيح هنا الصلاة؛ لأن الصلاة مشتملة على التسبيح عند السجود، وعند الجلوس، وعند القيام، وعند الوقوف، وعند الركوع، فنحن عندما نقول: الله أكبر فقد سبحنا الله وعظمناه، وجعلناه الأكبر من كل ما يخطر بالبال وتراه العين.
وعندما نقول: الحمد لله رب العالمين نسبحه ونجعل الحمد المطلق الكامل له وحده لا أحد يستحقه معه.
وعندما نركع نقول: سبحان ربي العظيم، فنسبح الله العظيم الأعظم.
وعندما نسجد نقول: سبحان ربي الأعلى، فنسبحه جل جلاله.
ومن هنا يقول تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130]، أي: صلاة الصبح، ووقتها قبل طلوع الشمس، والتسبيح قبل غروب الشمس صلاة العصر.
فاشتملت هذه الفقرة من الآية الكريمة على صلاة الصبح وصلاة العصر، وفي صلاة الصبح وصلاة العصر يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح عن جرير بن عبد الله: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فمن استطاع أن يصلي صلاة قبل غروب الشمس وصلاة قبل شروق الشمس فليفعل).
وعن عمارة بن رؤيبة في صحيح مسلم ومسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لازم الصلاة قبل غروب الشمس وقبل طلوع الشمس دخل الجنة).
ومن هنا قال المالكية: الصلاة الوسطى صلاة الصبح، وقال الشافعية: الصلاة الوسطى صلاة العصر، أخذاً من هذه الآية الكريمة، والصلاة الوسطى هي التي قال الله عنها مؤكداً مخصصاً بعد تعميم: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فأمر بالصلوات كلها ومنها الوسطى، ثم زاد فخصصها وأكدها لمزيد فضلها ووقتها.
وقال البعض: إنها الظهر، ولكن ثبت في صحيح مسلم بما لا يدع مجالاً للشك والريب أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى.(45/4)
معنى قوله تعالى: (ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار)
قوله: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه:130].
آناء: جمع آن، أي: الساعات والأوقات، وساعات الليل هي صلاة المغرب وصلاة العشاء، فصلاة المغرب تكون بعد غروب الشمس ونهاية النهار فهي من صلوات الليل، وصلاة العشاء كذلك.
ومن هنا يقال عن المغرب والعشاء إنها صلاة الليل، ويدخل في ذلك التهجد وإن كان الأصل هو الصلوات الخمس.
قوله: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه:130].
أطراف النهار هي صلاة الظهر، لأن الأطراف: جمع طرف فوقت صلاة الظهر زوال، فتأخذ طرفاً من أول النهار وطرفاً من ثاني النهار.
ومن هنا كانت الأوقات كلها عند الشروق وقبل الشروق وقبل الغروب وعند الزوال وفي بداية الليل وعند غروب الشمس، فعلينا أن نستقبل الكعبة متوجهين إليه جل جلاله نناجيه ونخاطبه جل جلاله بكاف الخطاب المفرد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ونلتزم ذلك في كل ركعة ونحن نناجي الله، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
ولذلك قال أئمتنا وعلماؤنا: هذه الآية شملت الصلوات الخمس، والسنة النبوية هي شرح لكتاب الله وبيان وتفسير، فزادت هذه الآية بياناً عندما نزل جبريل من الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم مبيناً له أوقات الصلوات الخمس: الوقت في أوله وفي وسطه وفي آخره، فصلى بالنبي عليه الصلاة والسلام يومين، ففي اليوم صلى به الأول الصلوات الخمس في أول وقتها، وفي اليوم الثاني صلى به الصلوات الخمس في آخر وقتها، ثم قال له عن الله: (هذه أوقات وما بينها أوقات لهذه الصلوات)، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أول الوقت رضوان من الله، ووسطه رحمة من الله، وآخره عفو الله).
وما كان رضاً فهو أكرم وأفضل من الرحمة، وما كان رحمة فهو أفضل وأكرم من العفو، والعفو فيه معنى المؤاخذة كقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، عفا الله عنك لم أخرت الصلاة إلى آخر الوقت؟ ومع ذلك يعتبر صلى الصلاة في الوقت.
ولكن العلماء والأئمة من سلفنا الصالح كرهوا للإنسان أن يلتزم الصلاة باستمرار في آخر الوقت، وسماها الرسول عليه الصلاة والسلام بالنسبة لصلاة العصر صلاة المنافقين؛ وهي أن الإنسان ينتظر الشمس حتى إذا تضيفت للغروب قام فنقرها نقراً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً، أي: يسرع خوفاً من غروب الشمس.(45/5)
معنى قوله تعالى: (لعلك ترضى)
قوله: {لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130].
أي: سبح آناء الليل وساعاته في المغرب والعشاء، وسبح أطراف النهار أي: الظهر، {لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130]، وهذه كقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5].
والمعنى: لعلك تجد من الله ثواباً وأجراً بما يرضيك ويقر عينك، فالتزم هذا في نفسك، وأمر به غيرك من أمتك ابتداء من أهلك إلى آخر مسلم ممن تلقاه وتجتمع به، وأوص بذلك من عايشك واجتمع بك على أن يبلغ ذلك لأهله وأولاده ولمن يدركه بعدك، وهكذا(45/6)
تفسير قوله تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم)
قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131].
هذه الآية أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أمر لأمته، وكما هي العادة في كتاب الله أن يؤمر النبي عليه الصلاة والسلام وهو أمر للناس جميعاً.
قوله: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} [طه:131]: مد العين: النظر مع التشوق وهو أزيد من النظر، فلا يقال: لا تنظر، ولكن يقال: لا تمد عينك، أي: لا تطمع لا تشتق لا تتمن أن يكون لك ما لأولئك مما أعجبك من نساء ودور وأموال وجاه وسلطان ونفوذ.
قوله: (أزواجاً): أي: أصنافاً من الناس.
وقد متعهم بذلك زينة وتفاخراً ومتعة، {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131]، أي: ليكون ذلك فتنة واختباراً ليرى هل سيشكرون الله تعالى ويحمدونه على هذه النعم بأداء الحقوق فيزكون من جاههم وأموالهم ورفاهيتهم، ويشكرون الله بعد ذلك باللسان.
والزهرة: الزينة والزخرف والمتعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن زهرة الدنيا وزينتها).
كان الناس في الحياة النبوية على غاية ما يكونون من الحاجة والفقر وشظف العيش، وكان يقول لهم عليه الصلاة والسلام وهم يشتكون الفقر ويطلبون منه أن يدعو الله لهم بالغنى: لا أخاف الفقر ولكن أخاف أن يغنيكم الله فتتنافسوا على الدنيا فيسفك بعضكم دماء بعض، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهكذا حدث.
والمقصود: أن الخطاب للنبي، وهو خطاب لأتباعه صلى الله عليه وسلم، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام قد عرضت عليه الدنيا وعرضت عليه الجبال أن تكون ذهباً وفضة، وعرض عليه أن يكون ملكاً نبياً، فأبى كل ذلك وأعرض عنه، وطلب أن يكون عبداً رسولاً يجوع يوماً فيصبر، ويشبع يوماً فيشكر.
والنبي عليه الصلاة والسلام أتته الدنيا غنائم وأموالاً، وكل ذلك كان يوزعه ويفرقه من ليلته ولا يدع عنده منها قليلاً ولا كثيراً.
كان عليه الصلاة والسلام يلبس ما وجد، وينتعل ما وجد، فإذا لم يجد مشى حافياً، وكان صلى الله عليه وسلم أحياناً يلبس القلنسوة بلا عمامة، وأحياناً عمامة بلا قلنسوة، وأحياناً لا تكون عنده عمامة ولا قلنسوة، وكان يقول: (نهينا عن التكلف).
كان يصبح فيقول: هل عندكم شيء يؤكل؟ فيقولون له: لا.
فيصوم إلى المغرب، وقد يبقى ليالي وأياماً لا يذوق فيها طعاماً.
وكان إذا اشتد به الجوع يربط على بطنه الحجر صلى الله عليه وعلى آله.
وفي ذات مرة دخل عليه عمر وهو في المشربة بعد أن هجر أهله شهراً، فوجده على حصير من النخل قد أثر في جنبه صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله! كسرى في أمواله وقيصر في رفاهيته وأنت في هذه الحالة! وكان متكئاً فجلس وقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا).
وهكذا عاش النبي عليه الصلاة والسلام عبداً نبياً برضا منه واختيار، وهكذا عاش بعده الخلفاء الراشدون، ومن هنا كان يقول عليه الصلاة والسلام: (تمسكوا بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ).
وكانوا يلبسون الثياب المرقعة، وذات مرة جاءت عمر الغنائم فوزع على الكل ثوباً ثوباً، ثم خرج على المسلمين وعليه ثوبان اثنان فقال: يا أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا.
فصاح أحد الحاضرين وقال: يا ابن الخطاب لا سمع ولا طاعة، قال: ولم؟ قال: هل وزعت على المسلمين ثوباً وأعطيت لنفسك ثوبين؟ فقال عمر: أهنا عبد الله؟ قال: نعم، قال: قم فأجبه، قال: يا هذا! إن الثوب الذي رأيته على أمير المؤمنين هو ثوبي؛ لأن ثوبه لا يكفيه لطول قامته، فقال الآخر: الآن يا أمير المؤمنين! السمع والطاعة.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعيش صائماً في أكثر أوقاته، ومع ذلك ما كان يتم صيام شهر كامل سوى رمضان، وأكثر ما يصوم في شهر شعبان، وشهر محرم، وكان يصوم الإثنين والخميس، وكان يصوم الليالي النيرة بالقمر وهي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا أعطى يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكانت هذه سيرته وهي سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن اهتدى بهديهم ممن بعدهم.
قوله تعالى: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131]، أي: لنبتليهم هل سيشكرون الله على هذه النعمة أم لا؟ ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول: (هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا)، أي: إلا من كان يوزع ماله وزكاته وصدقاته ونفقاته في القريب والبعيد.
وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (نعم المال الصالح للرجل الصالح).
وكان يقول: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الغنى ولو أفقرهم لأفسدهم، وإن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر ولو أغناهم لأفسدهم).
وهذا شاهدناه ولا نزال نشاهده، فقد كان معنا أطفال ونحن أطفال في المدارس على غاية من التقى والصلاح، فلما كبروا أصبح لهم جاه ومال وسلطان فنسوا الله وتركوا الصلوات وكادوا يتركون الدين كله، فالفقر أصلح لهؤلاء، فمن العصمة أن تجد الفاجر يريد أن يفجر فلا يجد المال فيكون هذا من نعمة الله عليه وكرامته، لأنه لو أعطاه المال وصرفه في ذلك لكانت عقوبته مضاعفة، حيث صرف هذا المال في غير حله، ولا يشكر نعمة الله عليه مع فعل الفاحشة والذنب والمعصية.
قال تعالى: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]: الرزق الحلال بالكسب الحلال خير من هذا المال الكثير الذي لا يزيد الغني إلا فتنة، وأبقى بما يقدمه من زكاة وصدقة ونفقة.
ورزق ربك في الآخرة -يا هذا الذي زهد في الدنيا عن طواعية وإذا أغناه الله صرف الغنى في حله ولم يرتكب به الحرام ولم يوزعه في أنواع الفواحش بأشكالها- خير وأبقى من ذلك المال الفاسد الذي ابتلي به من لم يطع الله ولم يتقه، وأبقى وأدوم من حيث الأجر والثواب من ذلك المال الفاسد.(45/7)
تفسير قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)
قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
بعد أن أمرنا الله بالصلوات الخمس في أنفسنا؛ وبأن نسبحه ونصلي له قبل طلوع الشمس وقبل الغروب وفي آناء الليل وأطراف النهار، عاد فأمرنا أن نأمر غيرنا بالصلاة ولا نكتفي بأنفسنا، فقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه:132]، فالأمر لنبينا أولاً ثم هو لنا.
ومنذ نزلت هذه الآية كان صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل فيطرق باب ابنته فاطمة وهي مع زوجها علي ويقول: الصلاة الصلاة، ويطرق أبواب زوجاته في غرفهن ويقول: الصلاة الصلاة، وكان يفعل ذلك أبو بكر، ويفعله عمر، ويفعله المسلمون ممن اهتدى وأطاع أمر ربه.
فنحن مأمورون بالصلاة في أنفسنا، ومأمورون أن نأمر بها أهلنا الذين هم تحت سلطاننا، والأهل بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم جميع أمته مع أهله الأولين، وبالنسبة للحكام جميع رعاياهم بعد أهلهم، ومن له شريك أو صاحب يأمره بذلك، وقبل ذلك أهله وأولاده.
والأهل هنا بداية من الزوجة إلى الولد إلى الأم إلى الأخت إلى بقية أفراد العشيرة، فيجب أن تأمرهم بالصلاة: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، أمرنا الله تعالى أن نقي ونحفظ أنفسنا من عذاب ناره، ونقي أهلنا هذه النار التي حطبها وفحمها الناس والحجارة.
ولا عذر لزوج يقول: أمرتها فلم تمتثل، ولا عذر لأب يقول: أمرت ولدي فلم يمتثل.
نعم، لا حق لك في القتل، وقد يكون أحياناً لك ولكن مع هذا هناك طرق في التأديب قد علمنا إياها النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لنا عن الصلاة وتعليمها للأطفال: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر).
فمنذ السابعة وإلى العاشرة ثلاث سنوات تكون للتمرين وللتدريب؛ لأن من لم يتمرن على الصلاة من الطفولة حتى لو آمن بها فإنه لا يواظب عليها إذا كبر، ونعلم الكثير من أهل الخير الذين لم يمرنوا على الصلاة إلا بعد الكبر لا يصلون إلا وكأن الجبال على عواتقهم.
ونعلم الكثير من الناس الذين مرنوا على الصلاة من آبائهم ومربيهم وهم في الطفولة إذا حاولوا ليلة نتيجة مرض أو تعب أو أي سبب أن يؤخروا الصلاة إلى آخر الليل يصيبهم الأرق، ولو كان أحدهم مجهداً متعباً، فإذا قام ليتوضأ ويصلي شعر وكأن حملاً ثقيلاً قد ألقاه عنه.
ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام يقول لـ بلال: (أرحنا بها يا بلال)، أي: كان يرتاح عليه الصلاة والسلام بالصلاة، وبها كان يجد اليقين، وفيها قرة عينه صلى الله عليه وعلى آله.
والصلاة عماد الدين من تركها فقد كفر، والفرق بين المسلم والكافر ترك الصلاة.
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]، أي: اصبر على الصلاة في نفسك وفي أهلك ولازمها في جميع الأوقات صحة ومرضاً، حضراً وسفراً، قائماً وقاعداً، ولا تتركها في حال من الأحوال، فما هي إلا أيام وتجد ذلك زادك الوحيد عند الله يوم القيامة.(45/8)
تفسير سورة طه [132 - 135]
المؤمن مأمور بالصلاة، ومأمور أن يأمر أهله بالصلاة، ثم الله يرزقه ويغنيه من فضله، ولكن الكافرين يتعنتون ويحتجون على الله، وقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب ليقيم عليهم الحجة.(46/1)
تفسير قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة)
قال الله جلت عزته: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
الله جل جلاله لم يكتف منا بأن نصلي لأنفسنا فقط، فقال جل جلاله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، وأمرنا في العشرات من الآيات: أن أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة.
ومن هنا نفهم أن الإسلام اجتماعي وليس انعزالياً لا في عبادته ولا في نظمه ولا في دولته، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
فالله كما أمرنا بالصلاة في أنفسنا أمرنا بأن نأمر أهلنا بالصلاة وأن نصطبر على ذلك، والأهل يشمل الزوجة والولد والقريب والبعيد الذي أنت على صلة به، وخادمك وصديقك ومن له بك صلة من الصلات.
وهو بالنسبة لرسول الله عليه الصلاة والسلام كل أمته، أي: وأمر أمتك وفي الدرجة الأولى نساءك وأصهارك وأحفادك وبني عمك وعشيرتك، ثم بقية المسلمين، وهو أمر لازم فرضه الله على كل مسلم، أعني أن يأمر بالصلاة زوجته وولده وبنته ومن له بصلة ما، فإذا لم يفعل وكان هؤلاء متهاونين بالصلاة فسيكون مسئولاً عنهم.
بل أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نأمر بالصلاة أطفالنا وأولادنا وهم أبناء سبع، فقال: (مروا أولدكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر).
فأعطانا قيادة داخل الأسرة بأن ننشئ أطفالنا على الصلاة منذ السنة السابعة، وأن نبقى نأمرهم بذلك ليتدربوا وليعتادوا وليتمرنوا ثلاث سنوات، فإن هم بعد ذلك قصروا فليضربوا جزاءً وفاقاً، فإذا جاوز الأمر إلى حد البلوغ فيختلف الوضع.
فتارك الصلاة كسلاً يقتل عند المذاهب الثلاثة: مذهب الشافعي، ومذهب مالك، ومذهب أحمد، ويسجن أبداً حتى يصلي عند الحنفية، ويجلد عشر ضربات عند الظاهرية، فإذا انتهى من الضربات وبقي ممتنعاً من الصلاة أعيدت عليه، وتكون عشراً ثم عشراً إلى الصلاة أو الموت، ومعنى ذلك: أن تارك الصلاة يعتبر جسماً موبوءاً في المجتمع، إما أن يصلي وإما أن يبعد عن المجتمع بأن يدفن تحت التراب أو يسجن أو يجلد حتى الموت، أو الصلاة، بل جاء عند الحنابلة أنه يقتل كافراً.
وظواهر الأحاديث تدل على ذلك، وهو مذهب كثير من السلف صحابة وتابعين وأئمة مجتهدين، ومن هذه الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الفرق بين المؤمن والكافر ترك الصلاة)، بمعنى: أن الصلاة عماد الدين فمن تركها فقد كفر.
قوله: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]، أي: اصطبر عليها في نفسك وأدها في وقت الحر ووقت البرد، وفي الليل والنهار، وفي الحضر والسفر، وفي الصحة والمرض، وفي البر وداخل البحر، وعلى الجبال والوهاد والصحاري.
ولا يعذر أحد في ترك الصلاة إلا أن يفقد عقله أو يصبح في عداد الأموات.
واصطبر عليها في دعوة أهلك لها، وفي دعوة ولدك فأدبهم عليها بحسب ما ترى من التأديب، والمرأة التي تمتنع من الصلاة مع الهجران والتأديب لا خير فيها، وعند الكثير من الأئمة تعتبر مرتدة، وعقد النكاح يعتبر مفسوخاً بردتها.
قوله: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه:132].
أي: نحن لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أن ترزق غيرك، وإنما نسألك العبادة، ونسألك الصلاة وتفاصيلها وأوقاتها وركعاتها من أركان وواجبات وسنن ومستحبات، وقد بينتها السنة المطهرة.
قوله: {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132].
فهم الشراح والمفسرون أن من أسباب الرزق ودوامه الصلاة والملازمة لها، فقد كان نبينا صلوات الله وسلامه عليه إذا اشتدت به الضائقة صلى وأمر أهله بالصلاة، ولذلك من التزم الصلاة والتزم القيام بها في أوقاتها من ليل أو نهار أتته الدنيا وهي راغمة، وفي الحديث الصحيح: (من جعل الدنيا همه فرق الله عليه أمره، ومن جعل الآخرة همه رزقه الله من حيث لا يحتسب وأتته الدنيا وهي راغمة).
والرزق مضمون للحي فكيف بالعابد المصلي وقد فرغ وقته لله، خاصة إذا رزق القناعة والشكر على ما أعطاه ربه ولم يمد عينيه إلى ما متع الله به أصنافاً من الناس زهرة الحياة الدنيا ليبتليهم بذلك.
قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
العاقبة لأهل التقوى، ومهما رأيت أيها المؤمن من دنيا وجاه عند غيرك كافراً أو فاسقاً جاحداً أو مؤمناً عاصياً فالنهاية والعاقبة لمن كان مستقيماً، وعاقبة الأشرار البلاء والخزي والدمار في الدنيا والآخرة.
في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (رأيت الليلة كأني في دار عقبة بن رافع وأتينا برطب من رطب ابن طاب فأولت ذلك، أن العاقبة لنا والرفعة في الدنيا، أن ديننا قد طاب).
وهكذا الرؤيا الصالحة لها أصول في تأويلها، وهي جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوءة، ويقول ربنا جل جلاله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:64]، وقيل: يا رسول الله! هذه البشرى في الآخرة فكيف هي البشرى في الدنيا؟ قال: (الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له).(46/2)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه)
قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:133].
يقول الكافرون الجاحدون: هلا أتانا محمد بآية من ربه، وما هي الآية التي يطلبون؟ وما هي المعجزة التي يريدونها؟ فقد جاء صلى الله عليه وسلم بالكثير من المعجزات مما لم يكن مثلها لنبي أو رسول، وإن كلم عيسى الأموات وأحياهم بإذن الله فقد كلم محمداً صلى الله عليه وسلم الجماد، وحن الجذع إليه وهو خشب ميت لا حراك به حين تركه وكان منبراً يخطب عليه، حن حنيناً بحيث سمعه جميع الحاضرين في المسجد، وكانت أنواع الحيوانات تأتي إليه مسلمة ومصلية وساجدة أحياناً، وكان الشجر يسلم عليه، ومعجزاته كثيرة، وقد جمعت في مجلدات بحيث أصبح مجمعاً عليها.
وأعظم هذه المعجزات كتاب الله، ولكن هؤلاء مع ما يعلمون من تلك المعجزات وما رأوا يطلبون آية ومعجزة باقتراحهم، وما اقتراحهم إلا للتعنت، فقد طلبوا من نبي الله عليه الصلاة والسلام أن يجعل لهم الصفا والمروة ذهباً، أن يزيح عن مكة هذه الجبال، وأن يستأذن ربه بأن تفجر أنهاراً وعيوناً ومياهاً وأن تنتقل من كونها أرضاً صحراء إلى أرض خصبة ذات زراعة وذات شجر وفواكه.
فهم إنما يتعنتون وإنما يقصدون التعجيز، وذلك لا يعجزه صلى الله عليه وسلم فإن ربه يعطيه حتى يرضيه، ولكن عندما يكون الطلب للتعنت لا يكون منه فائدة، وحتى لو استجيب هؤلاء لما طلبوا فيطلبون معجزات وآيات أخرى، وإذا جاءت المعجزة ولم يؤمنوا دمرهم الله وقضى عليهم ولم ينذرهم ولم يمهلهم، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان أرحم بقومه منهم بأنفسهم، لذلك كان ينتظر بهم أن يؤمنوا، أو يخرج الله من أصلابهم مؤمنين يعز الله بهم هذا الدين وينتشر في آفاق الأرض.
قال الله جواباً لهم عندما قالوا: هلا يأتينا بآية من ربه: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:133].
أي: أو لم يأتهم يا محمد بيان ما في الصحف الأولى من كتب الله السماوية السابقة بأن أنزل عليه القرآن مصدقاً لما بقي حقاً في هذه الكتب ومكذباً لما حرف وبدل وغير، أولم تكن لهم بينة أن يذكر نبيهم في التوراة والإنجيل باسمه أحمد وبصفته ونعته، أولم يكف كل ذلك؟ وهذا لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51]، وهذا الكتاب معجزة المعجزات الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هذا الكتاب الذي أعجز العرب وقد نزل بلغتهم، وكانوا أفصح الخلق وأبلغ الخلق، ولغتهم هي أوسع اللغات على الإطلاق بما تؤديه من معني يجري في النفس وتراه العين وتسمعه الأذن ولا يخطر على بال إنسان، وسعت كتاب الله بما فيه من أخبار الأولين والآتين، أخبار الدنيا الآخرة.
هذا الكتاب الذي معجزته ما انتهت ولن تنتهي إلى النفخ في الصور، هذا الكتاب الذي مضى عليه أربعة عشر قرناً ولا يزال الإعجاز قائماً بأنه لم يستطع أحد من الخلق أن يأتي بمثله.
هذا الكتاب الذي حوى علم الأولين وعلم الآخرين إلى أن يدخل الجنة من يدخلها ويدخل النار من يدخلها، أكل هذا لم يكفهم؟ فماذا يريدون؟ وقد اجتمعوا أكثر من مرة وأكثر من مجلس وفي أكثر من مدينة وهم يتفاوضون ويتخافتون ويتسارون: ما نوع هذا الكتاب؟ أهو شعر؟ فيجيب شاعرهم ويقول: علمنا الشعر قوافيه وبحوره وبدايته ونهايته، فما هو بالشعر.
أهو النثر؟ فيقول خطيبهم: علمنا النثر وقوافيه وسكتاته ومقاطعه وما هو به.
وإذا بأرباب العناد والكفر قالوا: هذا سحر، والسحر باطل وهباء لا يدوم ولا يبقى، وها نحن نرى القرآن قد أتى بهداية البشر أبيضهم وأسودهم، عربهم وعجمهم في جميع الدنيا مشارقها ومغاربها، ولا يزال هذا الكتاب الكريم يؤتي أكله وهدايته لكل من أكرمه الله بهدايته والإيمان به والعمل بما جاء فيه.
قال تعالى: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:133] أي: في الكتب الأولى السابقة والصحف المنزلة كصحائف إبراهيم وزبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى، وقد بشر بنبينا عليه الصلاة والسلام في أكثر الكتب السماوية، وباليقين في التوراة والإنجيل باسمه أحمد وبصفته كذلك.(46/3)
تفسير قوله تعالى: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب)
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134].
أي: ولو أنا قضينا عليهم في الدنيا قبل الآخرة لجاءوا يوم القيامة وقالوا: يا ربنا أهلكتنا قبل إنذارنا، وقبل إرسال هذا الكتاب، وهاهم ينكرونه وقت نزوله، وكانوا قبل نزول القرآن عليهم يقولون: لولا أرسلت إلينا رسولاً يأتي بكتاب يدعونا ويهدينا، ويبشرنا وينذرنا، ويبعدنا عن شرنا في معاشنا ومعادنا.
ولكن الحجة البالغة لله؛ فلم يترك لهم أن يقولوا هذا، ففي دار الدنيا أرسل رسلاً مبشرين ومنذرين، منذ آدم وبعده نوح فإدريس فإبراهيم، فسلالة إبراهيم إسماعيل وإسحاق وهكذا إلى خاتمهم نبينا عليه الصلاة والسلام، فلم تبق حجة لأحد أن يقول يوم القيامة: لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك.
قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134].
أي: قبل أن نذل في الدنيا بنعت الكفر والشرك والجحود والعصيان والعيشة الضنك، وأن نخزى يوم القيامة بعذاب الله وبناره وبلعنته وطرده من رحمته، ولكن هذا لم يدعهم الله يقولون، فقد أرسل لهم الرسل والأنبياء قال الله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].
وكان الأنبياء يبعثون إلى أقوامهم خاصة، وعندما ارتقت العقول البشرية أكرمها الله بأن أرسل لها خير الأديان وخاتم الأنبياء وسيد الرسل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وجعله الرسول الخاتم لمن سبقه، فلا كتاب بعده ولا رسالة ولا نبوءة.
فالكل أصبح ملزماً بأن يؤمن به وبما جاء به عن الله، فمن دفن في قبره وأتاه الملكان منكر ونكير وهما يقولان له: من ربك من نبيك ما دينك؟ لن يستطيع أن يجيب ويقول: لا أعلم، ولم يبق أحد على وجه الأرض في عصرنا هذا وقبله بأزمان لم يسمع بأن هناك نبياً ظهر في البلاد العربية، وكانت رسالته عامة شاملة خالدة إلى يوم القيامة.(46/4)
تفسير قوله تعالى: (قل كل متربص)
قال تعالى: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} [طه:135].
تبرص الكفار برسول الله الموت، وقد كانوا ينتظرون ذلك ويشتهونه ويتمنونه، ويتربصون أن ينتصروا عليه، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قل لهم: {كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا} [طه:135].
أي: كل منتظر فانتظروا، أي: كل مؤمن وكافر وكل فئة وطائفة متربصة بالأخرى ومنتظرة النتيجة.
والتنوين في (كل) هو تنوين العوض، فهو عوض عن كلمة، وقد يكون عوضاً عن جملة.
وهذا تهديد من الله ووعيد، فيقول لهم: تربصوا وانتظروا فستعلمون يوم العرض على الله من الذي تربص بالآخر؟ ومن منكم على الصراط المستقيم والحق الواضح الذي ليس فيه طرق ملتوية، وليس فيه عقد وليس فيه أباطيل ولا أضاليل، فهو على المحجة البيضاء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يضل عنها إلا هالك).
والصراط السوي هو الصراط المستقيم والطريق النير الواضح البين، أي: وستعلمون يا هؤلاء المشركون! من الذي على الصراط المستقيم أنحن أم أنتم؟ ومن الذي اهتدى للحق وظفر به؟ ومن سيفوز بالرضا والجنة يوم القيامة؟ ومن الذي سيعود بالخزي واللعنة والنار؟ وذاك تهديد من الله ووعيد.
وفي آخر هذه الآية من سورة طه نكون قد ختمنا من القرآن الكريم ستة عشر جزءاً، وتجاوزنا النصف بجزء.
والحمد لله من قبل ومن بعد، والمرجو من الله جل جلاله كما أعاننا على هذا في سبع سنوات مضت أن يعيننا على إتمامه في حياة طيبة وصحة كاملة للسامع والقائل، وللداعية والمدعو معاً، وأعظم شيء يكرم الله به الإنسان أن يتدارس كتاب الله، ولا مجلس أشرف من ذلك، خاصة إذا كان هذا التدارس في بيت الله الحرام منزل الوحي الأول، ومسقط رأس الرسول عليه الصلاة والسلام وتجاه الكعبة المشرفة.(46/5)
تفسير سورة الأنبياء [1 - 2]
يخبر الله تعالى في مطلع سورة الأنبياء عن اقتراب الحساب وقيام الساعة، منذراً من كان غافلاً عنها حتى ينتبه، ومهدداً للكفار الذين ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون.(47/1)
بين يدي سورة الأنبياء
سورة الأنبياء عدد آياتها 112 آية، وهي من أوائل السور التي نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام.
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: الإسراء والكهف ومريم وطه والأنبياء هي من قدامى السور وأوائلها، يعني: من قدامى السور التي نزلت في أول الإسلام وصدره في مكة المكرمة.
وكل هذه السور قد مضت مفسرة مبينة موضحة، وكلها مما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض المطهرة المقدسة، وفي هذه البقعة التي هي أشرف بقاع الأرض على الإطلاق والشمول والاستغراق.
ثم قال شاكراً لربه، متفاخراً بذلك، معدداً نعم الله عليه فقال: وهي من تلادي.
أي: من السور القديمة التي حفظتها وعلمت معانيها وأحكامها عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وأخذت منه تأويلها وتفسيرها.(47/2)
تفسير قوله تعالى: (اقترب للناس حسابهم)
قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1].
تكلمنا عن البسملة كثيراً في أوائل السور، وندخل الآن للموضوع رأساً فنقول: قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1].
استضاف سعد بن أبي وقاص استضاف رجلاً من العرب فأكرمه، ثم عرفه برسول الله عليه الصلاة والسلام ليؤمن به، واستقطع رسول الله أرضاً ووادياً، فجاء هذا الضيف إلى سعد، وقال: لقد أقطعني رسول الله أرضاً من وصفها ونعتها كذا وكذا، أريد أن أقطعك منها قطعة، قال: لا تفعل، ولا حاجة لي بها، فقد نزلت اليوم سورة ذهلت لها عقولنا، وكرهنا لها الحياة، وقد انتهت وقربت الساعة، قال: ما هي؟ قال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1].
هذه السورة ابتدأت بالكلام عن الساعة، وانتهت بالكلام عن قصص الأنبياء وما فيها من عبر وعظات تنذر الكافر وتبشر المؤمن.
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1] أي: اقتربت الساعة وقرب وقتها وزمنها، (اقترب للناس) أي: اقترب من الناس، فاللام هنا بمعنى: من.
والمعنى آن الأوان، وأصبحت الساعة قريبة، لأن الحساب لا يكون إلا يوم القيامة.
{وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، هذه الواو يقال لها: واو الحال، أي: حال كونهم معرضين عنها وعن أهوالها وعن عذابها وعن اليوم الذي هو كألف سنة مما تعدون، الناجي من المعروضين على الله لا يكاد ينجو حتى يصل إلى ما لا تطيقه نفس بشرية، ولو كانت الدنيا لا تزال لمات موتات قبل أن يعلم النتيجة، وأنه من الذين رضي الله عنهم وسيدخلون الجنة.
في هذا اليوم يشيب الرضيع، ويشتد البلاء على الناس، ويشتد العرق حتى يغرقوا في عرقهم، والبعض للركبة، والبعض للسرة، والبعض للثديين.
ومن هنا كانت مزية في هذا اليوم للمؤذنين، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون يوم القيامة أطول الناس أعناقاً)، ومن لم يفهم ذلك لا يفهم الحديث، وما الجَمال في طول العنق أكثر من اللازم؟! فهنا يوم العرض على الله، يوم الشدة والكرب، من كان طويل العنق كما ذكره الله على المؤذنين، مهما غمر في العرق وفي المحنة والعذاب تبقى حواسه في منجاة من ذلك؛ العينان والأذنان والمنخران والفم.
وقيامة كل إنسان موته، فهو بموته تكون قد انطوت صحيفته في الدنيا، ويبتدئ حسابه في القبر، يسأله الملكان: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فإن أجاب بما نجح به وفاز يريه عن يمينه ويقول له: هذا مكانك من الجنة، فيرى بعينه ما لا يحده البصر من أنواع النعيم بما تقر به عينه، وتلذ به نفسه، ويعيش بهذا النعيم ممتع الروح والنفس إلى البعث، ثم يقول له: انظر يسارك، هذا مكانك من النار فيما لو لم تكن جئت مؤمناً موحداً تائباً، فيزداد حمداً لله على أن أنجاه من النار، وأنقذه منها، والعكس بالعكس، يُرى ما على يساره للكافر وللعاصي فيزاد عذاباً في نفسه وروحه، ويزداد حسرة عندما يقال له: انظر على يمينك، لو أحسنت الجواب وعشت مؤمناً في دنياك أين كان سيكون مكانك ومقامك.
والرسالة المحمدية نفسها هي العلامة الأولى على قرب الساعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (بعثت والساعة كهاتين: وأشار بالسبابة والوسطى) أي: ما بين القيامة وبين ما مضى كقدر ما بين السبابة والوسطى، ولكننا لا نعلم كم مضى لنعلم ما يأتي.
ومن هنا بقي يوم القيامة مجهولاً عند الخلق، فلا يعرفه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وفي حديث جبريل الذي جاء فيه نبي الله عليه الصلاة والسلام يسأله، كان فيما سأله: (متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، ثم أخذ يذكر علاماتها.
ولها علامات صغرى وكبرى، وتكاد العلامات الصغرى كلها تكون قد مضت، ونحن ننتظر العلامات الكبرى، وهي من الهول بمكان، ومن الفتنة والبلاء بمكان، أنقذنا الله من فتنها وبلائها.
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] أي: حال كونهم معرضين غافلين عما يجب أن يكون عليهم من تقى، ومن تجديد توبة، ومن إيمان بالله وبرسله، ومن عمل بما جاء في كتب الله، وعن رسول الله بياناً وتفسيراً وشرحاً، فالله ينزل هذا على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، ثم هو تنبيه لأتباعه من المؤمنين ليتعظوا ويبتعدوا عن الإعراض والغفلة، وقليل من يفعل ذلك.(47/3)
تفسير قوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم)
قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2] الذكر هنا قد يكون القرآن، وقد يكون محمداً عليه الصلاة والسلام.
وعلى أي اعتبار إذا كان الذكر هو القرآن فالقرآن الذي نزل عليه ونطق به هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وإن كان الذكر نبينا عليه الصلاة والسلام فالمعنى واحد.
فهو الذي ذكّرنا وذكّر الأمم معنا والخلائق إلى يوم القيامة، فوعظهم، وأنذرهم، وبشرهم، وبين لهم ما ينفعهم مما يضرهم، ولم يذهب إلى الرفيق الأعلى حتى لم يترك شاذة ولا فاذة إلا بينها لأصحابه ليبينوها لمن يأتي بعدهم، كما في الحديث: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم)، وفي الحديث الآخر: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها).
فالإسلام بلغه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى أمته من الصحابة المهاجرين والأنصار، وهم بلغوا من بعدهم من التابعين، والتابعون بلغوا تابعي التابعين، وهكذا حدث في مشارق الأرض ومغاربها، الآباء والأجداد نقلوا إلينا هذا الكتاب الذي حفظ في الصدور.
وليس هناك كتاب في الأرض -بما فيها التوراة والإنجيل- نقل هذا النقل المتواتر المستفيض المطبق عليه إلا القرآن، وليقرأ اليهودي من التوراة ويمكن أن يحرف زيادة على التحريف الماضي، ولا يجد من يقول له من قومه وجماعته وأحباره: أخطأت، قدمت أو أخرت! وقل مثل ذلك على النصراني في إنجيله.
أما القرآن فرغم تقصير الناس اليوم في حفظه ووعيه لا يكاد يتلو تال، أو يقرأ قارئ آية من كتاب الله فيغلط في حركة إلا ويجد الناس منبهين له، مرشدين له، داليه على أنه أخطأ، ومن هنا كان تمام الحفظ للقرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2].
إن كان وصف الحدوث للنبي صلى الله عليه وسلم فالأمر واضح، فهو قد حدث ولم يكن صلى الله عليه وعلى آله موجوداً، وإن كان وصف الحدوث للذكر -أي: القرآن- فليس معناه الخلق، ولكن معناه التجديد، فالقرآن ليس بحادث ولا مخلوق؛ لأن القرآن كلام الله، ولا يليق أن يوصف القديم بحادث، فيكون ذلك شركاً، ويكون ذلك فساداً في العقيدة والتوحيد، وإن كنت أميل أن الذكر هو النبي عليه الصلاة والسلام كما سيأتي في الآيتين بعد.
(وما يأتيهم) أي: العباد: {مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ} [الأنبياء:2] والنبي صلى الله عليه وسلم جاء عن الله متكلماً، لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فالسنة المبينة المفسرة الشارحة لكتاب الله هي أيضاً وحي من وحي الله.
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2]، أي: جديد، والقرآن كان ينزل منجماً، وقد نزل دفعه واحدة في ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدنيا، ثم كان ينزل به جبريل على قلب النبي عليه الصلاة والسلام منجماً، وقتاً بعد وقت، وزمناً بعد زمن، حسب الحاجة إلى ذلك، وكانت أول آية في غار حراء، عندما جاءه وقال له: اقرأ إلى أن قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] إلى آخر الآيات.
ثم أنزل قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام بشهرين أو ثلاثة في حجة الوداع قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] وكانت المسافة بين أول آية من القرآن وآخر آية من القرآن ما يزيد على عشرين عاماً، فهذا الذي ينزل آية بعد آية ما جاء منه متأخراً يكون جديداً بالنسبة لما جاء متقدماً، وكان أشد الآي في النزول هذه الآية المتممة، الخاتمة المنهية، وكان أقدمها في النزول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، فمحدث هنا بمعنى: الجديد، لا بمعنى الحدوث والخلق، والمعنى: ما يأتي العباد من ذكر من ربهم جديد إلا استمعوه وهم يلعبون.
وهكذا قيلت هذه وقت النزول على نبينا عليه الصلاة والسلام، وأعرضت قريش، ثم أعرض العرب، وبعد ذلك أخذ الله يكرم من أكرمه بهدايته فآمن، ومن كفر منهم: إما ذهب في حال كفره، أو أصر وشرد وعذب، وإلى اليوم ولا يزال الكفار أكثر سكان الأرض، بل ولا يزال كثير من المؤمنين معرضاً، يستمع كتاب الله وسنة نبيه وهو يتلاعب، تقول له: قال الله، فيقول لك: وماذا أيضاً؟ تقول: قال رسول الله، فيقول لك: قال فلان قال فلان فيذكر أسماء قذرة نصرانية ويهودية ومنافقة، تقول له: أقول لك: قال الله وتأتيني بهذه الأسماء؟ فيهز كتفه، وكأن الأمر لا يعنيه وهو متلاعب! وهذه هي الردة الجديدة التي قال عنها بعض العلماء المعاصرين: ردة ولا أبا بكر لها، الردة الأولى وجدت في عهد أبي بكر فزجر وأدب وسل سيفه إلى أن ردع أهلها وأصحابها، فأعاد للحق من أعاد، ودفن في التراب من سبقت عليه الضلالة في علم الله.
ونحن اليوم نعيش في ردة جديدة، تحتاج إلى أبي بكر جديد، والله آت به، فنحن على رأس القرن الذي يقول عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) فبيننا وبين أصل القرن عامان، مع تمام هذا العام وهذه السنة.
قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2] أنصتوا إليه غير موقنين ولا عازمين على العمل، ولا مشمرين الأيدي للعبادة والطاعة، ولتحليل الحلال وتحريم الحرام، والتزام ما أمر الله بفعله، وترك ما نهى الله عنه.(47/4)
تفسير سورة الأنبياء [3 - 5]
كان كفار قريش يستمعون الذكر لاهية قلوبهم، ولم يكتفوا بذلك، بل كانوا يتسارون ويتناجون فيما بينهم ويتهمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر والشعر والافتراء وغير ذلك.(48/1)
تفسير قوله تعالى: (لاهية قلوبهم)
قال تعالى: {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:3].
حال كونهم تلهو قلوبهم وتلعب بما في الدنيا من زخارف: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36] فهو يغلب الفاني ويترك الباقي، ينسى نفسه ولا يطلب ما ينفعها يوم القيامة يوم العرض على الله، ويشتغل بالخزعبلات والأباطيل، ويشتغل بما لا يليق بالرجل العاقل من المؤمن أن يشتغل به.
{لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:3].
(لاهية قلوبهم) أي: لاهية عقولهم، أي: الجوهر منهم الذي يدرك ويعي ويعقل، فهم يلعبون معرضون عن سماع الحق! وبالتالي عن العمل به.
قال تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:3] أي: لم يكتفوا باللهو واللعب، بل أخذوا يتخافتون ويتسارون والقرآن ينزل: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء:3].
فشككوا بالنبوءة وكذبوا بها، وأخذوا يتسارون بالنجوى.
{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:3] أي: الكفار والمشركون، والكفر أشد أنواع الظلم، وقالوا في هذه النجوى التي تخافتوا وتساروا بها: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء:3] أي: كيف يكون بشراً مثلكم ومع ذلك يكون نبياً ورسولاً، ويختص من بينكم بهذا؟! وهم كان في تصورهم الأعوج أن يكون النبي جنياً أو ملكاً.
ومع هذا كيف سيتلقنون الرسالة عن ملك لا يفهمونه ولا يفهمهم؟ وإذا أنزله الله ملكاً لجعله بشراً، ولجعله رجلاً، ولخاطبهم بالشيء الذي خاطبهم به نبي البشر فأنكروا وجحدوه.
{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:3] هذه الآية فيها تقديم وتأخير، والتقدير: الذين ظلموا أسروا النجوى، فـ (الذين ظلموا) مبتدأ، و (أسروا النجوى) خبر.
أو يقال: واو الجماعة في (أسروا) فاعل، و (الذين ظلموا) بدل منها.
أو يقال: (الذين ظلموا) فاعل، وتكون الواو في (أسروا) حرفاً يدل على الجماعة لا إعراب له، ولكن هذه اللغة يقول عنها النحاة لغة: أكلوني البراغيث؛ لأن الكلام -حسب ما يقولون في كتاب سيبويه وغيره من كتب النحو- كان ينبغي أن يقال: أكلني البراغيث، فسمعت بدوية صغيرة تصيح وتقول: أكلوني البراغيث، فصارت عربية فصحى واعتبروا هذا الكلام كلاماً معرباً لا لحن فيه، ولكن هذه لغة القرآن، وهذا في القرآن كثير، وقد تحمس له واستدل عليه ابن العربي المعافري الأندلسي في كتابه: أحكام القرآن، فقال: لغة أكلوني البراغيث ليست لغية، وليست لغة ضعيفة، بل هي لغة فصحى بليغة جاء بها القرآن في العشرات من الآي، ولذلك لا حاجة إلى تقدير.
قال تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:3] (أسروا) فعل ماض، والواو حرف يدل على الجماعة، (الذين ظلموا) هو الفاعل، ولكنهم مع ذلك حاولوا أن يجعلوا هناك متقدماً ومتأخراً، وقالوا: تقدير الكلام: (الذين ظلموا أسروا النجوى)، ولكن الله لم يقل هكذا، قال: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:3] وهذه لغة فصيحة وبليغة، فلا نحتاج فيها إلى تأويل، ولا تقديم ولا تأخير، وليس هناك حاجة إلى أن نقول: بدل، ولا إلى أن نقول: خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم الذين ظلموا.
القرآن بين واضح، والجملة لا تحتاج إلى بيان أكثر مما فيها، يقول الله فيها: الذين ظلموا أخذوا يتناجون بالكفر والشرك فيما بينهم، قالوا: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمَْ} [الأنبياء:3]، أي: وكيف تتصورون أن يكون البشر نبياً ورسولاً؟! لم لا يكون ملكاً؟! هكذا شاءت قريش أن تقول هذا بعد أن جاءتهم المعجزات، وطلبوا التأييد بالمعجزات متعنتين، وهم لا يريدون هداية ولا علماً، وإنما جحدوا وأرادوا أن يستمروا في هذا الجحود والإصرار.
قوله: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:3]، اعتبروا السحر هو القرآن الذي أتى به عليه الصلاة والسلام.
والسحر في اللغة العربية: ما لا ظل له من الحقيقة، وهكذا أرادوا، وسيزيدون كفرهم بياناً وتوسعة بكل أنواعه كما فضحهم الله وكشفهم، فكان مما قالوه: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:3] بنظر البصيرة، أي: وأنتم تعقلون وتعون، وأنتم تدركون، هكذا عقولهم الفاسدة! هكذا عيونهم التي أعماها الله وأعمى البصيرة قبل البصر! هكذا ينطقون وهكذا يتكلمون بعد المعجزات وبعد نزول الوحي! وبعد أن عاش بينهم نبينا صلى الله عليه وسلم أربعين سنة ما عرف فيها إلا بالأمين والصديق! لم تخرج منه كذبة قط حتى في الشئون الخاصة بين الناس، ما كان إلا العاقل والأمين والصديق، أفبعد بلوغ الأربعين سيكذب؟ لم يكذب على الناس أفيكذب على الله، حاشاه ومعاذ الله من ذلك.
(أفتأتون السحر)، أي: الباطل، هذا الكلام يقولونه عن الذين آمنوا بالله واحداً، وبالنبي رسولاً، وبالقرآن كتاباً.
وهذه الآية تدل على أن الذكر قصد به النبي صلى الله عليه وسلم.(48/2)
تفسير قوله تعالى: (قال ربي يعلم القول في السماء والأرض)
قال تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأنبياء:4].
أي: النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قال: {رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء:4]، أي: ربي جل جلاله يعلم القول الصادر عنكم، وما جزاؤكم فيه، فهو يعلم الغيب في السماء والأرض، ويعلم أأنا صادق مرسل من قبله، وهل أنتم صادقون في تكذيبكم وجحودكم.
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء:4] السميع لأقوالي وأقوالكم، العليم بباطني وباطنكم، وسيجازي كلاً منا حسب قلبه وقوله وادعائه، وهذا نذير ووعيد، وهذا مما يؤكد أن الذكر في قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2] وهو النبي عليه الصلاة والسلام.
{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} [الأنبياء:5].
لم يكتفوا بهذا القول، بل أخذوا يزدادون في الكفر ويتنوعون في أقواله: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ} [الأنبياء:5] أخذ هؤلاء يقولون عن القرآن: ليس هو إلا أضغاث أحلام، والأضغاث جمع ضغث أي: التآويل والرؤى الباطلة، والتي لا ظل لها من الحقيقة، وأحلام: جمع حلم، وهو ما يرى في المنام، أي: إنما هذه منامات وأحلام رآها في المنام فيدونها وينطق بها.
{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} [الأنبياء:5] أي: بل زادوا على الكفر بما تجاوزوا فيه الحد فقَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ.
(بل افتراه) أي: اخترعه ونسبه إلى الله كذباً.
والنبي هو أفصح العرب على الإطلاق ومع ذلك نجد ما بين كلام النبي صلى الله عليه وسلم على فصاحته وبلاغته وما بين كلام الله في كتابه ما بين الخالق والمخلوق.
وقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم حقاً، ومع ذلك أين بلاغته من بلاغة القرآن؟! أين فصاحته من فصاحة القرآن؟! فإذا صدق نزلت درجة بلاغته إلى حد السنة دون القرآن، وإذا هو أفترى وحاشاه من ذلك ارتفعت فصاحته إلى درجة الإعجاز، ومن يقول هذا آثم! إنما يقوله فاقد العقل ممرور النفس.
{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء:5] حاروا ماذا يقولون، أخذوا يضربون أخماساً في أسداس، ويجددون التهمة بين الحين والحين، تارة هي أحلام، ومن قبل هو بشر، ثم افتراه، ثم هو شاعر.
وهكذا عنادهم وجحودهم وكفرهم! إلى أن أدبوا يوم بدر، بين شريد وقتيل وأسير في المعركة، إلى أن أعز الله دينه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يزال حياً بين ظهرانيهم، ومن هنا قال النبي في هذه الرؤيا: (رأيتني -رأيت الليلة- أننا في دار عقبة بن رافع وأتينا بتمر من تمر ابن طاب) فأولها صلى الله عليه وسلم وكانت المعارك لا تزال حامية الوطيس بينه وبين كفار العرب، فقال: (أولتها: أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة، وأن ديننا قد طاب).
وهكذا كان الحال، رفع الله نبيه في الدنيا قبل الآخرة، ورفع المؤمنين، وكانت العاقبة لهم في الدنيا قبل الآخرة، وطاب دينهم واستوى وفرض وانتشر، وذل الكفر، وجئنا نحن بعد البعثة بألف وأربعمائة عام، ولا يزال الإسلام معلناً على المنابر والمآذن في مشارق الأرض ومغاربها: أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، رضي من رضي، أو كره من كره، ولا تزال بيوت الله في مختلف قارات الأرض عامرة، مع كثرة أعداء الله في الداخل والخارج من المنافقين والنصارى واليهود، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها.(48/3)
تفسير سورة الأنبياء [5 - 9]
ينقم الكفار المشركون أن يكون رسول الله الذي أرسل إليهم بشراً، فهم يريدون ملكاً، وقد بين الله لهم بالحجة البالغة أنه ما أرسل قبله صلى الله عيه وسلم إلا رجالاً، وأمرهم أن يسألوا أهل الذكر فيما لا يعلمون.(49/1)
تفسير قوله تعالى: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون)
قال الله جلت قدرته: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} [الأنبياء:5].
هؤلاء الكفرة لا يزالون على كفراتهم الصلعاء، وعلى جحودهم، وعلى ضربهم أخماساً في أسداس يتساءلون: من هذا الذي جاء بهذه الرسالة؟ تارة يتهمونه بالافتراء، وتارة بالشعر، وتارة ينقمون أن يكون بشراً، وفي تصورهم أنه لا يكون النبي إلا ملكاً، وأخيراً يقولون: ما باله لا يأتينا بآية كما أتى بها الأنبياء السابقون، ويعنون بالآية: ما كانوا اقترحوه وطلبوه حسب نزواتهم وأهوائهم من أن تكون الصفا والمروة ذهباً، ومن أن تزاح جبال مكة ويكون مكانها أشجار وغابات ومنخفضات، وأن تفجر مكة عيوناً، وهم مع ذلك لا يطلبون ذلك للإيمان والتصديق، وإنما يطلبونه عناداً، ويقولون: ما بال الأولين قد اقترحوا الناقة على صالح فكانت، واقترحوا واقترحوا مما ذكروه عن نوح وهود وصالح وموسى وإبراهيم؟ فكان جواب الله لهم: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:6].
أي: إن الأمم السابقة عندما اقترحوا هذه الآيات، وطلبوا من أنبيائهم هذه المعجزات فما آمنوا، أهلكهم الله ودمرهم، ولم يمهلهم ولم ينظرهم، فلو استجبنا لكم وأتتكم هذه البينات، وأنتم لا تؤمنون؛ فسيكون ذلك سبباً لهلاككم ودماركم، ولكن الله -تكرمة لنبيه- رفع ما كان قبل على الأمم السابقة، وعلى أتباع الأنبياء من الهلاك في الدنيا بغرق وصعقة وزلازل، ورجوم من السماء، بل أمهلهم علهم يؤمنون ويراجعون أنفسهم، أو لعلهم يعيشون فيأتي من ذرياتهم من يؤمن، وهكذا حدث، فأكثر هؤلاء الذين أصروا على الكفر أولاً آمنوا بعد ذلك أو آمن أولادهم وأصبحوا للإسلام قادة، وللدعوة المحمدية جنداً ودعاة بالأنفس والأموال.
وهكذا نصروا الإسلام في مختلف أقطار الأرض! {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ} [الأنبياء:6]، أي: من أهل قرية أهلكناها، فما من أمة سبقت واقترحت على نبيها ما اقترحتم، ثم هي لم تؤمن إلا وأهلكت ودمرت، ولم يبق منها إلا الأحاديث والذكر، انتقلوا من جسوم ميتة إلى دروس متلوة، وكأنهم لم يكونوا.
قال تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:6].
أي: يا هؤلاء! أهم سيؤمنون إذا بعث نبينا صلى الله عليه وسلم، وأذن له بهذه الآيات التي يطلبونها ويقترحونها؟! فهذا استفهام ولكن معناه أنهم لن يفعلوا ولن يقوموا، ولكن الله لا يريد هلاكهم دون إنذار وإمهال، لعلهم يرعوون يوماً، أو يلدون من سيصبح مؤمناً داعية إلى دين الله.(49/2)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم)
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7].
هذا جواب لهم عندما قالوا: إن أنت إلا بشر مثلنا، فكيف نؤمن بك وأنت واحد من بيننا تأكل الطعام وتمشي في الأسواق؟! فيقول الله جل جلاله لنبيه {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7] أي: لم يسبق أن أرسلنا لهؤلاء القوم والبشر منذ خلق أبيهم آدم إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم إلا بشراً من سلالة آدم وحواء، ولو أرسل الله لهم ملكاً للبس عليهم الأمر، إذ سيخاطبهم ويحاورهم وسيعاشرهم بشراً؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعايشوه على صورته الملكية، فلا يفهمون، وقد يرعبون منه فيفرون.
وتلك من رحمة الله بعباده أنه ما أرسل لهم إلا بشراً مثلهم؛ ليفهموا ويعوا عنه، ويمكنهم المحاورة والأخذ والعطاء والسؤال والجواب معه.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} [الأنبياء:7] أي: بشراً، وكلمة الرجال هنا لا يعنى بها استثناء من النساء، وإن كان ذلك لم يكن، فلم يرسل الله من البشر رسولاً إلا رجلاً، ولكن الصفة تعني الملك، والملك لا يوصف برجولة ولا أنوثة، ولا يقال رجل إلا لمن كان له ضد غير رجل، فتقول: رجل وامرأة، رجل وصبي، يا رجل، أي: لم يكن امرأة ولا صبي، وتقول: جاء رجل، لم يأت ملك؛ لأن الملك من جنس غير جنس الرجال، وذاك مقصود الآية، أن الله ما أرسل رسولاً إلا بشراً، ولم يرسل ملائكة.
وهنا توجد بحوث للمفسرين في أن الله تعالى لم ينبئ امرأة، وهذا الفهم هنا لا مكان له؛ لأن الله تكلم عن الرسالة في الآية ولم يتكلم عن النبوءات.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} [الأنبياء:7] وكون الرسالة لا تكون إلا في الرجال هذا لا يختلف فيه مسلمان.
أما أن تكون المرأة نبية فذاك اختلفوا فيه، ولطائفة من العلماء أن ذلك قد كان، ابتداءً من حواء أمنا، إلى مريم أم عيسى، وتعريف النبي: هو عبد أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، فهو لم يرسل لأحد، والرسول: عبد أوحي إليه بشرع، وأمر بتبليغه لغيره.
وهذا معنى الرسالة، فالرسالة تعني رسولاً ومرسلاً، والنبي عبد نبئ بشيء وأخبر به لنفسه لا لغيره، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7] لم يرسل الله ملكاً للبشر، ولم يسبق أن كان ذلك في الرسالة الإلهية.
ثم قال الله لهؤلاء الجهلة الذين يطلبون رسولاً ملكاً، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7].
زعم قوم أن معنى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43]، أي: اسألوا أهل الكتابين السابقين من علماء اليهود والنصارى.
وليس الأمر كذلك، فليس هؤلاء بموضع الحجة حتى يسألوا، ولا يحيل الله إليهم ليسألوا، ولكن أهل الذكر هم أهل العلم، أهل القرآن، هم الذين درسوا وعلموا من الإسلام ما أصبحوا به أئمة هداة معلمين، ولقد اختار هذا المعنى من الآية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقال: أنا من أهل الذكر، أي: يقول الله جل جلاله: اسألوا العلماء اسألوا من سبقكم إلى التمسك بهذا الدين والإيمان به، وقد درسوا القرآن ففهموه ووعوه وعلموا ما جاء فيه فاسألوهم هل سبق أن كان في أمة سابقة أن يكون الرسول ملكاً؟ فسيجيبونكم: لم يكن ذلك، ولم يكن الرسول بدعاً من بين الرسل، كانوا هم بشراً، وتريدون منه أن يكون ملكاً، ما كان ذلك ليكون.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7]، يوحي إليهم بالرسالة والنبوءة، ودعوة الخلق إلى شريعة اختارها الله له، لكل جعلنا منكم شريعة ومنهاجاً: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] والآية تصبح عامة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذه الفقرة من هذه الآية الكريمة يخاطب الله بها كل من لم يعلم مسألة في الإسلام، فما بالك بالعامي الذي لا يعلم من العلم شيئاً، فهؤلاء يقول لهم الله جل جلاله: إذا أنتم لم تعلموا قضية في الإسلام أو مسألة في الشريعة فإياكم أن تفتوا بالجهل والضلالة حسب الهوى! فلا يكون ذلك إلا جهلاً، ففاقد الشيء لا يعطيه، فإذا احتجتم إلى قضية أسرية أو اجتماعية أو غيرها فاسألوا أهل الذكر، أي: فاسألوا علماءكم، واسألوا من علمهم الله فهم كتابه، وشريعته، والكل يسأل من يطمئن إليه، ثقة بدينه وعلمه.
ومن هنا نشأت المذاهب، فليس كل أحد يستطيع أن يدرس القرآن أو يدرس السنة أو الشريعة، وليس كل واحد يمكنه أن يتفرغ لذلك، وليس كل صغير اعتنى به أولياؤه وآباؤه ففرغوه للدراسة وقت الطلب صغيراً ووقت الكبر، فمن هنا جاءت المذاهب، فكان على كل عامي لم يستطع معرفة الحلال من الحرام أن يلتزم إماماً عالماً، وأن يسأل من يعلم.
وليس لكل أحد مع جهله باللغة، وجهله بالقرآن والسنة، وجهله بالوسائل الموصلة لذلك من نحو ولغة وبلاغة وأصول أن يستقل بالفهم، ولو حاول فلن يأتي إلا بالطوام والكوارث مما لا يقره عقل قبل أن يقره علم، وما أكثر ما يحدث ذلك من جهلة لا يكادون يبينون الكوع من البوع! فيتخرج عنهم أقوام في تحليل الحرام وتحريم الحلال، والبهتان على الله بما لم يقله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما لم يصدر عنه، ويقول: أنا مجتهد، فهو مجتهد في الجهل وبالهوى، مجتهد بما لا يعود على العقول إلا بالجنون والأوهام.(49/3)
تفسير قوله تعالى: (وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام)
قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء:8].
يقول عن هؤلاء البشر الذين اختارهم أنبياء ورسلاً إنه ما جعلهم جسداً، والجسد هنا: الجنس الذي يعم الكل، أي: لم يجعلهم أجساداً وأبداناً لا يأكلون الطعام ولا يشربون، ولا يتناكحون ولا يلدون ولا يمرضون، وبالتالي: لا يموتون، وكان هذا جواباً أيضاً عن سخافات هؤلاء المشركين وما أكثر سخافاتهم قبل وبعد! وإلى عصرنا الحاضر وإلى يوم القيامة لا يزالون رجعيين في أنفسهم، يرجعون إلى الشبهة والمقولة التي كفر بها أسلافهم، وأئمة الكفر بينهم، فهم يتصورون أن الملك ينبغي أن يكون ملكاً، لا يأكل ولا يشرب، ولا يمرض ولا يموت، فأخذوا يتساءلون: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] عجبوا! واستكثروا على نبيهم أن يأكل الطعام، ويتجول في الأسواق، ويكون بشراً مثلهم في كل خصائص البشرية، بل ومن تمام النعمة أن أرسل الله للبشر أنبياء منهم؛ ليستطيعوا أن يفهموا عنهم ويعوا، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] أي: من البشر، ومن نفس العشيرة والقوم، يعلمون جنسه، وأبوته وأمومته، ونشأته وتربيته، لو لم يكن كذلك لتساءلوا كما فعلوا، لم كان بشراً ولم يكن ملكاً؟ من هو هذا؟ نحن لا نعرفه، متى كان؟ ومن أين جاء؟ قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء:8] أي: بل جعلناهم جسداً يجوع ويشبع، ويمرض ويصح، ويتزوج ويلد، فهو واحد من البشر، ولكن الله أكرمه بالعصمة وبالنبوة والرسالة: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء:8] ولم يجعلهم الله أقواماً مخلدين، لا يموتون كما يموت كل حي، لا حي إلا الحي الدائم جل جلاله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول الخلود لله، هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي لا نهاية له، ومن عداه ما هم إلا خلق كانوا عدماً فأوجدهم ربهم، وسيعودون إلى العدم، إلى أن يبعث الله يوم القيامة من يشاء من خلقه للعدل، حتى يقتص للجماء من القرناء.(49/4)
تفسير قوله تعالى: (ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم)
قال تعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء:9].
يخبر تعالى عن عباده المكرمين والرسل الطيبين أنه ابتلاهم ليزدادوا رفعة وكرامة، ولتتم البشرية بينهم وبين عشائرهم وأقوامهم، فابتلوا بهؤلاء الكفرة من أقوامهم، فجحدوهم، وكذبوهم، واتهموهم وآذوهم، ولكن العاقبة كانت لهم، فدمر الله أعداءهم، ونصرهم عليهم نصراً عزيزاً مؤزراً، والعاقبة للمتقين.
قال تعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} [الأنبياء:9] والوعد الذي صدق الله به عباده المكرمين من رسله وأتباعه: أن يجعل العاقبة والنصر لهم.
قال تعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ} [الأنبياء:9] أنجينا هؤلاء الرسل الكرام من أعدائهم، مما بيتوا لهم من ذلاقة لسانهم، ومن وقاحة قولهم، ومؤامراتهم عليهم، وقد فعلوا كل ذلك بالخاتم عليه الصلاة والسلام، فشتموه وقذفوه وأدموا القدمين، وكسروا رباعيته، ثم تآمروا على القتل والنفي والسجن، وأبى الله إلا أن ينصره ويذل عدوه، وأن يمكنه من رقابهم يوم بدر، ثم دخل فاتحاً إلى القرية التي طالما وقفت في وجهه من بين عشيرته من قريش في مكة، فكان النصر له ولمن شاء الله من أتباعه المؤمنين.
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} [الأنبياء:9] صدق رسله {فَأَنجَيْنَاهُمْ} [الأنبياء:9]، أنقذناهم من عداوة أعدائهم، وعداوة الجاحدين الكافرين ومن نشاء ممن تبعهم وآمن بهم، كما نص الله على أسمائهم في القرآن الكريم، وكان الإيمان الكامل لخاتم الأنبياء إيماناً به عبداً نبياً رسولاً، وبتصديقه في كل ما جاء به كتاباً وسنة وأمراً ونهياً، وإقراراً كذلك.
{وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء:9] والمسرف: المشرك الكافر الذي أسرف على نفسه، فلم يكتف بالجرائم والمعاصي الجزئية، بل أسرف على نفسه فكفر بالله الخالق، وكفر بصاحب الشريعة صل الله عليه وسلم، فهذا هو المسرف، وهذا الذي لا ينتظر رحمة ما لم يؤمن بالله، فيهلك على غير إيمان: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:116].(49/5)
تفسير سورة الأنبياء [10 - 22]
يرسل الله الرسل وينزل الكتب بياناً للناس، ولكن الناس يكذبون، وقد قصم الله كثيراً من القرى التي جحدت الرسالات وجعلها عبرة لمن بعدها.(50/1)
تفسير قوله تعالى: (لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم)
قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10].
كان الخطاب في الجزيرة العربية أولاً للعرب قوم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أصبح خطاباً لجميع من أكرمه الله بالإسلام والإيمان، فكانت النذارة للعشيرة الأقربين أولاً: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] ثم لكل الناس في مشارق الأرض ومغاربها، عرباً وعجماً، فقال لهؤلاء: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]، أي: فيه شرفكم وعزتكم ورفعتكم يا هؤلاء الذين حجدوا هذا القرآن الكريم أنه وحي من الله، وأنكروا أن يكون هذا الكتاب الكريم -بما فيه من قصص وعبر، وحلال وحرام، وبما فيه من إعجاز وعلوم ومعارف، ولم يؤت بمثله قبل وبعد، لا في كتاب منزل، ولا في كتاب مدون من بشر، ولن يأتي مثله أبداً، هذا الكتاب كان شرفاً وذكراً لكم، وفيه ذكر محاسن ومزاياكم، وذكركم فيما بشرتم به مهاجرين وأنصاراً، وبالتالي هو شرف لكل مسلم.
فالقرآن شرف الله به المؤمنين عرباً وعجماً، وأكرم الله به المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، أكرمهم بما وعدهم به، وبشرهم من رضا ورحمة وجنان خالدة، أكرمهم بما هداهم إليه، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، فتركوا الضلال إلى الهداية، ومع هذا كانوا أشبه بمجنون يفقأ عينيه وينحر نفسه وهو لا يدري، تركوا النور إلى الظلام، والهداية إلى الضلال، والشرف إلى الذل والهوان، هل يصنع هذا عاقل؟! ولو كان الكافر عاقلاً لما صنع هذا بنفسه: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] وبالتالي عمت الآية كل مؤمن، فقد شرفه الله، وأحسن ذكره وسيرته في هذا القرآن الكريم: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10] ألا عقل هنا؟! ألا ميزة يميز بها بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، بين النور والظلمة؟!(50/2)
تفسير قوله تعالى: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة)
ثم عاد الله جل جلاله فأنذر -وهو هكذا بين بشارة ونذارة، وبين وعد ووعيد، بين تبشير بالجنة والرحمة، وتيئيس منها لمن مات ولم يؤمن- فقال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء:11].
(قصمنا) أي: كسرنا، دمرنا، أهلكنا.
وأصل القصم الكسر.
(وكم) للتكثير.
و (من) للتعميم في هذه الكثرة، وإن كان النحاة يقولون عنها: زائدة، وفي القرآن صلة، ولكن في المعنى واللغة والبلاغة هي ذات معنى كبير، أي: تعم وتشمل ما ذكر بعدها من نفي أو إثبات، فقوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [الأنبياء:11]، أي: دمرنا وأهلكنا قرى كثيرة (كانت ظالمة)، أي: كانت مشركة صنعت مع أنبيائها ورسلها ما يصنع اليوم قريش، وما يصنعه كل كافر في عصره عليه الصلاة والسلام، ومن بعد عصره إلى يوم القيامة ممن أصر على الكفر حتى الموت.
ومعنى ذلك: التهديد والوعيد، أي: كما فعلنا ذلك بالأولين الظالمين، لا نزال كما كنا، لو شئنا لقصمناكم ودمرناكم، ولكن نمهل ولا نهمل، ونرجئكم علكم تعودون وتتوبون، وإن كانت النهاية ستكون تدميرهم وقصمهم وكسرهم إذا لم يؤمن منهم من يؤمن.
قال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء:11] أي: كما أنشأنا من بعد أولئك أقواماً وعشائر، أرسلنا كذلك لهم رسلاً مبشرين ومنذرين، ولم يحدث شيء في الأرض، لا انهدت سماء، ولا سقطت أرض، ولا بكت على ظالم مشرك لقي جزاءه وفاقاً.
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء:11] أي: بعد إهلاك هذه القرية أنشأنا أمماً وشعوباً آخرين، فورثوا أرضهم، وحلوا مساكنهم.(50/3)
تفسير قوله تعالى: (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون)
قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء:12].
يذكر الله عن هؤلاء الظالمين، الذين بادرهم بالعقوبة بالدنيا قبل الآخرة: أنهم لما شعروا بالعذاب بواسطة الحس، وبنظر العين، وسماع الأذن إذا بهم يفرون من قراهم بعد أن جعل الله عاليها سافلها، وبعد أن أغرقهم، وبعد أن ضربهم بالقوارع من السماء، وبالزلازل من الأرض.
قال تعالى: {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء:13].
يأمر الله ملائكته أن يقولوا لهم ذلك ساخرين منهم جزاءً وفاقاً لما كانوا يسخرون بأنبيائهم حالة الاطمئنان والحياة المترفة.
(لا تركضوا) أي: لا تفروا، وإلى أين الفرار؟! {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} [الأنبياء:13] وارجعوا إلى الترف الذي عشتم فيه بالحرام، والفساد، والظلم، وبالاعتداء على الأعراض والأموال، وبسفك الدماء، ارجعوا إلى هذا الترف الذي عشتم فيه.
{وَمَسَاكِنِكُمْ} [الأنبياء:13] أي: إلى قصوركم ودوركم، وما اعتدتموه من ترف وجبروت وكبرياء لعلكم تسألون، ربما سألتم عن ذلك، وربما طلب منكم بعض ذلك، ولكن هيهات! أين الفرار بعد نزول البلاء والبأس من الله؟ لا فرار منه إلا إليه، ولا منجى منه إلا إليه، ولكن في مثل هذه الساعة عند حلول النقمة، وبلوغ الروح إلى الحلقوم، لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، حلت العقوبة، وحلت لعنة الله، ولا مفر بعد ذلك من عقاب الله.
قال تعالى: {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ} [الأنبياء:13] ارجعوا للترف والقصور التي طالما تعاليتم على الناس بها، واستكبرتم وتجبرتم، ارجعوا لها إن استطعتم، وهيهات ولات حين مندم! ولات حين عودة ورجوع.
(لعلكم تسألون) أي: عن ذلك، ولعلكم تعودون لما طلب منكم، ولكن هيهات! الوقت كالسيف إذا لم تقطعه قطعك.(50/4)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين)
قال تعالى يصف لنا حالتهم في صورة تشخيصية، تمثيلية، وكأننا نراها رأي العين، وهم يركضون فارين، والبأس والعذاب يحيط بهم من كل جانب، وهم يقولون: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:14].
قالوا وصاحوا: يا ويلهم، يا بلاءهم.
(ويل): واد في جهنم فيه قيح أهل النار وصديدهم، فهم ينادون قذرهم، وينادون ما عاقبهم الله به ولعنهم به: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:14].
قال تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:15].
وهم تحت البأس والنقمة والعذاب والصواعق والزلازل والغارات عوضاً عن أن يعودوا فيقولون: لا إله إلا الله، وهم يقولون: يا ويلهم! يا ويلهم! يا ويلهم! {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:14].
{فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} [الأنبياء:15] أي: ما زالت تلك الكلمة نداءهم وقولتهم التي يقولونها (حتى جعلناهم حصيداً خامدين)، إلى أن استحصدوا واستؤصلوا كما يحصد المنجل الزرع، (خامدين) أي: ميتين هالكين، عاشوا في الويل، وماتوا وهم ينادون بالويل، وحلت عليهم اللعنة والبأس، لعنة الله وغضبه، فالله ينذرنا بهذا، ويقص علينا قصص من سبقنا من المشركين والظالمين، ويحذر من لم يؤمن به، وفعل فعلهم، وأصر إصرارهم على الكفر والشرك والظلم.
قال تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:15 - 16].
يقول تعالى عن هؤلاء ولمن سمع ذكرهم بعد: هؤلاء قد حلت عليهم اللعنة، وبأس الله وعقوبته، ومع ذلك لم يهتدوا للتوبة؛ ولم يقولوا في أخريات أيامهم: لا إله إلا الله، ربنا إننا تبنا وأنبنا، بل أخذوا يضرعون وينادون: يا ويلهم! يا ويلهم! إنهم كانوا ظالمين، فما زالت تلك دعواهم، ونداءهم، وكلمتهم، والبلاء والعقوبة محيطة بهم من كل جانب إلى أن جعل الله عاليهم سافلهم، وهم ينادون بالويل إلى أن استحصدوا كما يحصد الزرع، وإلى أن خمدوا وانطفئوا كما تطفأ النار، وماتوا وهلكوا.(50/5)
تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين)
قال ربنا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16].
أي: يظنون أننا خلقنا هذه السموات العلى، وهذه الأرضين السفلى وما بينهما لعباً ولهواً؟ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
وهؤلاء أرادوا أن يزيلوا الحكمة من الخلق، ويعتبروننا لاعبين بهذا الخلق لاهين، وهيهات هيهات ما أصغر عقولهم! وأبعدها عن الوعي والحكمة، فليس الأمر كذلك.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16]، لم يكن ذلك لعباً، ومعاذ الله! لم يخلق سماءً ولا أرضاً وما بين السماء والأرض من الأفلاك والمجرات مما لا يعلم حقيقته ويحصيه إلا الله، لم يخلق ذلك عبثاً، وبعد ذلك النار لأهل النار من الجاحدين والظالمين، والجنة لأهل الجنة من المؤمنين الصادقين.(50/6)
تفسير قوله تعالى: (لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه)
قال تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17].
(لو أردنا) لو: حرف امتناع لامتناع، امتنع أن نريد، فامتنع أن يكون لهواً.
وقالوا عن اللهو: هي المرأة، وقيل: الولد، واللهو يسمى اللعب في الماضي أي: اعملوا كل ما فيه معنى اللهو، امرأة كان أو ولداً أو عبثاً بلا علة ولا سبب، كما يفعل هؤلاء، حيث إنهم عاثوا في الأرض ليأكلوا ويشربوا ويظلموا وظنوا أنهم جاءوا بلا معنى، وسيخرجون بلا معنى، وهيهات هيهات! {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء:17].
ومن هنا فسروا (اللهو) بالمرأة؛ لأنهم جعلوا لله امرأة بقيت معهم في الأرض، وجعلوها زوجة لله في زعمهم، فقالوا: مريم هي زوجة وصاحبة لله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فاتخذوا لله ولداً من الأرض وهو عيسى، وقالوا: الجن بنات الله، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً! وشأن الصاحبة والولد أن يكونا مع الإنسان، فنفى الله عن نفسه ذلك، ولا يليق بربوبيته ذلك، ولو شاء لاتخذ ذلك من عنده في السماوات العلى، ولكن ذلك لا يليق بألوهيته ولا بربوبيته، ولم يكن ذلك أبداً: إن صح هذا في المخلوق الحادث، فلا معنى له بالنسبة للإله الخالق الرب جل جلاله وعز مقامه، فهو لهو ولعب.
قال تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17].
(إن) هنا بمعنى: ما النافية، أي: لسنا بفاعلين، وقالوا (إن) بمعناها الشرطي: لو أردنا لفعلنا، والله لم يرد، وبالتالي لم يفعل، والمؤدى واحد، فهو منزه عن النقائص على كل حال، له الجلال والكمال جل جلاله، وعلا مقامه.(50/7)
تفسير قوله تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه)
قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء:18].
(بل) كلمة إضراب في لغة العرب، أي: اضربوا عن كل ما قيل منذ نقل الله وحكى قول الكافرين عن النبي عليه الصلاة والسلام: كيف يكون نبياً وهو بشر؟! ثم أخذوا يتهافتون ويسقط بعض على بعض بالهراء والصخب: إذا لم يكن نبياً فما هو؟ قالوا: رؤى ومنامات وخرافات، ثم قالوا: (افتراه) ثم قالوا بعد ذلك: بل هو شاعر.
ثم ذهبوا في ظلمهم وعتوهم إلى أن بلغوا الذات العلية، ونسبوا له الولد، والصاحبة، فأنذر الله وأوعد، ثم أضرب عن كل ذلك، قال: (بل) أي: هذا كله اضربو عنه؛ فهو هراء في هراء، وما وعدناه هو أن نكشف حقائقهم لمن لم يعلم بعد، ولمن عاصر النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة، ولمن يأتي بعده: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].
والحق: الله حق، ووعده الحق، وكتابه الحق، ونبيه حق، وما جاء من بعثته ومن جنة ومن نار، ومن حساب ومن عقاب، كل ذلك حق لا يشك فيه مسلم، والله يقذف بالحق على الباطل ويدمره.
وما الباطل إلا كل ما جاء به هؤلاء الظلمة المشركون مما لم ينزل الله به من سلطان، ومما جعلوه على النبي عليه الصلاة والسلام كذباً وباطلاً وبهتاناً، ومما جعلوه على الذات العلية جهلاً بألوهيته وبوحدانيته، فالله يقذف بالحق، والحق هنا: الدليل والبرهان القاطع من كتاب الله، ومن سنة الرسول الله عليه الصلاة والسلام.
(بل نقذف) بل نرمي ونطرح، نضرب بالحق الباطل، وكل ما ليس في كتاب الله ولم يأتِ في حديث رسول الله، ولم تقره العقول السليمة فهو باطل وهراء، لا ظل له من حقيقة، ولا واقع له من أمر.
(فيدمغه) أصل الدمغ: الضرب حتى تصل الضربة إلى الدماغ، فتكون مهلكة وقاضية، وهكذا يقول الله في كتابه، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء:18] فيهلكه ويصيب منه الدماغ؛ فيهلكه ويدمره إلى أن يذهب وكأنه لم يكن، ولم يبقَ إلا ذكراً في صحائف، وقصصاً تتلى وتقص في ليالي السمر.
ثم عاد فأنذرهم وتوعدهم بأن لهم الويل، أي: لهم جنهم، وويل: وادٍ في جنهم يجري فيه صديد ودماء المعذبين من أهل النار! (مما تصفون) مما تنعتون به أنبياءكم، وربكم الواحد جل جلاله، وعلت رفعته.(50/8)
تفسير قوله تعالى: (وله من في السماوات والأرض)
قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنبياء:19].
أي: يا هؤلاء! الذين ظلموا أنفسهم قبل أن يظلموا غيرهم، والذين جعلتم لله شركاء، وتصورتم الله تصوركم لأنفسكم، فجعلتم له صاحبة وولداً: إن الله له من في السماوات ومن في الأرض خلقاً وتدبيراً ولم يكن المملوك يوماً شريكاً، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، فلسنا إلا عبيداً، فإن أكرمنا بالعبودية فسنكون من قادة الناس بتحقيق تلك العبودية.
فلا صاحبة ولا ولد ولا شريك له، وما كان له من أنبياء مكرمين صادقين فكلهم معصومون، لم يأتوا إلا بالحق، ولم ينطقوا إلا بالحق، أتوا بالآيات البينات المعجزات من الله جل جلاله علامة وأمارة لصدقهم قولاً، ولصدقهم فعلاً، ولصدقهم إقراراً.
{وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19].
أي: ومن عنده من الملائكة في عليين، وفي الملأ الأعلى، هؤلاء الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولا يستنكفون عن عبادة الله كما يستنكف بعض الإنس والجن.
{وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19] لا يكلون ولا يملون ولا يتعبون، هم في عبادة دائماً صباح مساء، ليل نهار، قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح: (أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: لا، يا رسول الله لا نسمع، قال: أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد).
وهؤلاء يعبدون الله في كل أحوالهم، عبادتهم بالنسبة لهم كالنفس بالنسبة لنا، كما أننا لا نستطيع العيش بلا نفس، فكذلك الملك يعيش بالذكر، وبالتسبيح، والسجود، والركوع، وبتعظيم ربه، كل يذكر الله بما ألهمه، وكل يعبد الله بما ألهمه، فمن قائم وراكع وساجد، يقولون: لا إله إلا الله، بمختلف خلايا جسومهم وأبدانهم، لا يكلون ولا يملون ولا يستكبرون ولا يستحسرون، لا يتعبون.
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنبياء:19].
(من) في لغة العرب تطلق على العاقل وحده، و (ما) تطلق على غير العاقل وحده، تقول: جاء الرجل من كان عندنا بالأمس، وتقول: اشتريت دابة مما كان عندي نظيرها بالأمس، يقال: (ما) ولكن (من) قد تشترك مع العاقل ومع غير العاقل، كما أن (ما) كذلك.
(لا يستحسرون) أي: لا يملون ولا يكلون، وأصل الحسر: الدابة إذا تعبت حسر بعض جلدها؛ نتيجة التعب وما تحمل، فأطلقت الكلمة على الكلل والملل في نجمها، فهؤلاء لا يكلون ولا يملون، {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، أي: بلا فترة ولا راحة، ولا زمن يهدءون فيه وقتاً، ويعودون إلى العبادة وقتاً، فالعبادة مستمرة دائمة، عبادتهم دائمة كالنفس لنا، كما أننا لا نعيش بلا نفس، لا يعيشون بلا عبادة، يسبحون الليل والنهار لا يفترون.(50/9)
تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا آلهة من الأرض)
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} [الأنبياء:21].
يقول الله تعالى لهؤلاء وهو يسأل سؤال تقريع وتوبيخ، أهؤلاء الذين أشركوا بالله ونسبوا له ما نسبوه، أهؤلاء الذين اتخذوهم شركاء لله من الأرض: (هُمْ يُنشِرُونَ)، أي: يحيون الموتى، حتى يصبحوا منتشرين في الأرض أحياء يرزقون، متنقلين من سطح إلى سطح، ومن أرض إلى أرض، هل هم فعلوا ذلك؟ هل هذه الآلهة التي عبدوها من الأرض من الجن والإنس والحيوان والجماد، وتركوا خالق الأرض والسماء: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؛ هل هؤلاء الذين عبدوهم يحيون الموتى كما يحي الله؟ هل يرزقون كما يرزق الله؟ والجواب قائم في نفس الانتفاء: لا يحيون ولا يضرون ولا ينفعون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.(50/10)
تفسير قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)
قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22].
فهذه أعظم آية قاطعة لدلالة العقل: على أن الله واحد، وعلى أن الله لا شريك له، وعلى أن الله لا ثاني له، لا في ذات، ولا في وصف، ولا في فعل.
(لو كان فيهما) في السماء والأرض آلهة متعددة.
(لفسدتا): أي السماء والأرض.
ولعلا بعضهم على بعض فصار هذا آمراً وهذا ناهياً، فإذا التقى الأمران وكانا متناقضين وقع الفساد والدمار والخراب، وبما أن الأرض لم تفسد والسماء لم تفسد، والنظام الكوني الذي خلق الله به الدنيا منذ خلقها لا يزال ليلاً نهاراً كما هو، ولا زالت الأرض ببشرها بإنسها وجنها، بملكها بكل ما عليها من حي في نظام متكامل، الليل النهار يدخل هذا في هذا، ويغشى هذا هذا، ويكون النهار تارة أطول، ويكون الليل تارة أطول، بين شمس وقمر، وبين فصول العام الأربعة، شتاءً وخريفاً صيفاً وربيعاً، كل ذلك منذ خلق الله الكون لم يتزحزح أنملة، ولم ينقض ثانية، من الذي دبر هذا؟ لو كانوا آلهة لعلا بعضهم على بعض، ولطلب أحدهم ما يحدث من ملوك الأرض ودولها، فنحن نرى هؤلاء يعلو بعضهم على بعض، وتسفك الدماء، وتقوم الحروب، ويجوع البشر، ويكثر الفساد، وتدمر المدن، وينتشر الظلم ويحدث ويحدث.
ولله المثل الأعلى: لو كان معه رب ثان، وخالق ثان، لطلب أحدهم الدنو على الآخر، ولطلب هذا الحياة وهذا الموت، وهذا البناء وهذا الهدم، وهذا القيام وهذا القعود، ولو كان ذلك كذلك لتدهور العالم، ولما بقي هناك نظام، والذي نراه خلاف ذلك.
والذي نراه ورآه آباؤنا وقبلهم أجدادنا: أن الكون قائم على نظام بسيط، لا يزيد ولا ينقص، لا يزيد ثانية ولا يغير خلق البشر، ولا خلق الحيوان إلى ما نعلمه جميعاً، دارسنا وغير دارسنا، مؤمننا وكافرنا، عالمنا وجاهلنا، هل هذا إلا الدليل العقلي القاطع الذي لا ينكره إلا مجنون، فقد العقل قبل أن يفقد الإيمان.
أما السماء والأرض لو كانت فيهما آلهة غير الله لفسدتا، ولاختل نظامهما، ولما بقي هناك نظام في سماء ولا أرض، فبما أن هذا لم يكن كذلك فهو الدليل القاطع العقلي على أن الله واحد ليس معه شريك، ولا صاحب، ولا محيي، ولا مطاع.
وحتى ما يقوله اليهود والنصارى في عزير أو مريم وعيسى يقولون: هم ثلاثة في واحد، وواحد في ثلاثة يقولون: الأب الأكبر: روح القدس، ثم الابن، ثم الصاحبة، وهم في ذلك يزعمون بخزعبلات لا تقبلها إلا عقولهم، بلاء وإفك وعناد دون فهم ولا وعي ولا تعقل، يقولون: خلق الولد، وخلق الصاحبة، ثم اتخذها صاحبة، واتخذ منها ولداً.
قال تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22] يسبح الله نفسه، ويعلمنا كيف نسبحه، وينزه نفسه عن هذا الباطل الذي افتراه، الجاحدون، واخترعه الكاذبون، ولا منطق لهم من عقولهم سليمة، ولا دليل عليه من كتب سابقة، ولا رسل مضت، إن هي إلا أكاذيب وأضاليل، أصروا على الكفر تلاعباً بأنفسهم، وتلاعباً بدينهم، وتحريفاً وتبديلاً وتغييراً في كتب الله، وفي آيات الله السابقة، فسبحان الله رب العرش.(50/11)
تفسير سورة الأنبياء [22 - 29]
الله تعالى فاطر السماوات والأرض وباريهما، وهو الإله المستحق للعبادة وحده، ولو كان فيهما آلهة إلا الله كما زعم الكافرون لفسدتا، فهو الواحد الأحد الذي أرسل جميع الرسل بكلمة التوحيد.(51/1)
تفسير قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)
قال الله جلت قدرته: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22].
يقول الله تعالى لهؤلاء المتخذين إلهاً معه، الظالمين لأنفسهم بالكفر والشرك: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا} [الأنبياء:22] أي: السماوات والأرض {آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، إذاً: لعلا بعضهم على بعض، ولخالف بعضهم بعضاً، فكان ذلك سبباً لخراب السماء والأرض، وبما أن الخراب غير قائم، ونظام الكون على غاية ما يكون من الدقة ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءاً ربيعاً وخريفاً، فهذا دليل قاطع على أن خالق هذا الكون واحد، وعلى أن مدبر هذا الكون واحد، فهذا دليل قطعي عقلي على الوحدانية لا ينفيه إلا مجنون أو معاند جاحد.
ثم ينزه الله جل جلاله نفسه عن أن يكون له شريك في الملك ذاتاً أو صفة ويعلمنا كيف ننزهه ونعظمه، قال تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22].
(سبحان الله): تعالى وتنزه وتقدس.
(رب العرش) المنفرد بالربوبية للعرش والخلق تعالى وتقدس عما ينعته ويصفه به الظالمون المشركون.(51/2)
تفسير قوله تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)
ثم قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
والله جل جلاله لا يسأل: لِم خلقت زيداً صغيراً، وأخذته كبيراً؟ لِمَ أخذت عمراً صغيراً وتركت غيره؟ لِمَ أفقرت؟ لِمَ أغنيت؟ لِم ملكت؟ ذاك أمر الله، وتلك إرادة الله، لا يسأل جل جلاله عن فعله وعمله، فهو الخالق المدبر الرازق، يصنع ما يشاء كيف يشاء، ولا يسأل عما يفعل، ونحن الذين نسأل، من ربنا؟ من نبينا؟ ما ديننا؟ هل قمنا بكل ذلك؟ نحن الذين نسأل من الله جل جلاله، ومن ملائكة القبر، وملائكة الحساب، وملائكة العرض على الله، عندما يدخل الميت قبره فيسأل: من ربك؟ من نبيك؟ فنسأل عن كل جليلة وصغيرة، وعن كل عمل قدمناه، تلك صفة المخلوق، والأولى صفة الخالق، هو الذي لا يسأل عما يفعل.
وهذا لا يمنع المؤمن أن يسأل عن الحكمة في الأشياء والخلق، أما لِمَ؟ فلا يسأل هذا مسلم، وإذا سأله الكافر فذاك من عناده وإصراره على الكفر والجحود.(51/3)
تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا من دونه آلهة)
ثم عاب الله فقال موبخاً ومقرعاً من اتخذ معه غيره: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الأنبياء:24].
وهذا استفهام تقريعي توبيخي أي: أمع كل ما علمتم ودريتم أنا ما تشركون من دون الله لا يضر ولا ينفع، لا يسمع ولا يعقل، فأنتم لفساد عقولكم، ولكفركم وجحودكم تتخذون ما لا يضر ولا ينفع إلهاً وشريكاً مع النافع والضار، مع الخالق والرازق المدبر، جل جلاله وتوحد سلطانه.
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الأنبياء:24] أم اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونهم، ويشركونهم في عبادتهم لله، هذا الذي صنعوه أعندهم عليه دليل أم سلطان من الله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الأنبياء:24]، قل يا محمد لهؤلاء المشركين الجاحدين: هل لكم من الله برهان ودين من كتاب سماوي سابق، أو من نبي مرسل أو من دليل عقلي: أن لله جل جلاله شريكاً في ملكه تعالى الله عما يقول الظالمون؟ لا نشهد شهادة الباطل، بل نشهد أن الله واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، وهو الخالق الرازق المدبر.
((هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ)) هذا القرآن كتاب الله، هذا الكتاب المسمى الذكر لتذكير الخلق بالله، ولتذكير الخلق برسول الله عبداً نبياً، وبأن يفكروا ويتدبروا ويعوا ويعقلوا، من خالق السماوات؟ من خالق الأرض؟ من الرازق؟ من المحيي من المميت؟ (هذا ذكر من معي) هذا القرآن كتاب الله، الذي أرسلت به إليكم أيها الناس، مشارق ومغارب، عرباً وعجماً، ذكر من معي من الخلق ممن آمن بي، وآمن معي، وتبع ما أرسلت به، وعمل بما فيه حلالاً وحراماً وعقائد: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} [الأنبياء:24] هذه الكتب السماوية السابقة التي ذكر بها الأولون في كتب الله المنزلة على إبراهيم، وعلى داود وعلى موسى وعيسى.
انظروا هل تجدون في هذه الكتب: المنزلة عليّ ليتذكر من معي، والمنزلة على من قبلي ليتذكر من معهم، هل فيها أن لله شريكاً؟ هل فيها أن لله معيناً؟ أليس فيها أن الله واحد لا شريك له؟ إذاً: هؤلاء من النصارى واليهود، ومن المجوس والملاحدة والمعطلة، هذا الذي يشركوه مع الله من ملائكة ومن جن، ومن بشر ومن أحجار وأخشاب وأصنام ما برهانهم على ذلك؟ أين الكتاب المنزل على أنبيائهم بذلك؟ ألا يستحيون أن يفتروا على الله كذباً؟ ألا يخجلون من أنفسهم؟ ألا يخجلون يوم العرض على الله عندما يأتون مشركين كافرين، ظالمين لأنفسهم؟ {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} [الأنبياء:24] الله تعالى بعد أن أمر ووعظ أضرب عن ثابت، فـ (بل) حرف إضراب يضرب بها عما قبلها، فهؤلاء معاندون جاحدون، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:24] أكثر الذين كفروا وأشركوا وعطلوا وألحدوا، هؤلاء لا يعلمون الحق، ولا يتمسكون إلا بباطل وهراء وغثاء، وزيف من القول لا دليل عليه عقلاً، ولا سمعاً، وإنما هي مفتريات ومخترعات أوحى لهم بها الشيطان، واستمسكوا بها استمساكاً ببغاوياً فآمنوا بشيء لا يعونه ولا يفهمونه، وإنما هو كفر وشرك تقليدي، فهم معرضون عن معرفة الحق، وعن الإيمان بالله وبرسل الله، معرضون عن الكتب السماوية السابقة واللاحقة، معرضون عن الإيمان برسول الله وما جاء به من حق ونور وكتاب مبين.(51/4)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)
قال تعالى: وفي فضل نبينا عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
ليست هذه الرسالة التي كلفت بها بدعاً من الرسل، ولم تأتِ وحدك بين الأنبياء والرسل تدعو إلى عبادة الله وحده، وإلى توحيد الله، وأنه لا شريك له، ولا معين ولا مساعد، بل انفرد بالخلق، وبإيجاد الحق، لا يحتاج أحداً بل الكل محتاج إليه.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} [الأنبياء:25] (من) لتعريف النكرة، أي: جميع الرسل المرسلة قبلك يا محمد.
لم نوحِ إليهم إلا أن الله واحد: {إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] لم يوحَ لرسول قبلك، ولم نرسله إلى بشر إلا ليوحدوا الله، فلا ثاني معه، هو الله المتفرد بالخلق والزرق والإيجاد، المدبر للخلائق، المحيي المميت، بيده كل شيء، وهو على كل شيء قدير، فجميع الرسالات السابقة التي أتى بها أبونا آدم ومن بعده من إدريس ونوح وإبراهيم أبي الأنبياء ومن سلالة إسماعيل وإسحاق إلى آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى، وإلى آخر الأنبياء والرسل جميعاً سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كل هؤلاء ما أرسلوا وما أوحي إليهم إلا بعبادة الله وحده، وبالدعوة له، بلا شريك ولا معين، وكل ما زعمه اليهود من عبادة عزير وأنه من أبناء الله، وكل ما زعمه النصارى من عبادة مريم وعيسى، كل ذلك هراء وافتراء، وكذب على الله، وكذب على رسله.
لم يرسل الله أحداً من رسله منذ الأول إلى الأخير إلا بأن الله واحد، وبعبادة الله وترك ما سواه من الأوثان والأصنام والشركاء، سواء كانوا ملائكة أو جناً أو بشراً، أو كانوا غير ذلك من أي شيء اخترعه المشرك: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].(51/5)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً)
وقالوا: مع كل ذلك: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26].
وقال المشركون الكفرة: اتخذ الله الملائكة بنات وشركاء له، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً! {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] كان ذلك في قبائل خزاعة في الجزيرة، وكان ذلك في شعوب وأمم سابقة ممن ابتلاهم الله بعبادة الملائكة، بفهمهم أن الملائكة بنات الله، وأنه ولدهم، تعالى الله عن كل ذلك علو كبيراً! فقال الله مبيناً حقيقتهم {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] أي: بل هؤلاء الملائكة الذين يُعبدون هم عباد لله، أكرمهم الله بالعصمة، وأكرمهم بالعبادة الدائمة التي لا يفترون فيها ولا يستحسرون، ولا يملون ولا يكلون ولا يتعبون.
وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء -صوتت- وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد، يدعو الله: سبوح قدوس، رب الملائكة والروح، يقولون: لا إله إلا الله).
وعبادتهم الدائمة هي كالنفس لنا، كما أننا لا نعيش بلا نفس، كذلك هؤلاء لا يعيشون بلا ذكر ولا عبادة، نطقاً باللسان وعملاً بالأركان.(51/6)
تفسير قوله تعالى: (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون)
قال تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27].
يقول عن هؤلاء الملائكة الذين اتخذوا شركاء لله وأولاداً فيما زعم هؤلاء الأفاكون: إنهم لا يسبقون الله بالقول، ولا يفعلون إلا ما أمروا، فلا يعصون الله قولاً، ولا يعصونه عملاً، بل هم: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26]، {لا يَسْبِقُونَهُ} [الأنبياء:27] أي: لا يسبقون الله: {بِالْقَوْلِ} [الأنبياء:27] ولا يسبقونه بالعمل {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27].
فهم بأمر الله يعملون، فمنهم ملائكة الموت، ومنهم ملائكة المطر، ومنهم ملائكة الرزق، ومنهم ملائكة النار، ومنهم ملائكة الجنة، ومنهم ملائكة التكوين، كل أولئك لا يقولون إلا ما أمرهم الله بقوله، ولا يعملون إلا ما أمرهم الله بعمله، فهم عباد لله مخلوقون له، تحت القهر والمشيئة.
فالله منفرد بالقدرة وبالوحدانية والألوهية، وكل ما عداه مما علا أو سفل في السماوات والأرض إلا عباد لله تحت سلطانه وقهره: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27].(51/7)
تفسير قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)
قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28].
الله جل جلاله أكرمهم بالعصمة وبالعبادة الدائمة وهو تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الأنبياء:28] فيعلم ما يستقبل من عملهم، وما يستقبل من قولهم، كما يعلم أعمالهم التي أصبحت خلفهم، فيعلم ماضيهم وحاضرهم، ويعلم مستقبلهم، وكل ذلك بأمره قولاً وعملاً، لا يقولون إلا ما يقال لهم، ولا يعملون إلا ما أمروا بعمله، علم أعمالهم السابقة واللاحقة عند الله خالقهم وآمرهم وإلههم: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]، وهم مع ذلك من خشيتهم لربهم، وخوفهم من ربهم، مشفقون على أنفسهم ألا ينالوا رضاه ورحمته ألا يرضى عنهم وأن يعذبوا بما لا يكاد يخطر لهم في بالهم من قول أو عمل، فهم العباد الذين لا يأمنون مكر الله على كرامتهم وعصمتهم؛ ولذلك تجدهم كالبشر والجن يعبدون الله خوفاً وطمعاً، مشفقين وخائفين على أنفسهم من أن يمكر بهم، ومن أن يقال لهم يوماً: ادخلوا النار مع الداخلين.(51/8)
تفسير قوله تعالى: (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم)
قال تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29].
وهذا وجه الإشفاق والخشية من الملائكة على أنفسهم من أن يصدر عنهم شيء يعذبون من أجله.
{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء:29] من يزعم من الملائكة أنه إله لتعبدوه، فإنا نجزيه ونعاقبه بالدخول إلى النار والخلود فيها، وهذا شرط، والشرط لا يلزم وقوعه، ولكن هذا جواب لمن زعم أن الملائكة بنات لله، وشركاء له، والله يقول عن هؤلاء: لو أنهم فكروا يوماً أن يكونوا آلهة، وأن يدعوا ذلك لذهبت الكرامة والعصمة، ولعوقبوا بالنار والخلود فيها، ولكن (إن) الشرطية لا يلزم وقوع جوابها، أي: فهم لا يفعلون، فلا يدَّعون ذلك، ولا يعملون ما يدعو إلى ذلك؛ تكريماً من الله لهم، وحرصاً منهم على العمل دواماً واستمراراً في عبادة الله قولاً وعملاً، وهذه كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65].
الخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهي (إن) شرطية، ولا يلزم منها الوقوع، فالنبي لا يشرك، وحاشاه من ذلك، والنبي معصوم، والعصمة تمنع الذنب فضلاً عن الشرك، ولكن هذا يقال من الله تخويفاً لخلقه، إذا كان الأنبياء والرسل على كرامة على الله، وإذا كانت الملائكة وهم العباد المكرمون إن فعلوا فعلكم، وأشركوا شرككم لا يفلتون من النقمة، ولا يفلتون من النار والعذاب، فكيف بكم ولستم بالمعصومين: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:29]، أي: نعاقبه بجنهم: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29].
(كذلك) كما نجزي من ادعى الألوهية، وقال: هو إله مع الله، أو إله من دون الله، كما نجزي من زعم ذلك، وادعاه في جنهم والخلود فيها: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29] أي: المشركين الذين زعموا لغيرهم الألوهية، أو زعموها لأنفسهم، كل أولئك مشركون وكافرون، كل أولئك لا يفلتون من عذاب الله ونقمته، والخلود في النار أبداً سرمداً.(51/9)
تفسير سورة الأنبياء [30 - 35]
يذكر الله تعالى حقيقة علمية اكتشفها العلم في العصر الحاضر، وهي أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففصلهما وجعل من الماء كل شيء حي، ثم يذكر كيف جعل السماء سقفاً والأرض مهداً وثبتها بالجبال الرواسي وأنه كتب الموت على كل مخلوق ولكنه سبحانه يبلونا بالشر والخير فتنة.(52/1)
تفسير قوله تعالى: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30].
هذه الآية من المعجزات التي لم يظهر إعجازها، ولم تظهر دلالتها على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم إلا في عصرنا هذا، وكثيراً ما قلت وأقول: في مجالس العلم في الحرمين الشريفين، وفي مقاعد الجامعات، وللطلاب والمريدين: إن للقرآن والسنة معجزات أدركها الصحابة رضوان الله عليهم وآمنوا بها شهوداً، ومعجزات ذكرت أنها ستكون بعدهم فآمنوا بها تصديقاً.
ونحن نزعم ذلك أيضاً لأنفسنا، وقد جئنا بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة عشر قرناً، وإنما شاهدنا في حياتنا وفي أيامنا مما جاء به القرآن والسنة معجزات شاهدناها وعاصرناها فوجدناها كما قالها القرآن الكريم، وكما نطق بها النبي المفسر لما أنزل عليه صلوات الله وسلامه عليه، فهذه منها، ومن تمام الإعجاز أن الخطاب كان للكافرين.
قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:30] استفهام تقريري، أي: أولم ينظروا ويطلعوا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً، أي: كانتا قطعة واحدة، وطبقة واحدة.
(ففتقناهما): ففصلناهما، وفرقنا السماوات عن الأرض، وجعلنا السماوات سبعاً متفرقة، والأرضين كذلك، وما بين كل أرض وأرض وسماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، ولا ندري هذه الخمسمائة عام يكون أيامها يوم القيامة الذي هو كألف سنة مما تعدون، أو من نوع الخمسين ألف سنة الذي يعرج فيه إلى الله؟! كل ذلك ممكن ولا نعلم حقيقته، وقد يكون من أيام الدنيا.
وقد تبارى الكفار في عصرنا من كل ملة ليصلوا إلى القمر، وزعموا أنهم يريدون أن يعلموا ما هي طبيعة القمر؟ وما تكوينه؟ وكيف حجارته؟ وكيف ترابه؟ وهل هو من نوع الأرض أو من طينة أخرى أو من عنصر آخر؟ بذلوا الملايين مما لو وزع على الخلق لما بقي جائع في الأرض.
وكان بعضهم قد وصلوا إليه وأنزلوا منه حجارة وتراباً، وحللوه، وإذا به كما أخبر تعالى، وجدوا أن التراب نفس التراب، والحجر نفس الحجر، الكل من طينة واحدة، ومن عنصر واحد، وكما أخبر تعالى أن الأرض والسماء كانتا قطعة واحدة، ومن عنصر واحد، وحجر واحد، ورمل واحد، وتراب واحد، وبعد هذا جاروا وداروا، وغيروا وبدلوا، وتلاعبوا وأسرفوا، وأتوا إلى ما قاله لنا جل جلاله منذُ ألف وأربعمائة سنة.
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء:30] كانتا ملتصقتين، متصلتين لا يفرق بينهما شيء.
(ففتقناهما): ففصل الله السماء عن الأرض، والأرض عن السماء، وجعل السماء سبعاً، والأرض سبعاً، وفتق كل جزء عن جزئه، وكان الكل من طينة واحدة وعنصر واحد.
قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30] لا تكون حياة لما في الوجود من إنسان أو جن أو حيوان أو طائر أو حشرات أو نبات إلا بالماء، ينزل الماء جل جلاله فتحيا هذه الخلائق.
وقد يكون المعنى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] أي: ماء المني، فمنه يتكون الإنسان، ومنه تكون الجن، ومنه تكون الطير، ولكن المعنى الأول أشمل، فيدخل معه النبات، ويدخل معه أنواع الشجر ولا مني وإن كان هناك ذكورة وأنوثة، والله قد قال لنا: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] تلقحت وتزواجت واتصلت، وكثير من الأشجار إن لم تلقح بنوعها من الذكور لا تثمر كما في النخيل، وهذا يعلمه كل من رآه ومارسه وأشرف عليه أو اطلع عليه.
{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30] أي: هؤلاء الكفار الذين رءوا هذا رؤيا العين، وسماع الأذن، وإحساس البشرة، وأشرفوا عليه واطلعوا عليه، وعلموا بيقين: أفلا يؤمنون؟ ألا يكفيهم ذلك دلالة؟ ألا يكفيهم ذلك قدرة؟ ألا يكفيهم ذلك معجزة فيؤمنوا بأن خالق هذا هو الله، وأن الله خلق ذلك وحده بلا شريك من ولد، أو صاحبة أو معين، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً؟!(52/2)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31].
يريد الله لنا أن نتدبر ونتذكر خلق السماء والأرض، فقال لنا: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:31] أي: كي لا تضطرب ولا تميل، ولا تزعج من عليها.
{وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} [الأنبياء:31] أي: جبالاً ثوابت، ترسي الأرض لكي لا تميل، وهي محمولة على الماء، ثلاثة أرباع الأرض هو ماء، والربع الرابع هو الأرض؛ ولذلك أينما حفرنا لا نجد ماءً وقد نحفر ألف متر ولا نجد الماء.
{وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} [الأنبياء:31] أي: ثوابت راسخات: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:31] كي لا تميل وتضطرب، أي: كي لا تميل الأرض وتضطرب بمن عليها، فلو لم يكن فيها هذه الجبال الرواسي المثبتة لمالت، كما لو وضعنا سفينة على الماء، ولم نجعل لها رواسي من جوانبها لمالت وانقلبت بركابها، وغرقوا وهلكوا، فكذلك الأرض.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31] أي: خرقنا فيها فجاجاً، وهو جمع فج، وهو الطريق بين الجبلين سبلاً: سابلاً، سالكاً، يوصل الإنسان في الأرض بما يريد من أقاليم وأقطار، ومن جهات في مشرق أو مغرب أو جنوب أو شمال، لم يفعل هذه الرواسي حاجزاً عن أن يسير الإنسان في هذا الكون، وفي هذه الأرض كما يشاء لطلب مصالحه من تجارة أو طلب للعلم، أو تدبير للأمر، أو حكم للرعايا، أو ما إلى ذلك مما يحتاج إليه الإنسان الحي على وجه الأرض.
يلفت الله نظرنا لنفكر مع أنفسنا ساعة: من الذي خلق الأرض؟ من الذي خلق السماء؟ من الذي فتقهما وفصلهما عن بعضهما؟ من الذي خلق الجبال وما حكمة خلقها؟ من الذي شق فيها هذه الطرق الواسعة، والفجاج العميقة؟ من الذي جعلها سابلة وسالكة من المشارق والمغارب ومن الشمال ومن الجنوب؟ لو فكرنا قليلاً فسنجد أنفسنا نقول: الله الخالق، الله المدبر، الله الرازق، الله القائم بكل هذا والخالق له، والمدبر له.
((وَجَعَلْنَا فِيهَا)) أي: في الأرض {فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31]، أي: يهتدون إلى الطرق إلى الفجاج إلى السير إلى الرحلة إلى المصالح إلى ما يريدون، عندما يضربون في الأرض طلباً للعلم أو سياحة أو أي شيء يريدون.(52/3)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32].
جعل السماء بالنسبة للأرض كالسقف للبيت والغرفة، وحفظه عن أن يسقط، ولو سقط على من في الأرض لدمرهم، ولأهلكهم وسحقهم؛ ولذلك لفت نظرنا إلى السماء كيف رفعها بغير عمد نراها بأعيننا، ومن لم يكن يبصر فسيراها ببصيرته، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32] أي: محفوظاً عن السقوط إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إلى أن تقوم الساعة إلى أن يزول كل ذلك إلى إن يدمر، ولا يبقى في الكون أحد إلا الله، كان ولا شيء معه، وسيبقى ولا شيء معه كما كان، ويصبح الكل كالعهن المنفوش، وكالقطن المتطاير.
قوله: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32] أي: وهؤلاء الكفار، بل أكثر الخلق عن آيات الله وقدرته في سمائه وأرضه، وفي خلقه وتدبيره معرضون، لا يعون ولا يفكرون فيه، ولا يتخذونه برهاناً على وحدانية الله وقدرته وانفراده بالخلق، والوحدانية، والتدبير والرزق، وهو الحي القيوم، القائم على كل شيء، والذي تحت قهره كل شيء جل جلاله وعز مقامه.(52/4)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي خلق الليل والنهار)
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33].
الله الذي خلق الليل وجعله سكناً وراحة للإنسان، وخلق النهار وجعله معاشاً وعملاً وسعياً للإنسان على نفسه، وعلى من يهمه أمره.
ولولا الليل لما استراح إنسان في نهار أبدي سرمدي، ولولا النهار لمل الإنسان ولتقطعت أعضاؤه من كثرة النوم والجلوس؛ ولو كانت الأرض بلا شمس لأصابها الزمهرير، ولما نبت فيها نبات، ولما كبر فيها جسم.
ولو لم يكن القمر بالليل لما كان مد وجزر من البحر، ولما كان ولما كان، والله قد خلق كل ذلك لحكمة، وخلق منه ما يريح الإنسان في ليله ونهاره، في معاشه وراحته، وفي حياته كلها، لو ذهب الله بليله فمن سيأتينا بليل غيره؟! لو ذهب الله بنهاره فمن سواه يأتينا بما نحن في حاجة إليه.
قال تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33] الأفلاك العلوية والسلفية كلها تدور وتسبح، كما يسبح الإنسان.
والفلك لغة: هو الشيء المستدير، وقد مثل ذلك سعيد بن جبير بالمغزل عندما يكون له محور وهو يغزل مستديراً، ومثله عبد الله بن عباس بالرحى لها محور، والأفلاك تدور حولها.
وهكذا الآن عندما نرى خرائط الأفلاك العلوية والسفلية نجدها مستديرة، ولها محور في الوسط، والكل يسبح، ولذلك عندما يخرج الإنسان عن غلاف الأرض، حيث تخف الأجسام والأوزان إلى حدٍ بعيد فسيجد نفسه سابحاً في الفضاء.
وهذا معناه: أن الأرض كروية، والسماء كروية، والأفلاك كروية، وهذا ما أجمع عليه المسلمون قبل أن يفكر في هذا الكفار والمشركون.
وقد قال تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر:5] والتكوير: دائرة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام عن عرش الرحمن: (هو على الكون هكذا، وأشار كالقبة) أي: كل مستدير، ونص السلف على أن الأرض كروية بيضاوية على شكل البيضة، ونص عليه ابن تيمية، ونص عليه قبله ابن حزم، والغزالي , وغيرهم من علماء القرآن والسنة.
وهذه الآية هي من الأدلة التي استدلوا بها أيضاً على كروية الأرض والأفلاك علواً وسفلاً، سماءً وأرضاً: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33]، والفلك: الدائرة، ويصبح الأمر أن كلاً يدور حوله كمن يسبح في النهر، أو يسبح في البحر.
{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33] تسبح الشمس، ويسبح القمر؛ ولهذا يرى في أحيان ولا يرى في أحيان، تغرب الشمس تارة وتشرق تارة، وهي في دورانها، والقمر وما معه من أفلاك في دورانه.(52/5)
تفسير قوله تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد)
قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34].
قوم من الكفار تربصوا بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يموت، وتربصوا به المنون، قالوا: سيموت، فقال الله يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام وهو خطاب لنا مع هذا: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34].
أي: يا محمد! قل لأولئك الذين يتربصون وينتظرون موتك: نحن لم نجعل لبشر من قبلك الخلد، أي: البقاء دواماً واستمراراً.
وأراد البعض أن يستدل بهذه الآية على أن الخضر قد مات، ولا دليل من هذه الآية، فلم يقل أحد من الناس مسلماً ولا كافراً أن الخضر سيخلد خلوداً أبدياً، كل من قال ببقائه قال: إنه سيعيش أزماناً طوالاً كما عاش نوح أكثر من ألف عام، ولبث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، كما ذكر القرآن الكريم.
قوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ} [الأنبياء:34] استفهام تقريري: {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] أي: لو مت يا محمد أفيخلدون هم؟ هم يتربصون بك المنون، وهم ينتظرون موتك ليستريحوا منك وهيهات! فسيجدون العذاب دونك إن بقوا على شركهم، وسيجدون ما أنذرتهم به من عذاب أليم في الدنيا والآخرة، وسيلحقهم إلى قبورهم، وسيخلد معهم خلوداً سرمدياً أبداً في جنهم، بل حياتك خير لهم، يسمعون منك العبرة والموعظة، ويسمعون منك الحرص على هدايتهم، هذا لو كانوا يعقلون، فكيف بمن له أعين لا يبصر بها، وآذان لا يسمع بها، وقلوب لا يفقه بها؟! هم كالأنعام، بل هم أضل من الأنعام، وأضل من الدواب، الدواب نستفيد مما في بطونها، ومن أوبارها، ومن ظهورها.
فالكافر والمنافق لا يستفاد منه في شيء، بل وجوده على الأرض دمار وخراب، فوجوده في باطنها خير من وجوده على ظهرها: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34].(52/6)
تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت)
قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35].
أي: أخبر هؤلاء الذين تربصوا بك الموت، وانتظروا غيابك، أنه ليس الموت واجب عليك فقط، بل الموت حق على كل نفس، كل من له نفس يصعد ويهبط إلا ونهايته الموت.
قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، وقال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] فلن يعيش أحد دواماً، ولن يخلد أحد دواماً، ولكن الحي الدائم هو الله جل جلاله، الواجب الوجود، والحي الذي لا يموت، وما سواه من ملك أو جني، أو إنسي يموت.
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] أخبر تعالى أن الموت حق لا بد منه على كل حي، إلا الله الحي الدائم، ثم قال: (ونبلوكم) أي: نختبركم ونفتنكم ونمتحنكم (بالشر والخير فتنة)، يبتلي خلقه ويفتنهم تارة بالشر وتارة بالخير، يبتلينا بالفقر، وهو فتنة وبلاء واختبار، ويبتلينا بالغنى، وهو فتنة وبلاء، ويبتلينا بالقوة والصحة كما يبتلينا بالمرض، ويبتلينا بالشبيبة والقوة كما يبتلينا بالشيخوخة، ويبتلينا بالعز والسلطان وبالحكم وبالأمر والنهي، ويبتلينا بالذل والهوان، والاستعمار، ولكل ذلك سبب, ولكل ذلك حكمة، وهو على كل اعتبار إن كان خيراً فهو ابتلاء وفتنة، وإن كان شراً فهو ابتلاء وفتنة، والكل من الله.
ولذلك: لا خير يدوم، ولا شر يدوم، ولكن الله يبتلي بالخير من شاء ليرى: هل سيشكر على ذلك الخير أم يكفر؟! ويبتلي بالشر، ليرى عبده: هل سيصبر على ذلك الشر أو يكفر ويزداد عناداً ويتخذ من ذلك كفراً؟! ولذلك: فلا ييئس الفقير من رحمة الله ومن غناه، ولا ييئس المريض من عفو الله وعافيته وصحته، ولا الغني ولا القوي يجوز له أن يطغى ويتكبر، فمن أتاه بالمال قادر على أن يذهبه ويدمره، ويسلبه منه، ومن أتاه بصحة وبقوة قادر على أن يسلبه كل ذلك، ولكن الضابط في كل هذا: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
الشكر يديم النعم، فمن أغناه الله وأصحه وأعزه، فالشكر باللسان واجب، ولكن أوجب منه الشكر بالعمل، بأن يعطي من ماله، ويعطي من صحته، ويعطي من قوته، {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] أحسن بالعطاء وبالهبة، وبالنفقة وبالزكاة، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا)، أي: هلك الأغنياء ذوو الكثرة، إلا من أتى إلى هذه الكثرة فوزعها بين نفقة على الأولاد، وصدقة على الفقراء، وزكاة لماله فيما أوجب الله عليه.
(وللسائل حق ولو جاء على فرس)، فإن جاءك سائل فأعطه مما أعطاك الله ولو جاءك راكباً على فرس، والله قد وصف المؤمنين بأنهم: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25].
أي: حق للسائل إذا سأل، وحق للمحروم من العطاء ومن الصحة ومن العز؛ ولذلك الشكر في كل حال على حسيه، شكر باللسان: (ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله)، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام.
والشكر بالعمل، فيما كان من الله عطاء ورزقاً وشيئاً ملموساً مرئياً محسوساً، أما أن تجمع الأموال وتقول: أشكر الله، أما تتمكن من القوة والنفوذ والسلطان وتقول: أشكر الله، وأنت لا تعطي فقيراً ولا تساعد ضعيفاً، ولا تسعى في عز ذليل، ولا تكون في عون محتاج أو فقير، فليس ذلك الشكر، وليس ذلك الحمد، ويوشك من لا يحمد الله على نعمه وآلائه أن يسلبها، قال تعالى: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] أي لئن جحدتم النعمة ولم تشكروها {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، أي: يسلبها وتزول عنه؟ ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء.
قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، أي: وبعد كل ذلك فـ (إلينا ترجعون)، فتعرضون على الله يوم القيامة، الشاكر والصابر، والكافر والمؤمن، والفقير والغني، والذليل والعزيز، والمبتلى بالشر والمبتلى بالخير؛ ليؤدي الحساب عن ماله فيم صرفه؟ وعن شبيبته فيم استعملها؟ وعن ماله فيم أنفق؟ وعن عزه من أعز به من الذليل والمقهور والمغلوب عن أمره؟! وقوله: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] هو وعيد وتهديد لهؤلاء الجاحدين الكافرين، الذين ابتلوا بالخير فلم يحمدوا الله، وابتلوا بالشر فلم يصبروا على بلاء، وإن هي إلا أيام وتنقضي، إن كانت خيراً فلا يدوم، وإن كانت شراً فلا تدوم، ولا يدوم إلا الله الواحد جل جلاله وعلا مقامه.
وهذه السورة الكريمة تسمى بالأنبياء ويعرض الله علينا فيها حال أنبيائه ورسله، وأنه ما أرسلهم إلا بالتوحيد، وما أرسلهم إلا بالعبادة، وما أوحى لهم إلا ذلك.
وما حدث من تغيير وتبديل من أصحاب الأديان السابقة ممن زعموا أنفسهم يهوداً أو نصارى أو مجوساً، كل ما زعموا، أنه من الله، وعن أنبياء الله، وأنه جاء في كتب الله، كل ذلك الذي زعموه من جحود وكفر ومعصية كل ذلك افتراء على الله، وكذب على أنبياء الله، ما أنزل الله به من سلطان.
وكون النبي عليه الصلاة والسلام أكرم الله به الخلق، وختم به الأنبياء؛ ليصحح ما صح في الكتب السابقة، وليزيف ما افتروه وكذبوه، وحرفوا فيه، وتزيدوا فيه من شرك وكفر، وقذف للأنبياء، وكذب على الله، كل ذلك ما جاء الله بخاتم أنبيائه رسولاً للناس كلهم إلا ليعود البشر إلى الطريق السوي إلى المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك.
فالقرآن لم يغير، ولم يبدل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو أبداً حق وصدق، وهو أبداً يأمر بالخير، وينهى عن الشر، يحلل ما ينفعنا، ويحرم ما يضرنا، ويعلمنا الحقائق والعقائد، وذكر الله وتمجيد الله، وتسبيح الله، وتنزيه الله عما زعمه الأفاكون، وافترى به المشركون، وكذب به الكاذبون، وليعود الناس إلى الصدق والوفاء بالعهد، وإلى الرحمة بين الكبير والصغير، وبين القوي والضعيف، وبين العزيز والذليل، ليعود الناس إلى أصل خلقتهم، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
يعبدون الله آناء الليل وأطراف النهار، بالصلوات الخمس التي أمرنا الله بها عند مطلع الفجر، وقبل شروق الشمس، وفي أطراف النهار عند الزوال، وقبل مغرب الشمس عندما يصير ظل كل شيء مثليه، وعند العصر، وفي أول الليل المغرب، وبعد ذلك بساعة ونصف إلى غياب الشفق، ثم التهجد في الثلث الأخير من الليل، فتلك ساعة كريمة وعظيمة لمن قام والناس نيام، في تلك الساعة ينزل ربنا إلى السماء فيقول: هل من داع فأستجيب له؟! هل من مريض فأشفيه؟! هل من عار فأكسوه؟! هل من جائع فأشبعه؟!.
ينزل جل جلاله في تلك الساعة وقد نام الكسالى والضائعون، ونام المسرفون على أنفسهم، يقوم من فراشه ومن عند زوجته ليقف بين يدي ربه خانعاً، مستسلماً داعياً ضارعاً، وهو في كل ذلك يتبع سنن المرسلين السابقين التي جاءت هذه السورة لبيان سننهم وأخلاقهم وسلوكهم، يعيدها الله على نبيه صلوات الله وسلامه عليه، ولنسمعها نحن، ونتخذ أنبياء الله في الأسوة وخاتمهم صلوات الله عليه وعليهم، هو الأسوة والقدوة الأعظم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
وهكذا عندما ندرس ونتدارس سورة الأنبياء أي: سلوكهم وعبادتهم وأخلاقهم ودعوتهم، وما لقوا من الناس من جحود وكفران، وما تحملوه من هؤلاء الجاحدين وهم يدعونهم إلى الله، ويرشدونهم إليه، وينفرونهم من المعصية والظلم والطغيان، ومن الكفر والجحود، ويكونون في أنفسهم أئمة يقتدى بهم سلوكاً، ونطقاً وعملاً.
وهكذا كانت تسمية السورة بالأنبياء لفتة لنظر من يتلو هذه السورة، ولمن يدرسها ويتتبع تفسيرها؛ ليعلم كيف كان عليه عباد الله المكرمون من الملائكة، والنبيين لكي يصلح الإنسان العادي غير المعصوم نفسه، وليتخذهم أسوة وقدوة وأئمة.
والله بفضله وبكرمه أرسل لنا رسلاً مبشرين ومنذرين، ليعلمونا ويرشدونا ويعظونا، ويهدونا، ويبينوا لنا الحق لنتبعه، والباطل لنجتنبه، ومن هنا كانت الحياة فرصة للإيمان بالله، والعودة إلى الله، ولتبقى الحجة البالغة لله.
إذاً: فهذه هي الدنيا التي ليست إلا كثوان، وعن قريب ستنقضي، فعلى الإنسان بقبول الرسالة وتصديق الأنبياء، واتباع خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، وانتهاج نهجه، واتباع طريقته، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: ومن هي هذه الواحدة يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).
فكل ما تسمعون من مذاهب وطرائق لقادة اليهود أو النصارى أو المنافقين أو الملحدين، أو المعطلين، تلك هي الفرق التي نص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، ونبهنا من خطرها، لنكفر بها، ونبتعد عنها، ونزيفها، والطريق الحق يجب أن نبحث عنه في السيرة النبوية، وسيرة الأصحاب رضوان الله عليهم.(52/7)
تفسير سورة الأنبياء [36 - 41]
الكفار إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم اتخدوه هزواً وتآمروا بأنه الذي يذكر آلهتهم بالسوء، فيهددهم الله بما سيصيبهم من العذاب إن استمروا على ذلك، ويذكر أنه قد استهزئ بالرسل من قبل فحاق بالمستهزئين العذاب.(53/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزواً)
قال الله جل جلاله: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء:36].
لا زال الله جل جلاله يصف لنا من حال الكفار وعنادهم، وأقوالهم الصلعاء التي لا منطق لها، ولا عقل فيها، ولا دليل عليها، إن هي إلا هراء وسخافة، وكذب على الله، وإصرار على الباطل، يقول الله جل جلاله: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الأنبياء:36].
أي: إذا رآك الكفار قائماً مصلياً لا يتخذونك إلا هزواً، فيستهزئون بدينك، وبرسالتك وكلامك، إصراراً على الباطل، وزيادة في الكفر والعناد، ولتصيبهم اللعنة في الدنيا قبل الآخرة.
{إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الأنبياء:36] يهزءون بك، ويسخرون منك، ويقولون: أهذا الذي يذكر آلهتكم، دون أن يسموك، ودون أن يصفوك بما هو معروف عنك من الصدق والأمانة.
قوله: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36] أي: أهذا الذي يعيبها ويشتمها؟ لقد استكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر من الأحجار والأوثان، ومن الأباطيل والأضاليل، وينفي عنها العقل والحياة، والضر والنفع، قالوا عن هذا: عيب، وقالوا: شتيمة، وقالوا: تنقيص.
قوله: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36] أي: يعيبها في ذكره، ويتنقصها، ويعنون آلهتهم كهبل وغيره من الأصنام التي كانوا يضعونها في جوف الكعبة، وفي خارجها.
والكلام عن هؤلاء وعن كل من يتخذ الأوثان والأصنام آلهة من دون الله، من اليهود الذين اتخذوا العزير والعجل إلهاً، ومن النصارى الذين عبدوا عيسى ومريم، والذين اتخذوا الأخشاب والأصنام والحجارة آلهة يعبدونها من دون الله، أو يعبدونها مع الله، فكانوا يهزءون بالنبي صلى الله عليه وسلم عندما يقول هذا عن آلهتهم، حتى إذا رأوه ماراً أو طائفاً بالكعبة أخذوا يقولون: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36] أي: يعيبها ويتنقصها، يقول الله عنهم: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء:36].
هؤلاء الذين يكفرون بالرحمن، ويكفرون بالله، ويتخذون معه شريكاً يصفونه بما لا يليق أن يوصف به، لا يعدون ذلك عيباً، ولا يعدون ذلك تنقيصاً، فهم يأتون إلى سيد الخلق والبشر صلى الله عليه وسلم عندما يعظهم ويرشدهم، ويوجههم إلى اتباع الحق، واتباع الصراط المستقيم، وأنهم ليسوا على شيء، وأنهم لا يتبعون إلا باطلاً، وديناً كاذباً، فهم يأتون لهذه الدعوة الكريمة يهزءون بها، ويعتبرون من تنقص أوثانهم وأحجارهم وآلهتهم المزيفة كافراً، مع أنهم يكفرون بالرحمن ولا يؤمنون به إلهاً واحداً، ولا يؤمنون به رباً قادراً، أهناك شيء في العجب أكبر من ذلك!(53/2)
تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من عجل)
قال تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37].
هؤلاء يقولون: أين هذا الذي ذكرت يا محمد من نزول الصواعق، والغلبة، والعقاب، ومن الذل والهوان الذي ينزل علينا؟ إن كان هذا حقاً فعجل به، فقال الله عنهم: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] أي: الإنسان جبل على العجلة والتسرع، لا يريد أن يهدأ وينتظر ويفكر فيما هو عليه أحق هو أو باطل؟ قبل أن يطلب لنفسه العذاب، ويستعجل العقوبة، فلا يفلت منها إذا جاءت، ولا يردها عنه راد.
وقالوا هنا: إن أبانا آدم عليه السلام عندما خلقه الله، ونفخ فيه من روحه، جاءت الروح من رأسه، فوصلت عينيه ففتحهما، فوصلت إلى فيه فنطق، فوصلت إلى جوفه، فشعر بالشهوة، ورأت عيناه الثمر، وتكلم لسانه يطلبها، واشتهى ذوقه وبطنه أن يأكل من هذه الثمرة، فحاول أن يقف ليجنيها ويأخذها بيده، وإذا به يقع؛ لأن الروح لم تصل بعد إلى رجليه، ليستطيع القيام، فكانت هذه هي العجلة التي وصف بها، وأصبحت صفة لازمة للإنسان، قيل هذا، ولم ينسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يؤكده؛ لكنه نقل عن بعض التابعين، وهذا أشبه ما يكون بالإسرائيليات.
والقرآن نزل بلغة العرب، ومن عادة العرب أن تقول لمن أكثر من شيء وبالغ فيه: فلان خلق من الغضب، أي: كثير الغضب مثلاً، فلان خلق من عجل، أي: كثير العجلة، وكان الإنسان عجولاً.
وما أكثر عجلة الإنسان وعدم تأنيه إلى أن يستوعب الأمور ويتدبرها! ومن هنا جاء في الآثار النبوية: (التأني من الرحمن والعجلة من الشيطان) والعجلة قلما تأتي بخير.
فقوله: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] أي: ما أكثر عجلته، وعدم تأنيه! والإنسان لولا الوحي والرسل، ولولا الكتب السماوية لكان وحشاً ضارياً، وهذا ما أكده القرآن عندما قال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]، أي: أن الإنسان خاسر هالك إلا من استثناه الله، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].
الإنسان غير الخاسر هو من آمن، وأتى بعد الإيمان بالصالحات، وأتى بعد العمل بالصالحات: الأمر بالمعروف، والتواصي على الحق، ويأتي بعد ذلك في الدرجة العليا: الصبر على ما يصيب الداعية إلى الله عندما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
{سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37] أي: لا تستعجلوا لهؤلاء الكفار سيريهم الله آيته وقدرته، وعقابه وانتقامه، دون أن يستعجل فهو آت لا محالة، قال تعالى: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81].
في هذه الحالة والنبي صلى الله عليه وسلم يعظهم على كفرهم، ويأمرهم بعدم العجلة، وأن عقاب الله لمن أقام على الكفر، واستمر عليه، فيأتيه لا محالة، ستأتيه قدرته وعقوبته؛ لكفره واستهزائه بسيد البشر صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(53/3)
تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)
يقول تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنبياء:38].
أي: يقولون للنبي صلوات الله عليه ولأتباعه من المسلمين متحدين مكذبين معاندين، يقولون: إن كنت يا محمد رسولاً حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب من ربك، لم يطلبوا العفو، ولم يطلبوا اليقين، ولم يطلبوا أن يشرح الله نفوسهم وقلوبهم للتمييز بين الحق والباطل، ولكنهم عجلوا وبادروا في طلب العقوبة.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنبياء:38] أي: متى هذا الوعد بالهلاك؟! متى هذا الوعيد بما زعمت يا محمد؟ ويا أتباع محمد! ائتونا بهذا إن كنتم صادقين، إن كنتم مؤمنين حقاً بنبيكم وإلهكم فاطلبوه أن ينزل على الكفار -على هؤلاء المستعجلين- عذاباً ونقمة وعقوبة.
وقد فعل الله ذلك بهم أما في الدنيا فعوقبوا يوم بدر عقوبة مدمرة مهلكة، قتل فيها زعماؤهم، وأسر فيها سادتهم وكبراؤهم، وشرد الجيش ودمر، وقطع شذر مذر بما كان سبب الفتح أخيراً، وخروجهم من مكة، أو خضوعهم للإسلام صاغرين، وهم من يسمون مطلقة الفتح، أي: الذين عندما جمعهم صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقال لهم: (يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم! وابن أخ كريم! قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
وما أكرم العفو بعد المقدرة! وهكذا فعل صلى الله عليه وسلم، ومنهم من حسن إسلامه، ومنهم مع الأيام من صار عظيماً فاتحاً، بقي مدة حياته يستغفر الله على عناده السابق، ومنهم من فر وقتل أو مات على الكفر.
أما هؤلاء المستهزئون أمثال أبي جهل وأبي لهب وأضرابهما، فقد قال الله لنبيه: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95].
وقال ابن تيمية: ما من أحد عرف بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم -سواء في حياته، أو بعد مماته، أو على مدى العصور- إلا وعوقب بسوء الخاتمة، وبالهوان والذل في الدنيا، والموت على الكفر، والذهاب إلى جهنم خالداً مخلداً، وهكذا فسر قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95].
وحكى بذلك أمثالاً شاهدها، وأمثالاً رواها، وقصصاً عاشرها وعايشها.
{وَيَقُولُونَ} [الأنبياء:38]: أي: يقول هؤلاء الكفار مستهزئون ومستعجلون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنبياء:38].
إن كنتم يا معاشر المسلمين، فيما تروون عن ربكم، وتروون عن نبيكم، وأن الله القادر على كل شيء، وأن النبي المحبوب لربه لينتقم له من أعدائه، فأين هذا الذي ذكرتم؟ استعجلوا العقوبة، ومع الأيام قد حلت، ودمرت وأهلكت.(53/4)
تفسير قوله تعالى: (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار)
قال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الأنبياء:39].
قوله: (لو يعلم الذين كفروا) الجواب محذوف للعلم به، أي: لآمنوا، لأسلموا، لتابوا، أي: لندموا على ما هم عليه من شرك، وبادروا إلى التوبة والتوحيد الإيمان.
أي: لو يعلمون عندما يدخلون النار، ويعاقبون، وتلفحهم في وجوههم، وتتبعهم من ظهورهم، وسياط ملائكة النار خلفهم، لو يرون العذاب ذلك الحين وهم لا يستطيعون كفاً ولا دفعاً، (ولا ينصرون) فلا يجدون من ينصرهم من ربهم، فلا تنفعهم آلهتهم المزيفة الباطلة، إنه يوم لا يجدون إلا أنفسهم مع العقاب والعذاب الذي أوعدوا به.
يقول تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:39] أي: لو يعلمون هذه الحالة، وبؤسها وألمها، وإيجاعها، لو يعلمون حين لا يكفون عن وجوههم النار، لو يعلمون عندما تلفحهم النار وتحرقهم، ويعذبون فيها، وهم لا يستطيعون ردها ولا دفعها، ولا يستطيعون أن يوقفوا لظاها، ولا عذابها، ولا يوقفوا نارها عن وجوههم ولا عن ظهورهم، حينما تحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم.
{وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الأنبياء:39] لا يجدون ناصراً، ولا معيناً ومؤازراً.
وجواب قوله: (لو يعلمون) هو: لما ارتدوا ولما كفروا، ولما استعجلوا العذاب، وحذف للعلم به، كما يقول ابن مالك في ألفيته النحوية: وحذف ما يعلم جائز.
أي: ما يعلم من مضمون الكلام، وهو من البلاغة، والقرآن مليء بذلك.(53/5)
تفسير قوله تعالى: (بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها)
قال تعالى إضراباً عن الكلام السابق: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [الأنبياء:40].
(بل) حرف إضراب عن الماضي، عن هؤلاء الذين استهزءوا، وعن هؤلاء الذين لم يفكروا ويغتنموا فرصة حياتهم فيتوبوا إلى الله، ويعودوا للإيمان والطاعة، دعك من كل ذلك، فلم ينفعهم، ولم ينتهزوا شبابهم قبل شيخوختهم، ولا حياتهم قبل مماتهم، وبقوا هكذا إلى أن أحاط بهم عذاب الله وعقوبته ونقمته.
{بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} [الأنبياء:40] تأتيهم العقوبة تأتيهم النار يأتيهم عذاب الله يأتيهم ما استعجلوا به من العذاب والنقمة بغتة وفجأة، قد يأتيهم وهم نائمون، وقد يأتيهم وهم ضاحكون، وقد يأتيهم على حالة لا يكادون يتصورون وجود ذلك فيها، فتبهتهم، فيصبحون حيارى تائهين زائغي العيون، ضائعي النفوس، وهكذا كمن أصيب بمس، فلم يعرف ما يقدم ولا ما يؤخر.
قوله: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} [الأنبياء:40] أي: تحيرهم، وتذهلهم.
قوله: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} [الأنبياء:40] أي: فلا يستطيعون رد العذاب والعقوبة، ورد النقمة ودفعها وكفها عنهم.
قوله: {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [الأنبياء:40] أي: لا يتربص بهم، ولا ينتظر بهم وقتاً آخر لعلهم يرجعون؛ لأنهم قد مضت المدة التي سمى الله مع نفسه، وأرجعه فيها، وأمهله فيها، فلم ينتفعوا بها، وحينما تأتيهم -ويصبحون في العذاب- لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً.(53/6)
تفسير قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك)
ثم قال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنبياء:41].
هذه تسلية وتعزية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتشجيع له، وتقوية لنفسه من ربه ومرسله وخالقه جل جلاله.
قوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنبياء:41] أي: رسل أرسلناهم قبلك، منذ أبينا آدم إلى إدريس إلى نوح إلى إبراهيم إلى جماعة أنبياء بني إسرائيل إلى النبي الذي سبقك ببضع قرون وهو عيسى عليه وعلى نبينا وعليهم جميعاً السلام، تلك عادة الكفار، وسنة المرسلين؛ ليكونوا قدوة للمؤمنين بعدهم؛ حتى إذا استهزئ بهم لا يكلون ولا يملون، ولا يتراجعون، بل يمضون قدماً إلى النجاح أو الموت، وهكذا كان صلى الله عليه وسلم، فعندما جاء كفار قومه إلى عمه أبي طالب، وعرضوا عليه الملك والتزويج بمن شاء من بنات قريش، وعرضوا عليه الغنى حتى يصبح أغناهم على الإطلاق، وإذا بـ أبي طالب كأنه ظن أن هذا إنصاف من قومه، فعرض ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجيب النبي صلى الله عليه وسلم عمه بكلمته الصارمة، وهو الأسوة والقدوة لكل داعية بعده، فيقول: (والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي -ومن ملك الشمس والقمر ملك الدنيا بحذافيرها؛ لأن الكون لا يعيش بلا شمس، ولا يعيش بلا قمر- على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
وهكذا كان عليه الصلاة والسلام على كثرة ما آذوه وشتموه، وعلى كثرة ما تآمروا عليه، وأدموا قدميه الشريفتين، وكسروا رباعيته، وهجروه السنين حتى كان يأكل ورق الشجر، وحتى كان يربط على بطنه الحجر من الجوع، وهو في كل ذلك صامد صمود الجبال، راسٍ رسو الجبال الشوامخ، لا تأخذه في الله لومة لائم، يدعو إلى ربه ليلاً ونهاراً، حضراً وسفراً إلى أن حج بهم حجة الوداع، قبل أن يموت عليه الصلاة والسلام بأشهر، وهو يشهد الله ويشهد خلقه، قائلاً: (اللهم هل بلغت؟) فيقول الحاضرون: نعم قد بلغت، فيقول: (اللهم فاشهد، اللهم فاشهد).
فقد أشهد ربه على أنه قد بلغ رسالته، وعلى أن من بلغهم يشهدون بذلك ويعترفون به؛ ولذلك لقي الله راضياً مرضياً، مطمئن النفس على أنه قد قام بما أرسل به، وبلغ أحسن بلاغ إلى أن هيأ للرسالة من يحملها بعده من أمثال الرعيل الأول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وجاء الرعيل الثاني من التابعين فحملوا الرسالة، وهكذا كل جيل يحملها إلى الجيل الذي بعده حتى عصرنا، رغم كفر الكافرين، ويهودية اليهود، ونصرانية النصارى، وفي الحديث المتواتر: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، وهم على ذلك إلى يوم القيامة)، ولكن الله يبتلي بالشر والخير فتنة، فمن بلي في نفسه، أو في جسمه وهو يدعو إلى الله، فإن صبر فله الجنة، والفوز أخيراً، فالله ناصر رسله وعبادة المؤمنين، والعاقبة للمتقين.
فمعنى الآية: ولقد استهزئ برسل من قبلك يا محمد، فاحمل وصفه، واتخذ من الأنبياء قبلك أسوة، فلست بدعاً من الرسل، فكما استهزئ بك استهزئ بهم، فصبروا وتحملوا، وعاشوا على ذلك إلى لقاء الله، وقبل الموت كان الظفر والنصر لهم، سحق الله أعداءهم، وجعلهم خاضعين عند قدميه، وقد ذلوا، وشردوا وقتلوا، وأسروا وهدى الله من كتب له الهداية، وعلم في قلبه الخير، قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70].
قوله: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنبياء:41].
أي: فأحاط بالذين سخروا من هؤلاء الكفار عقوبة أخرى أشد من عقوبة الكافرين عموماً، فالكافر عن جهل ينتظر به لعل الله أن يهديه، والكافر المستهزئ العنيد لا يكتب الله له إلا سوء الخاتمة؛ نتيجة عناده وحرصه على الكفر واستهزائه بعباد الله المكرمين وبرسله صلوات الله عليهم أجمعين، فحاق العذاب بهؤلاء المستهزئين من بيننا، وحاقت بهم النقمة، وماتوا على سوء الخاتمة، وضلوا في الدنيا، وعوقبوا يوم القيامة بالسعير خالدين مخلدين أبداً: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].(53/7)
تفسير سورة الأنبياء [42 - 48]
يمتن الله على عباده بأنه الذي يحفظهم بالليل والنهار، ويذكر الكفار بأن آلهتهم لا تستطيع ذلك، ثم يذكر تعالى أنه سينقص أرض الكفر من أطرافها بدخول الإسلام فيها، ويوم القيامة توضع الموازين فتوزن أعمال العباد.(54/1)
تفسير قوله تعالى: (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن)
قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:42].
أي: قل يا محمد لهؤلاء الكفرة الجاحدين المستهزئين: من يكلؤكم بالليل من القوارع ومن الصواعق، ومن العذاب وأنتم نائمون؟ ومن يكلؤكم بالنهار ويحفظكم من العذاب والنقمة؟ وهأنتم تأكلون وتشربون وتتمتعون وتمرحون فمن غير الله يطعمكم ذلك؟ فقل لهؤلاء أن يراجعوا أنفسهم وعقولهم ويؤمنوا بربهم، ويقبلوا من نبيهم، فإن لم يفعلوا فالعذاب أقرب لأحدهم من شراك نعله.
قوله: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] أي: من الذي يحفظكم؟ وفسر أيضاً: من الذي يحفظكم ويكلؤكم بالليل والنهار دون الرحمن؟ أآلهتكم تستطيع ذلك وهي أعجز من أن تضر نفسها أو تنفعها فضلاً على أن تضر غيرها، وتنفعها؟! قوله: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ} [الأنبياء:42] أي: أضرب عن قوم سابق، ومفاوضة هؤلاء ومحاورتهم ومجادلتهم دع عنك هذا فهم لم يؤمنوا، ولعل المستهزئين منهم أن يؤمنوا ويقدر الله عليهم خيراً.
قوله: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:42] أي: عن توحيده وعبادته وعن كتابه المنزل ونبيه المرسل، فهؤلاء قد أصروا على الكفران والجحود، فدعهم وما اختاروا أنفسهم له، وليتربصوا، فسينظرون من هو على الحق، ومن هو على الباطل، ومن المتقي الفاجر، ومن الذي ستناله رحمة ربه ومن سيناله عذاب ربه.(54/2)
تفسير قوله تعالى: (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا)
قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} [الأنبياء:43] أي: هؤلاء الذين ظلموا وتجبروا وعتوا، وظنوا أن عندهم من ينصرهم دون الله.
{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} [الأنبياء:43] أهذه الأصنام التي ألهوها منعتهم من دوننا، ومن عقوبتنا، ومن عذابنا وانتقامنا؟ أهذه آلهة حق يا أيها العقلاء؟ فنبينا عليه الصلاة والسلام بما أرسل به من كتاب مبين يدعو إلى الحق، ويعظ هؤلاء بأمر الله ويبشرهم وينذرهم، ويخاطبهم بلغة العقول لعلهم يعقلون أو يفهمون.
قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43].
فهذه الآلهة التي اتخذتموها من دون الله ظناً على أن تنتظروا منها نفعاً أو ضراً، أو حماية أو دفعاً، هي تعجز عن نفسها فضلاً عن غيرها.
قوله: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43] أي: لا يصحبون منا بخير، ولا يصحبون منا بما يدفع عنهم ضرهم على كفرهم وشركهم، فهم في العذاب خالدون -جزاءً وفاقاً- لشركهم بالله، وتكذيبهم لرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.(54/3)
تفسير قوله تعالى: (بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر)(54/4)
معنى قوله تعالى: (بل متعنا هؤلاء وآباءهم)
قال تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الأنبياء:44].
أي: متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر فاغتروا بفضل الله، وبما أكرمهم الله به من تمتع بالشباب والصحة، وبالمال والجاه والسلطان، مع طول الأعمار التي عمروها، فظنوا بذلك أنهم قد نالوا حقاً يجب لهم بما صنعوه وعملوه، وهكذا كل إنسان كافر يضحك على نفسه ويغتر بما صدر عنه، إن صنع حديدة وطار بها، أو حديدة وطرق بها، أو شيئاً انتقاه أو كلام لفقه يعد بذلك أن له الحق على الناس، وأنه أصبح متحضراً وكبيراً، وأنه أصبح يجب أن يتبع وهو على كفره وشركه، يريد أن يقود الناس على ذلك، وأن يخضعهم لذلك، وهكذا نتيجة ما متع به من مال وجاه وحطام، ومن عتاد وقوة، وصحة ومال.
يقول تعالى: هؤلاء الذين زادوا كفراً وعناداً، لم يصنعوا ذلك لأنفسهم نتيجة ما أدركوه، ولكننا نحن الذين أمهلناهم وأنظرناهم، وبعثنا لهم رسلاً فأطلنا لهم الأعمار، فما اتخذوا ذلك إلا غروراً، وما اتخذوا ذلك إلا زيادة في الجحود والكفران، ومتعوا حتى نسوا الله فنسيهم، ومتعوا بكل الأعمال حتى نسوا الآخرة.
{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الأنبياء:44] أي: هؤلاء الذين يحتجون بآبائهم وقد كانوا كفاراً مثلهم، هؤلاء متعناهم بالقوة وطول الأعمار، ومتعناهم بما يعيش به الصحيح القوي الغني، فهم بذلك زادوا اغتراراً وباطلاً وكفراناً، فقال تعالى: {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [الأنبياء:44].
متعوا إلى أن طال بهم العمر أزماناً، وكانوا يعيشون مئات السنين.
وإلى الآن الخطاب للكافرين السابقين، وهو خطاب لكل مؤمن وكافر، المؤمن بشر بالجنة والنعيم، والكافر أنذر بعذاب الله والجحيم، فمن طال عمره وصح جسمه وكثر ماله، ومكنه الله في الأرض فما زاده ذلك إلا غروراً وطغياناً، لو فكر قليلاً لعلم أنه لم يشتر الحياة، فالحياة لا تباع، ومن مات لو صرف عليه كل ما على الأرض ليعود للحياة فإنه لا يعطي الحياة إلا واهبها، ولا يزيلها إلا واهبها، فالأعمار يمنحها الله، فإذا أخذها فلا يستطيع أحد في الكون أن يعود بها.(54/5)
معنى قوله تعالى: (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها)
قال تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:44].
فسرت هذه الجملة بتفاسير أصحها ما تدل عليه الفقرة الخاتمة من الآية: أنه نقص الله أطراف أرض الكفر من الكفر، والآية نزلت والدنيا كلها كافرة، والإسلام لا يزال مضطهداً في مكة، والعالم كله كافر إلا من آمن مع رسول الله عليه الصلاة والسلام ممن لا يتجاوزون عدد الأصابع، وهكذا أثر هذا الكفر في الأرض كلها.
وقد استمر وطال ما نقص الله أطراف الأرض عندما أكرم نبيه وأتباعه، بأن خرجوا من الجزيرة العربية وقد هداهم الله على أيديهم، فخرجوا دعاة إلى الله، وهداة للناس، وخرجوا فاتحين العالم، وبعد أن ذهب رسول الله صلوات الله عليه إلى الرفيق الأعلى ببضع سنوات في أيام عمر الفاروق رضوان الله عليه، خرج الإسلام وانتشر، وأنقص الله أرض الكفار فضمها إلى المسلمين، فنقص من أرض الكفر الشام، وضمها إلى أرض المسلمين، وانتقصت أرض العراق ومصر، والمغرب، وانتقصت أرض فارس، وهكذا تقلص العالم الكافر، وتقلصت أراضي الكفار بما زاد الله ذلك للعالم الإسلامي.
{أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا} [الأنبياء:44] فأخذ من أطرافها يوم الفتح، يوم الدعوة والهداية مما قام به الأصحاب مبتدئاً بذلك، والذي ابتدأ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك عندما ذهب بجيوشه في أيام حارة قائظة يقاتل الروم إلى حدود الشام، ولكنهم لم يحضروا، فأسروا من أسروا، وغنموا ما غنموا.
ثم جاء أبو بكر بعد أن رتق الفتق، وحارب المرتدين، وقاتل مانعي الزكاة، وجند الجنود، وجيش الجيوش، وذهب بها إلى أرض الروم، أرض الشام إذ ذاك، ولكن أبا بكر اختاره الله إليه وجيوشه على أبواب دمشق من أرض الشام، فجاء بعد ذلك الفاروق رضوان الله عليه فذهب بجيوشه يزحف بها فاتحاً، ومظفراً ومنصوراً إلى أن انتقص الله من أرض الكفر ما بشر الله به في هذه الآية الكريمة، وأصبحت الشام من ذلك اليوم أرض إسلام كالعراق، ومصر وأرض فارس والمغرب.
انتشر الإسلام حتى وصل إلى الصين شرقاً، وإلى قرب عاصمة فرنسا باريس بمائة كيلو متر غرباً، وأصبحت أسبانيا والبرتغال وأجزاء كبيرة من أرض فرنسا أرضاً إسلامية سميت الأندلس وعاشت ثمانمائة عام مسلمة عربية لا تعرف إلا الإسلام وإمامة محمد صلوات الله وسلامه عليه، وما غدت الأمور تتراجع إلا عندما أخذ الناس في الردة والعصيان، فعوقبوا بدمار ملكهم، وسلب دولتهم، ومع ذلك لا تزال أرض الإسلام ممتدة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً بما تعد ملياراً من الخلق، حتى مع هذا العصر العصيب عصر الظلمات يأبى الله إلا أن ينصر دينه.
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28].
ولذلك لا نزال ننتظر وعد الله، ونصر الله بانتشار الإسلام في القارات الخمس، ذاك وعد الله الحق، الذي نطق به كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قال تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44] وذكر الغلبة هي خاتم الآية دليل على أن هذا هو المعنى.
{أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44] استفهام إنكاري تقريري توبيخي للكافرين، أي: ليسوا الغالبين، بل هم المغلوبون المقهورون، وهم الأذلاء والعبيد، وقد فعل جل جلاله، فنصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، ولا نزال ننتظر نصراً ووعداً للمسلمين في هذا العصر كما أكرم المسلمون في العصور الماضية.(54/6)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنذركم بالوحي)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء:45].
قل يا محمد لهؤلاء: إنما أنذركم بالوحي وأتهددكم وأتوعدكم وأخيفكم.
وهو لا يفعل ذلك من قبل نفسه، ولكن بالوحي من الله، وبرسالة الله، وبأمر الله في كتابه، أي فقد أوحى إلي وأمرني أن أبلغكم وأدعوكم بالوحي وأنذركم به، فإن خالفتموني فقد خالفتم ربكم، وإن عصيتموني فقد عصيتم ربكم، والله جل جلاله لا يهمل، ولكن يمهل، وإذا أخذ الظالم لا يفلته جل جلاله.
قل يا محمد: {إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45] لا أنذركم إلا بما يوحى إلي من كتاب متلو مقروء، أو المعاني التي ينطق بها وهي السنة المطهرة.
وقد قال الله عن نبيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] أي: لا ينطق نبينا بما ينطق به من سنته، من فعل أو قول، أو إقرار إلا بوحي الرب بياناً وتفسيراً للكتاب الكريم بالوحي العظيم.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء:45].
يصف الله هؤلاء الكفار بأنهم صم، وهو جمع أصم، فلهم آذان لا يسمعون بها، أي: مع وجودها، وهم يسمعون الصوت والقول، ولكنهم لا يفقهون، قلوبهم عليها الران، وأسماعهم لا تسمع الخير، ولا تعيه، ولا تتفهمه، وهم بذلك كمن أعطي سمعاً وفقد نتيجته، وفقد عمله، فهو أصم.
{قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} [الأنبياء:45] يا محمد! عندما تدعو العباد إلى ربك فإن الصم لا يسمعون دعاءك، فعندما تناديهم وتقول: يا أيها الناس! تكون آذانهم صماً {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171].
آذانهم لا تسمع، وعيونهم لا تبصر، وقلوبهم لا تفقه، فهم كالأنعام بل هم أضل.
{قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء:45] أي: إذا ما أنذرتهم ودعوتهم لله، وناديتهم لعبادة الله وتوحيده، وأنذرتهم جهنم والخلود فيها، واللعنة الدائمة السرمدية، فهم في هذه الحالة يصمون آذانهم عن السماع والوحي والفهم، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام مكلف بالبلاغ فيبقى يبلغ إلى لقاء ربه: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس:108].
هؤلاء مع وعيد الله لهم، ونذارة محمد صلى الله عليه وسلم لهم لو مستهم (نفحة) أي: قدر قريب لا يكاد يذكر (من عذاب الله) كما لو أصيبوا بمرض، أو طاعون، أو حمى، فضلاً عن عذاب الله، وليس ذلك إلا نفحة من نفحات العذاب لا تكاد تذكر ولا ينتبه لها؛ لو مسهم ذلك لرأيتهم يجأرون ويصيحون، وينادون: يا ويلهم! وتجدهم معترفين عندما يصيبهم قدر من العذاب: {لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:46] ولوجدتهم يصيحون ويجأرون، ويرفعون أصواتهم معترفين بأنهم ظالمون مشركون، ينادون بالويل والثبور، والويل: نهر في جهنم من قيح أهل النار ودمائهم، فهم ينادون ويلهم ونارهم، وينادون سعيرهم، كلمة يلهمونها وتكون جزاءً وفاقاً لأعمالهم: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:46].(54/7)
تفسير قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)
قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47].
يخبر تعالى عن هؤلاء أنهم مهما عاشوا فسيموتون، ومهما طال موتهم فسيحيون، وسيأتوننا للعرض على الله للحساب والعقاب.
قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] يعطينا صورة مشخصة كأننا ننظر إليها، أي: عاش الناس، ثم ماتوا وبعثوا، ووضعت الموازين لوزن أعمال العباد من خير أو شر، هذه الموازين التي تتصف بالعدل المطلق، لا تزاد فيها سيئة في ذنوب مسيء، ولا ينقص من حسنته شيء، بل قد تزيد الحسنات وتنقص السيئات.
المعروف أن الميزان هو ميزان واحد، ولكن الله قال: (موازين)، فقد يكون المعنى: أن عند كل أمة ميزان، وقد يكون أطلق (موازين) باعتبار زنة أعمال الخلق كلهم، على أن الله قال هنا: الموازين، وإذا ذكر في السنة الميزان، فهو الميزان الأجمع الأكبر الأشمل.
قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} [الأنبياء:47] حاول بعض المفسرين أن يقول: الموازين إنما هي مثل في العدل، وعدم النقص، بل الزيادة في الخير، فلا موازين هناك، وروي هذا عن الضحاك وعن جماعة من كبار المفسرين، ولكن هذه زلة من هؤلاء؛ لأن الميزان ثابت بالنص في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، تفسيراً لما ورد من ذلك في كتاب الله، وإلغاء ذلك وجعله مثلاً لا يعني إلا النفي لما قد ثبت، وقد يأتي ضال آخر إلى الأشياء التي ذكرت ويقول: كلها أمثال، وقد حدث ذلك من كثير من المبتدعين.
فالميزان ميزان، يسع السموات والأرض، له لسان، وله كفتان ترجح إحداهما بالخير أو بالشر.
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] أي: موازين العدل والحق والإنصاف ليوم القيامة، يوضع ذلك يوم العرض على الله، وجاء في الموازين حديث في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (كلمتان ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
وقد ورد في الصحاح عن جماعة من الصحابة أن مسلماً تعرض أعماله على الميزان في آخر الناس، وإذا بسيئاته تكتب في تسعة وتسعين سجلاً، وتوضع في الميزان، فتطيش كفة الحسنات، وتثقل كفة السيئات، فيؤخذ به إلى جهنم، فينادي مناد من الملائكة بأمر الرب جل جلاله: أرجعوه! أرجعوه! فيرجع، فيقول الله له: لا ظلم اليوم! إن لك حسنة لم تؤزن بعد، فيؤتى بالبطاقة فيراها هذا المحاسب، فيقول: يا رب! ماذا عسى أن تكون هذه البطاقة أمام هذه التسعة والتسعين من سجلات السوء؟ فتوضع البطاقة في كفه الحسنات وإذا بها تسقط كفة السيئات، وإذا به يقال: خذوه إلى الجنة، وفي البطاقة مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
والحديث مشهور بحديث البطاقة، وهذه الكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي لا إله إلا الله) لا توضع في كفة ولا ميزان إلا ويثقل بها الميزان، وتخف السيئات، حتى ولو كانت تسعة وتسعين سجلاً.
يقول تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47] (شيئاً) يطلق على أقل شيء حتى الذرة.
ثم قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء:47].
وإن كان هذا الشيء يزن حبة الخردل، وحبة الخردل المعروفة لا تكاد ترى، فلو سقطت من يدك إلى الأرض فإنها تضيع ولا تراها، فلو كانت الحسنة بمقدار هذه الحبة من الخردل يقول الله: (أتينا بها)، أي: حسبناها ووضعناها في ميزان من يحاسب، ولهذا جاء في حديث البطاقة: (ثم تلا قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء:47]) أي: عددناها، وحسبناها، فوضعناها في ميزان حسناتك.
قوله: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] أي: يكفي بما يقوله جل جلاله، لا يحتاج إلى من يحسب ولا من يعد، و (حاسبين) أي: عادين وحاصرين، ويكفي الله محاسباً ولو كانت كلمة قالها اللسان، ولم تعمل بها الأركان، ولكنه مات على يقين وهو يعتقد بقلبه أن الله واحد لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، ومات على هذا يقيناً، ونطق به اللسان سواء عند الموت أو قبل الموت، ففي الأحاديث النبوية: (من مات وهو يقول: لا إله إلا الله، دخل الجنة)، (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة).
ولكن هل سيدخل الجنة بمجرد قوله ذلك دون أن يحاسب على ما بدر منه؟ كل ذلك محتمل، ولا نبت بشيء بخصوصه، فهو لابد أن يدخل الجنة، ولكن قد يدخلها بعد أن يغفر الله له ذنوبه بلا حساب ولا عقاب، وخاصة من مات شهيداً، ومن مات ودفن في البقيع، وخاصة من عده الله تعالى من السبعين ألفاً الناجين من عذاب الله، وفضل الله كبير، وقد يدخل النار مدة الله أعلم بها، فيعذب على ما صدر منه، ثم يدخل الجنة، وهؤلاء يسمون في الجنة بالجهنميين زمناً، ثم يرفع الله عنهم تلك الصفة، وذلك بأن يستبقي أثر الحريق في جباههم، وفي بعض جلودهم، فينعتون من أهل الجنة القدامى بقول: هذا جهنمي، وهؤلاء جهنميون، فيتألمون بذلك، فيدعون الله تعالى أن يرفع عنهم ذلك لكي لا يعرفوا؛ فيزيل ذلك عنهم ويختلطوا بغيرهم من المؤمنين الساكنين في الجنة.
ومن المعلوم بالضرورة: أن النار سيدخلها الكافرون خالدين مخلدين فيها أبداً، وسيدخلها بعض عصاة المسلمين والله أعلم بهم، ولكنهم لا يخلدون، فسيدخلون النار زمناً حسب الذنوب، ثم يخرجون بعد ذلك، وآخر من يدخل الجنة من أهل النار من الموحدين رجل يكثر الدعاء والتضرع على ربه، ويعيش في ذلك زمناً طويلاً وجسمه قد احترق، فيقول: يا رب! جعلتني مع هؤلاء المشركين بك، والله ما أشركت بك يوماً، فائذن لي أن أخرج من النار، ولا أطلب منك شيئاً بعد ذلك، فيقال له: أتعطي العهود والمواثيق على أن تكتفي بذلك؟! فيعطي المواثيق والعهود، فيخرج من النار، فيسمع نعيم الجنة من بعيد، فيتضرع إلى الله، ويأخذ في الدعاء أن يذهب به إلى باب الجنة ليتمتع بنعيمها على بعد، فيقول له الرب: ألست قد عاهدت وأقسمت ألا تطلب غير ما أخذت من خروجك من النار؟ يقول: يا رب، فيستجيب له، ويأخذه إلى باب الجنة، فيزداد طمعه، وهكذا يدعو ويبكي ويتذلل، فيقول: يا رب! أدخلني جنتك، لا تجعلني أذل القوم وأبعدهم، وأنا الذي لم أكفر بك يوماً، وإذا بالله الكريم يقول له: تمنّ تعط، فيقول: أريد قصراً، أريد حورية أريد أريد ويوسع الخيال في إرادته، فيقول الله له: لك ما طلبت وعشرة أمثاله، فإذا به يقول: أتسخر مني وأنت رب العالمين؟! فيضحك الله ويستجيب له، ويدخله الجنة، ويعطيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقد روى هذا الحديث سيد التابعين الحسن البصري فقال: يا رب! اجعلني أنا هو، وكل رجائي أن تدخلني الجنة، وهكذا هؤلاء الكرام من السلف الصالح، ينتقصون أنفسهم، ويزداد خوفهم من ربهم، ويطلبون أقل شيء، ولكن الله الكريم عنده ما هو أكثر وأعظم، فالطمع قبيح من الإنسان، ولكن في الله ومن الله مطلوب أن نطمع في رحمته، ونرجوه ونضرع إليه، فذلك مقبول، والإلحاح غير مقبول من الإنسان إلى الإنسان، ولكن الله جل جلاله يحب من يلح عليه بالسؤال، ويكثر من الدعاء، بل قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليحب من عبده أن يطلب منه حتى ملح طعامه، وحتى شسع نعله) انقطع شسع النعل فأصبح يمشي حافياً يقول: يا رب! سشع النعل انقطع، لا أستطيع أن أمشي على نعل واحدة، إذا أراد الطعام وهو بلا ملح يقول: يا رب! ليس عندي ملح، ولم أجد ملحاً.
أعطني ملحاً، وهكذا الله جل جلاله، هو خالقنا ورازقنا وربنا، مهما طلبنا منه هذه الأشياء قلت أو صغرت أو كثرت، إلا والله يريد ذلك، ويحضنا عليه نبيه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه دعاء، والدعاء مخ العبادة؛ لأن في معنى الدعاء أنه يقول: يا رب! أنا عاجز، والبشر عاجزون عن أن يعطوا، وهم يطلبون العطاء، ولكنك صاحب العطية، والمكرم، ولكنك الرازق والمعطي، فأنا أطلب منك، ولا أطلب من غيرك.
فمن هنا يقول في الحديث القدسي: (فإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).
والله إذا أراد أن يحرك قلوب عباده، يكون لهم بما لا يخطر لهم على بال، وهكذا التقوى تأتي بالرزق والعلم، والتقوى فيها كل الخيرات والفضائل، أكرمنا الله بها، وأدامنا عليها إلى لقائه.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48].
كثيراً ما يقرن الله في كتابه بين ذكر نبينا وموسى عليهما السلام؛ لأن موسى كان من أنبياء الله ورسله، ومن أولي العزم، وقد لقي من قومه من العنت والجحود في مصر مع اضطهاد وقهر فرعون وملئه إلى أن أنقذهم موسى وهارون من فرعون، وخرج بهم عن مملكته، ثم لقي منهم بعد ذلك جحوداً وكفراناً، ونبينا عليه الصلاة والسلام لقي من قومه العنت والجحود، وكانت مقارنتهما تعطي نبينا السلوى.(54/8)
تفسير سورة الأنبياء [48 - 56]
يبدأ الله بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام، فذكر موسى وهارون وذكر أنه آتاهما الفرقان، وأرسلهما هداة لبني إسرائيل، ثم ذكر سيدنا إبراهيم ودعوته لقومه إلى ترك عبادة التماثيل، والانضمام إلى عبادة الله وحده.(55/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان)
قال الله جلت قدرته: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:48 - 49].
هذه سورة الأنبياء، وقد ذكر فيها ما يتعلق بنبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، وسيذكر الآن ما يتعلق بموسى وهارون وهما من أنبياء بني إسرائيل المبجلين المعظمين، وسيذكر بعد ذلك إبراهيم أبا الأنبياء، وإسحاق ويعقوب وهكذا بالتوالي، فيذكر في هذه السورة أئمة الخير والهدى والصلاح.
وكثيراً ما يقرن الله جل جلاله ذكر موسى بذكر نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأن قوم موسى قد كانوا أيام أنبيائهم خير العالمين، ولكنهم كفروا بعد ذلك فبدلوا وغيروا، وأفسدوا وقتلوا الأنبياء، وسفكوا الدم الحرام، وأشاعوا الفاحشة، وإذا بهم يسلبون كل ذلك، وتسجل عليهم اللعنة والغضب إلى يوم القيامة، والله يذكر ذلك لنا ولنبينا ليعظنا ويعلمنا وينذرنا من ذلك، وأن الأمة المحمدية -ولو كانت خير للناس- إذا بدلت وغيرت، وصنعت صنع بني إسرائيل، ستكون عاقبتها عاقبة بني إسرائيل في اللعن والطرد من رحمة الله، وهذا من أسرار المقارنة في ذكر القولين والدينين، والنبيين عليهما الصلاة والسلام.
فقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء:48] أي: أنزل الله تعالى على نبيه موسى وأخيه هارون الفرقان، والفرقان هو: التوراة، عندما كانت كما أنزلها الله تدعو إلى الحق، وتفرق بين الحق والباطل، وتشيع النور بين الناس هدىً وصلاحاً.
قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا} [الأنبياء:48] أي: أنزلنا وأوحينا على موسى وهارون التوراة، أنزلها مفرقة بين الحق والباطل، وكل كتب السماء هي كذلك يؤتيها الله للأنبياء ليفرقوا بها بين الحق والباطل، وبين الظلمة والنور، وبين الهداية والضلال.
قوله: {وَضِيَاءً} [الأنبياء:48] كما هي التوراة، وكتب الله السماوية كلها أنزلت للتفريق بين الحق والباطل، فهي كذلك ضياء ونور تبدد ظلمات الشرك والفساد؛ ليعيش الناس في نور، وليعبدوا الله على نور، ولكي لا يعيشوا في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج الرجل يده لم يكد يراها.
قوله: {وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48] كما أن التوراة عندما أنزلت فأوتيها الأخوان الكريمان موسى وهارون كانت تفرق بين الحق والباطل، وكانت ضياءً ونوراً تبدد ظلمات الشرك، كذلك كانت ذكراً للمتقين وعظة، وعبرة، ودعوة إلى الله، دعوة من الله للمتقين الذين يصفهم الله بأنهم الذين يخشون ربهم بالغيب، هؤلاء هم المتقون الموحدون العابدون الذين جعلوا بينهم وبين الفواحش والسوء وقاية وحاجزاً من الطاعة والعبودية وامتثال أوامر الله وأوامر رسوله، هؤلاء المتقون من صفتهم أنهم يخافون عذابه ونقمته، ويخافون أن يطردهم من الجنة ومن الرحمة، ويخشونه بالغيب ولم يروه، ولكن أنبياءهم عرفوهم به جل جلاله، والعقل يدل عليه.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فأنا الإنسان كأمثالي، من خلقني ورزقني الروح والحياة، من خلق الشفتين؟ من خلق السمعين؟ من خلق اليدين والرجلين؟ من خلقني وأعطاني العافية وأغناني عن الناس، وعلمني من علمه، وهداني لدين نبيه؟ من الذي خلق السموات العلى والأرضين السفلى، وهذا النظام الدقيق في الأرض من صيف وشتاء، وخريف وربيع، وليل ونهار، وجبال ووهاد، وأنهار وبحار؟! العقل هو الدليل عندما يفكر ويعي، ويقطع بأن هذا لم يكن بلا خالق، لم يكن بلا مدبر، لم يكن بلا موجد، وهكذا النفوس السليمة، والعقول المدركة تعبر عن الله بوعيها أنه الله الخالق الرازق، المحيي المميت، وجاء الأنبياء رسلاً من الله ليبشروا المؤمن المتقي بالرضا والجنة، ولينذروا الكافر العاصي بالنار واللعنة والغضب؛ لعل القوم يعون، لعل الناس يهتدون، وهكذا كانت التوراة وهي التي أنزلت على موسى وهارون، وكانت فرقاناً بين الحق والباطل، وكانت الضياء من الظلمات وكانت ذكراً وتذكيراً للمؤمنين المتقين، المطيعين الموحدين الذين يخافون ربهم بالغيب ويخشون عذابه إن هم عصوه، وخرجوا عن طاعته، وهم من الساعة مشفقون يؤمنون بيوم القيامة، وبالبعث والنشور، وبالحياة بعد الموت، وبالعرض على الله؛ ليجازى كل على عمله، المحسن بالجنة، والمسيء بالنار، هذا اليوم العظيم ينكره الكافرون والمتقون يؤمنون به، ويخشونه، يخشون ألا يرضى الله عنهم، يخشون أن يحاسبهم حساباً عسيراً، ويخافون ألا يدخلوا الجنة، فهم مشفقون وجلون خائفون من عذاب الله، وعدم رحمته.
وهكذا يذكر الله تعالى موسى وهارون في كثير من السور والآيات؛ ليكونا القدوة والأسوة للمؤمنين بهم في عصرهم، وللمؤمنين بعدهم إلى الأمة المحمدية وإلى يوم البعث والنشور، أن نؤمن بأنهم أنبياء ورسل.
أما الشريعة والديانة: فقد نسخت شريعتهما، ونسخ دينهما، وكانا نبيين لبني إسرائيل فقط، وأما الدين الذي ندين الله به، ونلتزم شرعته، ونتبعه فهو خاتم الأديان، وهو شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الإسلام الذي رضيه الله للناس بعد البعثة المحمدية قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].(55/2)
تفسير قوله تعالى: (وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون)
ثم ذكر الله خاتم الكتب الذي أرسل به خاتم الأنبياء والرسل، فقال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء:50].
تلك التوراة قد كانت، ثم بادت، وغيرت وبدلت، وحرفها بنو إسرائيل، وحولوها إلى كتب شرك ووثنية، فذكروا فيها أن عزيراً ابن الله، وعبدوا العجل وقذفوا الأنبياء المقدسين، وتهجموا على الله جل جلاله، وعلا مقامه، ولم نؤمن إلا أنه كان هناك كتاب هو التوراة أنزل على موسى.
{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} [الأنبياء:50] أي: القرآن الكريم الذي يقال له الذكر، ويقال له: الفرقان، هذا الكتاب الذي أرسله الله ذكراً للعالمين منذ البعثة المحمدية إلى الأبيض والأسود والأحمر إلى العربي والعجمي إلى المشارق والمغارب إلى يوم البعث والنشور، فلا نبي بعد محمد، ولا كتاب بعد القرآن، فصلوات الله على نبينا عليه الصلاة والسلام.
(وهذا) الإشارة للكتاب الذي أنزل، والكتاب الذي ينذر به النبي صلى الله عليه وسلم الناس، والكتاب الذي نتشرف بأن نتدارسه تجاه الكعبة المشرفة، وفي بيت الله الحرام.
قوله: (وهذا ذكر مبارك أنزلناه) أي: ومبارك القصص والعقائد، ومبارك الشفاء، فيه شفاء، ولمتبعه الرحمة والرضا من الله، ومبارك للناس ينشر الهدى والعدل بينهم، ويبدد الظلمات، ويزيل الضلال، ويهدي إلى الحق والنور، ويزيل الشرك، ويمحق الأصنام، ويعرف الناس بالحق، ويبعدهم عن الباطل، تلك بركات القرآن، وبركات الذكر الحكيم، يذكر الله تعالى ذلك ويؤكده، ويدلنا عليه، ويرشدنا إليه.
قوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء:50] أي: أنزله وحياً على نبينا، وأنزله كتاباً على خاتم الأنبياء، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] أي: جبريل، على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم من الله جل جلاله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
هذا الكتاب الذي جاء ناسخاً للكتب قبله، وجاء تطبيقاً للحق الذي فيها إن وجد، ومهيمناً عليها ومبدداً ما فيها من تحريف وتبديل.
قوله: {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء:50] يا هؤلاء المنصتون من البشر قبل وبعد وإلى يوم القيامة منذ العرب عندما قام بينهم نبي الله صلوات الله عليه، وهو يقول: إني بشير ونذير إني رسول إلى الناس كافة، منذ ذلك وإلى الآن، وإلى ما بعد الآن، يقول الله لنا وقد وصف القرآن بخير الصفات من الدعوة إلى الله، والقبول من الأنبياء، والبعد عن الظلمات، والاهتداء بالطريق المستقيم: {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء:50] استفهام تقريري بالنسبة لمن يؤمن، فهو قرار من الله لأن نؤمن به ونلتزم، ففيه صلاحنا في الدنيا والآخرة، وهو استفهام إنكاري توبيخي لمن جحده ولم يؤمن به.
{أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء:50] أي: أتنكرون أنه وحي؟ أتنكرون أنه ذكر حكيم؟ أتنكرون أنه مبارك؟ أتنكرون أنه الكتاب الذي لا كتاب بعده من السماء، وهو خيرها وأجلها وأعظمها؟(55/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل)
وسيذكر لنا الله في هذه السورة إبراهيم وقصته مع قومه ومع النمرود، وشجاعته في الدعوة إلى ربه، ومع تآمرهم على تحريقه، ومع نصر الله أولاً وأخيراً؛ ليكون المثل المضروب لكل مؤمن داعية إلى الله مهما لقي في سبيل الله، فالعاقبة للمتقين.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51].
الله جل جلاله كما أرسل موسى وهارون، أرسل قبلهما إبراهيم أبا الأنبياء، والد النبيين الكريمين المعظمين المبجلين إسماعيل الأب الأعلى لنبينا عليه الصلاة والسلام وأبي العرب، وإسحاق أبي أنبياء بني إسرائيل وهو الولد الثاني لإبراهيم، فقد أكرمه الله بابنين، وأكرمه بالنبوة والحكم والكتاب، وجعل في ذريته النبوة ونزول الكتب كالتوراة والإنجيل والقرآن، وجعل الحكم في ذريته.
ونبينا عليه الصلاة والسلام على أنه النبي الرسول الخاتم كان الحاكم، وكان القائم بدولة الإسلام، والمؤسس والمنظم لها، وكان يقود الجيوش، ويوظف الأعوان، ويقضي في الخصومات، وكان يرسل قواداً للفتح ولهدايتهم، وهكذا قامت دولة الإسلام، وجاء من حكم بعده كـ أبي بكر وعمر فمن بعدهما من الخلفاء الراشدين وغير الراشدين فسموا الخلفاء، أي: خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكمه، وفي تطبيق الشريعة والقيام عليها بالسيف والقلم، ولم يكتف بالقلم ولا بالعلم، ولم يكتف بالبيان، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن كما قال الخليفتان الراشدان: عمر وعثمان رضي الله عنهما.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء:51] فسروا (قبل) أي: قبل البلوغ وتحمل الرسالة، وكما قال الله عن يحيى عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12] ففسروا هنا {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء:51] أي: من قبل الوحي والرسالة، ومن قبل الصحف المرسلة المنزل بها على الناس.
قوله: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51] أي: عالمين أنه أهل للرسالة والإمامة، أهل لأن يدعو الناس إلى عبادة ربه، وإلى توحيده، وإلى نشر العدل، وهكذا كان، فإبراهيم عليه السلام دعا النمرود وقومه إلى عبادة الله، وامتهان الأصنام وكان سنه لا يزيد على ستة عشر عاماً، وتحمل وهو في هذه السن الصغيرة النمرود وعذابه، وتحريقه بالنار، ولكن الله نصره، ورد كيد النمرود على نفسه وقومه، فقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء:51] إما من قبل موسى وهارون اللذين ذكرا قبله بآية، أو قبل أن يوحى إليه، وهو لا يزال في سن صغيرة، كما آتى الله يحيى الحكمة وهو بعد صغير، وكما آتى عيسى المعجزة والنطق، وهو لا يزال في المهد.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51] أي: عالمين أنه أهل للنبوة والرسالة وأهل لما أهلناه له من النبوة والرسالة والدعوة إلى الله، وإلى عبادة الله وتوحيده، وكيف كان ذلك وما تفسيره؟!(55/4)
تفسير قوله تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل)
قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52].
كان رشده، كانت هدايته، كان عقله، كان فهمه، كان إدراكه، كان ما ألهمه من منطق سليم ودعوة إلى الله وهو لا يزال بعد صغيراً فدعا قومه إلى عبادة الله، واستنكر عبادتهم للأصنام: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52].
التماثيل: جمع تمثال، والصنم سمي تمثالاً؛ لأنه مثل به خلق من خلق الله، مثل إنسان أو جن أو ملك تخيلوه، أو حيوان رأوه فصنعوا على شاكلته شبيهاً له، وسمي مثالاً وتمثالاً، ويصنعونه من الذهب والفضة، والصفر، ومن الحديد والأخشاب والأحجار، وغيرها من الجمادات التي لا تعقل.
يا أبت! يا قوم! ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، وأنتم مقيمون عليها الليل والنهار، قائمون على عبادتها، والركوع لها، والسجود إليها، وعبادتها من دون الله؟ أليست لكم عقول تفكر وتعقل؟ ألهذه التماثيل تصرفون العبادة؟ ألها فهم؟ أتنفع أم تضر نفسها فضلاً عن أن تنفعكم أو تضركم؟! مر علي كرم الله وجهه على قوم يلعبون الشطرنج فقال لهم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] لأن يمس أحدكم جمرة حتى تحترق يده خير من اللعب بهذه التماثيل.
وكان علي كرم الله وجهه يحرم اللعب بالشطرنج، وهو رأي كثير من الأئمة المجتهدين والمتبوعين من الأربعة وغيرهم، وأجازه البعض إذا كان لا يشغل عن صلاة، ولا يدعو إلى نزاع؛ لما فيه من امتحان الفكر والوعي، ولا يكون ذلك إلا لقلة من الناس، ومن هنا روي عن الشافعي هذا.(55/5)
تفسير قوله تعالى: (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} [الأنبياء:51 - 52].
الرشد الذي أتاه وظهر وبرز عندما قال لأبيه وقومه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ سألهم موبخاً ومقرعاً: ألكم عقول؟ كيف تعتكفون وتقيمون على هذه التماثيل ليلكم ونهاركم عابدين؟! وإذا بهم يجيبون {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:53].
فلم يجدوا دليلاً من عقل، ولا برهاناً من كتاب، وإنما التقليد الأعمى الذي لا يأتي إلا بشر، ولا يأتي إلا بفساد، فكان دليلهم أنهم وجدوا آباءهم قبلهم يعبدونها، ويعكفون عليها، ويتخذونها آلهة من دون الله: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:53].
تلك حجتهم ولا حجة لهم غيرها، وقد دلت على سخافتهم، وفساد عقولهم! وأنهم في كفرهم مقلدون للآباء، يصنعون شيئاً لا يعونه ولا يعقلونه، وإنما رأوا الآباء على ضلالهم وشركهم، يشركونها بالله ويعبدونها من دون الله، فقلدوها عن عمى وضلال وفساد.
وإذا بإبراهيم يجيب: {قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54] أي: قال إبراهيم: لقد كنتم يا هؤلاء الذين عاصرهم من قومه، ورآهم يعبدونها ويعكفون عليها، وعندما سألهم مقرعاً احتجوا بأنهم رأوا الآباء يعبدونها فقلدوهم، وإذا بإبراهيم يقول لهم: {قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54].
كنتم أنتم ولا تزالوا، وكان آباؤكم الذين قلدتموهم في ضياع، وظلمة، وضلال بين واضح، لا يكاد يثبت على قدميه عندما يناقش بالدليل والبرهان.
{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء:55] أي: هذا الذي تقول أصحيح هو، وأن آلهتنا ليست بآلهة، وأن عبادتها ضلال، وأن الآباء الذين عبدوها كانوا ضلالاً، وهل أنت جاد فيما تقول أم أنت من اللاعبين الهازلين، تريد أن تمزح معنا وتقول هذا الكلام الكبير؟ هكذا قالت لهم عقولهم، وظنوا أن إبراهيم يمازحهم ويلاعبهم، وهو أعظم من ذلك مقاماً، وهو أعظم من ذلك دعوة إلى الله.(55/6)
تفسير قوله تعالى: (قال بل ربكم رب السماوات والأرض)
{قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56].
هنا بين لهم الحق، وأنه جاد كل الجد، وأنه لم يتكلم إلا بالحق، وأن آلهتهم التي يعبدون من أصنام وتماثيل ليست إلا آلهة مزيفة، وجمادات لا تنطق ولا تعي، ولا تنفع ولا تضر.
(بل) إضراب عن الكلام الماضي، كل ما عبدوه فهو باطل، وكل ما اعتفكوا عليه فهو باطل، وكل ما قاموا عليه هو باطل هم وآباؤهم.
{قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} [الأنبياء:56] ربكم الذي هو أجدر بالعبادة، وهو ذو الحق في ذلك، الخالق الرازق الذي ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه جل جلاله، وعلا مقامه.
(ربكم) صفته ونعته أنه خالق السموات التي ترونها بأعينكم، وهو خالق الأرض وما عليها، الذي فطرهن وخلقهن على غير مثال سابق، وأبدعهن إبداعاً، وأوجدها بعد أن لم تكن، ولم يكن لها نظير؛ إذ لا رب للكون إلا الله، وأنا على ذلكم من الشاهدين.
يقول إبراهيم: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56].
كلمة (ذلك) بالإشارة، عندما تضاف يبقى اسم الإشارة مفرداً، ولكن من يخاطب يضم إليه، فيكون اسم الإشارة مثنى إذا خاطبت اثنين، ويكون جمعاً إذا خاطبت جماعة، فتقول إذا خاطبت اثنين: ذلكما.
وهذه التماثيل ليست إلهاً لكم، إنما إلهكم من خلق هذه السماء، ورفعها بغير عمد وأنتم ترونها، من خلق الأرض وما عليها وأنتم ترونها، وهو الذي فطرها وأبدعها بلا مثال سابق.
وأنا شاهد على ذلك أي: أشهد نفسي وأشهد سمعي وأشهد الله عليه أنني أؤمن وأعتقد جناناً، وأنطق لساناً أن هذه السماوات العلى والأرضين السفلى هي خلق الله، والفطرة التي أبدعها، وأن الله وحده الجدير بالعبادة، وأن الله وحده الذي انفرد بالخلق والربوبية والألوهية، وكل ما عداه باطل، فذاك معنى لا إله إلا الله، أي: لا إله بحق، لا إله مما يدعي الناس من صنم ووثن وملك وجن وإنس وحيوان وجماد، ليس الإله الحق إلا الله ذو الجلال والإكرام.
{وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56] أي: أشهد أن الله هو الخالق، وأشهد أن الله هو الإله، وأشهد أن الله هو الجدير بالعبادة وحده، وأن كل ما تصنعون لا ما صنعتموه أنتم ولا ما قلدتم به آباءكم من عبادة للتماثيل والأصنام الباطلة المزيفة، التي لا حقيقة لها في نفس الأمر، وإنما هي مخترعة ومبتكرة من عقول ضاعت وزيفت وغرقت في الضلال.(55/7)
تفسير سورة الأنبياء [57 - 64]
أقسم إبراهيم بالله ليكيدن أصنام المشركين، ثم بر بيمينه فكسرها إلا كبيرها، ثم حاججهم على بطلانها بأن لم تستطع أن تدفع عن نفسها، فكيف تستحق العبادة.(56/1)
تفسير قوله تعالى: (وتالله لأكيدن أصنامكم)
قال الله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57].
يقسم إبراهيم بالله الكريم، يقال: والله وتالله وبالله، والواو والباء تدخل على أسماء الله في الأيمان والأقسام كلها، تقول: والرحمن، وبالرحمن، والرزاق وبالرزاق.
أما التاء لا تكون إلا في اسم الجلالة الله، فلا تقول: تالرحمن، ولا تقول: تالرزاق.
يقسم إبراهيم بالله ربه وخالقه فاطر السماوات والأرض فيقول: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57].
يقسم بأنه سيمكر بهذه الأصنام، وسيكسرها، وسيبطلها ويزيلها من مكانها.
قوله: {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57] أي: بعد أن يبتعدوا عنها، وتأتيه فرصة وخلوة لينفرد بها ويصنع بها ما شاء.
قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58] أي: أدبروا، وتركوا الأصنام في المعبد مفردة دون حارس ولا رقيب، وإذا بإبراهيم يأتيها ويبر قسمه، فينزل عليها ضرباً باليمين.
وتمام القصة في البيان والشرح: أنه كان لـ نمرود وقومه عيد سنوي يخرجون إليه كلهم وتبقى الأصنام وحدها ويضعون لها طعاماً، حتى إذا عادوا أكلوا من ذلك الطعام متبركين بها.
فجاء إبراهيم وقد أدبروا عنها، فوجد الطعام فقال للأصنام: ألا تأكلون؟ فلما لم تجب قال لها: ألا تنطقون؟ ثم يحمل الفأس بيده ويأتي عليها ضرباً باليمين، وكانت سبعين صنماً، فنزل عليها وضربها ضرباً بحيث أصبحت قطعاً كما قال تعالى: (فجعلهم جذاذاً)، والجذاذ جمع مفرده: جذيذ كخفاف وخفيف.
وحرف الجيم يثلث: وجُذاذاً وجَذاذاً وجِذاذاً، أي: قطعاً قطعاً وكسراً كسراً، وكل قطعة لا تكاد تبين من شدة التكسير والتحطيم.
{فَجَعَلَهُمْ} [الأنبياء:58] والتعبير بالجمع باعتبارهم يعبدونها آلهة، وهي عندهم أعقل منهم، فسخر منهم فجعل ذلك كأنه لعاقل بحسب زعمهم.
قوله: {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58] أي: جاء إلى الصنم الكبير بعد أن كسر التسعة والستين صنماً، وكان الكبير وسطها، وصفوه أنه كان من ذهب، وكانت عيناه ياقوتتان، فجعل الفأس في عنقه وذهب.
{لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58] أي: لم يكسر الصنم الكبير، ووضع الفأس في عنقه لعلهم يرجعون إليه يسألونه: لم صنعت هذا؟ أو: لعلهم يرجعون لدينه ويؤمنون بربه ويصبحون مسلمين، ويرون أن هذه الآلهة التي عجزت عن حماية نفسها لا تستحق عبادة ولا أن يطلب منها الحياة والموت والرزق والعافية والصحة؟! لعلهم بعد أن يروا ذلك يرجعون إليه إما مؤمنين أو سائلين؛ ليزيدهم توبيخاً ودعوة وتعليماً.(56/2)
تفسير قوله تعالى: (قالوا من فعل هذا بآلهتنا)
قال تعالى: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59].
أي: رجعوا من نزهتهم وعيدهم فذهبوا إلى الآلهة المزيفة وهم يريدون أن يتبركوا بالطعام الذي وضعوه إليها، وإذا بهم يجدونها مكسرة مقطعة؛ فذهلوا وانزعجوا وأخذوا يتساءلون: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59] أي: إنه لمن المجرمين، المذنبين المسيئين.
فبينما هم يتساءلون: من فعل هذا بآلهتهم؟ وإذا بقوم سمعوا إبراهيم وهو يقسم بالله: تالله لأكيدن أصنامهم بعد أن يولوا مدبرين، وسمعوه يعيب آلهتهم ويشتمها ويتنقصها، فأجاب هؤلاء القوم الذين تساءلوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59].
قال آخرون: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60].
قال قوم يجيبون المتسائلين: {سَمِعْنَا فَتًى} [الأنبياء:60] شاباً صغيراً، يقال للصغير من الشباب: الفتى، ويقال للصغيرة من الشابات: الفتاة، ومعنى ذلك: أنه كان شاباً صغيراً عندما صنع ذلك ودعا إلى الله، وهذا يؤكد المعنى الذي قلناه من قبل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء:51] آتى الله إبراهيم رشده، آتاه هدايته، آتاه العقل الكامل من قبل أن ينبأ ويرسل، {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51] أي: عالمين بأهليته للنبوات والرسالة.
{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60] يسمونه إبراهيم، ومعنى ذلك: أنه لم يشتهر بعد الشهرة الكبيرة التي تجعلهم يلتفون حوله مؤمنين أو كافرين، فلا تزال دعوته في بدايتها وهو بعد شاب صغير، قالوا: لم يتجاوز ستة عشر عاماً، وقيل أربعة وعشرين عاماً.
قال عبد الله بن عباس: ما أرسل الله نبياً إلا شاباً في الأربعين عند تمام النضج، وما تعلم العلم ويصبح عالماً إلا شاب، وأما بعد الشيب فلا سبيل إلى التعلم، إلا أن يتابع التعلم الذي ابتدأه صغيراً وشاباً.
وطلب العلم من المهد إلى اللحد، والإنسان ما دام حياً يطلب العلم ويدعو الله أن يزيده علماً، والعالم أو طالب العلم الذي يقول: قد وصلت، معناه أنه قد جمد، وإلا فالعلم لا نهاية له، ومهما علمت فالله تعالى جعل فوق كل ذي علم عالماً {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76].
مهما كنت عالماً فغيرك أعلم منك، ومهما كنت إماماً فغيرك أكثر إمامة منك، وهكذا إلى أن ينتهي العلم في خاتم الأنبياء، وبالنسبة للعلوم البشرية إلى أن ينتهي العلم لصاحب العلم جل جلاله الذي لا يحيط بعلمه أحد من خلقه.
فتى يذكرهم: أي: يعيبهم ويشتمهم ويتنقصهم وينفر منهم.(56/3)
تفسير قوله تعالى: (قالوا فأتوا به على أعين الناس)
{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:61].
صدر أمر نمرودهم وجبارهم وطاغيتهم النمرود وأعوانه وأنصاره: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:61].
مروا به على الناس ليروه وليكونوا عليه من الشاهدين، أصحيح هذا الذي يذكرهم؟ أصحيح هذا الذي يعيبهم؟ يريد النمرود ألا يسرع بعقوبته؛ لأنه زور في نفسه عقوبة عظيمة لا يكاد يتحملها إنسان.
وهذا يدل على أن إبراهيم كان من بيت كريم، وكان من أسرة لها سلطانها وجاهها، فعقوبته بأشد أنواع البطش لا يتم إذا كان هذا العمل متأكداً ومتيقناً، فقال لهم: مروا به على أعين الناس أي: على مرأى من الناس.
لعلهم يكونون شاهدين على ظلمه، وشاهدين على عيبه الأصنام وكسرها وفعله به ما فعلها من جعلها جذاذاً وقطعاً.(56/4)
تفسير قوله تعالى: (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا)
قال تعالى: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:61].
حضر إبراهيم وإذا بهم يسألونه: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62].
سألوه وكان من تمام الدعوة أن يحضر الناس من كل فج عميق ليشهدوا هذا، ولتكون المعجزة، ولتكون الدعوة إلى الله من إبراهيم كاملة يحضرها القوم، كما جمع فرعون السحرة والناس من البلاد قاصيها ودانيها؛ ليشهدوا ذله وخسارته، وإيمان السحرة بموسى.
وهكذا هنا النمرود طلب أن يحضر الناس ليشهدوا عقوبته، ويشهدوا عمله، ويكونوا مع ذلك مقتنعين بما يريد أن يصنعه به، ولكن ذلك كان من السر الإلهي، وهو: أن تكون دعوة إبراهيم أمام هذا الملأ من الناس، ليبين ضعف أصنامهم ويعترف بأنه كسرها وقطعها، وإذا بالله الكريم ينصره على الجميع.
ثم إن إبراهيم أراد أن يستخرج الحجة على فساد وبطلان آلهتهم منهم، وهذا في المحاورة والمذاكرة من أبلغ القول في إثبات الحجة بأن ينطق بها الخصم فتلزمه بها.
{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] وهو قد جعل الفأس في عنق الكبير، ومعناه: أنهم أحضروه في مكان الأصنام وهي مكسرة قطعاً وجذاذاً، والصنم الكبير في عنقه الفأس، قال إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] لقد قال هذا القول وكما قلنا غير مرة: وجود الشرط لا يلزم منه الوقوع.
نعم هذا الذي فعل فاسألوه إن كان ينطق، واسألوا مَن كُسر منها إن كانت تنطق.
قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: كذبتين في ذات الله، وكذبة من أجل سارة، أما الكذبة الأولى فهي هذه كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63]).
والكذبة الثانية عندما ذهبوا لعيدهم وأتوه وقالوا له: يا إبراهيم! اذهب معنا وكانوا قد خافوا على آلهتهم وأصنامهم منه، فذهب قليلاً ثم توقف وقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] إني مريض لا أستطيع الذهاب معكم، ولا يحملني بدني، فرجع ليبيت الأصنام ما عزم عليه.
والثالثة: عندما هاجر من العراق إلى الشام، ثم إلى مصر، وعاد للشام، كان جبار مصر لا يكاد يسمع بامرأة حسناء إلا ويطلبها للفاحشة، فقيل لجبار مصر: رجل جاء من العراق معه أجمل النساء، فأرسل إليه وقال: من هذه منك؟ قال: أختي.
قال: دعها عندي.
وإذا بالجبار أراد أن يمسها فرآها بين عينيه ثوراً يكاد يفترسه، وشلت يده عندما حاول أن يمسها، وانزعج، ودارت به الأرض، حاول ثانية فوقع له مثل ذلك، وثالثة فوقع له مثل ذلك، وإذا بالجبار يقول لإبراهيم: ما هذه بإنسان ولكنها شيطان، أبعدوها عني.
وفي حديث الشفاعة أيضاً عندما تأتي الأمم تمر على الأنبياء وقد اشتد بهم الكرب حال العرض على الله، فيأتون إلى إبراهيم فيقول: (نفسي نفسي، لقد كذبت كذبات لا أدري ما سيفعل الله بي منها).
هذه كذبات في اللفظ، وليست كذبات في نفس الأمر، وهي من النوع الذي يقول عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب).
فمثلاً: سئل صلى الله عليه وسلم وهو مهاجر من مكة إلى المدينة وقد نذرت قريش: أن من أتى به حياً أو ميتاً فله مائة من الإبل، دية قتيل.
وإذا به يخرج في وجهه أعراب فيسألونه من أين أنت؟ فيقول: (من ماء) وماء كانت قبيلة من قبائل العرب.
والنبي لا يقصد أنه من القبيلة، فهو هاشمي قرشي، ولكنه خدعهم، والحرب خدعة، والنبي في حرب عليه الصلاة والسلام، فعرض في كلامه، وهم فهموا أنه من قبائل ماء، وهو يقصد أنه خلق من ماء دافق كما يخلق كل إنسان.
والنبي عليه الصلاة والسلام يصنع ذلك ويأمر به لمن اضطر ألا يقول الحقيقة؛ لكيلا يستغلها الأعداء فيصلوا إليه بعداوتهم، وكان هذا فعل إبراهيم عندما قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63].
فهو أراد ذلك، وقد قال رسول الله: (كان ذلك في ذات الله) عليهما جميعاً الصلاة والسلام، فهو قصده من ذلك أن يأخذ الحجة منهم في ذاتهم.
{إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] فنقول إنهم آلهة على الأقل في المناظرة، وإن كانوا حقاً فسينطقون، ويدافعون عن أنفسهم، أراد عندما يقولون ذلك أن يلزمهم: كيف تعبدون أحجاراً لا تضر ولا تنفع، ولم تدفع عن نفسها هذا القطع والكسر، ولم تستطع النطق وتكشف من فعل بها ذلك؟ فإذا قالوا ذلك قال لهم: وكيف تعبدون ما لا يضر ولا ينفع؟! وهذا الذي سيحدث عندما قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] وليس إنسان في الأرض إلا وفيه نوع من أنواع السقم، لو جاء طبيب وحاول أن يفحصنا جميعاً ولا بد وأن يجد في كل واحد منا شيئاً من المرض منذ الولادة، منذ الطفولة فهو سقيم، ولو لم يكن سقيماً تلك الساعة سيسقم بعد، وهذه صفة الإنسان التي فطر عليها منذ الولادة.
أما الثالثة فقوله: هذه أختي، فقد قال لها: أنت أختي في التوحيد والإيمان، وأخيراً أخته في البشرية، كلنا من آدم وحواء، فنحن البشر جميعاً إخوة بعضنا لبعض.
فإذاً: هي كذبات باعتبارها معاريض، وليست كذبات في واقع الأمر، وهذا هو الذي أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول، وأما قول إبراهيم عن نفسه في يوم الشفاعة العظمى فذلك هضم لنفسه وتواضع.
وقد رأى من نفسه هناك من هو أهم منه لأن يقوم بهذه الشفاعة، وهو يعني بذلك نبي الله عليه الصلاة والسلام الذي عندما أسكن إسماعيل وأمه في هذه الأرض المقدسة دعا الله تعالى أن يبعث لهذه الأمة -العرب- نبياً منهم بشيراً ونذيراً، يعلمهم آياته، ويرشدهم إلى هدايته، وقد كان كل ذلك.
{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] وهو بذلك أراد إعجازهم وأخذ الحجة منهم، وكما قال: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64].(56/5)
تفسير سورة الأنبياء [70 - 75]
اجتمع عبدة الأوثان من قوم إبراهيم وأرادوا الانتصار لأوثانهم، فعزموا على إحراقه فنجاه الله من كيدهم، ورزقه ذرية طيبة صالحة، وهاجر مع سيدنا لوط الذي أرسل إلى القوم الفاسقين فكذبوه فدمرهم الله بما هو معروف.(57/1)
تفسير قوله تعالى: (وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين)
قال الله تعالى: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70].
لا نزال مع خليل الله إبراهيم أبي الأنبياء صلوات الله عليه وعلى نبينا، وهو بين أعدائه عندما دعاهم إلى الله، وإلى عبادته وحده، وإلى ترك التماثيل والأصنام وما يعبد من غير الله من الأباطيل والأضاليل والتهاويل، وقد قال لهم: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:67].
عندما قال لهم ذلك وسبهم وشتمهم ولم يهتم بهم ولا بملكهم ولا بسلطانهم، وقد عجزوا عن الدليل والبرهان عادوا إلى تجبرهم واستغلال حكمهم وجاههم، فقالوا: {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68].
فقال الله جل جلاله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
كل هذا قد مضى، يقول ربنا: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} [الأنبياء:70] أرادوا به مكراً، وأذية وظلماً انتصاراً لآلهتهم المزيفة، ولأحجارهم التي لا تعي ولا تعقل.
قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70].
قد خسروا نفقتهم، وخسروا كيدهم وسلطانهم، وخسروا دنياهم وأخراهم، وكانوا الأذلين والمهزومين والخاسرين.
والأخسر على صيغة أفعل أي: كانوا هم يريدون هذا بإبراهيم، فكانوا هم المهزومين الخاسرين، بل الأخسر والأظلم والأذل.(57/2)
تفسير قوله تعالى: (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين)
قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71].
نجى الله إبراهيم بعد أن صنعوا له الكيد في أن يحرقوه، وطالما اجتالوا بذلك ليالي وأياماً حتى اشتد اللهب وقذفوه بمنجنيق، وبقي أياماً في النار، ما كانوا يظنون إلا أنه أصبح رماداً مع الأحجار والوقود والأشجار، وإذا به يخرج وهو جالس يسبح الله ويحمد الله، ولم يحترق منه إلا الوثاق الذي وثقوا به يديه ورجليه.
وعندما جاءه جبريل وهو يقذف قال له: (هل لك من حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى ربي فبلى).
وقال عن ربه: (علمه بحالي يغني عن سؤالي.
ثم قال: حسبنا الله ونعم الوكيل).
فكان الله حسبه، وكان وكيله كما فعل مع خاتم الأنبياء من ذريته عندما قالوا له: إن القوم قد جمعوا لك وتآمروا عليك فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فكان هذا الذكر هو الواجب على كل من يقال له: إن أعداءك تآمروا عليك، إنهم أرادوا بك الكيد فليقل: حسبنا الله ونعم الوكيل، والله حسبه ووكيله، ومن كان الله وكيله لا يضره شيء لا من السماء ولا من الأرض.
قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا} [الأنبياء:71] بعد أن صنع فيه هؤلاء ما صنعوا حرمهم الله بركة نبي الله بين ظهرانيهم، وأمره بالهجرة والخروج من بينهم، كما أمر بعد ذلك سليله محمداً صلى الله عليه وسلم عندما تألبوا عليه، فهجرهم وذهب إلى المدينة المنورة.
وكذلك إبراهيم أنجاه الله من أرض العراق حيث نشأ وولد في مدينة الكوفة في عصر النمرود المتأله الجبار، الطاغية الكافر الذي حاول بطغيانه أن ينال من إبراهيم، فنصر الله إبراهيم عليه نصراً عزيزاً مؤزراً، وسلط على النمرود وقومه أحقر وأصغر خلقه، سلط عليهم البعوض، فكانت البعوضة تدخل الأذن، ثم الخياشيم، وتظل تتحرك إلى أن تصل إلى المخ والدماغ؛ فيموت هلاكاً.
قال الله بعد ذلك: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا} [الأنبياء:71] أنجى إبراهيم وقريبه النبي لوطاً ابن أخيه، وكان قد آمن به كما آمنت به ابنة عمه سارة، وخرج مهاجراً من أرض العراق إلى الشام هو وابن أخيه لوط، وزوجته وابنة عمه سارة، وترك أرض الكفر فاراً إلى عبادة الله، حيث لا يظلم ولا يؤذى ولا يحال بينه وبين الدعوة إلى الله وإلى عبادته وتوحيده.
فذهب إلى حوران من أرض الشام، وكانت بذلك نجاته من ظلم الظالمين، وبذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (أرض الشام هي أرض الهجرة بعد الهجرة، أرض مهجر إبراهيم عليه السلام).
{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71] يقول تعالى: إنه أنجى وأنقذ نبيه وخليله إبراهيم وابن أخيه نبي الله ورسوله لوطاً إلى الأرض المباركة التي بارك فيها للعالمين.
وجمهور المفسرين يرون أن الأرض المباركة هنا هي أرض الشام، فهي مباركة بثمارها، وزروعها، مباركة حيث هي أرض المنشر والمحشر، وفيها ينزل عيسى عليه السلام، وحيث اختارها الله هجرة لخليله وأبي أنبيائه إبراهيم عليهم السلام.
ولكن ابن عباس يقول: بل الأرض المباركة هي مكة، وتلا قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:96 - 97] فقد سماه الله مباركاً، وقال الله عنها: (مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ).
وابن عباس كان يقول: المقام هي مكة كلها، وليس الحجر الذي تصلى فيه الركعتان فقط، وأن من طاف بالكعبة سبعاً، وصلى في البيت ركعتين فقد صلى في المقام، وقام بما طلب منه بعد الطواف.
لا شك أن مكة مباركة، ولا شك أن مكة سيدة بلاد العالم على الإطلاق هي والمدينة المنورة، فهي منزل الوحي وخاتم الأنبياء، وهي مسقط رأس سيد البشر عليه الصلاة والسلام، وهي البقعة التي جعل الله الحج إليها فرضاً على كل إنسان، ولكن بشرط أن يكون مسلماً، فإن لم يكن مسلماً فالحج واجب عليه ولكن لا يقبل منه، ولا يجوز أن يدخل الأرض المباركة ما لم يؤمن بالله رباً، ونبيه محمداً نبياً ورسولاً صلوات الله وسلامه عليه.
ولكن مع ذلك إبراهيم لم تكن سكناه مكة، وعندما أتى بإسماعيل قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] يقول: من ذريتي، أي: ببعض ذريتي.
وعندما أتى به مع أمه تركه وعاد إلى الشام، وكان يتردد عليه ولم يأت بكل أهله ولا أولاده، ولم يأت بـ سارة ولا إسحاق ولا أحفاده.
ولكن رأي ابن عباس له حرمته ومقامه، وهو حبر القرآن، وابن عباس المكي المدني.
ولقائل أن يقول: هو أعلم بهذا.
قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71] والبركة: النماء والخير، بارك فيها للعالمين، وجعلها أرضاً مفتوحة لكل مسلم، وفيها من المياه أنهر عدة، وفيها من الغابات، وفيها من الزروع والثمار والفواكه، وفيها من الأنعام، وفيها من اعتدال الجو بالنسبة لغيرها صيفاً وشتاءً وربيعاً وخريفاً.
{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71] لكل الناس، كانت كذلك ولا تزال، ولذلك جاء في الأثر النبوي والحديث: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم).
وهي الأرض المباركة، وفيها أرسل أكثر أنبياء الله، وما من نبي إلا كان منها أو ذهب إليها ورحل، ومن هؤلاء نبينا عليه الصلاة والسلام رحل صغيراً قبل النبوة مع عمه أبي طالب أولاً، ثم بعد ذلك مع مولاه زيد لتجارة خديجة بنت خويلد التي كانت بعد التجارة أم المؤمنين الأولى، وزوجته الأولى التي لم يتزوج عليها إلى أن ماتت رضوان الله عليها.
قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا} [الأنبياء:71] ولوط كذلك من أنبياء الله نبئ بعد هجرته مع عمه إبراهيم، وسكن إبراهيم حوران من أرض الشام، وسكن لوط سدوم على بعد مائة وعشرين ميلاً في ما ذكروا.
وذهب إبراهيم إلى مصر فوجد حاكمها لا يقل طغياناً وجبروتاً عن حاكم العراق، فترك مصر مرة ثانية، وقد كان جبارها وطاغيتها يريد أن ينال من السيدة الجليلة سارة بسوء، ولكن الله تعالى أبعده عنها.
وعندما اجتمع بها ما رآها إلا وحشاً كاسراً، لا يكاد يحاول مس يده إلا ويشل، ويرى في سارة وحشاً ضارياً يكاد يفترسه، وإذا به يصيح: أبعدوا عني هذا الشيطان، ليس هي بإنسان، وكان ذلك عندما قيل لهذا الطاغية: رجل جاء من العراق عنده أجمل النساء، وكان هذا الفاسق الفاجر إذا سمع بجمال امرأة ينالها على أية حال كان الأمر.
وعندما أتي إليه بإبراهيم وقد طلبه قال له: من هذه منك؟ قال: أختي، يعني: أخته في الإنسانية، وأخته في الإسلام.(57/3)
تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة)
قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء:72].
استجاب الله لطلب إبراهيم ودعائه وندائه، وكان قد تجاوز المائة عام، قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100].
دعا أن تكون له ذرية صالحة، فاستجاب الله له بعد كبره وبعد عقم سارة، فولدت سارة بعد أن تجاوزت التسعين إسحاق، وولدت هاجر إسماعيل الأب الأعلى لنبينا صلوات الله وسلامه عليه.
فقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} [الأنبياء:72] في هذا الوقت لم يكن إلا إسحاق، كان هبة من الله وعطية له من الله.
قال تعالى: {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72] والنافلة: الزيادة مثلما نقول: الفرائض والنوافل، والفرائض: حق لازم وفرض على كل مسلم، والنوافل: زوائد من صلاها أجر، ومن تركها لا يأثم ولا يعاقب، وإن أصر على ذلك قد يلام على تركه سنة لم يتركها رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكنها على كل اعتبار ليست بفريضة، وكان الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: التقوى إتيان الفرائض.
ومن هنا يقول الشاعر: ولم أصل سوى فرض ولم أصم يقول عن نفسه: الذي أكرمني الله به أنني لم أترك الفرائض قط، أي: لم يترك الأركان ومتعلقاتها، وتلك التقوى عند السلف الصالح.
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} [الأنبياء:72] أعطاه إسحاق منحة في غير وقت الولادة، وكانت سارة عقيمة، وكان إبراهيم مسناً قد رق عظمه، وكثر شيبه وضعف؛ ولذلك عندما جاءه الملائكة يبشرونه ضحكت سارة أيكون هذا وأنا عقيم! وهذا بعلي شيخاً؟ قالوا لها: أتعجبين من أمر الله! إن الله قادر على كل شيء.
من ولد الصخر ناقة لم لا يولد إنساناً كان مسناً أو عقيماً أو لم يكن؟! فهو الذي أولد غير العقيم وهو القادر على زوال العقم من العقيم.
قوله: {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72] ويعقوب هو ابن إسحاق أي: حفيد إبراهيم، وإبراهيم قد أكرمه الله في حياته بأن كان في بيت واحد وسلالة واحدة أربعة أنبياء، إبراهيم خليل الله، وإسحاق وإسماعيل ولداه نبيا الله المكرمان، وحفيده يعقوب، كان الأربعة أنبياء في بيت واحد؛ ولذلك سأل صلى الله عليه وسلم مرة: (من الكريم فيكم) فأخذوا يفكرون ويتنقلون بأذهانهم أنه نبي، أو فلان فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (الكريم هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم نبي الله، وولد نبي الله، وحفيد نبي الله، وسبط نبي الله).
أربعة في سلالة واحدة، كانوا يقولون لبعضهم: أبي وجدي وولدي وحفيدي وسبطي، وهذا هو الكرم الذي لا كرم بعده، والحسب الذي لا حسب بعده، ومع ذلك فنبينا سيد الكل، وإمام الأنبياء وسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام.
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء:72] طلب إبراهيم أن يهبه الله من الصالحين ولداً، فالله تعالى وهب له الصالح وأكرمه، وجعله من سادات الصالحين، وأعطاه ولداً نبياً من الصالحين وحفيداً من الصالحين، وسبطاً ليوسف من الصالحين.
قال تعالى: {وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء:72] لم نقصر الصلاح على ما طلب من الولد، بل جعلنا الأب والابن والحفيد والسبط كل واحد منهم صالحاً، وهذا التنوين في لغة العرب يقال له: تنوين العوض، فهو عوض عن كلمة، وقد يكون عوضاً عن جملة.
وكل هؤلاء إبراهيم وإسحاق ويعقوب جعلنا من الصالحين، أكرمناهم، وخلقناهم، وفطرناهم ضمن الصالحين من عباد الله الأنبياء والرسل، وأتباعهم من المؤمنين الصالحين الصادقين.(57/4)
تفسير قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73].
يصف الله لنا هؤلاء الكرام السادة من الأنبياء ليكونوا قدوة لنا وأسوة.
{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] قالها لسيد الخلق، وهي لنا تبعاً لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه.
قال عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} [الأنبياء:73] أي: سادة، ورؤساء، وقادة، وأنبياء، ورسلاً.
قوله: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء:73] أي: بوحينا، يهدون الناس إلى الخير، ويهدونهم من الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد.
قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:73] فكانوا أنبياء موحى إليهم، ورسلاً كراماً دعاة إلى الله وتوحيده وعبادته.
وما الخيرات إلا الطاعات، وما الخيرات إلا العبادة، وما الخيرات إلا التوحيد، وما الخيرات إلا الإيمان بالله وحده لا شريك له، وبرسله عبيداً مكرمين، ورسلاً مبشرين ومنذرين.
أوحى لهؤلاء السادة الثلاثة الكرام، وجعلهم أئمة في الخير وسادة للناس، وجعلهم رسلاً وأنبياءً، وأوحى إليهم من الخيرات العبادة والتوحيد والطاعة وفعل الخيرات كلها، وترك المنكرات جميعها.
قوله: {وَإِقَامَ الصَّلاةِ} [الأنبياء:73] وأوحى إلى هؤلاء أن يقيموا الصلاة، والإقامة: الإتيان بالصلاة بأركانها وواجباتها وسننها وشرائطها، وصلاة كل نبي حسب شريعته.
قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] أي: عبادة كالصلاة، وصلاتهم الله أعلم بها، ولكنها مع ذلك لا تخرج عن التسبيح، والتمجيد، والتعظيم، والدعاء، والتوجه لله بجميع الحواس.
قوله: {وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} [الأنبياء:73] كما أوحى إليهم إقامة الصلاة والملازمة عليها، والقيام عليها أوحى إليهم أن يؤتوا الزكاة، ويعطوا قدراً معلوماً على كل مال وزراعة وتجارة، حسب شرائعه التي اندثرت ونسخت، وعوضت هذه الديانات بالدين الذي لم يقبل الله بعد الرسالة المحمدية غيره، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
وكل هذه الأمة أمة محمدية، المسلم واليهودي والنصراني، ولكن المستجيب من الناس يسمون أمة الإجابة، وغير المستجيب يسمى أمة الدعوة، ويعتبرون متمردين عصاة، وقد تمردوا على طاعة نبيهم أيضاً؛ ولذلك عندما يقال: نبي العرب أو نبي الإسلام من يقول هذا يكون جاهلاً، فليس هو نبي العرب وحدهم، ولم يأت النبي بهذا فقط، بل جاء بالإسلام لكل الخلق والبشر.
وهكذا دواليك إلى قيام الساعة، فمنذ وقف في هذه البطاح المقدسة، وعلى هذه الجبال الشاهقة، وفي هذه الأرض المباركة وهو يقول: إني رسول الله إليكم جميعاً، لزم على كل من بلغته الدعوة أن يقول: سمعاً وطاعة، لبيك يا محمد، لبيك يا رسول الله، فإن لم يفعل اعتبر متمرداً كافراً مشركاً، إلا أن يتوب الله عليه قبل أن تصل روحه إلى الحلقوم.
قوله: {وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73] هذا هو المدح والإطراء الذي لا يعلوه مدح، الله جل جلاله يثني على عباده هؤلاء الذين خلدوا إلى أبد الآباد في الدنيا، وسيخلدون كذلك مع المؤمنين في الآخرة، أشاد الله بهم أعظم إشادة هنا، وفي غير ما آية وما سورة.
وقال خاتماً هذه الآية: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73] أي: موحدين، ومختصين بالعبادة، لم يشركوا معنا غيرنا، لم يطيعوا غيرنا، لم يعبدوا سوانا، وكانوا عابدين موحدين مطيعين لما أمروا به، وهكذا أثنى الله تعالى على هؤلاء السادة النجب.(57/5)
تفسير قوله تعالى: (ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً)
ثم انتقل بنا إلى الكلام على لوط فقال تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء:74].
أي: اذكر يا محمد لوطاً، فهو كذلك ممن أكرمناه واصطفيناه، وآتيناه الحكم والعلم، آتاه الله الحكم نبياً رسولاً يحكم في أتباعه والمؤمنين الذين آمنوا به، وآتاه الله علم الحقائق بمعرفة الله ومعرفة أنبيائه، ومعرفة أن هذا الكون بعلوه وسفله وشرقه وغربه وشماله وجنوبه وما بينها هي كلها خلق الله.
والله هو الذي فطرها وابتدعها على غير مثال سابق، وكل ما على العالم خلق الله وعبد لله، والكل آتيه عبداً طائعاً إلى الجنة أو مكرهاً إلى النار.
قوله: {وَلُوطًا} [الأنبياء:74] نصب على حذف الفعل، قال: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ} [الأنبياء:74] تقديم وتأخير، أي: آتينا لوطاً حكماً وعلماً، آتاه الله الحكم والنبوة، وأرسله إلى قوم سدوم من أرض فلسطين، من أرض الشام.
وآتاه العلم الذي به دعا الخلائق، دعا قومه وعشيرته ومن أرسل إليهم إلى عبادة الله؛ فحورب، وكادوا يبطشون به، ولكن على عادة ربنا مع عباده المكرمين أن النصر لهم في النهاية.
قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء:74] أي: القرية التي كانت تعمل الخبائث التي لم تسبق لها، ولم يسبق أن كان مثلها قبلهم، فقد كانوا يأتون الذكران دون النساء، وكانوا يأتونهم في المجالس، وكانوا مشتملين على أنواع من المنكرات والفواحش يكاد يعجز عنها الشيطان إلى أن بلغ بهم الأمر عندما جاء ملائكة من الله رسلاً للوط، حيث جاءوا في صور الشباب الصغار المراهقين، والملك له من قوة التطور ما أعطاه الله، وإذا بهم جاءوا بتجسس من امرأة لوط التي كانت كافرة، والتي لم تكرم بالإيمان به رغم كونها زوجته، وكانت في بيته، ونشأت بين جناحيه وفي حضنه.
فجاءوا مسرعين يريدون الفاحشة؛ فأنذرهم لوط ونصحهم، فلم يزدادوا إلا عتواً إلى أن خرج أحد هؤلاء فضربهم بيده فعموا جميعاً، ثم عوقبوا بأن جعل الله الأرض عاليها سافلها، وجاء جبريل ومن معه فحملوا أرض سدوم ورفعوها إلى السماء إلى أن سمعت ملائكة السماء صياح ديكتهم وحيواناتهم.
ثم قلبوها على الأرض، فأصبح عاليها سافلها، وأتبعوا بالرجم والصواعق، فأصبحوا كأمس الدابر وكأنها لم يكن، وهكذا الذي يحاول أن يتجاوز الحرام، ويحاول أن يستمر في الكفر ويصمم عليه فإن الله يمهل ولا يهمل، فقال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء:74] أي: كما أنجاه وهو في العراق مع عمه إبراهيم فأخرجه من العراق ونجاه من النمرود وقومه، كذلك عندما أتى إلى سدوم وأرسله الله نبياً إليهم فكانوا أفسق وأفجر الناس، أنجاه الله منهم مرة أخرى، بأن بددهم ودمرهم، وسحقهم سحقاً.
قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء:74] الخبائث: هي هذه المعاني التي أشرنا إليها ومضت لنا في السورة الماضية، وتأتي كذلك بعد.
قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء:74].
قال تعالى عن أهل سدوم: إنهم كانوا قوم جريمة وسوء وفسق ومعصية، قوم منكرات وخبائث.
فاسقين أي: خارجين عن الطاعة والإيمان، خارجين عن الأخلاق التي يجب أن تكون في الإنسان المؤمن المطيع.
ثم انتقلنا من بعد ذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط إلى ذكر نوح، ومن هنا كانت السورة اسمها: سورة الأنبياء.(57/6)
تفسير قوله تعالى: (وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين)
قال تعالى عن لوط: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:75] أدخل لوطاً في رحمته وجنته ورضاه وكرمه.
وهكذا عندما الله يرضى عن إنسان ويرحمه يعطيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويعطيه في الدنيا قبل الآخرة، وللآخرة خير وأكرم للمتقين الهداة الصالحين.
قوله: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} [الأنبياء:75] أي: في رضانا وطاعتنا، وفي حسناتنا وأجورنا.
قوله: {إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:75] أي: إن لوطاً من الصالحين، فالله أثنى عليه بالصلاح، وهو من عباد الله الصالحين، ومن أنبيائه ورسله المصطفين من خلقه.(57/7)
تفسير سورة الأنبياء [76 - 79]
يذكر الله لنا قصص الأنبياء عليهم السلام، تسلية لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فذكر قصة نوح مع قومه، وكيف أهلكهم الله بالغرق عندما كذبوه، ثم ذكر قصة داود وسليمان وحكمهما في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم.(58/1)
تفسير قوله تعالى: (ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له)
قال تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:76].
أي: يا محمد! كما ذكرنا لك إبراهيم جدك، وإسحاق عمك، ويعقوب ابن عمك، ولوطاً، اذكر كذلك نوحاً؛ فإنه كان كذلك من عباد الله الصالحين، ومن المصطفين الأخيار.
قوله: {وَنُوحًا} [الأنبياء:76] أي: اذكر نوحاً، وتصور حاله.
وكل هذا أوحى الله به إلى نبيه ليثبت به فؤاده؛ لما لاقاه من قومه من جحود وعناد وكفران، فهو يقول له: لست بدعاً من الرسل، وقد سبق أن الرسل قبلك أوذوا وظلموا، وتمرد عليهم أقوامهم وأتباعهم، ومع ذلك صبروا وصمدوا فكانت العاقبة لهم، وكان الخسران لعدوهم، كذلك اصبر فإن العاقبة لك كما كانت للأنبياء قبلك، وإن أعداءك سيسحقون، ولكن لا بد من الصبر.
وهكذا الله أمر نبيه وأمر أتباعه كذلك؛ ولذلك ذكر الصبر عشرات المرات في القرآن الكريم، وخصه الله بسورة العصر التي قال عنها الإمام الشافعي: لو عمل بها المسلم لكفته.
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
الصبر في الدعوة، والصبر في العبادة، والصبر في ترك المنكرات، والصبر على المأوى والشدائد إلى لقاء الله، فمن صبر نصر، وكانت العاقبة له.
قال تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:76] اذكر نوحاً إذ نادى أي: نادانا وتضرع إلينا، ودعانا لنصرته.
{إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء:76] أي: قبل هؤلاء جميعاً، إذ نوح هو الأب الثاني للبشر بعد آدم، إذ الطوفان قد عم كل الأرض فأصبح من على وجه الأرض بعد نوح أولاد له، وللقلة القليلة التي آمنت معه وركبت السفينة، فكان بينه وبين آدم -زعموا- ألف سنة، وليس هناك شيء يؤكد ذلك من كتاب الله أو سنة رسوله، وقد قيل: إن إدريس سبقه، ولكن الجماهير على أن إدريس كان بعده.
قوله: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء:76] أي: من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط، وكان أقدمهم وجوداً وحياة وعصراً.
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ} [الأنبياء:76] أي: أجبناه لرغبته، وهو ينادي ويضرع إلينا، ولمكان النداء والدعاء ولمكانة الضراعة، استجيب له؛ لأن نوحاً كانت نبوءته في قومه أفضل النبوءات على الإطلاق، لبث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولقي من الشدائد والعظائم والإيذاء ما لم ينله أحد من الأنبياء قط؛ لأنه طال الزمن وهو صامد صمود الجبال.
وبعد هذه المدة الطويلة ما عاد يستطيع الصبر أكثر؛ فأخذ يدعو على قومه أن ينجيه الله منهم، وأن ينتقم منهم، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27] نادى: يا رب! إني مغلوب فانتصر، وإذا بالله الكريم يستجيب له بعد المدة الطويلة.
وهكذا أدب الدعوة، أن الإنسان عندما ينادي ربه ويدعوه لا يقول: لم يستجب لي؛ لأنه مضت سنة أو سنتان أو شهر أو شهران ولم يستجب، فيستجاب لك إن قدر لك ذلك، وكان في صالحك، وقد تكون الاستجابة ليست في صالحك، ولكن الأمر يكون حسب إرادة الله في الوقت المناسب، وفي الأصلح لك.
وهكذا رأينا يوسف بعده، بعد أن تآمر عليه إخوته، وبعد أن بيع عبداً وقذف به في بئر، وبعد أن اتهم بما اتهم، وبعد أن رمي في السجن سنوات، بعد كل ذلك بأربعين سنة استجاب الله له فيما بشره به في الرؤيا الصالحة: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] ففهمها أبوه يعقوب وقال: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5].
وهكذا كل نبي له قصة مع قومه، وقد عرضها الله بالتوالي منجمة خلال ثلاث وعشرين سنة على عبده وحبيبه محمد صلوات الله وسلامه عليه؛ ليتأسى بذلك، وليتعزى بذلك، وليجد قوة في تجديد طاقاته على الدعوة والصبر على إيذاء قومه، وأن النهاية له بالنصر والغلبة على الأعداء، تثبيتاً للدعاة من أتباعه فيما مضى، وفيما حضر، وفيما هو آت إلى يوم القيامة، وهذه فائدة التاريخ، أنه يثبت القلوب ويعطي الإنسان قوة، ويجعله يعيش مع أقوام بينه وبينهم آلاف السنين، فيرى ما أدركوه وما قاسوه، وماذا جرى لهم.
وكانت النتيجة: أن نصرهم الله، وفازوا بالربح، وفازوا بالرحمة، وآب أعداؤهم بالذل والخسران المبين.
فقوله: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء:76] أي: نادى قبل هؤلاء الأنبياء، فاستجبنا له، فأجابه الله في دعائه وندائه عندما صبر عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فأغرقهم أجمعين، ودمرهم أجمعين وكأنههم لم يكونوا.
وابتدأ نوح حياة جديدة بين هذه القلة الصالحة من أتباعه، وهكذا تجددت الدنيا، وتكاثر الأولاد والذرية، وخلد نوح كما خلد الأنبياء قبله وبعده.
قوله: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:76] نجاه مع أهله وأتباعه، وخرج عن أهله وولده؛ لأنه كان عمله غير صالح، وأبى إلا الإصرار على الكفر حتى وقت الطوفان، ونزول الأمطار من السماء، وتفجير الأرض، ودعاه أبوه: اركب معنا! أي: آمن لتركب معنا قال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43].
يرى البلاء بعينيه ويسمعه بأذنه، ويأبى إلا الإصرار وهكذا الخذلان عندما تطبع القلوب باللعنة والطرد من الرحمة، وحتى لا يعتمد الإنسان على أبيه وجده وحسبه ونسبه، فهذا ابن نبي عاش معه هذه المدة الطويلة، ولكنه ما استطاع أن ينفعه بقليل ولا بكثير.
وهكذا كان يقول نبينا عليه الصلاة والسلام، وينادي زوجاته وأحفاده، وينادي بني هاشم: إياكم أن تأتوني تحملون على أكتافكم البعير والناقة وكذا وكذا، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، فلا ينفع مع الشرك شيء، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فإن كانت هناك منفعة ففي الدنيا، بحيث يدعو النبي أو يدعو الصالح للإنسان الفاجر مادام حياً، فقد يستجاب له فيؤمن وتسبقه الهداية، كما دعا النبي عليه الصلاة والسلام ورجا من الله فقال: (اللهم اهد أحب العمرين إليك) فاستجاب الله دعاءه في عمر بن الخطاب؛ لأن عمر حتى في شدة كفره لم يستهزئ ولا سخر.
أما المستهزئون الذين قال الله عنهم لنبيه: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95] لقد قال ابن تيمية: ما استهزأ أحد برسول الله في حياته أو بعد مماته إلا وختم الله له بسوء الخاتمة، لا تنفعه دعواه، ولا ينفعه شيء من عمله، لا صدقات ولا غيرها.
فاستجاب الله دعوة نبينا في عمر بن الخطاب لأنه يكن من المستهزئين، وختم على أبي جهل بسوء الخاتمة والقتل والذل في بدر.(58/2)
تفسير قوله تعالى: (ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا)
تحمل نوح هذه المدة ألف سنة إلا خمسين عاماً، ثم ما استطاع أن يصبر، فرفع يده إلى ربه يدعو على هؤلاء؛ فاستجاب الله دعاءه، وانتقم منهم، فقال تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:77].
استجاب الله لنوح بعد هذه المدة القرون الطويلة، فأنجاه وأهله من سوء قومه وفجورهم وفسوقهم وأركبهم السفينة هو وأهله، ثم قال الله بعد ذلك: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ} [الأنبياء:77] تم النصر المؤبد المؤزر بأن ذل الأعداء فغرقوا، وانتصر نوح وفاز وكان مصيره (فأنجيناه).
قوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} [الأنبياء:77] أي: منعناه من القوم، و (من) حرف جر، وحروف الجر ينوب بعضها عن بعض، ويمكن أن تفسر: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} [الأنبياء:77] أي: على القوم، والمعنى واحد.
قوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء:77] أي: قوم نوح الذين كذبوا بآيات الله، وسخروا من نوح وهو يصنع السفينة، وكانوا يقولون له: أنت في صحراء لا بحر فيها، فلمن تصنع السفينة؟! فيمرون مستهزئين فيجيبهم: أنا أهزأ بكم كما تهزءون، ويظهر أنه اشتغل السفينة زمناً طويلاً، وكان نجاراً.
قال تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء:77] بقدرة الله ومعجزة لرسله على ما يريد جل جلاله.
قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} [الأنبياء:77] أي: كانوا قوم منكر وفجور وفسوق، كانوا عصاة.
{فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:77] أي: كانت النتيجة أن غرقوا وماتوا خنقاً وغرقاً فخسروا دنياهم وآخرتهم؛ لأنه لا يغرق إلا المشرك.
أما الذي آمن بربه وآمن بنوح نبيه فقد ركب مع نوح في السفينة، وأنجاه الله وأنقذه وملَّكه بعد ذلك الدنيا جميعها وقال الله عنه: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] لم يتجاوزوا به العشرات، قيل: سبعون، وقيل: أقل، فكانت الدنيا كلها في ملك هؤلاء، وإن كان الماء قد أغرق كل شيء فأغرق القصور، والأرض، والنبات، وفاضت المياه إلى أن غمرت الجبال، وقد أركب معه من كل شيء زوجين ذكراً وأنثى، آمن به رجال ونساء فتوالدوا بعد ذلك، وأصعد معه الحيوانات من كل نوعٍ ذكراً وأنثى؛ لتتجدد الحياة مرة أخرى بعد الغرق.(58/3)
تفسير قوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث)
قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء:78].
أي: يا محمد، كذلك كان فيمن ذكر لك من الأنبياء داود وولده سليمان النبيان الجليلان، واختص سليمان بالنبوة والملك الذي لم يكن لأحد من بعده.
اذكر هذين النبيين الجليلين خاصة حال كونهم {يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:78] أي: يا محمد! اذكر داود وسليمان إذ أخذا يحكمان في الحرث كلاً على حدة، وكلاً بحكم جديد: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:78] والنفش: الرعي ليلاً، والمعنى: اذكر داود عندما جاءه مزارع يشتكي إليه، وقد أتى بمن رعت غنمه في أرضه.
قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء:78]، والقصة: بينما كان داود جالس إذ جاءه رجلان مدعٍ ومدعى عليه، يقول المدعي: هذا رجل ترك غنمه في الليل سائمة، فدخلت إلى مزرعتي وأتت على جميع ما فيها، وكان الذي فيها حسب رأي بعض المفسرين الكرم، وكانت قد نضجت وتدلت منها عناقيد العنب.
وقال قوم: هذه لا تسمى زراعة والله ذكر الحرث، فإذاً كان قمحاً وشعيراً وعلى هذا أكثر المفسرين، وإلى هذا نميل.
قوله: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:78] والنفش: ترك الغنم ليلاً دون راعٍ، فدخلت إلى مزرعته فأتت على جميع ما فيها، وجد الغنم فقبضها وبحث عن صاحبها، فجاء فذهب يشتكيه إلى داود.
{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء:78] أي: كنا حاضرين، فلا تخفى عليه جل جلاله خافية، فقد رأى حكم داود وسمعه ورأى حكم سليمان وهو يحكم بخلاف حكم أبيه.(58/4)
تفسير قوله تعالى: (ففهمناها سليمان)
قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79].
بماذا حكم داود؟ قال: تعطي الغنم هذا الذي أكلت حرثه مقابل الخسارة التي خسرها في أرضه، والغنم كانت هي البديل والثمن، وكان سليمان ابن أحد عشر عاماً، فخرج المدعي والمدعى عليه على الولد وكان في باب محكمة أبيه، فسألهما عن حكم نبي الله داود؟ قالا: حكم أن الغنم لصاحب المزرعة مقابل خسارته قال: لو حكم بغير هذا كان أرفق له.
فبلغت أباه هذه الكلمة فأرسل خلفه قال: بحق النبوة والبنوة -وكان نبياً- ما هذا الأرفق في الحكم الذي هو خلاف حكمي؟ قال: لو استحكمت لحكمت بغير هذا قال: بماذا تحكم؟ قال: أحكم بأن الغنم يأخذها من رعي زرعه، فتبقى عنده يستفيد من صوفها وألبانها ومن نسلها ومنافعها، وتسلم الأرض التي أكل زرعها لصاحب الغنم فيعتني بها ويجدد كرمها وزراعتها إلى أن يتم الزرع ويعود كما كان، ثم تعود المزرعة إلى صاحب الأرض، وتعود الغنم لصاحبها.
وإذ بداود يقول: الحكم ما حكم، ورجع عن حكمه إلى حكم ولده، وهذا معنى قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] حكم داود وحكم سليمان، ولكن الله تعالى أثنى على حكم الولد سليمان وجعله هو الفهم، وأن الله هو الذي ألهمه هذا الفهم، ولكنه لم يعد لحكم داود، وقال بعد ذلك: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] أثنى على سليمان وداود، ولم يعنف داود ولم يرد حكمه، وأخبر أنه قد أتاهم من الحكمة والنبوءة ومن العلم معاً، ولكنه قال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79].
وهنا وقفات: أولاً: حكم سليمان وحكم داود في قضية واحدة كانا متغيرين، وهنا قال علماؤنا وفقهاؤنا: هل الحق يتعدد أو لا يتعدد؟ الجمهور على أن الحق واحد لا يتعدد، واحتجوا بهذه الآية مع غيرها، ودعنا نبقى مع الآية.
الله أثنى عليهم معاً؟ نعم، ولكن جعل فهم الحكم للولد سليمان، وليس للأب، وأثنى على الأب وأنه آتاه الحكم؛ لأن داود حكم باجتهاده ولم يأل أن يحكم إلا بما أداه إليه اجتهاده، والمجتهد بعد بذله الجهد مأجور مثاب حتى مع خطئه، وهنا اختلف علماء الكلام أيجتهد النبي أو لا يجتهد؟ وإذا اجتهد هل يخطئ أو لا يخطئ؟ فحكم سليمان حكماً، وحكم داود حكماً، ونقضه سليمان، وعاد داود إلى حكم ولده، ولا شك أنه لو كان الحكم الذي حكم به داود عن وحي لما قال الله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] ولكان داود قد نفذ وحياً، وبما أن الله قال (ففهمناها سليمان) ولم يقل إنه فهمها داود كان ذلك دليلاً على أن داود حكم باجتهاده.
وهل النبي المجتهد يخطئ؟ نعم يخطئ، ولكن الفرق بينه وبين غيره: أن خطأ النبي في الاجتهاد لا يقره الله عليه، كما فعل ربنا، حيث قال عن الولد سيلمان: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] وفي ضمن ذلك أن داود لم يوفق للحكم، لكن مع ذلك هو مثاب مأجور؛ لأنه بذل من نفسه الجهد بما يستطيع.
الوقفة الثالثة: هل للحاكم أن يعود في الحكم بعد أن ظهر خطأ ما حكم به في الأول؟ إن كان لا يزال هو الحاكم فله أن يرجع إلى الحق، والرجوع للحق فضيلة، أما إذا مات القاضي أو عزل فالقاضي الذي يأتي بعده لا حق له في نقض الحكم إن كان مبنياً على الاجتهاد، أما إن كان اجتهاده مخالفاً لنص من كتاب أو سنة فلا حرمة لهذا الحكم.
أما إن كان عن اجتهاد بلا نص، فحكمه يبقى كما هو ولا رجوع فيه إلا من القاضي نفسه إذا بقي في الحكم، يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، وليس الأجر على الخطأ هيهات! وإنما الأجر على الاجتهاد: الأول له أجران: أجر في الاجتهاد وأجر في الإصابة التي وفق إليها.
والثاني له أجر على اجتهاده: أما الحق فلم يوفق إليه، ولكنه لا يلام؛ لأنه بذل جهده، ومقدار قدرته، فهو مأجور على ما بذل من نفسه بالوصول إلى الحق حسب اجتهاده، وفي شريعتنا ما يؤكد هذا بقصتين كلتيهما في الصحيح حدثتا في الاجتهاد المختلف من الأصحاب في الحياة النبوية: القصة الأولى: كان هناك صحابيان في فلاة من الأرض، فدخل وقت الصلاة، فبحثا عن الماء فلما يجدا، فتيمما وصليا قبل خروج الوقت، ثم وجدا الماء فتوضأ أحدهما وأعاد الصلاة، أما الثاني فلم يصل قال: أنا قد صليت والفريضة لا تكرر مرتين في اليوم ولا في الوقت، فقال عليه الصلاة والسلام لمن لم يعد الصلاة: (أصبت السنة) وقال للآخر: (لك الأجر مرتين) من المخطئ ومن المصيب؟ لا شك أن المصيب من قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: (أصبت السنة) ولم يقل للآخر: (أصبت السنة) وإنما قال له: (لك أجرك مرتين) لأنه صلى صلاتين، الصلاة الأولى أجر عليها وأداها، وهي الفريضة، والصلاة الثانية كانت اجتهاداً، فله أجر الاجتهاد.
أما المصيب فله الأجر مضاعفاً، أجر الفريضة وأجر إصابته السنة، وإن كان اجتهاده سلبياً، ولكنه اجتهاد على أي حال، فله أجر بالاجتهاد، وأجر بإصابة الحق.
القصة الثانية: لما انتهى النبي عليه الصلاة والسلام من غزوة الأحزاب جاءه جبريل ودخل عليه فقال له: أنزعت لأمة الحرب؟! أما نحن فلم ننزعها -يعني: الملائكة- وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يدعو النفير إلى يهود بني قريظة الذين جاءوا من خلفه يريدون أن يحاربوه من الداخل مع غطفان وقريش.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) وكان هذا بعد الظهر، وإذا بالقوم بعضهم أدركته الصلاة فصلى في الطريق قبل الوصول إلى بني قريظة، وبعضهم لم يصل الصلاة إلا في بني قريظة، وبعضهم ما صلاها إلا بعد المغرب.
فحضر رسول الله عليه الصلاة والسلام ولم يعنف أحداً، لا من صلى في الطريق ولا من أخر الصلاة إلى بني قريظة، وأقر اجتهادهم جميعاً.
وهذا يعني أن الحق يتعدد، والحقيقة أنه لا يتعدد، والأجر لا يكون على الخطأ وإنما يكون على الاجتهاد، وسكوت النبي عليه الصلاة والسلام دليل على أن كل واحد من هؤلاء الذين اختلفوا اجتهد وبذل جهده، فلا يعنف بل يشكر ويثاب.
وفي هذه القصة كيف فهم القوم النص؟ وهذا اجتهاد في فهم النص لا في النص، فالبعض فهم من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) أن معناه أن يبذل كل ممكن ليصل إلى بني قريظة في أسرع وقت، فصلوا في الطريق مسرعين، وآخرون كانوا ظاهريين مثل الظاهرية، فقالوا: لا نصلي الصلاة إلا في بني قريظة حتى ولو وصلنا وقت الفجر.
وقد قال ابن حزم بعدهم في القرن الخامس: لو كنت حياً ولم أصل إلى بني قريظة إلا بعد سنة لما صليتها إلا بعد سنة، لشدة تمسكه بالظاهر، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يعنف أحداً، والمحق هو من صلاها في الطريق واستعجل بها؛ لأنه كسب شيئين، أطاع النبي عليه الصلاة والسلام في الإسراع إلى بني قريظة، ولم يؤخر العصر عن وقتها، ولم يأت أمر بذلك، بل صلاة العصر مشدد فيها جداً، والعصر هي الصلاة الوسطى كما في صحيح مسلم، وقال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) وقال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: (من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله) وهذا تهديد ووعيد.
ومن هنا كان المجتهد في فهم النص أو فيما لا نص فيه مثاباً على كل حال، فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر مقابل الاجتهاد.(58/5)
تفسير سورة الأنبياء [78 - 80]
لقد فضل الله بعض خلقه على بعض حتى الأنبياء، ومن ذلك أن سيدنا سليمان كان في القضاء أحكم من أبيه داود عليهما السلام، وقد جاء في الكتاب والسنة بقضايا من ذلك.(59/1)
تفسير قوله تعالى: (ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً)(59/2)
تفهيم سليمان الحكم
قال الله عزت قدرته: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:79].
لا نزال مع عباد الله المكرمين، وأنبيائه المرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولا نزال مع داود وولده سليمان وهما يحكمان في قضية حرث وزرع قد نفشت فيه غنم القوم، قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:78].
يقول الله: يا محمد! واذكر داود وسليمان النبيين الكريمين إذ يحكمان في الحرث.
إذ نفشت فيه غنم القوم، والنفش: الرعي ليلاً، وقد قلنا بأن قوماً أطلقوا سبيل أغنامهم ليلاً بلا حارس ولا راع، فدخلت في مزارع أقوام، فأتت عليها وجعلتها أرضاً كأنها لم تزرع، وإذا بالقوم يأتون إلى نبي الله داود، فقالوا: يا نبي الله! إن هؤلاء قد أطلقوا أغنامهم ليلاً دون حراسة ولا رعاية، فدخلت الغنم على مزارعنا، فأتت عليها رعياً، ولم تبق منها ولا تذر، فاحكم بيننا بما علمك الله.
وإذا بداود يحكم أن الأغنام تنزع ممن أطلقها من أصحابها دون رعاية ولا حراسة، ويملكها من دخلت مزرعته، ورعت أرضه، وخربت غرسه وزراعته.
وإذا بهؤلاء المترافعين المتحاكمين يخرجون من محكمة داود، وإذا بسليمان -وهو لا يزال صبياً لم يتجاوز بعد السنة الحادية عشرة- يقول لهم: بماذا حكم عليكم نبي الله داود؟ فقصوا عليه الخبر، أنه حكم بأن تملك الأغنام لمن ذهبت مزرعته، فيقول سليمان: كان أرفق بهم أن يحكم لهم بغير هذا، ثم حكم بأن الغنم يأخذها صاحب المزرعة فيعتني بها ويرعاها ويكسب لبنها، ونسلها، وصوفها، ويسلم للغرماء الأرض التي أهلكتها أغنامهم فيزرعونها إلى أن تتم تلك المزرعة مثلما كانت من قبل، وتستصلح كما كانت قبل أن تفسدها الأغنام، وعند ذلك تعود الغنم لأصحابها، وتعود المزرعة لأصحابها، وإذا بداود يبلغه الخبر فيقول: نعم ما حكمت! ورجع عن حكمه، وحكم بينهم بذلك.
قال الله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء:78] كان الله عالماً وهما يصدران الحكم على أصحاب الأغنام لمصلحة صاحب المزرعة، ولكن الله جل جلاله أثنى على حكم سليمان، وما عاب حكم داود فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] فهم القضية فحكم بالصواب، وحكم بالحق الصراح، وعاد أبوه داود إلى الحكم الذي حكم وارتأى، فذلك معنى قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79].(59/3)
اجتهاد الحكام والمجتهدين
ثم أثنى على الكل فقال: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79].
آتى الله كلاً من داود وسليمان حكماً وأكرمهما بالعلم، وجعلهما نبيين رسولين كريمين، وعلمهما ما لم يكونا يعلمانه، ولكن مع هذا اجتهد داود فأخطأ، واجتهد سليمان فأصاب، فكان الثناء على سليمان من قبل الله بقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]، لأنه كان المدرك لها، والفاهم لحقيقتها، ولكن مع ذلك أثنى على الأب والابن بالعلم والحكم، والمعرفة والحكمة.
وهذا قريب من قول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن، أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد) فيثاب الحاكم حال اجتهاده وبذله من نفسه الجهد ليصل إلى الحق والصواب، ويؤجر على كل حال، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وفي حين غلطه يؤجر للاجتهاد والبذل، أما إصابة الحكم فلا أجر له فيها، كما أنه لا يعاب فيها؛ لأنه لا يطالب بأكثر من أن يبذل من نفسه الجهد، ليصل إلى الحقيقة.
قال الحسن البصري إمام التابعين: هذه الآية كانت بلسماً وشفاءً للحكام والقضاة، وأنهم لا يطالبون بأن يصيبوا الحقيقة؛ لأن الصواب من الله، ولكنهم يطالبون بأن يبذلوا الجهد من أنفسهم، للوصول إلى الحق والصواب في الحكم، فإن هم أخطئوا بعد الاجتهاد فلا ملام عليهم، ويثابون ويؤجرون على الجهد، وإن أصابوا فلهم أجران: أجر للصواب، وأجر للاجتهاد الذي بذلوه من أنفسهم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (القضاة ثلاثة) كما في مسند أحمد والصحاح، وفي رواية: (قاض في الجنة وقاضيان في النار، قاض علم الحق وحكم به فهو في الجنة) علمه حسب اجتهاده وعلمه واطلاعه على نصوص القرآن والسنة والإجماع، فإن لم يجد فيقيس ويبذل الجهد ليصل إلى الحق بصفة عامة استنباطاً واستخراجاً من مفاهيم النصوص (وقاض علم الحق ولم يحكم به فهو في النار، وقاض لم يعلم الحق ولم يحكم به فهو في النار).
وهكذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (قاض في الجنة وقاضيان في النار) وقد سبق أن سليمان -وهو لا يزال صغيراً- حكم أحكاماً نقض بها أحكام والده، وكلٌ أوتي الحكم والعلم.(59/4)
حكم داود وسليمان في قضية المرأتين والطفل الذي أكله الذئب
وفي الصحيحين أنه كان هناك امرأتان لهما ولدان، وإذا بذئب يعدو على أحد الولدين فيفترسه ويفر به، فذهبا إلى داود يحتكما إليه فقالت الكبرى: ولدي هو الحي الذي لم يأكله الذئب وقالت الصغرى: بل هو ولدي، فحكم به داود للكبرى، فخرجت المرأتان وكان سليمان عند الباب فقال: بم حكم لكما أبي؟ فقصا عليه أنه حكم للكبرى بأن الولد لها، فقال لهما: لو حكمت بينكما لحكمت بخلاف هذا، ائتوني بسكين، وأوهمهما أنه يريد ذبحه ولا دليل لواحدة منهما على صدق قولها، قال أبو هريرة: أول مرة أسمع أن المدية تسمى سكيناً، هكذا في الرواية، فجيء بالسكين فقال سليمان: سأقسمه شطرين شطراً للكبرى وشطراً للصغرى.
فصاحت الصغرى: لا يا نبي الله، دعه للكبرى، وإذا بسليمان ينتزع الولد من الكبرى ويعطيه للصغرى.
وقد جعل عنوان الحديث النسائي في السنن: باب حكم الحاكم بما يناقض الحكم ويوهم خلافه، إخراجاً للحكم واستخراجاً للحق، فسليمان لم يكن يريد أن يقسم الولد، ولكن يريد أن يكتشف ويختبر عاطفة الأمومة عند هاتين المرأتين، بأنه ستقول الأم الحقيقية: لا تقطعه، وستحرص على حياته، ولو لم يكن تحت حضانتها ولا بيدها، والأم غير الحقيقية ليس لها عليه عطف ولا بر، فتوافق على القطع؛ لأنه ليس ولدها.
وهكذا استخرج سليمان الحق بإيهامهما أنه سيقطعه قسمين، وبهذا اكتشف الأم الحقيقية، فأقر حكمه أبوه داود.(59/5)
حكم داود وسليمان في المرأة التي رميت بالزنا بالكلب
ولسليمان قصة ثالثة رواها أصحاب الصحاح والسنن عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيما ورد لنا من أحكام سليمان وداود: أنه جاء أربعة من رؤساء بني إسرائيل فقذفوا صالحة من صوالح نسائهم، وقالوا: إنهم رءوا كلباً يزني بهذه المرأة، دربته على ذلك، فحكم داود بقتل المرأة، وصدر الحكم، فلما خرجوا من المحكمة ومجلس داود لتنفيذه، وإذا بسليمان مرة أخرى عند الباب، فقال لهم: بم حكم لكم نبي الله داود؟ فقالوا: بقتل المرأة، قال: لو كنت مكان أبي لما حكمت بذلك، قالوا: فاحكم، وفي رواية: صنع (تمثيلية) كما يقال اليوم حيث أتى بأربعة من الصبيان وألبسهم لباس رؤساء بني إسرائيل، وأحضر معه صبيين آخرين كمساندين ومؤازرين، وألبس خامساً لبسة المرأة، وقال لهم: تحاكموا إلي واقذفوا هذه المرأة كحكومة أبي، فأتوا وقالوا ما قاله أولئك، إن هذه المرأة فعلت كذا بكلبها، وإذا بسليمان أبعد ثلاثة وأخفاهم، وأتى بالرابع، فقال له: ما لون الكلب؟ فقال: أبيض، فأمر بإخفائه، ثم أتي بالثاني فسأله: ما لون الكلب؟ قال: أسود، فأخفاه، وأتى بالثالث فقال: أغبر، فأخفاه، وسأل الرابع فقال: رمادي.
ثم أتي بالمرأة فقال لها: ما قصتك؟ قالت: أنا بريئة، ولكن هؤلاء راودوني على نفسي فامتنعت، فأرادوا أن ينتقموا مني بالقذف؛ فحكم بقتل الأربعة وبراءة المرأة، فأبوه رأى هذه التمثيلية -كما يعبر عنها اليوم- فنقض حكمه وحكم بحكم ولده سليمان.(59/6)
حكم جنايات البهائم في الإسلام
أما مسألة الغنم والزرع فما حكم الإسلام في هذا؟ جاء عن البراء بن عازب -كما في مسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك - (أن ناقة للبراء بن عازب رعت ليلاً في حائط أقوام -بستان- فأتت عليه، فرفع الأمر صباحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أفسدت الدواب ليلاً فالضمان على صاحب الدواب، وما أفسدته نهاراً فلا ضمان) أي: فحكمه عليه الصلاة والسلام أن حراسة الحيطان والبساتين ليلاً يجب أن تكون على أصحابها؛ لأن النهار ليس وقت رعي للأغنام، فإن خرجت الأغنام من مكانها فمعناه أنها أفلتت من أصحابها، ولم يكونوا معها؛ لأن الليل ليس وقتاً للرعي، وعلى أصحاب البساتين أن يحفظوا بساتينهم.
والحكم إذا أفسدته في النهار أن الضمان على أصحاب الغنم؛ لأن الشأن في النهار أن يكون معها رعاتها، فهي محروسة، فإذا تركت لتفسد مزارع الغير فذلك بإهمال الرعاة وأصحاب الأغنام والإبل والدواب.
ومن الأصول والقواعد فيها: أن المفرط أولى بالخسارة، فعندما فرط أصحاب البساتين ليلاً من رعاية بساتينهم فالخسارة عليهم ولا ضمان، وعندما يفرط أصحاب الدواب والأغنام نهاراً وكان ينبغي ألا يفعلوا فالخسارة عليهم، والضمان عليهم.(59/7)
اجتهاد الأنبياء
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، وكلاً من داود وسليمان آتاه الله الحكم، آتاه الله النبوة وآتاه العلم، وسبق أن قلنا بالأمس، هل يجتهد الأنبياء أو لا يجتهدون؟ المحققون من أهل العلم يقولون بالاجتهاد، ودليلهم هذه الآية الكريمة، فقد حكم داود مجتهداً، ولو حكم بالوحي لما مدح الله حكم سليمان وأغفل حكم داود، وجعل الفهم لسليمان لا لداود، وإذا اجتهدوا فقد يخطئون، ولكن خطأ الأنبياء لا يقرهم الله عليه، كما فعل ربنا هنا في هذا الحكم، فلم يقر داود وإن أثنى عليه بالاجتهاد، وأقر سليمان وأثنى عليه.
وهذا ما حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام في كثير من القضايا التي لا وحي فيها، ومن أشهرها ما كان في غزوة بدر، عندما وضع خيامه ومعسكره في جانب الماء، فجاء أحد الأنصار من جند رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمه الحباب بن المنذر فقال: (يا رسول الله! هل هذا منزل أنزلك الله فيه، لا رأي لنا فيه، أم أنه الرأي والمكيدة والحرب؟ قال: بل الرأي والمكيدة، قال: ما أرى هذا بموقف، لنصعد الجبل ونمنع أعداءنا من أن يأتوا إليه فيمنعونا من الماء بنبالهم وسهامهم، فأقره رسول الله عليه الصلاة والسلام)، ولو كان هناك وحي لما رجع إلى رأي الحباب، وقد صرح: إنما هو الرأي، ويؤكد هذا قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] ولا تكون المشاورة إلا في الاجتهاد، أما في أمر وحي إلهي فلا مجال للمشورة.
ومن هنا كان الله تعالى قد أمر نبيه عليه الصلاة والسلام ليكون أسوة للخلفاء بعد استشارة أولي الرأي وأولي الفهم والعلم فيما لا نص فيه، فإن كان هناك نص فلا مجال للرأي، إلا إذا كان النص يحتمل ويحتمل، فتبقى المشورة قائمة.
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:79].
سخر الله وأخضع الجبال والطير مع داود تسبح، وهو يفهم تسبيحها وذكرها، ويفهم عبادتها وصلاتها، الله علمه ذلك وخصه به.
وقد قال ربنا جل جلاله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] يسبحه الجن والإنس والملك والدواب والطير وحيتان البحار والهوام وكل خلق الله، جماداً ومتحركاً، وهذا يؤكد ذاك: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ} [الأنبياء:79] فالجبال أيضاً كانت تسير مع داود وهي تسبح الله وتوحده وتعظمه، وكان إذا سبح سبحت معه، وإذا صلى صلت معه.
كما سخر الطير، وكان ذلك بالنسبة للطير لجمال صوت داود الذي إذا تغنى بمزاميره التي أنزلها الله عليه، وأخذ يتلوها، ويعبد الله بها، لا يبقى طائر سمع الصوت إلا ويرتمي بين يديه أو يحلق فوقه، وهو يسبح معه بلغته وصوته.
نبينا عليه الصلاة والسلام مر ليلة على دار أبي موسى الأشعري، وإذا به يسمعه يتلو القرآن فيتوقف ملتذاً عليه الصلاة والسلام ومتفاعلاً مع جمال صوت أبي موسى، وحسن تلاوته وتجويده، وإخراجه للحروف، فلما أصبح الصباح قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي موسى: (لقد أوتيت يا أبا موسى مزماراً من مزامير آل داود) أي: التي كان يتغنى بها بتلاوة الكتاب الموحى به، ويذكر ربه، ويوحده، ويمجده.
قال أبو موسى عندما قال له هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو علمتك تنصت إلي لحبرته لك تحبيراً) أي: لجملت ذلك مترنماً متغنياً مجوداً، ولكن كان على طبيعته بالنسبة إلى سماع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه، والله أعلم.
وأدركنا أناساً في الشام عندما ينادون بذكر الله واسم الجلالة، وعندما يتلون كتاب الله مجوداً وبحروف يخرجونها كما أنزلت مع جمال الصوت، وتكون الليالي باردة على حال برد الشام، والشبابك مقفلة بالزجاج، لا تشعر إلا والطيور تترامى على هذا الزجاج بالعنف، وقد تقع في الأرض لشدة الصدمة ميتة، وقد يكسر الزجاج فيطير الطائر ويقف بين يديه وهو ينصت، وهو عادة متوحش لا يقبل أن يحضر مع الناس؛ ولذلك هذا الطير الذي خلقه الله هو أيضاً يذكر الله، وهو أيضاً له حاسة بالتمتع والتلذذ بذكر الله وجمال صوته به، وهذا من معجزات هؤلاء الأنبياء الكرام.
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء:79] أي: وسخرنا له الطير تسبح معه، وتعظم معه، وتمجد معه.
{وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:79] أي: فاعلين تفهيم سليمان لحقيقة الحكم، فاعلين لتسخير الجبال والطير لداود، فاعلين لفهم داود لذكر الجبال وتوحيدها وعبادتها، وذكر الطير وعبادته وتغنيه كذلك بربه، كنا فاعلين كل ذلك، فهو صاحب الأمر والنهي، وهو الفاعل المختار جل جلاله وعز مقامه.(59/8)
تفسير قوله تعالى: (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم)
قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80].
ومما علمه داود وميزه بذلك على سليمان قبل أن يلي سليمان النبوة دون أبيه والملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده: أنه علمه صنعة لبوس، واللبوس: الملبوس.
قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء:80] أي: لبني إسرائيل، لقوم داود، وهي حكاية فيما قص الله علينا مما أوحى به لداود وسليمان، وهي أيضاً ذكر لنا للشكر بأن ذلك انتفع به الأولون، وانتفع به من كان معاصراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الآن وإلى يوم القيامة.
قوله: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء:80] وهو لأمة الحرب، وألبسة الحرب، تلك اللأمة التي تلبس على الصدر والظهر والرأس؛ لتقي البدن من ضرب السهام ومن ضرب السيوف، هذه اللأمة كانت تصنع قديماً من الصفائح، وتكون ثقيلة على البدن، لا يكاد يحملها إلا بمشقة، وتصنع من الفولاذ الذي هو أقوى أنواع الحديد التي لا يؤثر فيها ضرب برصاص ولا ضرب بسيوف، وقد علَّم الله داود في حروبه مع أعدائه أن يصنع اللأمة من حلق، هذه الحلقات تتسع وتضيع على البدن حسب كل جسم وما يناسبه، وتكون أخف على البدن.
{لِتُحْصِنَكُمْ} [الأنبياء:80] أي: لتدافع عنكم، ولتصونكم، وتدفع عدوكم وسيوفه وسهامه ونباله، فتكونون في حصن، وفي مأمن من أن تنالكم سهام الأعداء أو رصاصها أو سيوفها.
(من بأسكم) أي: من حربكم لأعدائكم.
قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80] قالوا: الخطاب حكاية عما قاله الله لداود ولقومه.
وقال البعض: إن الخطاب للمسلمين من المهاجرين والأنصار عندما أذن لهم بالحرب والقتال، فهم أيضاً استفادوا من هذا الزرد، ومن هذه اللأمة التي أول من صنعها هو داود بنص القرآن الكريم، ودائماً الفضل للمخترع الأول.(59/9)
تفسير سورة الأنبياء [81 - 85]
ما من معجزة جعلها الله للأنبياء إلا وستصير أمراً عادياً، ومن ذلك الريح المسخرة لسيدنا سليمان عليه السلام، فإنه كان معجزة واليوم يماثلها الطيران.(60/1)
تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره)
قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81].
المعنى: وسخرنا لسليمان الريح عاصفة، شديدة الهبوب، تجري وتتحرك وتتنقل بأمره كما يريد {إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء:81].
بكل بقعة من بقاع الأرض، والغاية والبداية التي باركنا فيها هي أرض الشام حيث سليمان، سخر الله له الريح العاصفة أي: الشديدة، وفيه آية أخرى: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36]، والرخاء: اللينة، ومعنى ذلك: أنها تكون عاصفة عندما يريد حسب أمره وإرادته، وتكون لينة رخاء عندما يريد ذلك ويراه من المصلحة، وكيف كان فهذا هو الطيران الذي نراه الآن، سخر الله ذلك لسليمان قبل أن يخطر هذا على خاطر بشر، وكان يأتي إلى بساط صنعه الجن ونسجوه، قالوا: كان عرضه فراسخ وطوله فراسخ، فكان ينتقل فوقه بسلاحه وبجيوشه ومؤنته، وبما يحتاج إليه، وينتقل إليه مسافة شهر ذهاباً وإياباً، والريح التي تنقله حسب ما يراه، إن كانت المسافة والغاية بعيدة تكون الريح عاصفة، شديدة، قوية، وإن كان المكان قريباً تكون رخاء لينة.
وهذه الريح التي سخرها الله لسليمان هو ما سخر لنا في عصر الطائرة، فإنه لو وقف الهواء لسقطت، وهي تجري في الريح، وإذا وصلت إلى الغلاف الجوي من السماء لما أمكن نزولها إلا بآلات وصنعة جديدة، وقد تفجر وتبقى قطعها ضائعة في الهواء حيث لا ثقل للأبدان.
وهذا البساط مصنوع قيل: صنع من خشب، ومن سود، فالطائرات صنعت من خشب، وصنعت من سود، وصنعت من حديد، وصنعت من أنواع أخرى، ولولا الهواء الذي سخره الله لما طارت الطائرات، ولكن هذا كان في عصر سليمان معجزة؛ لأنه لم يصنع له شيئاً، ولم يعد له شيئاً، فكان معجزة لسليمان من الله، صنعها الله له، وقديماً قال أحد العلماء العارفين من المشاهير: لا تقوم الساعة حتى لا تبقى معجزة من المعجزات التي ذكرها الله للأنبياء إلا وتصبح شيئاً عادياً، لأن النبوات انتهت، ولا حاجة إلى معجزات إلا إذا كانت كرامات، والكرامات لا يتحدى بها، وآخر الأنبياء نبينا عليه الصلاة والسلام، فمعجزته الخالدة الدائمة هي هذا الكتاب العظيم الكريم، فكونه لم يغير ولم يبدل، وكونه أعجز البشر عن الإتيان بمثله لفظاً وعبارة، وأعجزهم عن الإتيان بمثله بما فيه من علوم ومعارف صادقت العلم قديماً وحديثاً، حذو القذة بالقذة، فلم تبق هناك حاجة إلى معجزة، وإنما تقع كرامة الأولياء، ولكن لا تحدي فيها، وهذا الفرق بين المعجزة والكرامة، المعجزة أتت من الأنبياء للإعجاز والتحدي، والكرامة لا يتحدى بها.
من هنا يقول: ما كان معجزة لن تنتهي الدنيا حتى يصبح شيئاً عادياً، ومن ذلك بساط سليمان، فنحن نطير الآن من قارة إلى قارة، بما لم يكد يخطر على بال الإنسان قبل أن يكون ذلك، لو رأى الطائرات آباؤنا وأجدادنا قد يصابون بمس في العقول، ويظنونها أولاً طائراً، فإذا أتوا إليها ورأوها حديداً وخشباً لم يقبلها تصورهم ألبتة، ونحن إنما قبلناها لأننا رأيناها وركبنا فيها، وامتطيناها، ورآها الجميع، ومنكرها يكون مجنوناً، هذا ما قال الله لنا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ} [فصلت:53]، وهذه منها، وهذه كانت معجزة والآن شيئاً عادياً.
من ذلك، أيضاً قصة سليمان عندما جاءه الهدهد، فأخبره أنه رأى قوماً معتكفين على عبادة الشمس، ولا يؤمنون بالله، وإذا به يأمر الجن: أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين {قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:39 - 40]، أي: قبل أن تتحرك أجفانك يكون أمامك، وقد كان، فقيل لها: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42] وعندما دخلت الصرح كشفت عن ساقها وحسبته لجة، واضطرت للإيمان بالله إله سليمان.
هذا الذي حكاه الله أيضاً معجزة، إن بين صنعاء وأرض الشام آلاف الكيلو مترات، لكن الصواريخ اليوم والطيران الذي وصل إلى الأعالي يقطع هذا في لحظات، وليس ذلك معجزة، والذي يصنعها ليس مؤمناً، وهذا تأكيد للمعنى الذي قاله هذا العالم، وكان قد ذكر ذلك ولم يذكر أمثلة؛ لأن الأمثلة لم تكن بعد، قال: (لا تقوم الساعة حتى يصبح ما كان معجزة أمراً عادياً).
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81] بعلمه كان ذلك، بإذنه كان ذلك، وبتسخيره جل جلاله كان ذلك.(60/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن الشياطين من يغوصون له)
قال تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء:82].
أي: كما سخر لسليمان الريح سخر له الجن، يغوصون في البحار فيأتونه بجواهرها ودررها.
قوله: {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء:82].
أي: من محاريب وتماثيل وجفان، وكل بناء وغواص، يبنون ما يريد، وكان سليمان إذا أمر الجن بأمر، أو كلف بهم أحداً من ولاته، وأمرائه، وحكامه يقول له: إذا انتهى من شغل فأشغله بآخر، وإلا فسيعود ليخرب ما شغل؛ ولذلك إذا لم يكن له شيء يصفدهم في الأصفاد، لأن الشيطان من عمله التخريب لا الإصلاح، وهم دائماً يعملون هيبة لسليمان وخوفاً من بطشه.
قوله: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء:82].
أي: كان حافظاً لسليمان وجنده من فساد الشياطين وتخريبهم.
وفسِّر أيضاً (حافظين) من أن يخربوا ويفسدوا، ومن ذلك تصفيدهم بالأغلال والحديد من قبل سليمان؛ لكي لا يخربوا، وما عادوا للخراب والإفساد حتى مات سليمان، فانتشروا فرحين لتمام إفسادهم وتخريبهم في الأرض.(60/3)
تفسير قوله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر)
ذكر الله لنا الأنبياء الماضين آدم ونوحاً وموسى وهارون وداود وسليمان، وسنذكر أيوب وذا النون وزكريا، ثم مريم عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومن هنا سميت السورة بسورة الأنبياء.
قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 - 84].
هاتان الآيتان في قصة أيوب مختصرة، وقد مضت قبل، وأيوب هو نبي الله ورسوله، ضُرب المثل بصبره على أنواع البلاء وقد كان يملك من الدنيا ما لا يملكه الملوك، وكان له من الزوجات والأولاد ما لا حصر له، وكان له من كل نعم الأرض الكثير والكثير، والله الفاعل المختار لا يسأل عما يفعل، وإذا به جل جلاله أراد أن يجعل من أيوب مثالاً للمبتلين، فأصابه في أمواله فذهبت وكأن لم تكن، ثم الأولاد والأهل جميعاً إلا امرأته، ثم ابتلي هو في جسده، ويقال بُلي بأنواع من الأمراض تساقط لها لحمه ورق عظمه إلى أن مله قومه ورموه على مزبلة، ولم يبق من المحيطين به إلا صديقان تابعان، وزوجته الحانية الوحيدة عليه.
طال بلاؤه سنوات، وهو في كل ذلك يحمد الله أن حفظ عليه لسانه يسبح الله ويمجده ويعظمه، وحفظ له قلبه ليبقى حاضراً في الذكر والعبادة لله.
طال البلاء فكانت زوجته تشتغل في البيوت لتأتيه بما يأكل، وامتنع الناس أن يعطوها، وإذا بيوم تأتي بظفائرها مقصوصة فقال لها: أين ظفائرك؟ قالت: بعتها لآتيك برغيف؛ فغضب في هذه الحالة عليها، وأقسم ليجلدنها مائة جلدة، فصبرت واحتسبت.
وذات يوم جاء هذان الصاحبان وكانا يترددان عليه، فقال أحدهما للآخر وأيوب يسمع وما كان يظنان أنه يسمع: هذا البلاء الذي أصاب الله به عبده أيوب لا شك أنه صنع معصية مع الله فعذّبه عليها بهذا البلاء.
فلما سمع ذلك آلمه أكثر مما هو فيه، وأخذ يجأر لربه: يا رب! لا أعلم أني ظلمت نفسي وأذنبت وأسأت، اللهم ارفع عني ما بي من ضر.
قوله: {وَأَيُّوبَ} [الأنبياء:83] أي: اذكر أيوب يا محمد إن كنت قد صبرت على بلاء قومك حين شتموك، وكسروا رباعيتك، ورجموك بالحجارة في قدميك، وهجروك ثلاث سنوات في مكة إلى أن أكلت الشجر والنبات، اذكر ما كان بأيوب ومع ذلك صبر، ماذا أدركت؟ وماذا ابتليت مما ابتلي به أيوب؟ كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله، وعزاء لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله؛ ليأخذ من ذلك قوة وطاقة للبقاء باستمرار يدعو ويقاتل، ولا يبالي بأي بلاء بلي به.
وليبق أيوب مثالاً لكل مبتلى من المؤمنين؛ حتى لا تهتز عقيدته وإيمانه، ويعتقد أن الدنيا زائلة بما عليها وما فيها مهما كان، والعاقبة للمتقين.
سمع أيوب ما سمع فصاح: يا رب! اكشف ما بي من ضر قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
فأخذ أيوب ينادي ربه ويضرع على قدر ضعفه، ولكن كان لسانه لا يزال سليماً، وقلبه لا يزال حاضراً، فنادى ربه وتضرع إليه ودعاه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] فارحمني يا رب! وارفع ما بي يا رب!(60/4)
تفسير قوله تعالى: (فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر)
قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء:84] كيف كان ذلك؟ عندما دعا أيوب وقد سمع ما سمعه من صاحبيه إذا بالله يقول له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42] وجاء الفرج، فضرب الأرض فتفجرت عين فأخذ يغتسل بالماء الذي تفجّر عند قدميه، وما من غرفة ماء يصبها عليه إلا وتنزل بما فيها من أمراض من قيح وصديد ودم وضعف وهكذا إلى أن أصبح شاباً كما كان ابن عشرين سنة جمالاً وضياء وإشراقاً وقوة، وسواد شعر واكتمال قوة، فقد ذهبت الأمراض الظاهرة كلها وزالت، وأخذ يشرب، وإذا بالأمراض الباطنية جعلت تنزل من دبره، وإذا به يعود أصح ما كان قوة وشباباً، وكأنه لم يمرض يوماً.
ومن هنا يأخذ المبتلى المؤمن أنه مهما ابتلي الإنسان لا تزال الرحمة قائمة، فالله أرحم الراحمين يسمع هو الذي يرفع الضر وينجي منه، ويعود بالمغفرة والعافية والصحة كما عاد على أيوب ظاهراً وباطناً.(60/5)
تفسير قوله تعالى: (وآتيناه أهله ومثلهم معهم)
قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء:84].
ظاهر الآية يدل -كما يقول جمهور المفسرين- على أن الله أحياهم كأشب ما كانوا والأهل يُطلق على الزوجات والأولاد، فعاد الأولاد والنساء كأشب وأقوى ما كانوا عندما كانوا في الحياة.
قوله: {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء:84] أكرمه الله بأن أعطاه ما كان، وضاعفه مثليه، وكيف كان الضعف؟ هؤلاء الزوجات أولدهن، وإذا بكل واحدة ولدت عشرين وثلاثين، فعوّض ما ضاع وازداد، وعوّضه ما ضاع من أراض وزروع وخيول، ومن كل ما كان عنده مضاعفاً.
قوله: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الأنبياء:84] رحمه الله وأكرمه، واستجاب دعاءه، كما نرجو الله أن يرفع عن هذه الأمة وعنا هذا البلاء المبين، وتسلط اليهود والنصارى والمجرمين، وما كان ذلك إلا لعقوبة وذنب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لم تكن عقوبة إلا بذنب)، وإلا فالله لا يكرهه شيء.
جاءت امرأة أيوب ووجدت شاباً جميلاً، ولم تجد المكان الذي كان فيه أيوب المبتلى المريض، وبحثت فكادت تتوله أين ذهب؟ هل جرته الكلاب؟ هل جرى له وجرى له؟ فسألت هذا الشاب الجالس القريب من المكان: أما رأيت أيوب المبتلى؟ فتبسم لها، فعندما تبسم قالت له: والله لكأنك هو وقت شبابه، وإن ابتسامتك ذكرتني بابتسامته، قال لها: أنا أيوب، فارتمت عليه معانقة: {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84].
هذا هو المغزى، وهذه دائماً خواتم الآي، فمعنى ذلك: قصصنا عليكم أيها المؤمنون قصة أيوب؛ لتكون ذكرى للعابدين إذا ابتلوا وامتحنوا وأصابهم ضر فلا ييئسوا من روح الله ورحمته: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].
وهكذا تبقى قصة أيوب، وقد ذكرت في القرآن في غير ما آية وفي غير ما سورة، كما قال تعالى: {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84] أي: للمخلصين لله والقائمين على عبادة الله، والمؤمنين الصادقين الذين لا يشركون مع الله غيره، والذين لا يعبدونه رياء ولا سمعة؛ وهذا المغزى هو سر وروح الآية والقصة، ذكر ذلك لنبينا أولاً لتكون ذكرى له.(60/6)
تفسير قوله تعالى: (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل)
ثم عاد الله فذكر لنا ثلاثة أنبياء في نسق فقال: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:85].
أي: واذكر يا محمد إسماعيل بن إبراهيم جدك الأعلى، وإدريس جد نوح و {وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:85] أي صبروا على البلاء، وإسماعيل قد مضت قصته في مريم، كما مضت قصة إدريس ونعيدها ملخصة.
إسماعيل بن إبراهيم الولد البكر لإبراهيم، ومصطفى أولاد إبراهيم، وسيد أولاد إبراهيم، ما فوقه إلا أبوه إبراهيم وابنه محمد عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وهو ابن هاجر والد عرب الحجاز، إسماعيل الذي وهبه الله لإبراهيم على كبر من هاجر الحرة البتول، لا كما يقول بنو إسرائيل في أضاليلهم وأكاذيبهم إنها جارية ومملوكة، وسارة كانت ابنة عم إبراهيم، وكانت لها مكانتها؛ لأنها انفردت من النساء عند المحنة على إبراهيم عندما قُذف في النار، انفردت من بين النساء ممن آمن به؛ فبقي مكرماً لها، وكانت تتمنى هي الولادة قبل هاجر، فعندما ولدت هاجر وسبقتها غارت منها، وخاف إبراهيم على ولده إسماعيل؛ فأوحى الله إليه أن يأتي به إلى هذه البلاد المكرمة المقدّسة، وأتى به إلى مكان زمزم جاء به ومعه أمه، فجاءوا على البراق فتركهم وأراد الرجوع، فأخذت تصيح هاجر: إلى أين يا إبراهيم؟ فلم يجبها، إلى أين يا إبراهيم؟ فلم يجبها، وإذا بها تقول: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم قالت: إذاً لا يضيعنا الله.
ذهب إبراهيم وكانت هذه الأرض بلقعاً خراباً لا ساكن فيها، ولا ماء ولا طائر، ولا هوام ولا حشرات عطش الوليد وهو لا يزال في شهوره الأولى، فذهلت أمه وكادت أن تجن، فلا يوجد من تستشيره ولا من تستغيث به من البشر، فذهبت إلى المكان الذي هو الآن الصفا والمروة، ووقفت على تلة الصفا، وأخذت تلتفت يميناً وشمالاً هل ترى من أحد؟! ثم نزلت مهرولة إلى أن وصلت المروة، وهكذا فعلت سبع مرات، ومن هنا كان أصل السعي بين الصفا والمروة ذكرى لهذا اليوم العظيم، وهذا اليوم العطر المعجز إرهاصاً لنبينا عليه الصلاة والسلام قبل كونه بآلاف السنين.
عندما أتمت السبعة الأشواط -وهي على المروة- إذا بها ترى طيراً يحلّق على المكان الذي تركت فيه وليدها إسماعيل، وجاءت مهرولة وإذا بها تجد الماء عند قدميه؛ فإما أن جبريل ضربه بجناحه كما قالوا، أو الوليد إرهاصاً، وعلى عادة الأطفال تُحرك قدميها عند البكاء، وإذا بذلك التحريك يفجر الماء.
ثم جاءت ووجدت الماء قليلاً فخافت عليه أن يضيع وتتشربه الرمال، وأخذت تجمعه وتقول له: زم زم! أي: تجمع تجمع، ومن ذلك الوقت سمي زمزم، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (لولا فعل هاجر للماء وقولها لها: زم زم لبقي نهراً سائحاً إلى يوم القيامة).
وهكذا القبائل المحيطة بأرض مكة رأت الطير فقالت: عهدنا بالطير لا يحلق إلا عند الماء ولا ماء هنا، فجاءوا فوجدوا الماء فاستأذنوها أن يشربوا معها، قالت لهم: لا مانع، فقالوا: هل نسكن معكِ؟ فقالت: لا مانع بشرط الماء لي، ولا يشركني فيه أحد قالوا: وافقنا، فوجدت بهم أنساً وبهجة وابتعاداً عن العزلة والوحشة، فكبر الولد وتزوج واستعرب، ومن هنا يقال: عرب مستعربة، لا أريد أن أحكي القصة بطولها فستأتي مرة أخرى تردد أبوه عليه وقد تزوج عربية من الجزيرة من الحجاز، جاء فلم يجده فسأل زوجته: أين إسماعيل؟ قالت: ذهب للصيد ليرتزق، سألها: كيف حالكِ؟ وكيف عيشتك؟ قالت: في شر عيشة قال: قولي لإسماعيل إذا جاء أن يغير عتبة بيته، جاء إسماعيل ليلاً وقد ذهب أبوه وعاد إلى الشام، جاء على البراق ورجع بالبراق وهو دابة الأنبياء، ووجد تغيراً في المنزل فسأل: هل حضر أحد؟ قالت: نعم.
قال: من؟ قالت: لا أعلم من هو، قال: ما صفته؟ فوصفته، فقال: ذاك أبي، ماذا قال لكِ؟ ومعنى (ذاك أبي) أنه كبر، وكان يتردد عليه ولا يعرف أباه لأنه لا يعرفه من زمن الطفولة وهو لا يزال رضيعاً في الأشهر الأولى، قالت: قال لي أقول لك: غيّر عتبة بيتك.
قال لها: أنتِ عتبة بيتي وأنت طالق، قد أمرني أبي بذلك.
ثم جاء سنة ثانية فوجد امرأة غيرها ولم يجد إسماعيل فسألها: كيف أنت؟ قالت: أنا بخير حال قال لها: كيف عيشك؟ قالت: على أحسن حال، قال: كيف زوجك؟ قالت: على أحسن عشرة، قال لها: قولي لإسماعيل: إذا أتى فليثبت عتبة بيته.
وهكذا جاء فقال لها: أنتِ عتبة بيتي وقد أمرني والدي بتثبيتك، وهكذا كبر الغلام، وأمر الله إبراهيم ومعه ولده إسماعيل ببناء الكعبة، فبُنيت، ثم رأى إبراهيم رؤيا أنه يذبح ولده، ومن هنا كان: {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:85].
قال لولده وأصبح غلاماً يسعى معه: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فلَمَّا أسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:102 - 103] أي: أماله ليذبحه، فأنقذه الله وفداه بذبح عظيم أي: بكبش، فصبر على البلاء، وصبر على بناء الكعبة، وصبر على تقشف مكة والصحراء، فاستحق من الله أن يشيد به ويخلد مع الخالدين.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل) لا كما يزعم اليهود أن إسحاق أفضل من إسماعيل، وجعلوا يتنقصون إسماعيل؛ وفي هذه الأشهر الأخيرة يتجولون على بلاد المسلمين بفلم سينمائي تمثيلي يتنقصون إسماعيل، ويشيدون بإسحاق عليهم لعائن الله تترا، ونحن نقول: إسماعيل نبي الله ورسوله، وإسحاق نبي الله، ولكن إسماعيل نبي ورسول، أما إسحاق فنبي فقط، وقد ذكر الله في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54]، أما إسحاق فذكره بالنبوة فقط، وقال عنه النبي عليه الصلاة والسلام بأن الله اصطفاه من أولاد إبراهيم، فهو سيد أولاد إبراهيم على الإطلاق.
قوله: {وَإِدْرِيسَ} [الأنبياء:85] من إدريس؟ قيل إن اسمه: خنوخ، وإدريس هو جد والد نوح وأقدم منه، فإدريس أول من ألهم علم القلم والكتابة، وإدريس أول من أُلهم خياطة الثياب، وكان الناس قبله يلبسون الجلود، كالكثير من بلاد أفريقيا البدائية اليوم يأتون الجلد فيلبسونه، وقد لا يسترون إلا العورة إدريس أُلهم أن يخيط الثياب، فخاطها وعلمه أولاده وشعبه وأمته.
وقد قال الله عنه: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] رُفع إلى السماء الرابعة، حيث اجتمع به صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء، وهو ليس من أجداد الرسول عليه الصلاة والسلام، عندما قابله لم يقل له: مرحباً بالولد الصالح كما قال إبراهيم.
وإدريس رفع مكاناً علياً حياً كما قال الجمهور، وقال آخرون رُفع ولكنه بروحه وليس ببدنه، وحكوا قصة لم تثبت عندنا في السنة النبوية والأحاديث، ولم تذكر في القرآن، وقيل: إنه مات في السماء، وإنه رأى ملك الموت ينظر إليه، فتساءل: ما هي نظرة عزرائيل هذه؟ فحكى لبعض من عاصره ممن كان على صلة به، ولعله من الملائكة أيضاً قال له: ما أرى ملك الموت إلا يريد روحي أبعدني عنه إلى الأعالي! أخذه وحلّق به في الأجواء ليرفعه إلى السماء الرابعة، وإذا بملك الموت يفاجئه محمولاً وقد كاد يصل إلى السماوات، فعجب وسأله من معه أن يرجئ موته إن كان مكلفاً بذلك، قال: أنا عندما رأيت إليه عجبت لأنني مكلف بأخذ روحه في السماء ورأيته في الأرض، وهذا بعد لحظات، وأين الأرض من السماء؟ ومتى سيصل إليها؟ فأخذ يرجوه أن يؤجله فالتفت فوجده ميتاً، هذا الكلام قد قيل: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ} [الأنبياء:85].(60/7)
تفسير سورة الأنبياء [85 - 88]
وممن يذكرهم الله للتأسي بهم إسماعيل وإدريس وذو الكفل، وفي كل منهم أسوة في الصبر على الطاعات والابتلاءات، وكذلك سيدنا يونس عليه السلام فإنه غاضب ربه فابتلاه فتاب ودعا وهو في الكرب العظيم.(61/1)
تفسير قوله تعالى: (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل)
قال الله جل جلاله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:85].
لا نزال مع أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، يعطّر الله تعالى مجالسنا بذكرهم وسيرهم وهديهم؛ ليكونوا لنا نعم الأسوة والقدوة.
قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ} [الأنبياء:85] أي: اذكر يا محمد مع ما ذُكر لك من أنبياء الله إسماعيل وإدريس وذا الكفل، فهم كذلك من أنبياء الله المكرمين الذين أكرمهم الله بالنبوة والرسالة والعصمة، وجعلهم الدعاة عنه إلى عبادته وتوحيده، ولخروج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى.
قوله: (وإسماعيل وإدريس) قد ذكرنا عنهما بالأمس ما فيه كفاية.
قوله: {وَذَا الْكِفْلِ} [الأنبياء:85] اختلف علماؤنا ومفسرونا هل هو صدّيق وولي من الصالحين، أم هو نبي من الأنبياء؟ وذكره مع الأنبياء يدل على أنه نبي، ولكن جمهور المفسرين يقولون عنه: لقد كان صالحاً وصدّيقاً، ولقد كان عبداً صابراً على عبادة ربه، ولم يكن نبياً، وأحد أنبياء بني إسرائيل الذين عاصروه وكانوا يحكمون قرب أجله، فأراد أن يوصي بالقيام على حكم عشائرهم وقبائلهم حسب أمر الله ديناً وطاعة ودعوة إليه، فحضر النبي وجمع حوله قومه وقال: من منكم يلتزم لي بثلاث أخلفه بعدي؟ فلم يستجب إلا رجل تزدريه العين وقال: أنا يا نبي الله! قال: أتصوم يومك ولا تفطر، وتصلي ليلك ولا تنام، وتحكم بين الناس ولا تغضب؟ قال: نعم، فسكت عنه، فأعاد في اليوم الثاني فلم يقم إلا هذا، واليوم الثالث فلم يقم إلا هذا، فعند ذلك خلّفه وأوصاه.
وكان هذا الولي الصالح قد التزم بصدق وصبر على ما طلب منه نبيه، وما كاد يموت نبيه عليه السلام حتى حكم بعده بقسط وبإنصاف، ولم يغضب في خصومة.
وقد كان يصلي ليله، ويصوم نهاره، ويصبر، ولا يكل ولا يمل، فسمي من أجل ذلك ذا الكفل، أي: تكفّل بشيء والتزمه وقام به، وذو الكفل أي: صاحب الكفالة والضمان الذي التزم بأشياء فقام بها أحسن قيام والتزام، فاستحق بذلك التنويه من الله جل جلاله، وذكره ضمن الأنبياء في هذه السورة الكريمة، وقد وصف الله إسماعيل وإدريس وذا الكفل، وقال عن الثلاثة: {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:85].
صبر إسماعيل على الذبح عندما طلب منه أبوه ذلك، ولكن الله فداه بذبح عظيم، وصبر إدريس على ما صبر عليه من عنف قومه وصدهم، وخدمة قومه، ودعوتهم إلى الله ليله ونهاره ومدى حياته، حضراً وسفراً، فلم يكل ولم يمل ولم يضجر، وصبر ذو الكفل على ما أوصاه به نبيه من عبادة دائمة ليل نهار، ومن العدل بين الناس إذا ترافعوا إليه، فكانوا بذلك قد استحقوا فضلاً من ربهم أن ينوه بهم أبد الآباد وما دامت الدنيا، فقال عنهم: {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:85].(61/2)
تفسير قوله تعالى: (وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين)
قال تعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:86].
أدخلهم الله جل جلاله في رحمته بما أكرمهم به من نبوة ورسالة ودعوة إليه، فدخلوا في الرحمة، ودخلوا في الطاعة، ودخلوا في الرضا بما استحقوا من أجله الجنة والرضا والخلود الدائم بالجنان مع النبيين والمرسلين.
{إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:86] هم من الصالحين للنبوة، ومن الصالحين للرسالة، ومن الصالحين للرحمة، أي: هم أهل لذلك، ولذلك أهّلهم الله تعالى بما أكرمهم به، وأدخلهم في عباده الصالحين والصابرين.(61/3)
تفسير قوله تعالى: (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه)
قال الله جل جلاله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
واذكر يا محمد! واذكر يا تالي هذا الكتاب الكريم من المؤمنين والمسلمين، الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، اذكر مع الأنبياء الماضين ذا النون، وذو: صاحب، والنون: الحوت، وذو النون هو يونس بن متى، لقّبه الله تعالى بذي النون لقصته مع النون عندما ذهب مغاضباً، فجوزي بأن يزدرده الحوت، ويعيش في بطنه زمناً الله أعلم بتقديره: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء:87] أي: يونس بن متى إذ ذهب مغاضباً، ما قصة ذي النون؟ ذو النون أرسله الله إلى مائة ألف أو يزيدون، أُرسل في نينوى في أرض العراق من أرض الموصل إلى أقوام كانوا يسكنون في هذه النواحي، أرسله إليهم نبياً رسولاً وداعياً إلى الله، دعاهم وأطال الدعوة، ومكث بينهم دهراً، وإذا بهم لا يستجيبون؛ فضجر وضاق وغضب منهم، وتركهم وأنذرهم بعذاب الله لمدة أيام ثلاثة، حيث لم يستجيبوا لرسالته ولا لدعوته، ذهب اليوم الأول ثم ذهب في اليوم الثاني، وإذا باليوم الثالث يجتمع قومه ويتفقون على أن يخرجوا إلى الصحاري ومعهم أطفالهم ودوابهم وكل حي يتحرك وينبس، وقد قال لهم حكماؤهم: إن كان يونس بن متى نبياً صدقاً فالنبي إذا دعا الله على أحد أو دعاه لأحد يستجيب الله دعاءه، فلنذهب إلى الله ونضرع إليه ألا يعاقبنا ويعذّبنا، ومضت الأيام الثلاثة واستجاب الله دعاء قوم يونس؛ فصرف عنهم العذاب والمقت، فلم يجر عليهم عذاب، فغضب منهم عندما لم يحدث ذلك، وظن أنهم سيعتبرونه مدّعياً كاذباً لا شأن له، ولم تستجب دعوته.
وقيل: ذهب مغاضباً ربه، إن قلنا: مغاضباً لقومه، فالمغاضبة مفاعلة أي: ارتكبوا ما يُغضب؛ فغضب، فالغضب والمغاضبة منهم جميعاً، وإذا ذكرنا غاضب ربه فالكلمة ليست على تصريفها أي: غضب من ربه، ومعنى كونه (غضب) أي: عتب على ربه كيف يترك دعوته مع هؤلاء الذين عصوه وخالفوه؟! ثم بعد ذلك عندما دعوا وتضرعوا صرف الله عنهم العذاب الذي دعا به يونس، وعلى أي اعتبار فقد ذهب مغاضباً لربه، فهو عتاب منه لربه وللأنبياء، والرسل دالة على الله، وإن كان غضب على قومه فالأمر سهل والخطب يسير.
ذهب وإذا به يجد نفسه على شاطئ بحر، وإذا بسفينة تأخذ الركاب فيصعد السفينة، وإذا بالأمواج تتلاطم بالسفينة، وتترنح بها يميناً وشمالاً، وأماماً وخلفاً، تكاد السفينة أن تغرق، فقال ربان السفينة: السفينة تحمل أثقالاً، ولا بد أن نخفف بعض أثقالها، ولا بد أن نُلقي في البحر بعض الركاب؛ لينجو الباقون، فضربوا القرعة، وإذا بالقرعة تخرج فيه أن يُلقى للبحر، فقال ركاب السفينة: هذا الرجل الصالح لا يليق أن يُقذف في البحر، فأعادوا القرعة مرة ثانية فخرجت عليه، فعادوا فقالوا: لا يجوز أن نقذف بهذا الرجل الصالح في البحر، فأعادوا وضربوا القرعة مرة ثالثة فخرجت في يونس بن متى، عند ذلك رأى أن أمر الله لا محيد عنه، فقذفوه للبحر، وإذا بحوت كبير يتلقفه ويزدرده.
وقد روينا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجة والحاكم أن الله قال للحوت: (لا تأكل له لحماً ولا تكسر له عظماً، وهو سجين في بطنك) فذهب به الحوت إلى قعر البحار، وإذا بيونس كان يظن أنه قد مات وإذا به يشعر أن رجله أخذت تتحرك، وأن يده أخذت تتحرك، وحينئذٍ أخذ يضرع إلى الله، وعلم أنه أتي من غضبه، فأخذ يستغيث ويعترف بخطيئته، وأخذ يضرع إلى الله أن ينجيه مما هو فيه، فقال تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء:87] والقصة مطوية بين هاتين الفقرتين يدل عليها السياق، أي: إذ ذهب مغاضباً فركب السفينة، فضُربت القرعة، فقذف في البحر فأصبح في جوف الحوت في ظلمات ثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، والظلمة الثالثة قالوا: حوت داخل حوت، الحوت الذي ابتلعه وازدرده جاء حوت أكبر منه فازدرده بيونس الذي في بطنه، فكانت الظلمات ثلاثاً.
فأخذ يجأر إلى الله ويضرع، قال تعالى: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء:87] ضرع ودعا ربه وهو في هذه الظلمات الثلاث في قعر البحار.
ومعنى (ظن أن لن نقدر عليه) على ظاهرها: أنه ظن أن الله لا يقدر عليه، وهذه لا تكون من مسلم فضلاً عن نبي، ولكن المعنى ليس كذلك، بل المعنى: ظن أن لن نضيّق عليه، ولن نعاقبه، كقوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26] أي: يبسط الرزق ويوسعه لمن شاء، ويقدره ويضيقه بالفقر والتقصير على من شاء؛ ومعنى (يقدر) هنا يضيق.
فظن يونس النبي الرسول أنه لن يُضيّق عليه، ولن يُحبس، ولن يُعاقب، ولكنه لما كانت حسنات المقربين سيئات الأبرار لم تقبل هذه منه، لم يُغاضب ربه؟ ولم يُغاضب قومه؟ ولا بد أن يصبر.
ولذلك قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48] أي: كن حازماً، وذا عزيمة، وكن ذا صبر وإرادة، وإياك أن تفقد صبرك كما فقده يونس بن متى صاحب الحوت؛ فلم يكن من أولي العزم.
قوله: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] ظن ودخل بباله أن الله لن يضيّق عليه، ولن يحبسه ويعاقبه، فذهب مغاضباً وإذا به ضُيّق عليه وأُلقي في البحر، وقُذف وازدرده الحوت وبلعه، وإذا به يشعر بذلك فيعود للتوبة والدعاء والضراعة، وينادي ربه في هذه الظلمات الثلاث، فيقول: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
أي: أنزهك وأعظمك وأبجّلك، وأسجد وأضرع لك، فأنا العبد المفتقر إلى رحمتك ومغفرتك، أنت الرب الذي لا إله سواك، وأنت الذي صنعت بي هذا فارفعه عني، فأنا تائب إليك: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] واعترف لربه أنه ظلم نفسه بالمغاضبة وعدم الصبر، وما كان ينبغي ذلك من نبي ورسول: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].(61/4)
تفسير قوله تعالى: (فاستجبنا له ونجيناه من الغم)
قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:88] استجبنا لدعائه وحققنا رغبته، وقبلنا ضراعته وتوبته.
{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} [الأنبياء:88].
والغم أشد أنواع الهم والحزن والألم، فكان حزناً وغماً لندمه حزناً وغماً لقذفه في بطن الحوت في قعر ظلمات البحر والحيتان والليل، فنادى الله تعالى أن يصرف عنه غمه وكربه، وأنه معترف بظلمه، فقال الله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88].
وهذا مغزى القصة والآية أي: كما نجينا ذا النون من ظلمات البحر عندما تاب وأناب، {كَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] الذين يقعون فيما وقع فيه ذو النون عندما يبتلون بمعصية، ثم يتوبون ويقولون ما قال ذو النون: {أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
أي: أنزهك وأعظمك وأسجد لك وأمجدك.
وجاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من طريق سعد بن أبي وقاص كما في الصحيح والسنن: (إنه الاسم الذي إذا دُعي الله به أجاب، وإذا سئل أعطى).
وقد قال الحسن البصري: اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل أعطى دُعاء ذي النون: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
وقد قال هذا نبي الله صلوات الله وسلامه عليه، ثم قرأ الآية: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] عندما قال في الظلمات: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
هذه قصة يونس بن متى نبي الله المرسل إلى مائة ألف أو يزيدون في أرض العراق، والذي غاضب ربه وغاضب أمة دعوته فعوتب بهذا، ثم تاب وأناب.
ولا نقول: الغضب جريمة بالنسبة للعموم، فالغضب: حالة تفاعلية نفسية، ولكن بما أن ذا النون نبي رسول عليه الصلاة والسلام كان ينبغي أن يصبر، وأن يعزم ولا يفعل ذلك، وعندما فعله عوتب؛ وهكذا كما يقول العارفون بالله: حسنات الأبرار سيئات المقربين، قد لا يحاسب عموم الناس على الغضب إذا لم يتجاوزوا حدهم وقت الغضب، فيسيئون أو يذنبون؛ أما الأنبياء فالأمر ليس كذلك، وطالما كان عليه الصلاة والسلام يأتيه المسلمون فيطلبون منه أن يدعو لهم وأن يوصيهم، وكان طبيباً نفسياً وروحياً صلوات الله وسلامه عليه، فقد أتاه يوماً من قال له: (يا رسول الله! أوصني وأوجز حتى لا أنسى، قال: لا تغضب) يطلبه ثلاثاً ويجيبه ثلاثاً بـ (لا تغضب)؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام علم من حال هذا الرجل أنه إذا أتي سيؤتى من الغضب، فقد كان يغضب لأي شيء، وقد يفعل ساعة الغضب ما لا يفعله ساعة الرضا، وإذا غضب وصنع ما صنع قد تقع الكارثة خلال ثانية واحدة، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، فإنه إذا فعل المصيبة لا ينفعه بعد ذلك شيء، كمن يأتيك ويستشيرك ويكثر هذا: فلان طلّق ثلاثاً، فلاناً طلّق واحدة فيريد أن يلقنك فيقول: كنت غضبان فيكون
الجواب
لم تغضب؟ وإذا غضبت تمالك نفسك وإرادتك، لم سمي العقل عقلاً؟ ليعقلك عن الضر والظلم، وعن الإيذاء، فإذا نحن سامحنا كل غاضب ضاعت الأحكام، وضاعت الأيمان فنقول له: جزاؤك لغضبك أن تُطلق عليك زوجتك.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] وهكذا الله علمنا جل جلاله في مغزى هذه القصة إذا غضب أحدنا وصدر عنه ما صدر، ووقع في ورطة أو في غم أن يدعو بدعاء نبي الله يونس بن متى.
وقبل سنة تقريباً حدثت جريمة في الجو، حيث صودرت طائرة تحمل مجموعة من المسئولين من بلاد المسلمين، وذاك المجرم قد أراد نسفها في الجو أو قتلهم بعد النزول في الأرض مع تواطئ بعض المسئولين المجرمين الذين لا يقدرون العواقب، فقص علينا القصة أحد هؤلاء المسئولين من المقربين لبلادنا أو منها، حيث قال: في تلك الساعة وأنا أشعر أنني بين يدي الوحش المفترس تذكرت دعاء ذي النون، وإذا بي أجد نفسي تقول ذلك بكل حواسي، وبكل خلايا جسمي، وأضرع وأقول: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] وإذا الوضع كله يتغير، وإذا به يسلم ويسلم من معه ولا يحدث لهم شيء كما لم يحدث لذي النون.
ثم أنقذ الله ذا النون وأتى الحوت به إلى الشاطئ وقذفه، وهكذا ألقي عرياناً كالفرخ الذي لم يكن له ريش، وهكذا حدث، وبعد ذلك كسي، وعاد إلى قومه ودعاهم إلى الله، ووجدهم قد أسلموا وتابوا وأنابوا، وعاش مدة حياته إلى أن لقي ربه وهو يضرع ويستغفر ويسبّح ويدعو الله تعالى، وتاب عن الغضب ألبتة إلى لقاء ربه.(61/5)
تفسير سورة الأنبياء [89 - 97]
كان سيدنا زكريا قد كبر ورق عظمه، فدعا ربه فأصلح له زوجه ووهب له يحيى ولداً صالحاً وسيداً وحصوراً، وهكذا السيدة مريم عليها السلام رزقها الله ولداً من غير أب وجعلها وابنها آية للعالمين.(62/1)
تفسير قوله تعالى: (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً)
قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء:89].
ذكر لنا بعد إسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون زكريا، فقال تعالى: {وَزَكَرِيَّا} [الأنبياء:89] وفي قراءة سبعية {وَزَكَرِيَّاءَ} [الأنبياء:89].
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89].
وقد مضت قصة زكريا في سورة مريم قريباً، حيث خاف الموالي من بعده أن يضيعوا رسالته ودعوته، وكان قد كبر سنه ورق عظمه، واشتعل الرأس منه شيباً، وكانت زوجته عقيمة منذ شبابها، ولكنه ارتأى بعد أن بلغ هذه السن أن يطلب الله وهو أعلم، وأن الله قادر على كل شيء.
قوله: {وَزَكَرِيَّا} [الأنبياء:89].
أي: اذكر زكريا من بعد الأنبياء الذين كانوا من أهل الطاعة والبر والتزام الدعوة، ومن الخضوع لله والخشوع له، وممن دعوا ربهم فاستجاب لهم في شيء جرت العادة أنه قل أن يكون.
قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89].
زكريا عندما كبر سنه، ووجد أنه سيموت بلا أولاد، وهو يريد من يخلفه في النبوة والدعوة، ويخلفه في العبودية من سلالته ومن ذريته نادى ربه وضرع إليه: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا} [الأنبياء:89] أي: لا تذرني مفرداً أبتر لا ولد لي ولا سلالة ولا ذرية؛ {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89].
ويضرع إليه بما شاء فليس بينه وبين ربه مانع، خاصة إذا كان في ظلمات الليل والناس نيام، وفي الثلث الأخير من الليل حين ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فيقول: هل من داع فأستجيب له؟ هل من جائع فأشبعه؟ هل من عار فأكسوه؟ هل من مظلوم فأنصره؟ فليدع ربه تلك الساعة بما شاء فإنه ضامن أن يستجاب له.(62/2)
تفسير قوله تعالى: (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى)
قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:90].
استجاب لزكريا وأجاب دعاءه وضراعته.
{وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} [الأنبياء:90].
وهب له وليداً حقق رغبته، وكان ذكراً، وجعله صالحاً ونبياً وسيداً وحصوراً، وأوقف نسله في ولده، ولو طلب زكريا الذرية إلى الأبد لكانت، لكنه طلب ولداً فرزقه يحيى وجعله سيداً وحصوراً لا يأتي النساء، وهو بالتالي لن ينجب ولا يكون له أولاد، وهكذا كان.
قوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90].
كانت عقيماً فأصبحت ولوداً، وكانت عجوزاً لا يلد مثلها فأعطاها من الشباب والاستعداد ما يكون للشباب والصغيرات، فولدت، وقيل: وكانت شرسة اللسان، بذيئة القول، فأصلحها الله له؛ لأن الشرسة تنفسر النفس منها عادة، وإن كانت بينهما صلة فتكون بنفور وقل ما يعلق الولد، بخلاف ما إذا كانت رضية خلوقة فإن ذلك يكون أدعى للتعلق وأدعى للولادة، فأصلحها الله لساناً وخلقاً ورحماً، وأزال عقمها وعجزها فأصبحت لينة هينة ذات أخلاق عالية، وأصلح شبابها فأصبحت تلد.
ثم أخذ الله جل جلاله يثني على جميع الأنبياء الذين مضوا فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90].
أي: من عند آدم إلى نوح إلى موسى إلى هارون إلى زكريا إلى إسماعيل إلى إدريس إلى ذي الكفل إلى ذي النون ومن سيذكر بعد إلى مريم أشاد الله بالكل، وأثنى على الكل، ووصفهم فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90].
كان هؤلاء الأنبياء والرسل مدة أعمارهم وخلال رسالاتهم ونبواتهم {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90] ويتسابقون كالمباراة والمسابقة التي تكون للهو واللعب، وكانت مسارعتهم إلى عبادة الله وفعل الخيرات بشتى أنواع العبادات، قائمين ومصلين، وطائفين ومتصدقين، ومتهجدين ومجاهدين، وعاملين بجميع الخيرات التي كانوا متصفين بها ويسارعون للوصول إليها.
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] كانوا يتسابقون للخير وفعله وللدعوة إليه، {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90].
رغباً: طمعاً بما عندنا من جنة ونعيم مقيم.
ورهبة: مما عندنا من عذاب ونقمة وجحيم.
كانوا يتقربون إلى ربهم بين الخوف والرجاء، وبين الطمع والخوف، وهكذا العبادة أن نعبد الله تارة طامعين برحمته، وتارة خائفين من عذابه: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
وقد قال علماؤنا: ينبغي للصحيح ما دام صحيحاً وللصغير ما دام صغيراً أن يغلِّب الخوف على الرجاء؛ ليزداد عبادة وطاعة، ويزداد حرصاً على فعل الخيرات، حتى إذا مرض أو شاخ فليغلب الرجاء على الخوف؛ لأن الله يقول كما في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء) ولا نظن بربنا إلا خيراً جل جلاله وعلا مقامه.
وقد قال قوم (يعبدونني خوفاً وطمعاً) معناه: أنهم يدعونني عندما يريدون الخير بباطن أكفهم وعندما يريدون الشر بأعدائهم بظاهر أيديهم، ومن هنا شرع أن تكون الأيدي مفتوحة مبسوطة لرحمة الله ولعطاء الله ولفضل الله؛ وعندما يكون الدعاء بالنقمة على الأعداء والمنافقين والظالمين يكون الدعاء بظاهر الأكف ليدفع ذلك عن الداعي.(62/3)
تفسير قوله تعالى: (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا)
قال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91].
والفرج: لغة الشق، ويطلق على كل شق في البدن والثياب والأرض، ولكن هذه الكلمة التي كانت في الأصل كناية ومجازاً لكثرة الاستعمال كادت تطلق على مكان العفة بالذات، وليست هكذا لغة {وَالَّتِيأَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء:91] وهي مريم الصدّيقة عليها سلام الله أم عيسى نبي الله وعبده عليه وعلى نبيا الصلاة والسلام.
والمعنى: واذكر يا محمد المرأة التي أحصنت فرجها، وعفّت عن الفاحشة والسوء، وعاشت عفيفة حياتها إلى أن أكرمناها بالآيات؛ فرزقناها ولداً بلا فحل، وقصتها مضت في غير ما سورة من السور الماضية.
قوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء:91].
الروح: جبريل عليه السلام، نفخ فيها جبريل، ونسبت الروح إلى الله تشريفاً، فجبريل لله، والملائكة كلهم لله، وكلنا عبد خاضع مطيع لله، ولكن هذه النسبة والإضافة للذات العلية بهدف تشريف مريم وعيسى.
وهكذا كان الولد نتيجة النفخ بالأمر الإلهي لجبريل كبير الملائكة، وإذا بها تحمل، فحملت حملاً عادياً تسعة أشهر بالوحم وبالكبر في البطن إلى أن ولدته وأتت به تحمله، فقام قومها وأخذوا يقولون: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:28 - 29] وإذا به أخذ يتكلم -معجزة- بعد ولادته بيومين أو ثلاثة، وهي الأيام الثلاثة الرمزية التي صامت فيها، ثم تكلم {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30].
تكلم بالعبودية وبالطاعة، وأن الله جعله نبياً، وأنه باركه وقت الولادة والوفاة ويوم يبعث حياً.
{وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91].
جعلها الله آية وعلامة على قدرته وأنه القادر على كل شيء كما يشاء جل جلاله، فهما آيتان: جعلناها آية، وجعلنا ابنها آية، وحُذفت إحدى الآيتين للعلم بها، ولفهمها من السياق، وكانت ولادتها آية كونها حملت بلا فحل.(62/4)
تفسير قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة)
قال تعالى بعد أن سرد أسماء هؤلاء جميعاً في نسق واحد: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].
أي: إن الدين واحد والشريعة واحدة، والدعوة واحدة أتى بها الرسل والأنبياء عن الله منذ آدم إلى إدريس إلى نوح إلى إبراهيم إلى سلالته إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، كانت الدعوة واحدة: أن اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن قولوا جميعاً: لا إله إلا الله، ومن هنا كان يقول لنا نبينا صلوات الله وسلامه عليه: (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله).
وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء أبناء لعلات، أمهاتنا شتى، وأبونا واحد) أي: شرائعنا مختلفة، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48].
أما الدعوة فكلهم أرسلهم الله للدعوة إلى عبادته، وتوحيده، وعدم الشرك به، ولم يخرج عن ذلك أحد؛ فإن وجدنا في التوراة والزبور والإنجيل غير ذلك فذلك مما حرفه الأفّاكون والكذّابون والمفترون على الله، فقد افتروا على ربهم، ونسبوا له الشريك، تارة بشراً، وتارة جناً، وتارة ملكاً، وتارة جماداً، وكل ذلك ليس عليه من الله سلطان ولا دليل من عقل.
قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92] قيل: النصب على قطع الكلام.
والمعنى: إن الأمة والديانة والشريعة والدعوة واحدة منذ أول الأنبياء إلى آخرهم عليهم جميعاً سلام الله وصلاته، لم تتغير ولم تتبدل من قبل الله جل جلاله.
قوله: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] أولئك الرسل أرسلهم الله جل جلاله بعبادته وحده، وبعدم الشرك به، فكان الكل ديناً واحداً، ورسالة واحدة، ودعوة واحدة.
قوله: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] الله أمرنا بعبادته وتوحيده، وأمرنا بمحض العبادة له، ولا نشرك به شيئاً.(62/5)
تفسير قوله تعالى: (وتقطعوا أمرهم بينهم)
ثم قال تعالى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء:93].
كان الناس أمة واحدة، ولكنهم بعد ذلك تقطّعوا أمرهم بينهم، أي: قطّع بعضهم بعضاً، وجعلوا أنفسهم مللاً ونحلاً وأحزاباً وشيعاً، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53].
النصارى عبدوا مع الله اثنين وأصبحوا يعبدون ثلاثة، واليهود أصبحوا يعبدون مع الله العجل وعزيراً، وكلهم يقول: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] فكذبوا وأفكوا، وافتروا على الله، وقد عبد غيرهم أنواع العبادات، وكل ذلك لم يكن عليه سلطان من الله ولا من العقل.
قوله: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء:93] هذا وعيد من الله وتهديد، فهؤلاء الذين قطّعوا أديانهم مزّقوا الملل، وجعلوها أحزاباً وشيعاً كلهم إلينا راجعون، فسنحاسب كلاً حسب عمله، وحسب طاعته أو معصيته، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8] كل حسب عمله، إن عمل ما يدعو إلى الجنة دخلها، وإن عمل ما يستحق به النار دخلها.
قوله: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء:93] أي: مبعوثون ليعرضوا على الله فيحاسبهم.(62/6)
تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن)
ثم قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الأنبياء:94].
بعد أن أخبر بأن الدين واحد، وأن المعبود واحد، وأن الرسالة التي أرسل بها الرسل واحدة في الدعوة إلى توحيد الله، وإلى عبادته وحده؛ وأنذر وتوعد من قطّع الدين وجعله أحزاباً وشيعاً بأنه سيرجع إلى ربه ويحاسب بذنبه عاد فبشر المؤمنين في هذه الآية فقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94].
ولم يطلب الله الصالحات كلها؛ لأن البشر يعجز عن أن يأتي بذلك كله؛ وهذا ما فسّره نبينا عليه الصلاة والسلام وقال: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) لم نكلف إلا بما نستطيع ونقدر عليه، ولم يجعل الله علينا في الدين من حرج.
قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} [الأنبياء:94] أي: بعضها، فـ (من) للتبعيض.
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الأنبياء:94] أي: حالة كونه مؤمناً، وإلا فعمل غير المؤمن يكون هباءً منثوراً؛ لأنه يعمله للشركاء، فهي زيادة في الكفر والمعصية والتمرد والتحدي، ولا عبادة إلا بالنية، ولا نية إلا مع الإخلاص، وهذا لا يعبد الله الواحد، وبالتالي لا إخلاص له؛ لأنه يعبد أرباباً متفرقين.
قوله: {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء:94] أي: لا جحود ولا إهمال لسعيه وعمله، والجحود من الله لعباده معناه العقاب والمكافأة، والجزاء بما صنعوا من سوء، واعتراف الله للعبد وقبوله لطاعته يكون ذلك بالرضا عنه وبقبولها.
قوله: {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء:94] أي: لا يجحد الله سعيه، ولا عمله، بل يجازيه عليه ويحسن إليه من أجله، لا يجحده إياه {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا.
قوله: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94] أي: إنا لسعيه وطاعته وعبادته حافظون وكاتبون، نكتب ذلك له، ونأمر الملائكة المصاحبين للإنسان من عن اليمين أن يكتبوا حسناته وسعيه الصالح، ونحن نحفظ له ذلك ونجمعه له، إلى أن يجازى عليه بدخول الجنان والرحمة والرضا من الله.(62/7)
تفسير قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها)
ثم قال تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95].
حرام: أي واجب.
{عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء:95] أي: على أهل قرية.
فالمعنى: واجب على أهل القرية التي نهلكها وندمرها نتيجة كفرها ونتيجة عصيانها {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] أي: لا يرجعون إلى الدنيا ثانياً بعد أن يروا الحق حقاً، ويكون الوقت قد فات، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
فهؤلاء المجرمون المذنبون عندما يهلكهم الله نتيجة كفرهم وشركهم فإنه أوجب على نفسه -ولا يجب عليه شيء جل جلاله- أنهم لا يرجعون للدنيا بعد الموت إن هو إلا العودة يوم العرض على الله إما إلى الجنة وإما إلى النار؛ أما أن يطمعوا في العودة للحياة فلن يكون ذلك، ولو قدموا الدنيا وما فيها فداء لعقوبتهم هيهات هيهات! ضاع الزمن ولم ينتهزوا الشباب قبل الشيخوخة، والفراغ قبل الشغل، والصحة قبل المرض، فيعبدون ويطيعون، ويستجيبون لدعوة رسلهم، أما وقد بقوا هكذا إلى أن ماتوا ورأوا ما كان يجب أن يكون إيماناً بالغيب أصبح مشهوداً ومرئياً، وأصبح محسوساً، هيهات هيهات أن يعودوا للدنيا مرة ثانية بعد أن ماتوا.
قوله: {لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] أي: لا يعودون للدنيا للتوبة ولا للعمل، ولو قُدّر أن يعودوا لا يفعلون إلا كما فعلوا أول مرة عند حياتهم الأولى.(62/8)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج)
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96].
يقول جل جلاله: هؤلاء المخالفون العصاة المذنبون سيبقون في الأرض وفي الدنيا حتى خروج يأجوج ومأجوج، سيبقون مصرين على إجرامهم وذنوبهم، وقلة قليلة قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام بياناً للقرآن الكريم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم وهم على ذلك إلى يوم القيامة) الكل سيبقى إلى أن يرى يأجوج ومأجوج من السلالة والذرية.
{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [الأنبياء:96].
أي: فتح السد الذي بناه ذو القرنين، هذا السد الذي حُبس فيه قوم يأجوج ومأجوج وهم جنس من البشر من أبناء آدم من ولد يافث بن نوح، هم مجرمون بفطرتهم، يفسدون ولا يصلحون، وصفهم رسول الله عليه الصلاة والسلام بأنهم صغار الأعين، غلاظ الوجوه، صهب الشعر، شقر، كأنهم المجان المطرقة، وكأنهم الترس المطرق بالجلد من أمام وخلف، هذا الذي يُتقى به ضرب السيوف أي: وجوههم غليظة غلظ المجان المطرقة بالجلود.
ويأجوج ومأجوج هم من علامات الساعة الكبرى، وقد تواترت بهم الأحاديث، والأصل ذكر القرآن لهم، وقد فسّر ذلك عليه الصلاة والسلام، وذكر ترتيبهم في الخروج والبروز، وأنهم كل يوم يأتون إلى السد فيحاولون أن ينقبوه، فيحفرونه اليوم كله فيقولون: إلى الغد، فيعودون فيجدونه رجع كما كان، وهكذا يبقون على هذه الحال حتى يأذن الله تعالى بخروجهم لخراب بقية الدنيا، فيلهمون فيقولون: غداً نعود إليه إن شاء الله، فيأتون إليه ويجدونه كما حفروه، وأخذوا يسمعون الأصوات خلفه، وإذا بهم يكبرون النقب فيخرجون كالسيل المنتشر من كل حدب ينسلون، كما قال ربنا.
ويأجوج ومأجوج يأتون بعد عيسى عليه السلام ولا يتركون نهراً إلا شربوه، ولا بئراً إلا طمروه، ولا شجرة إلا قلعوها، ولا إنساناً إلا أزهقوا حياته، ولا دابة إلا قتلوها وقد ظن بعض شيوخنا من علماء عصرنا أن هذه الصفة في التتار الذين فعلوا مثل هذا عندما جاءوا من أقاصي آسيا البعيدة، فخربوا العراق، وخربوا الشام وما بينها، وكل ما أتوا عليه من أقصى آسيا ما تركوا بحراً ولا شجراً ولا إنساناً، ولكن ذلك وقف وانتهى وعيسى لم يأت بعد، والمهدي لم يأت بعد، والدجال لم يأت بعد، والعلامات الكبرى للساعة لم تأت بعد، فيكفي هذا دليلاً على أن التتار لم يكونوا يأجوج ومأجوج.
يأجوج ومأجوج بشر صغار الأجسام، تزدريهم العين في النظر إلى وجوههم، فيها جهامة وقتر أشبه ما يكونون بوجوه أهل النار: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:40 - 41] هؤلاء عندما يفعلون ذلك سيخربون ويدمرون، وإذا بالله الكريم يأذن بهلاكهم، لأن المؤمنين يدعون الله بأن يكشف عنهم غمتهم، وإذا به يسلّط عليهم النغف تأخذهم في أعناقهم، فتكون سبب هلاكهم وتدميرهم، فيتراكمون ويتكتلون، فينتشر الوباء والروائح الكريهة والجثث والأمراض على أشكالها، فيدعو من يدعو الله تعالى، وإذا به يصب عليهم مطراً، ثم يسلّط عليهم طيوراً تأخذهم، فهذا المطر ينظف الأرض، والطيور ترفع الجثث وترميها إلى قعر البحار، فتنظف الأرض من أوساخهم وجيفهم، ومن روائحهم الكريهة، ولكن بعد ذلك كما ورد في الحديث الصحيح تصبح الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تصبحهم أو تمسيهم يقولون: صباحاً ستلد! مساءً ستلد! تصبح الساعة أقرب ما تكون، فينتظر الناس يقولون: صباحاً! ويقولون: مساءً! ولكنها لا تأتيهم إلا بغتة على توقعهم لها.
فقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [الأنبياء:96] فتحت عنهم أي: أزيل النقب وخرجوا {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96] الحدب: التل من الأرض.
والعلو من الأرض و (ينسلون): يجرون ويسرعون، فهم يأتون من كل تلة، ومن كل جبل، ومن كل ناحية، ومن كل جهة يتسارعون ويجرون للفساد، ولسفك الدماء، وإهلاك الحرث والنسل، لا يعلمون سوى ذلك، وهم يتسابقون في الشوارع كالبهائم، لا يدينون بدين، ولا يتخلقون بخلق ولا يكادون يفقهون من الكلام قولاً.(62/9)
تفسير قوله تعالى: (واقترب الوعد الحق)
قال تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء:97].
أي: عندما يأتي يأجوج ومأجوج يكون الوعد بالبعث، والوعد بالقيامة قد اقترب، كما فسّر نبينا عليه الصلاة والسلام، تكون الساعة والوعد الحق كالحامل المتم، لا يدري أهلها متى تفاجئهم بالولادة: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:97].(62/10)
تفسير سورة الأنبياء [96 - 104]
يأجوج ومأجوج من أكثر أمم الأرض، وأعظمها فساداً، وخروجهم من علامات الساعة الكبرى، وحينئذٍ يلقى كل إنسان جزاءه عند الله.(63/1)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج)
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:96 - 97].
يقول جل جلاله عن هؤلاء الكفار العصاة المجرمين الذين طالما أنذرهم الرسل فلم يزدادوا إلا عتواً وتمرداً وعصياناً وخلافاً: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [الأنبياء:96].
ومضى بالأمس الكلام على يأجوج ومأجوج، وأنهم بشر من نسل آدم من ولد يافث بن نوح، وأنهم عراض الوجوه، غلاظها صغار الأعين، تزدريهم العين، لا يكادون يفقهون حديثاً، ديدنهم الفساد والتخريب، وسفك الدماء منذ زمن طويل، حبسهم ذو القرنين بسد جعله دونهم، ولا يزالون كذلك ولا يخرجون إلا عند قرب قيام الساعة، وهم كل يوم يحاولون أن يحفروا نقباً في هذا السد؛ لينتشروا ويخرجوا للفساد والتخريب.
وقد قيل: إنهم التتار، فلقد طالما خربوا وأهلكوا الحرث والنسل وسفكوا الدماء، ولكنهم ليسوا يأجوج ومأجوج، كما في كتاب الله الكريم، وكما أكدت ذلك السنة المطهرة أن يأجوج ومأجوج يكادون يتصلون بقيام الساعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام عندما ذكر علامات الساعة الكبرى: (إن يأجوج ومأجوج يخرجون بعد نزول عيسى من السماء، ولا يكون بعدهم إلا قيام الساعة)، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (قد يشتري الإنسان فلواً -ولد الحصان- ولكنه لا يكاد ينتفع به وتقوم الساعة).
{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [الأنبياء:96]، أي: فتح السد الذي بيننا وبين يأجوج ومأجوج، وإذا بهم ينسلون من كل حدب، ومن كل تل ومرتفع من الأرض، والحدب: هو الارتفاع في الأرض، وهو التلال.
{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96]، أي: يأتون مسرعين يجرون جري الذئاب الخفاف من الحيوانات.(63/2)
تفسير قوله تعالى: (واقترب الوعد الحق)
قال تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء:97].
أي: الوعد بالقيامة وبالبعث، الوعد بالحياة بعد الموت، عندما يكون خروج يأجوج ومأجوج، واقتراب الساعة حتى كأنها الحامل المتم يقول أهلها: تكاد تصبحنا أو تمسينا، في هذه الساعة يرى الكافرون الظالمون أن ما كانوا يكفرون به وينكرونه قد أتى وأصبح وعداً حقاً، وقد كان قبل ذلك، ولكنهم لم يؤمنوا به كفراً وعناداً ومخالفة وعصياناً.
قوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:97].
وكأنها صورة تراها العين بالمشاهدة، عندما يقترب الوعد الحق ويقترب قيام الساعة، ويكون قبل ذلك بقليل قد فاض على الدنيا يأجوج ومأجوج، فخربوا وأهلكوا الحرث والنسل، إذا بالساعة يظهر قيامها، فينفخ إسرافيل في الصور وإذا بمن كان منكراً للبعث أبصارهم شاخصة، تفتح أعينهم وما كادوا يصرفونها ذهولاً وضياعاً وتيهاً، وإذا بهم ينادون ويجأرون: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء:97].
هؤلاء يصيحون وينادون: يا ويلهم! يا خراب ديارهم! يا خسارتهم لدنياهم وأخراهم! ينادون: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء:97] أي: عن هذا، وحروف الجر ينوب بعضها عن بعض.
ينادون صائحين ذاهلين وأبصارهم شاخصة شأن المغمى عليه، المأخوذ، التائه الضائع العقل المفاجأ بما لا يعجبه، وعيونه تكاد تخرج من مكانها شخوصاً لا مظهراً ولا رؤيا يقولون يا ويلنا وحذفت (يقولون) كما هي فصاحة القرآن وبلاغته أن يحذف ما يعلم من السياق كما يقول ابن مالك في ألفيته: وحذف ما يعلم جائز.
يقولون: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء:97].
قد كانوا في دنياهم غافلين تائهين ضائعين، لا يكادون يفكرون في مثل هذه الساعة إلى أن فجأتهم بالبلاء والعذاب، وما كانوا قد طلبوا أن يؤمنوا به غيباً أصبح مشهوداً وحاضراً، ولا ينفع إيمان نفس لم تكن آمنت من قبل، فما كان إيماناً بالغيب يصبح شهوداً وحضوراً، وإذ ذاك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، حتى ارتبطت بهذا وتعلقت به عندما يحدث خروج يأجوج ومأجوج من السد، وتقترب الساعة قرباً واقعياً بما يذهلون له، وبما يرون أن الأرض قد طويت طي السجل للكتب، وأصبحت السماء كالعهن المنفوش.
وهكذا وإذا بهم يصيحون: يا ويلهم! يا بلاءهم! يا خسارتهم! قد كانوا وهم أصحاء الأبدان حاضرو العقول في غفلة من هذا ولم يؤمنوا به، ولم يعترفوا به، وكذبوا أنبياءهم وكتاب ربهم، ثم أضربوا عن القول وقالوا: لم نكن غافلين بعد، بل كنا ظالمين، أي: ظالمين لأنفسهم بالكفر والعصيان، وهيهات أن ينفعهم عند هذا إيمان أو اعتراف أو توبة.(63/3)
تفسير قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم)
قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98].
وإذا بالله الكريم يتهددهم، بل ويعاقبهم فعلاً، وما كانوا قد أوعدوا به قد آن أوانه وحل زمانه.
{حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، أي: حطبها ووقودها.
قال تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وقودها الكفرة وقودها العصاة وقودها المؤمن عندما يعصي فيؤدب زمناً ثم يكون مآله إلى الجنة، ووقودها الكافر المشرك، يبقى وقوداً لها أبد الآبدين، ولا خروج منها للكافر.
فيقول تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98].
أي: يا هؤلاء الكفرة! الذين أشركتم بالله غيره، وعبدتم أصناماً وجمادات، وعبدتم ما لا يضر نفسه ولا ينفعها، فأنتم وما تعبدون من هذه الأصنام الوقود والحطب لجهنم؛ كي تتقد وتستمر تحريقاً ولهباً.
{أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] أي: داخلون مقيمون لابثون.(63/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى)
سمع هذه الآية مشركو مكة فإذا بهم يقولون لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ويتولى كبر القول ابن الزبعري الشاعر، وكان لم يسلم بعد، ولكنه بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه قال: يا محمد تقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] كيف هذا واليهود يعبدون العزير، والنصارى يعبدون عيسى ومريم، وبنو مليح من العرب يعبدون الملائكة، هل سيدخل معنا إلى النار عيسى والعزير ومريم والملائكة؟ وإذا بالله الكريم يقول بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، فالله استثنى هؤلاء، و (إن) في الآية معناها (إلا) ولا ثاني لها في القرآن بهذا المعنى.
قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] إلا من سبقت لهم منا الحسنى أي: سبقت لهم منا العافية والهداية، وسبق لهم منا التوفيق، وفي طليعة هؤلاء نبي الله عيسى والعزير ومريم والملائكة.
والنبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية احتج باللغة التي يعرفها هؤلاء، فقال لهم: (وما تعبدون) (ما) لا تقع إلا على غير العاقل، فأنتم وما تعبدون من أصنام وأحجار وجمادات، ولا تشتمل العاقل.
وهنا استثني من يعبد من دون الله من الأنبياء وغيرهم كعزير وعيسى ومريم والملائكة، فهم لم يرتضوا ذلك ولم يقبلوه، وعندما علم بعضهم بداية ذلك تبرأ منه وأنكره، ونفر قومه وهددهم ووعدهم ممن فعلوا هذا.
ومن المعلوم في لغة العرب أن (ما) اسم موصول يطلق على غير العاقلين، و (من) على العاقلين، والآية هنا في الأصل لا تحتاج إلى استثناء، وإن كان الاستثناء يعتبر تأكيداً وتوثيقاً: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:98] والخطاب للمشركين: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، أي: وقود وحطب جهنم، {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، أي: داخلون.(63/5)
تفسير قوله تعالى: (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها)
قال تعالى: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:99].
يقول جل جلاله: لو كان هؤلاء المعبودون من دون الله من أصنام وأوثان وأحجار وجماد آلهة كما يزعم المشركون لما دخل عابدوها النار، ولأنقذوا عابديهم ودافعوا عنهم.
ولما كانوا أعجز من أن يدافعوا عن أنفسهم فضلاً عن غيرهم كان ذلك من علامة أنها ليست بآلهة؛ لأن من يملك الدفاع عن نفسه يقاوم ولا يذل، فكيف به يذل ويذل غيره ويعجز أن ينجيه؟! وهكذا هذه الآلهة على أنها وعابديها في النار، فهم كذلك دخلوا في أنهم حصب جهنم كمن يعبد الجن ومن يعبد الفراعنة ومن يعبد حكامهم ومن يعبد زعماءهم ومن يعبد كبراءهم وما أكثرهم قبل وبعد! (إنكم وما) وهنا ينزلون منزلة الحيوان غير العاقل فيدخلون في (ما).
يقول ربنا: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:99].
أي: لو كان هؤلاء المعبودون من الأصنام والجن والبشر آلهة لما دخلوا هم وعابدوهم إلى النار، فهم فيها خالدون خلوداً أبدياً سرمدياً: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].(63/6)
تفسير قوله تعالى: (لهم فيها زفير وهم فيها خالدون)
قال تعالى يصف هؤلاء ساعة دخلوهم النار: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100].
الزفير: دخول النفس من الخارج، والشهيق: خروجه من الداخل، وهذا نتيجة الغم والعذاب، ونتيجة ما هم فيه فتجدهم في زفير وشهيق دائمين لا تكاد تقف أنفاسهم وقوف الهادئ المستقر.
{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} [الأنبياء:100]، أي: نفس قوي يهبط بهم ويصعد، خروجاً ودخولاً، زفيراً وشهيقاً.
{وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100].
وهذا كناية عن شدة العذاب وعظم البلاء، قال ابن مسعود رضي الله عنه: عندما يخرج المسلمون الموحدون الذين امتحنوا بدخول النار ولا يبقى في النار إلا كافر مخلد أبداً، يوضع هؤلاء المخلدون في توابيت فتغلق عليهم بحيث يظن كل معذب منهم أنه وحده الذي بقي في النار، فلا يسمع ما يقال، ولا يسمع ما يجأر به، ويصيح له، ويضرع له من معه، يصبحون صماً بكماً عمياً لا يرون إلا ما هم فيه من تابوت وقد أغلق، فلا يسمعون ولا يرون الخارج عنه، وهكذا عذاب هؤلاء المشركين الذين أبوا إلا الجحود والكفران والتمرد على أنبيائهم وعصيان ربهم.(63/7)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].
يقرن الله جل جلاله في كتابه بين العذاب والرحمة، بين النار والجنة، بين المغفرة والعذاب؛ لتبقى النفس البشرية ترجو رحمة الله إن هي تابت وأنابت، وتخاف عذابه إن هي تمردت وأبت وعصت.
ففي الآيات الماضية الوعيد والتهديد، وما يلاقيه المشركون من عذاب الله ولعنته، وهنا في الآية الآتية بشر الله المؤمنين الموحدين بنعيم مقيم ورحمة دائمة، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101]، أي: سبق لهم من الله تعالى الرضا والرحمة والحسنى نتيجة إحسانهم: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60].
المؤمنون الموحدون الذين سبق في علم الله في الأزل أنهم سيكونون مطيعين ومؤمنين، ومستجيبين لدعوات الرسل ولأمر الله ورسوله، هؤلاء يبعدون عن النار بعد السماء عن الأرض.
{لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102].
أي: ولا حركتها، ولا لهبها، ولا قرقعة نارها، وهكذا الله جل جلاله يقرن رحمته بعذابه؛ ليرجو المؤمن ويخاف التائب، ويوعد ويهدد المذنب عله يئوب ويعود إلى التوبة، فيغفر الله له ويكرمه برحمته وجنانه.(63/8)
تفسير قوله تعالى: (لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون)
قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:102].
أي: بعداء عنها، على كبر النار وشدة لهيبها، وقرقعة وقودها، ونداء المعذبين بويلهم وبعذابهم، وما يلاقون من شدة ومحنة وعذاب هم بعداء عنها.
{لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102]، أي: صوتها، وحركتها، ولهبها، وقرقعة وقودها وهي تحترق.
{وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:102].
وهم والحالة هذه فيما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين كما قال ربنا في آية أخرى، وفيها كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
قوله: {خَالِدُونَ} [الأنبياء:102]، أي: هم خالدون، ممتعون، مكرمون في كل ما تشتهي أنفسهم، وتلذ أعينهم، ويريدونه ويحرصون عليه مما لا يكاد يخطر لهم بخيال ولا بال.(63/9)
تفسير قوله تعالى: (لا يحزنهم الفزع الأكبر)
قال تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُن} [الأنبياء:103].
وهم داخلون إلى الجنة من الأبواب تقف الملائكة يميناً وشمالاً شأن المضيف القائم على دار الضيافة في الدنيا، ولكن بما يتجاوز كل ذلك، ولا يخطر على بال، تتلقاهم وتستقبلهم الملائكة عن يمينهم وشمالهم، وأمامهم وخلفهم، ويطيعون كل واحد على قصوره وحوره العين، وعلى ما متع به وانفرد به: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [الأنبياء:103] وتقول لهم: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103].
أي: تقول لهم: يا أيها المؤمنون! يا أيها الذين رضي عنهم ربهم! ورحمهم بفضله وكرمه! هذا اليوم الذي طالما مناكم به ربكم، ووعدكم به ربكم من نعيم مقيم دائم، ومن مياه متدفقة، ومن حور عين، ومن قصور وثمرات وفواكه، ومن ماء أبيض من الحليب، وأحلى من العسل.
هذا ما نطق به القرآن وكتبكم السماوية، وبشرتكم به أنبياؤكم ورسلكم عن الله تعالى، وها أنتم هؤلاء قد وجدتم ذلك حقاً في غزوة بدر، عندما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم على أعدائه نصراً معززاً، وأمر برمي جيف أعدائه في البئر، ووقف على جثث أولئك وجيفهم قائلاً: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف:44] فقد خاطب أرواحهم هل وجدوا ما توعدهم به على لسان رسوله.
ثم عاد فقال لهم: أما أنا فوجدت وعد ربي حقاً، والوعد الذي وجده النبي صلى الله عليه وسلم هو أن العاقبة للمتقين، وأن النصر في الأخير لرسل الله وأتباعهم، وقال له الأصحاب وهو يخاطب هؤلاء: ما تحدث من أقوام موتى لا يسمعون ولا يعقلون؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب)؛ لأن الذي فني منهم وذهب الجسد وفيه أداة السمع والكلام، وأداة ما يمكن أن يأخذوا ويعطوا.
أما الأرواح فتبقى وتعود للأجساد عندما يبعث الله تعالى الخلق والبشر يوم البعث للعرض عليه جل جلاله.(63/10)
تفسير قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب)
قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104].
متى يكون هذا؟ متى يكون عذاب المشركين الكافرين؟ ومتى يكون تنعيم المؤمنين وإكرامهم بالجنان حيث تستقبلهم الملائكة فرحين بهم مرحبين بهم، قائلين لهم: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103]؟ يكون هذا: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104]، أي: يوم القيامة، يوم فناء الدنيا بسمائها وأرضها، يوم لا يبقى إلا الله الأول بلا بداية، الآخر بلا نهاية، يوم يقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]؟ فلا مجيب، فيجيب نفسه: أنا الملك! أنا ملك الملوك؛ جل جلاله وعلا مقامه.
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} [الأنبياء:104]، أي: تطوى السماء كما يطوى الكتاب والصحيفة والورق، وتذهب السماء وكأنها لم تكن، والورقة يقرؤها الإنسان وعندما ينتهي منها في العادة يطويها ويرميها في سلة المهملات.
كذلك السماء تطوى كطي السجل، والسجل: هو الورق، وأشبه ما يكون بغلاف الكتاب وجلده.
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] وفي القراءات السبع: (للكتاب).
والسجل: ورق.
والكتاب هنا: المكتوب، أي: كما يطوى المكتوب ضمن هذا الورق، ومعناه أن السماء تنتهي وتصبح عهناً منفوشاً وكأنها لم تكن، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] أي: يفنى كل ما على الكون، وكل ما في الخليقة، ويبقى الله الدائم الحي لا ملك ولا جن ولا إنس يكون هذا يوم ينفخ إسرافيل في الصور بأمر الله، وقديماً منذ (1400) عام قال لنا نبينا صلوات الله وسلامه عليه، عن إسرافيل أنه قال: كيف أضحك وقد انحنيت على الصور أنتظر أمراً من الله بالنفخ فيه؟! وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت والساعة كهاتين) فرسول الله عليه الصلاة والسلام كان من العلامات الصغرى ليوم القيامة، ونحن مقبلون على العلامات الكبرى، ولا يعلم الساعة بزمنها هل هي في نهار أو ليل إلا الله.
وعندما سأل جبريل نبينا عليهما السلام: (متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، ولكن عاد فسأل: (ما أماراتها؟) فأخذ يجيب عن العلامة، ونحن في العلامات منذ ظهر في هذه البطاح المقدسة سيد البشر صلى الله عليه وعلى آله: {يَوْمَ نَطْوِي} [الأنبياء:104] أي: أولئك خالدون في النار، وهؤلاء خالدون في الجنة، يكون أولئك معذبون وهؤلاء منعمون.
قوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104].
ثم بعد الفناء والذهاب، وبعد الموت يعيد الله الخلق الذي بدأه أول مرة، هو كما ابتدأه قادر على أن يعيد خلقه، وهذا هي حجج العقول لمن له عقل، نحن نرى أجسامنا وأنفسنا، ونرى غيرنا في الوجود من الذي أوجدنا؟ من الذي خلقنا؟ من الذي أعطانا هذه الحواس؟ لقد خرجنا أطفالاً من بطون أمهاتنا ومن أصلاب آبائنا، ثم كبرنا ثم ذهبنا كما ذهب الآباء والأجداد، وبعد مائة سنة أين من كان يسكن مكة ويسكن جزيرة العرب؟ بل ويسكن الأرض؟ ذهبوا في أمس الدابر، وسنصبح يوماً حديثاً في أمس الدابر كما كان الأولون.
ويأتي بعدنا من يحتل أرضنا ويرث أملاكنا، ويفعل! ويفعل! وهكذا فكما أننا خلقنا من عدم لا شك أن لنا خالقاً موجداً، هو الله الخالق جل جلاله.
فكما ابتدأنا الله بلا مثال سابق ولم نكن موجودين هو قادر جل جلاله على أن يعيدنا، {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79] ذاك منطق العقول لمن {لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]، {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104].
عندما يفعل ذلك بعد زمن الله أعلم به، ولكنه سيأتي لا محالة، فيعيد خلقنا كما كنا في دنيانا ونبعث كما متنا شيوخاً أو شباباً أو أطفالاً، نساءً أو رجالاً، أصحاء أو مرضى، ثم نعرض على الله حفاة عراة غرلاً، والسيدة عائشة رضوان الله عليها حين سمعت هذا من رسول الله عليه الصلاة والسلام قالت: أيرى بعضنا بعضاً؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هيهات يا عائشة! الناس ليس لهم هم في ذلك، كل في بلائه ومصيبته ويقول: نفسي! نفسي!)، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
قوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، أي: كما بدأ الله أول الخلق آدم من تراب ثم حواء منه، ثم سلالته من نطفة من ماء مهين، سيعيد خلقنا، وقد وصف لنا ذلك عليه الصلاة والسلام، فذكر أن في منتهى فقرات الظهر حبة كقدر العدسة اسمها: عجب الذنب، ستبقى كالبذرة للإنسان، فعندما يأمر الله بالبعث والنشور تنزل أمطار، وإذا بهذه الحبة تنبت كما ينبت النبات، وإذا بنا قياماً ننظر ونحن معروضون على الله نذهب زحفاً إلى أرض المحشر، وإن أرض المحشر هي أرض الشام.
قوله: (وعداً علينا) أي: وعدنا ذلك وعداً، أو أوجبنا ذلك على أنفسنا، ولا يجب على الله شيء كما أوجبه على نفسه.
قوله: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، أي: فاعلين لهذه الحياة بعد الموت؛ لعذاب المسيء ولرحمة المحسن، وعليه أرسلنا الرسل مبشرين مبشرين المؤمنين بالرحمة والجنة، ومنذرين العصاة بالغضب والنار.(63/11)
تفسير سورة الأنبياء [105 - 112]
الأرض أرض الله والملك ملكه، وقد كتب أن الأرض لعباده الصالحين، وقد أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، يدعو إلى التوحيد ويحذر من الشرك بالله، وينذر الكافرين العقوبة.(64/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر)
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
يقول جل جلاله: قد كتبنا في الزبور، وما الزبور هنا؟ فسر الزبور بزبور داود، وبما يلحقه من التوراة والإنجيل، وفسر الذكر بالقرآن الكريم، ولكن الله قال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105] ومعناه: أن ذاك كان مكتوباً بعد الذكر، والقرآن كان بعد الزبور لا قبل الزبور، وهو يطلق على كل الكتب، والتقدير: وكتبنا في الكتب السابقة التوراة والإنجيل والزبور وصحائف إبراهيم، من قبل الذكر، والذكر: اللوح المحفوظ الذي كتب فيه ما كان وما يكون إلى قيام الساعة.
أي: الله جل جلاله منذ خلق الكون وكتب اللوح المحفوظ جعل الأرض للعباد الصالحين، جعل الأرض للموحدين المؤمنين، ومن هنا قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر:7]، أفاء: من الفيء، والفيء الرجوع.
وكأن الله يقول لنا: هذه الدنيا التي خلقت للموحدين ستعود لكم، فأنتم اليوم الموحدون في الأرض، ومن هنا كان نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم يعدون الأرض كلها وطناً شاملاً عامة للمسلمين، ما ملكناه فهو ملكنا عملياً، وما لم نملكه بعد ولم نفتحه فهو مجالنا الحيوي الذي يجب أن يعود لأرض الإسلام.
ومن هنا قسم فقهاؤنا الأرض إلى ثلاثة أقسام: أرض إسلام، وأرض عهد، وأرض حرب، فأرض الإسلام التي يقوم عليها الإسلام حاكماً، وأرض العهد ما عاهدنا عليه أقواماً مؤقتاً لمصالح اضطر إليها المسلمون، وأرض حرب ليس أهلها أهل ذمة ولا معاهدين لنا، وأرض الحرب ملك للمسلم متى وصلت يده إليها فهي له غنيمة.
ولذلك هذه الوطنية الضيقة والإقليمية المعوجة مثل قولهم: هذا بلدي وهذا بلدك وهذا وطني وهذا وطنك هذه وثنية ما أنزل الله بها من سلطان، والنبي عليه الصلاة والسلام عندما سمع من ينادي: هذا فلان هذا فلان! مثل ما نقول الآن: يا عربي! يا هندي! يا عراقي! يا حجازي! قال: (دعوها فإنها منتنة) لها روائح كريهة؛ ولذلك كان ما ينادي عليه الصلاة والسلام إلا: يا أيها المؤمنون! يا أيها المسلمون!.
وهكذا خاطبنا الله فلم نجد في القرآن: يا أيها العرب! ولا نجد: يا أيها العجم! ولكن نجد: يا أيها الناس! خطاب لكل مسلم وكافر؛ لكي يستقر المؤمن على إيمانه ويلازمه، ولكي يدخل الذين لم يؤمنوا من الناس في الإيمان.
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
قال علماؤنا: هذه الآية إشارة للمؤمنين وأمر لهم بأن ينتشروا في الأرض فاتحين، هداة داعين إلى الله وحده.
وقد فعلوا، فخلال خمسين سنة كانت جيوش المسلمين قد توجهت شرقاً إلى السند، وغرباً إلى عمق أوربا، وهكذا كانت دولة الإسلام مدة ألف عام، ولكن عندما فرطوا وتنكروا لنبيهم وكتابهم وشريعتهم عوقبوا بأنواع من الاستعمار والاحتلال، ومن ضياع العقول، ومن الذل والهوان إلى أن بلغ الأمر أن يخضع المسلمون لليهود، ويسعوا في مصالحتهم ومتابعتهم، وما ذلك إلا عقوبة إلهية للمسلم عندما ترك ربه، وترك إمامه عليه الصلاة والسلام، وسعى وراء الشيوعية اليهودية، والاشتراكية اليهودية، والماسونية اليهودية، وكل مذاهب السوء الضالة، ولا يرفع غضبه ولا عقوبته ما لم نعد إلى الله تائبين منيبين؛ ليعود علينا بعوائده الطيبة، وهو فاعل جل جلاله كما وعدنا في كتابه بقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
قوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} [الأنبياء:105]، أي: في الكتب السابقة.
قوله: {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105]، أي: من بعد اللوح المحفوظ الذي ذكر فيه كل شيء.
قوله: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] أي: أن الأرض بكل أقاليمها وأصقاعها وقاراتها هي للعباد الصالحين، وما العباد الصالحون إلا المؤمنون المسلمون، ولا إيمان لمشرك، ولن نقول على الكتابيين إنهم مؤمنون، فالذي يشرك مع الله عيسى أو مريم أو العزير أو العجل ليس بمؤمن، فلقد قال الله عنهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وقال عن اليهود والنصارى مجتمعين: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] وقال عن الكل: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:30]، كفروا كفر السابقين، وحتى في كفرهم كانوا مقلدين.(64/2)
تفسير قوله تعالى: (إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين)
قال تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106].
أي: إن في هذا القرآن الموحى به لمحمد خاتم الأنبياء وسيد الرسل صلوات الله وسلامه عليه لبلغة تكفي من يؤمن به، فمن آمن بالقرآن كفاه، ومن عمل بما في القرآن بلغه المقصود من عز الدنيا وعز الآخرة، ومن سيادة الدنيا ورحمة الله في الدنيا والآخرة.
قوله: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، أي: خاشعين لله لا يعبدون معه غيره، يؤمنون به كما أراد وأوحى به إلى نبينا مما أمرنا به من صلوات وحج وصيام، ومن الأركان، ومما علمناه القرآن ونبينا عليه الصلاة والسلام.(64/3)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
ثم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
أي: يا محمد! ما كانت رسالتك إلا رحمة لكل الناس برها وفاجرها، مؤمنها وكافرها.
وقد استشكل قوم فقالوا: نبينا رحمة للمؤمن، فكيف هو رحمة للكافر وهو الذي أنذر وهدده بالنار خالداً مخالداً إذا دام على كفره ومات عليه؟ والجواب بين واضح: النبي رحمة للكافر قبل أن يكون رحمة للمؤمن؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتنى به ودعاه، وبلغه رسالته، وأنذره عذاب الله وبشره برحمته، أتعب نفسه التعب الكبير ليؤمن، حمله كفار قريش ما لم تحمله الجبال الرواسي من عناد، وشتيمة، وهجران، وإسالة دماء، وكسر أسنان، ومؤامرات، وتألب عليه بكل الأشكال، وهو مع كل ذلك يدعوهم، وعندما يقال له: ادع على أعدائك، يقول: لم أرسل سباباً، ولا لعاناً، ولكني أرسلت رحمة للعالمين.
ومن هنا يقول الله له: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة:128]، أي: كان صعباً على نفسه وعزيزاً عليها أن يتعنت قومه فلا يؤمنون، فكان رحمة لهم حيث دعاهم إلى الله، ورحمة لهم بما أرجأهم من عذاب مدة حياتهم؛ لعلهم يوماً يعودون إلى الله ويقولون: ربي الله، ويتوبون.
فهو رحمة لهم بإرساله لكل الناس الكافرين والمؤمنين، عندما أرسل كان أول من آمن به خديجة، ثم أبو بكر، ثم علي رضي الله عن الثلاثة، وصلوات الله على نبينا وسلامه.
من كرامة الله لرسوله أنه أوقف ما كان يعاقب به الأمم السابقة من خسف وقذف بالحجارة والصواعق، ومن مسخ إلى قردة وخنازير، فالأمة المحمدية لا تخسف بها الأرض، ولا تقذف بالحجارة من السماء، ولا تمسخ قردة ولا خنازير، وتبقى على حياتها وقد ترزق وقد رزقت، وقد تستغني وقد استغنت، وأرجئت في العذاب والمحنة إلى ساعة الغرغره، فإذا أناب وتاب ولو قبل الموت وقبل وصول الروح إلى الغرغرة فإن الله يقبل توبته.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا رحمة مهداة) وكفى في ذلك قول الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، أي: لجميع العوالم منذ إرساله للعرب والعجم، للمشارق والمغارب، للبر والفاجر، للمؤمن والكافر، وما جزاء من يكون هكذا إلا أن يحب، وأن تدام الصلاة عليه، وأن يتبع ويجعل مثالاً وأسوة وقدوة صلوات الله وسلامه عليه ما دام الليل والنهار، وجزاه الله عنا أحسن الجزاء، وحشرنا تحت لوائه يوم القيامة.(64/4)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء:108].
يقول نبينا للناس: ما أوحي إلي من الله، وما أمرت عن الله إلا بدعوتكم للتوحيد، ولدعوتكم بأن الله واحد، وأنه الرازق الخالق المعبود لا شريك له، ولا يحتاج إلى معين ولا مساعد ولا مؤازر، ولا يحتاج إلى ولد، ولا إلى صاحبة، فهو جل وعلا غني عن كل ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [فاطر:15]، أي: الغنى المطلق، ونحن فقراء فقراً مطلقاً.
قوله: {قُلْ إِنَّمَا} [الأنبياء:108]، أي: قل: يا محمد ((إنما)): أداة حصر، أي: حصرت رسالتي في الدعوة إلى التوحيد، وما سواه فهو تبع له، فإذا فسدت العقيدة ضاعت العبادة، وأصبح ذلك هباءً منثوراً.
و (يوحى) فيه معنى الاستمرار، فهو فعل مضارع دال على الحال والاستقبال، أي: مدة حياة رسول الله عليه الصلاة والسلام، يوحى إليه بمختلف السور والآيات، والسنة القولية والفعلية والإقرارية قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن الزلل والخطأ، وكل عمله إما وحي بالنص -باللفظ- ككتاب الله القرآن الكريم، أو وحي بالمعنى ويتصرف رسول الله عليه الصلاة والسلام في إبلاغه.
قال تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء:108]، أي: فهل ستسلمون؟ وهذا استفهام تقريري، يقرر ألا مندوحة ولا منجى عن الإسلام، الإسلام أو الطوفان، الإسلام أو جهنم، ولا وسط، وسيبقى المسلمون ضائعين ضالين تائهين يتلاعب بهم الكفار كتلاعب الصبية بالكرة ما لم يعودوا إلى كتاب الله وإلى هدي نبيه عليه الصلاة والسلام، لا يفيدنا مال ولا قوة ولا وحدة ما لم تكن الوحدة أولاً بالله، وبالدعوة إلى الله الواحد، وطاعته في كتابه، وطاعة نبيه في سنته.
قوله: ((فهل أنتم مسلمون))، أي: فهل أنتم مستسلمون مطيعون لهذه الدعوة ولتوحيد الله، ولقبول الرسالة، ولقبول القرآن الكريم، ولقبول السنة المطهرة.(64/5)
تفسير قوله تعالى: (فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء)
قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء:109].
قوله: (وإن تولوا) أي: إن تولى الناس وأعرضوا عن رسالتك سواء آمنوا ثم ارتدوا أو لم يقبلوها من أول مرة.
((فقل آذنتكم على سواء)) أي: أعلن الحرب عليهم، وقل لهم: أخبركم وأعلمكم على سواء بيني وبينكم، علمي علمكم، حتى لا تكون غادراً ولا مفاجئاً، وأعلمهم بأنهم أعداؤك، وأنك بريء منهم وهم براء منك، وأنذرهم بالحرب والعداوة.
((فإن تولوا))، أي: فإن أعرضوا ورفضوا هذه الرسالة وهذا التوحيد وهذه الهداية: ((فقل آذنتكم على سواء))، أي: أعلمتكم بالحرب على مستوى واحد بيني وبينكم، فأعدوا ما استطعتم.
قوله: ((وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون))، أي: لست أدري فـ (إن) نافية، أي: ما أوعدكم الله به من نار وعذاب وغضب، لست أدري هذا سيكون غداً أو بعد غد؟ هل سيكون في الدنيا بالذل والهوان والتحكم والأسر والإذلال، أو سيكون في الآخرة بالنار وعذاب الله المقيم السرمدي، هذا إنذار من الله، وهو إشارة إلى قيام الساعة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً لا يعلمها.(64/6)
تفسير قوله تعالى: (إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون)
قال تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء:110].
أي: يا هؤلاء الذين تمردوا على ربهم، إن الله يعلم ما تجهرون به من القول، وتصدون به الناس عن الإيمان، وتجهرون به لنبيكم من كفر وعصيان، ومخالفة ومواجهة ومجابهة.
قوله: ((ويعلم ما تكتمون))، أي: يعلم ما تكتمونه في أنفسكم من تآمر ورغبة في قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل أصحابه، وطردهم من مكة وعقوبتهم.
وسبب هذه الآية كفار عصره، ثم أصبحت للعموم، يخاطب بها كل كافر كما يخاطب بها كل مؤمن، فمن كفر قبل أو بعد وفي عصرنا أو بعده كل ما ورد في القرآن عن الكفار فهو مخاطب به، ومن سيأتي بعدنا.(64/7)
تفسير قوله تعالى: (وإن أدري لعله فتنة لكم)
قال تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء:111]، أي: ولست أدري ما أعطاكم الله في الدنيا من صحة وشباب، وملك وسلطان، وأعمار وأولاد ونساء، هل هذا من الله مكرمة لكم أنتم على كفركم؟ وما أظن ذلك! قوله: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} [الأنبياء:111] أي: ابتلاء وزيادة في قيام الحجة، والحجة لله البالغة، ليقال ساعة الحساب ابتداءً من القبر وسؤال الملكين: فيم صرفت شبابك؟ وفيم صرفت صحتك؟ وفيم صرفت مالك؟ هل أحسنت؟ هل أطعت؟ هل زكيت؟ هل أعطيت من شبابك؟ هل أعطيت من حياتك؟ وقد أرجئت في الموت إلى دار طويل، هل تذكرت يوماً فقلت: ربي الله، رب اغفر لي؟! وسيكون جواب الكفار لله سلباً؛ ليشتد العذاب ويزداد، وتبقى الحجة لله البالغة.
قوله: ((وإن أدري لعله فتنة لكم))، و (لعل) في القرآن ليست للرجاء، ولكنها للتحقيق.
قوله: ((ومتاع)).
أي: متعة في دنياهم من أزواج وأولاد وأرزاق ونعيم، متعوا بذلك ليسألوا عنه، فإذا كان المسلم يسأل عن النعيم فيم صرفه؟ ولم بذر؟ ولم أسرف؟ فكيف بالكافر الذي لا يصرف إلا في باطل وسوء؟ قوله: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء:111] أي: إلى وقت وزمن معين ومسمى عند الله، فلا يعلم ساعة الموت أحد: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] كما لا ندري متى نموت؟!(64/8)
تفسير قوله تعالى: (قال رب احكم بالحق)
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ ?بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112].
الذي قال هو نبينا عليه الصلاة والسلام، وحكى عنه الله ذلك، كما قال الأنبياء قبله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89]، وقرئ في القراءت السبع: ((قل)) وهل يحكم الله إلا بالحق، ولكنها بيان حقيقة وواقع، والله هو الذي أمر بذلك.
قوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112] وقرئ: ((قل رب احكم بالحق))، والحق هنا ليس مقابل الباطل، وإنما المعنى: قل رب احكم بعذابك الحق على هؤلاء الذين طالما تمردوا، وعصوا، وطالما كفروا وتألبوا على المسلمين وعلى أنبيائهم، وعلى العابدين المؤمنين.
قوله: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112]، ومع ذلك يبقى الله الرحيم حتى في وقت إيعاده وإنذاره، وذكر الرحمن هنا ولم يذكر الجبار ولا المنتقم.
قوله: ((وربنا الرحمن))، أي: إشارة إلى تطميع الكافر نفسه برحمة الله؛ ولذلك قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الكافر ما عند الله من رحمته لطمع في جنته، ولم ييئس منها)، وهكذا! فالكافر مهما كان إذا علم الله في قلبه خيراً هداه للإيمان والإسلام يجب ما قبله، وقال: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112]، أي: ربنا الرحيم بعباده، والرحمان لهم، والغافر لذنوبهم، والمنذر لهم، والموعد لهم، والمكرم لهم بأنبيائه ورسله، علهم يوماً ويعودون إليه فيقولون: ربي الله.
{الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112].
أي: الذي يستعان به، ويستعين رسول الله بقدرته، وقد وصف الكفار الله تعالى بأن له صاحبة، وأن له شريكاً، وقال الكفار عموماً: له شريك وصاحبة وولد يحتاج إلى من يعينه، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً! كما قالوا عن نبي الله: كاذب، وقالوا: ساحر، وقالوا: مجنون، حاشاه من كل ذلك عليه الصلاة والسلام.
وبهذا نختم اليوم ولله الحمد سورة الأنبياء، ونستقبل غداً بمشيئة الله سورة الحج.(64/9)
تفسير سورة الحج [1 - 4]
يحذر الله تعالى وينبه إلى عظمة يوم القيامة، ذلك اليوم الذي تزلزل فيه السماوات والأرض، وتزلزل فيه القلوب والأفئدة لعظمته وهوله، فإذا رآه المولود شاب رأسه، وإذا رأته المرأة الحامل وضعت حملها، وإذا رأته المرضع ذهلت عن رضيعها، وترى الناس كالسكارى وليسوا بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.(65/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1].
نحن الآن في سورة الحج، وهي في النصف الثاني من الجزء السابع عشر، وسورة الحج فيها ثمان وسبعون آية، ووضعها عجيب، فهي مكية مدنية، أي: نزل بعضها في مكة ونزل بعضها في المدينة، وهي حضرية سفرية، أي: نزل بعضها في الحضر والنبي عليه الصلاة والسلام مقيم، وبعضها نزل والنبي عليه الصلاة والسلام مسافر ومتنقل بين مكة والمدينة، وفيها الناسخ والمنسوخ، وفيها المحكم والمتشابه.
وهذه السورة تمتاز عن بقية السور الأخرى بأن فيها سجدتين، وهي تشتمل على أكثر أحكام الحج، وهو الركن الخامس من الأركان الخمسة في دين الإسلام.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج:1] النداء هنا يعم كل إنسان من سلالة آدم وحواء، وقوله: ((اتَّقُوا رَبَّكُمْ)) معناه: اجعلوا بينكم وبينه وقاية؛ لتنقذوا من غضبه، وتنقذوا من عذابه.
والتقوى: هي فعل الأوامر قدر الاستطاعة، وترك النواهي البتة.
قوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]: الزلزلة: هي الاهتزاز والاضطراب والقلق النفسي، فالفتن يتبع بعضها بعضاً حتى تزلزل النفس وتزلزل الأرض، ويكاد يضيع الإنسان عن نفسه.
{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} [الحج:1] أي: هول الساعة، وقيام الساعة.
قوله: {شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] عظيم بخطره، عظيم بزلزلته، عظيم ببلائه، عظيم بهزة النفس التي تكاد تفقد كل شيء ذهولاً وغفلة، وتكاد تنسى نفسها وكل ما يتعلق بها، فهذه الزلزلة شيء عظيم فظيع كبير لا تكاد النفس تتصوره، ولا تقوم له.
وقد قال تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]، فقد زلزل المؤمنون وقت البعثة النبوية بكثرة البلاء، وكثرة الاضطهاد، وكثرة التآمر من أعداء الإسلام، فتزلزلت نفوسهم وقلقت خواطرهم، وأخذوا يتحدثون بما لو نطقوا به لكان كفراً، فقد أجاب الله بعد ذلك: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
وزلزلة الساعة يحتمل أنها ما ذكرناه، ويحتمل أنها الزلزلة التي تكون من علامات الساعة الكبرى قبل قيام الساعة عند النفخ في الصور، وقد تكون في قيام الساعة، وقد تكون يوم العرض على الله.
والآية تدل على هذا وذاك، والأحاديث المفسرة تدل على هذا وذاك، ومعنى هذا: أن الزلزلة تكون عند آخر العلامات الكبرى بعد خروج يأجوج ومأجوج الذين يزيد الفساد انتشاراً عند خروجهم، ويهلكون الحرث والنسل، ولا يكون بعدهم إلا الساعة تقوم وهي كالحمل المسن لا يدري أهلها متى تفجأهم بالولادة والوضع أليلاً أم نهاراً؟ أصيفاً أم شتاءً؟ ويتبع ذلك من الأهوال العظام ومن البلابل والفتن ما لا تكاد النفس البشرية تتحملها مهما تحملت، ولكن مع ذلك لا بد من حملها كرهاً أو رضاء.
والله ينذر الناس منذ أن أنزل هذه الآية، ومنذ أن أرسل نبينا صلوات الله عليه وسلم رسولاً للبشر كلهم، بأن الساعة قريبة، وأن الساعة آتية، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو من علامات قربها الأولى، ولذلك يدعو كل الناس إلى أن يجددوا التوبة ويجددوا التقوى، حتى إذا قامت القيامة قامت وهم مؤمنون، موحدون، تائبون لربهم ومنيبون.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} [الحج:1] أي: إن قلاقلها، وإن اهتزازها للنفس وللعقل والبدن، وإن هولها لشيء عظيم لا يكاد يوصف ولكن يوصف ما يحدث معها.(65/2)
تفسير قوله تعالى: (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت)
قال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
يصف الله جل جلاله بعض أهوالها وعظائمها وزلازلها، وأن الإنسان يوم يراها، أي: يرى الزلزلة أو يرى الساعة ويعيش في واقعها ويكون معها فإنه: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج:2].
فيوم يراها الناس يقع ذهول للمرضعة، ويقع فيها ضياع عن نفسها، حتى إنها تترك الرضيع الذي ترضعه، فهي غافلة عنه، ناسية له، وليس هذه هي العادة بالنسبة للمرضع، ولكن الذهول الذي تكون فيه يشبه الجنون، ويشبه ضياع العقل، حتى تنسى نفسها وتنسى رضاعها، وتنسى رضيعها، وتنسى أحب الناس إليها وأعزهم فتتركه ذاهلة ضائعة تائهة.
يقال: مرضعة إذا كانت ترضع في الحين، ولها ولد ترضعه، ويقال: مرضع إذا كانت ذات ولد وهي ترضعه ولكن ليس بالضروري أن تكون في تلك الساعة ترضعه.
قال تعالى: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج:2]، والحامل كذلك تجهض، وتضع حملها قبل وقته وقبل وصوله للشهر التاسع؛ لهول ما هي فيه من زلزلة الساعة وشدتها وعظم ألمها ووجعها وذهولها.
وهذان الوصفان: أن المرضعة تذهل عن رضيعها، وأن الحامل تسقط حملها وتجهضه يدلان على أن هذا الزلزال في الدنيا عند قيام الساعة وليست في وقت الساعة؛ لأن يوم القيامة لا ولادة ولا رضاعة ولا حمل.
وقد يكون المعنى شاملاً، فتكون الزلازل والأهوال العظيمة الشديدة عند قيام الساعة، وبطبيعة الحال تتصل إلى قيام الساعة، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس:34] إلى آخر ما يصف ربنا من الهول ومن الشدة ومن الزلازل وعظمتها وقوتها على النفس.
وفي الأحاديث الثابتة عن نبي الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله يقول لآدم: خذ بعث النار إلى النار، قال: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون).
وقد نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في حروب اليهود: بني قريظة وبني النضير، وقد نزلت ليلاً فأصبح فتلاها على المؤمنين، وإذا بهم يبكون في ذهول وكأنهم يعيشون وقت الزلزلة ووقت القيامة، حتى إنهم كفئوا القدور وامتنعوا عن الأكل ولم يجدوا شهية لشيء من أمور الدنيا، فسأل سائل منهم: (ومن عسى أن يكون هذا الواحد يا رسول الله؟ قال: أبشروا فإن منكم واحداً، ومن يأجوج ومأجوج ألف، والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبر الصحابة فرحين، ثم أعاد فقال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فأعادوا فكبروا فرحاً وسروراً، ثم أعاد فقال: وإني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة).
وفي رواية: (ثلثي أهل الجنة، فكبر المؤمنون وقرت نفوسهم فرحاً بوعد الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد فقال: إنكم بين الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، وإني لأرجو أن يدخل منكم الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، فاستقل هذا العدد عمر وقال: يا رسول الله! سبعون ألفاً! فقال عليه الصلاة والسلام: ومع كل واحد سبعون ألفاً)، فقرت أعينهم وسروا بذلك، وذهب حزنهم وفرحوا بوعد الله الحق.
قال تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج:2] أي: لم يشربوا خمراً، وليس الوقت وقت شراب ولكنه كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، ولكن العذاب شديد حيث الزلزلة العظيمة الشديدة، فتذهل من أجلها المرضعات، وتجهض الحوامل، وترى العقلاء من الناس وكأنهم سكارى وليسوا بسكارى وما شربوا قط، وإنما هو الذهول، وإنما هو الضياع، وإنما هي الشدة والألم من هذه الزلازل عند قيام الساعة.
قال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، فالله جل جلاله يعلن هذا للناس وقت البعثة النبوية، ووقت نزول هذه الآية الكريمة ويدعو كل الناس إلى التقوى، وإلى عبادة الله، وإلى ترك الشرك، وإلى ترك المخالفة والمعاصي، فإذا عاشوا وعاصروا هذه الزلازل عند قيام الساعة كانوا على تقىً، وكانوا على توحيد، وكانوا على دين، ومن مات كذلك يحفظه الله جل جلاله من الكثير من الزلازل ومن البلايا والمحن نتيجة توحيده وإيمانه.(65/3)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم)
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4].
يقول الله عن بعض المشركين، وعن بعض اللسنين المجادلين، وهم مع كفرهم ومع ردتهم ومع شركهم فيهم عناد وجدال للحق بالباطل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الحج:3].
وكان سبب نزول هذه الآية ما قاله النضر بن الحارث وهو يلف المشركين حول رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو جالس عند الكعبة الشريفة، يقول لهم: هذا الذي يقوله محمد أنا أقول مثله، لقد سافرت ورأيت بلاد الروم وبلاد الفرس وأستطيع أن أقص عليكم أساطير الأولين كما يقصها محمد، فهو يجادل بالباطل، ويجادل بغير علم، فلم يحاج ويبرهن ويستدل ويبحث عن الحق بدلائل المعقول والمنقول، وبالدلائل التي يقبلها العقل السليم، وبالأدلة التي نزلت وحياً عن الله جل جلاله على رسله وعلى خاتم النبيين عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فالآية قد نزلت من أجل النضر، هذا وقد لقي جزاءه وقتل مع عقبة بن أبي معيط يوم بدر؛ يوم الفرقان، يوم نصر الله لنبيه وللمسلمين، وهذه صفة كل مشرك مضى أو سيأتي.
وكثيراً ما نجالس بعض هؤلاء المشركين وبعض المرتدين ممن كان يوماً مسلماً، فيجادل بالباطل في كتاب الله وهو يجهل منه أي كلمة وأية آية، ويجادل في دين الله وهو لا يعلم عنه نقيراً ولا قطميراً.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الحج:3] وما أكثرهم، فهو يجادل في الله بغير علم {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3] فإمامه الشيطان، ومصدر تلقيه هو الشيطان ووسوسته وأضاليله، ويتبع كل شيطان من الإنس والجن من أئمة الباطل ومن أئمة الشرك، ومن أئمة الفساد في الأرض، فتراه يتبع كل ناعق، وتراه مع كل شيطان مارد.
قال تعالى: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3] أي: متمرد، وفعيل: صيغة مبالغة، أي: شديد التمرد على الله، وشديد الإصرار والتمسك بالشرك والعناد والمخالفة للسنة ولكتاب الله الكريم: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3].
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ} [الحج:4] أي: قدر عليه، أي: قدر على الشيطان في الأزل منذ تعاظم على ربه وتكبر على السجود لآدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، وأبى أن يسجد له متعاظماً متكبراً مخالفاً لأمر الله، وأول ما عصي الله بالكبر، وما تعالى إنسان على الله إلا وقصمه وأماته بالذل والهوان حتى كأنه البعوض.
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ} [الحج:4] أي: كتب على الشيطان أن من تولاه، أي: من جعله ولياً، وجعله إماماً، وجعله متبوعاً، وجعله يوحي إليه بكفره وشركه.
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4] فمن تولاه واتبع قوله، واتبع وساوسه كانت نتيجته أنه يضل ويشرك ويتمرد تمرد الشيطان.
قال تعالى: {وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4] أي: إلى أشد أنواع العذاب والحريق بحيث تتسعر به جهنم كأنه وقودها، وكأنه الحجر أو الحطب الذي به اشتعلت النار وتسعرت واشتد حريقها.
وهداية الشيطان ليست إلى النور، ولا إلى الحق، ولا إلى التوحيد، ولكن إلى عذاب السعير، إلى جهنم وبئس المصير، إلى لعنة الله وغضبه، فلا يقوده ولا يهديه إلا إلى الشرك والكفر والضلال.(65/4)
تفسير سورة الحج [5 - 9]
في هذه الآيات يذكر الله تعالى أطوار خلق الإنسان، ومراحل نشوئه منذ المرحلة الأولى إلى آخر المراحل، ويضرب الله الأمثال العقلية الواقعية التي تأسر القلوب، وتدخل اليقين إلى النفس، بأن البعث بعد الموت حق.(66/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5].
هذه الآية من أعظم الآي على قلة ألفاظها وبديع جملها كالقرآن كله فصاحة وبلاغة وجمع كلم، فقد جمعت فأوعت أطوار الإنسان ومراحله منذ الخلق الأول؛ منذ خلق أبينا آدم من تراب وإلى أن نعود بعد ذلك إلى التراب، في كلمات قليلة ذات معان كثيرة، وتحتمل هذه الآية وحدها مجلدات في التفسير والبيان.
والأطباء لهم فيها قول، والأدباء لهم فيها قول، والشريعة بأحكامها لها فيها قول كشأن القرآن الكريم، فيأخذ منه كل عالم بإحدى فنون علم الإسلام مما هو في حاجة إليه، وإلى معرفته، وإلى بيانه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5] إذا قال الله: يا أيها الناس! فالخطاب والدعوة لكل بني آدم وبنات حواء، فكل البشر يعد بذلك مخاطباً، ويعد بذلك مبلّغاً، وتلزمه الحجة البالغة إذا هو تمرد وإذا هو عصى وإذا هو خالف.
وإذا قال الله: يا أيها الذين آمنوا! كان الخطاب للمؤمنين، وعادة القرآن الكريم ينادى بيا أيها الناس! في أصول الخلق والشريعة والدعوة إلى التوحيد، وإلى الإيمان بالله ورسله في أصول الإسلام، وأصول الديانة.
وإذا قال: يا أيها الذين آمنوا! فهو نداء للمؤمنين ليستجيبوا لفروع الشريعة ولأحكامها، أو يزدادوا إيماناً وتمسكاً بأمور عقائدهم.
وهنا الخطاب للناس جميعاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج:5] يا هؤلاء الناس! مؤمنهم وكافرهم، المؤمن بالبعث والكافر بالبعث، ويا هؤلاء! الذين لا يزالون في شك وفي ريب من البعث والخلق الثاني بعد الخلق الأول، والحياة الثانية بعد الموت والنشور والعرض على الله إما إلى جنة وإما إلى نار: إن كنتم لا تزالون في ريب وفي شك فاسمعوا قصة الإنسان وحياة الإنسان، والأطوار التي تطور فيها الإنسان منذ كان تراباً وقبل أن يخلق إلى أن عاد تراباً ثم حياً ثم يبعث بعد الموت.
قال تعالى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج:5] هذه هي الأطوار البشرية منذ التراب وإلى التراب وإلى البعث بعد الموت: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5] فخلق أبانا الأول أصل مادتنا وكياننا ووجودنا، خلقه من تراب؛ من كل أنواع التراب في الأرض: خصبها وجافها، صحرائها ومنبتها، جبلها ووهادها، ومن هنا كانت أنواع السلالة والذرية أشكالاً وألواناً، فالذكي والبليد، والأبيض والأسود، والطويل والقصير، ومن يعيش مدة ومن يزيد على ذلك، ومن يجهض قبل الولادة.
قال تعالى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5] خلق أبانا من تراب، ثم نفخ فيه من روحه فكان بشراً سوياً، ثم خلق زوجته أمنا الأولى حواء عليهما السلام وعلى نبينا.
ثم كانت السلالة بعدهما من نطفة، والنطفة: هي القليل من الماء، فتطلق على الماء عموماً، وكان من ذلك المني أصل البذرة البشرية بعد الخلقة الأولى من التراب.
قال تعالى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج:5] (ثم) هنا على ترتيبها الزمني الوقتي، فكانت الخلقة الأولى من تراب، ثم الخلقة الثانية من نطفة من تزاوج بين ذكر وأنثى، فصب ماء من أصلاب الرجال إلى أرحام النساء فكون الوليد.
وهكذا منذ آدم وحواء وإلى عصرنا وإلى آخر مخلوق إلى يوم النشر، وإلى يوم النفخ في الصور، هكذا الخلقة من ماء مهين.
قال تعالى: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [الحج:5] والعلقة: هي القليل من الدم إذا قسا وتجمع، ولكنه بقي طرياً أشبه بالعلقة وهي الحشرة المعروفة.
{ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} [الحج:5] والمضغة: هي قطعة اللحم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب) وهكذا الإنسان يبتدئ تراباً، ثم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة، مخلقة أي: كاملة تامة بتخطيط حواسها وجوارحها من عين وشفتين ومنخرين وأذنين ولسان ويدين ورجلين ورأس وشعر وفرج، وهكذا يخطط الإنسان وهو في رحم أمه في الطور الثالث، هذه المضغة تكون مضغة غير مخلقة، ثم تتحول إلى مخلقة، أي: تصبح تامة الخلقة، تامة الحواس، إنساناً كاملاً ولكنه لا يزال جنيناً في الرحم.
قال تعالى: {مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5] أي: تامة وغير تامة، فالتامة قد تأخذ سبيلها إلى التمام إلى أن تولد وتخرج للدنيا طفلاً، وغير المخلق: أن يسقط ويجهض وهو لم يتم خلقه بعد، ولم تبن حالته، ولم يظهر بعد أذكر هو أم أنثى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5].
ثم قال تعالى: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} [الحج:5] أي: قدرة ربكم على فعل كل شيء وصنع كل شيء، وخلق كل شيء، كيف جعل من التراب الميت إنساناً سوياً، جميل الجوارح، جميل التقاطيع، فصيح اللسان، عاقل الفكر، متكلماً، وإذا به يخلفه ثم جعله الله خليفة في الأرض، كما قال عن داود: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26]، وقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
وإذا بهذا التراب يتحول بقدرة الله على كل شيء إنساناً كاملاً في أطوار من تراب إلى نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، ثم بشراً طفلاً صغيراً سوياً، وقد خرج من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا.
قال تعالى: {مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} [الحج:5] أي: نبين لكم قدرة ربكم على فعل كل شيء وخلق كل شيء، وكيف قد خلق من الميت الحيَّ، ومن الحي الميتَ، وصنع من التراب الهامد الذي لا يتحرك ولا حياة فيه بشراً سوياً، ونشره في الأرض فأصبح سيد الخلق، والمحكم في الخليقة، فيأمر وينهى، ويقتل ويحيي بإذن الله إن كان عادلاً، ويظلم ويسفك الدم الحرام إن كان ظالماً.
قال تعالى: {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج:5] أي: هذه المضغة غير المخلقة التي تسقط وتجهض قبل خروجها للعالم.
وعلماؤنا وأطباؤنا جماهيرهم تقول: الجنين لا يبقى في رحم أمه أكثر من تسعة أشهر، ولكن الكثيرين يؤكدون ويقولون: قد يبقى الجنين في بطن أمه سنة كاملة وسنتين وأكثر.
وكثيراً ما يقول الناس في تراجم علماء وأقوام ورجال وسادة: أنه عاش في بطن أمه كما أخبرته أمه سنة وسنتين.
يذكر هذا عن أحياء، ويذكر هذا عن أموات، ويذكر عن كبار من الأئمة وعن صغار من الناس.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج:5] ثم يخرجنا من الأرحام طفلاً، وفي لغة العرب المفرد قد يطلق مذكراً على الجمع، أي: نخرجكم أطفالاً.
قال تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [الحج:5] لتصلوا وتبلغوا إلى الأشد، وإلى القوة وتمام الرجولة وتمام العقل، وتمام القوة، وتمام القدرة على الحياة بما ينفعك أو يضرك.
قال تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} [الحج:5] أي: منكم من يموت عند الشبيبة وعندما يبلغ الأشد، ومنكم من يموت طفلاً، فقد يموت الإنسان شاباً، وقد يموت كهلاً، ومنهم من يزيد به العمر إلى أن يصير شيخاً حاضر الذهن، حاضر الوعي، وقد يصل إلى أرذل العمر.
قال تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [الحج:5] فيرد إلى خلقه الأول ضعيفاً، فقد خلق عاجزاً عن النطق وعن الوعي فيعود للعجز عن النطق وعن الوعي، ولذلك سمى الله هذه السن الفانية: أرذل العمر، أي: أقبح العمر وأقبح الأيام، وقد استعاذ بالله نبينا من ذلك عليه الصلاة والسلام، استعاذ بالله من الفقر، ومن الجوع، ومن الكفر، ومن بلوغ أرذل العمر.
وقد يصل الإنسان -ونشاهد هذا كثيراً وتشاهدونه- إلى مائة سنة وقد يتجاوز ذلك، وقد مات رجل صالح في أرض المغرب تجاوز المائة والعشرين سنة وهو على غاية ما يكون من الوعي والفهم والعقل، يسأل عن أحوال المسلمين في المشارق والمغارب، مما يدل على أنه مع هذه السن لا يزال واعياً، ذاكراً، متتبعاً أحوال المسلمين، يهتم بهمومهم، فيفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم.
قال تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ} [الحج:5] اللام هنا هي لام العاقبة، أي: ليصل إلى درج(66/2)
معنى قوله تعالى: (وترى الأرض هامدة)
ثم قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5].
هذا يدل على أن ما يصنعه الله في الإنسان يصنعه في الأرض، وقد يكون هذا أعظم وأبلغ، وهو كالإحياء من التراب لأبينا الأول آدم.
قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} [الحج:5] أي: ميتة لا حراك فيها، فهي تهمد همود الميت.
فيخاطب الله تعالى أي إنسان يرى الأرض ببصره عندما لا تنبت هامدة ميتة لا حراك بها كالصحاري وكالصخور وكالأرض المتحجرة، وكالأرض المالحة، وكالأرض المجدبة، تجدها باستمرار هامدة لا تقبل نباتاً ولو أفضنا عليها بحار الأرض.
{وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج:5] فإذا سقاها الله وأغاثها بالمطر أخذت تهتز وتربو، أي: ترتفع؛ لأن الحياة دخلتها.
ومن أين أتت هذه الحياة؟ نرى الأرض هامدة فإذا أنت وضعت فيها حبوباً ميتة، ورأيت جذر شجرة ميتاً، فتغيب عنه أياماً وإذا به ينمو ويعلو ويخضر؛ لأن الله جعل الحياة تدب فيه مرة أخرى، فقد سقاه الله وأحياه بالماء والمطر، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] إنساناً وحيواناً ونباتاً، وكل ما يطلق عليه شيء.
قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج:5] أخذت تهتز وتضطرب، ولو أردت أن تؤكده وتحققه -وخبر الله مؤكد، فهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- فازرع شيئاً وراعه ليلاً ونهاراً أو في أي وقت، فستجد أن ذلك التراب أخذ يربو ويهتز ويضطرب، وإذا بتلك البذرة انفلقت عن غصن، وانفلقت عن شيء فيه حياة، وهكذا من كونه غصناً صغيراً ليناً يكسر بأي شيء، وإذا به شجرة شامخة، فمن الذي أحياها؟ ومن الذي زرع فيها الحياة؟ وكيف كان ذلك؟ تلك قدرة الله التي انفرد بها جل جلاله، فهو المحيي والمميت، وهو الحي موجد الوجود والحياة، وهو الذي يحيي ويميت، فلا صنم ولا وثن ولا ملك ولا إنس ولا نبي ولا جن ولا غير الله يستطيع أن يفعل ذلك، فالطبيب يعالج العضو الفاسد ويرقعه، أما إذا فقد أو ذهبت منه الحياة فلا يعطي الحياة إلا الله، ولا يعطي العضو الحركة إلا واهبه ومحركه جل جلاله.(66/3)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق)
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6].
هذه إشارة للخلق وللإيجاد، ولوهب الحياة، ولجعل التراب إنساناً، ثم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم جنيناً سوياً، ثم طفلاً يخرج لهذا الوجود، ثم شاباً يافعاً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، ثم شيخاً فانياً، ثم بعد كل ذلك الموت والتراب، ثم البعث بعد الموت.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج:6] جل جلاله، ذلك بسبب أن الله وحده هو الحق، فلا صنم ولا شريك ولا وثن ولا ملك ولا نبي ولا إنس ولا جن ولا أي شيء في هذا الوجود، فليس الحق إلا الله.
والله جل جلاله هو الذي يهب الحياة لمن شاء، فهو الذي وهب الموت والحياة، وهو الذي خلق الإنسان في هذه الأطوار، وهو الذي خلق الأرض بعد أن كانت ميتة فأخذت تهتز وتربو.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} [الحج:6] بعد الخلق الأول بهذه الأطوار التي ذكر جل جلاله، وبعد هذا فهو قادر على أن يحييها ويعيدها كما بدأها أول مرة.
قال تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79].
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6]، فالله وحده هو القادر على كل ما يريد، والقادر على كل شيء، ولا يستطيع ذلك ولا يقدر عليه كل من نسب له شريكاً، ونسب له معيناً، ونسب له مؤازراً كذباً وزوراً وافتراءً من المشركين والكافرين، فالله هو المنفرد بالخلق وبالحياة وبالإيجاد، فإن كانت هناك حياة فمن خلقها؟ وإن كان هناك رزق فمن خلقه؟ وإن كان هناك بعث بعد الموت فمن قدره؟ قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6]، فالله الذي يحيي ويميت هو الحق لا حق غيره، ولا حق سواه، وهو المنفرد بالقدرة على كل شيء.
ثم قال تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} [الحج:7]، فبعد أن عرض هذا العرض أخذ يخاطب العقول السليمة، ويخاطب المؤمنين بعد أن أكرمهم الله بالفهم وبالعقل وبالإدراك وبالإيمان، يقول عن الساعة: إنه سبق في علم الله كما أنه أوجد هؤلاء الخلق من العدم ثم أماتهم وأفناهم أنه سيعيدهم مرة ثانية، آمن من آمن أو كفر من كفر، فذلك حق لا ريب فيه ولا شك.
قال تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} [الحج:7] أي: وكل آت قريب، فستقوم الساعة وسيأتي يوم القيامة.
قال تعالى: {لا رَيْبَ فِيهَا} [الحج:7] أي: لا شك ولا ارتياب، ومن شك فيها أو جحدها فهو كافر مرتد لا يؤمن بالله، ولا يؤمن بما جاء به الله، ولا يؤمن برسل الله، وبما أمروا بتبليغه للناس.
قال: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7]، فيبعث الموتى من عهد آدم وحواء وإلى آخر ميت من الإنس والجن، وقد قبروا ودفنوا وعاد إلى التراب إلى التراب، وعاد الفناء إلى الفناء، ولكن الله تعالى بعد ذلك يبعثهم ليوم الساعة الذي لا ريب فيه، يبعثهم من القبور ويعيدهم ويحييهم كما بدأهم وخلقهم أول مرة.
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: من آمن بيوم البعث، وأن الله قادر على كل شيء، وأن الله يحيي الموتى، فهو مؤمن يدخل الجنة.
ومن المعلوم: أن من آمن بهذا آمن بالله، ومن آمن بالله أطاعه، ومن أطاع الله آمن برسوله، ومن آمن برسوله أطاعه وعمل بما أمره به قدر جهده واستطاعته، وترك كل ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم.(66/4)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله)
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8].
وهذه مرة أخرى، فقد قال هذا عن الإنسان في الأول، ثم عرض هذه الأدلة العقلية القاطعة التي لا ينكرها إلا من فقد العقل أو عاند في هذا، وهو يعتبر أيضاً فاقداً للعقل، عاد الله فقال بعد هذا العرض العقلاني الذي لا يدفعه إلا مجنون أو من غطى الران على قلبه فلم تفد فيه موعظة ولا دعوة ولا هداية، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8].
قالوا: وسبب نزول هذه الآية كان في النضر بن الحارث، ثم هي عامة لكل الكفار ولكل الخلق: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الحج:8].
أخبرني بعض الأصدقاء العارفين المؤمنين من الأطباء: أنه دعي إلى مؤتمر في بلاد الشيوعية وهي تدين بالإلحاد والكفر بالله وبرسله، فاختار هذا الطبيب أن تكون محاضرته عن خلق الإنسان كما ورد في القرآن، فتلا هذه الآية وأخذ يفسرها ويترجمها للحاضرين، ثم أخذ يستدل فدهش الحاضرون أن يكون هذا في الوحي، وأن يكون القرآن قد نطق بذلك، وأن تكون الرسالة المحمدية قد ذكرت هذا وما وصل إليه ما يسمونه بالعلم الحديث، ولكنهم تنبهوا أن هذا سينقض أساس كفرهم وأساس دينهم الباطل وإذا بهم يسكتونه رغم كونه جاء مدعواً، جاء ضيفاً، وللضيف حرمته، وللضيف مقامه، ولكن كفرهم والران على قلوبهم أنساهم الأدب، وأنساهم كرم الضيافة وآدابها.
وهكذا من لعنه الله تعالى، وسلب منه العقل، وأصعد الران على قلبه، فلا يفيد فيه قرآن ولا سنة ولا دعوة، وهم من هؤلاء: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الحج:8].
فيجادل في ذات الله، وفي قدرة الله، وفي وحدانية الله، وفي أن الله وحده الخالق، ووحده الرزاق، ووحده المحيي، ووحده المميت، وأن كل ما يعتقده يهود أو نصارى أو ملاحدة أو مرتدون باطل لا أساس له، وعلى ذلك فهم يجادلون فيما يعلمون فلم يجادلون فيما لا يعلمون؟ والجدال: هو الكلام على الحقائق بمجرد الهوى والباطل لا بدليل من عقل، ولا بسلطان من الله، ولا من سمع، ولا من نقل، لا من سمعيات عقلية، ولا من نقليات في كتب الله وسنن رسله.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى} [الحج:8] فيعيش في ظلمة، ويعيش في باطل فهو يجادل بباطله، ويجادل بظلمته، ويجادل بضلاله، ويجادل في الله في جهل مركب ولا يعلم أنه جاهل، فلا هدي ولا نور، ولا يزداد إلا ظلماً وباطلاً.
قال تعالى: {وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8] أي: ولا يجادل بكتاب بين، نير ينير العقل، ينير الدليل، وينير الاستدلال بما يزيل ظلام الشرك وظلام الجهل.
وهو إذا استدل يستدل بكتاب عن كافر، وعن ملحد مثله، وعن داعية لا دين له، ولا علم له، ولا معرفة له، فاتخذه إلهه، واتخذه نبيه، واتخذه إمامه وقائده إلى النار: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8].
قال تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9] أي: ثاني عنقه، يتحرك بعنقه ويصعر خده تصعير المتعاظم عن سماع الحق، وقبول الدليل، فالظلمات ظاهرة على مذكراته وجدله، فهي ظلمات وباطل بعضه على بعض.
فيجادل بالباطل بغير علم، وبغير نور، وبغير دليل من كتاب نير، وهو في هذا ثاني عطفه، والعطف: صفحة العنق، فهو يثني عنقه متعالياً متكبراً تكبر الشيطان يوم امتنع عن السجود لآدم، متعاظماً بجهله، متعاظماً بكفره، وهذا زيادة في ضلاله، وزيادة في حمقه، فإذا ابتلي إنسان به فجزاؤه الازدراء والتحقير، فإن استطاع المجادل بالحق أن يفعل به ذلك فيجب أن يسخر منه، وأن يهزأ به وبعقله وبهديه وبكتابه الذي استدل به بالباطل وبالظلمة.
قال تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9] اللام: لام العاقبة، يثني عطفه، يتكبر ويتعاظم، وتكون العاقبة: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9] أو: لام التعليل، وكل ذلك مقبول، وكل ذلك يمكن أن تفسر الآية به.
يفعل ذلك ليضل عن علم؛ لأنه يضل عن باطل، عن نية مبيتة وقصد سيء، ليضل الناس ويفسدهم عن سبيل الله، عن الإسلام، عن القرآن، عن النبي عليه الصلاة والسلام، وما أكثر هؤلاء الداعين إلى الضلال، الداعين إلى الكفر، الداعين إلى الشرك، الداعين إلى المسخ.
وهؤلاء الآن قد تولوا نشر البرامج في العالم الإسلامي وأبعدوا حرمة الشرائع في العالم الإسلامي، فذهبوا يتبعون الغرب في نظرياتهم، وفي كفرهم، وفي ما يسمونه: فلسفة وجدلاً وطرقاً للبحث والوصول إلى الحقائق، وما زادهم ذلك إلا كفراناً، فتركوا القيادة المحمدية إلى القيادة الشيطانية، وتركوا القرآن الكريم إلى كتب هؤلاء الأئمة الضالين، أئمة النار وأئمة الكفر، وذهبوا يتبعون كل ناعق -كما قال تعالى- عن غير علم أو هدى أو كتاب منير، وما ازدادوا بذلك إلا بعداً عن الله، وضلالاً وظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج الرجل يده لم يكد يراها.
قال تعالى: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:9]، فهذا الذي يدعو إلى الباطل، ويجادل بالباطل بغير علم، يجادل عن جهل، وينشر الجهل باسم العلم، ويقول لك: هذه أشياء علمية، فنحن نبحث عن الاشتراكية العلمية، ونبحث عن العقائد بالعلم، وهم بذلك جهلة، كذبة، ضالين مضلين، وهم يعلمون أنهم ضالون مضلون، وما أوصلهم ذلك إلا للخزي في الدنيا، ولعذاب الله المحرق الشديد يوم القيامة.
{لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [الحج:9] فأخزاهم الله أذلهم حقرهم وأذهب عقولهم، فعاشوا في فساد، وعاشوا في شرك، وعاشوا في ضلال، وعاش بعضهم على بعض كالكلاب والخنازير، وعاشوا لا يحترمون كبيراً، ولا يعطفون على صغير، ولا يحترمون مقدساً، ولا يؤمنون بنبي، ولا يوحدون ربهم، فهم قساة القلوب، غلاظ النفوس، لا يدعون إلا إلى الباطل والضلال، وهم لا يزدادون بذلك إلا خزياً وتحقيراً وتصغيراً.
هذا جزاؤهم في الدنيا وإن لم يشعر بذلك المرتد والضائع والتائه، لكنهم يشعرون بذلك في خاصة أنفسهم، خاصة عندما يجادلون أصحاب الحق والبيان والدليل المشرق، فتجدهم يحتقرون أنفسهم، ويشعرون بالذل وبالهوان وبالجهل.
قال تعالى: {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:9] أي: مع خزيهم في الدنيا وهوانهم على الله والناس، فإنه يوم القيامة يذيقهم عذاب الحريق، أشد العذاب، ويدخلون جهنم فيحترقون وتسعر بهم النار جزاءً وفاقاً لشركهم وكفرهم وضلالهم.(66/5)
تفسير سورة الحج [8 - 16]
يذكر الله تعالى حال بعض الناس ممن يجادل في الله وآياته بالباطل والهوى، فيريد أن يحق الباطل وأن يبطل الحق، ولكن هيهات.
هؤلاء هم الذين يدعون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الأصنام والأحجار، بل يدعو لمن ضره أقرب من نفعه كما حصل من قوم فرعون.(67/1)
تابع تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم)
قال الله جل جلاله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:8 - 10].
يذكر الله جل جلاله أن من الناس قوماً كفرة مشركين يجادلون في الله بغير علم ولا هداية ولا كتاب نير، ولا تكون مناقشتهم مناقشة علم ولا بحث في دليل، ولكنه السعي في الجدل بما لا طائل تحته.
فقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الحج:8] أي: لا علم عنده ولا معرفة لديه ولا دراسة.
قال تعالى: {وَلا هُدًى} [الحج:8] أي: ليس من الهداة الذين يستحقون أن يجادلوا أو يبحثوا أو يذاكروا في الله وعلمه وكتابه وشريعته.
قال تعالى: {وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8] أي: لا كتاب عندهم يعتمدون عليه ويستدلون به، فهم يناقشون ويجادلون بغير عقل ولا فهم، ولا دليل ولا برهان من عقل أو نقل، لا بنقل من الله في كتابه، ولا ببيان من رسله، ولا بمنطق تقبله العقول، وإنما هو الجدال بالباطل في الخالق العظيم جنابه والعظيم مقامه جل جلاله.
وليس هذا تكراراً للآية السابقة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3]، فهناك نوعان من الناس: كفرة مقلدون، وكفرة يخترعون ويبتكرون ويكونون أئمة للكفر والفجور والجدال بغير حق، ففي الآية السابقة أولئك يجادلون في الله بغير علم، ولكنهم مع ذلك مقلدون قردة يتبعون كل شيطان وأفاك أثيم، فهم في كفرهم مقلدون، ويكررون ما لا يفهمون ولا يعون.
وهؤلاء يبتكرون ويأفكون ويخترعون الكذب بحيث يكونون أئمة لأولئك، ولكن أيضاً بغير برهان من الله ولا دليل من عقل، ولا كتاب أنزل أو فسر به ما أنزل.
قال تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:9] حال كونه لاوياً عنقه وجنبه، معرضاً عن الحق وعمن أتاه به؛ تعاظماً وتكبراً واستعلاءً عليه، وهذه سخافة عقل وضياع فهم وإدراك، فمع كفره وشركه تراه متكبراً بكفره يظن أنه على شيء وليس على شيء.
قوله تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9] أي: يجادل في الله وهو لا يريد بذلك الجدال الخير، وإنما يجادل بلا دليل له من نقل ولا عقل، يريد به الصد عن الله وسبيله، وعن رسالة نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
{لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [الحج:9] أي: له في الدنيا خزي: من السمعة السيئة، واللعنة، ومن استحقار الناس له، وإذا وقع في الأسر فإنه يقتل ويصادر ويعامل معاملة الدواب، والأعداء الذين يظفر بهم المؤمنون هذا عذابهم في الدنيا: الخزي والذل والهوان.
قال تعالى: {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:9] أي: يكونون يوم القيامة وقوداً للنار مع الحجارة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، فهذه النار التي يكون وقودها أمثال هؤلاء الناس من المجادلين في الله بغير علم يحرقون بها، ويكونون حطبها ووقودها.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:10] أي: يقول الله أو ملائكته لهذه الطبقة من الناس المشركة المجادلة بالباطل: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:10] أي: ذاك الحريق والعذاب وذاك الهوان في الدنيا وعذاب الآخرة جزاءً وفاقاً لشركه وكفره، فهم يعذبون ويقال لهم: ذوقوا.
فقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:10] أي: بما سبق أن صنعته وفعلته واكتسبته من شرك وكفر.
ونسب ذلك لليد؛ لأن من شأن اللغة أن ما اكتسبه الإنسان وحصله ينسب ليده، فبيده يبطش، وبيده يتحرك، وبيده يرفع الكتب وينزل، وأصبحت الكلمة معناها أعم من ذلك، فذلك بما كسبت يداك، أي: ما صنعته واكتسبته وقمت به من باطل وكفر وشرك.
قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10] أي: ما حصل لهم وعوقبوا عليه من هوان وذل في الدنيا ونار وحريق في الآخرة، كان ذلك جزاءً وفاقاً لما كسبت أيديهم، وما صنعوه من جدال بالباطل.
والله ليس بظلام أي: ليس بظالم، وظلام صيغة مبالغة، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا).
فهو لا يظلم أحداً شيئاً، فمن يأت بمثقال ذرة خير جوزي بها إحساناً، ومن يأت بمثلها الشر جوزي بها، وقد يغفرها الله، وقد يضاعف الله الحسنة أضعافاً كثيرة.(67/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
هذه طبقة أخرى من الناس مذبذبة منافقة، تسلم وتؤمن ولكن إسلامها يكون على الحاشية، فلا يكاد يصيبهم شيء إلا وتجدهم قد ارتدوا وكفروا وتنكروا للدين الذي دانوا له.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] الحرف: جانب الطريق، أو جانب الجبل، أو جانب الحائط، أو جانب الوادي، فهم يؤمنون ولا يدخل الإيمان في قلوبهم، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم يؤمنون ولكن لا يخالط بشاشة الإسلام قلوبهم، بحيث يعتقدون ويتيقنون بالإسلام عقيدةً ونظاماً ودولةً.
وإنما يؤمنون باللسان وهم على طرف من الإسلام والإيمان كمن يقف على حافة جبل، أو على حافة بئر، أو على حافة نهر أو بحر، وبأقل حركة منه يتدهده ويسقط إلى الحضيض.
فهذا الذي يؤمن على حرف يقول في نفسه: سأرى إن أدركت خيراً من هذا الإسلام استمررت فيه، وإن لم يصبني منه خير تركته، فهو في الأصل متردد وغير متيقن.
وهنا يكون معنى الآية: ومن الناس من يعبد الله على شك، وليس على يقين ولا إيمان ثابت آمن به الجنان، بحيث إذا نطق اللسان يصدق اللسان القلب والقلب اللسان.
{فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11] إن كان له خير بعد هذا الإيمان أو كسب أو ربح، إن تزوج أو ولد له ولد، إن زادت تجارته وربح فيها، وإن زادت زراعته وولدت أغنامه وولدت أبقاره يقول: لقد كان هذا الدين علي بركة، وكان ميموناً.
وإن هو لم يتزوج أو ماتت زوجته، أو ولد له أنثى أو خسر في التجارة أو في الزراعة يقول: لا فائدة من هذا الدين، فهو شؤم علي.
فقوله: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11] أي: بعد إيمانه الذي هو إيمان شك وريبة، فإن أصابه خير واكتسب مالاً أو جاهاً أو مولوداً أو تجارة أو زراعة يطمئن ويقول: قد كان ديني هذا الذي دنت الله به دين بركة ويمن.
قال تعالى: {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] أي: إن فتن وابتلي بموت قريب، أو بخسارة مال، أو بفساد زرع انقلب على وجهه وارتد وانتكس وعاد للكفر والشرك، فيكفر بالإيمان ويقول: ما وجدت في هذا الإيمان خيراً.
وهكذا إيمان المنافقين المتشككين، وهذا الذي يكون إيمانه كذلك لا إيمان له، بل إن إيمانه أشبه بإيمان أولئك السابقين الذين يجادلون في الله بغير حق ولا هدىً ولا كتاب منير.
فقوله تعالى: {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] أي: ارتد وانتكس وأصبح وجهه على التراب، وهي كناية على أنه أدبرت به الأيام فارتد وكفر، فعوضاً عن أن يكون صابراً معتزاً بدينه، يواجه الناس وهو مسرور فرح، إذا به يخجل فيغمر وجهه في التراب، حتى لو لم يفعل ذلك فحاله وانتكاسه وانقلابه وردته تقول ذلك بلسان الحال.
{خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11] أي: خسر دنياه التي ما آمن إلا سعياً فيها وطمعاً في غنائم الحرب والزكاة وصدقات المسلمين والفيء، فلما لم يحصل له المراد ارتد وكفر وانقلب على وجهه فخسر دنياه.
وكذلك سيخسر آخرته بأن يدخل النار ويحرم من الرحمة ومن دخول الجنة؛ لأنه لم يسلم، إذ إن إيمان الشك ليس بإيمان، وصاحب الإيمان الذي يكون على حرف إن وجد خيراً استمسك، وإن وجد سوى ذلك ارتد، فهذا إيمان المنافقين كما قال الحسن البصري.
{ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] هذا الذي يعبد الله ويوحده ويدين به على شك وريب لا يكون إيمانه تاماً إلا إذا وجد خيراً، وينتكس إذا لم يجد ذلك الخير، فيكون نتيجة هذا أن خسر دنياه بأن لم يتم فيها ما كان يريده، ويخسر آخرته بدخول النار وغضب الله.
فقوله تعالى: {ذَلِكَ} [الحج:11] أي: هذا الذي نقول، {هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] أي: الخسارة البينة الواضحة التي خسر فيها نفسه، وخسر فيها آخرته.(67/3)
تفسير قوله تعالى: (يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه)
هذا المتشكك المجادل في ربه {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [الحج:12].
فهذا الصنف من الناس منافقاً ومشركاً يعبد من دون الله {مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} [الحج:12] أي: يعبد الأصنام والأوثان التي إن لم يعبدها لم تضره، وإذا عبدها لم تنفعه، وهو في هذه الحالة في ضلال بعيد وكبير لا ضلال بعده ولا ضلال قبله، وخسر دنياه وآخرته بشركه بالله وعبادته ما لا يضر ولا ينفع، وتلك صفة المجادل في ربه عن غير هدى ولا علم، وتلك صفة المنافق الذي يعبد الله على حرف.
ثم قال تعالى: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13] يدعو: يعبد، والدعاء مخ العبادة؛ لأن الإنسان عندما يقول: أعطني يا رب! يكون معنى ذلك: أنه يعترف بأن الله وحده المالك لما يعطيه، والمانع لما أعطاه، والمحيي المميت.
وعندما يقول: يا رب! يكون قد خرج من حوله وقوته واستسلم لربه، وقال: أنت الغني وأنا الفقير، وأنت المعطي إن شئت وأنت المانع إن شئت، وحدك القادر على كل شيء وتفعل ما تريد.
ومن هنا كان الدعاء مخ العبادة كما قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك كثيراً ما تذكر كلمة الدعاء في القرآن بمعنى العبادة؛ لأنها هي العبادة وخلاصتها ومخها.
{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج:13] هذه اللام قالوا: زحزحت عن الكلمة الثانية (ضره)، والتقدير: (يدعو من لضره أقرب من نفعه) وهذا من بلاغة القرآن وفصاحته.
{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج:13] يدعو ويعبد الذي ضرره أقرب إليه من نفعه، لبئس مولاه.
{لَبِئْسَ الْمَوْلَى} [الحج:13] الولاية هي الاتصال بأي سبب بأحد من الناس، يقال: هذا ولي هذا وهذا ولي هذا، وقد تكون الولاية ولاية قرابة: قرابة دم، أو قرابة صهر، أو صلة معرفة وأخوة وعمل.
{لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13] أي: هذا العابد المشرك الذي اتخذ هذه الأصنام آلهة له بئست الأصنام والمعبودات الباطلة مولىً له، وبئست عشيرة.
والعشير: الذي يعاشره ويواصله ويتصل به بأي صلة كانت.
فهذا لملازمته المعبودات من دون الله، فهو عشريها وهي عشيره، ومن هنا سميت القبيلة والأسرة بالعشيرة، فهو يعاشرها وهي تعاشره، أي: هو يلازمها وهي تلازمه.
فالله هنا يذم العشرة من العابد والمعبود، ومن الولاية من العابد والمعبود معاً، إذ ضرر هذا أقرب من نفعه لمن عبده ودعاه من دون الله.
وقد يقول قائل: يقول الله في الآية السابقة: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} [الحج:12]، وهنا يقول: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج:13] فقد نسب لهذا المعبود الضر، وأن ضرره أقرب من نفعه لعابديه فكيف ذلك؟
الجواب
لا إشكال في ذلك؛ فالله عندما يقول لنا: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} [الحج:12] فالآية تدل على غير العاقل، فهي متصلة بمن يعبد الأوثان والأحجار والجمادات الميتة والتماثيل، أي: يعبد ما لا يعقل، ولذلك أطلقت (ما) على ما لا يعقل كما هي لغة العرب.
فهذه الأصنام لا تضر ولا تنفع ولا تعي أن تضر أو تنفع، ولا تنفع نفسها أو تضرها فضلاً عن غيرها.
النوع الثاني: من يعبد الأحياء التي يمكن أن تضره، ويمكن أن تنفعه، وهو قوله تعالى: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج:13] يعبدون عيسى وعزير ويعبدون السادة والقادة والفراعنة، ويعبدون من جاءهم بدين غير دين الله، فأطاعوه وعملوا بأمره وبدينه، فهؤلاء جميعاً معبودون من دون الله.
ومن هنا قال فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] وادعى الربوبية والألوهية، وهو قد يضر، فقد تهدد السحرة الذين آمنوا بموسى وهارون ورب موسى وهارون، وقطع أيديهم من خلاف وأرجلهم وصلبهم في جذوع النخل.
فهؤلاء نوع من العباد يعبدون الأحياء من البشر من دون الله، وقد يعبدون الملائكة كما كانت بعض القبائل من العرب وغير العرب، وقد يعبدون الجن، وكل هؤلاء المعبودون عاقلون، وعبادتهم تضر ولا تنفع.
ففرعون ما أصيب من آمن به منه إلا الضر والبلاء والخزي منه ومن الله في الدنيا والآخرة، وما أصابهم من عبادتهم لعيسى إلا الضر، لأن عيسى نهاهم عن ذلك وتبرأ منه، وقال: لم أدعكم لذلك، إنما دعوت الناس لما أمرني به ربي، والملائكة قالوا مثل ذلك.
وأما الجن فتلاعبوا بهؤلاء العابدين لهم، فكانوا بذلك ضارين لهم غير نافعين، إذاً: هؤلاء المشركون عبدة الأوثان يعبدون هناك وثناً جامداً لا يتحرك، ووثناً متحركاً بشرياً، وكلا النوعين عبادتهما شرك وكفر وخروج عن أديان الله وكتبه، وعبادتها لا تزيد الإنسان إلا كفراً وبواراً وخسراناً في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13] حتى ولو قلنا: إن المولى هنا كان بشراً: نبياً أو ملكاً أو جناً؛ فهذه الولاية لا ينال عابدها منها إلا الضر والشهادة بأنه مشرك كافر، والجزاء بما هو أهل له من الكفر والشرك، فهو يضره ذلك ولا ينفعه.
وقد لا يعاشر العابد معبوده، فعيسى رفع إلى السماء منذ ألفي سنة تقريباً، وفرعون انتهى منذ آلاف السنين، ولا نزال نجد من يعبد الفراعنة ويدين بدينهم، ويكفر إن كفروا، ويكون ملحداً وشيوعياً إن تشيعوا أو ارتدوا، فهو معهم على أي حال قاموا به شأن العابد مع المعبود أو المعبود مع العابد.
فهؤلاء كذلك لا ينفعونهم، بل يضرونهم بالشهادة فيهم، أو يكونون وإياهم وقوداً للنار محرقين مسعرين.(67/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار)
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14].
هذه الآية الكريمة جاءت رحمة وبشرى، وجاءت عظة وعبرة لمن يريد أن يتوب ويئوب من المشركين أو المنافقين أو الهازلين في حياتهم الذين بلا دين، وكل سواء.
يذكر الله بأن الذين آمنوا بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوة، هؤلاء يؤمنون بذلك، ويصدق ما في جنانهم ما قاله لسانهم، ويعملون الصالحات والأركان الخمسة: من الشهادتين، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وفعل الخيرات كل حسب طاقته وحسب قدرته، وأما المنكرات فيتركونها البتة.
فقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الحج:14] أي: يجازيهم يوم القيامة ويكافئهم جزاءً وفاقاً لدينهم وإيمانهم وتوحيدهم وعبادتهم للإله الحق بدخولهم الجنات التي تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبد الآبدين ودهر الداهرين.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14] والله جل جلاله لا يكره على عمل، بل يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ومع هذا ألزم نفسه جل جلاله وأوجب عليها ألا يخلد مؤمناً في النار، وألا يدخل كافراً الجنة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].(67/5)
تفسير قوله تعالى: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا)
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15].
يخبر الله جل جلاله عن قوم حسدوا رسول الله وأبغضوه، وتربصوا به الموت والدوائر، وتمنوا له السوء من اليهود في الدرجة الأولى، والنصارى والمشركين عموماً، وكان هذا في عصر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهو مستمر ما دام الكفر في الأرض بكل أنواعه.
فتجدهم يتناولون النبي عليه الصلاة والسلام بكل سوء وحقد، وبما لا يفعله إلا عدو كافر مشرك حلال الدم.
قال الله عن هؤلاء: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الحج:15] أي: من كان يظن من المشركين أن الله لن ينصر نبيه، ولن يجعل العاقبة له، ولن يعزه ولن يكسبه الظفر والنصر في الدنيا، والجنة والشفاعة العظمى في الآخرة، {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] أي: فليمدد سبباً من الأسباب إلى السماء كالحبل مثلاً، والسماء: ما علاك، أي: إلى سقف البيت.
فهؤلاء تمنوا للنبي الغوائل، وتربصوا به الدوائر، وظنوا أنها أيام وستنقضي كما ظن الكثيرون من المعاصرين، وظنوا في أيام الصليبيين والتتار وأيام الاستعمار الأوروبي والأمريكي أن الإسلام انتهى، وعادت هذه الخرافة والأسطورة على أنفسهم.
فهؤلاء الذين يظنون ذلك يظنون باطلاً من القول طالما سعوا في القضاء على الإسلام منذ ألف وأربعمائة سنة، بل ما كاد النبي عليه الصلاة والسلام يذهب إلى الرفيق الأعلى حتى تواطأ وتآمر على الإسلام متنبئون كذبة: كـ مسيلمة وسجاح والأسود العنسي يريدون القضاء على الإسلام وحربه، وارتد الكثيرون في جزيرة العرب حتى لم يكد يبق مسلم إلا في مكة والمدينة والبحرين وضواحيها.
ومع ذلك خاب فأل هؤلاء منذ الساعة التي توفي فيها النبي عليه الصلاة والسلام، مع أن الأمر قد زاد سوءاً بين الصحابة على الخلافة، وعلى مكان دفن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى حرب مانعي الزكاة، وعلى الحرب التي ابتدأت في حروب الردة، وخروج الجيوش من المدينة المنورة لقتال الروم الذين جهزهم النبي عليه الصلاة والسلام وعقد اللواء لـ أسامة بن زيد رضي الله عنه.
مع هذه الفتن الداخلية والخارجية طمعوا في نهاية الإسلام، لكن خابوا وخاب فألهم، وانتصر الإسلام وانتشر كالسيل المنهمر شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، فلم تمض خمسون سنة حتى وصل الإسلام شرقاً إلى بلاد الصين، وغرباً إلى بلاد فرنسا، وما بينهما شمالاً وجنوباً.
وهكذا أتت فتن جديدة، إذ جاء الصليبيون واحتلوا الأرض التي احتلها اليوم اليهود في صليبية جديدة، وطمعوا أن يصلوا إلى الحجاز ونزلت جيوشهم في ينبع، فما كان يمضي على ذلك سنون حتى قدر الله لهم من يقضي عليهم ويرميهم لحيتان البحر، ويعود الإسلام أقوى مما كان وأعز.
ثم عادت فتن جديدة بعد ذلك بقرون، فجاء التتار فقضوا على الخلافة الإسلامية العباسية، ودارت الدوائر على الإسلام وأهله، حتى قال الكثيرون: انتهى الإسلام.
ولكن الله دمر هؤلاء الأعداء وسحقهم وأذلهم، وعاد الإسلام أقوى مما كان، ففتحت بعد ذلك أقطار في أرض أوروبا وفي المشارق والمغارب، وتدخل في الإسلام القسطنطينية فاتيكان الكنيسة الشرقية حينذاك، فتصبح دار إسلام وعاصمة الإسلام قروناً، ولا تزال دار إسلام ولله الحمد.
ثم بعد ذلك جاء الاستعمار الأوروبي والاستعمار الأمريكي بكل أشكاله وانتهى، وعاد المسلمون إلى استقلالهم وعزتهم بعد استعمار طال في بعض هذه الأقطار ثلاثمائة سنة أو تزيد أو تنقص وما بين ذلك.
وهكذا أصبح للمسلمين دول بالعشرات، وهذه مصيبة، فإن يد الله مع الجماعة، فيجب أن يعود الإسلام واحداً كما أن الرب واحد والنبي واحد والكتاب واحد واللغة واحدة، ويجب أن يكون القائد واحداً يلقب بالخليفة أمير المؤمنين.
والله ناصر دينه ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون، واليوم يطمعون أن يذلوا العرب والمسلمين وهيهات، فالله تكفل بدينه ونصرة عباده المؤمنين، والتاريخ يشهد بذلك.
ولذلك فهؤلاء ومن استسلم وخضع لهم ستكون نهايتهم كنهاية الماضين من أولئك المتمردين على خلافة أبي بكر، وعلى الإسلام بعد ذهاب النبي إلى الرفيق الأعلى صلوات الله وسلامه عليه.
وسينتهون كما انتهى الصليبيون والتتار والاستعمار الأوروبي والأمريكي بأشكاله، وسيذهب هؤلاء وسيصبحون كالأمس الدابر وكأنهم لم يكونوا.
ولا تحدث هذه الفتن إلا عقوبة للمسلمين عندما يتركون الله وكتابه، والنبي ورسالته، ويذهبون يتسولون الأفكار والمبادئ والأديان والآراء الشيطانية، ويتركون ما عزوا به وسادوا في الأرض دهراً بعد دهر وقرناً بعد قرن.
فقوله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] أي: ليمد حبلاً في سقف بيته ويربط به عنقه، ثم ليقطع الحبل وليشنق ولينظر بعد ذلك هل شنقه لنفسه وقتله لنفسه سيذهب غيظه الذي في نفسه على محمد وأتباع محمد والإسلام؟! يظن ذلك أنه سيمكر بغيره، وإذا به مكر بنفسه وانتحر إلى جهنم وبئس المصير، كما قال تعالى في آية أخرى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران:119]، وهذا معنى الآية.
قال قوم: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج:15] يمد الحبل في سماء غرفته، أي: سقفها، ثم يربط عنقه فيه.
قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج:15] وستكون النتيجة أنه شنق نفسه وانتحر وقتل، وسيبقى النصر لمحمد ولأصحابه ودينه، ولو كره هذا الكافرون الحاسدون.
وفسر قوم الآية بشكل آخر: فسروا السماء بالسماء المعروفة، وقالوا: معنى الآية: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] أي: ليمد سبباً إلى الصعود إلى السماء، كما طلب فرعون من هامان أن يبني له صرحاً إلى أسباب السماء؛ ليطلع إلى إله موسى.
فقوله: (فليمدد بسبب) أي: فليعمل سلماً وصرحاً لا يخطر بباله، وليصعد إلى السماء ويوقف نصر السماء على محمد، وليمنع ذلك إن استطاع، وهذا منتهى الاستهزاء والسخرية بهؤلاء، فلا هؤلاء يستطيعون الوصول إلى السماء، ولا يملكون سبباً لذلك، ولو فعلوا لرجموا كما ترجم الشياطين عندما يريدون أن يسترقوا السمع من السماء من الملائكة.
وقوله: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج:15] أي: يقطع هذا السبب، واللام لام الأمر.
وقال أكثر المفسرين: الأقرب للمعنى المعنى الأول: أن يربط حبلاً في سماء داره -أي: في سقفه- وليربط بذلك عنقه ثم ليقطع السبب، فسيسقط مخنوقاً مشنوقاً، ولينظر بعد ذلك {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] هل هذا الذي يظن أنه سيكيد لمحمد ودين محمد وأتباع محمد صلوات الله وسلامه عليه هل سيذهب ما يغيظه في نفسه، أي: ما يحرق فؤاده ويعض منه الأنامل؟ وليس هذا إلا هزؤ من الله بهؤلاء، ويعلمنا كيف نفعل عندما نريد أن نجادلهم كجدالهم بالسخرية بهم والهزء بما يقولونه، فيجب أن يجابوا أيضاً بمثل ذلك؛ سخريةً وهزءاً، قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40].(67/6)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه آيات بينات)
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} [الحج:16].
وكما أنزلنا الآية السابقة والكتاب في أحكامه الماضية كذلك ننزل آيات أخرى منجمة حسب الحاجة، وحسب الدافع ومصالح المسلمين.
ومن المعلوم أن القرآن الكريم نزل جميعه إلى سماء الدنيا في رمضان في ليلة القدر، ثم بعد ذلك أخذ ينزل به جبريل منجماً، أي: مجزأً وقتاً بعد وقت حسب المصلحة، وحسب ما يستجد للمسلمين مما يريدون أن يعلموا فيه الحلال والحرام والآداب والرقائق، فكما أنزل الماضي أنزل هذا.
فقوله: {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الحج:16] أي: آيات ظاهرات مفهومات مبينات لا غموض فيها ولا لبس فيها ولا تناقض.
قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ} [الحج:16] أي: كما يفعل ذلك فإنه يهدي من يريد، إذ لا هداية إلا لمن يريد الله هدايته، ولا ضلال إلا لمن يريد الله ضلالته، ولكن إن علم الله في أنفسنا خيراً جازانا بالخير الذي في قلوبنا، قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70].(67/7)
تفسير سورة الحج [17 - 22]
أخبر الله تعالى أنه سيفصل يوم القيامة بين اليهود والنصارى والصابئين والمشركين، فيما كانوا فيه يختلفون.
وأخبر كذلك أنه يسجد له كل من في السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب وكثير حق عليه العذاب، ومن يهن الله فما له من مكرم.(68/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17].
يخبر الله عن المؤمنين وعن هذه الطوائف من الكفر، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:17] أي: المسلمين الذين آمنوا بالله رباً وبمحمد نبياً صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: {وَالَّذِينَ هَادُوا} [الحج:17] أي: اليهود أتباع موسى وهارون في زعمهم، المنزل عليهم التوراة الذي حرفوه وبدلوه، والذي ملئوه قذفاً للأنبياء، وتهجماً على الله جل جلاله وعلى مقامه، وعبدوا عزيراً من دون الله.
قوله: {وَالصَّابِئِينَ} [الحج:17] فئة بين النصارى واليهود، ولكنهم يعبدون نجوم السماء.
قوله: {وَالنَّصَارَى} [الحج:17] الذين زعموا أنهم أتباع عيسى، ولكنهم عوضاً عن أن يؤمنوا به عبداً نبياً آمنوا به إلهاً، وجعلوه ابن الله، وثالث ثلاثة، وقالوا: هو الله، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، ثم عبدوا مع الله عيسى ومريم.
قوله: {وَالْمَجُوسَ} [الحج:17] الذين عبدوا النيران وما يدخل في معناهم ممن عبدوا الجمادات من قردة وفروج وفئران وأحجار.
فكل هؤلاء -سوى المسلم- مشركون، فهؤلاء أشركوا مع الله عزيراً، وأولئك أشركوا مع الله النجوم، والآخرون أشركوا مع الله مريم وعيسى، وآخرون أشركوا مع الله النيران، ولا يزال هذا يتجدد.
كما أشرك في هذا اليوم مع الله ماركس ولينين وأتباعهما من الاشتراكيين والشيوعيين والقاديانيين والبهائيين والماسونيين والوجوديين.
وهذه الأشكال الضالة المضلة كلها فروع لليهودية، وفروع لإضلال الناس وإخراجهم عن دين الله الحق، وهؤلاء جميعاً يذكر الله عنهم: ممن لم يرد الإسلام، ولا الإيمان، فلم يؤمن بمحمد نبياً رسولاً، ولا بالقرآن كتاباً منزلاً، ولا بالإسلام الدين الحق ناسخاً للأديان الماضية، والذي لا دين بعده، وهو دين الخلائق كلها، دين العالم، ولا دين عالمي إلا الإسلام، فهؤلاء يفصل الله بينهم يوم القيامة.
فالأديان السابقة أديان قومية أرسلت لبني إسرائيل وأمثالهم، ولقد قال عيسى كما في الإنجيل: إني أرسلت إلى خراف بني إسرائيل.
وأكد هذا القرآن عندما قال الله تعالى عن عيسى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف:6]، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر، أي: لم أرسل لسواكم، فمن آمن بعيسى من غير بني إسرائيل فقد آمن بدين لم يطلب منه، ولم يرسل إليه، عرباً زعموا أو غير ذلك من بقية الفئات.
ويؤكد هذا المعنى رسول الله عليه الصلاة والسلام في الأحاديث المتواترة، قال: (خصصت بخمس: كان الأنبياء قبلي يرسلون إلى أقوامهم خاصة وأرسلت إلى الناس عامة).
فمن زعم أن اليهودية عالمية فهذا من أباطيل اليهودية، ومن زعم أن النصرانية عالمية فهذا من أباطيل النصرانية، ولا دين عالمي إلا الإسلام والرسالة المحمدية.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج:17] أي: إن الله يفصل بين هؤلاء الرافضين للإسلام، المصرين على الشرك والكفر، هؤلاء الذين يأبون إلا التكذيب سيردون وسيفصل الله بينهم، وسيعلمون إذ ذاك: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
ومن لم يأت بالإسلام فلا سبيل إلى دخوله الجنة، ولا طمع له في رحمة الله، وهو في النار خالداً مخلداً أبداً.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17] أي: شهيد بعلمه وبأمره، وشهيد بإرادته جل جلاله وعلا مقامه.(68/2)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض)
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
يقول الله لعبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويقول لجميع المسلمين من أتباعه كما هي نداءات ودعوات القرآن: ألم تر يا محمد بقلبك وبعلمك، وبإطلاع الله لك على ما هناك؛ أن هؤلاء الذين جحدوا من الناس وكفروا وأشركوا هل يجدون نظيراً لهم في خلق الله من الحيوانات والجمادات وكون الله الأعظم؟! قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الحج:18] ففي السماوات الملائكة يسجدون أبداً، وكما قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه: (أطت السماء وحق لها أن تئط) أي: لثقل ما تحمل كما يصوت السقف المصنوع من خشب عندما يثقل بمن عليه، فيأخذ في التصويت، فيقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء) أي: صوتت، (وحق لها أن تئط) أي: ما أجدرها بذلك (ما من موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم)، وفي رواية: (يقول: لا إله إلا الله).
والعبادة للملائكة كالنفَس للإنسان، فكما أن الإنسان لا يعيش بلا نفَس صاعد أو هابط، فكذلك الملك بالفطرة لا يستطيع أن يعيش بلا عبادة، فالعبادة للملك كالنفَس للإنسان.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ} [الحج:18] أي: يعبده، والسجود: هو أقوى العبادة ومخها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فادعوا ربكم في سجودكم؛ فقمن أن يستجاب لكم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وقد قال: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فادعوا فيه).
قوله: {يَسْجُدُ} [الحج:18] السجود هنا كناية وعبارة عن العبادة بكل أنواعها، وأعظمها السجود الذي لا يجوز ولا يحل لمخلوق حتى للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى للملك من باب أولى، {يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الحج:18] فالشمس تسجد لربها، والقمر يسجد لربه، والنجوم تسجد لربها، والجبال تسجد لربها، والشجر تسجد لربها، والدواب على كل أنواعها تسجد لربها.
قوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18] والكثير من الخلق ممن آمنوا بالأنبياء قبلنا، وممن آمن بخاتم الأنبياء معنا أو قبلنا أو من سيأتي بعدنا إلى يوم البعث والنشور كلهم سجدوا، وكذلك عبدوا، ولكن من الناس من لم يفعل، فقال الله عنهم: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18].
أي: وكثير ممن لم يسجد من الناس سيعذب؛ نتيجة تمرده في العبادة، وعدم سجوده لله؛ لأن الله ما خلق الإنسان والجن إلا للعبادة، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
قوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18] أي: كثير من الناس ممن أشرك وكفر، وممن لم يعبد الله ولم يؤمن به وبأنبيائه.
قوله: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] أي: من أهانه الله بالذل والخزي في الدنيا، وبالعذاب يوم القيامة فلن يعزه ملك، ولن تعزه دولة، ولن يعزه أولاد، ولن تعزه جيوش، بل لا يزيده كل ذلك إلا ذلاً وهواناً وعذاباً وخزياً.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] أي: يفعل الله جل جلاله ما تشاء إرادته، وما يشاء أمره، وما يريد في خلقه، فهو يملك الكل، والمالك يتصرف في ملكه كيف شاء وبما شاء، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وكيف سجود الدواب والشجر والقمر؟ قال قوم: فيئها وظلالها هو سجودها، وهذا كلام لا معنى له، سجودها وعبادتها كما قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
والشيء يطلق على كل شيء مما سمى الله تعالى في كتابه من الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، على كل أصنافها وأنواعها، فالكل يعبد الله ويذكره ولكننا لا نفقه تسبيحهم.
وقد فقه تسبيحهم بعض خلقه من الأنبياء، كما قص علينا فيما أعطاه لسليمان، فكان سليمان يفقه تسبيح الطير والنمل، وكان يكلمهم ويكلمونه.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك، ففي المعجزات الواردة المتواترة المقطوع بصحتها، المستفيضة استفاضاً، الواردة عن الجماهير من الصحابة: أنه كلمه الجمل.
وجاءت شجرتان -وهو يريد قضاء حاجة في البرية- فاجتمعتا حتى ظللتاه، ثم ذهبتا إلى مكانهما، بل وأكثر من هذا حن الجذع المقطوع من الشجر، وهو الميت مرتين، والشجر لا نعلم أنه ينطق.
فكان عليه الصلاة والسلام يخطب على المنبر المصنوع من هذه الأخشاب، وعندما غيّر منبره وترك الجذع الذي كان يقف عليه، حن هذا الجذع -جذع النخلة- حتى سمع حنينه وصوته كل من في المسجد، فنزل عليه الصلاة والسلام وضمه إليه فسكت.
وشكا إليه الضب، والذئب، وشكت إليه حيوانات وفهم عنها وأجابها عليه الصلاة والسلام، وما من معجزة كانت للأنبياء قبل إلا وكانت لنبينا عليه الصلاة والسلام وزيادة.
فإن كان إبراهيم خليل الرحمن فمحمد خليله وحبيبه، وإن كان موسى كليم الله فمحمد كلمه ورفعه إليه، فذهب في ليلة الإسراء إلى سدرة المنتهى إلى أن كان قاب قوسين أو أدنى، وأمره بالصلاة عليه الصلاة والسلام.
فإذاً: هذا الإنسان العنيد، هذا الإنسان المشرك الذي انفرد من بين كون الله الأعظم، الذي تمرد تمرداً لم يتمرده شجر ولا حجر ولا دابة ولا شمس ولا قمر ولا نجوم، فكلها عبدت ووحدت الله وقدست الله وسجدت له إلا هذا الإنسان المشرك، إلا هذا الإنسان الكافر الذي تمرد على ربه ولم يسجد ولم يؤمن.
ولذلك قال الله تعالى عن هذه الفئة التي حق عليها العذاب، وأصبح العذاب في حقها واجباً لا منحى عنه ولا مبعد له، وإن مات عليه خلد في النار إلى أبد الآباد في ذل وهوان، لم يرفعه عز عزيز، ولا ملك ملك، ولا قوة جيوش، فمن أذل الله فلا معز له، ومن أعز الله فلا مذل له، والله يفعل ما يشاء.(68/3)
تفسير قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم)
قال تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:19 - 22].
اللهم أعذنا من النار، اللهم أبعدنا منها، اللهم رحمتك، اللهم مغفرتك، اللهم رضاك، اللهم اكتب لنا الجنة وأبعدنا عن النار.
هذا الوصف يذهل كل مرضعة، هذا الوصف يذهل كل حامل، هذا الوصف يذهل العقلاء! نقرأ هذا صباح مساء، يقرؤه المؤمن والكافر وإذا به ساهٍ غافل عن ذلك، إلى أن يصبح يوماً من الأيام وجهاً لوجه مع جند الله الذين لا يحصي عددهم إلا هو، يصبح في قبره وقد انضم عليه وذهب أهله: فلا امرأة ولا ولد ولا أتباع ولا جند ولا مال.
فيأتيه به ملكان ويسألانه: من ربك؟ فإن أجاب فقد فاز ونجا، وإن لم يجب رسب الرسوب الأبدي والخذلان الأبدي، نعوذ بالله من عذابه! قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] أي: فئتان تخاصمتا في ربهما، فقالت فئة: الرب له شركاء، تعالى الله عن ذلك، وذهبت تترك الواحد الأحد الفرد الصمد وتعبد الأحجار، وتعبد الخلق معه وبدونه.
{اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] أي: في الله، فالموحد المؤمن يقول: الله ربي خالق كل شيء، الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، والملك الحق، خلق الإنسان من عدم، وأذهبه للعدم، وسيعيده مرة ثانية بعد الموت، فجاء الكافر وخاصم الموحد المؤمن وجادله بغير حق، وبغير علم وهدىً، وبغير كتاب مبين.
وكان الأولون يقولون: الله وشركاؤه، وجاء الكفرة المجددون للكفر والفساد، المتقدمون في الكفر، المفسدون للخلق وللبشر فقالوا: لا إله.
ومعاذ الله وتعالى الله! مع أنه في كل شيء له آية تدل على أنه واحد، ولكن عميت بصيرتهم قبل أن يعمى بصرهم.
فهذه السماوات العلى بنظامها، وبنجومها، وبمجراتها، وبليلها، ونهارها، وهذه الأرض بمن عليها ومن فيها من جبال ووهاد وتلال وشعوب وحيوانات وطير كل ذلك قال عقل هذا الأفاك الفاسد: وجد من غير موجد.
ثم نازعه المشرك الآخر، فقال هذا، وعبد معه غيره، عبد زعماءه وأشركهم مع الله، وقال بالطبيعة، وهو يوصف الله بالطبيعة، فكل ما هو من صنع الله قال: هو من صنع الطبيعة، فسمى الله بغير اسمه زيادة في الضلال.
وهكذا تخاصم مؤمن وكافر، وهي خصومة أبدية إلى يوم البعث والنشور، إلى اليوم الذي يعرض فيه هؤلاء على الله، فيدخل المؤمن الجنة والكافر النار.
قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ} [الحج:19] الإشارة لمن ذكر الله من الذين أكرمهم بالجنات، خالدين فيها تجري من تحتها الأنهار، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومن وصف من فئات الكفار والمنافقين، هذان اللذان أشار إليهما بأنهما خصمان اختصموا في ربهم، ثم أعاد الضمير للجمع؛ لأن كل فئة جماعة، والخصم جماعة وليس واحداً، {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19].
قوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج:19] الفئة الثانية التي خاصمت الذين آمنوا هم الذين جادلوا بغير حق وبغير علم وهداية، وبغير كتاب بين واضح.
قوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] نعوذ بالله! فهؤلاء عندما يدخلون النار فالله جل جلاله يجعل ألبستهم وأرديتهم وقمصانهم قطعاً من النار، وقطعاً من الصفر وهو أشد، فإذا النار علقت به يكون حرها أشد ما يكون.
هذا الصفر وهذا النحاس عندما يلبسه الكافر ويجبر على لبسه، ولا يد له في المخالفة ولا يستطيع ذلك، يلبسه في جسده كله: من رأسه إلى قدميه، فيحرق ويمزق ويقطع جسمه كله، ولا سبيل إلى أن يفلت من ذلك: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، فتحترق الجلود والأمعاء والجسد، ثم يعيد الله ذلك ثانية بعد ثانية؛ ليزداد عذاباً وذلاً وهواناً.
قال تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19] فيأتي ملائكة النار فيصبون على رءوسهم الحميم.
قوله: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19] والحميم: هو الماء الحار إلى أغلى درجة الحرارة.
قالوا: وهو نحاس مذاب، فيصب هذا النحاس وهو كالماء الحار في أشد غليان الحرارة يصب من رأسه إلى بدنه.(68/4)
تفسير قوله تعالى: (يصهر به ما في بطونهم والجلود)
قال تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:20] يصهر: يذاب ويسحق.
{مَا فِي بُطُونِهِمْ} [الحج:20] أي: من أمعاء وكرش، وكل ما في الجوف يصهر ويسحق ويصبح رميماً وفحماً ورماداً.
قوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:20] أي: تصهر جلودهم وتذاب مع ما في بطونهم من أمعاء وكرش، حتى يصبح فحماً ورماداً.(68/5)
تفسير قوله تعالى: (ولهم مقامع من حديد)
قال تعالى: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21].
المقامع: جمع مقمع، وهي المرزبة تحملها الملائكة، قالوا: كل ضربة من هذه المقامع لو ضرب بها جبل لتفتت، فيضربون بها الرءوس والظهور والبطون والعظام جميع أعضاء الجسد.
قوله: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21] أي: لملائكة النار مقامع يضربون بها هؤلاء الكفار!(68/6)
تفسير قوله تعالى: (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها)
قال تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22].
أي: هؤلاء في مثل هذه الحالة يحاولون أن يفروا من النار، ولكن كما قال الفضيل بن عياض: أين يفرون؟ فأيديهم مسلسلة، وأرجلهم مكبلة، وهم بين يدي ملائكة النار الغلاظ الشداد، الذي لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
{كُلَّمَا أَرَادُوا} [الحج:22] أي: في كل لحظة خطر ببالهم أو حاولوا ذلك، ولا يستطيعون فعل ذلك وهيهات! فهم أعجز وأذل من ذلك.
{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} [الحج:22] أي: من النار؛ من غمها وكربها وآلامها، ومن حميمها وسعيرها ومقامعها، ومن العذاب الذي فيها بكل أشكاله وألوانه.
قوله: {أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] فبمجرد ما يريدون أو يخطر لهم هذا ببال فإنهم يؤخذون بعنف ويدفعون بعنف، ويضربون بالمقامع، ويصب الحميم على رءوسهم، وتشد الألبسة التي هي من نحاس على أجسادهم.
قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:22] أي: يقال لهم: ذوقوا وتمتعوا، واخلدوا في هذا العذاب المحرق، في جهنم المحرقة نعوذ بالله من الخذلان!(68/7)
تفسير سورة الحج [23 - 25]
وعد الله تعالى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وسيحلون فيها بأساور من ذهب ولؤلؤاً، ولباسهم فيها حرير.
وأوعد الذين كفروا وصدوا عن المسجد الحرام، أو أرادوا الإلحاد فيه بظلم؛ أوعدهم بعذاب أليم.(69/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار)
قال الله عزت قدرته: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23].
بعدما قص الله علينا، وأنذر وأوعد وتهدد المشركين بأليم العذاب، وشديد المحنة، والخلود في النار بالمقامع ومع حريق وأنواع البلاء لعلهم يتعظون ويئوبون ويتوبون من شركهم، ويقولون يوماً: ربي الله، وكما هي عادة القرآن الكريم، فإنه يقرن دائماً بين العذاب والرحمة، وبين البشارة والنذارة، وبين المؤمن والكافر، حتى إذا اشتد يأس الكافر والعاصي والمخالف فإذا بالرحمة تذكر بجانب ذلك، فيتذكر ويئوب ويعود ويقول: ربي الله.
وكذلك المؤمن حتى لا يغتر ولا يستكين لمكر الله فيدخله الغرور والغلو، فيقصر في الطاعة والعبادة، فيجد من النذير والوعيد والتهديد ما يزيده طاعة وتعلقاً وإيماناً بالله.
وهكذا الطاعة والعبادة بين الخوف والرجاء؛ الخوف من غضب الله، والرجاء في رحمته.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الحج:23] أي: الذين آمنوا بالله رباً، وبمحمد نبياً، ثم التزموا القول بالعمل، فعملوا الصالحات، وقاموا بالأركان: شهادة وصلاة وزكاة وصياماً وحجاً، والتزموا فعل الخيرات قدر استطاعتهم، والتزموا ترك المنكرات ألبتة، ومن آمن بالله، ثم عمل الصالحات بما يصدق قوله فعله وفعله قوله، فهؤلاء يكرمهم الله بدخول الجنات التي تجري من تحتها الأنهار مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، والله جل جلاله دوماً يبشر المؤمنين الملتزمين المطيعين بكل رحمة ورضاً ودخول الجنان.
ثم قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} [الحج:23] أي: في الجنة يلبسون الحلية.
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج:23] أساور: جمع سوار، كما هي عادة الملوك في هذا العصر، أو في القديم يلبسون التيجان والأساور واللآلئ، خاصة في أرض الهند وما إليها، ولا يزال بعض ذلك قائماً، ولا يزال ذلك يفعلونه في حفلاتهم وندواتهم ومهرجاناتهم، واستبدلوا ذلك بساعات وسلاسل الذهب، ونياشين الذهب وأوسمة اللؤلؤ وما إلى ذلك.
فالمؤمنون الذين يكرمهم الله ويدخلهم الجنة يلبسهم في الجنة من أنواع الحلي والأساور من الذهب والفضة واللؤلؤ في الأيدي والأعناق والمعاصم، ويلبسون فيها الحرير.
كذلك في الجنان لباسهم الحرير والديباج، وحليتهم الذهب والفضة واللؤلؤ، ومن هنا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرير على ذكور المسلمين، وقال: (من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة).
فقال قوم: لا يدخلون الجنة لأن من دخلها يلبس الحلي، وقال قوم: بلى يدخلون الجنة ولكنهم لا يلبسون هذه الحلية الذهبية، وهذا جزاء من يخالف ويعصي، ويلبس الذهب والحرير في الدنيا.
وقد حرم ذلك على ذكور الأمة المحمدية، وأحل ذلك للنساء، ويلبسه الرجال يوم القيامة في الجنان خالدين مخلدين.
فهذا صفة الجنة وما فيها من حور عين.
وأعظم من ذلك رؤية الله جل جلاله التي ما بعدها لذة ولا نشوة ولا متعة، جاء في الحديث الصحيح: (أن الله يتجلى لعباده في الجنة فيقول لهم: هل أعطيتكم؟ هل ملكتكم؟ هل متعتكم؟ فيقولون: نعم ربنا، فيقول: هل أزيدكم؟ فيقولون: وما تزيدنا يا رب وقد أمتعتنا بما لم تر عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلوبنا؟ قال: بلى، أريكم وجهي، فيتجلى الله لهم ويرونه؛ فيزدادون نعمة ولذة، ويزدادون بهجة) وكيف سيكون ذلك؟ الله أعلم بما هناك.
وكل ما يخطر في بالنا فربنا مخالف لذلك، ولكن الله يرى جل جلاله، وقد قال ذلك ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
وقال عليه الصلاة والسلام كما في الأحاديث المستفيضة المتواترة: (إنكم ترون ربكم يوم القيامة، قالوا: يا رسول الله! كيف نراه ونحن متعددون وهو واحد؟ قال: كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته).
ولله المثل الأعلى، فالقمر واحد ونحن نراه في الدنيا مع أعدادنا في مشارق الأرض ومغاربها، ومع الملايين من سكان الأرض نراه جميعاً وهو واحد غير متعدد، أعني: قمر الأرض.
وهكذا جل الله وعلا على سبيل المثال والشبيه: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60].(69/2)
تفسير قوله تعالى: (وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد)
قال تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24].
يهدى أهل الجنة المؤمنون عندما يدخلون الجنة، ويهيئون لها قبل الدخول.
{إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} [الحج:24] والطيب من القول هو: لا إله إلا الله، والطيب من القول هو: محمد رسول الله، وذكر الله، وقول: والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وجميع الذكر بأسماء الله الحسنى.
فهو الطيب من القول مع الطيب من العمل، والطيب من القول: إخلاص الشهادة لله، وإخلاص الوحدانية والعبودية والذكر، وقول لا إله إلا الله خالصة من قائلها لله، لا يشرك معه فيها أحداً.
{وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24] والصراط: الطريق، والصراط: الإسلام، والصراط: القرآن الكريم، والحميد: الله المحمود جل جلاله، فنهدى بفضل الله وكرمه إلى طريق الله، وما طريقه المستقيم وصراطه الواضح إلا دينه الذي أرسل به محمداً سيد البشر صلى الله عليه وسلم.
وما طريق ذلك إلا القول الطيب في ذكر الشهادتين لله جل جلاله، وما الطريق المستقيم -طريق الله- إلا عمل الصالحات مع القول الطيب والإيمان بالله.(69/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج:25] أي: هؤلاء الذين كفروا بالله قبل، ثم صدوا عن سبيل الله، ومن هنا صح عطف المضارع على الماضي.
كان أهل الجزيرة قبل الرسالة كافرين بالله وبرسل الله، ثم بعد أن جاء الإسلام، وكان المؤمنون لا يزالون قلة، وأراد صلى الله عليه وسلم أن يأتي معتمراً لا محارباً ولا مقاتلاً بعد هجرته إلى المدينة المنورة، وإذا به يأتي ويقف عند الحديبية وإذا بأهل مكة يصدونه ويمنعونه من البيت، ويمنعونه من العمرة، وأدى الأمر إلى الحرب وسل السيوف، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يأتِ محارباً ولا مقاتلاً.
وقد التزم من أول مرة أن يعتمر والسيوف في قرابها، وهي ما تسمى في التاريخ النبوي والسيرة النبوية بمعاهدة الحديبية، فصدوه وأصروا على الصد، ولم يكونوا قبل معروفين بذلك ولا مشهورين به، ما كانوا يصدون العرب عن المجيء إلى مكة لا معتمرين ولا حاجين، ولكنهم صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أتى بالرسالة التي أتى بها، وخافوا على سلطانهم وجاههم ونفوذهم، فظنوا أنهم بصده عن العمرة وعن قصد بيت الله الحرام سيقهرونه ويغلبونه، ولكن يأبى الله إلا نصرته، ويأبى الله إلا ذلهم وهزيمتهم.
فالله يوبخهم ويقرعهم، ويصفهم بأنهم على كفرهم وشركهم بالله كذلك يصدون عن سبيل الله، فيصدون الناس عن بيت الله، وعن طريقه ودينه، وعن الاعتمار والطواف، وعن السعي بين الصفا والمروة، وعن القيام بشعائر الله، وعن تعظيم حرمات الله بما استحقوا به من الله التوبيخ والتقريع والتهديد بالعقوبة الأبدية، والدخول إلى النار إن لم يتوبوا ويئوبوا، وقد تاب الأكثر، وخضع للإسلام ولطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكثر، وإن كان الأكثر ما آمنوا إلا بعد فتح مكة.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:25] أي: عن دين الله وعن البيت الحرام، وعن الكعبة والعمرة والسعي.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:25] أي: عن دينه والدعوة إليه، وعن الرسالة المحمدية.
قوله: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج:25] أي: كما صدوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه والمؤمنين، ودفعوه، وقاوموه، ومنعوه من أن يدخل مكة معتمراً، طائفاً، ساعياً، ملبياً، محرماً، ذاكراً لربه بما استحقوا به من الله التوبيخ والتقريع والنذارة والتهديد والوعيد.
قوله: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] يقول الله جل جلاله: هذا المسجد الحرام الذي جعله الله للناس جميعاً أهل مكة وغيرهم من كل مؤمن بالله ورسوله، جعله للناس سواءً العاكف فيه المقيم الساكن المستوطن، والباد، أي: الذي أتى من الخارج ومن الأقاليم، فبدا وظهر بعد أن لم يكن فيه، ومنه البادي، فبيت الله يقول الله عنه: هذا المسجد، هذا البيت الحرام جعله الله سواءً، أي: على سوية وشركة واحدة، واستفادة واحدة للطواف والذكر والعبادة والسعي، والوقوف بعرفات، والمبيت في منى ومزدلفة، وفي المشعر الحرام، كل ذلك جعله الله سوياً مشتركاً بين المقيم فيه والخارج عنه وغير المقيم، لا فضل لأحد على أحد، فليس للمقيم حق في أن يمنع من هو خارج مكة من أن يدخلها، ويستفيد من سكناها وما فيها.
{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] أي: جعل الله هذا المسجد لكل مسلم من آمن بالله وبرسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ولو جاء من أقاصي الدنيا.
وهنا اختلف علماؤنا ومفسرو كتاب ربنا في معنى (سواء)؟ قال الرواة: لقد كان بيت الله الحرام أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام أبي بكر وعمر جعلت دوره ومنازله للناس سواء -أي: مشتركة- في أن ينزلوها، ويقيموا فيها للعمرة والحج.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى في أيام المواسم أهل مكة أن يغلقوا أبواب دورهم، وأن يدعوها مشرعة لكل معتمر وحاج يجيء في الليل أو النهار؛ ليدخل البيت ويأخذ الغرفة، ويستفيد مما فيها على أنها بيته الذي يقيم فيه مدة العمرة والحج دون مقابل بتمليك الله له ملك انتفاع.
وليس لسكان هذه الدور أن يبيعوها أو يؤجروها أو يتوارثوها أو يهدوها، فهي ملك مشترك لكل مسلم، ومن أقام فيها إنما أقام انتفاعاً، قال هذا عمر وأبو بكر، وكان هذا الأمر مدة مقامهما في الخلافة، ومدة النبوة وعصرها صلوات الله على نبينا ورضوان الله على أصحابه.
وأكد هذا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وقال: من أكل مال بيوت مكة أو إيجارها -سواء إيجاراً موقوتاً أو إيجاراً- فقد أكل النار في بطنه.
وهذا مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة والأوزاعي، وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد رحمهم الله ورضي عنهم.
وأكدوا ذلك بهذا النص، بقول الله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] قرئ: سواءً، وسواءَ؛ في القراءات السبع المتواترة.
وقال الشافعي: دور مكة لأهلها، ويجوز تملكها وإيجارها.
وأصل هذا الخلاف مبني على خلاف سابق، وهو: هل مكة فتحت عنوة؟ فإذا كانت كذلك فهي ملك مشترك للمسلمين، وغنيمة دائمة لهم كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أراضي السواد، وفي الأراضي التي فتحها أيام خلافته، واعتبرها ملكاً مشتركاً بين المسلمين لا تباع ولا تشترى، ولا توهب ولا تعطى ولا تورث، فهي مشترك بين المسلمين لموارد الدولة من رواتب وجيوش وإصلاح طرق، وما تحتاج إليه الدولة في جميع مرافقها.
قالوا: ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة عنوة تركها لأهلها فلم يقسمها، على ألا ينفردوا بها ملكاً للرقبة، ولكنه ملك انتفاع، وعلى ألا يمنعوا منها المقيم والبادي، من داخل مكة أو خارجها من كل عابد أو طائف ورد من الخارج لها.
بل عمر رضي الله عنه كان يمنع أهلها أن يغلقوا أبواب دورهم أيام المواسم على المعتمر والحاج.
وأما الشافعي فقال: فتحت صلحاً، وما كانت من دماء أريقت في الجانب الذي قاد جيوشه خالد بن الوليد فلم تكن حرباً بمعنى: الفتح والقهر، وإنما كانت مناوشات لردع هؤلاء الذين أبوا إلا أن يعارضوا الجيش النبوي.
وأكد الإمام الشافعي ذلك بقول النبي عليه الصلاة والسلام عندما جاء فاتحاً وأسرت جيوشه كبير الكفر إذ ذاك وقائده أبا سفيان بن حرب، فجاءه العباس عمه عليه الصلاة والسلام وقد ترك عنده أبا سفيان أسيراً، فقال العباس: (يا رسول الله! إن أبا سفيان يحب الفخر، فلو جعلت له شيئاً، فبعث النبي عليه الصلاة والسلام أبا سفيان نفسه لينادي في طرق مكة وأزقتها وفي البيت الحرام وفي الدروب: أن من دخل داره فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن).
قال الشافعي: وبذلك أعلن النبي عليه الصلاة والسلام أنه يريد أن يدخل مكة وهي مفتوحة له دون مقاومة ولا معارضة ولا مجابهة.
قال: فكان له ذلك في أكثرها.
وما اعتبر المناوشات التي وقعت تحت قيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه إلا شيئاً لا يكاد يذكر كحرب كانت نتيجتها الغنائم، وأخذ الأرض، واستعباد من في البلدة.
وعلى كل اعتبار: سواء قلنا بالرأي الذي قاله الصحابة أو أكثرهم رضي الله عنهم، وما دان به الإمامان الجليلان أو الأئمة الأجلاء مالك وأبو حنيفة والأوزاعي، أو قلنا برأي الشافعي ومن معه، فكل العلماء والفقهاء قالوا: يجب على أهل مكة أيام المواسم أن يكونوا كرماء نبلاء، وأن يكونوا فاتحين بيوتهم لهؤلاء الحجيج الذين أتوا عبادة لله، فيقوموا بمساعدتهم، وخفض الجناح لهم، وفتح دورهم لهم ليأجرهم الله على ذلك ويثيبهم، كيف وقد كان هذا مسترسلاً ومتواتراً أيام أهل مكة حتى في جاهليتها، وكانوا يتفاخرون بذلك.
فكان منهم من له الرفادة ومن له السقاية ومن له الضيافة، وكانوا يجعلون ذلك عاماً شاملاً لكل وارد من الخريف للعمرة والحج.
وقال بعضهم: تفسير الآية ليس هذا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] أي: من حيث الحرمة والقدسية، ومن حيث ترك المنكرات وفعل الخيرات كما يأتي في آيتين قريباً، وهما قوله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، وقوله: {َمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
قال هؤلاء في تفسير الآية: معنى ذلك: أن القدسية والاحترام والتعظيم، وفعل الطاعات وترك المنكرات، والزيادة في العبادة، وترك ما يسيء وما يعصون فيه في مكة ليس هذا مطالباً به أهل مكة فقط، بل كل من دخلها سواء المقيم فيها أو الخارج عنها من الباد، فكلهم أمروا عند دخولهم مكة أن يحرصوا على ألا يفعلوا إلا الخيرات، وأن يبتعدوا عن المنكرات جهدهم؛ لأن الحسنة في مكة بمائة ألف، والسيئة كذلك بمائة ألف.
وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب(69/4)
تفسير سورة الحج [26 - 28]
إن أول بيت وضع للناس في الأرض هو بيت الله الحرام، فقد بناه أبونا آدم عليه السلام بأمر الله سبحانه، ولما مرت على هذا البيت السنوات الطوال، واكتسحته السيول اختفى تحت التراب والرمال واندثر، فلما شاء الله تعالى أن يحييه وأن يظهره مرة أخرى أمر سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل ببناء هذا البيت مرة أخرى، فأظهر لهما مكان البيت وقاعدته الأولى، فبنيا عليها البيت الحرام.(70/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً)
قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26].
هذه الآية وما يأتي بعدها بها سميت السورة بسورة الحج، وابتدأ الله جل جلاله الآية بذكر بناء هذا البيت المقدس، فقال: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] (بوأنا) جعلناه متبوأً، وكشفنا لإبراهيم عندما أمرناه ببناء الكعبة هذه البنية المقدسة عن أساسه ومكانه حيث كان من أيام آدم.
قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96] فليس لأهل مكة فقط، ولا للعرب فقط، ولا للعجم فقط، بل لكل العالمين: العوالم الماضية والعوالم الآتية وإلى يوم النفخ في الصور.
ولكن لا يأتيه إلا مسلم؛ لأن الحج والعبادة والطاعة وفروع الشريعة لا تقبل إلا بعد الشهادتين، وهو الشرط الأول، فلا بد في كل عمل من نية، ومن لم يكن موحداً فإنه ينوي عبادة عيسى، أو ينوي عبادة العزير، وتلك نية فاسدة، وشرك قائم، فلا عبادة له ولا طاعة له، وبالتالي لا ثواب ولا جزاء ولا شكور.
وكلمة (بوأنا مكان البيت) معناه: أن إبراهيم جدد البيت وبنى قواعده بعد أن اندثر ولم يبق له مكان، وطمس مكان الأساس وموقع البيت فما عاد يعرفه أحد، إلى أن كشف الله لعبده إبراهيم وإسماعيل مكان البيت وأساسه والبقعة التي كان فيها.
قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] أي: مكان بيت الله الحرام الذي ستجدد بنيته وتعلو الكعبة كما كانت أيام آدم، ولذلك من المعروف أنه ما من نبي من الأنبياء، ولا صالح من الصالحين منذ آدم أبينا وحواء أمنا إلا وطافوا بهذا البيت العتيق، وبهذا البيت الحرام الذي أكرم الله به العرب، وجعله في أرضهم وبلدهم، وفرض على كل الخلق أن يأتوا إلى هنا مرة في العمر طائفين، عابدين، محرمين، ينادون ويجأرون: لبيك اللهم لبيك.
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] قالوا: جاءت ريح عاصفة كشفت عن الأساس حتى رآه إبراهيم وإسماعيل.
وقال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] وبما أن إبراهيم الأب الأكبر فإن الله يقتصر أحياناً على ذكر اسمه في الآيات، كما في قصة موسى وهارون كثيراً ما يقتصر على اسم موسى، وكان أخوه هارون مؤازراً ووزيراً وشريكاً له.
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج:26] أي: جعل العبادة عند الكعبة لتكون محوراً للقبلة ومحوراً للطواف، لهذا النوع الفريد من أنواع العبادة الذي لا يكون في مكان إلا فيها.
فقوله: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج:26] أول شرط: أن تبنى الكعبة على اسم الله وحده، وعلى عبادته وحده، وعلى توحيده وألا شريك به، فالله أمر نبيه إبراهيم بذلك ويأمر غيره بذلك.
وقوله: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج:26] أي: لا شركاً جلياً ولا خفياً، فالرياء والسمعة شرك خفي، فاحرص على أن تكون العبادة خالصة لله، فإن الله لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصاً له.
وقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26] جمع طائف، والطواف لا يعرفه إلا من جاء إلى مكة، فلا يعرف الناس في الخارج عبادة سوى الصلاة والصيام والصدقة فقط وما إليها من العبادات، وأما عبادة الطواف فلا تعرف إلا هنا، ولا تكون ولا تصح إلا هنا، والطواف بغير البيت يكون شركاً، وبعض الجهلة يطوف ببعض الأضرحة وهذا بلاء من البلاء لا يجوز، بل يكون شركاً، فنحن لم نؤمر بالطواف إلا عند الكعبة، والطواف بالبيت صلاة لا يكون إلا على طهارة ووضوء، وإن كان يحل فيه الكلام بقلة، وإلا فالطواف مشتمل على أذكار وتوحيد، وعلى ذكر وعبادة.
إذاً: فالطواف بالبيت عبادة كالصلاة.
وقوله: {وَالْقَائِمِينَ} [الحج:26] جاء تفسير القائمين بالعاكفين كما في سورة البقرة، والقرآن يفسر بعضه ببعض، قلنا: إن القائمين بمعنى العاكفين؛ لأن العاكف هو المقيم والقائم، والمقيم هو المنقطع للصلاة والصيام والطواف، والمعتكفون هم المقيمون للعبادة؛ لتفرغهم لها، ولما ألهمهم الله إياه وقدرهم عليه.
وقوله: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] الركع: جمع راكع، والسجود: جمع ساجد، أي: للمصلين.
ولا يكون الركوع والسجود إلا في الصلاة، ويؤكد هذه الآية ما جاء في سورة البقرة: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]، والطهارة المطلوبة هي الطهارة الحسية والمعنوية.
أما الطهارة الحسية فهي: أن يكون البيت دائماً نظيفاً من الروائح والأزبال وأوساخ الأطفال، وأن يحرص على ذلك في كل وقت، ونظيفاً من المقيمين فيه، فلا ينبغي أن يدخل المسلمون إليه بألبسة وسخة قذرة، والقضية ليست قضية فقر أو غنى، القضية قذارة أو وساخة، وكان ينبغي أن يمنع الوسخ من دخول بيت الله الحرام؛ لأن مؤسس البيت وبانيها بأمر الله إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت.
والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بأن من وجدت فيه رائحة الثوم والبصل أن يمنع من دخول المساجد عموماً، ومن بيت الله الحرام من باب أولى، ومن المسجد النبوي كذلك.
فإذا كان هذا لمجرد رائحة من عشبة طاهرة حلال بتحليل رسول الله عليه الصلاة والسلام لها فكيف بمن يدخل قذراً وسخاً، وفيه روائح الدخان والأوساخ؟! مع أن الماء كثير، وعود الأراك يكاد يكون مجاناً.
إذاً: فهذه القذارة ليست من أخلاق الإسلام، ولا من آداب الدخول لبيت الله الحرام.(70/2)
تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً)
قال الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27].
أمر الله إبراهيم بعد إتمامه لبناء بيت الله الحرام أن يؤذن بالحج في الناس، وبيت الله الحرام الكعبة، وهي هذه البنية التي نراها، وما يسمى بحجر إسماعيل هو من الكعبة، ولهذا يطاف عليه، وفي الجاهلية جاءت سيول جارفة فهدمت البيت فقلت بقريش النفقة فاقتصدوا، فلم يبنوا البيت على قواعد إبراهيم، ومن هنا كان الركنان الشاميان لا يمسان؛ لأن هذين الركنين من الكعبة، ولا يتم الطواف إلا من خلفهما.
فقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] أي: يا إبراهيم أذن وأعلن بالحج، وليكن أذانك ودعوتك ونداؤك بالحج، وبالمجيء والقصد لهذا البيت الحرام، وليعبدوا الله عبادة خاصة عند البيت الحرام، طوافاً ووقوفاً بعرفة, وسعياً بين الصفا والمروة، ومبيتاً بمزدلفة، ووقوفاً عند المشعر الحرام، والبقاء يومين أو ثلاثة أيام أو أربعة أيام في منى، والكل يأتي متجرداً حاسر الرأس، لا يلبسون مخيطاً ولا محيطاً.
قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} [الحج:27] فقال إبراهيم: يا رب! كيف أبلغهم صوتي؟ قال: أنت نادي وأنا أوصلهم صوتك، فصعد على جبل أبي قبيس -ولا يزال يسمى بهذا الاسم- وأخذ ينادي: يا أيها الناس! أطيعوا أمر ربكم: حجوا بيته الحرام، قال: فأسمع الله كل من وجد إذ ذاك، ومن لا يزال في أصلاب الرجال وفي أرحام النساء ممن سيعتمر أو يحج إلى يوم القيامة.
ومن هنا: كان أول شيء نقوله بعد الإحرام والغسل والصلاة ركعتين: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وهذا جواب لنداء إبراهيم عليه السلام.
وقد فعل إبراهيم ما أمر ربه، وقد سمعناه -ولله الحمد- ونحن في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، وجئنا نقول: لبيك اللهم لبيك، لا نريد إلا رضاك ولا نريد إلا رحمتك فتقبلنا، واقبل أعمالنا، وهكذا كل من يكرمه الله بأداء العمرة وأداء الحج أو بهما معاً.
وقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ} [الحج:27] جواب الأمر: أنهم سيستجيبون لك ويأتونك، وقد فعل، وقد أتوا والله أعلم بهم، فمنذ أذن إبراهيم بالحج وعند تجديد نبينا عليه الصلاة والسلام للحج كما كان أيام إبراهيم، والناس لا تنقطع عن الطواف بهذه البنية المقدسة لا ليلاً ولا نهاراً، فكل بيوت الله تغلق ليلاً وبعضها يغلق ما بين الصلوات إلا بيت الله الحرام، فلا تغلق أبوابه؛ لأن الطواف لا وقت له، فهو بالليل وبالنهار، وهو في الصيف وفي الشتاء، وهو في الصحة وفي المرض.
وأذكر منذ بضع سنين أن سيولاً جاءت فارتفع الماء إلى أن وصل إلى أبواب الكعبة، فتوقفت الصلاة في الحرم يومين، وعز على الكثيرين أن يروا الكعبة لا يطوف بها أحد، فنزلوا يطوفون سابحين عائمين، وقد أغراهم بعض من أخذ يطوف وهو يحسن السباحة والعوم، فلما نزل بعضهم ممن لا يعرف السباحة غرقوا وماتوا، فاضطر المسئولون أن يمنعوا الطواف؛ لأن الناس تعرضوا للموت.
وقوله: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] رجالاً: جمع راجل، كصيام: جمع صائم، وقيام: جمع قائم، أي: يأتون على أرجلهم مشاة.
وقوله: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] الضامر: هو المضمر من الخيل والإبل والدواب، فهو يهيأ لذلك برياضة خاصة وسياسة خاصة؛ لتبقى البطن مرتفعة، ويبقى قوي الجلد وقوي الحركة؛ ليكون أسرع في المشي، وقطع المسافات بين المدن والأقاليم، فمعناه: يأتوك راجلين وركباناً.
وقوله: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] الفج: هو الطريق، والعميق: هو البعيد.(70/3)
أقوال العلماء في أفضلية الركوب أو المشي في الحج
لقد اختلف أئمتنا وأعلامنا: هل الحج ماشياً أفضل أم الحج راكباً؟ فمذهب الشافعي: أن الحج راكباً أفضل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام حج راكباً، والفضل دائماً بالأسوة النبوية، وبما أن النبي عليه الصلاة والسلام حج راكباً فالحج راكباً أفضل.
وقال المالكية: ليس الأمر كذلك؛ فالله قدم الرجال على الضامرين، فلما قدم رجالاً على كل ضامر دل ذلك على أن الحج ماشياً أفضل.
وقالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال عند السعي: (أبدأ بما بدأ الله به)، وقال الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] فبدأ السعي من الصفا، وهو قد أعطى الأسبقية والأفضلية لما قدمه الله في الآية، وهذا حكمها كذلك.
إذاً: الحج ماشياً له الأفضلية والأسبقية؛ لأن الفعل النبوي في السعي بدأ من الصفا، وأما كون النبي عليه الصلاة والسلام لم يحج ماشياً فهذا يجب أن يكون معروف المعنى؛ لأن من العادة النبوية والهدي النبوي إذا خير بين أمرين اختار أيسرهما على أمته، فلو حج عليه الصلاة والسلام ماشياً في حجة الوداع التي حج فيها معه مائة وعشرون ألف حاج، وفيهم الشيخ الهرم، والعجوز الشمطاء، والطفل الصغير، وفيهم المريض، فلو حج ماشياً لما استطاع أحد ممن معه أن يحج راكباً، فكيف يحج راكباً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحج ماشياً، فهذه قلة أدب، وقلة ذوق، فخير له ألا يحج راكباً ورسول الله على قدميه، ومن العادة النبوية أن يختار الأيسر على أمته، فركب عليه الصلاة والسلام تخفيفاً على من معه من الحجيج، والأمر واضح.
وكان ابن عباس يفضل الركوب في الحج، وفي أخريات أيامه وكان قد أضر في بصره، وضعف في بدنه فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لحججت بيت الله ماشياً؛ لأنه تأكد له بعد ذلك أن من حج ماشياً أفضل.
وحج الكثير من الصحابة والتابعين والصالحين مشاة، وأكثر من حج ماشياً هم المالكية، ونحن نرى الآن الأفارقة السود ومن يأتي من المغرب العربي من يأتي من هذه البلاد التي تدين بمذهب مالك يأتون مشاة؛ لأنهم يعتبرونه الأفضل.
وليس من الضروري أن يمشوا مسرعين، وإنما يمشون يوماً وليلة ثم يستريحون، أو يمشي كل واحد منهم ما يستطيع ثم يستريح ساعة أو يستريح للأكل والقيلولة وغير ذلك، ومع الأيام يكسبه ذلك قوة ومراناً وصلابة في الأعضاء والعصب، وضموراً في البطن، ويجد راحته في المشي، ولكن الله تعالى لا يكلف أحداً أكثر من طاقته، فما جعل علينا في الدين من حرج.(70/4)
تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات)
قال الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28].
قوله: (ليشهدوا) أي: ليحضروا منافع لهم، وما هي هذه المنافع؟ هي منافع دنيوية ومنافع دينية، فالمنافع دنيوية مثل: السياحة والاجتماع بالمسلمين ومعرفة ما يجري في الدنيا، والتجارة.
ولا مانع للحاج أن يتجر إذا كانت التجارة عارضة زائدة لا أن يأتي للحج بقصد التجارة، فإن نوى ذلك فسد حجه وكان حجه للدنيا وللتجارة لا للعبادة.
فقوله: {مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] من تجارة وتعارف وسياحة، ومن صحة كما قيل: سافروا تصحوا وتغنموا وتزدادوا خيراً، فإن كان طالباً يتعرف على العلماء فيروي عنهم ويروون عنه، ويربط سنده بسندهم، ويعلم حكمة زائدة، ويعود وقد عرف أن الدنيا ليست البقعة التي يعيش فيها خاصة، فمن يأتي من بعيد من فج عميق كالشرق الأقصى والغرب الأقصى، فهؤلاء يحجون مرة ويبقون يتحدثون العمر كله عن هذه الحجة، رأيت فلاناً في مكة وفلاناً في المدينة، ومن عوائدهم كذا، ومن قولهم كذا، وحضرت درس كذا، واستفدت كذا، ورأيت عادة طيبة ينبغي أن نصنعها.
والمنافع الدينية من عبادة لله، ومعلوم أن من خرج من فريضة الحج وقد أداها بأركانها وواجباتها وآدابها رجع منها كيوم ولدته أمه، ومحيت عنه كل سيئة مطلقاً، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، وأي منفعة وفائدة أعظم من هذه! وقوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28] أي: ويذكر الله ذكراً مستمراً متتابعاً في أيام معلومات.
والأيام المعلومات: هي العشر الأوائل من ذي الحجة، كما في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2] أي: العشر الأول من شهر ذي الحجة، وهي من أول يوم إلى يوم النحر.
وكان عليه الصلاة والسلام يصومها بما فيها يوم عرفة، ولكن الحاج لا يستحب له صيام يوم عرفة؛ ليكون أقوى للعبادة كالمجاهد، فالمجاهد في رمضان ينبغي أن يفطر؛ لأن ما هو فيه يحتاج للقوة والصلابة والصمود.
وقال قوم: الأيام المعلومات هي يوم النحر، ويومان بعده.
وقال قوم: الأيام المعلومات هي يوم النحر وثلاثة أيام بعده، أي: أيام التشريق وعلى أي اعتبار فكثرة العبادة فيها مطلوبة، وشأن الحاج أن يكون في العشر الأوائل من ذي الحجة بين طواف وذكر وتلاوة وصلاة وتهجد وصيام، فهو في عبادة مستمرة، ثم يأتي اليوم الثامن يوم التروية، ثم يوم عرفة، ثم يوم النحر، ثم يومان أو ثلاثة أيام منىً، فلكل يوم وظيفة، ولكل يوم عبادة.
وفي الحج الحركة والنوم واليقظة والأكل والشرب عبادة، والجلوس في البيت والنظر إلى الكعبة المشرفة عبادة، ولقاؤك بالمسلمين وتعرفك عليهم والاهتمام بشئونهم وذكر ما يجري في بلادكم وبلادهم عبادة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم).
فتصوروا أن هذا كان منذ ألف وأربعمائة عام، فلم تكن هناك صحافة ولا طيران ولا هاتف سلكي ولا لا سلكي، ولا بريد بهذا الشكل، ولا مواصلات، فليس هناك إلا الدابة والرجل، والبحر في السفن الشراعية، قد تركب وتقدر أن تصل في أسبوع وتجد نفسك في البحر شهرين، كما قال الشاعر: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن وما أكثر ما يحصل من اقتراب السفن من الشواطئ المرادة من المشرق العربي وإذا برياح شديدة تدفع بالسفينة إلى الغرب من حيث جاءت، ومن يقرأ رحلات ابن جبير، ورحلات ابن بطوطة وأمثالهما يجد الكثير الكثير من هذا.
فكان الحج مؤتمراً سنوياً عالمياً، وجعله الله ركناً من أركان الإسلام الخمسة التي لا يتم إسلام المسلم إلا بها، فكان المسلمون يجتمعون ليتشاكوا ويتباكوا، ويعلموا ما يسرهم وما يضرهم.(70/5)
تفسير سورة الحج [27 - 28]
لقد أمر الله تعالى عبده إبراهيم بأن يؤذن في الناس بالحج، فقام نبي الله تعالى بذلك فأبلغ الله صوته إلى كل من كان في الأرض في ذلك الزمان، ومن كان في أصلاب الآباء، فصار الناس في ذلك الزمان وما بعده يلبون هذه الدعوة من هذا النبي الكريم، فيأتون قائلين: لبيك اللهم لبيك.
ولهم في هذا الحج منافع دينية ومنافع دنيوية، وهذا من فضل الله تعالى علينا أمة الإسلام.(71/1)
تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً)
قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:27 - 28].
قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} [الحج:27] الجمهور على أن معناها: أن الله أمر إبراهيم عندما بنى البيت بأمر الله أن يعلم الناس ويؤذن في الناس على جبل أبي قبيس ليدعوهم إلى حج بيت الله الحرام.
وقال قوم: الكلام مستقل بعد الآية الماضية وهي قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26].
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} [الحج:27]: كلام جديد مستأنف، وهو أمر لرسولنا ونبينا صلوات الله وسلامه عليه، أي: يا محمد! أعلم الخلق بحج هذا البيت وزيارته والطواف حوله.
واستجاب صلى الله عليه وسلم وقال فيما صح عنه وتواتر أنه قال عليه الصلاة والسلام: (ألا فحجوا فإن الله يأمركم بالحج).
وهكذا أصبح الحج من شعائر الإسلام، وأحد أركانه الخمسة الرئيسية الأساسية، ولكن الجمهور على أن الخطاب كان للجد الأعلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه صلاة الله وسلامه.
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] أي: بالقصد والعبادة والزيارة لهذه البطاح المقدسة، وبالطواف بالكعبة والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف في عرفات، والمبيت في مزدلفة، والوقوف في المشعر الحرام، والمبيت في منى يوم النحر ويومي منىً، ثم الطواف بالبيت بعد ذلك.
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] أي: يستجيبوا لك، فيأتوا لما أمرتهم به راجلين على الأقدام، وركباناً على الإبل والخيل والدواب.
{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] أي: على كل مضمر من الإبل ومن الدواب، ومعنى (ضامر) مهيأ ومضمر للرحلة والسياحة والتنقل بين الأقاليم والأقطار مشرقاً ومغرباً إلى قصد بيت الله الحرام في مكة المكرمة.
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] رجالاً: جمع راجل، كقيام جمع قائم، وصيام جمع صائم، أي: يأتوك ماشين على الأرجل، وراكبين على الإبل المضمرة والخيل والدواب.
واختلف علماؤنا هل الحج مشياً أفضل أو ركوباً؟ وقد قلت: إن الشافعي رحمه الله والجمهور على أن الحج راكباً أفضل، ائتساءً برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حج راكباً.
وقال مالك وغيره من الأئمة: الحج مشياً أفضل، واحتجوا بفعل رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما جاء للسعي بين الصفا والمروة فقال: (نبتدئ بما بدأ الله به) فقد بدأ الله بالذكر بالصفا ثم المروة، فابتدأ السعي من الصفا إلى المروة.
وقياساً على هذا وأن ما قدمه الله له حق التقديم، قال مالك: قدم الله ذكر الماشين على الأقدام في قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] فالحج راجلاً أفضل.
وبطبيعة الحال فإن ذلك على من استطاعه واحتمله، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
وأما الاحتجاج بفعل رسول الله عليه الصلاة والسلام فالأمر هنا ليس كذلك، فقد كان من الهدي النبوي والسيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما على أمته.
والأيسر على أمته أن تحج ركباناً، وأيضاً لو حج رسول الله عليه الصلاة والسلام ماشياً في حجة الوداع وهي الحجة الوحيدة، وقد حج معه فيها مائة وعشرون ألفاً من الأصحاب فيهم الشيوخ الركع، وفيهم الأطفال الرضع، بل منهم من ولد في الطريق، فقد ولدت أسماء بنت أبي بكر وهي في الطريق.
فلو حج الرسول عليه الصلاة والسلام ماشياً لأتعبهم، ولمنعهم من الركوب الحياء، فسيكون رسول الله ماشياً على قدميه وهم ركبان، فسيرى ذلك من قلة الأدب، ومن عدم الحرمة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ولو فعلوا كفعله لو حج ماشياً لأجهدهم ولأتعبهم، ولهلك الكثير في الطريق قبل الوصول.
ولم يكن هذا من السيرة النبوية التي فيها الشفقة والرحمة بأمته وبأتباعه من المؤمنين، وعلى ذلك: فلقائل أن يقول كما قال مالك: ما ترك عليه الصلاة والسلام الحج ماشياً إلا رحمة بأمته، وشفقة من إجهادها وإتعابها.
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] قال ربنا جل جلاله: يأتين، وقد ذكر ضامراً مفرداً، فكيف عاد الضمير جماعة؟ قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] فكل دلت على أن الكثيرين سيأتونك على إبل ضامرة وخيل مضمرة ودواب مهيأة ومعدة لذلك، فبهذا الاعتبار عاد الضمير جماعة، وهو يعود على غير العاقل مؤنثاً كما في هذه الآية.
{يَأْتِينَ} [الحج:27] أي: يأتي هؤلاء الضمار ومن يركبها من البشر.
{مِنْ كُلِّ فَجٍّ} [الحج:27] أي: من كل طريق عميق بعيد، وهكذا الأمر ولا يزال منذ فجر الإسلام يأتي الحجيج إلى زيارة وإلى حج بيت الله الحرام من أقصى ديار الدنيا شرقاً من الصين، وأقصى ديار الدنيا غرباً من المغرب الأقصى وما خلفه.
وهكذا استجاب الناس لدعاء ونداء النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد قلنا: إن النبي إبراهيم أو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد علم أن صوته لن يبلغ إلى كل أحد في الأرض ليستجيب لهذا النداء الكريم، ولكن الله قال: سأبلغ صوتك يا إبراهيم أو يا محمد عليه الصلاة والسلام.
وقد قالوا: إن كل من حج منذ النداء النبوي والأمر الإلهي كان قد بلغه وسمع الصوت إلهاماً من الله وهم لا يزالون في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم.
وهذا معنى كون الحاج عندما يغتسل ويصلي ركعتي الإحرام ثم يبتدئ بعد ذلك فيقول: لبيك اللهم لبيك.
فهي استجابة للنداء الأزلي، للنداء الإلهي، للنداء النبوي عندما دعي وهو لا يزال في الرحم وفي الصلب، فعندما استطاع أن يتكلم وبرز للوجود بحواسه الباصرة والمتكلمة والسميعة، فخرج يقول: لبيك اللهم لبيك.
ولا تكون لبيك إلا إجابة نداء، إلا نعم بأقصى أنواع الأدب، ولا يزال هذا في لغة ولهجة أهل الحجاز إذا نودي منادى فإنه من الأدب يجيب: لبيك لبيك.
والتلبية: الاستجابة، ومعنى لبيك لبيك: الاستجابة والتكرار بالاستجابة مرة بعد مرة.(71/2)
تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات)
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28].
قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] المنافع جمع منفعة، أي: ليحضر هؤلاء المنادون والحجيج إلى الديار المقدسة وإلى بيت الله الحرام؛ ليشهدوا ويحضروا منافع لهم؛ منافع دنيوية ومنافع دينية، فمن المنافع الدنيوية: التعارف بين المسلمين، وإن كانت الغاية دينية إن أرادوا ذلك.
ومن المنافع الدنيوية: التجارة والبيع والشراء.
والدينية: عفو الله ومغفرته كما قال الإمام محمد الباقر.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال بأن الحاج الذي يخرج من الحج وقد قبل منه يخرج كيوم ولدته أمه لا ذنب ولا خطيئة، فكل ذلك يغفر، وكل ذلك يعفى عنه، ويبتدئ حياة جديدة بأعمال جديدة.
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] أي: ليذكروا الله ذكراً متتابعاً متواصلاً بأنواع من العبادات: تالين ومصلين وذاكرين وطائفين بالبيت الحرام وبالكعبة المشرفة، وساعين بين الصفا والمروة، وواقفين في عرفة، إلى بقية مناسك الحج فكل ذلك عبادة.
والحاج منذ أن يحرم ويصلي ركعتي الإحرام، ويغتسل قبلهما ويقول: لبيك لبيك، فهو في عبادة سواءً كان صاحياً أو كان نائماً، ومادام أنه أحرم من هناك كما استحب ذلك الكثير من الفقهاء والأئمة -وإن كان خلاف المنصوص وخلاف الوارد- فبمجرد ما يبتدئ الإحرام من مواقيته فهو في عبادة متصلة إلى أن يعود لبلده، والعبادة بكل أشكالها ذكر لله، ذكر باللسان وذكر بالجنان وذكر بجميع حواس الجسد.
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] الأيام المعلومات عند الجمهور: هي العشر الأول من شهر ذي الحجة، وكان يصومها صلى الله عليه وسلم جميعاً سوى العيد، فإن العيد يحرم صيامه.
وقد قالوا في تفسير قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2] أن الليالي العشر في الآية هي العشر الأول من شهر ذي الحجة.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الأيام المعلومات هي: يوم عرفات، ويوم النحر، ويومان بعد يوم النحر.
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: الأيام المعلومات يوم النحر، وأيام التشريق بعد يوم النحر.
وقال سعيد بن جبير: أيام التشريق.
وعلى كل: فهذه الأيام التي أشار الله إليها تارة بمعلومات وتارة بمعدودات علمت ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة، فهي (معدودة) أي: قليلة.
و (معلومة) قد عرفت ببيان رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي كلف بالبيان، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].
أي: يذكرون الله شاكرين، حامدين، مثنين على الله جل جلاله.
{عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28] (البهائم) تدخل فيها البهائم المركوبة التي لا يحل أكلها من خيل وبغال وحمير، وإنما جعلت للركوب على خلاف في بعض ذلك.
والإبل تؤكل باتفاق، والخيل بكراهة ومنهم من حرمها، وأما البغال والحمير فقد حرمت.
فال الله: {بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28] ليعلمنا ويشعرنا ويدعونا إلى أن نذكر الله، ونقدم الهدي ونقدم الذبائح في الحج ونحن نذكر الله، وألا تكون إلا من الأنعام، والأنعام هي: الإبل والبقر والغنم.
ومن المعلوم في الضحايا أن الإبل أفضل ثم البقر ثم الغنم، ويشترك في البعير سواء كان ناقة أو جملاً يشترك فيه سبعة ويكون مجزياً عنهم، وكذلك البقرة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، وقد أوتي للنبي عليه الصلاة والسلام من اليمن بمائة بدنة، أتى بها علي رضي الله عنه، فنحر منها بيده الكريمة عليه الصلاة والسلام ثلاثاً وستين بدنة، وذبح ونحر الباقي علي رضي الله عنه.
فكان يقول عند الذبح: باسم الله، اللهم منك وإليك، عمن لم يهد من أمتي.
وكان يذبح بعض ذلك عن أسرته وعائلته الشريفة.
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28] أي: ما رزقهم منها للهدايا وللضحايا وللرزق وللأكل وللاستنفاع سواء في الحج أو في غير الحج، فالله قد خلقها لنا وأحلها لنا حضراً وسفراً، وفي الحج تعتبر هدايا وتطوعاً بالنسبة لمن لم يكن عليه جزاء فدية أو جزاء في شيء أفسد به حجه، أو خالف فيه بعض ما يجب ألا يخالف، أو كان متمتعاً أو قارناً فكذلك عليه ذنب.
قال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] أمرنا أن نأكل منها، وقد اختلف العلماء في نوع هذا الأمر هل هو أمر وجوب أم أمر استحباب؟ وقد قال الظاهرية ومن يقول بقولهم: إنه أمر وجوب، وقال به من كان اجتهاده اجتهادهم ممن اعتبروا الأمر باستمرار هو للوجوب ما لم يأت ما يصرفه عن ذلك.
ولكن الجمهور في ذلك فصلوا وقالوا: أما الهدايا وضحايا التطوع فيؤكل منها، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما نحره من الإبل أمر بأن يقتطع من كل بدنة قطعة لحم وطبخ ذلك فأكل من لحمها وشرب واحتسى من مرقها، وتصدق بالباقي؛ لأن الله أمر وقال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28].
فنحن قد أمرنا أن نأكل من هدايانا وتطوعنا، وأن يأكل معنا منها البائس الفقير.
وقال بعض أهل العلم: تقسم أنصافاً، نصف للمضحي، وللمهدي، وللمتطوع، والنصف الآخر للفقراء والمساكين.
وقال البعض: تقسم أثلاثاً: ثلث لنفسه ولعياله، والثلث لطبقة من الناس الذين لا يطلبون ولا يسألون ولا يتسولون ممن يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، كما سيأتي في تفسير القانع والمعتر، والثلث الآخر لمن يسأل؛ للبائس بالمرة، كما قال تعالى في هذه الآية الكريمة.
وأما الأكل من الهدايا ومن التطوع فقد أجمع الفقهاء على حل ذلك وجوازه، وقالوا: الأكل في الآية هو متعلق ومرتبط بالهدايا والتطوع.
وقالوا: ليس الأمر أمر وجوب، وإنما هو أمر إجازة وإباحة، فإن شئت أن تأكل فكل، وإن لم تشأ فلا تفعل، ولكن هذا مختلف ومخالف للأسوة النبوية؛ فقد أكل صلى الله عليه وسلم شيئاً سمي أكلاً، فهي قطعة لحم من كل ناقة طبخت مع بعضها وأكل منها بعضاً، واحتسى من مرقها، والباقي تصدق به جميعه، وهو أشبه بألا يكون أكل منها إلا لامتثال هذا الأمر في الآية.
وهذا موضع إجماع من الأئمة الأربعة وغيرهم.
وقال مالك: يباح الأكل من التطوع، ولا يباح الأكل من دم القران إذا كان حج مقرناً، ولا حج التمتع، ولا جزاء الصيد، ولا ما ذبح لفساد وقع بالحج؛ لأن هذا الذبح واجب لا يتم الحج إلا به.
والأحناف قالوا: يؤكل من ذبائح التمتع ومن ذبائح القران، ولا يؤكل من ذبائح الجزاء وذبائح فساد الحج إن حدث نقص أو فساد بالمرة.
والشافعية كذلك أباحوا بعض ذلك وحرموا بعض ذلك؛ أباحوا الجزاء ومنعوا من أن يؤكل من ذبيحة التمتع وذبيحة القران.
{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] البائس الفقير هو: الفقير الذي اشتد بؤسه وفقره، واشتدت حاجته، فينبغي لمثل هذا في مثل هذه الأيام أن يأكل كما يأكل الناس، وهي أيام عيد، وأعظم موسم في الإسلام، وهو الموسم الأعظم؛ موسم الحج.
والأضحية يؤكل منها، ويعطى منها للفقير الذي لا يطلب فيحسبه الجاهل غنياً من التعفف، والفقير الذي يسأل وقد أضر به الفقر والحاجة.(71/3)
تفسير سورة الحج [29 - 32]
من الآداب التي أمر الله تعالى بها عباده أنهم بعد انتهائهم من مناسك الحج أن يزيلو ما علق بهم من الأوساخ نتيجة الإحرام الذي طالت أيامه، وقد كان هذا واضحاً في الماضي، ثم أمر عباده المؤمنين بأن يوفوا نذورهم، وأن يطوفوا في البيت العتيق، ثم أمرهم بتعظيم شعائر الله تعالى، فإن ذلك من تقوى القلوب، وعلامة على صلاح الباطن.(72/1)
تفسير قوله تعالى: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم)
قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29].
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29] التفث في اللغة العربية: القذارة والوسخ، أي: ليزيلوه، والمراد من الآية: زوال ما علق بالإحرام وكان يمنع زواله كحلق الشعر أو قصه، أو تقليم أظفار اليدين أو الرجلين، أو زوال شعر العانة، أو ما يدعو إلى التطيب وإلى التزين، أو يأخذ من شعره رأساً أو لحية.
ومن المعلوم أنه في الماضي عندما كان يحج الحاج يأتي راجلاً أو يأتي على الدواب، وقد أدرك هذا الكثير من معاصرينا، ولو كنا هنا لأدركنا ما أدركه غيرنا، ولقد كانوا يحجون على الدواب من مكة إلى المدينة عشرة أيام أو تزيد، وراجلين في نحو شهر.
وأما من الديار البعيدة، أما من الشرق الأقصى، أما من المغرب الأقصى فكان يستغرق ذلك عاماً أو يزيد، فعندما يبتدئ الإحرام من مواقيته خلال عشرة أيام وخاصة من أفرد إذا وصل إلى هنا قبل شهر الحجة تجده يبقى محرماً شهراً وشهرين متصلين، لا يقلم أظفاراً، ولا يقص شعراً، ولا يزيل شعر عانة، ولا يأخذ من شاربه، ولا من لحيته، ولا من رأسه، ولا يتطيب، فيتجمع هذا ويتكاثر وقال عنه الله تعالى: التفث.
قال إمام اللغة الزجاج: هذه الكلمة لا أعرفها ذكرت في معاجم اللغة إلا في القرآن الكريم، فمن القرآن أخذناها، ومن القرآن علمنا معناها.
معنى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29]: أي: يزيلون ما علق بهم بعد نهاية الحج وإتمام المناسك، عندما يزيلون الإحرام ويتمون طواف الإفاضة يقلمون أظفارهم، ويحلقون عاناتهم، ويحلقون رءوسهم أو يقصرونها، ويأخذون من الشارب، ويجملون اللحية في أطرافها ومن أطرافها، ويلبسون الثياب النظيفة.
وهنا يكونون بهذا العمل قد أزالوا التفث، وأزالوا ما ارتبط بالإحرام من هذا الذي سماه التفث، وقالوا عنه: القذر والوساخة، وذاك زيادة في العبودية لله، وزيادة في أن يقف المالك والمملوك، الكبير والصغير، الغني والفقير حاسري الرءوس بألبسة أشبه ما تكون بأكفان الميت، فالكل يقف ويقول: لبيك اللهم لبيك، كلهم عبيد أمام المعبود الذي لا يعبد سواه، ولا يأله سواه، ولا يخلق غيره جل جلاله وعلا مقامه.
هذا الموقف الذي يتذكر الإنسان فيه الموت ويوم العرض على الله، هذا اليوم الذي كان أول نوع من المؤتمرات في العالم، ولم يكن يتصور قبل المواصلات الجديدة وقبل الهواتف والصلات الجديدة من مركوبات شراعية بخارية، وبرية، وجوية.
ومن قبل الهواتف بالسلك واللاسلك، فلو دعا إنسان إنساناً إلى تجمع في مؤتمر من الهند إلى المغرب الأقصى، وإلى مختلف أقطار الأرض لكان ذلك يحتاج إلى السنة والسنتين، ومن هنا لم يحدث هذا قط.
وأول من أحدثه وأوجبه وجعله ركناً من أركان الإسلام هو الله جل جلاله في كتابه، ثم نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه في شرحه وسنته وبيانه، فكان من الأسرار المطوية في هذه العبادة اجتماع المسلمين من مختلف أقطار الأرض منذ 1400 عام؛ ليتبادلوا الشكوى، وليتبادلوا الآلام والآمال، وليعلم كل مسلم حال المسلمين من إخوانه في مشارق الأرض ومغاربها.
فعندما يعود هؤلاء الناس مختلفي الألوان واللغات والآراء والأصقاع والأوطان، يعودون وقد زودوا بحال إخوانهم المسلمين: إن كانوا في ضيق وضر أعانوهم إن بالمال وإن بالسلاح، وإن بالتأييد القولي.
وإن كانوا بخير فرحوا بفرحهم، وسروا بسرورهم، وقديماً جعل الله جل جلاله الأخوة بين المؤمنين فقط، وقسم العالم أرض حرب وأرض إسلام.
والله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فلا إخوة إلا بين المؤمنين الذين يعبدون رباً واحداً، ويدينون بالولاء، ويؤمنون بنبوءة نبي واحد، ويؤمنون بكتاب واحد هو كتاب الله، والمفروض أن تكون اللغة واحدة هي لغة القرآن، لغة النبي المرسل والمنزل عليه القرآن عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29] أي: يزيلوا ما علق بهم نتيجة الإحرام الذي طالت أيامه، وما ارتبط به من طول أظفار وطول شعر وقلة غسل وتطييب.
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] أي: يقومون بالوفاء بالعمل الكامل للنذور، وهي: جمع نذر.
وقالوا هنا في النذور: هي مناسك الحج: فضائله وأركانه وواجباته وآدابه؛ لأن الإنسان عندما يبتدئ النية بعمل واجب أو بعمل مرغوب يكون فيه متطوعاً، وبمجرد البداية فيه يصير لا بد من التمام، فالبداية موجبة للتمام، {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33].
فلا يجوز لنا -حتى ولو في النافلة- أن نكبر تكبيرة الإحرام، ونقرأ الفاتحة وسورة، ثم يبدو لنا فنترك الصلاة ونقول هي تطوع، فهذا لم يأذن به رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا في الصيام، وقال: (المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام وإن شاء أفطر)، ولا يكون إلا إن دعته لذلك ضرورة كما قال الكثير من الأئمة، حتى إنه إن أفطر لهذه الضرورة ولو إرضاء ضيف أو إرضاء عزيز فعليه أن يعيد اليوم الذي ابتدأه؛ لأننا منعنا من أن نبطل أعمالنا عندما نبتدئها.
وقالوا: النذور يدخل فيه نذر الضحايا، ونذر الهدايا، ونذر الذبائح التي نقدمها على اسم الله وذكر الله، نأخذ منها لذلك، ونتصدق بالباقي على الفقير الذي يحسب غنياً بمظهره وحاله، {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273]، أو السائل الذي يسأل ويقف على الأبواب ويطلب منك.
هذه الضحايا تعتبر نذوراً، وهذا الحج بمجرد الإحرام ولو كان تطوعاً فلا بد من إتمامه، ومن قطعه فإنه يأثم، وعليه أن يعيده.
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] البيت العتيق هو الكعبة المشرفة.
{وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج:29] أمر من الله بلام الأمر بالطواف، وأجمعوا في تفسير الطواف هنا: أنه طواف الإفاضة، والذي يسمى كذلك طواف زيارة، وهو ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، ووقته وزمنه يوم النحر عندما نقص أو نحلق، وعندما ننحر أو نذبح، نأتي ننزل للكعبة فنطوف بها سبعاً، وعند ذلك نزيل الإحرام وما ارتبط بالإحرام ونتنظف ونتطيب ونخرج مما كنا سجناء فيه ونحن حجاج.
نزيل الإحرام ولواحقه، ولا يمنع إلا النساء، لا يقربن إلا إذا انتهت أيام منىً.(72/2)
أنواع الطواف
الطواف بالحج ثلاثة أنواع: الطواف الأول: عند دخول الحاج إلى مكة من خارجها، فعليه أن يطوف بالبيت سبع مرات: ثلاث منها تكون هرولة أو قريباً من الهرولة -تكون خبباً-، وأربع تكون مشياً عادياً، وهذا هو طواف القدوم.
الطواف الثاني: طواف الإفاضة، وهو ركن بإجماع، وهو المقصود في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29].
الطواف الثالث: قال بوجوبه المالكية، ومن لم يفعل فعليه دم، وعليه أن يعود إليه إذا تركه ولو كان قد وصل إلى بلده، ولكن الجمهور على سنيته، ولا خبب فيه ولا هرولة، كطواف الزيارة.
وهذا الطواف الثالث يسمى طواف الوداع.
والسر في الهرولة أو الخبب في طواف القدوم هي ذكرى لدخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء بعد معاهدة الحديبية، وذلك في السنة السابعة.
فقد دخل صلى الله عليه وسلم والسيوف في أغمادها وقرابها، واختفى أهل مكة لكيلا يروا هذا المنظر من محمد صلوات الله وسلامه عليه، فقد أرادوا قتله، وأرادوا سجنه، وأرادوا منعه من الخروج، وقصدوا له الغوائل من كل جانب، فأنقذه الله منهم، وذهب إلى المدينة، فأصبح ذا أنصار وأعوان وجند، فامتنع عنهم، وما عادوا يطمعون في القضاء عليه إلا حرباً، اختفوا لكي لا يروه؛ عداوة وحقداً، وإذا بالأطفال وإذا بالغلمان والعبيد والأرقاء ذهبوا إلى سادتهم يقولون: انظروا إلى محمد ومن معه جاءوا يجرون أرجلهم فقراً وحاجة، وألبسة ممزقة، ووجوه ضعيفة هزيلة، ووجوه لشيوخ لا يكادون يستطيعون رفع الأقدام من الأرض، فخرجوا ليروا هذا المنظر، وليتشفوا فانتبه النبي عليه الصلاة والسلام لذلك أو سمعه أو قيل له، فأمر أصحابه وهو القائل عليه الصلاة والسلام: (رحم الله مؤمناً أظهر من نفسه قوة)، وهو القائل كذلك: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، وأمر بأن يطوفوا مظهرين القوة، فأخذوا يهرولون، والله تعالى ألبسهم لباس القوة ولباس الشباب، ولباس ما يسمى الآن الرياضة والفتوة، فرأى هؤلاء هذا المنظر فكبتوا به وتألموا له، وحزنوا من أجله، وقالوا: أهؤلاء الذين قلتم لنا إنهم ضعاف هزال ويكادون يجرون أرجلهم في الأرض جراً؟! والله! إنهم كالنمر وهم يقفزون، والله! إنهم كغزلان الغاب وهم يطوفون، وكان هذا هو المقصود عند النبي عليه الصلاة والسلام؛ ليغيظ عدوه، وإغاظة العدو مهما تكن قلتها فيها أجر وثواب للمؤمن المسلم، فبقي بعد ذلك لكل قادم، ولكل زائر لمكة طائفاً كان أو معتمراً أو حاجاً: أن يكون طوافه للقدوم بهذا النوع ذكرى لليوم الأول الذي دخل فيه صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة.
وأما الطواف الثالث وهو طواف الوداع فلا يحتاج لذلك، وأهل مكة ليس عليهم طواف قدوم؛ لأنهم مقيمون في مكة فليس هناك قدوم، ومن حج من مكة كذلك ليس عليه صلاة قدوم؛ لأنه قد قدم وأقام فليس هناك حاجة إلى طواف القدوم.
قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ -يقومون بالوفاء بها كاملة- وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29].
قال العلماء في سبب تسمية الكعبة وبيت الله الحرام بالعتيق كلمات قد تكون جميعها صحيحة، وتصلح جميعها أن تكون تفسيراً لكلمة العتيق.
فالعتيق هو: الكريم، التليد، المقبول والمحبوب، القديم الذي مضى عليه زمن الله أعلم كم مقداره.
وقالوا: سمي العتيق؛ لأنه أول بيت بني، فهو أعتق بيت وأقدم بيت لله في الأرض، وهذا أكده القرآن، وزادته السنة بياناً، فقد قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96].
وسئل عليه الصلاة والسلام: (ما أول مسجد بني في الأرض؟ قال: بيت الله الحرام، ثم سئل: والمسجد الأقصى، قال: بني بعده بأربعين عاماً)، فهو بهذا الاعتبار عتيق والكلام صحيح قرآناً وسنة.
وقالوا: العتيق الذي كرمه الله من أن يحتله ويستذله جبار من الجبابرة، أو عدو من الأعداء يهينه أو يذله، فلم يحدث لهذه البنية الكريمة، وهذه الديار المقدسة ما احتلها عدم لا في أيام الجاهلية ولا في أيام الإسلام.
ومن هنا كان العرب وضعهم في الجاهلية والإسلام غريباً، فقد كان يوجد في أيام الجاهلية دولتان عظيمتان متسلطتان على الأرض: فارس والروم، وتقريباً أنهما قد احتلتا العالم، ولكنهما لم يحتلا جزيرة العرب، كان لهم شبه سيادة في اليمن، أما الحجاز فلا.
ومن هنا لم يصل ولم يقدر الله جباراً من الجبابرة ولا طاغية من الطغاة على أن يحتل مكة أو يذلها وأن يذل أهلها، قد كان بعض ذلك من بعضهم لبعض، وهذا كلام آخر، ومع ذلك فهؤلاء لم يضربوا الكعبة، ولكن حدث ذلك أيام بني أمية؛ أيام عبد الملك بن مروان بتنفيذ الحجاج الظالم، وقد كان يحكم مكة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه فحاربه وقاومه ليذله ويخضعه لـ عبد الملك، فامتنع كل الامتناع وأبى كل الإباء، إلى أن تفرق عنه أصحابه، وبقي فريداً، وقال لأولاده أيضاً: اذهبوا عني، دعوني للقدر ولقضاء الله، وما أرى صبيان بني أمية إلا ممثلين بجسدي، ولعلهم يصلبونني على الكعبة، فقالت له أمه: أأنت على حق أم على باطل؟ قال: بل أنا على حق، قالت: والله! إن كنت على غير حق في حربك مع هؤلاء -وأنت تعلم أنك لست على حق- فإني أخشى أن يتلاعب بك صبيان بني أمية، وأما إن كنت على حق فلا تهتم بهم، فالشاة لا تعذب بعد السلخ -أي: بعد الموت- فالشاة عندما تموت ويذهب الجزار ليسلخ جلدها عنها فإنها لا تعذب وقد ماتت، فعش عزيزاً ومت عزيزاً، فإن أنت صلبت أو مثل بك فإنك لن تعذب جسداً، وتكون قد قدمت ما استطعت، والغلبة والنصر بيد الله، وليس ذلك بيد أحد، قال تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة:165].
فحدث ما توقع، فـ الحجاج ضرب الكعبة بالمنجنيق، ولكن هذا كان ظلماً واعتداء منه، ولم يقصد به هوان الكعبة أو إذلالها وإلا لكان مرتداً، ولكان عبد الملك مرتداً، ولكان كل من صنع ذلك مرتداً، وهو قد فعل ما فعل وقال: إن ابن الزبير هو المسئول فهو الذي أحوجني لفعل هذا، وبمجرد ما انتهت المعركة عاد للبيت فجدد بناءه وجدد تنظيمه، وطاف به معتذراً، وأما إن كان محقاً أم مبطلاً فهذا كلام آخر.
قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] فكل الأحكام في الشريعة لا تكون إلا بعد فعل الذنب إلا في مكة، فمجرد الإرادة بالظلم والاعتداء فإن الإنسان يأثم وقد يعاقب، وللشارع أن يؤدبه بما يراه مصلحة لتطهير مكة منه، ولإبعاد الظلمة منها بأي عمل من الأعمال.
وقد جاء أبرهة وحاول أن يذل الكعبة وأن يهدمها حجراً حجراً، ولكن هيهات، فقد سلط الله عليه طيراً أبابيل كما قصصنا، فجاءت هذه الطيور السوداء يحمل كل واحد منها ثلاث حجرات بحجم حبة العدسة؛ واحدة في المنقار واثنتين في الرجلين، فرميت هذه الحجارة على رأس الفيال، فدخلت من الرأس إلى الأمعاء، ومنه إلى ظهر الفيل، ومنه إلى بطن الفيل فأصبح الفيل وراكبه عصفاً مأكولاً؛ أي: كالحشيش الذي تأكله الدواب، وأصبحوا كالبعر عندما يخرج من الدواب وأصبحوا كرجيعها، أي: كالحشيش الذي يؤكل فيخرج بعراً، وهكذا فإن الله طهرها من الجبابرة في الجاهلية وفي الإسلام.
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] قالوا: لا يمسها جبار، وفسروا العتيق بأنه عندما فاضت المياه أيام نوح على قومه، فقد حفظ الله البيت، فلم يغرق في هذا الطوفان، وقيل: إنه رفع، وقيل بقي في مكانه، ولكن المياه بقيت بعيدة عنه.
كما جعل الله طريقاً في البحر يبساً لموسى ومن معه، وتبعهم فرعون ومن معه من جنده، وأصبح البحر كالجبل عن اليمين من المياه وعلى اليسار من المياه، فدخل فرعون فالتقى الجبلان وغرق فرعون ومن معه، كان هذا الماء مفروزاً عن الكعبة فلم تغرق كما غرق الكون.(72/3)
تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه)
قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] (ذَلِكَ) أي: الذي حكاه الله جل جلاله وأمر به: من قصد البيت الحرام للحج، وذكر الله في الأيام المعلومات، وتقديم الذبائح والضحايا والهدايا على اسم الله وباسم الله.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، أي: مع هذا مع الأجر والثواب فيما مضى بالذكر كذلك: ((وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ))، وحرمات الله كل شيء حرمه الله، فمن ابتعد عن المنكرات والكبائر وما إليها، ومن ابتعد عن الجرائم وما إليها، والحرمات: كل ما حرم الله فعلى المسلم أن يجتنب ويعظم انتهاك الحرمة، وارتكاب الحرام.
((وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)) خير له يوم القيامة، بل خير له في الدنيا كذلك، فالله يجازيه بالجنة، ويجازيه بالرضا والرحمة، ويعطيه مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقال بعض المفسرين: الحرمات هنا حرمات المناسك، وحرمات مكة المكرمة، وقالوا: الحرمات: هي بيت الله الحرام، والبلد الحرام، فالكعبة هي بيت الله الحرام، ومكة هي بلد الحرام، وذو الحجة شهر حرام، فهذه كلها حرمات بعضها متصل ببعض عند من يدخل مكة، فهناك حرمة البيت، وحرمة المناسك، وحرمة البلدة.
وأما في الحج فهناك حرمة المناسك كلها، بما فيها من طواف وسعي ووقوف بعرفات، إلى بقية المناسك، ومن عمم أدخل هذه وزاد عليها بقية الحرمات.
ومن هنا فإن هذه الحرمات من حاول أن يتجاوزها بكلمة بذيئة، أو بمخالفة وعصيان، فإن عقابه عسير، وهي حرمات كتاب الله، وحرمات السنة المطهرة، وحرمات نبي الله عليه الصلاة والسلام والأصحاب والسلف الصالح والوالدين والإخوة والمشايخ والمسلمين عموماً، وكل ما دعا الله لحرمته ولتقديسه وللعمل به، فكل ما دعا الله إلى تركه من أنواع الحرام يدخل في الحرمات، إما تحريم الانتهاك للحرام، أو تحريم عدم احترام لهذه المقدسات.
((وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)) أي: هذا المعظم لحرمات الله خير له وأقدس وأكسب وأربح من رضا الله، والكسب الذي يأتيه عن الله ومن الله هو رضا وطاعة ورحمة.
ثم قال تعالى: ((وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ)) أحل الله تعالى أكل الأنعام، وركوب ما يركب منها، والأنعام هي: الإبل والبقر والغنم بنوعيها؛ الماعز والضأن، فأحل الله أكل لحومها جميعاً، وأحل ركوب الإبل، وأحل ألبان الجميع، وأحل اللحوم والكسب الناتج عن البيع والتجارة فيها.
والأنعام: جمع نَعم، والنَعم جمع لا مفرد له، ويفرد عندما تذكر كل نوع من الأنواع، تقول: جمال جمع جمل، أبقار جمع بقر، وهو جمع مفرده بقرة، أو غنم أيضاً جمع لا مفرد له، لكن تقول: شاة وتقول: خروف، وتقول: ماعز.
((وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ))، وقد تلا ربنا جل جلاله ما حرم علينا، فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3]، فهذه التي تلا الله تعالى علينا هي التي حرمها واستثناها، فلا تؤكل الأنعام إذا كانت ميتة، ولا يؤكل دمها، ولا تؤكل متردية، ولا تؤكل نطيحة، ولا تؤكل وقد أكل منها السبع إلا إذا استدركت وذبحت قبل أن تموت، وما دون ذلك من الأنعام حلال أكله وشرب حليبه، وأكل نتاجه، والتجارة فيه، وتقسيمه هدايا وأضحيات، سواء في الحج أو في أعياد الأضحى.
قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30].
أمرنا الله جل جلاله أن نجتنب -أي: أن نبتعد-، وكلمة (اجتنب) أبلغ في التعبير وأشمل من كلمة: حرّم، فبعض الجهلة يقولون: تحريم الخمر في القرآن ليس صريحاً؛ فقد قال الله: اجتنبوا، والاجتناب ليس معناه التحريم، وهذا خطأ، فالاجتناب أبلغ من التحريم.
(مِنَ الأَوْثَانِ)، و (من) هنا تعتبر للجنس، أي: كل التماثيل والأصنام، وكل الأوثان: الحجارة والجمادات والأخشاب التي عبدت دون الله اجتنبوها، واجتنابها يكون كالخمر، فلا يحل بيعها، ولا شراؤها ولا امتلاكها ولا إهداؤها ومن باب أولى لا يحل السجود إليها.
كذلك الخمر لا يحل بيعها ولا شراؤها ولا التجارة فيها، ولا هبتها، ولا توريثها ولا شيء من هذه الأشياء، في حين حرم علينا بالنص: الحرير والذهب، وليس معنى التحريم هنا الاجتناب؛ فإنه يباح لنا امتلاك الذهب، وامتلاك الحرير والتجارة فيهما، وتملكهما واهداؤها والمعاوضة والمبادلة فيهما، وإنما حرم علينا اللبس، ولو قال لنا: اجتنبوا الذهب والحرير لكان الاجتناب كاملاً كاجتناب الأوثان واجتناب الخمر، لا بيعاً ولا شراء، ولا امتلاكاً ولا عطاء ولا مبادلة.
((فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ)) الرجس هو: القذر والوساخة، وهو الحرام، فكلمة الرجس جمعت جميع الأنواع القبيحة المسترذلة فيما يطلق عليه من معاني الأشياء، فالأوثان هي القذر والشرك، والأوثان معناها فاسد، فالتمسك بها يدل على ضياع العقول، والسجود لها يعد حماقة، وامتلاكها كذلك، وتزيين الدور بها كما أصبح يفعل الكثير من المسلمين؛ فإنهم يصنعون أصناماً كاملة، أحياناً لأناس، وأحياناً لحيوانات، فتلك تماثيل كذلك وأصنام، وقد حرمها الله جل جلاله.
((اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ)) أي: اجتنبوا الأوثان، فالأوثان كلها رجس وحرام، وكلها ممنوعة، وكلها قذر ووساخة، و (من) ليست للتبعيض، بل المقصود جنس التماثيل على كل أشكالها.
((وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)) والزور: هو الباطل، وله مصطلح شرعي وهو شهادة الزور، وهي أن يشهد الإنسان على شيء لم تره عينه ولم تسمعه أذنه، ولكنه كذب على الله وافترى فشهد الزور، والزور هنا الباطل بكل أشكاله: قول الشرك، وسباب المؤمن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر) والزور كلمة تجمع كل الكلمات التي لا يليق بالمؤمن أن يقولها وأن يعمل بها.
والله عز وجل قرن اجتناب الزور مع اجتناب الأوثان، وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام من الزور، فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا وقول الزور وشهادة الزور) فظل صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ويعيده حتى قال بعض الصحابة: تمنينا أن لو سكت، يعني: أنه أتعب نفسه وأجهدها وهم قد سمعوا وعلموا وأطاعوا.(72/4)
تفسير قوله تعالى: (حنفاء لله غير مشركين به)
قال تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج:31].
أي: حال كونكم حنفاء لله عابدين مخلصين له، وقد كان قديماً في الجاهلية يقال: الحنيفي؛ لمن يحجوا ويتصدقوا ويعبدوا، ولكن عبادتهم كانت شركية، فهم يسجدون مع ذلك للأوثان، ويقولون: ما نعبدها إلا لتقربنا إلى الله زلفى.
ويقولون كما تقول النصارى: الأب والابن وروح القدس، وقد اختلطت أديانهم ومذاهبهم في ذلك كما قص الله علينا، فقالوا عن أنفسهم أنهم أبناء الله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ} [المائدة:18] وكذبوا وافتروا.
وقالت النصارى عن عيسى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، والكفر يضاهي بعضه بعضاً، ويقلد بعضهم بعضاً تقليد الببغاوات وتقليد القردة، كما قال الله عن النصارى وهم يعبدون الصليب والأوثان: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:30]، وقد سبقهم من فعل ذلك.
ولقد ذكرت أكثر من مرة أني كنت في متحف نصراني في أرض لبنان، وإذا بالمشرف على هذه الآثار والحفريات يظهر لي صليباً، وقال: هذا الصليب كان قبل عيسى بقرون، فضحكت وقلت له -وهو نصراني-: صدق الله العظيم: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:30]، حتى في الصليب النصراني ليس خاصاً بهم، ولكنه تقليد وقدوة؛ تقليد شركي بلا عقل وبلا وعي وبلا فهم وبلا دليل من عقل ولا سلطان من الله، ولا برهان.
((حُنَفَاءَ لِلَّهِ)) أي: مخلصين عابدين له وحده، لا تشركوا به شيئاً في كل هذه الأعمال من حج وصلاة وطاعات وسعي إلى آخر أنواع العبادات.
{حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج:31] أي: حال كونكم لا تشركون بالله لا شركاً خفياً ولا ظاهراً، فالشرك الظاهر هو عبادة الأوثان والأشخاص وعبادة الملائكة والجن وعبادة الزعماء والرؤساء والقادة، والشرك الخفي أن تصلي أو تصوم أو تتعبد في الجلوة بما لا تفعله في الخلوة، فمع الناس تفعل ما لا تفعله في خلوتك، فهذه يسمى عبادة وتسميع، فتريد أن يقال عنك: عابد زاهد صالح متصدق، فهذا اسمه شرك خفي، ولكن المؤمن الصادق لا تختلف عبادته في الخلوة عن عبادته بين الناس، فهو يعبد الله جل جلاله، فإن اختلى بنفسه فإنه لا يزيد ولا ينقص كما هو، وإن كان القدوة من شيخ أو أب أو متبوع ينبغي أن يظهر عبادته وأعماله؛ ليكون قدوة للغير، وليتخذوا عنه سلوكه وسمته في العبادة؛ ليكون التعلم قولاً وعملاً، حالاً ومقالاً.
((حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)) أي: غير مشركين بالله.
قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
ضرب الله مثلاً وتشبيهاً بالمشرك بالله فذكر بأن مثل المشرك بالله كمن رفع إلى أعلى مكان في السماء -والعلو وكل ما علاك فهو سماء- فرفع إلى الأعالي ثم رمي، وإذا بالطيور المفترسة والجوارح تختطفه من الجو فتقطعه قطعاً وتفترسه قطعاً، وهكذا قبل أن يصل إلى الأرض، ولم يصل منه إلى الأرض إلا العظام.
وأما التشبيه الثاني: ((أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)) أو إنسان رمي فجاءت عواصف وزعازع فأخذت تتلقفه من هنا إلى هناك إلى أن أوقعته في أعماق هوة وحفرة، وما كاد يصل إليها إلا مدهدهاً ممزقاً قطعاً.
وهكذا قد فقد نفسه في الدنيا كمن تفترسه الطير، وكمن تتلاعب به الرياح العواصف فتمزقه وهو لا يزال في الجو، ثم يرمى به إلى سحيق من الأرض، وهي: المكان العميق من الهوة في الأرض، فلا يكاد يصل إلا ممزقاً، وهذا مثال من الله يبين أن المشرك يعيش هكذا ذليلاً حقيراً متدهدهاً مرمياً منبوذاً لا عقل له، ولا إدراك فيه، ولا فهم له.
وأما الآخرة فعذاب الله أنكى وأشد.(72/5)
تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)
قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
((ذَلِكَ)) أي: ما ذكره الله من اجتناب الأوثان، وقول الزور، وما حرم الله من الأنعام، وما ذكر من مناسك الحج كاملة، ((ذَلِكَ)) يحصل ويجب أن يكون، وأن يتمسك به المسلم، وترتب عنه: ((وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ))، والشعائر: جمع شعيرة ويدخل فيها كل أنواع العبادات؛ شعائر الصلاة والحج، ويأتي بعض الملاحدة والمرتدين أيام الحج ليشاهدوا المسلمين، فيرى الناس حاسري الرءوس، يلبسون هذه الإحرامات ويهرولون حول الكعبة، وبين الصفا والمروة، ويجلسون في عرفات، وينامون على أرض مزدلفة، فيسخرون من هذه الشعيرة العظيمة، وقد يقول بعض ضلالهم ومن ذهب الله بنورهم: هذه عبادة للكعبة.
وهؤلاء الحمر المستنفرة التي فرت من قسورة، لم يشعروا بأنفسهم عندما عبدوا الشيطان، وعبدوا اليهودية والنصرانية، وعبدوا ماركس اليهودي، وعبدوا كل قذارة ووساخة في الأرض، وتركوا كتاب الله وراءهم ظهرياً، وعملوا بطاعة هؤلاء، وجدوا في إرضائهم، ثم يقال: إن أمثال هؤلاء لهم حضارة، وأنهم تقدميون وتكنولوجيون!! وهكذا ترى بعض الناس وقد مسخه الله، فالصورة صورة إنسان، والفكر والعقل عقل قرد وفكر قرد، قال تعالى: {تَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198].
وقال تعالى: {إِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، فهذا الذي يحاول أن يسخر من شعيرة من شعائر الدين والإسلام كمن يسخر بالعمامة أو باللحية، أومن يسخر بالزي الإسلامي، يعتبر مرتداً حلال الدم كذلك، وقد نص على هذا جميع فقهائنا بجميع مذاهبهم: أن من قال: الإسلام انتهى ولا ينبغي أن نرجع إلى قبل 1400 عام، فنقطع الأيدي، ونصلب الأشخاص، ونقطع اليد والرجل من خلاف، ونجلد الرجل الطويل العريض، وما هي إلا أشياء خاصة؛ ما دخلنا في شربه للخمر، وما دخلنا لزناه، وهكذا هؤلاء يشتمون الإسلام، ويمتهنون كرامته، ولا يعظمون حرمات الله ولا شعائره: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} [المنافقون:4]، وقد لعنهم الله.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32]، الآية من آيات الحج وفي سورة الحج، أطلقها الكثيرون وهي مطلقة بدرجة الأولى على مناسك الحج وشعائره، ولكنها تعم الكل.(72/6)
تفسير سورة الحج [32 - 35]
لقد جعل الله تعالى لكل أمة منسكاً هم ناسكوه؛ ليذكروا اسم الله تعالى على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فهو الرازق الخالق المستحق للعبادة وحده سبحانه.
وقد بشر الله تعالى عباده المخبتين التائبين المقيمين للصلاة، والمؤتين للزكاة بالفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.(73/1)
تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)
قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
(ذلك) أي: ما مضى من الكلام على الحج والمناسك: من الطواف والسعي والوقوف بعرفة وما إلى ذلك، فهذه الأشياء من المنافع هي من شعائر الله، ومن أحكامه، ومما فرضه الله جل وعلا في الحج.
قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] أي: ومن يحترمها ويقوم بها ويلتزمها أركاناً وواجبات وسنناً ومستحبات وما إلى ذلك فإنها من شعائر الله ومن أحكامه.
وشعائر: جمع شعيرة، وفسرت بأنها الضحايا والهدي وما يقدم في الحج.
وقال ابن عباس: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32] أي: من يستسلم ويستحسن ويجعل لذبائح والقربان من الهدي والضحايا أثمنها وأفضلها وأكثرها لحماً، فإن ذلك من تقوى القلوب.
واستدلوا على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم (ضحى بكبشين أملحين سمينين موجوءين -أي: معلوفين مخصيين- ينظران في سواد، ويأكلان في سواد، ويمشيان في سواد) لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يختار من الضحية أعجبها وأسمنها وأعظمها وأجملها.
وقوله: (تنظر في سواد)، أي: شعر حدقاتها أسود.
(وتأكل في سواد) أي: شعر فمها أسود.
(وتمشي على سواد)، أي: أرجلها وأيديها سود.
ونحر صلى الله عليه وسلم بيده في حجة الوداع ثلاثاً وستين بدنة من مائة بدنة، وكلما كانت الضحية والهدية أكثر لحماً وأعظم شحماً وأغلى ثمناً كانت أكثر أجراً وثواباً.
قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، فتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب، ومن عمل القلب إضمار التقوى والطاعة والإخلاص، والعمل بالأوامر فعلاً وترك النواهي، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (التقوى هاهنا)، وأشار إلى قلبه أكثر من مرة، (التقوى هاهنا، التقوى هاهنا).
فقوله: (من تقوى القلوب) أي: من التقوى المضمرة المخلصة التي لا يراد بها إلا الله والدار الآخرة، لا ليقال ويذكر عنه، ولكنه يريدها لله خالصة، ولا يريد في عمله وجه أحد من الناس إلا الله جل جلاله.(73/2)
تفسير قوله تعالى: (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى)
قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33].
وهذا مما يدل على أن الشعائر هنا هي الهدايا والضحايا.
فقوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج:33] أي: لكم في الهدايا منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة، ولكم في المناسك منافع: من تجارة، ومن ثروة، ومن معاملة، ومن سياحة، ومن تعرف المسلمين بعضهم على بعض.
ومنافع الآخرة: الأجر والثواب، وذلك أعظم وأكرم وأكثر أجراً وثواباً من الدنيا ومنافعها.
وقيل أيضاً في تفسيرها: إن كانت هدايا فلكم منافع مما في بطونها ومما في ظهورها من شعور ووبر وركوب وإنتاج ولبن وسمن وما إلى ذلك.
قوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج:33] أي: تنتفعون بها إلى الأجل المسمى، وهو قبل أن تصبح هدايا تهدى ويتقرب بدمها إلى الله، أو قبل أن يضحى بها في عيد الأضحى في غير الحج.
فهذه المنافع قال قوم: تنتهي عندما تصبح هدايا وتعين لذلك.
فعندما تنتهي المنافع فلا تحلب، ولا تركب ولا يستفاد مما في بطنها، وكل ذلك يصبح هدياً معها، وقالوا: إن الهدي لا يركب ولا يحلب ولا يستفاد مما في بطنه، وإذا ولدت وهي هدي يذبح معها ما ولدت سواء كانت بدناً أو بقراً أو ضأناً أو ماعزاً.
وليس الأمر هكذا؛ فإن قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج:33] أي: انتفعوا بها حتى ولو كانت هدياً، واستدلوا بما قاله صلى الله عليه وسلم عندما رأى حاجاً يمشي راجلاً ويسوق هديه أمامه، فقال له (اركبها، فقال: يا رسول الله! إنها هدي، قال: ويحك، اركبها) قال تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] أي: تحل وينتهي أجل المنفعة بها عندما تصل إلى الكعبة إلى بيت الله الحرام حيث المنحر والذبح، وحيث ما يقدم من الهدايا ومن الضحايا والقربات، وقد أذن صلى الله عليه وسلم بركوبها لمن احتاج ذلك وبشرب حليبها بعدما يقطع ذلك عن فصيلها ووليدها، وهذا أدل في الاستدلال، وهو قول المالكية والحنفية، وغيرهم منع من الاستفادة منها إلى أجل مسمى، والأجل المسمى هو وصولها إلى البيت العتيق، حيث يحل الحاج وينتقل من الإحرام إلى الحل، ويكون ذلك عند طواف الإفاضة وطواف الزيارة بعد نزوله من عرفات، أي: بعد الحلق أو التقصير والنحر والذبح يوم النحر في منى ينزل فيطوف طواف الإفاضة، وهو الركن الواجب من الثلاثة الأطوفة، وعند ذلك ينتهي الانتفاع بها؛ إذ تكون قد بلغت محلها، ويكون الإنسان قد حل وأزال الإحرام وانتهى من المناسك، ولم يبق إلا مكثه في أيام منى وهو حال غير محرم.
فقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج:33] أي: منافع الدنيا والآخرة إلى الأجل المسمى وهو وصولها إلى البيت العتيق والحرم، والحرم كله منحر، ومنىً كلها منحر، وقد نحر صلى الله عليه وسلم بدناً وقال: (الحرم كله منحر)، وقال: (منى كلها منحر)، فينحر ويذبح في منى، وفي الحرم من بدايته إلى منتهاه، وكذلك منى.(73/3)
تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله)
قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34].
يقول تعالى: هذه المناسك التي تقومون بها: من سعي وطواف وقيام ومبيت في منى وإحرام وهدي وضحايا وقربات ونحوها ليست محصورة عليكم، وقد سبق أن كلفت الأمم قبلكم بذلك، فقد كان لها هدايا تتقرب بدمها إلى الله، ثم يستفيد منها القانع والمعتر والفقير والمحتاج.
قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج:34] أي: لكل أمة سابقة من الأمم ولكل جيل سابق من الأجيال، فقد كلفوا به من قبل أنبيائهم عن الله جل جلاله، فلكل هؤلاء منافع وضحايا وهدايا {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] فالعقيدة واحدة، والدعوة إلى الله واحدة، دعا إليها الأنبياء منذ آدم أبينا إلى نبينا عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فهم جميعاً دعوا إلى عبادة الله الواحد.
قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34] أي: ليذكروا اسم الله خالصاً له وحده، ولا يشركوا به أحداً من خلقه كما يفعل المشركون وعباد الصليب والوثنيون، وإنما يذكرون الله وحده، ويتقربوا بالهدايا له وحده.
والبهيمة تشمل الأنعام، أي: الإبل والبقر والضأن، كما تشمل الدواب المركوبة من خيل ومن بغال ومن حمير، وهنا يراد بهما الأنعام فقط التي يؤكل لحمها، وتذبح ضحايا وقربات وهدايا.
قال تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34] أي: ليقدموها ويقربوا دمها هدايا لله، وليأكلوا من لحمها ويستفيدوا من ظهورها وينتفعوا بأشعارها وأوبارها، وليستنسلوا من ذكورها ففي كل ذلك منافع وخير لهم قبل أن يذبحوها وبعدما يذبحوها.
ولا يجوز ذبح الذبيحة ولا نحرها إلا مع ذكر اسم الله، والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ذبح قال: (بسم الله، الله أكبر، عن محمد وأمته ممن لم يضح)، فإذا ضحى الثانية قال: (بسم الله، الله أكبر، عن محمد وآل محمد)، فهذه الضحايا تذبح وتنحر على اسم الله وحده، ويكبر عليها اسم الله وحده، لا كما كانوا يصنعون في الجاهلية من الذبح على غير اسم الله، أو كانوا يشركون مع اسم الله غيره.
فهذه المناسك والعبادات شرائع ومناهج، وقد جعل الله لكل نبي وأمة شريعة ومنهاجاً، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، والدعوة إلى الله واحدة، قال تعالى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} [الحج:34]، فالشعوب والأمم جميعاً دعاهم رسلهم وأنبياؤهم إلى عبادة الله الواحد وإلى نبذ الشرك وترك عبادة غير الله، وما من رسول إلا وبعث بالتوحيد وبعبادة الله ونبذ الشرك والشركاء كما قال تعالى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} [الحج:34] أي: لله الواحد استسلموا، وله يكون إسلامكم وعبادتكم وطاعتكم، لا شريك له لا في ذات ولا في صفة ولا في فعل، فمن فعل ذلك فقد فعل ما سولت له نفسه، وأوحى له به شيطانه، والأنبياء والرسل ما جاءوا جميعاً إلا بعبادة الله الواحد، بهذا جاء نبينا وقبله عيسى وقبلهما موسى وهكذا إلى النبي الأول آدم عليهم جميعاً سلام الله وصلواته، فلم يقل عيسى: اعبدوني ومريم مع الله، ولم يقل موسى لليهود: اعبدوا العجل واعبدوا العزير مع الله، ولم يقل للوثنيين: اعبدوا مع الله النار ولا الهوام ولا الملائكة ولا الناس، وما ذلك إلا افتراء على الله وكذب، وما أوحى به إلا الشياطين.
قوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34] أي: بشر المطيعين لك والمطيعين لربهم والمتواضعين لله ورسوله وللمؤمنين والمخلصين في عبادتهم، الذين لا يشركون بالله شركاً ظاهراً ولا خفياً، ومنه التظاهر أمام الناس ليروا العبادة، فذلك الشرك الخفي، بل لابد أن تكون عبادتهم في الظاهر وفي الخفاء لله الواحد، فلا يراءون ولا يتقربون إلا لله الواحد الأحد.
وبكل ذلك فسر المخبتون، فالمخبتون جمع مخبت، وقد فسر بالمتواضعين وبالمخلصين وبالمطيعين، وبالعاملين لله بما أمرهم وبترك ما نهاهم عنه، وقد عرفهم الله فلا حاجة إلى نزاع المفسرين في معناها.(73/4)
تفسير قوله تعالى: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم)
قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:34 - 35].
اتصلت هذه الآية بالكلمة السابقة اتصال المعنى الواحد واتصال الآية الواحدة وإن كانتا آيتين، قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34] فكأنه قيل: ومن المخبتون؟ فقال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج:35] أي: إذا ذكر الله وقدر وعظم وذكر: بتلاوة كتابه، وقراءة سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبهدي سنة من أرسله، وجلت القلوب وخافت من عذاب الله ونقمته، فإن عصت هذه الروح، وخرجت عن الطاعة، وقلدت الكفار والمنافقين خافت ألا تقبل طاعتها وألا ترحم يوم القيامة، وخافت أن تكون عبادتها قد دخلها شيء من الرياء وعدم الإخلاص، فتجدها تعبد الله وهي تخشى وتخاف ألا تقبل عبادتها وإخلاصها، وتخاف ألا يكون ذلك خالصاً لوجه الله، وألا تكون تلك العبادة تامة الشروط كما شرطها ودعا إليها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
والصبر ذكر عشرات المرات في كتاب الله، وخصصت به سورة، وهي قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
ولا بد من الصبر على لأواء الحياة، وعلى ما يعرض للإنسان من مرض أو فقر أو حاجة، وعلى ما يصيبه من بلايا الدنيا في جسده ونفسه، وعلى ما يعرض له من ابتلاء من الله؛ ليختبر صدقه من كذبه، وإيمانه وإخلاصه من عدمها.
قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج:35] أي: يصبرون ولا يترددون ولا يشتكون، فهم صابرون على ما أصابهم الله به، مستشعرون الأجر منه، وما ذكر أيوب في سورة الأنبياء -السورة السابقة- إلا ليكون المثال الكامل الوافي لكل من أصيب في هذه الدنيا، وقد كانت العاقبة له، والعاقبة للمتقين على أي حال: رسلاً وأنبياء وأتباع الرسل والأنبياء، والمخبتون من تمام صفتهم أنهم الذين يخشون الله، ويصبرون على ما أصابهم، ويسألون الله أن يوفقهم.
قال تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} [النساء:162]، وإقامة الصلاة هي الإتيان بها بأركانها وبشرائطها وبفرائضها وبسننها خالصة لله، لا ينظر لأحد معه فيها، ومن هنا يقول عليه الصلاة والسلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، فالسجود عبادة لا تكون إلا لله، والركوع عبادة لا تكون إلا لله، فهم راكعون وساجدون، مكبرون وذاكرون، ويكون ذلك لله فقط.
وإقامة الصلاة تشمل الصلاة في أوقاتها، والطمأنينة فيها، والقيام بأركانها: من تكبير وقيام وتلاوة وتسبيح وتعظيم وتكبير في جميع الحركات وتسليم عند النهاية، وإقامتها في أوقاتها، واستقبال الكعبة، والتطهر لها من تطهير المكان والأعضاء والملابس، فيتطهر حساً ومعنى، يتطهر حساً من الأوساخ والنجاسات إن كانت على بدنه أو في مكان صلاته، ويتطهر معنىً بالوضوء أو بالغسل إن كان هناك داع للغسل.
والمخبتون: من خشوا الله في العبادة ولم يخشوا سواه، ومن خشوا ألا تقبل وأن يضرب بها وجوههم، ومن صبروا على اللأواء وأتعاب الحياة في البدن والنفس، وفي الرزق والحياة، ومن أقاموا الصلوات الخمس في أوقاتها بشرائطها وبأركانها وبواجباتها وبسننها، ومن تصدقوا لله مما رزقهم الله.
قال تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:35]، والنفقة تكون واجبة على العيال، وصدقة على المحتاجين والفقراء، وزكاة واجبة على من أمر الله تعالى من الأصناف الثمانية، وصلة للأرحام، واستجابة للسائل.
وقد وصف الله المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24]، فالمحروم يعطيه من حق الله زكاة وصدقة، والسائل له حق ولو جاء على فرس، والأرحام لهم حق الصلة وحق الاتصال بالمال والزيارة والكلمة الطيبة، والأصناف الثمانية لهم زكاة واجبة، والآية شملت كل ذلك.
{وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:35] فهم ينفقون من مال الله لا من مال أتوا به ولا من مال خلقوه، وليس لهم ذلك، هذا تفسير المخبتين، {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:34 - 35]، فلا يكون مخبتاً إلا بهذه الصفات الأربع: صفة الخشية عند ذكر الله.
وصفة الصبر على بلاء الله.
وصفة إقامة الصلاة والمحافظة عليها دائماً.
وصفة الإنفاق من مال الله الذي أعطاه الله إياه، نفقة على العيال، وصلة للأرحام، وصدقة على الفقراء والسائلين، وزكاة واجبة لمن ذكر الله من أصحاب الأصناف الثمانية.(73/5)
تفسير سورة الحج [36 - 38]
لقد جعل الله تعالى البدن من الإبل والبقر من شعائره التي تقدم قربات في المناسك، وجعل فيها الخير الكثير في الدنيا والآخرة، فخيرها في الدنيا: أنها ينتفع بها، وتتخذ للبيع والشراء والتجارة وغير ذلك.
وخيرها في الآخرة: أنها وسيلة للقرب من الله تعالى، وفي ذلك الأجر الوفير عند الله تعالى.(74/1)
تفسير قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله)
قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36].
البدن جمع بدنة، والبدنة: الإبل والبقر، وفي هدايا الحج أكثرها ثواباً: أكثرها لحماً وغنى للفقير والمحتاج والعائلة، قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36] أي: من مناسك الحج ومن أوامر الله وطاعته في أوقات الحج، وعند الصدقات والنفقات والضحية في عيد الأضحى.
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36] أي: جعلها الله قربات في المناسك وهدايا في الذبائح، وقد جعل صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة وفي رواية: عن عشرة، بدنة إبل أو بدنة بقر، فالإبل البدنة الواحدة عن سبعة، بمعنى: أن يجتمع على شرائها ونحرها سبعة من الحجاج وتصح عنهم، كما جاء في الحديث وهو صحيح، وهدايا الحج أكثرها ثواباً: أكثرها لحماً، وأعلاها ثمناً، وفي ضحايا عيد الأضحى أكثرها أجراً: أطيبها لحماً أي: الضأن، والضأن يضحى بها الرأس عن واحد.
قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36] أي: لكم في جعل البدن ضحايا وهدايا وقربات إلى الله في أوقات الحج خير، وخيرها أنكم أولاً تتقربون بها إلى الله، فيعطيكم من الأجر والثواب، ويحفظ لكم ذلك في صحائفكم، وتجدونه عند الله يوم القيامة مكتوباً في الصحائف، ولكم فيها خير في دنياكم في تداولها وبيعها وشرائها والانتفاع بها قبل أن تصل إلى البيت العتيق، وسمي العتيق لعتاقته؛ لأنه أول بيت بني في الأرض، وقد بني أيام آدم، وأما إبراهيم فإن الله ألهمه بأن يتبوأ مكانه، ويبحث عن متبوأ الكعبة، ووجده بعد أن حفر عن الأساس.
وقد سئل صلى الله عليه وسلم: (أي بيت بني أولاً؟ قال: بيت الله الحرام، قيل: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى)، فك الله حصاره وأعاده للمسلمين.
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36] ففيها من خير الدنيا، فتستفيدون من حليبها، ومن شعورها وأوبارها، ومن إنتاجها وتكاثرها بيعاً وشراءً وفائدة، وتركبون ظهورها، ولكم فيها خير في الآخرة: بأن الله أمركم بنحرها وبذبحها، ولكم في ذلك الأجر والثواب، يحفظ لكم في الآخرة، فتنالون به الرحمة والأجر والثواب؛ نتيجة الطاعة والتقرب إلى الله بامتثال أمره.
قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] أي: عند نحرها أو ذبحها اذكروا اسم الله عليها صواف، وهي جمع صافة.
والإبل تنحر بأن تعقل يدها اليسرى وتقام واقفة على رجلين ويد واحدة، واليد اليسرى مربوطة، ويقف ناحرها من جهة اليمين وينحرها من جهة اليسار.
قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] أي: اذكروا اسم الله وألزموا الصفة بأن يكون على قوائمها الثلاث لتنحر، وقولوا عند النحر: بسم الله، اللهم منك وإليك، الله أكبر، عني وعن أهلي، الله أكبر عن فلان، كما كان يقول عليه الصلاة والسلام، فقد كان ينحر تارة عن نفسه وعن أهله، فيقول في النحرة الأولى: (بسم الله، اللهم منك وإليك، الله أكبر، عن محمد وأمة محمد ممن لم يضح أو لم ينحر).
قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] أي: على البدن وهي مقيدة، وهي بمعنى صواف، وقرأ صوافي، أي: صافية خالصة لله، لا يراد بها التعاظم على الناس، ولا المراءاة، وإنما قربة إلى الله.
قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]، ومما يدل على أن معناها معقولة الرجلين واليد الواحدة قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}، أي: سقطت، فهي إن نحرت وهي واقفة تكون النتيجة أنها تسقط، وعندما تسقط وتهدأ تموت، ولا يجوز الأكل منها إلا بعد موتها.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)، فمن تمام الإحسان ألا تقطع أوصالاً ما لم تمت البتة، وإذا كانت لا تزال تتحرك فلا، وما قطع منها وهي حية فهو ميتة.
وكانوا في الجاهلية يأتون إلى الإبل ويقطعون من سنامها شحماً، ومن بعض أعضائها لحماً، ثم يعالجونها لتشفى، ويأكلون ذلك المقطوع؛ لأنهم يرون نحر البدنة كلها أكثر من طاقتهم، ويريدون أن يقروا الضيف، فيأخذون من البدنة وهي حية جزءاً من سنامها أو جزءاً من لحمها، فذاك يعتبر ميتة، والميتة لا تجوز بحال، وأكلها أكل للنجاسة، وأكل للميتة التي لم يحل الله أكلها.
قال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] أي: إذا سقطت عن جنوبها، ولا تسقط إلا وقد تم موتها، فتتحرك قليلاً ثم تموت، وتربط يدها اليسرى؛ لأنها لو نحرت وهي مطلقة الأيدي والأرجل لتحركت إلى أن تموت وقد تؤذي وتبطش بالحاضرين.
قال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] القانع هو من يقنع، وهو المحتاج الفقير الذي لا يسأل، قال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273]، ولكنه يعرف من هيئته ومن لباسه أنه في حاجة، فالقانع من يقنع بأي شيء ولا يسأل، فإذا أعطيته القليل شكر، وإذا أعطيته الكثير شكر ولا يسأل.
والمعتر: هو الذي يعتريه ويتعرض لصدقته وقد يسأل.
فقال تعالى: (فكلوا منها) أي: كلوا منها أنتم، وأطعموا منها القانع، أي: ابحثوا عن الفقراء الذين لا يسألونكم ولا يأتونكم، والذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف وليسوا كذلك، وإنما العفة تركت الناس يظنون أنهم أغنياء وليسوا في حاجة، والمعتر من يعتريه، وقد فسر بعض اللغويين المعنى معكوساً، فقال: القانع هو: الذي يسأل، والمعتر هو: الذي يقنع، والمادة لا تظهر هكذا، فالقانع: المقتنع، من القناعة، والمعتر: الذي يعتريه، والذي يأتيك وأنت تذبح فيسألك أو يتعرض لك، فقسمها ثلاثاً؛ حتى تأكل منها أنت ويأكل منها من ليس بسائل من المحتاجين، ويأكل منها الفقير المدقع.(74/2)
حكم تقسيم الهدي والأضحية
ومن هنا اختلف الفقهاء في حكم تقسيمها، فقال الظاهرية والمالكية والحنفية: يجب أن يؤكل منها؛ لأن الله قال: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:36]، وقال قبل ذلك: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، وأكد هنا هذا فقال: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]، أي: لوها أنتم وأطعموا القانع الذي لا يأتيكم، وقد يكون قريباً أو جاراً فقيراً وليس الفقر ظاهراً عليه، ولكنك تعلم من حاله وتسمع منه أنه محتاج ولكنه لا يسأل، فهذا أحوج لصدقتك وهديتك من الذي يتعرض لك، والمعتر: الفقير الذي يعتريك ويتعرض لصدقتك، فقالوا: تقسم أثلاثاً: ثلثاً لك ولأهلك، وثلثاً لجيرانك ولأقاربك، وثلثاً للصدقة، وقال البعض: لا تحديد في ذلك، كل منها أي شيء، وأعط الأقارب صلة، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نحر البدن في حجة الوداع أمر علياً أن يقطع من كل بدنة قطة لحم فأكل من هذه القطع، وشرب من مرقها، وتصدق وأعطى الباقي، وماذا عسى أن يكون أكل من هذا اللحم قطعة أو قطعتين أو ثلاثاً؟ وأين هذه الثلاث من مائة بدنة! وماذا عسى أن يكون شرب من المرق: كأساً أو كأسين؟! ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أكل من هديه ومن ضحيته.
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36] أي: كما جعلناها لكم مآكل في لحومها، ومشارب في ألبانها، وملابس في صوفها وأوبارها، ومراكب في ظهورها كذلك ذللناها وسخرناها لكم وجعلناها ذليلة، فتجد القطار ذي 100 والـ 200 من البدن يقودها رجل واحد، ولو أن جملاً واحداً هجم على مجموعة من الرجال لقهرهم وأذلهم، وقد يجن أحياناً فلا يقدر عليه إلا بأن يضرب بالرصاص، أو ينحر في لبته، ولكن الله ذللها وسخرها لنا ملكاً ومراكب، وسخرها لنا لننتزع منها ما نلبسه.
وهكذا جعلت مذللة ليستفيد منها الإنسان، ويقول الله: إنه كما سخرها للذبائح والأكل فقد سخرها لنا كذلك للاستعمال، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36] أي: لعلكم تشكرون نعم الله الظاهرة والباطنة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].(74/3)
حكم أضحية العيد
وقد اختلف في الضحية يوم العيد هل هي واجبة أو سنة؟ فقال الشافعية والحنابلة: هي سنة، وقال المالكية والحنفية: هي واجبة على من ملك نصاباً، وقالوا: وما كانت أطيب لحماً كانت أكثر أجراً وثواباً في الضحية يوم العيد، وما كان ضحايا وهديا في الحج فما كان أكثرها لحماً وأغلاها ثمناً فهي أكثر أجراً؛ لأنه ينتفع منها أكبر مجموعة ممكنة من المقيمين والبادين الآتين للحج، والنبي عليه الصلاة والسلام ضحى بكبشين أو كان يضحي في العيد بكبشين، وكان يقول في الأول: (بسم الله، اللهم منك وإليك، عن محمد وأمة محمد ممن لم يضح)، ثم يذبح الثاني ويقول: (بسم الله، اللهم منك وإليك، عن محمد وآل محمد).
وقال الشافعية والحنابلة: قد ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمته التي لم تضح، فلم تبق الضحية واجبة، وأصبحت سنة على من يريدها.
والظاهرية قالوا: المطلوب دم، ولذلك فهم يجيزون حتى ذبح الديك، ويعدون من ضحى بالديك فقد ضحى، ومن جعل الديك للعقيقة فقد عق، والكثير من أهل الشام يضحون بالديك، ويجعلون للعقيقة كذلك الديك، والمذكور في الشريعة بالنص ليس إراقة الدم فقط، بل مذكور الأنعام، والأنعام: الإبل والبقر والغنم، وليس من جملتها الديك والطير.
ومن حجة الشافعية: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضحية فقال: (من استطاع أن يضحي فليضح).
والمالكية والحنفية حددوه بمن يملك النصاب، والنصاب عشر دنانير، فكيف بما نملكه لباساً وأثاثاً! وقد يكون الإنسان لا يملك إلا لباسه وأثاثه، فلا يطالب ببيعهما إن لم يملك النصاب.(74/4)
تفسير قوله تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها)
قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37].
كانوا في الجاهلية يضحون ويقدمون الهدي، ويأتون بالدم فيلطخون به الكعبة ويوسخونها، ويقتطعون من البدن ومن الضحايا لحوماً ويعلقونها على الكعبة؛ يزعمون بذلك القربى إلى الله باللحوم والدماء، فقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37] أي: لا يصل ذلك إلى الله، والله لا يريد لحماً ولا دماً، وهو غني عن ذلك، ولا يليق ذلك بألوهيته، ولكن يناله التقوى منكم، ومعنى التقوى: الامتثال، والامتثال هنا هو الأمر بهذه الهدايا منه لنأكل نحن منها، فيأكل منها القانع والمعتر والبائس الفقير.
والذي ينال الله منها جل جلاله هو تقوانا، والتقوى: الطاعة، وفعل ما أمر الله به، فيفعل طاقته واستطاعته وترك منهياته البتة، والضابط في ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فاتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا).
فالتقوى: امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وأما اللحوم فهي لكم، فكلوا منها، وليأكل الفقراء والأقارب والمحتاج والذي تظنه غنياً باستعفافه، والبائس الفقير، ومن يسال.
قال تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37] أي: سخرها لكم ذبائح ومناحر؛ لتأكلوا منها، ويأكل منها البائس الفقير والمعتر والقانع، وسخرها لكم مراكب وملابس ومشارب وإنتاجاً، ومما ينتفع به من هذه الأنعام من كونها ضحايا وهدايا.
{لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:37] فنقول: الحمد لله على هدايته، والحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام، ولا نعمة أكثر من الإسلام، وكفى بها نعمة! وكما علمنا الله أن نقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:43]، فرسل الله قد جاءت بالحق، ودعت إليه، وأمرت به، وأرسلت به.
قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37] الإحسان: الطاعة والإتيان بها كما أمر الله بفرائضها وأركانها وواجباتها وسننها، وترك المنهيات فيها، والمحسن: المطيع، مع الإخلاص واليقين، وعدم الإساءة في عمله لا بمنّ ولا بمراءاة.(74/5)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].
يقول جل جلاله عن المؤمنين وقد أمروا بالجهاد: قوموا بما فرض الله عليكم، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة، وقد تكفل الله بالدفاع عن المؤمنين وبأن ينصرهم ويسخر لهم من يدافع عنهم، وقد يدافع عنهم الملائكة كما في غزوات النبي عليه الصلاة والسلام وخاصة غزوة بدر، فقد حضر الملائكة مؤيدين رسول الله صلى الله عليه وسلم ورافديه وناصريه بأمر الله، وقال المشركون الذين أسروا: رأينا خيلاً بيضاً بين السماء والأرض.
وقال أحد المسلمين: رفعت السيف لأضرب عنق فلان وإذا بي أرى رقبته وقد دحرجت بين رجليه، ما أنا الذي قطعتها، وهكذا أدرك الصحابة مهاجرين وأنصاراً أنه كان هناك من يناصرهم ويدافع عنهم ويقاتل دونهم.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، وقرأ يدفع، والمعنى واحد، ودفع الله عن المؤمنين لها أشكال كما يريد الله، فقد يكون ذلك ريحاً عاصفاً تنفر الكفار وتدعوهم إلى الخوف والهرب، كما حصل في غزوة الأحزاب عندما جاءت ريح عاصف زعزعت ركن الأعداء المحاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وهو خلف الخندق وهم بعيدين عنه، وقد يكون الدفع وباءً منتشراً في صفوف الأعداء، وقد يكون ملائكة، والله يدافع عن المؤمنين بما شاء وكيف شاء جل جلاله، والأمر كما قال الله: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38]، وإذا كان الله لا يحب شيئاً فهو حرام، فهو لا يحب كل خوان، أي: كثير الخيانة، والخيانة جريمة وكبيرة من الكبائر، وخوان صيغة مبالغة لفعال، أي: كثير الخيانة، فهو خائن في طاعة ربه، إما لأنه مشرك كافر لم يعط الحق لأهله، ولم يذكر الله خالقه ويعبده وهو المعطي والرازق، ولم يؤد الحقوق لأهلها، فلطالما خان ربه وخان عباده وخان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا اؤتمن على أمانة خانها، أو على حديث نشره وأذاعه وتلاعب بما فيه، أو على عرض هتكه، أو على مال أكله، فهو خوان مع ربه ومع الناس، والله يبغض هذا ولا يحبه.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38] الكفور: الجاحد كثير الجحود، فهو جاحد لنعم الله، ولوحدانيته وللنعم التي أنعم بها عليه من الرب جل جلاله، وجاحد لإفضال الناس، فإذا أحسنوا إليه جحد إحسانهم، وإذا أعطوه جحد عطاءهم، وإذا أكرموه جحد إكرامهم، وهكذا تجده كافراً جحوداً مع الله ومع الناس، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من لم يشكر الناس لا يشكر الله)، ونحن قد أمرنا أن نشكر الله أصالة، والحمد والشكر هو لله، وأن نشكر من أتانا خير الله وإكرامه على يده، وقد قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يشكر الناس لا يشكر الله)، فمن لم يشكر الوسائل والوسائط لا يشكر من أتاه ذلك على يده.
وأما أن تقول له: هذا كان بلا فضل منك، والله هو الذي سخرك، فهذا حق، ولكن لا بد أن تشكر الواسطة (من لم يشكر الناس لا يشكر الله).(74/6)
تفسير سورة الحج [39 - 41]
لقد كان المسلمون في أول الأمر مستضعفين ومعذبين من قبل المشركين، وكانوا يصبرون على ذلك، فلما هاجروا إلى المدينة وصار لهم كيانهم المستقل أذن الله لهم بأن يدافعوا عن أنفسهم بالقوة، ووعدهم بالنصر.
ثم ذكر الله تعالى صفات أولئك المنصورين من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كانوا كذلك مكّن لهم في الأرض.(75/1)
تفسير قوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا)
قال الله عزت قدرته: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39].
سبق هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، هذه الآية التي مضى ذكرها وبيانها فيها دفاع الله عن المؤمنين، فقد أذن الله لهم أن يقاتلوا وينتقموا لدينهم ولأنفسهم ولنبيهم، وأن يقاتلوا الذين ظلموهم وأخرجوهم بغير حق من ديارهم، وصدوهم عن سبيل الله وعن الإسلام، هذا من جملة دفاع الله عن المؤمنين، فأذن لهم، أي: أقرهم وأعلمهم بأن لهم الحق في الجهاد والكفاح والدفاع، فقد كانوا يعذبون في مكة المكرمة من قبل كفارها بأنواع من العذاب والصد والقتال، لماذا يسلمون؟ ولماذا يدعون إلى ترك عبادة الأصنام وكسر الأوثان، وعبادة الله وحده؟ فكانوا يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقاتلوا ويقاوموا ويحاربوا، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأذن لهم، وحكمة ذلك أن المسلمين كانوا قلة والمشركين بالآلاف، إذاً: تكون النتيجة قتل هؤلاء المستضعفين واستئصالهم.
ومن الحكمة أن يكون الإسلام قد انتشر بين القوم بالدليل والبرهان والحجة، فيكون قد تم ذلك دون حرب ولا قتال، لكي لا يقول عدو للإسلام يوماً: انتشر الإسلام بالسيف، ومع ذلك قالوا هذا، فالإسلام عاش في مكة في أيامه الأولى اثني عشر عاماً بالدليل العقلي والبرهان العملي على أن الإسلام حق جاء من عند الله، وأن محمداً كان رسولاً نبياً، وأنه أرسل للناس كافة صلوات الله وسلامه عليه، ولكن عندما بالغ كفار مكة في الحرب والمقاومة والصد عن سبيل الله، وأصبح للمسلمين موطئ قدم في المدينة، إذ أصبحت المدينة دار إسلام، أذن الله للمسلمين، وقد أصبحوا جماعة لا بأس بها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة)، فقد بلغوا هذا العدد؛ لذلك فإن الحرب والقتال واجب، فهذه الآية أول آية نزلت في القتال والدفاع وفي حرب أعداء الله ورسوله، أذن لهم لأول مرة، وكانت تلك رغبتهم وأمنيتهم، فقد كانوا يلحون على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ليأذن لهم في قتال هؤلاء الكفرة الظالمين.
وبعد هذا أصبح القتال فرضاً واجباً كفائياً على المسلمين في جميع مشارق الأرض ومغاربها، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولكنهم منذ سنوات أوقفوا هذه الشعيرة، وأوقفوا هذه العز، فأصبح جهادهم إما لدفاع عن وطن، أو دفاع عن قوم، أو دفاع عن مثل ومعان ما أنزل الله بها من سلطان.
وأما الجهاد لرفعة الإسلام، ولإعلاء كلمة المسلمين، وللدفاع عن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان فقد ترك هذا، وما تركه مسلمون إلا وذلوا، وقد تم هذا وحدث، ولن يرفع الذل ما لم يعد المسلمون للجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته، وللدفاع عن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، والمسلمون اليوم يقاتلون في كل رقعة من رقاع الأرض ويخذلون، ولا يجدون مدافعاً عنهم لا بمال ولا بأرواح ولا بكلمة صارخة تعلن بين الأعداء والخصوم في مجالسهم الدولية العامة، وقديماً قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما حورب قوم في عقر دارهم إلا وذلوا).
فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] أي: أذن الله جل جلاله وأقر ووافق وأعلم نبيه ليعلم المسلمين أنهم قد ظلموا بإخراجهم من ديارهم وبقتالهم ظلماً وعدواناً، قوتلوا لا لذنب قدموه، ولا لجريمة سلفت منهم، وإنما قوتلوا وأخرجوا من ديارهم؛ لأنهم قالوا: ربنا الله.
إذاً: فالقتال شرع يوم أن نزلت فيه أول آية في هذه السورة الكريمة سورة الحج، وكانت دفاعاً لإزالة الظلم ودفاعاً عن الأوطان والعقائد، وقد أجبر هؤلاء المؤمنون على الخروج كما أجبر النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه بعد تقتيل وحرب وتعذيب واضطهاد، وبعد مؤامرة متواصلة متصلة لتصفية الإسلام والتخلص من نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
عند ذلك أذن الله له بالهجرة وللمؤمنين معه، وكانوا قبل ذلك بين مخف إسلامه في دار الأرقم، وبين مهاجر إلى أرض الحبشة، وبين معذب إلى أن قتلت سمية أم عمار وزوج ياسر؛ لأنها قالت: ربي الله، وقالت: إن محمداً رسول الله، قتلها الظالم اللعين أبو جهل، وقد لعنه الله وقتله شر قتلة في غزوة بدر، مع أمثاله من الظالمين الكافرين أعداء الله والإسلام.
فالله أذن للمسلمين في أول آية بالقتال بأنهم ظلموا واضطهدوا، وحوربوا ظلماً وعدواناً، وما أوذوا وحوربوا إلا لأن الله هداهم للإسلام وأمرهم به، وأرسل لهم نبياً من أنفسهم، يعرفون أبوته وأمومته، ويعرفون أرضه وعشيرته صلى الله عليه وسلم، آمنوا به امتثالاً لأمر الله، وعملوا بدينه امتثالاً لطاعة الله، وامتثالاً لرسوله الذين صدقوه بما أتى به من معجزات باهرات، وأدلة واضحات.
قال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] أقسم الله جل جلاله وأكد القسم باللام الموطئة للقسم، وبـ (إن) المؤكدة، بأنه سينصرهم، وأنه قادر على نصرهم، وأن الكفار الظالمين أذل من أن يغلبوا جند الله المؤمن، أو أن يقهروا رسل الله وأنبياءه، وقد فعل الله فنصر محمداً صلى الله عليه وسلم، ونصر دينه ونصر المسلمين، وشكراً لله تعالى على نعمائه وآلائه.
قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} [الحج:40] وهذا هو السبب الثاني للإذن بالقتال، فهم ظلموا في حربهم وفي العدوان عليهم، ثم ظلموا بإخراجهم من ديارهم، مساقط رءوسهم وبلدة آبائهم وأجدادهم، وبلدة نبيهم التي فيها ولد، وعليه فيها نزل الوحي صلى الله عليه وسلم، أخرجوهم من أرضهم من بين عشيرتهم وأولادهم وأرزاقهم، تركوا مكة مضطرين مقهورين على ذلك، إلى يثرب، فطابت يثرب بالهجرة النبوية فأصبحت طابة وطيبة، وأصبحت المدينة المنورة بالإسلام وبالدفاع عنه، وبكونها مأوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودار هجرته، وبكونها أصبحت دار الإسلام، وقاعدة لحرب أعداء الله في داخل جزيرة العرب وخارجها.
قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا} [الحج:40]، بدل من الذين في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39]، و {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحج:40] هم محمد سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، والمهاجرون ممن آمنوا به في مكة وهاجروا معه، ومن هاجر قبلهم إلى أرض الحبشة، فقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40] أي: لأن ذنبهم وجريرتهم كونهم خرجوا عن دين هؤلاء المشركين من الشرك بالله، وعبادة الأوثان والأصنام وظلم المسكين، وأكل مال الفقير، فجريمة هؤلاء هي من النوع التي يقال فيها: عذر أقبح من ذنب.
رمتني بدائها ثم انسلت فهؤلاء اعتبروا دين الله وتوحيد الله، وعبادة الله جريمة استحق عندهم من قام بها أن يضطهد، وأن يجرم، وأن يخرج من داره، وأن يقاتل بأنواع القتال.
وقوله: {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40] استنثاء منقطع، أي: كانت جريمتهم أنهم قالوا ربنا الله، لا عيسى ولا مريم ولا عزير ولا العجل، ولا مناة ولا هبل من الأصنام التي لا تنفع نفسها ولا تضر فضلاً عن أن تنفع عابديها دون الله، فكان القتال قد أذن به لثلاث معان: أذن به لرفع الظلم، وأذن به للخروج من الأوطان، وأذن به للدفاع عن لا إله إلا الله وعن الإسلام والمسلمين، وعندما اجتمعت هذه المثل الثلاثة العليا أذن الله بالقتال والدفاع والجهاد، فقاتلوا وجاهدوا، وكانت الحرب يوماً لهم ويوماً عليهم، وكانت العاقبة للمتقين المؤمنين، ونصر الله عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، كما كان النشيد النبوي عند فتح مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم على رءوس المجاهدين المسلمين ينشد هذا النشيد مطأطئ الرأس؛ شكراً لله، وعبادة وخضوعاً له.
قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40].
وهكذا أذن الله بالقتال للأمم السابقة؛ دفاعاً عن المعبد، ودفاعاً عن الدين، ودفاعاً عن العقيدة، أذن لهم بالقتال فجاهدوا بهذه المعاني؛ رفعاً للظلم، ودفاعاً عن الأوطان والعقائد، وكان هذا في معابد الأديان السابقة، وكان كذلك عند الصابئين، وهو ما عبر الله عن معابدهم في ذلك.
والصوامع: هنا جمع صومعة، وهي معبد الصابئين في أيامهم.
قوله: {وَبِيَعٌ} [الحج:40] هي معابد اليهود في أيامهم.
وقوله: {وَصَلَوَاتٌ} [الحج:40] أي: الكنائس، وهي معابد النصارى في أيامهم.
والمساجد معابد المسلمين.
فمضمون هذه الآية كما فهم جمهور المفسرين أن الله قد أذن في سابق الأزمان والأيام للرسل وأتباعهم أن يجاهدوا ويقاتلوا الكفار والمشركين؛ دفاعاً عن العبادة والمعبد، والله ما خلق العباد إلا لعبادته، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فلولا أن الله دافع عن المؤمنين بجهادهم للكافرين حتى قتلوا وذلوا ولقوا مصارعهم، وانتصر الإسلام، وحفظت دور العبادة من صلوات وبيع وصوامع ومساجد، لهدمت هذه المعابد كلها، ولانتصر الشرك، ولم يبق في أرض الله شبر لعبادة مؤمن موحد يقول: ربي الله، وله أسجد وأركع، وله محياي ومماتي إلى يوم الدين.
فالجهاد شرعه الله لنصر الإسلام والمسلمين، كما جاهد السابقون دفاعاً عن معابدهم، وكما جاهد الصابئون دفاعاً عن صلواتهم ومعابدهم، وكما قاتل اليهود في أيامهم دفاعاً عن بيعهم، وكما قاتل النصارى في أيامهم دفاعاً عن كنائسهم وصلواتهم، وكما دافع ويدافع ويجب أن يستمر ذلك ويستبسل المسلمون في الدفاع عن مساجدهم؛ لتبقى كلمة الله(75/2)
تفسير قوله تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة)
قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41].
هؤلاء هم الذين ينصرون الله، لا كل مدع للإسلام وهو على فراشه يتمرغ في رفاهيته مع نسائه ومطاعمه، ويقول: هذا الذي علي، وليطف الطوفان على كل المسلمين مادمت أنا مسلماً، فهو قد أدى الواجب عليه، هكذا يزعم.
وعرض الله بهؤلاء الذين ينصرونه أنهم هم الذين إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة، فقوله: (مكناهم في الأرض) أي: نصرناهم، وجعلنا لهم دولاً مستقلة يحكمونها بالأمر والنهي، والقتل والإحياء بإذن الله، فهؤلاء المسلمون الذين إذا مكنهم الله في الأرض حكاماً أو علماء أو أمماً وشعوباً إسلاميه يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.
فهم إذا تمكنوا حكموا بإقامة الصلاة وإعلانها، وتشييد مساجدها، ونشر دينه وتعليمه: من رياض الأطفال، إلى الجامعات، إلى التخصص، فهؤلاء الذين إذا مكنوا في الأرض دولاً وملوكاً وحكاماً ورؤساء يؤتون الزكاة ويأمرون رعاياهم بأدائها، هؤلاء الممكنون في الأرض يأمرون بالمعروف كما عرفه الله في كتابه ورسوله في سنته، وينكرون المنكر كما أنكره الله في كتابه وأنكره رسوله في سنته، هؤلاء الذين إن فعلو ذلك كانوا قد نصروا الله حقاً بأن نصروا دينه ونصروا نبيه ونصروا كتابه.
فهؤلاء الذين أقسم الله لهم وعليهم بأنهم إن فعلو ذلك لينصرنهم على أعداء الأرض كلها مشارقها ومغاربها، يهوداً ونصارى، ملاحدة وكفاراً ومنافقين، في داخل المجتمع الإسلامي وخارجه، العدو المكشوف الذي نعلمه جميعاً، والعدو الخفي المنافق الذي لا يكاد يعرف إلا بفلتات لسانه وفلتات قلمه، ونظراته الشزراء في عينيه للمؤمنين وشعائرهم ومناسكهم.
وهنا نتساءل ويسأل الكثيرون: لماذا لم ينصر الله المسلمين؟ ولماذا سلط عليهم اليهود وهم أحقر الأمم والشعوب وأذلهم؟ فقد سجل الله عليهم أبد الآباد اللعنة والخزي إلى يوم القيامة، وجعلهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167]، وكلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14].
فهل نحن حقاً مسلمون؟ وهل دولنا ومجتمعاتنا حكموا القرآن، وحكموا السنة، وجعلوا أحكامها مطبقة في مكاسبهم وأحكامهم وإداراتهم؟ أصحيح أنهم دعوا إلى الصلاة في أنفسهم، وأمروا الناس بها؟ أصحيح أنهم نشروا الإسلام تعليماً من رياض الأطفال إلى التخرج من الجامعات وإلى ما هو أعلى من الجامعات؛ إلى التخصص العلمي في كل فن من الفنون؟ هذا العالم الإسلامي بين أنظارنا وأسماعنا قد تركوا كتاب الله لتحكيم قوانين الكفر يهوداً ونصارى، وأخرجوا المرأة عارية في الشوارع لا حياء ولا خجل ولا دين ولا مروءة؟ ألم يحكموا حضارة الكفر من فسق ودعارة وسعي وراء الشيطان في كل ما يعمل؟ ألم يتبعوا اليهود والنصارى في كل ما يعجبهم ويسرهم ويقر أعينهم؟ وكلنا نعلم أنهم لم ينصروا الإسلام، ولم يقاتلوا من أجل ذلك، إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
لتبقى حكمة الله البالغة: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم وهم على ذلك إلى قيام الساعة).
إذاً: كيف نطلب نحن المسلمين نصرة الله، ونقول قد قال الله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]؟ هل نحن مؤمنون حقاً؟ هل نشرنا دين الله حقاً؟ هل دافعنا عن دين الله حقاً؟ إذاً: فالله قال ذلك واشترط، والشرط الذي اشترطه أنه إذا مكن لنا في الأرض وحكمنا أمماً وشعوباً أن نحكم بدينه.
قوله: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].
لله عاقبتا، وإليه معادنا، وستكون حياة بعد هذه الحياة الدنيوية الفانية سنعرض على ربنا للحساب، فمن قام وفعل ما أمر الله به فإلى رحمة الله وجنته، ومن قصر وزعم الإسلام ولم ينصر دينه، ولم يقاتل عن المسلمين ولم يأمر بمعروف ولم ينه عن منكر، ولم يقم صلاته، ولم يؤد زكاته، هؤلاء سيكون حسابهم على الله عسيراً، فإن سلموا بالشهادة وماتوا عليها يرج لهم العفو والخروج من النار، وإن ماتوا على الكفر والشرك فخلود في عذاب الله، قال جل جلاله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
لقد حكم الله على من أضاع حكمه وأحكامه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه ظالم وفاسق وكافر في حكمه، ومع ذلك يزعم ديناً وإسلاماً، وإن رفع سيفاً زعم أنه رفعه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلله عاقبتنا ومعادنا وحسابنا، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، إما إلى جنة وإما إلى نار.(75/3)
تفسير سورة الحج [42 - 47]
يسلي الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه إن كذِّب من قبل المشركين فقد كذَّب الأنبياء من قبله، وسخر منهم أقوامهم، ورموهم بأبشع الألقاب وأردأ العبارات، فصبروا فكانت لهم العاقبة.
فصابر مثلهم يا محمد فإن العاقبة لك وللمؤمنين.(76/1)
تفسير قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح)
قال تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج:42 - 44].
يسلي الله جل جلاله ويعزي نبينا عليه الصلاة والسلام، ويدعوه إلى الصبر، فإن العاقبة للصابرين، وإن النصر في العاقبة للمؤمنين ولرسل الله، يقول له: ((وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ)) أي: إن كذبك قومك، وأنكروا رسالتك، وأنكروا كون القرآن منزلاً عليك من ربك، وأنه كلام الله، فلست مفرداً بذلك، ولم تكن بدعاً من بين الرسل، فقوله: ((فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ)) أي: كُذِّب قبل قومك، وقبل أن يرسل إليك أقوام من الأمم السابقة؛ ابتداء من قوم نوح.
قال تعالى: ((قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ)) فكذب قوم نوح، وكذب عاد نبيهم هوداً، وكذب ثمود نبيهم صالحاً، وكذب قوم إبراهيم إبراهيم، وكذب قوم لوط لوطاً، وكذب أصحاب مدين شعيباً، وكذب فرعون وقومه موسى عليه السلام.
قال تعالى: ((وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ)) فالله يقول: إني أملي لقوم وأؤخرهم، وأعطيهم فرصة؛ لعلهم يرجعون ويئوبون ويقولون: ربنا الله، أو لعلهم يعيشون فيخرج الله من أصلابهم مؤمنين مصدقين موحدين لا كآبائهم مشركين، فهؤلاء أمليت لهم، وقد كذبوا أنبياءهم قبلك؛ كذبوا نوحاً وهوداً وصالحاً، وكذبوا إبراهيم وموسى، فهؤلاء الأقوام كذبوا الرسل الكرام قبلك، وصنعوا صنيع قومك حيث كذبوك.
فقوله تعالى: ((فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ)) أي: أخرتهم وأمليت لهم زمناً وأعطيتهم مهلة؛ لتقوم الحجة البالغة عليهم، ولعلهم يوماً يتدبرون بعقولهم، ويسمعون الحق بآذانهم، ويعون الصحيح من الباطل بقلوبهم، ولعلهم يقولون: ربنا الله.
قال تعالى: ((ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ)) أي: أخذهم أخذ عزيز مقتدر، أرسل الطوفان على قوم نوح، وأرسل الصواعق والرياح والعواصف على أقوام آخرين، بل وأرسل عليهم أضعف الحشرات؛ إذ أرسل البعوض على قوم نمرود الذين عذبوا إبراهيم وحرقوه والله لم يرد إحراقه، وأرسل على قوم لوط الصواعق من السماء، وجعل الأرض عاليها سافلها؛ لفعلتهم الشنيعة، مع تكذيبهم لرسولهم، وأغرق آل فرعون، فقد كذبوا موسى وأخاه هارون، ولم يؤمنوا بما جاءا به من معجزات وآيات، وأصروا على الكفران والجحود، فأخذهم الله إليه أخذ عزيز مقتدر، وكذلك يا محمد! اصبر وتمهل حتى تكون العاقبة لك كما كانت العاقبة للأنبياء قبلك، فسنعذب من يبقى من قومك، ممن أرسلت إليهم رسولاً وستكون العاقبة عليهم بتعذيبهم والمكر بهم وسحقهم وتدميرهم، وقد فعل ربنا جل جلاله؛ إذ نصر محمداً على قومه صلوات الله وسلامه عليه، ونصره على جزيرة العرب، ونصر أتباعه على فارس والروم والبربر، ونشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها؛ وخلال خمسين عاماً انتشر دين الإسلام شرقاً إلى أرض الصين، وغرباً إلى بلاد فرنسا وأسبانيا في عمق أوروبا وما بينهما.
ولذلك يعزي الله جل جلاله نبيه ليصبر ويتمهل، ويخبره أن النصر له في النهاية، وأن العاقبة بالسوء والتدمير على من كذبوه، وقد فعل جل جلاله وصدق وعده، وهنا قال عليه الصلاة والسلام وهو يدخل مكة منتصراً مظفراً: (الحمد الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) دخل مكة وهو على راحلة، ولم يركب جواداً ولا فرساً ليتراقص به تراقص العزيز المنصور المظفر، بل دخل يركب ناقة في مشيها الهون، وهو مطأطئ رأسه تواضعاً لله، وخنوعاً لعزه وجلاله، ولم ينسب لنفسه شيئاً، وقال عن ربه: (وهزم الأحزاب وحده)، فالله وحده جل جلاله هو الذي نصر عبده محمداً ودينه الإسلام وأتباعه المؤمنين، وأذل الكافرين وسحقهم ودمرهم، وأنجز ما كان قد وعد به نبينا عليه الصلاة والسلام في غير آية من آيات كتاب الله، وغير سورة من سور القرآن الكريم، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] لا أحد جل جلاله وعلا مقامه.
قال تعالى: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} [الحج:44].
أي: أخذهم أخذ عزيز مقتدر، وجعلهم عبرة للمعتبر وجعلهم قصصاً تتلى لمن يأتي بعدهم؛ لتدبر آيات الله ووعده الحق، فيبادر بالعمل الصالح في حياته قبل مماته، فيؤمن ويقول: ربي الله، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج:44] يسأل موبخاً ومقرعاً لهؤلاء الكفار، وداعياً للاعتبار للمؤمنين المذبذبين، وسائلاً للمؤمنين الثابتين ثبوتاً ورسوخاً، ((فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ)) أي: كيف كان إنكاري على هؤلاء الذين طالما كذبوا وكفروا وآذوا رسل الله وأتباع رسل الله من الموحدين.
فكيف كان نكيري؟ كان بالتدمير وبالتخريب، وكان بالموت صعقة ودهدهة وغرقاً، وبرفع الأرض وجعل عاليها سافلها، ومع هذا غضب الله ولعنته والخلود في النار أبد الآبدين.(76/2)
تفسير قوله تعالى: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة)
قال تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45].
لم يذكر في هذه الآية أنبياء الله جميعاً، ولم يذكر أتباعهم وأممهم الذين كذبوهم جميعاً، ولكنه عمم فقال: ((فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ)) أي: كم من أهل قرية أهلكناهم ودمرناهم وجعلناهم في الأمس الدابر، وجعلناهم أحاديث تقص في السمر، ويعتبر به المؤمن عند إيمانه ومدارسة الأديان، ومدارسة المؤمنين السابقين واللاحقين.
فقوله تعالى: ((فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ)) أي: في حال ظلمها، أي: لم تكف عن الظلم ولم تتب عن الظلم بكل أنواعه، فأظلم الظلم وأشده كبيرة الشرك بالله، فقد ظلموا أنفسهم، وظلموا صاحب الحق حقه جل جلاله، إذ لم يوحدوا الله ويشكروه على ما رزقهم من حواس ونعم وصحة وأرزاق، وأبوا إلا الشرك والجحود إلى أن لقوا الله ظالمين مشركين.
قال تعالى: ((فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)) العروش هنا: السقوف، فهذه القرية فارغة من سقوفها إلى الأرض، فقد خربت ودمرت وزلزلت، ولم يبق فيها ساكن ولا حي، فقد باد أهلها وأهلكوا وذهب نعيمهم وكفرهم، وذهبت رفاهيتهم من نساء وبنين وطيور وزينة، فجاءوا من التراب وعادوا للتراب، ودمروا تدميراً هم ومساكنهم، ولم يبق هناك قصر مرتفع أو مزخرف مطلي بأنواع الدهون، محفور بأنواع الزينة، مرتفع إلى أعلى الطبقات.
ذهبت القصور وخربت، ولم تبق لها سقوف ولا حيطان ولا جدران، خلت من سكانها ونعيمها، وخلت من شبابها وشيوخها، وخلت من نسائها وفتياتها، وخلت من النعيم الذي كانوا يعيشون فيه مترفين مع شركهم وكفرهم، لم يقولوا يوماً عن هذه النعم المتوالية: نشكر الله ونحمد الله.
قوله: ((وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ)) أي: كم من بئر جفت مياهها وخلت عن السواقي وعمن يجتلب منها بالدلاء، فقد عطلت وغار ماؤها كما عطلت القرية بقصورها المشيدة وبمصانعها القائمة على حضارتهم، وكأنه لم يكن فيها يوماً أنيس، ذهبوا بشركهم وكفرهم، ولعذاب الله يوم القيامة أشد.
ومعنى ذلك: أيها الكافرون بمحمد خاتم الأنبياء خذوا العبرة والعظة ممن سبقكم من المشركين، ما الذي صنعناه بهم؟ وكيف دمرناهم؟ فهذه قراهم خالية، وآبارهم معطلة، وقصورهم خاوية على عروشها من سقوفها إلى جدرانها، كأن لم يكن فيها يوماً أنيس، أو حي يتكلم ويأخذ ويعطي.
وهنا الله جل جلاله يخاطب الكافرين والمؤمنين، وإن كان الخطاب يشير إلى الكافرين، فإنه يخاطب الكافرين لعلهم يأخذون من ذلك العبرة والعظة، فيخشون الله يوماً ويعودون إلى الله وإلى رسله، ويخاطب المؤمنين ليزدادوا إيماناً ورسوخاً في يقينهم وإيمانهم بالله ورسوله.(76/3)
تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب)
قال تعالى عن الكافرين: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
يقول تعالى لهؤلاء المكذبين: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)) أي: ألم يسيحوا ويسافروا وينتقلوا فيروا هذه القرى المدمرة، وهذه الديار المخربة والآبار الجافة القاحلة، وهذه الأشجار التي كأنها قد أحرقت، ألم يقولوا يوماً من الذي دمر هذا؟ ومن الذي خرب هذا؟ ومن الذي عطل هذه القصور المشيدة المنحوتة في الجبال، والمنحوتة في الأرض، وعطل قصوراً شاهقة في أجواء السماء تكاد تناطح السحاب، أفلا يخافون يوماً أن تدمر قراهم وتخرب دورهم ويذهبون كما ذهب هؤلاء في الأمس الدابر؟! وأرض ثمود في الحدود بيننا وبين الأردن وبين أرض الشام، وآثار الأمم السابقة في كل مكان في الأرض، فهذه أهرامات مصر، وهذه القصور المشيدة في العراق من أرض فارس قديماً، وهذه الحفريات التي تحفر كثيراً في أسوان، وفي الأرض كلها في أراضي المسلمين وغيرهم، فتجد هناك الآثار المدمرة والمخربة، وستجد الآثار التي بلغت من الحضارة والصناعة والرفاهية ما لم تبلغها حضارة أوروبا اليوم وأمريكا، هذه الحضارة التي تسمى حضارة عصر النور، فنقول لهؤلاء الذين يكذبون: هذه أهرامات مصر كيف بنيت ومن أشادها؟ هذه قصور بغداد والعراق كيف بنيت وقد مر عليها الآلاف من السنين كما مر على أهرامات مصر؟ وكيف جاءت هذه الصخرة التي على الكعبة؟ وكيف قطعت من الجبل؟ وكيف نحتت؟ وكيف حملت إلى أن وضعت؟ وكيف جعلت صخرة على صخرة؟ لم ذلك؟ ومن كان يسكن؟ وما هي أسرار ذلك؟ وقل مثل ذلك على كل الحفريات في الأرض، ألا ينبغي ويجب على هؤلاء الذين يسيحون في الأرض أن يعتبروا؟ فقد كان لقريش رحلتان: رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وكانوا يمرون على الكثير من هذه الآثار، ألم يفكروا يوماً أين ساكنوها؟ وأين ملوكها وحكامها الأقوياء؟ وبم دمروا وبم خربوا؟ ومن الذي دمرهم، ومن الذين خربهم؟ وكل هذه المنظورات والمرئيات مما تؤكد ما أتى به كتاب الله ونطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يزيد المؤمن إيماناً، ويعظ الكافر لعله يوماً يقول: آمنت بالله، وقد صدق الله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به حق، وما جاء به واقع قد رأيناه رأي العين، وسمعناه سماع الأذن عن آبائنا وأجدادنا إلى اليوم الذي حدث ذلك، سمعناه في القرآن، وسمعناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعناه عن علمائنا.
فقوله: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)) أي: ألم يقطعوا الأرض يوماً سواحاً أو تجاراً؟ ولا شك أنهم قد فعلوا ذلك، قال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:1 - 2]، فكانت لهم رحلتان في السنة: رحلة شتوية ورحلة صيفية، وكانوا يمرون على هذه الآثار ويقولون: ومن الذي دمر؟ من الذي خرب؟ أليس هذا الذي جاء في القرآن الكريم ونطق به محمد صلى الله عليه وسلم؟ بلى.
ولذلك قال الله لهم: هذه ذكرى لهم ولكل دعي للإيمان بالله وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ورسالته خوطب بها كل الناس لا العرب وحدهم، ولا العجم وحدهم، ولا أهل المشرق وحدهم، بل كل العالمين منذ البعثة المحمدية، ومنذ أن وقف محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض المقدسة وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الحج:49]، ولذلك فكل ما خوطب به الكفار هو خطاب للناس كلهم، وكل ما خوطب به المؤمنين فللناس كلهم.
قال تعالى: ((فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)) أي: أليست لهم عقول يعقلون بها ويعون ويفهمون ويدركون ويعلمون؟ وإذا لم يسمعوا منك وعما أنزل إليك من القرآن الكريم، ألم يمروا على هذه الآثار وعلى هذه القرى والمدائن ويروا فيها ما قصصناه عليك من التدمير والتخريب لهؤلاء؟ أليست لهم عقول تعقل؟ أليست لهم قلوب تدرك؟ قال تعالى: ((أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا)) أليست لهم آذان يسمعون بها عن هذا، عندما يقفون في مشارف القرية ويبهر زوارها والساكنون حواليها متى حدث هذا؟ وما هي أسبابه؟ وتسمعون الكثير عن آبائهم وأجدادهم إلى العصر الذي حدث فيه ذلك.
وأنتم إذا سمعتم ألا تعون وتستفيدون بالسمع؟ وإذا عقلتم ورأيتم ألا تستفيدون بالنظر والوعي؟ قال الله عنهم: ((فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ))، وليس البصر في عماه ضاراً بالمؤمن، ومع ذلك نسأل الله السلامة والعافية، فيمكن أن يعي ويعقل ويدرك، ولكن البلاء من عميت بصيرته وقلبه، فتجده ينظر إليك ولكنه لا يرى، ويسمع منك ولكنه لا يسمع، أي: لا يستفيد برؤيا ولا يستفيد بسمع ولا يستفيد بوعي ولا يستفيد بإدراك.
فلهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم قلوب لا يفقهون بها، فهم كالأنعام بل هم أضل؛ لأن الأنعام لها كلمات تفهمها عنك، فإن أردت للحمار أن يمشي، أو أردت أن يقف، أو أردت أن يأكل، أو أردت أن يشرب وهكذا، فإنه يفهم عنك ذلك.
وأما هؤلاء فهم أضل من الأنعام وأقبح؛ لأن الأنعام يستفاد من بطونها ومن ظهورها، ومن أوبارها وأشعارها، أما هؤلاء فيكونون على الأرض ضياعاً وثقلاً، ضررهم أقرب من نفعهم ولا فائدة منهم لأحد، بل هم للشر وللفساد ولإضلال الصالحين ولإضلال الهادين المهديين.
والذي عمي قلبه وعميت بصيرته هذا الذي يكون قد عمي العمى الحق، إذ لا يستفيد من بصر ولا سمع ولا قلب، ولا يستفيد في دنياه ولا في آخرته، قال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198] فهو عمى مسترسل قلبي، ومن كان كذلك فهو ميئوس منه ومن فائدته ومن مستقبله ومن خيره.(76/4)
تفسير قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده)
قال الله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].
مع بلادة هؤلاء وسخافة عقولهم، وعدم الاستفادة من حواسهم أسماعاً وأبصاراً عقولاً وقلوباً يستعجلون بالعذاب، قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج:47]، فتجد قائلهم يقول: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، فبلغ من حمقهم وعمى بصائرهم قبل الأبصار أن دعوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب، وقد أنذرهم الله وتهددهم وتوعدهم في كتابه، وأنذرهم رسوله صلى الله عليه وسلم بسنته وببيان كتاب الله المنزل عليه، وإذا بهم يتحدون مكذبين: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنبياء:38].
قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج:47] فالعذاب آت، ولكن متى ما يريد سبحانه لا متى يريدون هم، فالله أرحم من أنفسهم لأنفسهم، وأرحم بهم من نفوسهم، فهو قد أمهلهم وأعطاهم فرصة لعلهم يوماً يتوبون، وإلى الله يئوبون، لعل الله أن يخرج من أصلابهم مؤمنين موحدين يقولون يوماً: لا إله إلا الله.
قال تعالى: ((وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ))، فالله وعده لا يخلفه، بل لابد منه وهو آت، والوعد هنا يراد به الوعيد، فالوعد لا يخلف، والوعيد قد يخلف؛ لأنه قد يهدي الله من توعده وأنذره، فيتوب ويئوب فيغفر له، وقد يكون موحداً فيعود إلى الله ويغفر له كذلك، وفي لغة العرب وفي سجاياها: أن الوعد للخير لا يخلف، وإخلافه قلة مروءة، وأن الوعيد بالشر يخلف، وإخلاف الوعيد مكرمة ونبل وإحسان، ولذلك يقول شاعر العرب: وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي أي: إذا أوعدت إنساناً بالشر أو وعدته بالخير فإني مخلف إيعادي له بتهديده والشر له، أخلفه نبلاً وكرماً.
وموف بموعدي، أي: وعدي له بالخير، والقرآن نزل بلغة العرب، وهنا قال الله: وعد ولم يقل: وعيده، ((وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ)) أي: لن يخلف الله وعده بنصرة المؤمنين، ولن يخلف الله وعده بالمغفرة والرحمة لهم، ولن يخلف الله وعده برحمته للكافرين بأن يمهلهم ويملي لهم؛ علهم يعودون ويتوبون، وإن لم يفعلوا فإنه يخرج من أصلابهم مؤمنين.
وهكذا قال ربنا عن نبينا عندما أرسله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وفي الحديث القدسي: (غلبت رحمتي غضبي) وهي أول ما كتب في اللوح المحفوظ، ومن رحمته حتى بالكافرين أنه يملي لهم ويمهلهم؛ ليعطيهم فرصة للتوبة وللأوبة، أو فرصة بأن يلدوا فيكون من أصلابهم المؤمنون.
قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].
أي: يوم القيامة، فيوم من أيام يوم القيامة كألف سنة من عدد سنوات الأرض، فاليوم يطول والأيام تختلف بحسب الشروق والغروب، ويوم القيامة لا شمس فيه ولا زمهرير، ولا حر ولا قر.
قال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118 - 119].(76/5)
تفسير سورة الحج [58 - 60]
لقد وعد الله تعالى الذين يهاجرون في سبيله ثم يقتلون أو يموتون بالرزق الحسن في جنات النعيم، والله خير الرازقين، ثم تكفل الله تعالى للذين يعاقبون بمثل ما عوقبوا به ثم بغي عليهم أن ينصرهم.(77/1)