تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم)
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:3 - 4].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى ذاماً لمن كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى، معرضاً عما أنزل الله على أنبيائه متبعاً في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد من الإنس والجن، وهذا حال أهل الضلال والبدع المعرضين عن الحق المتبعين للباطل يتركون ما أنزل الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رءوس الضلالة الدعاة إلى البدع بالأهواء والآراء، ولهذا قال في شأنهم وأشباههم: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)) أي: علم صحيح، ((وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ)) قال مجاهد: يعني: الشيطان.
يعني: كتب عليه كتابة قدرية، ((أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ)) أي: اتبعه وقلده، {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4]، أي: يضله في الدنيا ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير، وهو الحار المؤلم المقلق المزعج، وقد قال السدي عن أبي مالك: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث، وكذلك قال ابن جريج.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن مسلم البصري حدثنا عمرو بن المحرم أبو قتادة حدثنا المعمر حدثنا أبو كعب المكي قال: قال خبيث من خبثاء قريش: أخبرنا عن ربكم من ذهب هو أو من فضة هو أو من نحاس هو؟! فقعقعت السماء قعقعة -والقعقعة في كلام العرب: الرعد- فإذا قحف رأسه ساقط بين يديه.
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: (جاء يهودي فقال: يا محمد! أخبرني عن ربك من أي شيء هو من در أم من يا قوت؟ قال: فجاءت صاعقة فأخذته)].
ليث بن أبي سليم ضعيف، والحديث الذي قبله موقوف على أبي كعب المكي.(103/3)
تفسير سورة الحج [5 - 7]
أقام الله سبحانه الأدلة على وحدانيته وقدرته على إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم وذلك من خلال ضرب الأمثلة في النظر إلى الأرض والنبات، فالذي يعيد نبات الأرض إليها بعد أن صارت مجدبة قادر على بعث الموتى من قبورهم وحشرهم يوم القيامة.(104/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5 - 7].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد].
أي: أن هذه هي المناسبة بين ربط الآية بما قبلها، فإنه تعالى لما ذكر حال المنكر للبعث ذكر بعدها الدليل على إثبات البعث فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [الحج:5]، فاستدل على البعث بالبدء، يعني: أن الذي خلقكم من تراب ثم من علقة قادر على أن يعيدكم ويبعثكم مرة أخرى، كما قال سبحانه وتعالى في آية الروم: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]، يعني: وهو هين عليه.
وكذلك أيضاً إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على البعث، فاستدل على البعث بدليلين: الدليل الأول: بدء خلق الإنسان؛ فإنه خلق من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة.
والدليل الثاني: إحياء الله الأرض بعد موتها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد بما يشاهد من بدئه للخلق فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ)) أي: في شك ((مِنَ الْبَعْثِ)) وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة].
يعني: بعث الأجساد وإعادة الأرواح إليها.
وهذا أصل من أصول الإيمان وركن من أركان الإيمان، ولا يتم الإيمان إلا به، فمن لم يؤمن بالبعث فهو كافر بإجماع المسلمين، كذلك من قال: إن البعث إنما هو للأرواح، كالفلاسفة؛ فإن الفلاسفة يقولون: البعث للأرواح، وأما الأجساد فلا تبعث، وهذا كفر بإجماع المسلمين، بل نفس الأجساد تعاد، فإن الذرات التي استحالت تراباً يعيدها الله؛ فهو عالم بالذرات التي استحالت، وهو قادر على ذلك، كما قال سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:78 - 80].
فالذرات التي استحالت يعيدها الله خلقاً جديداً، والإنسان يبلى إلا عجب الذنب، وهو العصعص آخر فقرة في العمود الفقري، منه خلق ابن آدم ومنه ركب، كما في الحديث: (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم ومنه ركب)، فيعيد الله الذرات التي استحالت، ثم ينشئه الله خلقاً جديداً، فتبدل الصفات، وأما الذوات فهي هي، لكن الصفات تكون صفات أقوى من الصفات التي كانت عليها في دار الدنيا، فتتحمل مواقف وأهوال القيامة، ولهذا يعظم خلق الكافر في النار حتى يكون ضرسه مثل جبل أحد كما جاء في الحديث الصحيح، نسأل الله السلامة.
والجلود تبدل كما قال عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56]، فالتبديل يكون للصفات، والمراد بالتبديل التجديد، كما جاء ذلك عن الإمام أحمد رحمه الله حين رد على الزنادقة حينما شبهوا وشكوا في المتشابه من القرآن ونسبوا الله إلى الظلم وقالوا: إن الله ظالم -نعوذ بالله- إذ كيف يعذب جلوداً لم تذنب؟! فبين لهم رحمه الله أن هذا من جهلهم وضلالهم وكفرهم، وأن المراد: تجديد، وليس المراد تبديل ذوات.
فالإنسان يعاد بذاته وبجسده، ونفسه هي هي، ولما قال الجهم بن صفوان: إنه يعاد شيئاً آخر، كفره العلماء، وفتح بذلك باباً للفلاسفة فأنكروا البعث.
نسأل الله السلامة.
وكذلك الأرض عندما تبدل يكون تبديلها تبديل صفات، والذات هي هي.
فقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم:48]، أي: تبديل صفات لا تبديل ذات، فالناس يبعثون بذواتهم التي كانوا عليها وتبقى كما كانت لا تبدل، أما الأعمار فإنهم في الجنة يكونون كلهم شباباً، أبناء ثلاث وثلاثين، حتى الأطفال الذين ماتوا يكونون شباباً، وأما الصفات التي كانت عليها الذوات فإنها تبدل، ولهذا لا يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا، وأما في يوم القيامة فينشئ الله الخلق تنشأة قوية فيثبتون فيها لرؤية الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ)) أي: أصل برئه لكم من تراب، وهو الذي خلق منه آدم عليه السلام، ((ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ)) أي: ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين].
يعني: أن آدم خلق من تراب، وذريته كل واحد خلق من نطفة من ماء مهين، فالإنسان يخلق من ماء الرجل وماء المرأة جميعاً، إلا عيسى عليه السلام فإنه خلق من أم بلا أب، خلق بالنفخة التي نفخها جبريل في جيب درعها فولدت عيسى عليه السلام، وهكذا حواء خلقت من آدم، وأما سائر الناس فخلقوا من ذكر وأنثى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ)) وذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة مكثت أربعين يوماً كذلك يضاف إليه ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله، فتمكث كذلك أربعين يوماً، ثم تستحيل فتصير مضغة -قطعة من لحم- لا شكل فيها ولا تخطيط].
ذكر في هذا تطور خلق الإنسان، وأنه يخلق من مني الرجل وماء المرأة، فيكون كذلك أربعين يوماً، ثم تتطور هذه النطفة فتتحول إلى قطعة دم -علقة- ثم بعد أربعين يوماً تتحول إلى قطعة لحم -مضغة- بقدر ما يمضغ في الفم، ثم يخلق الله العظام، ثم بعد مضي أربعة أشهر يأتيه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات، وجاء في بعض الأحاديث أن الملك يدخل بعد اثنين وثمانين يوماً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم يشرع في التشكيل والتخطيط؛ فيصور منها رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان ورجلان وسائر الأعضاء].
يعني: أن هذه المضغة من اللحم يصور الله منها يدين ورجلين ورأساً وهكذا، ثم يأتي الملك فينفخ فيه الروح بإذن الله، ويؤمر بكتب أربع كلمات، فيقول: يا رب! ما الرزق؟ ما الأجل؟ ما العمل؟ ما الشقاوة والسعادة؟ فيكتب هذا وهو في بطن أمه.
وله سبحانه وتعالى الحكمة في ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط، ولهذا قال تعالى: ((ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ))].
فإذا أسقطت المرأة مضغة -قطعة لحم غير مخلقة- فليس لها حكم النفاس، وإنما يكون ما يخرج منها دم فساد، فتصوم وتصلي، أما إذا أسقطت قطعة لحم فيها تشكيل وتصوير؛ وفيها يد أو أصبع أو رجل أو رأس فهذا إنسان، فيكون حكمها حكم النفاس، والدم الخارج منها دم نفاس، ويكون هذا آدمي يغسل ويصلى عليه ويدفن ويعق عنه ويسمى.
ولو كان ميتاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: ((ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)) أي: كما تشاهدونها، ((لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) أي: وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها، كما قال مجاهد في قوله تعالى: ((مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)) قال: هو السقط مخلوق وغير مخلوق، فإذا مضى عليها أربعون يوماً وهي مضغة أرسل الله تعالى ملكاً إليها فنفخ فيها الروح وسواها كما يشاء الله عز وجل من حسن وقبح وذكر وأنثى، وكتب رزقها وأجلها وشقي أو سعيد.
كما ثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح).
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: (النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال: يا رب! مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قيل: غير مخلقة، لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دماً، وإن قيل: مخلقة قال: أي رب! ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ ما الأجل؟ وما الأثر؟ وبأي أرض يموت؟ قال: فيقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله، فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله، فيقال له: اذهب إلى الكتاب فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة، قال: فتخلق فتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، وتطأ أثرها، حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك المكان ثم تلا عامر الشعبي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُ(104/2)
اختلاف العلماء في وقت الزلزلة المذكورة في قوله تعالى: (إن زلزلة الساعة شيء عظيم)
قال صاحب أضواء البيان: (مسألة.
اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا، هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة، أو هي عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من القبور؟ فقالت جماعة من أهل العلم: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر هذه الدنيا، وأول أحوال الساعة، وممن قال بهذا القول، علقمة والشعبي وإبراهيم وعبيد بن عبيد، وهذا القول من حيث المعنى له وجه من النظر، لكنه لم يثبت ما يؤيده من النقل؛ بل الثابت من النقل يؤيد خلافه وهو القول الآخر.
وحجة من قال بهذا القول حديث مرفوع جاء بذلك إلا أنه ضعيف لا يجوز الاحتجاج به.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره مبيناً دليل من قال: إن الزلزلة المذكورة في آخر الدنيا قبل يوم القيامة: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن إسماعيل بن رافع المدني عن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما فرغ الله من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى السماء ينتظر متى يؤمر، قال أبو هريرة: يا رسول الله! وما الصور؟ قال: قرن، قال: وكيف هو؟ قال: قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات، الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين.
يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع! فتفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله، ويأمره الله فيمدها ويطولها فلا يفتر، وهي التي يقول الله: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص:15] فيسير الله الجبال فتكون تراباً، وترج الأرض بأهلها رجاً، وهي التي يقول الله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات:6 - 8] فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر، تضربها الأمواج تكفأ بأهلها، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح، فيمتد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع وتضع الحوامل وتشيب الولدان وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار، فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً، وهو التي يقول الله: {يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:32 - 33].
فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر، فرأوا أمراً عظيماً وأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم خسفت شمسها، وخسف قمرها، وانتثرت نجومها، ثم كشطت عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك، فقال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87]؟ قال: أولئك الشهداء وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه، وهو الذي يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] إلى قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]) انتهى منه.
ولا يخفى ضعف الإسناد المذكور، كما ترى، وابن جرير رحمه الله قبل أن يسوق الإسناد المذكور، قال ما نصه: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما قال هؤلاء، خبر في إسناده نظر، وذلك ما حدثنا أبو كريب إلى آخر الإسناد، كما سقنا عنه آنفاً).
ومن رواة هذا الحديث: إسماعيل بن رافع وهو ضعيف ومعروف أنه راوي حديث الصور، فقد جمعه ولفقه من عدة أحاديث، وفيه أنه ذكر ثلاث نفخات، والمعروف في النصوص، في القرآن وفي الصحيح أنها نفختان، قيل: أولها فزع وآخرها صعق ثم نفخة البعث.
وأما في الحديث السابق فذكر ثلاث نفخات، نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة البعث.
قال صاحب أضواء البيان: (وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور، من رواية إسماعيل بن رافع عن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي عن رجل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله وسلم، ثم ساق الحديث نحو ذكرناه بطوله] وفي هذا الحديث ذكر رجلاً قبل أبي هريرة فهو مبهم.
قال: (ثم قال: هذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير وابن أبي حاتم وغير واحد مطولاً جداً، والغرض منه: أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة أضيفت إلى الساعة؛ لقربها منها، كما يقال: أشراط الساعة ونحو ذلك والله أعلم.
انتهى منه.
وقد علمت ضعف الإسناد المذكور، وأما حجة أهل القول الآخر القائلين بأن الزلزلة المذكورة كائنة يوم القيامة بعد البعث من القبور، فهي ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من تصريحه بذلك، وبذلك تعلم أن هذا القول هو الصواب كما لا يخفى.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه في التفسير باب قوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج:2] حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم! فيقول لبيك ربنا وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: يارب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف -أراه قال- تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] فشق ذلك على الناس؛ حتى تغيرت وجوههم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد، وأنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا، ثم قال: ثلث أهل الجنة، فكبرنا، ثم قال: شطر أهل الجنة، فكبرنا).
وقال أبو أسامة عن الأعمش {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، وقال جرير وعيسى بن يونس وأبو معاوية: سكرى وما هم بسكرى).
فقد تبين أن فيها قولان لأهل العلم، القول الأول: أن هذا في آخر الدنيا، ودليله حديث إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، والثاني: أن هذا بعد البعث، ودليله حديث البخاري وهو حديث صحيح، والقول الثاني هو المعتبر، والمعتمد وهو أن هذا يكون بعد البعث.(104/3)
الجواب على من استشكل حصول الحمل والإرضاع عند قيام الساعة
ثم قال صاحب أضواء البيان: (فإن قيل هذا النص فيه إشكال، بأنه بعد القيام من القبور لا تحمل الإناث، حتى تضع حملها من الفزع، ولا ترضع حتى تذهل عما أرضعت، فالجواب عن ذلك من وجهين: الأول: هو ما ذكره أهل العلم من أن من ماتت حاملاً تبعث حاملاً، فتضع حملها من شدة الهول والفزع، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك، ولكن هذا يحتاج إلى دليل.
الوجه الثاني: أن ذلك كناية عن شدة الهول لقوله تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل:17] ومثل ذلك من أساليب اللغة العربية المعروفة.
تنبيه: اعلم أن هذا الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا بعضها يرد عليه سؤال، وهو أن يقال: إذا كانت الزلزلة المذكورة بعد القيام من القبور فما معناها؟ والجواب أن معناها: شدة الخوف والهول والفزع؛ لأن ذلك يسمى زلزالاً؛ بدليل قوله تعالى فيما وقع بالمسلمين يوم الأحزاب من الخوف، {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11] أي: وهو زلزال فزع وخوف، لا زلزال حركة الأرض.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] يدل على أن عظم الهول يوم القيامة موجب واضح للاستعداد لذلك الهول بالعمل الصالح، في دار الدنيا قبل تعذر الإمكان لما قدمنا مراراً من أن المشددة المكسورة تدل على التعليل، كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، ومسلك النص الظاهر، أي: اتقوا الله؛ لأن أمامكم أهوالاً عظيمة لا نجاة منها إلا بتقواه جل وعلا).
وبهذا يتضح أن المسألة فيها قولان: القول الأول: أن الزلزلة في آخر الدنيا، ودليله حديث إسماعيل بن رافع لكنه ضعيف، والقول الثاني: أن الزلزلة بعد البعث، ودليله حديث البخاري.
والجواب عن الإشكال كيف تضع الحامل والمرضع؟ من وجهين: الوجه الأول: أن الحامل تبعث حاملاً، والمرضع تبعث مرضعاً، والقول الثاني: أن المراد بالزلزلة: شدة الهول، وهذا أسلوب عربي معروف، والمراد بالزلزلة: زلزلة الخوف، لا زلزلة الأرض والحركة؛ لأن الله تعالى سمى ما حصل للمؤمنين في يوم الأحزاب زلزلة، قال: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11] فالزلزلة تطلق على شدة الخوف، وتطلق على الحركة.
وقول الجمهور فيه نظر، ولكن المعول عليه الدليل، وهو حديث إسماعيل بن رافع وهو ضعيف.(104/4)
من دلائل البعث
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} [الحج:5]، هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة الهامدة، وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء].
الدليل الأول في الاستدلال بالبدء على الإعادة: قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج:5] هذا هو الدليل الأول الذي استدل به ربنا سبحانه وتعالى على البعث، حيث استدل بخلق الإنسان الأول، وليس البعث بأشد من الإعادة أو أشد من البدء، بل كله هين على الله، كما قال سبحانه في آية أخرى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] يعني: كله هين عليه، أهون بمعنى: هين، فالدليل الأول استدل الله على البعث يخلق الإنسان الأول، فقد خلقه الله من تراب ثم من نطفة، ولم يك شيئاً، فالذي خلق الإنسان من تراب، وخلق آدم من تراب، ثم خلق بنيه من نطفة، قادر على أن يبعثهم ويعيدهم.
الدليل الثاني: إحياء الأرض بعد موتها، فالأرض ميتة هامدة، فإذا أنزل الله عليها الماء، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، فالذي أحيا الأرض بعد موتها، قادر على أن يحيي الميت بعد موته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: غبراء متهشمة، وقال السدي: ميتة، {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] أي: فإذا أنزل الله عليها المطر اهتزت أي: تحركت وحييت بعد موتها، وربت أي: ارتفعت لما سكن فيها الثرى ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون من ثمار وزروع وأشتات النباتات، في اختلاف ألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها ومنافعها؛ ولهذا قال تعالى: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] أي: حسن المنظر طيب الريح.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج:6] أي: الخالق المدبر الفعال لما يشاء، {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} [الحج:6] أي: كما أحيا الأرض الميتة، وأنبت منها هذه الأنواع، {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39]، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} [الحج:7] أي: كائنة لا شك فيها ولا مرية، {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7] أي: يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمماً، ويوجدهم بعد العدم كما قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:78 - 80]، والآيات في هذا كثيرة].(104/5)
فضل العلم على نوافل العبادة
ومما يؤيد حديث ابن ماجة، وهو أن الإنسان لأن يتعلم آية خير له من أن يصلي مائة ركعة، ويدل على أن معناه صحيح ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم يوماً: (أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان؟ فيحصل على خلفة ناقة أو ناقتين سمينتين، في غير إثم ولا قطيعة رحم؟ فقالوا: يا رسول الله! كلنا يحب ذلك -وبطحان: واد في المدينة- قالوا: كلنا يحب ذلك، قال: والذي نفسي بيده! لأن يغدو أحدكم إلى المسجد، فيتعلم آية أو آيتين خير له من أن يحصل على ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، ومن أعدادهن من الإبل) فالنبي يبين أن الذي يتعلم آية أو آيتين في المسجد، خير له من أن يحصل على ناقتين سمينتين في غير إثم ولا قطيعة رحم، فحديث ابن ماجة معناه صحيح، لكن سنده ضعيف، فالذي يتعلم آية من كتاب الله في المسجد، يتعلم الحديث، يتعلم مسألة فقهية، ويتعلم مسألة شرعية، ويتفقه ويتبصر في دينه، خير له من أن يذهب ليبيع ويشتري في الأراضي أو في الدكاكين أو في غيرها، حتى ولو حصل على ربح عظيم، فالذي يبيع ويشتري بعد المغرب، خير منه الذي يذهب إلى المسجد ليتعلم آية من كتاب الله، لأن كسبه أخروي، وذلك كسبه دنيوي وطلب العلم الشرعي أفضل من النوافل، ومن قيام الليل وقراءة القرآن؛ لأن الذي يصلي أو يحفظ القرآن هذا نفع قاصر عليه، لكن إذا تعلم فإنه يستفيد هو، ويفيد غيره.
فتعلم العلم وطلبه أفضل من نوافل العبادة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة قال: أنبأنا يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس].
ووكيع بن عدس يقال له: عدس، ويقال له: حدس بالحاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن عمه أبي رزين العقيلي واسمه: لقيط بن عامر أنه قال: يا رسول الله! أكلنا يرى ربه عز وجل يوم القيامة، وما آية ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أليس كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به؟ قلنا: بلى، قال: فالله أعظم، قال: قلت يا رسول الله! كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ قال: أما مررت بواد أهلك محلاً؟)] والمراد بقوله: (محلاً) يعني: جدبا ليس فيه نبات من قلة المطر، ومنه قول العامة: سنة محل، والسنة الجدباء يسمونها ممحلة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(قال: أما مررت بواد أهلك محلاً؟ قال: بلى، قال: ثم مررت به يهتز خضراً؟ قال: بلى، قال: فكذلك يحيي الله الموتى وذلك آيته في خلقه) ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث حماد بن سلمة به].
أبو رزين هذا وافد بني المنتفق، وهو حديث طويل جداً قد ساقه العلامة ابن القيم في زاد المعاد في ذكره للوفود، وفيه ذكر البعث هو الشاهد من الحديث، وأن النبي ضرب له مثلاً فقال: (أما مررت بأرض جدباء ممحلة؟ ثم مررت عليها بعد ذلك، وقد نزل عليها المطر فاهتزت خضراً، قال: فكذلك يحيي الله الأرض بعد موتها).
وسأله عن رؤية الله يوم القيامة، فقال: (ذلك القمر آية من آيات الله، كلكم يراه مخلياً به)، فكل واحد يرى القمر مثل الكعب، يرفع رأسه ويراه، (فكذلك الناس يوم القيامة يرون الله فوقهم، لا يضامون في رؤيته).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه الإمام أحمد أيضاً: حدثنا علي بن إسحاق أنبأنا ابن المبارك أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن سليمان بن موسى عن أبي رزين العقيلي قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أمررت بأرض من أرض قومك مجدبة، ثم مررت بها مخصبة؟ قال: نعم، قال: كذلك النشور) والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبيس بن مرحوم حدثنا بكير بن أبي السميط عن قتادة عن أبي الحجاج عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: من علم أن الله هو الحق المبين، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور دخل الجنة].
والله أعلم.
إن الإيمان الصادق يبعث على العمل، والإيمان الضعيف تحصل معه المعصية، فإذا علم الإنسان أن الله هو الحق المبين، وعلم أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يحيي من في القبور، فإن علمه وتصديقه الجازم يحمله على العمل، ويدخله الجنة.(104/6)
تفسير سورة الحج [8 - 17]
ذم الله عز وجل من يخوض في آياته ويجادل فيها بغير علم ليضل عن سبيله، وذم فريقاً ممن دخلوا في الإسلام إن وجدوا فيه ما يرضيهم بقوا فيه وإلا ارتدوا على أدبارهم.
ثم ذكر الله عز وجل أنه يفصل بين عباده يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، سواء كانوا مؤمنين أو يهوداً أو نصارى أو صابئين وغيرهم.(105/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير)
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:9 - 10].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر تعالى حال الضلال الجهال المقلدين في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3] ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلالة من رءوس الكفر والبدع فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8] أي: بلا عقل صحيح ولا نقل صريح؛ بل بمجرد الرأي والهوى، وقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:9] قال ابن عباس وغيره: مستكبراً عن الحق إذا دعي إليه، وقال مجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:9] أي: لاوي عطفه وهي رقبته، يعني: يعرض عما يدعى إليه من الحق ويثني رقبته استكباراً، كقوله تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:38 - 39]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61]، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5]، وقال لقمان لابنه: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18] أي: تميله عنهم استكباراً عليهم، وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:7]].
والمعنى: أنه إذا دعي للحق أعرض واستكبر ورد الحق، كقوله سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206]، نسأل الله السلامة.
فالواجب على الإنسان أن يقبل الحق، وأن يحذر من الكبر ورد الحق، فإنه من أعظم الجرائم، فإن رد الحق والاستكبار من الكبائر العظيمة؛ ولهذا خسف الله رءوس الضلال، وأهل البدع وأهل الكفر بسبب الجدال ورد الحق، والإعراض والتكبر، نسأل الله السلامة والعافية.
قول المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9] قال بعضهم: هذه لام العاقبة؛ لأنه قد لا يقصد ذلك، ويحتمل أن تكون لام التعليل، ثم إما أن يكون المراد بها: المعاندين، أو يكون المراد بها أن هذا الفاعل لهذا إنما جبلناه على هذا الخلق الدنيء لنجعله ممن يضل عن سبيل الله].
يعني: يحتمل أن تكون لام العاقبة، والمعنى أنه بفعله ذلك تكون العاقبة إضلاله الناس، ويحسب أن يكون قاصداً للإضلال؛ بخبثه وحقده فيقصد الإضلال، فإذا كان يقصد الإضلال صارت اللام للتعليل، وإن كان لا يقصد الإضلال، صارت اللام للعاقبة.
ومثله قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] أي: التقط موسى آل فرعون، قال تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9] فهذه اللام لام العاقبة، والمعنى: أنهم التقطوه؛ لتكون العاقبة أن يكون لهم عدواً وحزناً، والعاقبة في النهاية أنه كان عدواً لهم، فهذه يسمونها لام العاقبة، وإن كان فرعون لم يقصد أن يكون عدواً له عندما أخذه، بل قصد أن يكون ولداً له، لكن العاقبة أن صار عدوا له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال تعالى: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [الحج:9] وهو الإهانة والذل، كما أنه لما استكبر عن آيات الله لقاه الله المذلة في الدنيا، وعاقبه فيها قبل الآخرة؛ لأنها أكبر همه ومبلغ علمه، {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:9 - 10] أي: يقال له هذا تقريعاً وتوبيخاً، {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10] كقوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان:47 - 50].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن الصباح حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام عن الحسن قال: بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرة].
وهذا رواه الحسن بأنه بلغه، يعني: منقطع، والله أعلم، لكن يكفي قول الله تعالى:: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:9].
وقول الحسن: بلغني، يعني: أخذه من أخبار بني إسرائيل.(105/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:11 - 13].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مجاهد وقتادة وغيرهما: [{عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11]: على شك، وقال غيرهم: على طرف، ومنه حرف الحبل أي: طرفه، أي: دخل في الدين على طرف فإن وجد ما يحبه استقر، وإلا انشمر].
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] يعني: على طرف، أي: لم يتمكن الإيمان من قلبه؛ فإن وجد ما يناسبه من الدنيا استمر، وإن وجد شيئاً لا يناسبه؛ فإنه ينحرف ويرتد عن دين الله، نعوذ بالله.(105/3)
سبب نزول قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن الحارث، احدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا إسرائيل عن أبي الحصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء].
لأنه ضعيف الإيمان، وكان بعض الذين دخلوا في الإسلام من البوادي وغيره، يأتي المدينة فإن ولدت امرأته وأنتجت خيله شيئاً يناسبه، قال: هذا دين صالح، وإن لم يحصل ما يناسبه، قال: هذا دين سوء، فارتد نعوذ بالله، تفسيراً لهذه الآية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن، قالوا: إن ديننا هذا لصالح؛ فتمسكوا به، وإن وجدوا عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط، قالوا: ما في ديننا هذا خير، فأنزل الله على نبيه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11]].
وذلك لأنهم دخلوا في الإسلام ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم؛ فإذا أصابهم شيء يكدرهم جدب أو شيء في أهليهم ارتدوا والعياذ بالله، وإن أصابوا شيئاً من الدنيا استمروا؛ لضعف إيمانهم، وقلة ديانتهم، وعدم تمكن الإيمان من نفوسهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال العوفي عن ابن عباس: كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة، فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً رضي به واطمأن إليه، وقال: ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيراً، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} [الحج:11] والفتنة: البلاء، أي: وإن أصابه وجع المدينة، وولدت امرأته جارية، وتأخرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبت مذ كنت على دينك هذا إلا شراً، وذلك الفتنة، وهكذا ذكر قتادة والضحاك وابن جريج وغير واحد من السلف في تفسير هذه الآية، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو المنافق إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ترك دينه ورجع إلى الكفر، وقال مجاهد في قوله: {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] أي: ارتد كافراً.
وقوله: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11] أي: فلا هو حصل من الدنيا على شيء، وأما الآخرة فقد كفر بالله العظيم، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة؛ ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] أي: هذه هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة].
والحاصل: أن هذه الآية فيها قولان لأهل العلم: القول الأول: أنها في ضعفاء الإيمان من الأعراب الذين دخلوا في الإسلام، ولم يستقر الإيمان في قلوبهم، وقيل: إنها في المنافق، والأقرب أنه في الأول، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] أي: على طرف من دينه، لم يتمكن الإيمان من قلبه.
فالمسلم إذا لم يصبر على المصائب، فهذا يدل على ضعف إيمانه وقلة يقينه، فالمؤمن صابر على البلاء شاكر عند النعمة مستغفر عند الذنوب والمعاصي، فإذا كان لا يصبر فهذا ضعيف الإيمان، ولا شك أن البلاء والمصائب والدنيا كلها اختبار وامتحان، كما أن الفقر والشدة والمرض كلها ابتلاء وامتحان، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} [الحج:12] أي: من الأصنام والأنداد، يستغيث بها ويستنصرها ويسترزقها، وهي لا تنفعه ولا تضره].
يعني: يسألها الرزق، والنصر، والغوث.
قوله المؤلف رحمه الله تعالى: [وهي لا تنفعه ولا تضره، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [الحج:12].
وقوله: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج:13] أي: ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها، وأما في الآخرة فضرره محقق متيقن، وقوله: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13] قال مجاهد: يعني الوثن، يعني: بئس هذا الذي دعاه من دون الله مولى، يعني: ولياً وناصراً، {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13] وهو المخالط والمعاشر.
واختار ابن جرير أن المراد لبئس ابن العم والصاحب].
يعني: اختار ابن جرير {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} [الحج:13] يعني: ابن العم، والعشير: الصاحب].
والقول الأول {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} [الحج:13] يعني: هذا الصنم الذي يتولاه، ويستنصر به، يسترزقه، ويدعوه من دون الله، والعشير: المعاشر المخالط المصاحب ممن هو على شاكلته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] وقول مجاهد: إن المراد به الوثن أولى وأقرب إلى سياق الكلام والله أعلم].(105/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا جنات تجري من تحتها الأنهار)
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر أهل الضلالة الأشقياء، عطف بذكر الأبرار السعداء من الذين آمنوا بقلوبهم وصدقوا إيمانهم بأفعالهم، فعملوا الصالحات من جميع أنواع القربات، وتركوا المنكرات، فأورثهم ذلك سكنى الدرجات العاليات في روضات الجنات، ولما ذكر تعالى أنه أضل أولئك وهدى هؤلاء قال: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]].
وله الحكمة البالغة سبحانه وتعالى، هو عليم بأحوال العباد، وعليم بنياتهم وأقوالهم وأفعالهم، وعليم بالذوات التي تصلح للخير فيوفقها له، وعليم بالذوات التي لا تصلح لذلك فيشقيها، له الحكمة البالغة سبحانه وتعالى، لا أحد يحسب عليه، وهو حسيب، قبض قبضة وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وقبض قبضة وقال: هؤلاء في النار ولا أبالي، لما يعلمه فيهم سبحانه وتعالى، فهو يعلم أن هؤلاء لا يصلحهم إلا الخير، وهؤلاء لا يصلحون للخير، فله الحكمة البالغة.
والله سبحانه وتعالى يقرن بين الأشقياء والسعداء في كثير من الآيات، فلما ذكر ضعيف الإيمان أو المنافق الذي يرتد لأقل سبب ذكر بعدهم المؤمنين الصادقين، الذين صدقوا أقوالهم وصدقوا إيمانهم بالأعمال الصالحة، وذكر أن لهم الجنات وهم السعداء الذين ثبت الإيمان في قلوبهم ورسخ وصدقوا أقوالهم بأعمالهم، وعملوا الصالحات، يعني: أدوا الفرائض، وانتهوا عن المحارم، واستقاموا على دين الله، ووقفوا عند حدود الله.
فهؤلاء لهم الجنة والكرامة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.(105/5)
تفسير قوله تعالى: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء)
قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} [الحج:15 - 16].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس رضي الله عنهما: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة؛ فليمدد بسبب أي: بحبل {إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] أي: سماء بيته، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج:15] يقول: ثم ليختنق به، وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وأبو الجوزاء وقتادة وغيرهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] أي: ليتوصل إلى بلوغ السماء، فإن النصر إنما يأتي محمداً صلى الله عليه وسلم من السماء، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج:15] ذلك عنه إن قدر على ذلك.
وقول ابن عباس وأصحابه أولى وأظهر في المعنى وأبلغ في التهكم] يعني: القول الأول: أن المراد بالسبب الحبل، يعلقه في سماء بيته، أي: في سقف بيته ثم ليختنق.
فالمعنى: أن الله سيظهر نبيه وحزبه المؤمنين، وأن الله ناصر عبده محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، على رغم أنوف الكفرة والمنافقين، وأنه ليس لهم إلا الخيبة والندامة والنكد في قلوبهم، والله تعالى ناصر نبيه ومظهر دينه، ولو كره الكافرون، قال تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، فلا يزال أعداء الله من الكفرة والمنافقين يكيدون للإسلام والمسلمين، والله تعالى خاذلهم ومظهر حزبه وأوليائه.
وهذا فيه تعجيز لهم وتبكيت، وبيان ما هم فيه من الغم والنكد؛ لأن أهل النفاق والريب والكفر يؤذيهم نصرة المؤمنين وظهور الإيمان وعلوه، والله تعالى يقول: من كان يظن ألن ينصر الله نبيه وحزبه المؤمنين {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] أي: بحبل، فليختنق، والقول الثاني: أنه يمدد بسبب إلى السماء؛ لأن النصر إنما ينزل من السماء، فليقطعوا هذا النصر الذي يأتي من عند الله إن كانوا صادقين، فلا يستطيعون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن المعنى: من كان يظن أن الله ليس بناصر محمداً صلى الله عليه وسلم وكتابه ودينه؛ فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه، فإن الله ناصره لا محالة، قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] ولهذا قال: {فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15].
قال السدي: يعني: من شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وقال عطاء الخراساني: فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيظ].
يعني: هل يزول ما في صدره ونفسه من الغيظ؟ لا يزيله إلا أن يقتل نفسه، ويهلك نفسه، وله الهلاك في الدنيا والآخرة، والظهور والغلبة والعزة والكرامة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، ولو كره الكافرون، فالله تعالى مظهر دينه، وناصر حزبه على أنوف الكفرة والمنافقين، وسيظهر هذا الدين ويبلغ كل بيت مدراً أو شعراً بعز عزيز أو بذل ذليل، كما جاء في الحديث.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ} [الحج:16] أي: القرآن، {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الحج:16] أي: واضحات في لفظها ومعناها، حجة من الله على الناس، {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} [الحج:16] أي: يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وله الحكمة التامة والحجة القاطعة في ذلك، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، أما هو فلحكمته ورحمته وعدله وعلمه وقهره وعظمته، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب].(105/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين إن الله يفصل بينهم يوم القيامة)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة، من المؤمنين ومن سواهم من اليهود والصابئين، وقد قدمنا في سورة البقرة التعريف بهم، واختلاف الناس فيهم، والنصارى والمجوس والذين أشركوا؛ فعبدوا مع الله غيره فإنه تعالى: {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج:17] ويحكم بينهم بالعدل، فيدخل من آمن به الجنة ومن كفر به النار، فإنه تعالى شهيد على أفعالهم، حفيظ لأقوالهم، عليم بسرائرهم وما تكن ضمائرهم].
وفيه دليل على أن من آمن، من أي جنس ومن أي صنف بالله ورسوله واستقام على دينه فله الجنة والكرامة من أي جنس كان، ولهذا ذكر هذه الأصناف، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج:17]، فمن آمن فله الجنة والكرامة، ومن استمر على كفره، فله النار والخيبة، {وَالَّذِينَ هَادُوا} [الحج:17] أي: اليهود، {وَالصَّابِئِينَ} [الحج:17] أي: عبدة الكواكب، في أصح أقوال العلماء، وفيهم كلام كثير، كما سبق في سورة البقرة، {وَالنَّصَارَى} [الحج:17] وهم عباد عيسى ومريم، {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج:17] أي: عبدة الأوثان، فالله تعالى {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج:17] ويجازيهم بأعمالهم، فالمؤمنين لهم الجنة، والكفرة لهم النار، نسأل الله السلامة، والله تعالى شهيد على أعمالهم يحفظها، ويجازي عليها بالقسط والعدل، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، سبحانه لا إله إلا هو.(105/7)
تفسير سورة الحج [18 - 24]
كل شيء في الكون يسبح الله ويسجد له إلا البشر، فكثير منهم من يسجد لله وكثير منهم مستكبرون عن طاعته.
وقد ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم ما أعد للكافرين المستكبرين عن طاعته من العذاب الأليم، وفي المقابل ذكر ما أعده للمؤمنين به والمستجيبين لرسوله من النعيم المقيم.(106/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض)
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له؛ فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً، وسجود كل شيء مما يختص به، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل:48] وقال هنا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الحج:18] أي: من الملائكة في أقطار السموات، والحيوانات في جميع الجهات من الإنس والجن والدواب والطير، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} [الحج:18] إنما ذكر هذه على التنصيص؛ لأنها قد عبدت من دون الله، فبين أنها تسجد لخالقها، وأنها مربوبة مسخرة، {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37].
وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، ثم تستأمر؛ فيوشك أن يقال لها: ارجعي من حيث جئت)].
وفي اللفظ الآخر: تستأذن.
قوله: [وفي المسند وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجة في حديث الكسوف، (إن الشمس والقمر خلقان من خلق الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته؛ ولكن الله عز وجل إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له) وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر؛ إلا يقع لله ساجداً حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه.
وأما الجبال والشجر فسجودهما بفيء ظلالهما عن اليمين والشمائل، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله! إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة؛ فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود، قال ابن عباس: (فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سجد؛ فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة) رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه].
وبهذا تثبت مشروعية هذا الذكر، وهذا الدعاء؛ لأن النبي قد قاله، وهو (اللهم لك سجدت، وبك آمنت، وعليك توكلت، سجد وجهي لله الذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين) وجاء هذا في رواية أخرى: (اللهم اكتب لي بها أجراً، واحطط عني بها وزراً، واكتبها لي بها عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داوود).
وإذا قال: سبحان ربي الأعلى كفى، وإذا قرأ هذا الدعاء فهو أفضل.
قوله المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَالدَّوَابُّ} [الحج:18] أي: الحيوانات كلها، وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ ظهور الدواب منابر، فرب مركوبة خير وأكثر ذكراً لله تعالى من راكبها)] أي: إذا كان راكبها فاسقاً أو كافراً فهي خير منه.
والمنبر: هو الذي يتخذ للوعظ والخطبة؛ لأن هذا يشق عليها ويؤذيها، كونه يقف مدة طويلة على ظهرها.
لكن جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب على دابته، أي: على ناقته، وكان ذلك يوم عرفه، وهذا ثابت في الصحيح، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، وصححه الألباني، وهو عند أبي داود في كتاب الوقوف على الدابة.
ولعل خطبة النبي صلى الله عليه وسلم على دابته مستثناة وخاصة به.
وقد يجوز الخطبة على ظهر الدابة إذا كانت المصلحة تقتضيه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18] أي: يسجد لله طوعاً مختاراً متعبداً بذلك.
{وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18] أي: ممن امتنع وأبى واستكبر.
{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن شيبان الرملي حدثنا القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: قيل لـ علي: إن هاهنا رجلاً يتكلم في المشيئة.
فقال له علي: يا عبد الله! خلقك الله كما يشاء أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء.
قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء.
قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء.
قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء؟ قال: بل حيث يشاء.
قال: والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار) رواه مسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم وأبو عبد الرحمن المقرئ قالا: حدثنا ابن لهيعة حدثنا مشرح بن هاعان أبو مصعب المعافري قال: سمعت عقبة بن عامر يقول: (قلت: يا رسول الله! أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: نعم، فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما)].
ابن لهيعة ضعيف، ومشرح بن هاعان مقبول، وعبد الرحمن المقرئ هذا ضعيف.
وقوله: (فمن لم يسجد بهما فلا يقرأها) ضعيف، والمتن أيضاً فيه ضعف؛ لأن السجود ليس بواجب.
فقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ آية السجدة وهو يخطب الناس في الجمعة ثم نزل فسجد، ثم قرأها في الجمعة الثانية فتهيأ الناس للسجود فلم يسجد، ثم قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء.
قوله: (فمن لم يسجد بهما فلا يقرأها) هذا سنده ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن لهيعة به، وقال الترمذي: ليس بقوي وفي هذا نظر، فإن ابن لهيعة قد صرح فيه بالسماع، وأكثر ما نقموا عليه تدليسه].
نعم، فالسند: حدثنا ابن لهيعة حدثنا مشرح، ففيه أنه صرح بالسماع، ومشرح مقبول ولو صرح.
والحديث ضعفه الألباني، والصواب أنه ضعيف جداً، ولو صرح بالسماع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال أبو داود في المراسيل: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أنبأنا ابن وهب أخبرني معاوية بن صالح عن عامر بن جشب عن خالد بن معدان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت سورة الحج على القرآن بسجدتين)، ثم قال أبو داود: وقد أسند هذا يعني من غير هذا الوجه ولا يصح.
وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي: حدثنا ابن أبي داود حدثنا يزيد بن عبد الله حدثنا الوليد قال: حدثنا أبو عمرو حدثنا حفص بن عنان حدثني نافع قال: حدثني أبو الجهم أن عمر رضي الله عنه سجد سجدتين في الحج وهو بالجابية، وقال: إن هذه فضلت بسجدتين].
لعله حفص بن غياث أو كأنها نسخة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى أبو داود وابن ماجة من حديث الحارث بن سعيد العتقي عن عبد لله بن منين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمسة عشر سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان)، فهذه شواهد يشد بعضها بعضاً].
قوله: فهذه شواهد يشد بعضها بعضاً أي: في أن سورة الحج فيها سجدتان؛ لأن السجدة الثانية اختلفوا فيها، وكذلك سجدات المفصل: سجدة النجم والانشقاق واقرأ، والصواب أنها ثابتة، وأنها كلها خمسة عشر سجدة في القرآن، في الحج سجدتان، وفي المفصل ثلاث.(106/2)
تفسير قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم)
قال: [قال تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:19 - 22].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثبت في الصحيحين من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر رضي الله عنه: أنه كان يقسم قسماً: أن هذه الآية: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] نزلت في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في بدر، لفظ البخاري عند تفسيرها، ثم قال البخاري: حدثنا الحجاج بن المنهال حدثنا المعتمر بن سليمان سمعت أبي حدثنا أبو مجلز عن قيس بن عباد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (أنا أول من يجثوا بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة)، قال قيس: وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، انفرد به البخاري.
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] قال: اختصم المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، فنحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: كتابنا يقضي على الكتب كلها، ونبينا خاتم الأنبياء، فنحن أولى بالله منكم، فأفلج الله الإسلام على من ناوأه وأنزل: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] وكذا روى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما].
السند الأول أصح، وأنها نزلت في الخصمين: المسلمين ومشركي قريش، وقد دل عليه ما ثبت عند البخاري أنها نزلت في علي وعبيدة وخصومهم من مشركي قريش، فهي نزلت في خصمين: الخصم الأول: المؤمنون والخصم الثاني: الكفار في يوم بدر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال شعبة عن قتادة في قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] قال: مصدق ومكذب.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية: مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث، وقال في رواية هو وعطاء في هذه الآية: هم المؤمنون والكافرون.
وقال عكرمة: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] قال: هي الجنة والنار، قالت النار: اجعلني للعقوبة، وقالت الجنة: اجعلني للرحمة، وقول مجاهد وعطاء: إن المراد بهذا الكافرون والمؤمنون.
يشمل الأقوال كلها، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان، وخذلان الحق، وظهور الباطل.
وهذا اختيار ابن جرير وهو حسن؛ ولهذا قال: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}، أي: فصلت لهم مقطعات من النار، قال: سعيد بن جبير: من نحاس، وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي].
{يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:19 - 20] أي: إذا صب على رءوسهم الحميم، وهو الماء الحار في غاية الحرارة، وقال سعيد بن جبير: هو النحاس المذاب، أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم.
وكذلك تذوب جلودهم، وقال ابن عباس وسعيد: تساقط.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى حدثني إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن ابن حجيرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحميم ليصب على رءوسهم، فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد كما كان)].
يعني: يعود كما كان حتى يعاد عليه العذاب مرة أخرى -نسأل الله العافية- يعني: يسلت أمعاءه ثم تعود أمعاؤه مرة أخرى، حتى يصب عليها مرة أخرى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك وقال: حسن صحيح، وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي نعيم عن ابن المبارك به.
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت عبد الله بن السري قال: يأتيه الملك يحمل الإناء بكلبتين من حرارته، فإذا أدناه من وجهه تكرهه، قال: فيرفع مقمعة معه فيضرب بها رأسه فيفرغ دماغه، ثم يفرغ الإناء من دماغه، فيصل إلى جوفه من دماغه؛ فذلك قوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:20].
وقوله: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21] قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن مقمعاً من حديد وضع في الأرض، فاجتمع له الثقلان ما أقلوه من الأرض).
وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان، ولو أن دلواً من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا)].
دراج عن أبي الهيثم ضعيف، وابن لهيعة ضعيف، ففيه ضعيفان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21] قال: يضربون بها، فيقع كل عضو على حياله، فيدعون بالثبور].
يدعون على أنفسهم؛ لأنهم معذبين: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:14].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] قال الأعمش عن أبي ظبيان عن سلمان قال: النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها، ثم قال: ((كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا)) وقال زيد بن أسلم في هذه الآية: ((كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا)) قال: بلغني أن أهل النار في النار لا يتنفسون، وقال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج، إن الأرجل لمقيدة، وإن الأيدي لموثقة، ولكن يرفعهم لهبها، وتردهم مقامعها.
وقوله تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:22] كقوله: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20] ومعنى الكلام: أنهم يهانون بالعذاب قولاً وفعلاً.(106/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:23 - 24].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما أخبر تعالى عن حال أهل النار -عياذاً بالله من حالهم- وما هم فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال، وما أعد لهم من الثياب من النار؛ ذكر حال أهل الجنة -نسأل الله من فضله وكرمه- فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الحج:14] أي: تتخرق في أكنافها وأرجائها وجوانبها وتحت أشجارها وقصورها يصرفونها حيث شاءوا وأين أرادوا {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} [الحج:23] من الحلية، {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج:23] أي: في أيديهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)].
والمعنى أنهم يحلون بالأساور في أيديهم، أسورة كأسورة الذهب يلبسها المؤمنون، وأسورة الدنيا لا يلبسها إلا النساء، لكن في الجنة يختلف الحال، فالمؤمنون يتحلى {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج:23] في أيديهم، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) يعني: يحلى في يديه حيث يبلغ الوضوء؛ ولهذا كان أبو هريرة رضي الله عنه يطيل الماء، ويقول سمعت خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحيلة من المؤمن حيث يبلغ الوضوء؛ فمن استطاع منكم أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل)، فكان يجتهد رضي الله عنه في ذلك، وإذا غسل ذراعه تجاوز حتى يصل إلى الأبط، يتأول ذلك ويقول: لكي تصل الحلية إلى هنا، وإذا غسل رجله تجاوز الساق حتى يكاد يصل إلى الركبة، اجتهاداً منه رضي الله عنه، ويقول: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء؛ فمن استطاع منكم أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل)، فالمؤمن يحلى بأساور الذهب واللؤلؤ في يديه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال كعب الأحبار: إن في الجنة ملكاً لو شئت أن أسميه لسميته، يصوغ لأهل الجنة الحلي منذ خلقه الله إلى يوم القيامة، لو أبرز قلب منها -أي: سوار منها- لرد شعاع الشمس كما ترد الشمس نور القمر.
وقوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم، لباس هؤلاء من الحرير إستبرقه وسندسه، كما قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} [الإنسان:21]].
المعنى: أنهم يلبسون نوعين من الحرير: سندس وإستبرق، أحدهما: غليظ والآخر رقيق، والسندس والإستبرق له بريق ولمعان، فهما نوعان من الحرير أحدهما رقيق والآخر غليظ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:21 - 22]، وفي الصحيح: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا؛ فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)، قال عبد الله بن الزبير: من لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة، قال الله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] وقوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} [الحج:24]، كقوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم:23]، وقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]].
يعني يقول: إن أهل الجنة يلبسون الحرير، والذي في الآخرة لن يلبس الحرير معناه أنه ممنوع من دخول الجنة؛ لأن من دخل الجنة لبس الحرير، ومن لم يلبس الحرير ممنوع من دخولها.
هذا معنى كلامه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) هذا من باب الوعيد، ويدل على أنه من الكبائر، وأما من تاب تاب الله عليه، وفي الحديث الآخر: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)، قال بعض العلماء: إنه إذا دخل الجنة لا يشتهي الخمر، وعلى كل حال هذا الحديث من باب الوعيد ومن تاب تاب الله عليه.
والوعيد إن شاء الله أنفذه، وإن شاء لم ينفذه، مثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10].
والوعيد على الفعل يدل على أنه من الكبائر، مثل قوله: (لا يدخل الجنة قتات)، يعني.
نمام، وقوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، هذا كله من باب الوعيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24].
وقوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26]، فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب.
وقوله تعالى: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} [الفرقان:75] لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يوبخون به ويقرعون به، يقال لهم: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181]، وقوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24]، أي: إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم، كما جاء في الحديث الصحيح: (إنهم يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس).
وقد قال بعض المفسرين في قوله: ((وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القول))، أي: القرآن، وقيل: لا إله إلا الله، وقيل: الأذكار المشروعة].
وكل هذه المعاني حق، فقد هداهم الله للقرآن وللأذكار المشروعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24] أي: الطريق المستقيم في الدنيا، وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه، والله أعلم].
ليس في الجنة عمل بل هي دار نعيم، ويلهمون فيها التسبيح كما يلهمون النفس ويتنعمون به.(106/4)
تفسير سورة الحج الآية [25]
جعل الله سبحانه وتعالى للحرم حرمة عظيمة فحرمه على سائر البلاد، وذم الذين يصدون الناس عنه، وتوعد من همّ فيه بالظلم والمعصية بالعذاب الأليم.(107/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى منكراً على الكفار في صدهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام، وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنهم أولياؤه، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال:34]، وفي هذه الآية دليل على أنها مدنية، كما قال في سورة البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:217]، وقال هاهنا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج:25] أي: ومن صفتهم أنهم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام، أي: ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر، وهذا التركيب في هذه الآية كقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] أي: ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله].
المراد بالتركيب الأسلوب، أو الترتيب، والأقرب أنه الأسلوب.(107/2)
معنى قوله تعالى: (سواء العاكف فيه والباد)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] أي: يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام، وقد جعله الله شرعاً سواء لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه].
المقيم الساكن فيه، والباد النائي أو الطارق الذي يأتي من بعيد، والحكم فيهما واحد، وشرع الله هو أن يتعبد فيه المقيم والطارق الذي يأتي من بعيد جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد، والعاكف: هو المقيم في مكة في المسجد الحرام، والبادي: الغريب الذي جاء من بعيد، كلهم شرع الله لهم الطواف بالبيت، والصلاة في المسجد الحرام، وهؤلاء يصدون عن سبيل الله، ويصدون عن المسجد الحرام الذي جعله الله شرعاً عاماً للمقيم والقادر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها].
يعني: في دورها، فكما أنهم يستون في المسجد الحرام يستون كذلك في السكنى، بدون أجرة، فمن جاء نزل، كما كانت تسمى رباع مكة السوائب، فمن احتاج نزل ومن لم يحتج فلا، وهذا قول لبعض أهل العلم: أنها لا تؤجر بيوت مكة؛ لأنها وقف، وذهب الشافعي إلى أن مكة فتحت صلحاً، وعلى ذلك تباع رباع مكة ودورها، ومن العلماء من قال: تؤجر ولا تباع، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فبعض العلماء قال: دور مكة لا تباع ولا تؤجر، وكانت تدعى السوائب، من شاء سكن ومن احتاج ارتفع عنها، فهي سوائب للناس، كما أن المسجد الحرام عام للناس فكذلك البيوت، وذهب الشافعي رحمه الله وجماعة إلى أنها تباع وتؤجر؛ لأن مكة فتحت صلحاً، وعلى القول الأول بأنها فتحت عنوة بالقوة فقد صارت وقفاً للمسلمين، وقيل: إنها فتحت صلحاً، ومن العلماء من فرق بين الإيجار وغيره، ورباع مكة، يعني: بيوتها ودورها وأراضيها، والعمل الآن على أنها تباع وتؤجر.(107/3)
اختلاف العلماء في حكم بيع دور مكة وتأجيرها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] قال: ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام، وقال مجاهد: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل، وكذا قال أبو صالح وعبد الرحمن بن سابط وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: سواء فيه أهله وغير أهله، وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف].
أي: اختلفوا: هل تؤجر وتباع دور مكة أو لا؟ قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف، وأحمد بن حنبل حاضر أيضاً، فذهب الشافعي رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر].
لأنه يرى أنها فتحت صلحاً، فتباع وتؤجر وتملك، لكن الصواب أنها فتحت عنوة، فمكة لم تفتح صلحاً بل فتحت بقوة، ودخل النبي بالقوة، لكن قال بعضهم: إنه ملكها أهلها بعد ذلك، ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أتنزل غداً في دارك بمكة؟ فقال: (وهل ترك لنا عقيل من رباع) يعني: من دور، وعقيل هو عقيل بن أبي طالب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واحتج بحديث الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال: قلت: (يا رسول الله! أتنزل غداً في دارك بمكة؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ ثم قال: لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر) وهذا الحديث مخرج في الصحيحين].
احتج الشافعي بقول أسامة للنبي: (أتنزل غداً في دارك بمكة؟) قوله: في دارك، أضاف الدار إليه، فدل هذا على أنها تملك، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: ليس لنا دار، أو قال: لا تملك الدور، لكن قال: إنه ورث عقيل عن أبيه أبو طالب فقد مات على الكفر، وعقيل كذلك مات على دين أبيه فورث أباه، والمسلم لا يرث الكافر، إنما الكافر يرث الكافر، والمسلم يرث المسلم، فهو ورث أباه؛ لأنه على دينه، فيقول النبي: (وهل ترك لنا عقيل من رباع)؛ لأنه ورث أباه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبما ثبت: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية داراً بمكة، فجعلها سجناً بأربعة آلاف درهم، وبه قال طاوس وعمرو بن دينار، وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنها لا تورث ولا تؤجر، وهو مذهب طائفة من السلف، ونص عليه مجاهد وعطاء، واحتج إسحاق بن راهويه بما رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حيوة عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة].
في نسخة: ابن جبير وفي نسخة أخرى حيوة.
الأقرب أنها لا تورث ولا تؤجر؛ لأنها وقف، ومن احتاج سكن بدون أجرة، ومن لا يحتاج ارتفع عنها، مثل المسجد الحرام {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25].
قال: [عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وما تدعي رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن].
والسوائب هي الشيء المسيب المتروك، فهي متروكة من احتاج إليها سكن ومن لم يحتج أسكن غيره، تسمى السوائب يعني: المتروكة للغاديين والرائحين فمن جاء سكن؛ لأنها وقف.
وهذا الحديث كما في الزوائد إسناده صحيح على شرط مسلم، وليس لـ علقمة بن نضلة عند ابن ماجة سوى هذا الحديث، لكن الحديث مرسل عن ابن نضلة، وإذا وجد مرسل آخر يعضده صار حجة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق عن ابن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها].
كراؤها يعني تأجيرها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً: عن ابن جريج: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى أن تبوب دور مكة].
يعني: لا يجعل لها أبواب؛ لأنها وقف؛ لأنه لو جعل لها أبواب لن يأتي أحد ويسكن فيها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً عن ابن جريج: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى أن تبوب دور مكة؛ لأن ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو، فأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فقال: أنظرني يا أمير المؤمنين! إني كنت امرأ تاجراً، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري، قال: فذلك إذاً.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا أهل مكة! لا تتخذوا لدوركم أبواباً؛ لينزل البادي حيث يشاء].
البادي: يعني القادم إلى مكة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وأخبرنا معمر عمن سمع عطاء يقول في قوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] قال: ينزلون حيث شاءوا.
وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو موقوفاً: (من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً)].
وهذا منقطع، ففيه رجل مبهم، وهو موقوف على عبد الله بن عمرو.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وتوسط الإمام أحمد فيما نقله صالح ابنه فقال: تملك وتورث ولا تؤجر جمعاً بين الأدلة، والله أعلم].
بهذا تكون الأقوال ثلاثة: القول الأول: الشافعي يرى أنها تملك وتورث وتباع وتؤجر.
والقول الثاني: إسحاق بن راهويه وجماعة: لا تملك ولا تباع ولا تؤجر ولا تورث ولا تبوب، متروكة للناس.
القول الثالث: الإمام أحمد التوسط: وهو أنها تملك وتورث وتباع، ولا تؤجر.
فالإمام أحمد جمع بين الأدلة، فالأدلة التي فيها المنع حملها على التأجير، والأدلة التي فيها الجواز حملها على البيع والإرث.
ولا شك أن المسألة فيها إشكال وتحتاج إلى جمع النصوص وكلام أهل العلم فيها.(107/4)
أقوال أهل العلم في قوله تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، قال بعض المفسرين من أهل العربية: الباء ههنا زائدة كقوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون:20] أي تنبت الدهن، وكذا قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج:25] تقديره إلحاداً].
وليس معنى زائدة: أنه ليس لها معنى، بل مؤكدة، فالقرآن ليس فيه شيء زائد، بل معناه أنها تفيد التأكيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج:25] تقديره إلحاداً، وكما قال الأعشى: ضمنت برزق عيالنا أرماحنا بين المراجل والصريح الأجرد].
يعني: اللبن الذي لا رغبة له.
والشاهد (برزق)، الباء زائدة، يعني: ضمنت رزق عيالنا، وهذا كقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج:25].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الآخر: بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان].
الشاهد: وأسفله بالمرخ، والمرخ شجر معروف تشتعل النار منه.
فهي من ناحية الإعراب فقط للتأكيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والأجود أنه ضمن الفعل هاهنا معنى يهم؛ ولهذا عداه بالباء فقال: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] أي: يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار].
يقول: الأولى ألا يقال: الباء زائدة، بل الأولى أن يقال: ضمن الفعل (يريد) بمعنى: يهم، وعلى هذا لا تكون زائدة.
فذكر قولين: القول الأول: أن الباء زائدة مؤكدة، والقول الثاني: أنها ليست زائدة، ولكن الفعل (يريد) ضمن معنى يهم، فمعنى {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] ومن يهم فيه بإلحاد، فإذا ضمن الفعل معنى يهم تعدى بالباء.
والإشكال في القول الأول، وهو أن يريد لا يتعدى بالباء، فالباء زائدة ومؤكدة.
والقول الثاني هو الأولى والأحسن، وهو أن يقال: إن الفعل (يريد) ضمن معنى يهم، والمعنى: (ومن يهم فيه بإلحاد) فمجرد أن يهم الإنسان بالسوء يذقه الله من عذاب أليم.
وهذا من خواص الحرم بخلاف غيره؛ فإنما يعاقب إذا فعل السيئة، لكن الحرم إذا هم فيه بالإلحاد أذاقه الله العذاب الأليم.
وهل هناك فرق بين الهم والعزم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} [يوسف:24]، وقوله: (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)؟ ذكر هذا الباقلاني، وكلامه يحتاج إلى تأمل، ولكن المقصود أن الأصل أن الهم أقل من العزم والتصميم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((بظلم)) أي: عامداً قاصداً أنه ظلم ليس بمتأول، كما قال ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنه: هو التعمد.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (بظلم) بشرك، وقال مجاهد: أن يعبد فيه غير الله تعالى، وكذا قال قتادة وغير واحد، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (بظلم) هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك؛ فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم].
في نسخة: وأن تستحل من الحرام، يعني: تستحل الحرام الذي حرمه الله، أو تستحل من الحرم يعني تستحله في الحرام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مجاهد: بظلم يعمل فيه عملاً سيئاً، وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر إذا كان عازماً عليه وإن لم يوقعه، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا شعبة عن السدي: أنه سمع مرة يحدث عن عبد الله -يعني: ابن مسعود - رضي الله عنه في قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] قال: لو أن رجلاً أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم].
يعني: ولو كان بعيداً، ولو كان بعدن أبين، والمعروف أنه مكان بعيد عن الحرم، لكن إذا هم وهو في مكان بعيد أذاقه الله العذاب الأليم.
والمراد بعدن أبين التي في اليمن، فهناك فرق بينها وبين عدن أخرى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال شعبة: هو رفعه لنا، وأنا لا أرفعه لكم، قال يزيد: هو قد رفعه، ورواه أحمد عن يزيد بن هارون به.
قلت: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري، ووقفه أشبه من رفعه؛ ولهذا صمم شعبة على وقفه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، وكذلك رواه أسباط وسفيان الثوري عن السدي عن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً، والله أعلم.
وقال الثوري عن السدي عن مرة عن عبد الله قال: ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، ولو أن رجلاً بعدن أبين هم أن يقتل رجلاً بهذا البيت لأذاقه الله من العذاب الأليم، وكذا قال الضحاك بن مزاحم، وقال سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد: إلحاد فيه لا والله وبلى والله.
وروي عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو مثله.
وقال سعيد بن جبير: شتم الخادم ظلم فما فوقه.
وقال سفيان الثوري: عن عبد الله بن عطاء عن ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] قال: تجارة الأمير فيه، وعن ابن عمر: بيع الطعام بمكة إلحاد.
وقال حبيب بن أبي ثابت: ((وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ)) قال: المحتكر بمكة، وكذا قال غير واحد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري أنبأنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى عن عمه عمارة بن ثوبان حدثني موسى بن باذان عن يعلى بن أمية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (احتكار الطعام بمكة إلحاد).
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثنا ابن لهيعة حدثنا عطاء بن دينار حدثني سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله الله: ((وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ)) قال: نزلت في عبد الله بن أنيس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين: أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام، ثم هرب إلى مكة، فنزلت فيه: ((وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ)) يعني: من لجأ إلى الحرم بإلحاد، يعني: بميل عن الإسلام.
وهذه الآثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، ولكن هو أعم من ذلك، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها].
فـ أبرهة صاحب الحبشة الذي أتى بالفيل أذاقه الله من العذاب الأليم، وكذلك القرامطة الذين قتلوا الحجاج في القرن الثالث أذاقهم الله عذاباً أليماً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيراً أبابيل {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:4 - 5]، أي: دمرهم وجعلهم عبرة ونكالاً لكل من أراده بسوء؛ ولذلك ثبت في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم) الحديث].
في الدنيا قبل الآخرة مع ما أعد الله الله لهم في الآخرة.
والحاصل: أن الإلحاد فسر بالشرك، وفسر بالعدوان على الناس في الدماء والأموال والأعراض، وفسر أيضاً بظلم الناس بالمعاصي.
والعُصاة الذي هم بمكة وانتهكوا حرمة الحرم تقام عليهم الحدود بخلاف من لجأ إلى مكة وجاء من بعيد؛ فإنه لا يقام عليه الحد حتى يخرج من مكة؛ لأن من ارتكب حداً خارج مكة، ثم دخل مكة لاجئاً معظم للحرم، فلا يقام عليه الحد في مكة حتى يخرج خارج الحرم، أما من سرق في مكة فتقطع يده في مكة، ومن زنا يجلد أو يرجم في مكة؛ لأنه هو الذي انتهك حرمة الحرم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كناسة حدثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: أتى عبد الله بن عمرو عبد الله بن الزبير فقال: يا ابن الزبير! إياك والإلحاد في حرم الله؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه سيلحد فيه رجل من قريش، لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت)، فانظر لا تكن هو].
وهذا السند لا بأس به، ولعله عبد الله بن عمرو بن العاص كما سيأتي.
وعبد الله بن عمرو بن العاص معروف أنه كان شاباً يتعبد ويصوم الليل ويقوم النهار، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف على نفسه، واتفق مع النبي صلى الله عليه وسلم على أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فلما كبرت سنه قال: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً في مسند عبد الله بن عمرو ب(107/5)
تفسير سورة الحج [26 - 31]
الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع للناس، ولها من الخصائص ما ليس لغيرها من البيوت، فقد شرفها الله وكرمها وأعتقها ممن يعتدي عليها، وأمر عباده أن يحجوا إليها دون سائر البيوت.(108/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت)
قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:26 - 27].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به من قريش في البقعة التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت، أي: أرشده إليه وسلمه له، وأذن له في بنائه، واستدل به كثير ممن قال: إن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت العتيق، وأنه لم يبن قبله كما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه: (قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: بيت المقدس، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة)].
وهذا هو الصوب: أن أول من بنى البيت إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى في كتابه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96]، وكما في هذا الحديث عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! ما هو أول بيت وضع في الأرض؟ قال: المسجد الحرام، قال: ثم أي؟ قال: بيت المقدس، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة)].
إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى البيت، وحفيده يعقوب بن إسحاق هو الذي بنى بيت المقدس بعد أربعين سنة، ويعقوب هو إسرائيل حفيد إبراهيم الخليل، وأنبياء بني إسرائيل كلهم ينسبون إلى يعقوب {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران:93] ويعقوب عليه السلام هو ابن إسحاق؛ لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام رزقه الله ابنين كريمين صالحين أحدهما إسماعيل وهو الأول وأمه هاجر، وهو أبو العرب، ومن سلالته نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
والثاني: إسحاق بعد إسماعيل باثني عشر سنة، أنجبته سارة بنت عمه، وكانت في الأول عقيم لا تلد، ثم رزقها الله في الكبر إسحاق، وإسحاق أنجب يعقوب، ويعقوب هو إسرائيل، ومن سلالته جميع أنبياء بني إسرائيل، وأولهم يوسف وآخرهم عيسى، كل أنبياء بني إسرائيل كلهم من سلالة يعقوب، وأما إسماعيل فمن سلالته نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فإسماعيل وإسحاق أخوان، وأبناء إسماعيل هم العرب، وأبناء إسرائيل هم أبناء العجم، واليهود والنصارى كلهم من سلالة إسرائيل.
بعض الناس يسمي دولة اليهود إسرائيل، ثم يشتم إسرائيل، وهذا لا يجوز؛ لأن إسرائيل نبي كريم، واليهود يودون تسمية إسرائيل، كما أن النصارى يسمون أنفسهم مسيحيين، ووليسوا مسيحيين، فلو كانوا مسيحيين لاتبعوا المسيح، بل هم نصارى كما سماهم الله، واليهود نسميهم يهود ولا نسميهم إسرائيليين، فإسرائيل نبي كريم، والمسيحيين نسبة إلى المسيح، والمسيح نبي كريم وهم ما اتبعوه، ولو اتبعوه لآمنوا به، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك هم يسمون أنفسهم المسيحيين، وهذا من الأخطاء الشائعة، بل اليهود اسمهم يهود كما سماهم الله، والنصارى اسمهم نصارى كما سماهم الله في كتابه، ولا نص على أن الله سمى النصارى مسيحيين في الكتاب أو السنة.
أما كلمة شيعة، فهو اسم عام يشمل جميع فرق الشيعة، وهم أربعة وعشرون فرقة منهم الرافضة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:96 - 97]، وقال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]، وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار بما أغنى عن إعادته هاهنا].
أي: ذكره في سورة البقرة، قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى هاهنا: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي} [الحج:26]، أي: ابنه على اسمي وحدي، {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26]، قال مجاهد وقتادة: من الشرك، {لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] أي: اجعله خالصاً لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له].
فهذا أمر من الله تعالى لإبراهيم عليه السلام أن يبني بيته تعالى على اسم الله وحده.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالطائف به معروف، وهو أخص العبادات عند البيت].
الطائف هو الذي يطوف بالبيت، سواء في الحج أو في العمرة أو طواف تطوع، والطواف معناه الدوران حول الكعبة، وهو عبادة، ويكون سبعة أشواط، والطواف أنواع: طواف العمرة وطواف القدوم في الحج، وطواف الإفاضة وطواف الوداع، وهناك طواف التطوع الذي يفعل في أي وقت وهو غير مرتبط بالحج ولا بالعمرة.
والطواف هو أخص العبادات عند البيت؛ لأنه يتعلق بنفس البيت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالطائف به معروف، وهو أخص العبادات عند البيت، فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها، {وَالْقَائِمِينَ} [الحج:26] أي: في الصلاة؛ ولهذا قال: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]، فقرن الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت، فالطواف عنده، والصلاة إليه في غالب الأحوال، إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب، وفي النافلة في السفر، والله أعلم.(108/2)
تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] أي: ناد في الناس داعياً لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذكر أنه قال: يا رب، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم، فقيل ناد وعلينا البلاغ].
ومعنى لا ينفذهم: من أنفذ ينفذ، يعني: لا يبلغهم، أي: كيف أبلغ الناس، وصوتي لا يبلغهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض].
وهذا يعني: أن الجبال انخفضت حتى سمع الناس صوت إبراهيم عليه السلام.
قوله: وقيل على الحجر، وليس الحجر؛ لأنه لم يكن يوجد حجر في زمان إبراهيم عليه السلام، إنما الحجر أخرجته قريش بعد ذلك بمدة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك.
هذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف، والله أعلم.
أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة.
وقوله: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]، قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشياً -لمن قدر عليه- أفضل من الحج راكباً؛ لأنه قدمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم.
والذي عليه الأكثرون أن الحج راكباً أفضل؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حج راكباً مع كمال قوته عليه السلام].
وهذا هو الصواب، فالحج راكباً هو أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج راكباً، وقال: (اللهم حجاً لا رياء فيه ولا سمعة)، فبعض الناس قد يتنطع ويظن أن الحج ماشياً أفضل، والأمر على عكس ذلك، فإن الأفضل ما كان أرفق بالعبد، والحج راكباً أرفق بالإنسان، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ} [الحج:27] يعني: طريق، كما قال: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء:31]، وقوله: {عَمِيقٍ} [الحج:27] أي: بعيد، قاله مجاهد وعطاء والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان والثوري وغير واحد.
وهذه الآية كقوله تعالى إخباراً عن إبراهيم عليه السلام حيث قال في دعائه: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37]، فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو حين إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار].
وكل من جاءه فإنه يشتاق إليه بعد ذلك ويحن إليه، ولا يقضي منه وطراً، وإذا أراد أن ينصرف سأل الله أن يجعل آخر عهده بالبيت، فالمسلم مهما تردد على هذا البيت فإنه يجد في نفسه ميلاً وانجذاباً إليه، وهذا من استجابة الله لدعوة نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام حين قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37].
ومحبة هذا البيت تعتبر من الإيمان، وهي تدل على وجود الخير في نفس هذا العبد.
وكما سبق وقلنا إن الحج راكباً أفضل من الحج ماشياً، ولكن بعضهم قد يفضل الحج ماشياً ويحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك)، وذلك حين حاضت وهي في الحج أو العمرة.
فنقول: إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على هذا، ولا نشك أنه إذا حصل له مشقة فهو مأجور، لكن عليه ألا يتعمد أن يوجد المشقة، فكون الإنسان يؤدي العبادة بارتياح وطمأنينة وراحة أفضل من أن يؤديها بمشقة وأرفق به، والنبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وقد أمر الصحابة أن يتحللوا لما أحرموا بالحج مفردين وقارنين، وألزمهم بذلك؛ لأن هذا أرفق بهم، فالأفضل ما كان أرفق بالمتعبد، وعليه ألا يتعمد المشقة، لكن إذا أصابته فهو مأجور.(108/3)
تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات)
قال الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:28 - 29].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28]، قال: منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والربح والتجارات].
قال في نسخة أخرى: الذبائح بدلاً من الربح، لكن كلمة البدن تكفي عن الذبائح، فالربح أحسن هنا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا قال مجاهد وغير واحد: إنها منافع الدنيا والآخرة، كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]].
وهذا هو الصواب، أنها منافع الدنيا والآخرة، فالحاج يشهد منافع الدنيا والآخرة، فأما منافع الآخرة فإنه يتعلم أمور دينه، يلتقي بإخوانه المسلمين ويستفيد منهم، فكم من حاج استفاد وتعلم صحة في عقيدته، واستقامة في أخلاقه وأعماله، وأما منافع الدنيا فهي ما يحصل من التجارات وغيرها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28].
قال شعبة وهشيم عن أبي بشر عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات أيام العشر، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به].
والقاعدة أن البخاري رحمه الله إذا علق بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علقه عنه، ويبقى من فوقه، فيكون صحيحاً عن ابن عباس، فالأيام المعلومات هي أيام عشر ذي الحجة، والأيام المعدودات هي أيام التشريق الثلاثة، يقول تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203]، فهي أيام التشريق الثلاثة، الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر.
والأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، من اليوم الأول من ذي الحجة إلى نهاية اليوم العاشر، وهي التي أقسم الله بها في قوله عز وجل: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]، على الصحيح من أقوال أهل العلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروي مثله عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ومجاهد وقتادة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن والضحاك وعطاء الخراساني وإبراهيم النخعي، وهو مذهب الشافعي والجمهور عن أحمد بن حنبل.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن عرعرة قال: حدثنا شعبة عن سليمان عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما العمل في أيام أفضل منها في هذه قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)، رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة بنحوه.
وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح.
وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر.
قلت: وقد تقصيت هذه الطرق وأفردت لها جزءاً على حده، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عثمان أنبأنا أبو عوانة عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)، وروي من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عمر بنحوه.
وقال البخاري: وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وقد روى أحمد عن جابر مرفوعاًَ: أن هذا هو العشر الذي أقسم الله به في قوله: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]].
وهذه الأحاديث فيها بيان فضل العمل الصالح في الأيام العشر، والعمل الصالح هنا عام، فيشمل الصلاة والصوم والصدقة، والإحسان إلى الناس بالشفاعة وبالتوجيه، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وذكر هنا من الأمثلة: التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، ولذلك كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يدخلان السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، فينبغي إظهار التكبير ورفع الصوت به في الأسواق وفي مجامع الناس، وهذه الأيام العشر هي أفضل أيام العام على الإطلاق، وأما العشر الأواخر من رمضان فلياليها أفضل؛ لأن فيها ليلة القدر.
وقد سئل أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: أيهما أفضل، العشر الأول من ذي الحجة، أو العشر الأواخر من رمضان؟ فأجاب بجواب سديد رحمه الله فقال: العشر الأول من ذي الحجة نهارها أفضل؛ لأن فيها يوم عرفة ويوم النحر، فيوم النحر هو أفضل أيام السنة على الإطلاق، وهو يوم العيد، وهو يوم الحج الأكبر، في أصح قولي العلماء، وفيه أعمال عظيمة، كرمي جمرة العقبة، ونحر الهدايا، وفيه حلق الرأس وفيه الطواف بالبيت والسعي، فمعظم أعمال الحج فيه، وهو يوم الحج الأكبر، ثم يليه يوم عرفة.
وقال: وليالي العشر الأخيرة من رمضان أفضل؛ لأن فيها ليلة القدر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال بعض السلف: إنه المراد بقوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142]، وفي سنن أبي داود: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يصوم هذه العشر)].
وعلى هذا يكون الصوم مستحباً في أيام العشر؛ لأن بعض الناس يقول: إنه لم يرد الصوم في هذه الأيام العشر، فذكر المؤلف هذا الحديث لـ أبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم العشر)، وحتى إذا لم يثبت هذا الحديث أو أن النبي صلى الله عليه وسلم صام هذه العشر؛ فإن الصوم داخل في العمل الصالح، والنبي صلى الله عليه وسلم قد يكون لم يتمكن من صومه لأجل انشغاله بالدعوة وتبليغ الرسالة، ولكن قوله: (العمل الصالح) عام، والصيام من العمل الصالح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا العشر مشتملة على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة فقال: (أحتسب على الله أن يكفر به السنة الماضية والآتية)، ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله.
وبالجملة فهذا العشر قد قيل: إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، وفضله كثير على عشر رمضان الأخير؛ لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه، وقيل: ذلك أفضل لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل وليالي ذاك أفضل، فبهذا يجتمع شمل الأدلة، والله أعلم].
وهذا هو الصواب والأرجح، كما فسر هذا أبو العباس بن تيمية، فتبين لنا أن المسألة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم: القول الأول: إن العشر الأول من ذي الحجة أفضل، والقول الثاني: إن العشر الأواخر من رمضان أفضل، والقول الثالث: التوسط، وهو أن أيام العشر الأول من ذي الحجة أفضل، وليالي العشر الأخيرة من رمضان أفضل؛ لأن ليالي العشر الأخيرة من رمضان فيها ليلة القدر؛ ولأن أيام العشر الأول من ذي الحجة فيها يوم النحر ويوم عرفة، فهذا القول الوسط، وهو الأرجح والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قول ثان في الأيام المعلومات: قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس الأيام المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده، ويروى هذا عن ابن عمر وإبراهيم النخعي وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه.
قول ثالث: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن المديني حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن عجلان حدثني نافع أن ابن عمر كان يقول: الأيام المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام، فالأيام المعلومات: يوم النحر ويومان بعده، والأيام المعدودات: ثلاثة أيام بعد يوم النحر، هذا إسناد صحيح إليه، وقاله السدي وهو مذهب الإمام مالك بن أنس، ويعضد هذا القول والذي قبله قوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28] يعني به: ذكر الله عند ذبحها.
قول رابع: إنها يوم عرفة ويوم النحر ويوم آخر بعده، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال ابن وهب: حدثني ابن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: المعلومات يوم عرفة، ويوم النحر وأيام التشريق.
وقوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَ(108/4)
تفسير قوله تعالى: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو وضع الإحرام، من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار ونحو ذلك، وهكذا روى عطاء ومجاهد عنه، وكذا قال عكرمة ومحمد بن كعب القرظي].
فقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29]، يعني: يتحلل من إحرامه بأن يحلق رأسه أو يقصره بعد أن يرمي جمرة العقبة ثم يتحلل، وله بعد ذلك أن يقص شاربه وأظفاره، فقوله: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29] يعني: يتنظف بأن يتحلل ثم يتوضأ، وكذلك في العمرة يتحلل إذا طاف وسعى وقصر من شعر رأسه أو حلق، فقضاء التفث يعني: التحلل وإزالة الأوساخ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عكرمة عن ابن عباس: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29]، قال: التفث المناسك، وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني: نحر ما نذر من أمر البدن].
يعني: إذا نذر أن ينحر إبلاً مثلاً، فلابد أن يفي بنذره، فإذا نذر أن يذبح عشراً من الإبل أو خمساً فإنه ينحرها يوم العيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]، نذر الحج والهدي، وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج].
ونحن نعلم أن الوفاء بالنذر عام، لكن هذا المذكور في الآية نذر يتعلق بالحج، فإذا نذر مثلاً أن يذبح في مكة كذا من الإبل أو من البقر أو من الغنم، فيجب عليه أن يفي بنذره هذا؛ لأن الوفاء بالنذر واجب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال إبراهيم بن ميسرة عن مجاهد: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]، قال: الذبائح، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]، كل نذر إلى أجل، وقال عكرمة: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]، قال: حجهم، وكذا روى الإمام ابن أبي حاتم: حدثني أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان في قوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] قال: نذر الحج، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وعرفة والمزدلفة ورمي الجمار على ما أمروا به، وروي عن مالك نحو هذا.
وقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، قال مجاهد: يعني: الطواف الواجب يوم النحر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أبي حمزة قال: قال لي ابن عباس: أتقرأ سورة الحج؟ يقول الله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت، قلت: وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ يرمي الجمرة فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق رأسه، ثم أفاض فطاف بالبيت.
وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض)].
وهذا لا شك فيه، فإن الطواف بالبيت هو آخر المناسك، كما في حديث ابن عباس: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن الحائض).
وثبت أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الناس كانوا ينفرون في حجة الوداع من كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)، فالطواف بالبيت هو آخر المناسك، وهو طواف الوداع، وإذا سافر ولم يرجع فعليه دم عند جمهور العلماء، يذبح في مكة، وإذا أخر طواف الإفاضة إلى وقت السفر كفاه عن طواف الوداع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر؛ لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت حين قصرت بهم النفقة].
وهذا هو الصواب، أنه يجب الطواف من وراء الحجر، وأن من دخل في أثناء الطواف في الحجر، فلا يصح طوافه، كما يفعل بعض الناس الجهلة، فإنك تجده يدخل في بعض الأطوفة بين الحجر والكعبة، وهذا لا يسمى طوافاً؛ لأنه لم يطف بالبيت، فإن جزءاً كبيراً من الحجر -يقال: ستة أذرع ونصف- يعتبر من البيت؛ وذلك أن قريشاً لما بنوا الكعبة حين تصدعت قبيل البعثة، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ خمساً وثلاثين سنة، أرادوا أن يبنوها بالمال الحلال، فجمعوا مالاً حلالاً فلم يجدوا مالاً حلالاً يكفي لبناء البيت، فقاموا ببنائه بعدما أنقصوا جزءاً منه، وهو ما يسمى بالحجر.
فهذا معنى قول المؤلف: وقصرت بهم النفقة، يعني: قصرت النفقة من الحلال، فلم تكف لبناء البيت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر، وأخبر أن الحجر من البيت، ولم يستلم الركنين الشاميين؛ لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة].
وإنما استلم صلى الله عليه وسلم الركنين اليمانيين، وهما: الركن الذي فيه الحجر الأسود، والركن اليماني الآخر، فهذان الركنان استلمهما؛ لأنهما على قواعد إبراهيم، وأما الركنان اللذان يليان الحجر؛ وهما الشامي والعراقي، فلم يستلمهما؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم.
ولهذا ثبت أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، طاف بالبيت وجعل يستلم الأركان الأربعة كلها، فأنكر عليه عبد الله بن عباس وقال: لا يستلم إلا الركنان اليمانيان، فقال معاوية رضي الله عنه لـ ابن عباس: يا ابن عباس! أفي البيت شيء مهجور؟ فقال له ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال له: صدقت، فرجع إلى قوله.
ولما بنى عبد الله بن الزبير الكعبة في خلافته، وأدخل الحجر فيها، صارت الأركان الأربعة كلها على قواعد إبراهيم، فجعل يستلم الأركان الأربعة كلها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن هشام بن حجير عن رجل عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه.
وقال قتادة عن الحسن البصري في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، قال: لأنه أول بيت وضع للناس، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وعن عكرمة أنه قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح، وقال خصيف: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط.
وقال ابن أبي نجيح وليث عن مجاهد: أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه، وكذا قال قتادة.
وقال حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن بن مسلم عن مجاهد: لأنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك].
ولهذا أهلك الله أبرهة الحبشي لما أراده بالسوء، حين جاء من اليمن ومعه الفيلة فأهلكه الله، وجعله عبرة للمعتبرين، وأنزل الله في شأنه سورة تتلى إلى يوم القيامة، وهي سورة الفيل، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5]، نعم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق: عن معمر عن الزهري عن ابن الزبير قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة، وقال الترمذي: حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد، حدثنا عبد الله بن صالح أخبرني الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن محمد بن عروة عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار)، وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن سهل النجاري عن عبد الله بن صالح به، وقال: إن كان صحيحاً، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ثم رواه من وجه آخر عن الزهري مرسلاً].
ولعل الصواب في السند محمد بن سهل البخاري وليس النجاري ومثلما قال ابن جرير رحمه الله عن هذه المعاني لمعنى العتيق، فإن كل هذه المعاني صحيحة، فالعتيق يعني: لقدمه، ولهذا يقول العلماء: الصلاة في المسجد العتيق أفضل من الصلاة في المسجد الج(108/5)
تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه تهوي به الريح في مكان سحيق)
قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:30 - 31].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك، وما لفاعلها من الثواب الجزيل، {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج:30] أي: ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيماً في نفسه، {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] أي: فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل، كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات].
فيكون قد جمع بين الأمرين، يعني: الثواب العظيم لمن فعل الطاعات وأدى المناسك، وكذلك من يعظم شعائر الله ويجتنب المحرمات فله أجر، فكما أن لفاعل الواجبات ثواباً، فكذلك تارك المنهيات له ثواب.
وقوله تعالى: ((ذَلِكَ)) يعني: يعود إلى ما مضى من أداء المناسك والطواف بالبيت، فيكون معنى الآية: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ} [الحج:30] يعني: من فعل الواجبات فله أجر، وكذلك من ترك المحرمات فله أجر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج: قال مجاهد في قوله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج:30]، قال: الحرمة مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها، وكذا قال ابن زيد.
وقوله: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج:30] أي: أحللنا لكم جميع الأنعام، وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام.
وقوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج:30] أي: من تحريم: {الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة:3]، الآية، قال ذلك ابن جرير وحكاه عن قتادة.
وقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]، ((مِنَ)) ههنا لبيان الجنس، أي: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وقرن الشرك بالله بقول الزور كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، ومنه شهادة الزور.
وفي الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)].
فالشرك بالله أعظم الذنوب، وهو الذنب الذي لا يغفر لمن لقي الله به، وذلك لأنه أظلم الظلم، وأقبح القبيح، حيث أن المشرك صرف محض حق الله الذي لا يستحقه غيره، لمخلوق ضعيف ناقص، فالله تعالى خلق الإنسان، وأوجده من العدم، ورباه بنعمه، وهو الرب العظيم الذي له الصفات العظيمة، وله على عباده النعم الظاهرة والباطنة، فكيف يعبد غيره سبحانه وتعالى، ويصرف الحق إلى غيره، فهذا أظلم الظلم وأقبح القبيح.
ثم يليه قتل النفس، فهو من أعظم الذنوب كذلك، ثم عقوق الوالدين.
وشهادة الزور ليست أعظم من الشرك، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كررها، كما ورد في الحديث: (وما زال يكررها، قال: ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور، وكان متكئاً فجلس، حتى قال الصحابة ليته سكت) يعني: أنهم خافوا عليه حتى لا يشق على نفسه، والسبب في تكرارها هو أن شهادة الزور الحامل عليها والدوافع إليها كثيرة، فيحمل عليها مثلاً حب المال، ويحمل عليها إرادة منفعة القريب فيشهد له، أو اضرار العدو فيشهد عليه، فالحامل عليها والباعث لها أمور متعددة، فلهذا كررها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكن أعظم الذنوب، فمعلوم أن الشرك أعظم، وقتل النفس أعظم، وعقوق الوالدين أعظم منها في الإثم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد حدثنا مروان بن معاوية الفزاري أنبأنا سفيان بن زياد عن فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: أيها الناس! عدلت شهادة الزور إشراكاً بالله ثلاثاً، ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]).
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن مروان بن معاوية به، ثم قال: غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث، ولا نعرف لـ أيمن بن خريم سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد رحمه الله أيضاً: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك الأسدي قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فلما انصرف قام قائماً فقال: عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عز وجل، ثم تلا هذه الآية: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج:30 - 31])].
وهذان الطريقان وإن كان فيهما خريم بن فاتك وهو مجهول ولم يعرف له سماع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إن ذكر الله لقول الزور مقروناً بالشرك بالله يكفي في تحريمه وأنه من أعظم الذنوب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن وائل بن ربيعة عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: تعدل شهادة الزور الإشراك بالله، ثم قرأ هذه الآية.(108/6)
تفسير قوله تعالى: (حنفاء لله غير مشركين به)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} [الحج:31] أي: مخلصين له الدين، منحرفين عن الباطل قصداً إلى الحق، ولهذا قال: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج:31].
ثم ضرب للمشرك مثلاً في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى، فقال سبحانه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الحج:31] أي: سقط منها، {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} [الحج:31] أي: تقطعه الطيور في الهواء، {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] أي: بعيد مهلك لمن هوى فيه، ولهذا جاء في حديث البراء: (إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت، وصعدوا بروحه إلى السماء فلا تفتح له أبواب السماء، بل تطرح روحه طرحاً من هناك، ثم قرأ هذه الآية)، وقد تقدم الحديث في سورة إبراهيم بحروفه وألفاظه وطرقه، وقد ضرب تعالى للمشركين مثلاً آخر في سورة الأنعام وهو قوله: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71]].
وقوله: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} [الحج:31] يعني: مخلصين لله، والحنيف: هو المائل المقبل على الله الموحد المخلص عمله لله المعرض عن الشرك، ولهذا وصف الله إبراهيم بذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:123].(108/7)
الأسئلة(108/8)
صفة قول المأموم (آمين)
السؤال
متى يقول المأموم آمين في الفاتحة؟
الجواب
إذا قال الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، عندها يقول الإمام والمأموم جميعاً: آمين، وفي الحديث: (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له)، وأيضاً جاء في الحديث الآخر: (إذا قال الإمام {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، فقولوا: آمين)، فهذا يوضح الحديث الأول، وورد في بعض الروايات الأخرى: (إذا قال الإمام: آمين، فقولوا: آمين)، فهذا فيه تقييد لكن الأحاديث الأخرى ليس فيها التقييد بهذا، فالمشروع للمصلي، سواء كان إماماً أو مأموماً، أن يقول: آمين بعد انتهاء الإمام من قوله: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، وسواء أمن الإمام أو لم يؤمن.(108/9)
حكم تأخير رمي الجمار إلى آخر أيام التشريق
السؤال
هل يجوز تأخير رمي الجمار إلى آخر أيام التشريق؟
الجواب
يقول العلماء: لو أخر الحاج رمي الجمار إلى اليوم الثالث عشر ورماها بالترتيب قبل غروب الشمس أجزأه، لكن ينبغي للإنسان أن يرمي كل يوم بيومه، فهذا هو الأصل، ولو أخرها إلى الثالث من أيام التشريق ورتبها بأن رمى جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم رمى الجمرة الصغرى سبع، ثم الوسطى بسبع، ثم العقبة بسبع عن اليوم الأول، ثم أعاد ورمى الثلاث عن اليوم الثاني ثم رمى عن اليوم الثالث أجزأه، فإن غابت الشمس يوم الثالث عشر فقد فات وقت الرمي، ويستقر الدم في ذمته.
فينبغي للإنسان على كل حال أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يؤدي عباده كل يوم بيومها، فكل يوم له عبادة مستقلة، لكن لو كان الإنسان معذوراً بسبب شدة الزحام ثم أخر يوماً فلا بأس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للسقاة والرماة أن يرموا يوماً ولرعاة الإبل أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً.(108/10)
حكم رمي الجمرات ليلاً
السؤال
هل يجوز الرمي ليلاً؟
الجواب
هذه المسألة محل تأمل ففتوى هيئة كبار العلماء بالأغلبية أنه يجوز أن يرمي بالليل؛ لأنه يؤدي العبادة في يومها، والحنابلة وجماعة يمنعون من الرمي ليلاً، وعلى هذا يرميها من الغد، فيرمي عن اليوم الحادي عشر بالترتيب قبل اليوم الثاني عشر.(108/11)
تفسير سورة الحج [32 - 35]
تعظيم شعائر الله علامة على تقوى القلوب، ومن تعظيم شعائر الله تعظيم مناسك الحج وتعظيم حرمة البيت العتيق.(109/1)
تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)
قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:32 - 33].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: هذا {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32] أي: أوامره، {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن، كما قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس: تعظيمها: استسمانها واستحسانها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث عن ابن أبي ليلى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32]، قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام].
فالاستسمان والاستعظام من تعظيم شعائر الله، أي: كونه يختار من الهدي أو من الأضحية السمينة الحسنة الجميلة والعظيمة والكبيرة الجسم، فهذا من تعظيم شعائر الله؛ لأن السمينة كثيرة اللحم، والجميلة تكون محبوبة ومرغوبة، فكل هذا من تعظيم شعائر الله، وتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب، أي: أنه دليل على التقوى.
فكلما كانت الهدايا والأضاحي أسمن، وأغلى ثمناً، وأكثر لحماً وأعطى للفقراء فهو أفضل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو أمامة بن سهل: كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون، رواه البخاري.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين)].
وهذا الحديث ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [رواه أحمد وابن ماجة، قالوا: والعفراء هي البيضاء بياضاً ليس بناصع، فالبيضاء أفضل من غيرها، وغيرها يجزئ أيضاً، لما ثبت في صحيح البخاري عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين).
وعن أبي سعيد: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن كحيل، يأكل في سواد وينظر في سواد ويمشي في سواد) رواه أهل السنن وصححه الترمذي، أي: بكبش أسود في هذه الأماكن].
يعني: في عينيه سواد، وفي فمه سواد، وفي رجله سواد، فهو يأكل في سواد، ويطأ في سواد، وينظر في سواد.
وفي نسخة أخرى: فحيل، بدلاً من كحيل، أي: كامل الخلقة، وليس بخصي، بمعنى أنه لم تقطع أنثييه، والخصي يجزئ، بل إنه إذا خصي فإنه يكبر ويكون أسمن.
فكحيل معناه: كحيل العينين، وفحيل يعني: كامل الخلقة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي سنن ابن ماجة عن أبي رافع رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين)، قيل: هما الخصيان، وقيل: اللذان رض خصياهما ولم يقطعهما، وكذا روى أبو داود وابن ماجة عن جابر رضي الله عنه: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين أملحين، موجوءين)، والموجوءين قيل هما الخصيين، والله أعلم].
أي أن الموجوء مقطوع الخصيتين، وقيل: هو الذي رض خصيتاه، وهذا يدل على أن الخصي قد يكون أفضل؛ لأن هذا يفيده، فإنه إذا رض خصيتاه أو قطعا سمن.
وفي الرواية الأخيرة الصحيح أن نقول: قيل هما الخصيان، وليس الخصيين.
وورد أكثر من حديث فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى مرة بكبش وأخرى بكبشين؛ فيدل على أن هذا سنة وهذا سنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقام في المدينة عشر سنوات، كل سنة يضحي، إلا في سنة حجة الوداع فإنه حج، فمرة ضحى بكبش، وأخرى ضحى بكبشين موجوءين، فلا مانع من اعتبار كل ذلك سنة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن علي قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، وألا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء)، رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي.
ولهم عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن)].
ومعنى: نستشرف العين والأذن، يعني: ننظر فيهما، ونتأكد من عدم وجود أي عيب فيهما.
والشرقاء: هي مقطوعة الأذن أو مخروقة الأذن، أو مقطوعة القرن.
حتى العوراء أيضاً لا يضحى بها، ففي حديث البراء بن عازب: (قام فينا رسول الله يخطب ثم قال: أربع لا تجوز في الأضاحي، العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، الهزيلة التي لا مخ فيها).
وكذلك أمر أن تكون سليمة العين، والأذن، فلا يكون فيها خرق أو قطع أكثر من النصف، وكذلك القرن إذا كان فيه قطع أكثر من النصف فإن هذا عيب في الأضحية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهم عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن)، وقال سعيد بن المسيب العضب: النصف فأكثر].
الأعضب: المقطوع النصف من القرن أو الأذن، فإذا كان مقطوع النصف فأكثر فهذا أعضب القرن أو أعضب الأذن، ولا يجزئ.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال بعض أهل اللغة: إن كسر قرنها الأعلى فهي قصماء فأما العضب فهو كسر الأسفل، وعضب الأذن: قطع بعضها، وعند الشافعي: أن التضحية بذلك مجزئة لكن تكره، وقال الإمام أحمد: لا تجزئ الأضحية بأعضب القرن والأذن لهذا الحديث، وقال مالك: إن كان الدم يسيل من القرن لم يجزئ، وإلا أجزأ، والله أعلم.
وأما المقابلة فهي التي قطع مقدم أذنها، والمدابرة: من مؤخر أذنها، والشرقاء: هي التي قطعت أذنها طولاً قاله الشافعي والأصمعي، وأما الخرقاء فهي التي خرقت السمة أذنها خرقاً مدوراً، والله أعلم].
والسمة: الوسم، أي: العلامة، وقوله: التي خرقت السمة أي: هي التي عندما توسم يخرقها الوسم، ويكون هذا الخرق مدوراً.
وفي التضحية بمقطوعة الأذن خلاف مشهور، والأقرب أنه إذا كان قطع من الأذن أو من القرن أكثر من النصف فأكثر فيجتنب احتياطاً، أما إذا كان أقل من النصف فلا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكسيرة التي لا تنقي)، رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي].
والكسيرة هي الهزيلة: التي لا مخ فيها.
والخصي يجزئ؛ لأن فيه مصلحة وهو أنه يسمن إذا خصي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذه العيوب تنقص اللحم لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي؛ لأن الشاء يسبقونها إلى المرعى فلهذا لا تجزئ التضحية بها عند الشافعي وغيره من الأئمة كما هو ظاهر الحديث].
الشاء تكون فيها هذي العيوب الأربعة: العوراء البين عورها فتسبقها الغنم؛ لكونها لا تبصر، وتسبق إلى المرعى، ولا ترعى الرعي الجيد، فتكون ضعيفة، وكذلك العرجاء البين ضلعها تسبقها الغنم، ولا تستطيع المشي مع الصحاح فيسبقونها إلى العلف، وإلى المرعى الجيد فتكون ضعيفة، والهزيلة التي لا مخ فيها كذلك، والمريضة البين مرضها بسبب المرض تسبقها الغنم، فهذه العيوب تنقصها وتضعفها عن الرعي، فتكون ضعيفة الخلقة هزيلة.
وهذا يؤثر على اللحم ويفسده قال المصنف رحمه الله تعالى: [واختلف قول الشافعي في المريضة مرضاً يسيراً على قولين، وروى أبو داود عن عتبة بن عبد السلمى: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن المصفرة، والمستأصلة، والبخقاء، والمشيعة، والكسراء)، فالمصفرة قيل: الهزيلة، وقيل: المستأصلة الأذن، والمستأصلة: المكسورة القرن، والبخقاء: هي العوراء، والمشيعة: هي التي لا تزال تشيع خلف الغنم ولا تتبع لضعفها، والكسراء: العرجاء، فهذه العيوب كلها مانعة من الإجزاء، فإن طرأ العيب بعد تعيين الأضحية فإنه لا يضر عيبه عند الشافعي خلافاً لـ أبي حنيفة].
لا يجوز للإنسان أن يشتري الأضحية وفيها هذه العيوب، لكن إذا اشتراها ثم طرأ عليها العيب ففيه خلاف: عند الشافعي تجزئ؛ لأنه عيَّنها، وعند أبي حنيفة لا تجزئ.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (اشتريت كبشاً أضحي به فعدا الذئب فأخذ الإلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ضح به)].
وإذا تعمد قطع الإلية من الأضحية ففي إجزائها نظر، أما لو كان بعدما عينها قطعت الإلية فيجوز، ولا يشتري مقطوعة الإلية، بل يشتري كاملة.
وهذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه جابر بن يزيد الجعفي وهو ضعيف جداً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا جاء في الحديث (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن)، أي: أن تكون الهدية والأضحية سمينة حسنة ثمينة، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (أهدى عمر نجيباً فأعطي بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أهديت نجيباً فأعطيت بها ثلاثمائة دينار أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنة، قال: لا، انحرها إياها)].
هو أهداها لله، وللبيت الحرام، أي: قال: هذه هدية تذبح في البلد الحرام لله، فل(109/2)
تفسير قوله تعالى: (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج:33] أي: لكم في البدن منافع من لبنها، وصوفها، وأوبارها، وأشعارها، وركوبها إلى أجل مسمى، قال مقسم: عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج:33]، قال: ما لم تسم بدناً].
أي: ما لم يعينها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد في قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج:33]، قال: الركوب واللبن والولد، فإذا سميت بدنة أو هدياً ذهب ذلك كله، وكذا قال عطاء والضحاك وقتادة وعطاء الخرساني وغيرهم، وقال آخرون: بل له أن ينتفع بها وإن كانت هدياً إذا احتاج إلى ذلك، كما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة قال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها ويحك! في الثانية أو الثالثة).
وفي رواية لـ مسلم عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها)، وقال شعبة عن زهير عن أبي ثابت الأعمى عن المغيرة بن أبي الحر عن علي أنه رأى رجلاً يسوق بدنة ومعها ولدها فقال: لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها، وقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]، أي: محل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق وهو الكعبة، كما قال تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، وقال سبحانه: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25].
وقد تقدم الكلام على معنى البيت العتيق قريباً ولله الحمد، وقال ابن جريج عن عطاء قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كل من طاف بالبيت فقد حل قال الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]].
ابن عباس قالوا أنه يرى وجوب التمتع، ويقول: كل من طاف وسعى فقد حل شاء أم أبى، فلا يرى الإفراد ولا يرى القرآن، أي: كل حاج يجب عليه التمتع، فيطوف ويسعى ويتحلل بالعمرة ثم يحرم بالحج.
وهذه البدنة لأنها مهداة تذبح هي وولدها، وكلهم يذبحوا لله.
وله أن يركبها، وأن يشرب من لبنها؛ لأن اللبن يؤذيها فلا يتركه، بل يشرب ويوزع، وإذا كان لها ولد يأخذ ما فضل عن ولدها.(109/3)
تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله)
قال الله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:34 - 35].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج:34]، قال: عيداً، وقال عكرمة: ذبحاً، وقال زيد بن أسلم في قوله سبحانه وتعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج:34] أنها مكة لم يجعل الله لأمة قط منسكاً غيرها.
وقوله: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34]، كما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين فسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما).
قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يزيد بن هارون: أنبأنا سلام بن مسكين عن عائذ الله المجاشعي عن أبي داود - وهو نفيع بن الحارث - عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (قلت أو قالوا: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم، قالوا: ما لنا منها؟ قال: بكل شعرة حسنة، قال: فالصوف؟ قال: بكل شعرة من الصوف حسنة).
وأخرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة في سننه من حديث سلام بن مسكين به، وقوله تعالى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} [الحج:34]، أي: معبودكم واحد وإن تنوعت شرائع الأنبياء ونسخ بعضها بعضاً فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له].
الحديث السابق ضعيف جداً، ولا شك أن الأضاحي والهدايا فيها أجر وثواب عظيم، لكن التخصيص بكل شعرة حسنة بهذا الحديث ضعيف.
وهي ثابتة بالقرآن كما قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] ويكفي العمل بالسنة، فمن عمل بالسنة فله أجر عظيم، وله ثواب كبير، لكن غير مقدر والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، ولهذا قال: {فَلَهُ أَسْلِمُوا} [الحج:34]، أي: أخلصوا واستسلموا لحكمه وطاعته {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34]، قال مجاهد: المطمئنين، وقال الضحاك وقتادة: المتواضعين، وقال السدي: الوجلين، وقال عمرو بن أوس: المخبتين: الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا، وقال الثوري: ((وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)) قال: المطمئنين الراضين بقضاء الله المستسلمين له.
وأحسن بما يفسر بما بعده وهو قوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، أي: خافت منها قلوبهم].
قوله: المخبتين: تفسيرها الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:35]، فهؤلاء هم المخبتون، وقد خصهم الله بهذا، وهم: الصابرون على ما أصابهم، والمقيمين الصلاة، والمنفقون مما رزقهم الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [{وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج:35]، أي: من المصائب، قال الحسن البصري: والله لنصبرن أو لنهلكن، {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} [الحج:35]، قرأ الجمهور بالإضافة السبعة وبقية العشرة، وقرأ ابن السميفع والمقيمين الصلاة بالنصب].
إذاً: تكون قراءة شاذة إذا كانت خارجة عن قراءة السبعة والعشرة.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية عنه: الصلاة بالنصب، وأبو عمرو أحد القراء السبعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن الحسن البصري ((وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ)) وإنما حذفت النون ها هنا تخفيفاً، ولو حذفت للإضافة لوجب خفض الصلاة، ولكن على سبيل التخفيف فنصبت، أي: المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم من أداء فرائضه {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:35]، أي: وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم وأقاربهم وفقرائهم ومحاويجهم ويحسنون إلى الخلق مع محافظتهم على حدود الله، وهذه بخلاف صفات المنافقين فإنهم بالعكس من هذا كله كما تقدم تفسيره في سورة براءة].(109/4)
تفسير سورة الحج الآية [36]
الأضحية والهدي من النسك المشروع ذبحه لله عز وجل، شكراً للنعمة وتوسعة على الأهل والعيال والفقراء والمساكين.
وللأضحية والهدي زمن معلوم وصفة معلومة، فيشترط فيها صفات لا ينبغي أن تخرج عنها، كما يشترط أن تذبح في أيام لا يجوز الذبح في غيرها.(110/1)
تفسير قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله)
قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى ممتناً على عبيده فيما خلق لهم من البدن وجعلها من شعائره، وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام بل هي أفضل ما يهدى إليه كما قال تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2].
قال ابن جريج قال عطاء في قوله: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36]]، قال: البقرة والبعير، وكذا روي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن البصري، وقال مجاهد: إنما البدن من الإبل.
قلت: أما إطلاق البدنة على البعير فمتفق عليه، واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين: أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعاً كما صح الحديث، ثم جمهور العلماء على أنه تجزئ البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة، كما ثبت به الحديث عند مسلم من رواية جابر بن عبد الله قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الأضاحي البدنة سبعة والبقرة عن سبعة)، وقال إسحاق بن راهويه وغيره: بل تجزئ البقرة والبعير عن عشرة.
وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وغيرهما فالله أعلم].
الأرجح أنها تجزئ عن سبعة في الأضاحي، وإنما جعلها النبي صلى الله عليه وسلم عن عشرة في الغنائم، ففي الغنيمة جعل البدنة عن عشرة من الغنم، أما في الأضاحي والهدايا فالبدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة.
وقوله: قال إسحاق بن راهويه وغيره: بل تجزئ البقرة والبعير عن عشرة، الأقرب: أنه تجزئ البقرة عن سبعة والبعير عن عشرة، وهذا الحديث غريب من هذا لوجه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36]، أي: ثواب في الدار الآخرة.
وعن سليمان بن يزيد الكعبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراق دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأضلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً)، رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه.
وقال سفيان الثوري: كان أبو حاتم يستدين ويسوق البدن، فقيل له: تستدين وتسوق البدن؟ قال: إني سمعت الله يقول: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد)، رواه الدارقطني في سننه، وقال مجاهد: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36] قال: أجر ومنافع، وقال إبراهيم النخعي: يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها].(110/2)
تفسير قوله تعالى: (فاذكروا اسم الله عليها صواف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36].
وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف أتي بكبش فذبحه، فقال: بسم الله، والله أكبر، اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي).
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي عياش عن جابر رضي الله عنه قال: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد فقال حين وجههما: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين} [الأنعام:179] {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، اللهم منك ولك عن محمد وأمته، ثم سمى الله وكبر وذبح).
وعن علي بن الحسين عن أبي رافع: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: اللهم هذا عن أمتي جميعها من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ثم يقول: هذا عن محمد وآل محمد فيطعمها جميعاً للمساكين، ويأكل هو وأهله منهما) رواه أحمد وابن ماجة.
وقال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36]، قال: قياماً على ثلاث قوائم معقولة يدها اليسرى يقول: باسم الله والله أكبر لا إله إلا الله، اللهم منك ولك.
وكذلك روي عن مجاهد وعلي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحو هذا، وقال ليث عن مجاهد: إذا عقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث.
وروى ابن أبي نجيح عنه نحوه، وقال الضحاك: يعقل رجلاً فتكون على ثلاث.
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه أتى على رجل قد أناق بدنه وهو ينحرها فقال: ابعثها قياماً مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم).
وعن جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها).
رواه أبو داود وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار أن سالم بن عبد الله قال لـ سليمان بن عبد الملك: قف من شقها الأيمن وانحر من شقها الأيسر.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه في صفة حجة الوداع قال فيه: (فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين بدنة جعل يطعنها بحربة في يده) وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة قال في حرف ابن مسعود: (صوافن) أي: معقلة قياماً.
وقال سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد: من قرأها صوافن قال: معقولة، ومن قرأها (صواف) قال: تصف بين يديها.
وقال طاوس والحسن وغيرهما: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافِي) يعني: خالصة لله عز وجل، وكذا رواه مالك عن الزهري.
وقال عبد الرحمن بن زيد: صوافِي: ليس فيها شرك كشرك الجاهلية لأصنامهم.
وقوله سبحانه: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36]].
وهذه الآثار تدل على أنه يشرع للمسلم أن يذبح الهدي والأضحية إذا كانت من الإبل قائمة معقولة اليد اليسرى، وهذا هو السنة، وأن يطعنها في الوحدة التي في أصل العنق، فإذا سقطت أجهز عليها، ولما رأى ابن عمر رجلاً ينحر بدنة وهي باركة قال: (ابعثها مقيدة سنة أبي القاسم)، عليه الصلاة والسلام، وأما البقر والغنم فتذبح على جنبها الأيسر، لكن لو عكس وذبح الإبل باركة والغنم والبقر واقفة أجزأ، لكن خالف السنة.
والبدنة توقف على ثلاث والرابعة معقولة.(110/3)
معنى قوله تعالى: (فإذا وجبت جنوبها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36]، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد يعني: سقطت إلى الأرض، وهو رواية عن ابن عباس وكذا قال مقاتل بن حيان، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36]، يعني: نحرت، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ((فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)) يعني: ماتت، وهذا القول هو مراد ابن عباس ومجاهد: فإنه لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت حتى تموت وتبرد حركتها، وقد جاء في حديث مرفوع: (ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق)].
هذا الحديث رواه الدارقطني في السنن من طريق سعيد بن سلام العطار عن عبد الله بن بديل عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، وسعيد بن سلام العطار كذبه أحمد وابن نمير، وضعف البيهقي هذا الحديث في السنن الكبرى.
لكن المعنى صحيح، ولهذا قال العلماء: ينبغي للإنسان ألا يعجل في سلخها قبل أن تبرد، فينتظر قليلاً حتى تبرد، ثم يسلخها بعد ذلك، وقد ذكر العلماء: أن من المكروهات: كسر العنق، وسلخها قبل أن تبرد، وأن يحد السكين والحيوان يبصره، أو يذبحها أمام أختها، أو يوجهها إلى غير القبلة، فكل هذه من المكروهات.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد رواه الثوري في الجامع عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن عن قرافصة الحنفي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ذلك، ويؤيده حديث شداد بن أوس في صحيح مسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)].
القِتلة والذِّبحة، والمراد به: الهيئة، والذَبحة والقَتلة: الضربة، والمراد الهيئة وليس الضرب، كما في الحديث: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته).
والشفرة: السكين، ويحدها، أي: حتى تكون أسرع في الذبح وفي إزهاق الروح، وقوله: (وليرح ذبيحته)، أي: يجعلها ترتاح، فإذا حد الشفرة والسكين صارت حادة فتكون أسرع في إزهاق الروح وإراحة الذبيحة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه].
ما قطع من البهيمة فحكمه حكم الميتة، كأن قطع الإلية، كما في الحديث: (أن رجلاً قطع إلية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة)، فلا يحل الحيوان إلا بالذكاة.(110/4)
معنى القانع والمعتر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]، قال بعض السلف قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:36]، أمر إباحة، وقال مالك: يستحب ذلك، وقال غيره يجب، وهو وجه لبعض الشافعية].
في الأمر بالأكل منها ثلاثة أقوال: أنه للإباحة أو للاستحباب أو للوجوب، والصواب: أنه للاستحباب وليس بواجب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [واختلف في المراد بالقانع والمعتر، فقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: القانع: المستغني بما أعطيته وهو في بيته.
والمعتر: الذي يتعرض لك ويلم بك أن تعطيه من اللحم ولا يسأل، وكذا قال مجاهد ومحمد بن كعب القرظي وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس القانع: المتعفف، والمعتر: السائل، وهذا قول قتادة وإبراهيم النخعي ومجاهد في رواية عنه، وقال ابن عباس وعكرمة وزيد بن أسلم والكلبي والحسن البصري ومقاتل بن حيان ومالك بن أنس القانع: هو الذي يقنع إليك ويسألك، والمعتر: الذي يعتري يتضرع، ولا يسألك.
وهذا لفظ الحسن، وقال سعيد بن جبير: القانع هو السائل، ثم قال أما سمعت قول الشماخ: لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع].
القنوع أي: القانع، وهو السائل.
والمعتر أعف من القانع.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال يغني: من السؤال، وفيه قال ابن زيد، وقال زيد بن أسلم: القانع: المسكين الذي يطوف، والمعتر: الصديق والضعيف الذي يزور، وهو رواية عن ابنه عبد الرحمن بن زيد أيضاً، وعن مجاهد أيضاً، القانع: جارك الغني الذي يبصر ما يدخل بيتك، والمعتر: الذي يعتزل من الناس].
الأقرب أنها: يعتري.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعنه أن القانع: هو الطامع، والمعتر: هو الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير، وعن عكرمة نحوه، وعنه القانع: أهل مكة، واختار ابن جرير أن القانع: هو السائل؛ لأنه مِنْ أقنع بيده إذا رفعها للسؤال، والمعتر: من الاعتراء وهو الذي يتعرض لأكل اللحم].
والحاصل: أن هذا فيه خلاف، وقد ذكر الحافظ رحمه الله أقوالاً كثيرة في القانع والمعتر، وظاهر الآية: أن القانع: هو الذي يقنع بما يعطى، وقد يكون سائلاً وقد يكون غير سائل، والظاهر أنه غير السائل؛ لأنه يقنع بما يعطى، وقد يكون سائلاً ثم يقنع بما يعطى.
والمعتر من الاعترار، وهو الذي يتعرض لأكل اللحم.(110/5)
تقسيم الأضحية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء: فثلث لصاحبها يأكله منها، وثلث يهديه لأصحابه، وثلث يتصدق به على الفقراء؛ لأنه تعالى قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]].
ذهب الحنابلة وجماعة إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء، وكذلك العقيقة: ثلث يأكله وأهل بيته، وثلث يهديه، وثلث يتصدق به، وهذا من باب الاستحباب، ولكن لو أكلها كلها فعند الحنابلة: إن أكلها كلها إلا أوقية جاز، والأوقية مقدار قليل، ولو قطعة قصيرة، فإذا تصدق أو أخذ شيئاً منها ولو قطعة صغيرة كفى، وإذا أكلها كلها ضمن بمقدار أوقية يخرجه، وهذا من باب الاستحباب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: (إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فكلوا وادخروا ما بدا لكم)، وفي رواية: (فكلوا وادخروا وتصدقوا)، وفي رواية: (فكلوا وأطعموا وتصدقوا)].
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث من أجل الدافة، وهم الفقراء الذين دخلوا المدينة، ونهاهم أن يدخروا أكثر من ثلاثة أيام حتى يتصدقوا به على الفقراء، ثم بعد ذلك في السنة التي بعدها لما لم يكن هناك فقراء نسخ ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فكلوا وادخروا ما بدا لكم)، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة إلى أنه: إذا وجد فقراء مثل هؤلاء فلا يجوز الادخار فوق ثلاث؛ لأن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، والعلة في النهي عن ادخار لحوم الأضاحي وجود الفقراء، فإذا وجد فقراء في مثل هذه الحال فلا يجوز الادخار فوق ثلاث، بل يجب أن يتصدق على الفقراء وإذا لم يوجد جاز الادخار فوق ثلاث.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والقول الثاني: أن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف؛ لقوله في الآية المتقدمة: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]؛ ولقوله في الحديث: (فكلوا وادخروا وتصدقوا)، فإن أكل الكل فقيل: لا يضمن شيئاً، وبه قال ابن سريج من الشافعية، وقال بعضهم: يضمنها كلها بمثلها وقيمتها، وقيل يضمن نصفها، وقيل ثلثها، وقيل أدنى جزء منها وهو المشهور من مذهب الشافعي].
إذا أكلها كلها ولم يترك شيئاً فلم يطعم ولم يتصدق قيل: ليس عليه شيء، وذهب إلى هذا ابن سريج والمالكية، وقال بعضهم: يضمنها كلها، وقيل: يضمن النصف، وقيل: يضمن الثلث، وقيل: يضمن أقل شيء يعني مقدار أوقية، أي قطعة صغيرة، يضمن ثمنها ويتصدق بها على الفقراء، هذا عند الحنابلة؛ لأن الله تعالى أمر بالإطعام وهذا لم يطعم لأنه أكلها كلها فيضمن.
والقول بأنه يضمن بعض الشيء هو ظاهر الحديث، وله وجه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الجلود ففي مسند أحمد عن قتادة بن النعمان في حديث الأضاحي (فكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها)، ومن العلماء من رخص في بيعها، ومنهم من قال: يقاسم الفقراء ثمنها، والله أعلم].
الصواب: أنه لا يجوز بيع الجلود، لكن له أن يستفيد منها ويستمتع بها، كأن يدبغها ويجعلها قربة، أو يتصدق بها، والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لما نحر من الإبل بيده الشريفة سبعة وثلاثين، ونحر علي رضي الله عنه ما غبر-أي: ما بقي- أمر بها فتصدق بها على الفقراء، وأمر أن يؤتى له في كل واحدة منها ببضعة فطبخت في قدر، فأكل منها وشرب من مرقها عليه الصلاة والسلام، وأمر أن يتصدق بلحومها وجلالها وجلودها على الفقراء جميعاً.
فالجلد: إما أن ينتفع بها، وإما أن يتصدق بها على الفقير، أما أن يبيعه فلا، ولا يقاسمه الفقراء، إما أن يستمتع به أو يدبغه ويجعله قربة، ويتصدق به، أو يهديه.
وله أن يعطيها ويجعلها بقصد الهدية؛ لأن الأضاحي يهدى منها، ويتصدق، ويؤكل، فإما أن يهدي الجلد، أو يتصدق به على الفقير، ولا يبيعه.
ومثله العقيقة.(110/6)
بيان وقت الأضحية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [مسألة: عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء)، أخرجاه].
وهذا الحديث رواه الشيخان، وفيه قوله: (إن أول ما نبدأ به في هذا اليوم)، وهو: عيد الأضحى ويوم النحر، أول ما يبدأ به صلاة العيد ثم يرجع فينحر، والسنة: أن يكون ذبح الأضاحي بعد طلوع الشمس وبعد صلاة العيد في القرى والأمصار، أما في البوادي التي ليس فيها صلاة عيد فبعد طلوع الشمس بمقدار مضي صلاة العيد، أما من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم، وعليه أن يعيد.
فهذا أبو بردة بن نيار قال البراء بن عازب عنه: (أنه تعجل وذبح قبل الصلاة وقال للنبي: يا رسول الله! تعجلت وذبحت قبل الصلاة، وأعطيت جيراني المحتاجين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شاتك شاة لحم، ولا تجزئ عنك أضحية، فقال: يا رسول الله! إن عندي عناقاً هي أحب إلي من شاتين)، والعناق: هي السخلة الصغيرة التي لم تبلغ سنة، ومن المعلوم أن من المعز لا تجزئ إلا إذا تم لها السنة، وهذه عناق قد يكون لها ستة أشهر أو ثلاثة أشهر لكنها جيدة، قال: (إن عندي عناقاً أحب إلي من شاتين، فقال عليه الصلاة والسلام: تجزئك ولا تجزئ عن أحد بعدك)، وهذه خصوصية لـ أبي بردة بن نيار: أنه ضحى بجذعة المعز، وأما غيره فلا يجزئ من المعز إلا من تم له سنة، ومن الضأن ما له ستة أشهر، والجذع من الضأن لا بأس، أما المعز فلا يجزئ إلا ما تم له سنة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء: إن أول وقت الأضحى إذا طلعت الشمس يوم النحر ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين، زاد أحمد: وأن يذبح الإمام بعد ذلك].
هذا إذا كان الإمام يذبح في المصلى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العيد في صحراء قريبة من البلد ولا يصليها في المسجد النبوي، بل يصليها في صحراء؛ وكذلك صلاة الاستسقاء، ثم بعد ذلك يذبح في المصلى، ولهذا قال: إذا كان يذبح في المصلى فيكون الذبح بعد ذبح الإمام، أما إذا كان لا يذبح في المصلى فيكون بعد صلاة العيد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [لما جاء في صحيح مسلم: (وألا تذبحوا حتى يذبح الإمام)].
لم يقع لي في مسلم هذا اللفظ وهو (ولا تنحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم)، وإذا كان الإمام ينحر في المصلى فلا بأس، وقوله: (وأن لا تذبحوا حتى يذبح الإمام)، هذا اللفظ أثبت.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو حنيفة: أما أهل السواد من القرى ونحوهم فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر إذ لا صلاة عيد تشرع عنده لهم، وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام.
والله أعلم].
أي: أن صلاة العيد لا تشرع لأهل القرى ولا تشرع إلا لأهل الأمصار الساكنين في البلد، والظاهر أنه قول ضعيف: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله أنهم يذبحون بعد صلاة الفجر، والصواب: أنه لا يجوز الذبح مطلقاً لا لأهل الأمصار ولا لأهل البوادي إلا بعد ارتفاع الشمس، لكن لأهل القرى يكون بعد الصلاة والخطبتين، وأما أهل البوادي إذا لم يكن عندهم صلاة فبمقدار ارتفاع الشمس وبمقدار مضي صلاة العيد.(110/7)
الأيام التي يجزئ فيها الذبح
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم قيل: لا يشرع الذبح إلا يوم النحر وحده، وقيل يوم النحر لأهل الأمصار لتيسر الأضاحي عندهم، وأما أهل القرى فيوم النحر وأيام التشريق بعده، وبه قال سعيد بن جبير.
وقيل: يوم النحر ويوم بعده للجميع، وقيل: ويومان بعده وبه قال الإمام أحمد، وقيل: يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده وبه قال الشافعي لحديث جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيام التشريق كلها ذبح)، رواه أحمد وابن حبان.
وقيل: إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة وبه قال إبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهو قول غريب].
وهذا ضعيف بل لا وجه له، وهو قول غريب.
وعند الحنابلة في المذهب: يوم التشريق ويومان بعده، أي: ثلاثة أيام، والصواب: أن أيام الذبح أربعة أيام، يوم العيد وثلاثة أيام بعده، وهي يوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر للحديث: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل)، وأيام التشريق الثلاثة هي: الأيام المعدودات، وكلها أيام أكل وشرب، ويحرم صومها، وهذه الأيام الأربعة هي أيام الرمي في الحج، وكلها أيام ذبح، وكلها يحرم الصوم فيها، فالحكم واحد في الذبح في الأيام الأربعة في الأضاحي والهدايا، وهي أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل، فهي أربعة أيام على الصحيح.(110/8)
سبب تشريع الأضحية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36] يقول تعالى من أجل هذا {سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36]، أي: ذللناها لكم، جعلناها منقادة لكم خاضعة إن شئتم ركبتم، وإن شئتم حلبتم، وإن شئتم ذبحتم، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] إلى قوله: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:35]، وقال في هذه الآية الكريمة: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36].(110/9)
الأسئلة(110/10)
وجوب حضور الولي والزوج عقد النكاح
السؤال
هل ينعقد النكاح بالكتاب إذا كان الرجل -أي: الزوج- في مكان والولي في مكان آخر؟
الجواب
لا ينعقد، والزواج لا بد فيه من أربعة: الولي، والزوج، والشاهدان، إذا كان الزوج بعيداً يوكل من يعقد له الزواج، وإذا كان الولي بعيداً يوكل ولياً آخر يعقد عنه، فللأب أن يوكل أحد أبنائه يزوج بدله.(110/11)
خصوصية الأمة المحمدية بالغرة والتحجيل وعموم الوضوء لها ولغيرها
السؤال
هل الوضوء خاص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، أم عام لجميع الأمم، وهل التحجيل خاص بأمته صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
ظاهره أن الوضوء ليس عاماً، وقد جاء في قصة إبراهيم أنه توضأ وصلى لما مر بملك مصر الكافر، وأخذ زوجته سارة منه فليس خاصاً، لكن الغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة، ولهذا قال النبي: (أعرفهم غراً محجلين).(110/12)
معنى الصفاح
السؤال
يقول: في حديث أنس رضي الله عنه الذي في الصحيحين (ووضع رجله صلى الله عليه وسلم على صفاحهما)، ما المقصود بالصفاح؟
الجواب
صفحة العنق؛ لأنه وضع رجله اليسرى على صفحة الشاة، أي: جعلها على جنبها الأيسر ووضع رجله على صفحة العنق وذبحها بيده اليمنى.(110/13)
حكم الأضحية عن الولد المتزوج
السؤال
إذا كنت في بيت مستقل عن والدي وأنا متزوج هل أضحي أم تكفي الأضحية التي ضحى بها والدي عن أهل بيته؟
الجواب
كل أهل البيت عليهم ضحية، إذا كنت في بيت مستقل تضحي، وإذا كنت مع والدك فيكفي أضحية واحدة في البيت، وكل أهل بيت عليهم ضحية.(110/14)
حكم شراء اللحم بنية الأضحية
السؤال
هل يجوز شراء اللحم بالكيلو بنية الأضحية؟
الجواب
لا، فالأضحية لا بد أن تشتري كبشاً له ستة أشهر فأكثر، أو من المعز ما له سنة، أو يشتركوا سبعة في بقرة لها سنتان، أو بعير من الإبل له خمس سنين، هذه الأضحية، أما أن يشتري لحماً فليست هذه أضحية.
والعقيقة كذلك لا بد أن تشترى وتذبح كاملة، وليس فيها شرك.(110/15)
حكم دفع قيمة الهدي للبنك المعتبر عند الحكومة
السؤال
شخص ذهب في هذا العام إلى الحج وكان في حملة، ولم يتمكن من أن يسوق الهدي في اليوم الأول، ولا طواف الإفاضة، فذهب في اليوم الثاني، وعند دخوله الحرم وجد مكتباً من المكاتب داخل الحرم، فذهب إلى رجل وقال له: إنه لم يسق الهدي، فطلب منه هذا الأخ أن يعطيه مبلغاً وقدره خمسمائة ريال فيأخذها بالهدي، والباقي يتصدق به، فهل عمله هذا صحيح؟
الجواب
سوق الهدي معناه: أنه يسوقه من خارج مكة، أما الإنسان المتمتع أو القارن عليه أن يشتري الهدي، وليس عليه أن يسوق الهدي، وسوق الهدي أن يسوقه من بلده، كما ساق النبي صلى الله عليه وسلم هديه من المدينة، أو يسوقه من خارج مكة فيذبحه، أما الذي عليه هدي فعليه أن يشتري هدياً ويذبحه، وهذا الأخ الذي دفع إلى رجل خمسمائة ريال ينظر: إن كان دفع إلى البنك المعروف المعتبر عند الحكومة فلا بأس، أما إذا كان دفع إلى غيرهم فلا، والحجاج الآن يدفعون إلى البنك فيشترون الهدي ويذبح عنهم، ويقوم جماعة من أهل العلم على الذبائح في مكة، وهناك بنك التنمية الذي اعتبرته الحكومة فلا بأس أن يدفع له، فيدفع ثلاثمائة أو ثلاثمائة وخمسين على حسب القيمة.
أما إذا دفع إلى غيرهم فلا، وهذا الشخص يحتاج إلى أن يسأل شخصياً بنفسه.
والبيع والشراء لا يصلح داخل المسجد الحرام، بل يكون خارجه.(110/16)
حكم إتمام الوضوء بالماء المتساقط من غسل الأعضاء الأولى
السؤال
أنا أتوضأ من الحنفية ويسقط بعض الماء في إناء: فهل يجوز لي أن أكمل به غسل الرجلين؟
الجواب
نعم، لا بأس.(110/17)
إسماع الملقي رد السلام
السؤال
هل يجزئ رد السلام بصوت خافت، وهل أكون آثماً على ذلك إن لم يسمع الملقي رد السلام؟
الجواب
ينبغي أن تسمعه رد السلام حتى لا يكون في نفسه شيء.(110/18)
حكم التمييز في القراءة بين القرآن وكتب العلم
السؤال
هل يجوز قراءة كتب أهل العلم كما يقرأ القرآن؟
الجواب
لا، عليه أن يميز بينهما، ولا مانع أن يقرأ قراءة حسنة الصوت، لكن لا يجعلها كقراءة القرآن.(110/19)
حكم الكفارة في الحلف على شيءٍ ماض
السؤال
متى يكون الحلف باليمين ليس عليه كفارة؟
الجواب
لا يوجد يمين ليس عليها كفارة، فإذا حلف باليمين لا بد من كفارة إلا إذا كانت على شيء ماضٍ يحلف على شيء مضى يظنه أنه حصل، ثم تبين له عدم حصوله فهذا ليس فيه كفارة؛ لأن الكفارة تكون في الشيء المستقبل.
فلو حلف أنه ما أعطى فلان الشيء الفلاني، ثم تبين أنه أعطاه فيما مضى فليس عليه شيء، وليس عليه كفارة.(110/20)
أسباب السعادة
السؤال
أين توجد السعادة وانشراح الصدر في الدنيا، وما أسباب إجابة الدعاء؟
الجواب
في طاعة الله عز وجل، وفي توحيد الله وإخلاص الدين له، وأداء ما أوجب الله والانتهاء عما حرم الله والإحسان إلى الناس وبذل المعروف، وكف الأذى، فكل هذا من أسباب السعادة وانشراح الصدر، وكذلك الإكثار من ذكر الله عز وجل، وتلاوة القرآن، وحضور مجالس الذكر.(110/21)
أسباب إجابة الدعاء
السؤال
يقول هل من كتب لأهل العلم في بيان أسباب السعادة وأسباب إجابة الدعاء؟ الشيخ: من أسباب إجابة الدعاء: حضور القلب، وطيب المطعم، قال النبي لـ سعد: (أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)، هذا موجود في النصوص، وإذا تأمل الإنسان الآيات من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجد هذا، ولا أعلم كتاباً خاصاً في هذا.(110/22)
وجوب محاسبة الإنسان نفسه
السؤال
ما حكم هذه الورقة التي وضع فيها شبه جدول في طرفها أسئلة هل صليت الفجر اليوم مع الجماعة؟ هل سألت الله الشهادة؟ هل قمت ببر والديك؟ ووضع إشارات كمتابعة له في يومه وليلته لمجموعة من الأعمال الصالحة ولمدة شهر؟
الجواب
لا أعلم لهذا أصلاً، لكن الإنسان يحاسب نفسه في كل وقت، وخاصة عند النوم على تقصيره في الواجبات، واستباحة المحرمات ويتوب إلى الله عز وجل، أما هذه الورقة ما لها أصل، وفق الله الجميع، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح.(110/23)
تفسير سورة الحج الآية [37]
الله تعالى لا تضره معصية عاص ولا تنفعه طاعة طائع، فهو سبحانه غني عن عباده فلا يناله من طاعتهم شيء.
ومن ذلك أن الأضحية والهدي شرعها الله على العباد تعبداً وتوسعة على العيال ورحمة بالفقراء، ولا يناله سبحانه منها شيء، وقد بينت لنا السنة متى تكون الأضحية ومن أي نوع من أنواع الحيوانات وسن كل نوع من هذه الأنواع.(111/1)
تفسير قوله تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها)
وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: إنما شرع لكم هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عند ذبحها فإنه الخالق الرزاق لا يناله شيء من لحومها ولا دماؤها، فإنه تعالى هو الغني عما سواه، وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم ونضحوا عليها من دمائها، فقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37]، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن أبي حماد حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جريج قال: كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق أن ننضح فأنزل الله {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، أي: يتقبل ذلك ويجزي عليه، كما جاء في الصحيح: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
وجاء في الحديث: (إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض)].
وسبق أنه فيه ضعف، والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى إنما شرع ذبح الهدايا والأضاحي لإقامة ذكر الله عز وجل، ليذكر اسم الله، وليتعبد المسلم ويتقرب إلى الله عز وجل في إراقة الدم، والتصدق على الفقراء.
والله تعالى لا ينتفع بطاعة أحد، كما أنه لا يتضرر بمعصية أحد، فهو سبحانه وتعالى لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة المطيعين بل هو النافع الضار سبحانه وتعالى، ولا يناله شيء من الدماء، ولا اللحوم وإنما يناله التقوى، والتقوى هو: التوحيد، والتقرب إلى الله عز وجل، وإخلاص العبادة لله عز وجل، هذا هو الذي يناله سبحانه وتعالى، فإذا تعبد المسلم واتقى الله عز وجل، وتقرب إلى الله بالهدايا والأضاحي وتصدق بلحومها على الفقراء والمساكين فإن الله سبحانه وتعالى يجازيه ويربح مع الله أعظم الربح وهو سبحانه لا ينتفع بشيء ولا يتضرر بشيء، بل هو النافع الضار سبحانه وتعالى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كما تقدم في الحديث رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه عن عائشة مرفوعاً، فمعناه: أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله، وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا، والله أعلم، وقال وكيع عن يحيى بن مسلم بن الضحاك: سألت عامراً الشعبي عن جلود الأضاحي فقال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37]، إن شئت فبع، وإن شئت فأمسك، وإن شئت فتصدق].
سبق أن الصواب: أنه لا يبيع، وإنما يتصدق، أو ينتفع بها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج:37]، أي: من أجل ذلك سخر لكم البدن {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:37] أي: لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه ويرضاه، ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه.
وقوله سبحانه: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37]، أي: وبشر يا محمد المحسنين، أي: في عملهم القائمين بحدود الله المتبعين ما شرع لهم المصدقين الرسول فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه عز وجل].
المحسنين هم الذين أحسنوا في عبادة الله عز وجل، وأحسنوا إلى الخلق، وتصدقوا على الفقراء، واتجهت إلى الله عز وجل، وآمنوا بالله ورسوله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [مسألة.
وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصاباً، وزاد أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضاً، واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجة بإسناد رجاله كلهم ثقات].
يقولون: إن من ملك نصاباً بحيث يجب عليه أن يخرج منه الزكاة كنصاب الفضة والذهب مثلاً، الذي هو: عشرون مثقالاً، أو مائتا درهم، ونصاب الذهب يقوم الآن: إحدى عشر جنيه وربع، ونصاب الفضة يقوم ستة وخمسين ريالاً عربياً سعودياً، فإذا ملك ست وخمسين ريالاً فهذا نصاب، وإذا ملك من الجنيهات إحدى عشر جنيه وثلاثة أسباع الجنيه فيجب عليه أن يضحي عند الإمام مالك وعند الإمام أبي حنيفة.
وزاد أبو حنيفة لا بد أن يكون مقيماً فالمسافر ليس عليه أضحية، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إلى وجوب الأضحية على الموسر، أي: القادر يجب عليه أن يضحي، وأما غير القادر فلا، والمشهور عن جمهور العلماء أنها ليست واجبة، بل سنة مستحبة مؤكدة، وقال شيخ الإسلام: إنها واجبة على القادر، فإذا كان قادراً تجب عليه، وإذا كان فقيراً سقطت عنه.
ويقول الإمام مالك وأبو حنيفة: إذا ملك نصاباً وجب عليه، واشترط الإمام أبو حنيفة أن يكون مقيماً فإن كان مسافراً فليس عليه أضحية، وهي سنة مؤكدة، وفيها شكر لله عز وجل وإظهار لهذه السنة، وهي سنة الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
فينبغي للمسلم أن يعتني بالأضحية وأن يظهرها، فهي شعيرة عظيمة، وينبغي أن تذبح في كل البيوت حتى تظهر هذه الشعيرة ويعلم بذلك أهل البيت والأولاد والجيران.
ويأكل ويهدي ويتصدق، أما ما يفعله بعض الناس من كونه يعطي دراهم لبعض المؤسسات ويذبحونها خارج البلد فهذا ليس فيه إظهار للسنة، وهذا لا ينبغي، وإنما ينبغي للإنسان أن يذبح الأضحية في بيته؛ إظهاراً لهذه السنة، ويتولاها بنفسه ويذبحها بنفسه إن أمكن، ويأكل منها ويهدي ويتصدق، ويعلم الأولاد الذكور والإناث هذه السنة، أما إذا أعطى دراهم وذبحت في مكان بعيد لم يعرف الأولاد ولا الزوجة السنة، لكن اذبح الأضحية في بيتك وأعط المؤسسات شيئاً آخر، لكن الأضحية تكون في السنة مرة، فأظهر هذه السنة واذبحها في بيتك وتصدق وكل وأطعم، أما ما هو حاصل في الآونة الأخيرة من بعض المؤسسات التي تجمع من الناس دراهم قيمة الأضاحي ويقولون: الناس ليسوا محتاجين، ونذبحها في أماكن بعيدة في البوسنة أو في مكان آخر أو في غيرها، فهذا خلاف السنة، ولكن الإنسان إذا أراد أن يعطيهم تبرعات يضحون هناك للفقراء لا بأس، يتبرع بدراهم ويتصدق بها على الفقراء هناك يذبحون، أما أنت أضحيتك لابد أن تذبحها في بيتك، وأظهر هذه السنة وهذه الشعيرة العظيمة السنوية، والمؤسسات تعطيهم من التبرعات الأخرى يضحون عن أولئك الفقراء في بلادهم، أو تشتري لهم أضاحي تذبحها لهم في بلادهم، أما أنت فأضحيتك اذبحها في بيتك، هذا هو السنة.
والهدي كذلك، الهدي يذبح في مكة، وما زاد من اللحم فإنه ينقل ولا بأس بذلك، لكن ينبغي أن يذبح في مكة لا يذبح خارج مكة، بل حتى لو ذبح الهدي في عرفة ما أجزأ، لا بد يكون داخل الحرم في منى أو مزدلفة أو مكة، داخل حدود الحرم، ثم بعد ذلك إذا شئت فكل منها، وإن شئت فانقلها، حتى إذا ذبحت فدية فيجوز أن تنقلها وتأتي بها إلى الرياض ليس هناك مانع، إذا لم يكن لها حاجة تنقل هناك، والآن الحكومة ترتب نقل الزيادة من اللحوم التي ليس هناك حاجة لها، تنقلها إلى الفقراء في أماكن بعيدة، وهذا لا بأس به.
فإن قيل: هل يلزم الحاج أن يضحي وهو في الحج؟ أقول: هناك خلاف في هذه المسألة فـ أبو حنيفة يرى أن الحاج مسافر وليس عليه أضحية، وبعض العلماء يرى أنه لا بأس أن يضحي، لكن يوصي أهله وولده بأن يذبحوا في بلدهم وهو يفدي، أما إذا كان في مكة أو كلهم في مكة ثم أهدوا قد يقال: إنه إذا كانوا حجاجاً يكفيهم، ويرى بعض أهل العلم أنه لا بأس أن يضحوا ويهدوا.(111/2)
الفرع والعتيرة وحكمهما
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي عن محنف بن سليم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعرفات: (على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تدعونها الرجيبة) وقد تكلم في إسناده].
يعني: كان في الجاهلية يذبحون ذبيحة في شهر رجب.
هذا الحديث إسناده ضعيف؛ لأن مداره على أبي رملة وهو متروك.
وذبيحة رجب هذه كانت في الجاهلية تسمى العتيرة وأبطلها الإسلام؛ وإن كان قال بعضهم باستحبابها، لكن الصواب أن ذبيحة رجب هذه من عادة أهل الجاهلية فأبطلها الإسلام، فلا يشرع الذبيحة في رجب، وهذا الحديث ضعيف؛ لأن مداره على أبي رملة وليس بحجة.
أما الفرع فهذه ذبيحة أول الناقة، كما في حديث: (لكن لا فرع ولا عتيرة) يعني: أول ولد الناقة يذبحونه في الجاهلية، والعتيرة ذبيحة رجب، وجاء في الحديث: (لا فرع ولا عتيرة في الإسلام).(111/3)
ضرورة الاقتصاد في الأضحية وعدم التباهي فيها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو أيوب: (كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، حتى تباهى الناس فصار كما ترى).
رواه الترمذي وصححه وابن ماجة].
المشروع عدم التباهي في الأضحية؛ لأن أضحية واحدة تكفي عن البيت ولو كانوا مائة، وإن تعددت البيوت فكل أهل بيت يضحون، لكن كثير من الناس يتباهون فقد يذبح في البيت الواحد أربع ضحايا أو خمس، بعض الناس يقول: هذا أضحية عني، وهذا يذبح عن الأموات، هذه عن أبي وهذه عن أمي، وهذه عن أخي، وهذه عن زوجتي المتوفاة وهكذا، والسنة أضحية واحدة تكفي، يدخل فيها الأحياء والأموات، وفضل الله واسع ولو كانوا مائة، هذا هو السنة، إلا إذا كانت وصية فإن الوصايا تنفذ.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله رواه البخاري].
هذا هو السنة كما قال أبو أيوب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما مقدار سن الأضحية فقد روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)].
يعني لابد أن تكون الأضحية مسنة: إلا أن تعسر عليكم فلكم أن تذبحوا جذعة من الضأن، هذا الحديث قيده بالعسر، وجاء في الأحاديث الأخرى جواز ذبح الجذعة من الضأن ولو لم تعسر الأضحية، والمسنة من الإبل ما تم له خمس سنين، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن المعز ما تم له سنة، هذا المسن، والإبل ما له خمس سنين يكون عن سبعة، والبقر ما تم له سنتان عن سبعة أيضاً، والمعز ما تم له سنة عن الواحد، وأما الضأن فيكفي الجذع، وهو ما له ستة أشهر، وأما قوله: (إلا أن تعسر) فقد جاء في أحاديث أخرى أنه يجوز الأضحية بالجذع من الضأن ولو لم تعسر المسن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن هاهنا ذهب الزهري إلى أن الجذع لا يجزئ، وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجذع يجزئ من كل جنس وهما غريبان].
يعني: كون الجذع لا يجزئ من الضأن هذا غريب؛ لأن الأحاديث دلت على هذا، وكذلك كون الجذع يجزئ من كل صنف من الإبل ومن البقر ومن الغنم هذا ليس بصحيح.
والصواب الذي دلت عليه الأحاديث أنه يجزئ الجذع من الضأن، وأما غير الضأن فلا يجزئ إلا مسن، والمسن من البقر ماله سنتان، ومن المعز ما له سنة، ومن الإبل ما له خمس سنين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والذي عليه الجمهور إنما يجزئ الثني من الإبل والبقر والمعز أو الجذع من الضأن].
الثني هو المسن، والثني ما كان له سنة من المعز، ومن الإبل ما تم له خمس سنين، ومن البقر ما تم له سنتان، هذا الذي عليه جمهور العلماء وهو الذي دلت عليه الأحاديث، وهو الصواب.
وأما مذهب الأوزاعي ومذهب الزهري فهما غريبان، كما قال المؤلف رحمه الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما الثني من الإبل فهو الذي له خمس سنين ودخل في السادسة، ومن البقر ما له سنتان ودخل في الثالثة، وقيل: ما له ثلاث ودخل في الرابعة، ومن المعز ما له سنتان].
الصواب أنه من البقر ما تم له سنتان ودخل في الثالثة، ومن المعز ما له سنة ودخل في الثانية هذا هو الصواب؛ لأن المعروف في الأحاديث ما تم له سنة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الجذع من الضأن فقيل: ما له سنة، وقيل: عشرة أشهر، وقيل: ثمانية، وقيل: ستة أشهر وهو أقل ما قيل في سنه].
الصواب ما له ستة أشهر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما دونه فهو حمل].
يعني: ما دون ستة أشهر يسمى حملاً، ولا يجزئ من الضأن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والفرق بينهما أن الحمل شعر ظهره قائم، والجذع شعر ظهره نائم، قد انفرق صدغين، والله أعلم].
يعني: هذا الفرق الذي يعرف به الإنسان الجذع من الضأن، إن كان شعره قائماً، فهذا دليل على أنه حمل، وإن كان شعره نائماً، فهذا دليل على أنه تم له ستة أشهر.(111/4)
تفسير سورة الحج [38 - 40]
من حكمة الله سبحانه أنه لم يشرع الجهاد دفعة واحدة، ولكن على مراحل وأطوار بحسب حال المسلمين، فكلما صار للمسلمين قوة وشوكة كان القدر الذي أمروا به من الجهاد أكبر وهكذا.(112/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36].
وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3].
وقوله: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)) أي: لا يحب من عباده من اتصف بهذا وهو الخيانة في العهود والمواثيق لا يفي بما قال، والكفر: الجحد للنعم فلا يعترف بها].
في هذا بيان فضل المؤمنين، وأنهم متوكلون على الله، فالله تعالى يدفع عنهم الشرور، ومن دفع الله عنه الشرور فهو السالم الموفق.
وفيه إثبات المحبة لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته في هذه الآية الكريمة، وأن الله لا يحب الخائنين الذين يخونون في العهود والمواثيق، ولا يحب الكفار الذين ينكرون نعم الله ولا ينسبونها إليه، فدل هذا على أنه سبحانه وتعالى يحب الموفين بالعهود والمواثيق، ويحب المؤمنين الذين يعترفون بنعمه وينسبونها إليه، ويعظمون الله بقلوبهم، ويستعملون نعمه بجوارحهم.
قوله: (كفور) هذا عام، فمن جحد نعم الله فالله يبغضه ولا يحبه، وأعظم الجحود جحود نعمة الإسلام؛ لأن من جحد نعمة الإسلام ولم يقبل شرع الله ودينه ولم يوحد الله فهذا أعظم الكفر وأعظم الجحود.(112/2)
تفسير قوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا إن الله لقوي عزيز)
قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:39 - 40].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال العوفي: عن ابن عباس نزلت في محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم حين أخرجوا من مكة.
وقال مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف كـ ابن عباس وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم: هذه أول آية نزلت في الجهاد، واستدل بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنية.
وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن داود الواسطي حدثنا إسحاق بن يوسف عن سفيان عن الأعمش عن مسلم هو البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر رضي الله عنه: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكُن قال ابن عباس رضي الله عنهما: فأنزل الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39].
قال أبو بكر رضي الله عنه: فعرفت أنه سيكون قتال).
ورواه الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف الأزرق به.
وزاد: قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وهي أول آية نزلت في القتال).
ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما، وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف، زاد الترمذي: ووكيع كلاهما عن سفيان الثوري به، وقال الترمذي: حديث حسن، وقد رواه غير واحد عن الثوري، وليس فيه ابن عباس.
وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] أي: هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكن هو يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته، كما قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6].
وقال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:14 - 15].
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة:16].
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142].
وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31].
والآيات في هذا كثيرة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]: وقد فعل.
وإنما شرع تعالى الجهاد في الوقت الأليق به؛ لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عدداً، فلو أمر المسلمون وهم أقل من العشر بقتال الباقين لشق عليهم، ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نيفاً وثمانين قالوا: (يا رسول الله! ألا نميل على أهل الوادي -يعنون أهل منى ليالي منى- فنقتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر بهذا) فلما بغى المشركون وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم وهموا بقتله وشردوا أصحابه شذر مذر، فذهب منهم طائفة إلى الحبشة وآخرون إلى المدينة، فلما استقروا بالمدينة وافاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا عليه وقاموا بنصره، وصارت لهم دار إسلام ومعقل يلجئون إليه؛ شرع الله جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} [الحج:39 - 40] قال العوفي: عن ابن عباس: أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40] أي: ما كان لهم إلى قومهم إساءة ولا كان لهم ذنب إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له، وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، وأما عند المشركين فإنه أكبر الذنوب، كما قال تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة:1].
وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ويقولون: لاهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوم معهم آخر كل قافية، فإذا قالوا: إذا أرادوا فتنة أبينا يقول: أبينا يمد بها صوته.
ثم قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الحج:40] أي: لولا أنه يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض، ولأهلك القوي الضعيف، {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} [الحج:40] وهي المعابد الصغار للرهبان، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والضحاك وغيرهم.
وقال قتادة: هي معابد الصابئين، وفي رواية عنه: صوامع المجوس، وقال مقاتل بن حيان: هي البيوت التي على الطرق، {وَبِيَعٌ} [الحج:40] وهي أوسع منها وأكثر عابدين فيها وهي للنصارى أيضاً، قاله أبو العالية وقتادة والضحاك وابن صخر ومقاتل بن حيان وخصيف وغيرهم، وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره: أنها كنائس اليهود.
وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس: أنها كنائس اليهود، ومجاهد إنما قال: هي الكنائس، والله أعلم.
وقوله: {وَصَلَوَاتٌ} [الحج:40] قال العوفي: عن ابن عباس: الصلوات الكنائس، وكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة: إنها كنائس اليهود وهم يسمونها صلوات.
وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس: أنها كنائس النصارى، وقال أبو العالية وغيره: الصلوات معابد الصابئين، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: الصلوات مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق، وأما المساجد فهي للمسلمين.
وقوله: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40] فقد قيل: الضمير في قوله: ((يُذْكَرُ فِيهَا)) عائد إلى المساجد؛ لأنها أقرب المذكورات، وقال الضحاك: الجميع يذكر فيها اسم الله كثيراً، وقال ابن جرير: الصواب لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود وهي كنائسهم، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيراً؛ لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب.
وقال بعض العلماء: هذا ترق من الأقل إلى الأكثر، إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر عماراً وأكثر عباداً، وهم ذوو القصد الصحيح.
وقوله: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40] كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:7 - 8].
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] وصف نفسه بالقوة والعزة، فبقوته خلق ك(112/3)
أطوار الإذن بالجهاد وأسبابه
قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] هذه أول الآيات التي نزلت في الجهاد، وذلك أن الجهاد له أطوار وأحوال، والمسلمون لهم أحوال، فلما كان المسلمون في مكة كانوا قلة، والنبي صلى الله عليه وسلم معه العدد القليل، وكان الكفرة هم الذين لهم الغلبة وهم الأقوياء، والمسلمون كانوا مستضعفون ويؤذون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم منهياً عن القتال وعن الجهاد ولم يؤمر بالجهاد، بل كان مأموراً بالصفح عنهم والعفو عنهم، فقال له تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف:89] وقال: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} [آل عمران:159] وقال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106] فأمر عليه الصلاة والسلام بالإعراض والصفح عن المشركين، لأن المسلمين كانوا قلة ولا يستطيعون مقابلة الكفرة؛ ولأنهم مستضعفون، والمسلمون كيف يقابلون المشركين وليس معهم عدد ولا عدة، فلو أمروا بالقتال لقضى عليهم المشركون ففي مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصفح عنهم والعفو والإعراض، فلما اشتد أذى قريش للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذن الله له بالهجرة إلى المدينة، وأصحابه شردوا وأوذوا فمنهم من هاجر إلى الحبشة، ومنهم من هاجر إلى المدينة، فحين اشتد أذى قريش وتآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله وأذن له بالهجرة، وأخرجه من بين أظهرهم، حتى إنهم أعدوا شباباً أمام بيته ينتظرون خروجه لقتله، فالله تعالى ألقى عليهم النوم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، وذر على رءوسهم التراب، وخرج إلى الغار وجلس فيه ثلاثة أيام هو وصاحبه أبو بكر، وجاء الطلب، وجعلوا مائة ناقة لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً، وجاء الطلب حتى جاءوا إلى الغار ونظروا فوق الغار وعن اليمين وعن الشمال، ولكن الله أعماهم فلم يروه، فالله تعالى على كل شيء قدير، كما أن الجن يروننا ولا نراهم، فكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه يريان المشركين وهم لا يرونهما، أعماهم الله، ولما قال أبو بكر رضي الله عنه: (يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
فلما هاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام وتقوى، وكانت المدينة هي معقل الإسلام ومقراً للمسلمين، وتقوى المسلمون وكان لهم أتباع وأنصار، وأسلم كثير من الأنصار في الموسم بعد بيعة النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، وأذن الله تعالى لهم بالجهاد؛ لأنهم مظلومون، فالله تعالى أنزل هذه الآية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] يعني: لما ظلمت قريش المسلمين، وأخرجوهم من ديارهم من مكة، وأخذوا أموالهم وآذوهم وشردوهم، أذن الله لهم بالجهاد، قال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] فهذه أول آية نزلت في الجهاد، ثم بعد ذلك نزلت الآية الأخرى وأذن الله لهم بالقتال لكن قتال الدفع، يقاتل من قاتله ولا يبدؤهم بقتال، ولا يهجم عليهم بالقتال، فأنزل الله قوله عز وجل: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191] يعني: قتال مدافعة.
{كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة:191] هذا الطور الثاني.
الطور الأول: أنهم منهيون عن الجهاد في مكة، والطور الثاني بعد الهجرة أذن ورخص في جهاد الدفع.
أما الطور الثالث: فقد أذن الله بقتال من قاتل والكف عمن لم يقاتل.
ثم جاء الطور الرابع في الجهاد: وهو أن الله أمر بالقتال هجوماً ودفاعاً، فأنزل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36].
وأنزل سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5] فهذه أطوار وأحوال الجهاد.
في هذه الآية يقول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] فهو قادر سبحانه وتعالى، ولكنه شرع الجهاد ليبذل المسلمون جهدهم وقوتهم، وليظهر نصرهم لدين الله، ابتلاء وامتحاناً واختباراً، ليتبين الصادق من الكاذب، وليظهر ظهور عيان من يحب الله ورسوله بأن يبذل نفسه وماله في الجهاد في سبيل الله، كما بين الله في هذه الآيات التي سمعنا، قال سبحانه: {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4].
وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31].
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142].
ففيها ابتلاء وامتحان واختبار من الله عز وجل؛ ليتبين الصادق من الكاذب، وليتخذ الله شهداء من المؤمنين، وليعظم الله لهم الأجور، ولهذا قال سبحانه: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] أي: قادر سبحانه وتعالى أن ينصرهم في لحظة واحدة بكلمة كن، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] لكنه سبحانه وتعالى شرع الجهاد لحكم وأسرار، كما بين الله سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104].
وبين في آية أخرى شيئاً من الحكم فقال: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141] تمحيص للمؤمنين ومحق للكافرين، واتخاذ الشهداء من المؤمنين، وغير ذلك من الحكم التي ذكرها سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141] كل هذه من الحكم والأسرار، وإلا فالله قادر على نصرهم، ولهذا قال: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] وبين سبحانه وتعالى المسوغ للجهاد، قال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40] أي: ليس لهم ذنب إلا أنهم وحدوا الله وأفردوه بالعبادة، هذا ليس بذنب وإن كان عند المشركين أكبر ذنب، كما قال سبحانه في أصحاب الأخدود: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البروج:8 - 9].
ثم بين سبحانه أنه لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض يدفع هؤلاء بهؤلاء، وينصر عباده بما يخلق من الأسباب؛ لهدمت هذه المعابد المتعبدة والصوامع وهي مكان العبادة للرهبان، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين، قال تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
وسيأتي في الآيات التي بعدها بيان أسباب النصر.(112/4)
الأسئلة(112/5)
حقيقة حزب الله
السؤال
يقول بعض الناس: إن الذي سيحرر فلسطين هم حزب الله، كيف نرد عليهم؛ حتى لا يعجبون بهم ويوالونهم، مع إيضاح التعامل مع هذا الحزب الرافضي؟
الجواب
لا شك أن حزب الله هم المفلحون وهم المجاهدون، أما من تسمى بأنه حزب الله وهم من الكفرة فليسوا حزباً لله فهو حزب الشيطان، إذا كان من الكفرة ومن الذين عندهم نفاق وزندقة وتكفير للصحابة وبغضاً لهم فهؤلاء وإن سموا أنفسهم حزب الله فهم حزب الشيطان، ليست العبرة بالأسماء العبرة بالحقائق، لكن حزب الله هم المؤمنون المتقون، كما بين سبحانه في سورة المجادلة: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].
إذاً: فالعبرة بالحقائق، فمن سمى نفسه حزب الله وهو من أنصار الشيطان فهو من حزب الشيطان، وحزب الله هم المؤمنون الموحدون الذين وحدوا الله، وأخلصوا له العبادة، ونصروا الله وجاهدوا في سبيله.(112/6)
حكم إثبات صفة الملك لله سبحانه وتعالى
السؤال
ذكرتم حفظكم الله في درس سابق أن أهل السنة يثبتون صفة الملل لله سبحانه على ما يليق بجلاله، ولكن عند النظر إلى هذه الصفة نجد أنها صفة نقص ولا تأتي صفة كمال على أي وجه؛ فكيف يمكن إثباتها لله سبحانه؟ وهل من أئمة السلف من أول هذه الصفة؟
الجواب
هذا لأنك لم تفهم منها إلا ما فهمت من المخلوق، الملل عند المخلوق نقص، ولكن بالنسبة للخالق صفة كمال، كما يليق بجلاله لا يكيف، وما ذكرته من التكييف؛ لأنه وقع في نفسك التكييف فظننت أن الملل للخالق مثل الملل للمخلوق، ثم إن هذه من باب المقابلة، كما قال الحافظ ابن كثير وغيره، مثل قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] الله تعالى قابل بذلك.
ومن أثر هذه الصفة أن الله لا يمل، يعني: أن الله لا يقطع الثواب عن العبد حتى يقطع العبد العمل، فالمقصود أن قول السائل على أي وجه أنها صفة نقص؛ لأنه فهم منها ما يفهمه من المخلوق، فوقع في نفسه التشبيه، فلما وقع في نفسه التشبيه استشكل ذلك، لكن لو نفى هذا من نفسه لعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يماثل المخلوقين في شيء من صفاته، فهذه صفة الحياة اتصف بها الخالق واتصف بها المخلوق، فحياة الخالق سابقة لا يسبقها عدم ولا يعتريها نوم ولا ضعف ولا فساد، والمخلوق يوصف بالحياة وهي حياة ناقصة يسبقها العدم ويعتريها الضعف والموت والنسيان، وكذلك الملل: ملل المخلوق ناقص وضعيف، وملل الخالق كمال ليس فيه نقص ولا ضعف.(112/7)
حكم الاستمناء باليد لغرض التحليل الطبي
السؤال
هل يجوز للرجل المتزوج الاستمناء باليد من أجل التحليل في المختبر، مع العلم أني كاره لذلك؟
الجواب
ليس هذا للإنسان، هذا منهي عنه، إذا كان مضطراً فهذا شيء آخر، تحتاج المسألة إلى تأمل، وعلى السائل أن يرجع إلى فتاوى اللجنة الدائمة في هذا؛ لأن المسألة مسألة عامة فلا بد أن يأخذ فيها فتوى.(112/8)
حكم استئذان الوالدين في الذهاب إلى الجهاد في هذا العصر
السؤال
هل يشترط إذن الوالدين في الذهاب إلى الجهاد في هذا الزمن؟ الجواب، نعم، لابد من إذنهما؛ لأنه ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل يستأذنه في الجهاد فقال له: أحي والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد).
وثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فبر الوالدين واجب والجهاد مستحب، إلا في حالات يكون واجباً.(112/9)
حكم دخول مكة بدون إحرام لغرض معين
السؤال
ما حكم دخول مكة بدون إحرام علماً بأن له غرضاً يسيراً في مكة؟
الجواب
هذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فبعض أهل العلم كالحنابلة وغيرهم يرون أن كل داخل إلى مكة يجب عليه أن يحرم، وقالوا: هذا من خصائص مكة.
القول الثاني: إنه لا يجب إلا على من قصد الحج والعمرة، وهذا هو الصواب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس لما وقت المواقيت: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة).
فمن أراد الحج أو العمرة فلا يجوز له أن يتجاوز الميقات إلا بإحرام، ومن دخل مكة لزيارة أو للتجارة أو لطلب العلم وهو لا يريد الحج ولا يريد العمرة جاز له الدخول بغير إحرام، هذا هو الصواب.(112/10)
درجة حديث: (أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم)
السؤال
ما معنى حديث: (أصبحوا بالصبح؛ فإنه أعظم لأجوركم)؟
الجواب
هذا حديث فيه ضعف، ولكن لو صح فهو محمول على التبين للفجر، ولا ينافي حديث التغليس، فحديث التغليس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها بغلس) أصح، وأما حديث: (أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم) ففيه ضعف، ولو صح فهو محمول على تبين الفجر، وفق الله الجميع لطاعته.(112/11)
تفسير سورة الحج [41 - 51]
وعد الله المؤمنين في الدنيا بالنصر والعزة والتمكين والغلبة والأمن إن هم عبدوه وحكموا فيهم كتابه ولم يشركوا به شيئاً.
وإذا عبد الناس غير الله وحكموا غير شريعة الله حل بهم ما حل بالأمم من قبلهم من العذاب والنكال، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فلهم عذاب مهين في نار جهنم.(113/1)
تفسير قوله تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة)
قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بن زيد عن أيوب وهشام عن محمد قال: قال عثمان بن عفان: (فينا نزلت: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] فأخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا: ربنا الله، ثم مكنا في الأرض فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر.
{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] فهي لي ولأصحابي).
وقال أبو العالية: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الصباح بن سوادة الكندي: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحج:41] الآية ثم قال: ألا إنها ليست على الوالي وحده، ولكنها على الوالي والمولى عليه، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم وبما للوالي عليكم منه؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يأخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكره بها ولا المخالف سرها علانيتها.
وقال عطية العوفي: هذه الآية كقول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55].
وقوله: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] كقوله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
وقال زيد بن أسلم: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] وعند الله ثواب ما صنعوا].
وهذه الآية فيها بيان أسباب التمكين في الأرض، وهي إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] فمن أقام الصلاة وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فإن الله يمكنه في الأرض، والمعروف هو كل ما عرف حسنه شرعاً وعقلاً، والمنكر هو كل ما أنكره الشرع والعقل.
إذاً: الذي يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويأمر بالمعروف: يأمر ببر الوالدين بصلة الأرحام بالجهاد في سبيل الله والإحسان إلى الفقراء والأيتام، والنهي عن المنكر: النهي عن الشرك، والنهي عن الاعتداء على الناس في الدماء وفي الأموال وفي الأعراض، والنهي عن عقوق الوالدين وعن قطيعة الرحم، فمن أقام الصلاة وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فإن الله يمكنه في الأرض، ولهذا قال: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].(113/2)
تفسير قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود)
قال الله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:42 - 46].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مسلياً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من خالفه من قومه: ((وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ)) إلى أن قال: {وَكُذِّبَ مُوسَى} أي: مع ما جاء به من الآيات البينات والدلائل الواضحات، ((فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ)) أي: أنظرتهم وأخرتهم، ((ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ)) أي: فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم؟! وذكر بعض السلف: أنه كان بين قول فرعون لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] وبين إهلاك الله له أربعون سنة، وفي الصحيحين عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]).
ثم قال تعالى: ((فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا)) أي: كم من قرية أهلكتها ((وَهِيَ ظَالِمَةٌ)) أي: مكذبة لرسولها، ((فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)).
قال الضحاك: سقوفها، أي: قد خربت منازلها وتعطلت حواضرها].
حواضر جمع حاضرة.
قال المؤلف رحمه الله: [((وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ)) أي: لا يستقى منها ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها والازدحام عليها، ((وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)) قال عكرمة: يعني المبيض بالجص، وروي عن علي بن أبي طالب ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبي المليح والضحاك نحو ذلك، وقال آخرون: هو المنيف المرتفع، وقال آخرون: الشديد المنيع الحصين، وكل هذه الأقوال متقاربة، ولا منافاة بينها؛ فإنه لم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله بهم، كما قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]].
هذه الآيات كما ذكر المؤلف رحمه الله فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لما كذبه قومه وآذوه، فالله تعالى يسلي نبيه ويقص عليه أخبار الأمم الماضية مع أنبيائهم وما أصابهم، يقص عليه نبأ نوح عليه الصلاة والسلام وما جرى له مع قومه، حيث صبر صبراً عظيماً، ولبث في قومه ألفاً سنة إلا خمسين عاماً وهم يؤذونه، وكذلك أيضاً صبر هود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وموسى وعيسى وغيرهم، ولهذا قال سبحانه: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ} [الحج:42 - 43].
وعاد هم قوم هود، وثمود هم قوم صالح، وفرعون كذب موسى عليه الصلاة والسلام وادعى الربوبية، فالله تعالى أمهلهم وأملى لهم ثم أخذهم، فلا يغتر الإنسان بالإملاء فقد أمهلهم سبحانه وتعالى ثم عاقبهم، ولهذا قال: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج:44] أي: فكيف كان إنكاري عليهم وعقوبتي إياهم؟! فالله تعالى يملي للظالم ولا يهمل، يملي له ثم يأخذه: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، ولهذا قال سبحانه: {وَكُذِّبَ مُوسَى} [الحج:44] مع ما جاء به من البينات العظيمة.
ثم بين سبحانه وتعالى أنه أهلك الأمم الماضية، فقال: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج:45].
فقوله: ((فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ)) يعني: كثير من القرى.
((أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ)) يعني: بسبب تكذيبها لنبيها.
يعني: أهلكهم الله سبحانه وتعالى وأزال ما هم فيه من النعيم والقصر المشيد المحكم أو المرتفع أو المطلي بالجص، فلم يغن عنهم ولم يدفع عنهم، وكذلك عطلت آبارهم بعد أن كان عليها الورد، فهذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلك أولئك فيصيبها ما أصابهم، ولهذا قال: ((فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)) أي: بعد أن كانوا أعداداً كثيرة وآبارهم لها ورد وقصورهم محكمة زالت هذه الأشياء، فصارت البئر معطلة والقصر خاوياً والبلدة خاوية على عروشها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)) أي: بأبدانهم وبفكرهم أيضاً، وذلك كاف كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب (التفكر والاعتبار): حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا مالك بن دينار قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: أن يا موسى اتخذ نعلين من حديد وعصا، ثم سح في الأرض واطلب الآثار والعبر حتى تتخرق النعلان وتكسر العصا.
وقال ابن أبي الدنيا: قال بعض الحكماء: أحيي قلبك بالمواعظ، ونوره بالفكر، وموته بالزهد، وقوه باليقين وذلله بالموت وقدره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره ما أصاب من كان قبله، وسر في ديارهم وآثارهم، وانظر ما فعلوا وأين حلوا وعم انقلبوا، أي: فانظر ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال، فتكون {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج:46] أي: فيعتبرون بها ((فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)).
أي: ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة، فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر، وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في هذا المعنى وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن حيان الأندلسي الشنتريني وقد كان وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة: يا من يصيخ إلى داعي الشقاء وقد نادى به الناعيان الشيب والكبر إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى في رأسك الواعيان السمع والبصر ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل لم يهده الهاديان العين والأثر لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الأعلى ولا النيِّران الشمس والقمر ليرحلن عن الدنيا وإن كرها فراقها الثاويان البدو والحضر].
وأبلغ من هذا قول الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34].
وقال سبحانه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:30 - 31].(113/3)
تفسير قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده)
قال الله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:47 - 48].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج:47] أي: هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم والآخر كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32].
{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16].
وقوله: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج:47] أي: الذي قد وعد من إقامة الساعة، والانتقام من أعدائه، والإكرام لأوليائه.
قال الأصمعي: كنت عند أبي عمرو بن العلاء فجاء عمرو بن عبيد فقال: يا أبا عمرو وهل يخلف الله الميعاد؟ قال: لا، فذكر آية وعيد، فقال له: أمن العجم أنت؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤماً وعن الإيعاد كرماً، أو ما سمعت قول الشاعر: لا يرهب ابن العم مني سطوتي ولا أنثني عن سطوة المتهدد فإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي].
كان عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة هو وواصل بن عطاء، فجاء إلى أبي عمرو وقال له: هل يخلف الله وعيده؟ لأن المعتزلة يعتقدون أنه يجب على الله أن ينفذ وعيده في العصاة، وألا يغفر لهم ويرحمهم، بل يخلدهم في النار، فقال عمرو بن عبيد: هل يخلف الله وعيده؟ فبين له أبو عمرو وقال: إن هناك فرقاً بين إخلاف الوعد وبين إخلاف الوعيد، فالعرب تعد إخلاف الوعد لؤماً، وإخلاف الوعيد كرماً، فإذا هددت إنساناً وتوعدته ثم أخلفت وعيدك فهذا كرم منك، أما إذا وعدت إنساناً ثم أخلفت وعدك فهذا لؤم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] أي: هو تعالى لا يعجل، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه، لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شيء، وإن أجل وأنظر وأملى، ولهذا قال بعد هذا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:48].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثني عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام).
ورواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري عن محمد بن عمرو به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد رواه ابن جرير عن أبي هريرة موقوفاً فقال: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا سعيد بن الجريري عن أبي نضرة عن سمير بن نهار قال: قال أبو هريرة: (يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم، قلت: وما مقدار نصف يوم؟ قال: أو ما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قال: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]).
وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه: حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم.
قيل لـ سعد وما نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة).
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] قال: من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض.
رواه ابن جرير عن ابن بشار عن ابن مهدي، وبه قال مجاهد وعكرمة، ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب (الرد على الجهمية).
وقال مجاهد: هذه الآية كقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عارم محمد بن الفضل حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين عن رجل من أهل الكتاب أسلم قال: إن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] وجعل أجل الدنيا ستة أيام، وجعل الساعة في اليوم السابع، {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] فقد مضت الستة الأيام وأنتم في اليوم السابع، فمثل ذلك كمثل الحامل إذا دخلت شهرها في أية لحظة ولدت كان تماماً].
هذا الأثر فيه رجل من أهل الكتاب مجهول، لكنه أسلم.
وعلى كل حال فالله أعلم كم مدة الدنيا، ولكن هناك أشراط للساعة، فإذا انتهت أشراط الساعة تكون الساعة بعدها، ولا يعلم في أي وقت، أما هذا التفسير أن عمر الدنيا على هذا الحديث سبعة آلاف سنة، وقد مضت ستة آلاف وبقي ألف فهذا المتن فيه نكارة، ثم أيضاً فيه رجل من أهل الكتاب مجهول، فلو ثبت أنه من الصحابة فالصحابة كلهم عدول، لكن ما ذكر أنه من الصحابة، وإنما ذكر أنه أسلم.
ثم إنه قال: (إن الله تعالى خلق السماء).
يعني: ما نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا فيه هذا الرجل المجهول، والمتن فيه نكارة.(113/4)
تفسير قوله تعالى: (قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين)
قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحج:49 - 51].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين طلب منه الكفار وقوع العذاب واستجعلوه به: ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) أي: إنما أرسلني الله إليكم نذيراً لكم بين يدي عذاب شديد، وليس إلي من حسابكم من شيء، أمركم إلى الله إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب إليه، وإن شاء أضل من كتب عليه الشقاوة، وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار، {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]، {إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم، ((لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)) أي: مغفرة لما سلف من سيئاتهم، ومجازاة حسنة على القليل من حسناتهم.
قال محمد بن كعب القرظي: إذا سمعت الله يقول: ((وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)) فهو الجنة.
وقوله: ((وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ)) قال مجاهد: يثبطون الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا قال عبد الله بن الزبير: مثبطين، وقال ابن عباس: ((معاجزين)) مراغمين.
((أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)) أي: وهي النار الحارة الموجعة الشديد عذابها ونكالها، أجارنا الله منها، قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88]].
يعني: أن الله تعالى يقرن بين الترغيب والترهيب، إذا ذكر المؤمنين ذكر بعدهم الكفار، وإذا ذكر الكفار ذكر بعدهم المؤمنين، وإذا ذكر جزاء المؤمنين ذكر بعده جزاء الكافرين، وإذا ذكر أوصاف المؤمنين ذكر بعده أوصاف الكافرين؛ ليكون المؤمن بين الخوف والرجاء، وليعبد الإنسان ربه بالخوف والرجاء، ويكون بين الترغيب والترهيب، كما قال سبحانه: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50].
وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167].
وفي هذه الآية: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الحج:50] وهو الجنة.
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحج:51] هذا ترغيب في المؤمنين وصفاتهم وأعمالهم وثوابهم، وترهيب من الكفار وصفاتهم وأعمالهم.(113/5)
تفسير سورة الحج [52 - 62]
النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ والسهو والنسيان في تبليغه ما أنزل الله من ربه، فقصة الغرانيق بعيدة وضعيفة سنداً ومتناً، والكفار لا يزالون يشكون ويشككون فيما أنزل الله حتى يروا الساعة بغتة فيؤمنوا يوم لا ينفع نفس إيمانها، وقد أعد الله لهم بسبب شكهم وجحودهم عذاباً مهيناً، كما أعد للمؤمنين نعيماً مقيماً في جنات نعيم.(114/1)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته)
قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:52 - 54].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم].
نعم قصة الغرانيق هذه مشهورة، وملخصها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]، وهذه هي الأصنام الثلاثة المشهورة عند العرب، فاللات: صنم لأهل الطائف، والعزى: شجرة يعبدها قريش، ومناة: بالمشلل لأهل المدينة، فألقى الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيق العلى، وإن شافعتهن لترتجى، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السورة سورة النجم سجد، وسجد معه المسلمون والمشركون، وشاع أن قريشاً أسلمت، فجاء المهاجرون من الحبشة ظناً منهم أن أهل مكة أسلموا، ثم بعد ذلك أحكم الله آياته، ونسخ ما ألقاه الشيطان، فعاد المشركون إلى أشد ما كانوا عليه من الإيذاء، ولكن سندها ضعيف، وطرقها كلها مرسلة.
ولكن ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أن مجموع الروايات قد يشد بعضها بعضاً، والشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ذكر هذه القصة، وأخذ العبرة منها، وإن كان لا يلزمه إثباتها، فذكر هذه القصة، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم خاف من الله خوفاً عظيماً، لما ألقى الشيطان على لسانه في أمنيته، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بهذه المثابة فكيف بغيره؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم، فلما بلغ هذا الموضع: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]، قال: فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى.
وإن شفاعتهن ترتجى)].
في لفظ: لترتجى.
قال: [(قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج:52])].
فقوله: ((إِلَّا إِذَا تَمَنَّى)) أي: إذا تلا، {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] أي: في تلاوته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة به بنحوه، وهو مرسل، وقد رواه البزار في مسنده، عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما أحسب، الشك في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة النجم، حتى انتهى إلى {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19])].
وذكر بقيته، ثم قال البزار: لا يروى متصلاً إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد، وهو ثقة مشهور.
وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس].
ورواية الكلبي عن أبي صالح ضعيفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية عن السدي مرسلاً، وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس مرسلاً أيضاً، وقال قتادة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام إذ نعس فألقى الشيطان على لسانه وإن شفاعتها لترتجى.
وإنها لمع الغرانيق العلى، فحفظها المشركون) وأجرى الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأها]، يعني: أجرى على أسماعهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فزلت بها ألسنتهم، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج:52]، الآية.
فدحر الله الشيطان.
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: (أنزلت سورة النجم، وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالهم، فكان يتمنى هداهم، فلما أنزل الله سورة النجم قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم:19 - 21]، ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت، فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى، وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وذلت بها ألسنتهم، وتباشروا بها، وقالوا: إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول، ودين قومه.
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم، سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك، غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلاً كبيراً، فرفع ملء كفه تراباً فسجد عليه) فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين، فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السورة، فسجدوا لتعظيم آلهتهم.
ففشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان، حتى بلغت أرض الحبشة، ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه، وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة، فأقبلوا سراعاً، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، وحفظه من الفرية، وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:52 - 53].
فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان، انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم المسلمين، واشتدوا عليهم.
وهذا أيضًا مرسل.
وفي تفسير ابن جرير عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه، وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه (دلائل النبوة) فلم يجز به موسى بن عقبة].
يعني: لم يتجاوز موسى بن عقبة.
المقصود أن قصة الغرانيق، كلها أسانيدها مرسلة، يعني: ليس فيها حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو موقوف عن الصحابة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وساقه من مغازيه بنحوه قال: وقد روينا عن أبي إسحاق هذه القصة.
قلت: وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات، والله أعلم.
وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك، ثم سأل هاهنا سؤالاً: كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلاة الله وسلامه عليه؟ ثم حكى أجوبة عن الناس، من ألطفها: أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك، فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك في نفس الأمر، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته.
وقد تعرض القاضي عياض رحمه الله في كتاب (الشفاء) لهذا(114/2)
كلام القاضي عياض في قصة الغرانيق
وقد أورد المحقق كلام القاضي عياض مختصراً.
قال رحمه الله: فاعلم أكمرك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله.
والثاني: على تسليمه.
أما المأخذ الأول: فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أصل الصحة ولا رواة ثقة بسند سليم متصل وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم.
وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته، فقائل يقول: إنه في الصلاة، وآخر يقول: قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة، وآخر يقول: بل حدث نفسه فسها، وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك، وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (والله ما هكذا أنزلت).
إلى غير ذلك من اختلاف الرواة.
ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية.
والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال -فيما أحسب الشك في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة) وذكر القصة.
قال أبو بكر البزار: هذا لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرفه من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه، مع وقوع الشك فيه -كما ذكرناه- الذي لا يوثق به، ولا حقيقة معه.
أما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره؛ لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار رحمه الله.
والذي منه في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَالنَّجْمِ} [النجم:1]، وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس).
هذا توهينه من طريق النقل.
أما من جهة المعنى، فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إما من تمنيه أن ينزل الله عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله، وهو كفر، أو يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن، حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه، حتى ينبهه جبريل عليه السلام، وهذا كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم.
أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمداً وذلك كفر، أو سهو، وهو معصوم من هذا كله.
ووجه ثان: هو استحالة هذه القصة نظراً وعرفاً، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليهم ذلك.
وهذا لا يخفى على أدنى متأمل، فكيف بمن رجح حلمه، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟!! ووجه ثالث: أنه قد علم من عادة المنافقين ومعاندي المشركين وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعيرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة، وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة، ولم يحك أحد في هذه القصة شيئاً سوى هذه الرواية الضعيفة.
ووجه رابع: ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:73]، الآيتين.
وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم.
فمضمون هذا ومفهومه: أن الله تعالى عصمه من أن يفتري، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً، فكيف كثيراً؟! وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال صلى الله عليه وسلم: (افتريت على الله، وقلت ما لم يقل)، وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له؟! وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء:113].
وأما المأخذ الثاني: فهو مبني على تسليم الحديث لو صح.
وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين.
ثم ذكر الأجوبة على ذلك، وممن أنكرها الإمام ابن خزيمة وقال: هذا من وضع الزنادقة، وهذا هو الصواب.
للاستزادة: انظر: (الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير) لـ محمد أبي شهبة، (ونصب المجانيق لإبطال قصة الغرانيق) لـ محمد ناصر الدين الألباني، والله أعلم.
وعلى كل حال فالقصة هذه معروف أن طرقها كلها مرسلة.(114/3)
أقوال المفسرين في قوله تعالى: (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]، هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، أي: لا يهديك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء].
لا يهيدنك، يعني: لا يضعفك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال البخاري قال ابن عباس: (فِي أُمْنِيَّتِهِ): إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]، يقول: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه.
وقال مجاهد: {إِذَا تَمَنَّى} [الحج:52]، يعني: إذا قال، ويقال: {أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]، قراءته، {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، يقرءون ولا يكتبون.
قال البغوي: وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: {تَمَنَّى} [الحج:52]، أي: تلا وقرأ كتاب الله، {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]، أي: في تلاوته، قال الشاعر في عثمان رضي الله عنه حين قتل: تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر].
يعني: عثمان رضي الله عنه قرأ القرآن في أول الليلة، وفي آخرها لاقاه الحمام، يعني: الموت، وذلك حين قتل رضي الله عنه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الضحاك: {إِذَا تَمَنَّى} [الحج:52]، إذا تلا، قال ابن جرير: هذا القول أشبه بتأويل الكلام.
وقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج:52]، حقيقة النسخ لغة: الإزالة والرفع.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي: فيبطل الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان.
وقال الضحاك: نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} [الحج:52]، أي: بما يكون من الأمور والحوادث، لا تخفى عليه خافية، {حَكِيمٌ} [الحج:52] أي: في تقديره وخلقه وأمره له الحكمة التامة والحجة البالغة؛ ولهذا قال: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج:53]، أي: شك وشرك وكفر ونفاق، كالمشركين حين فرحوا بذلك، واعتقدوا أنه صحيح من عند الله، وإنما كان من الشيطان.
قال ابن جريج: {لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج:53]، هم: المنافقون، {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج:53]، هم المشركون.
وقال مقاتل بن حيان: هم اليهود، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:53]، أي: في ضلال ومخالفة وعناد بعيد، أي: من الحق والصواب].(114/4)
تفسير قوله تعالى: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك)
قال الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ} [الحج:54].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل، والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك، الذي أنزله بعلمه وحفظه وحرسه أن يختلط به غيره، بل هو كتاب عزيز، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
وقوله: {فَيُؤْمِنُوا بِهِ} [الحج:54]، أي: يصدقوه وينقادوا له، {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54]، أي: تخضع وتذل له قلوبهم، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:54]، أي: في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه، وفي الآخرة يهديهم الصراط المستقيم الموصل إلى درجات الجنات، ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات].(114/5)
تفسير قوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه)
قال الله تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الحج:55 - 57].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن الكفار: إنهم لا يزالون في مرية، أي: في شك من هذا القرآن، قاله ابن جريج واختاره ابن جرير.
وقال سعيد بن جبير وابن زيد: {مِنْهُ} [هود:17]، أي: مما ألقى الشيطان.
{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الحج:55]، قال مجاهد: فجأة.
وقال قتادة: {بَغْتَةً} [الحج:55]، بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.
وقوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:55]، قال مجاهد: قال أبي بن كعب: هو يوم بدر، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد، واختاره ابن جرير.
قال عكرمة ومجاهد في رواية عنهما: هو يوم القيامة لا ليل له.
وكذا قال الضحاك والحسن البصري.
وهذا القول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به، لكن هذا هو المراد؛ ولهذا قال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الحج:56]، كقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، وقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:26]].
ففي هذه الآيات الكريمات بيان حكمة الله سبحانه، وأنه ما أرسل من رسول إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فقال تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج:53].
وقال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54]، وقال: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} [الحج:55].
وهذه من الحكم: أن الله تعالى يجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون والقاسية قلوبهم، وهم الكفار من اليهود والمشركين، وأما المؤمنون فيثبتهم الله، فيعلمون أنه الحق، فتخضع له قلوبهم.
قوله تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ} [الحج:55]، أي: من هذا القرآن، والمرية: الشك، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:55]، وهو يوم القيامة، ويوم القيامة يوم طويل، وليس فيه ليل، ولكن فيه الشمس حارة، تدنو من الرءوس، فتكون قدر ميل من الرءوس، فيحصل للناس من الكرب والشدة ما الله به عليم، فيموج الناس بعضهم في بعض، ويذهبون إلى الأنبياء يطلبون منهم أن يسألوا ربهم الشفاعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:26].
{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الحج:50]، أي: آمنت قلوبهم، وصدقوا بالله ورسوله، وعملوا بمقتضى ما علموا، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم].
قوله: (وتوافق) على حذف إحدى التائين، والتقدير: وتتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم.
وقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الحج:50]، فيها جمع بين الإيمان والعمل الصالح، فالإيمان إذا أطلق دخل فيه العمل، ولكن عطف العمل عليه لأهميته، فيكون العمل ذكر مرتين: مرة يكون داخلاً في مسمى الإيمان، والمرة الثانية: في العطف، والإيمان يتحقق بالعمل الصالح وهو جزء من الإيمان.
والعمل الصالح: هو أداء الواجبات وترك المحرمات.
فإن قيل: إن الواو للعطف، والعطف يقتضي المغايرة، قلنا: ليس كل عطف يقتضي المغايرة.
وقد يقال: إنه إذا عطف العمل على الإيمان صار غير داخل فيه، وإذا لم يعطف عليه دخل فيه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:9]، أي: لهم النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الحج:57]، أي: كفرت قلوبهم بالحق وجحدته وكذبوا به، وخالفوا الرسل واستكبروا عن اتباعهم، {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الحج:57]، أي: مقابلة استكبارهم وإبائهم عن الحق، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، أي: صاغرين].(114/6)
تفسير قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ * ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:58 - 60].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عمن خرج مهاجراً في سبيل الله ابتغاء مرضاته وطلباً لما عنده، وترك الأوطان والأهلين والخلان، وفارق بلاده في الله ورسوله، ونصرة لدين الله، {ثُمَّ قُتِلُوا} [الحج:58]، أي: في الجهاد، {أَوْ مَاتُوا} [الحج:58]، أي: حتف أنفهم من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]، وقوله: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:58]، أي: ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} [الحج:58 - 59]، أي: الجنة، كما قال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:88 - 89]، فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم، كما قال هاهنا: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:58]، ثم قال: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ} [الحج:59]، أي: بمن يهاجر ويجاهد في سبيله، وبمن يستحق ذلك، {حَلِيمٌ} [الحج:59]، أي: يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه، فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فإنه حي عند ربه يرزق، كما قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، والأحاديث في هذا كثيرة كما تقدم].
وهذا فيه تنويه بالمهاجرين والمجاهدين وفضلهم، فالمهاجر في سبيل الله والمجاهد ثوابهما عظيم وأجرهما كبير، ولهذا نوه الله بفضل المجاهد في هذه الآية، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} [الحج:58 - 59]، وهذا فيه وعد بالرزق الحسن، وما بالك برزق وصفه الله بأنه حسن؟! وإدخالهم مدخلاً يرضونه، فهم أحياء عند ربهم، وأرواحهم تتنعم بواسطة حواصل طير خضر تسرح في الجنة، ترد أنهارها وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وهذا خاص بالشهداء.
وأما المؤمن غير الشهيد فإنه إذا مات فإن روحه تنقل إلى الجنة، وتتنعم وحدها، وتأخذ شكل طائر، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (نسمة المؤمن على طائر علق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه)، يعني: أنه يأكل من شجر الجنة يتنعم وحده.
فالشهيد أفضل تنعماً، فإن روحه تتنعم بواسطة حواصل طير خضر؛ لأنهم بذلوا أجسادهم وأتلفوها في الله فعوضهم الله أجساداً أخرى تتنعم بواسطتها، وأما المؤمن غير الشهيد فإن روحه تتنعم وحدها؛ لأن المؤمن إذا مات تنقل روحه إلى الجنة، والكافر تنقل روحه إلى النار، والعياذ بالله، ولها صلة بالجسد؛ بأن تتنعم أو تعذب بواسطة الجسد، ولكن النعيم والعذاب في البرزخ على الروح أكمل، والأحكام على الروح أغلب.
وكذلك أيضاً الشهيد له فضل عظيم، ومن ذلك: أنه يأمن من الفتان في القبر، ولا يناله من الألم عند موته إلا كما يألم من قرصته عقرب، أي: إلا من جنس ألم القرصة، ويجري عليه رزقه كل يوم، وله فضل عظيم.
والهجرة من بلاد الكفار واجبة مع القدرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه، وعظيم إحسان الله إليه.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا المسيب بن واضح حدثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن شريح، عن ابن الحارث يعني: عبد الكريم عن ابن عقبة يعني: أبا عبيدة بن عقبة قال: قال شرحبيل بن السمط: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمر بي سلمان يعني: الفارسي رضي الله عنه، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق، وأمن من الفتانين، واقرءوا إن شئتم: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:58 - 59])].
الفتانان هما منكر ونكير، وفيه أن من مات مرابطاً في سبيل الله أجرى الله عليه الرزق كل يوم، وأمن من الفتان، أي: فتان القبر، وهو السؤال، وجاء في الحديث الآخر: (قيل: يا رسول الله! هل يفتن الشهيد في قبره؟ قال: كفى ببارقة السيف على رأسه فتنة).
وهذا من خصائص الشهيد: أنه لا يفتن، ولا يسأل.
والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]، فإذا مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة حدثنا زيد بن بشر أخبرني همام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان: كنا برودس، ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بجنازتين: إحداهما: قتيل، والأخرى متوفى، فمال الناس على القتيل، فقال فضالة: ما لي أرى الناس مالوا مع هذا، وتركوا هذا؟! فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله، فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، اسمعوا كتاب الله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} [الحج:58]، حتى بلغ آخر الآية].
يعني: أن الله تعالى سوى بين من قتل أو مات فحكم كل منهما أنه شهيد، فمن مات وهو في الطريق أو في وقت القتال أو في غير وقت القتال فحكمه حكم الشهيد.
كما قال تعالى في الآية: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً: حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان أنبأنا ابن المبارك أنبأنا ابن لهيعة حدثنا سلامان بن عامرالشيباني أن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني حدثه: أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين، أحدهما أصيب بمنجنيق والآخر توفي، فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى، فقيل له: تركت الشهيد فلم تجلس عنده؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، إن الله يقول: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:58]، الآيتين.
فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلاً ترضاه، ورزقت رزقًا حسنًا والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت].
وذلك لأن الله تعالى أخبر أن من قتل أو مات له هذان الرزقان: أن يرزقه الله رزقاً حسناً، ويدخله مدخلاً يرضاه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن شريح عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميراً على الأرباع، فخرج بجنازتي رجلين: أحدهما: قتيل، والآخر: متوفى، فذكر نحو ما تقدم].(114/7)
بيان معنى قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} [الحج:60]، الآية.
ذكر مقاتل بن حيان وابن جرير: أنها نزلت في سرية من الصحابة لقوا جمعاً من المشركين في شهر محرم، فناشدهم المسلمون لئلا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى المشركون إلا قتالهم، وبغوا عليهم، فقاتلهم المسلمون، فنصرهم الله عليهم، {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60]].
فقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60]، يعني: أن المسلمين قاتلوا دفاعاً ولم يبتدئوا بالقتال في الشهر الحرام، وإنما قاتلهم المشركون، فعاقبهم الله بنصر المسلمين عليهم.(114/8)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار وأن الله هو العلي الكبير)
قال الله تعالى: [{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:61 - 62]].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى منبهاً على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء، كما قال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27]، ومعنى إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل إدخاله من هذا في هذا، ومن هذا في هذا، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، كما في الشتاء، وتارة يطول النهار ويقصر الليل، كما في الصيف].
أي: من حكمة الله تعالى أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، بحيث: يدخل هذا في هذا، وهذا في هذا، ففي فصل الشتاء يولج الليل في النهار، فيطول الليل حتى ينتهي في الطول، في شدة البرد، والنهار ينتهي في القصر، ثم يولج النهار في الليل، فلا يزال النهار يأخذ من الليل حتى يتساوى الليل والنهار، في أول فصل الربيع، ثم لا يزال النهار يطول حتى ينتهي النهار في الطول في شدة الحر في شدة الصيف، وينتهي الليل في القصر، ثم يولج الليل في النهار، فيأخذ الليل من النهار، ولا يزال يأخذ حتى يتساوى الليل والنهار، في فصل الخريف، ثم لا يزال الليل يطول حتى ينتهي الطول في فصل الشتاء، وهكذا.
ولله الحكمة البالغة.
وبهذا تحصل الفصول الأربعة: الربيع، والخريف، والشتاء، والصيف، ويتساوى الليل والنهار في أول فصل الخريف، وفي أول فصل الربيع، مرتين، وينتهي الليل في الطول في الشتاء، وينتهي النهار في الطول في الصيف.(114/9)
إثبات الأسماء والصفات لله تعالى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61] أي: سميع بأقوال عباده، بصير بهم، لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم].
فالسميع والبصير اسمان من أسماء الله، وفيهما إثبات السمع والبصر لله، وأسماء الله مشتقة ومشتملة على المعاني والصفات، فاسم الله السميع فيه إثبات صفة السمع، فهو سميع بسمع، واسم الله البصير فيه إثبات البصر لله، فهو بصير ببصر، خلافاً للمعتزلة الذين يثبتون الأسماء بدون معان، وبدون صفات، ويقولون: سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وهذان الاسمان هما من الصفات الذاتية الملازمة لذات الرب التي لا تنفك عنه سبحانه.(114/10)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولما تبين أنه المتصرف في الوجود، الحاكم الذي لا معقب لحكمه، قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج:6]، أي: الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له؛ لأنه ذو السلطان العظيم، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وكل شيء فقير إليه، ذليل لديه، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:62]، أي: من الأصنام والأنداد والأوثان، وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل؛ لأنه لا يملك ضراً ولا نفعاً].(114/11)
إثبات صفة العلو والعظمة لله سبحانه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]، هذه الآية فيها إثبات صفة الألوهية لله عز وجل، وأنه الإله المعبود بحق وأن كل معبود سواه فهو معبود بباطل، كما قال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]، وقال: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9]، فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته، لا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ لأنه العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا أعلى منه، الكبير الذي لا أكبر منه، تعالى وتقدس وتنزه عز وجل عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً].
في هذه الآية إثبات اسمي العلي والكبير لله، فهو سبحانه وتعالى علي متصف بالعلو، فله علو الذات، فذاته علية فوق العرش وفوق السماوات، وله علو القدر والشأن والعظمة، وله علو القهر والسلطان، فالعلو أنواعه ثلاثة، وكلها ثابتة لله: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات كما قال العلامة ابن القيم: والفوق أنواع ثلاث كلها لله ثابتة بلا نكران والكبير أيضاً من أسماء الله، فهو سبحانه وتعالى المعبود بالحق، وكل معبود سواه فهو معبود بباطل، فالشمس والقمر والنجوم والكواكب والأشخاص والأصنام والأوثان كلها عبدت بالباطل، والعبادة بحق هي عبادة الله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]، وقد ورد اسم الكبير أيضاً في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9]، ففيهما إثبات اسم الكبير والمتعال الذي تفرد بالعبودية فيقال: عبد الكبير، عبد المتعال.
وبعض الناس يسميه عبد العال، والعال ليس من أسماء الله، وإنما من أسمائه المتعال، كما في هذه الآية، فينبغي أن يقال: عبد المتعال، وكل اسم ثبت لله يعبد به، مثل: عبد العلي، عبد المتعال، عبد الجبار، عبد العليم، عبد السميع، عبد البصير.(114/12)
تفسير سورة الحج [63 - 72]
يمتن الله تعالى على عباده بإنعامه عليهم بجملة عظيمة من النعم، ومنها: إنزال الماء على الأرض فتخضر به إنباتاً وإزهاراً، وإمساك السماء عن الوقوع على الأرض لكيلا يهلك أهلها، وإجراء الفلك في البحر لتحصيل منافع العباد، وإحياؤهم من بعد الموت والعدم، وفي معرض ذلك يبين تعالى كفر الإنسان لنعم الله تعالى عليه، ومن كفره منازعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ورده الدلائل القرآنية حين تتلى، وبسط يده بالسوء إلى أولياء الله.(115/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مخضرة)
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:63 - 66].(115/2)
بيان قدرة الله سبحانه وتعالى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا -أيضاً- من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه، وأنه يرسل الرياح فتثير سحاباً، فتمطر على الأرض الجرز التي لا نبات فيها وهي هامدة يابسة سوداء ممحلة، {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج:5]، وقوله جل وعلا: {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج:63] الفاء هاهنا للتعقيب، وتعقيب كل شيء بحسبه، كما قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [المؤمنون:14]، الآية.
وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل شيئين أربعين يوماً، ومع هذا هو معقب بالفاء، وهكذا هاهنا قال: {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج:63]، أي: خضراء بعد يبسها ومحولها].
أي: بعد أن كانت الأرض يابسة ممحلة تصبح مخضرة، وهذا دليل على إحياء الله الموتى، وكثيراً ما يدلل سبحانه وتعالى على إحياء الموتى بإحياء الأرض بالنبات بعد يبسها ومحولها، وذلك بأن ينزل الله عليها الماء فتنبت وتصير خضراء، فكذلك الأموات يحييهم الله بعد أن كانوا أمواتاً، فيعيد الحياة إليهم؛ لأنه سبحانه وتعالى قدير، وهو قادر على أن يعيدهم من الذرات التي تحولوا إليها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر عن بعض أهل الحجاز أنها تصبح عقب المطر خضراء، فالله أعلم].
فالفاء للتعقيب في قوله تعالى: (فتصبح)، يعني: إذا نزل الماء فإنه يعقبه اخضرار الأرض، وهذا التعقيب قد يطول وقد يقصر، مثل قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون:14] فبين كل طور وطور أربعون يوماً، فالنطفة تكون أربعين يوماً، ثم تكون العلقة أربعين يوماً، ثم تكون المضغة أربعين يوماً، واخضرار الأرض قد يكون في أقل من هذه المدة.(115/3)
بيان معنى قوله تعالى: (إن الله لطيف خبير)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج:63] أي: عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب وإن صغر، لا يخفى عليه خافية، فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به، كما قال لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]، وقال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل:25]، وقال تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
وقال: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61]، ولهذا قال أمية بن أبي الصلت أو زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته: وقولا له من ينبت الحب في الثرى فيصبح منه البقل يهتز رابيا ويخرج منه حبه في رءوسه ففي ذاك آيات لمن كان واعيا].(115/4)
إثبات ملك الله لجميع الأشياء وغناه عما سواه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الحج:64]، أي: ملكه جميع الأشياء، وهو غني عما سواه، وكل شيء فقير إليه عبد لديه].
فكل شيء يأتي عبداً يوم القيامة، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، فكل شيء يأتي عبداً يوم القيامة مقهوراً ذليلاً خاضعاً، تنفذ فيه قدرة الله ومشيئته، لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً.(115/5)
امتنان الله تعالى على خلقه بتسخير ما في السماوات والأرض لهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} [الحج:65]، أي: من حيوان وجماد وزروع وثمار، كما قال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، أي: من إحسانه وفضله وامتنانه، {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج:65]، أي: بتسخيره وتسييره، أي: في البحر العجاج وتلاطم الأمواج تجري الفلك بأهلها بريح طيبة ورفق وتؤدة، فيحملون فيها ما شاءوا من تجائر وبضائع ومنافع من بلد إلى بلد وقطر إلى قطر، ويأتون بما عند أولئك إلى هؤلاء كما ذهبوا بما عند هؤلاء إلى أولئك، مما يحتاجون إليه ويطلبونه ويريدونه].
يعني أن تسخير الفلك في البحر هو جعلها تجري بالريح الطيبة، وتمخر عباب الماء، وتحمل البضائع والأمتعة والأشخاص إلى الأماكن البعيدة، ولا سيما في هذا الزمن الذي صارت فيه المراكب والباخرات العظيمة كأنها قرية أو بلدة، فيحصل الانتفاع والتبادل، فهذا من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته ووحدانيته واستحقاقه للعبادة.(115/6)
بيان لطف الله عز وجل ورحمته بعباده
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65]، أي: لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض فهلك من فيها، ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج:65]، أي: مع ظلمهم، كما قال في الآية الأخرى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:6]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:66]، كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28]، وقوله: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الجاثية:26]، وقوله: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، ومعنى الكلام: كيف تجعلون لله أنداداً وتعبدون معه غيره، وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف؟! {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} [الحج:66]، أي: خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا يذكر، فأوجدكم، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الحج:66]، أي: يوم القيامة، {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:66]، أي: جحود].
قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، يعني: حصل لهم موتتان وحياتان: أما الموتة الأولى فحين كانوا عدماً في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم أحياهم الله فعاشوا في الدنيا، وأما الموتة الثانية فهي التي كتبها الله عليهم، ثم يحييهم في الآخرة، فهما موتتان وحياتان.(115/7)
تفسير قوله تعالى: (لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه)
قال الله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ * وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:67 - 69].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكاً، قال ابن جرير: يعني: لكل أمة نبي منسكاً.
قال: وأصل المنسك في كلام العرب: هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه إما لخير أو شر، قال: ولهذا سميت مناسك الحج بذلك؛ لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها.
فإن كان كما قال من أن المراد لكل أمة نبي جعلنا منسكاً، فيكون المراد بقوله: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ} [الحج:67]، أي: هؤلاء المشركون، وإن كان المراد: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج:34]، أي: جعلاً قدرياً كما قال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148]، ولهذا قال هاهنا: {هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67]، أي: فاعلوه، فالضمير هاهنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق، أي: هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته، فلا تتأثر بمنازعتهم لك، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق، ولهذا قال: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج:67]، أي: طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود.
وهذه كقوله: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [القصص:87].
وقوله: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج:68]، كقوله: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41].
وقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج:68] تهديد شديد ووعيد أكيد، كقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأحقاف:8]، ولهذا قال: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:69]].
أي: إذا كان الله عليماً بأعمالكم، وسوف يجازيكم عليها، فاحذروا أن تبارزوه بالمعاصي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه كقوله جل وعلا: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى:15]، الآية].(115/8)
تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض)
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه، وأنه محيط بما في السماوات وما في الأرض، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء).
وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن.
فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة)].
هذه الآية فيها إثبات مرتبتين من مراتب القدر لا بد من الإيمان بهما، ومن لم يؤمن بهما فليس بمؤمن: المرتبة الأولى: العلم الشامل لكل شيء في هذا الوجود، وأن الله يعلم ما كان في الماضي، وما يكون في الحال، وفي المستقبل، وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما قال سبحانه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، يعني: يعلم حالهم لو ردوا، لكنهم لا يردون.
المرتبة الثانية: الكتابة، وهي أنه كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، فقال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70]، وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد:22]، وقال سبحانه: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] وقال سبحانه: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12].
ولما أنكرت القدرية الأولى هاتين المرتبتين: العلم والكتابة، أخرجهم العلماء من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا: إنهم كفار؛ لأن من لم يؤمن بعلم الله فقد نسب الله إلى الجهل.
وأما عامة المتأخرين من القدرية فأثبتوا هاتين المرتبتين -العلم والكتابة- لكن أنكروا المرتبتين الأخريين، وهما: الإرادة والخلق، فلم يقولوا بعموم الإرادة وبعموم الخلق، بل قالوا: إن الله أراد كل شيء، وخلق كل شيء إلا أفعال العباد، فاستثنوها بسبب شبهة حصلت لهم، فصاروا مبتدعة.(115/9)
بيان سعة علم الله تعالى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا ابن بكير حدثني عطاء بن دينار حدثني سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق، وهو على العرش تبارك وتعالى: اكتب، فقال القلم: وما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم الساعة.
فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة؟ فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحج:70].
وهذا من تمام علمه تعالى، أنه علم الأشياء قبل كونها وقدرها وكتبها أيضاً، فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك على الوجه الذي يفعلونه، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره، وهذا يعصي باختياره، وكتب ذلك عنده، وأحاط بكل شيء علماً، وهو سهل عليه يسير لديه، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]].
وقال سبحانه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فهو سبحانه يعلم أحوال العباد، وما هم عاملون، وما يصيرون إليه، بل كل حركة في السماء والأرض، وكل رطب ويابس مكتوب عنده، كما قال تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] والكتاب هو اللوح المحفوظ.(115/10)
تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً وما ليس لهم به علم)
قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحج:71 - 72].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن المشركين فيما جهلوا وكفروا وعبدوا من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً، يعني: حجة وبرهاناً، كقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، ولهذا قال هاهنا: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} [الحج:71]، أي: ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه، وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا حجة، وأصله مما سول لهم الشيطان وزينه لهم، ولهذا توعدهم تعالى بقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71]، أي: من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العذاب والنكال].
فالواجب على المسلم أن يتبع الحق، ولا يقلد الآباء والأجداد والقبيلة في الباطل، وقد أنكر الله تعالى على المشركين اتباعهم آباءهم وأجدادهم بالباطل، فقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:21]، وفي الآية الأخرى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170]، فاتباع الآباء والأجداد في الباطل طريقة أهل الجاهلية، ولهذا أخبر الله عن كفار قريش أنهم قالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7].
وهي حجة فرعون عندما قال لموسى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]، فاتباع السابقين في الباطل ليس بحجة، وإنما الواجب على الإنسان أن يتبع الدليل والحجة، أما أن يتبع غيره في الباطل فهذا لا يجوز، ولو كان أباه أو جده أو سلفه، ولكن إن كان الأسلاف على الحق فإنه يتبع الحق، ويقتدي بهم في أعمالهم الطيبة، وإن كانوا على الباطل ترك ما هم عليه، ولو كانوا آباء وأجداداً.
فالواجب على المسلم أن يعمل بالحق، ويعمل بالدليل، ولهذا أنكر الله على هؤلاء المشركين بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الحج:71]، يعني: ما ليس لهم به حجة ولا دليل، وتوعدهم بقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71].
فلا عمل بالنسبة للعبادات إلا بدليل من الكتاب أو من السنة، وقد يكون الدليل قياساً؛ لأن القياس يرجع إلى أصل مأخوذ من دليل من الكتاب أو السنة، وكذلك الإجماع هو مستند إلى نص من الكتاب أو السنة، والقياس الصحيح يرجع إلى النصوص؛ لأنه مبني على النصوص.
أما المعاملات في البيوع والمأكولات فالأصل فيها الإباحة والحل، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]، فهذا دليل على أن الأصل في الأشياء الحل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، وهذا دليل على أن الأصل في المآكل والمشارب والملابس والبيوع الحل، أما الذبائح فالأصل فيها التحريم، فإذا أشكل عليك شيء في ذبيحة فإنك تتوقف حتى يأتيك الدليل، وكذلك الأبضاع أي: الفروج فالأصل فيها التحريم حتى يأتي الدليل.(115/11)
بيان عاقبة منكري الدلائل القرآنية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [الحج:72]، أي: وإذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله، وأنه لا إله إلا هو، وأن رسله الكرام حق وصدق، {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج:72]، أي: يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من القرآن، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء {قُلْ} [الحج:72] أي: يا محمد لهؤلاء {أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج:72]، أي: النار وعذابها ونكالها أشد وأشق وأطم وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا، وعذاب الآخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم إن نلتم بزعمكم وإرادتكم.
وقوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحج:72]، أي: وبئس النار منزلاً ومقيلاً ومرجعاً وموئلاً ومقاماً، {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:66].(115/12)
تفسير سورة الحج [73 - 78]
لم يقدر المشركون الله حق قدره؛ إذ أشركوا معه ما لا ينفع شيئاً، ولا يصنع شيئاً، وقد ضرب لهم مثلاً يبين لهم سوء صنيعهم هذا، فالذباب إذا أخذ من هذه الآلهة المزعومة شيئاً صغيراً فإنها لا تستطيع أن تستنقذه منه، فضعف الطالب والمطلوب.(116/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73 - 74].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى منبهاً على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} [الحج:73] أي: لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به، {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73] أي: أنصتوا وتفهموا، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73] أي: لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك.
كما قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر حدثنا شريك عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة) وأخرجه صاحبا الصحيح من طريق عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة)].
هذا حديث قدسي من كلام الله تعالى لفظاً ومعنى، يقول الله تعالى: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا شعيرة)، وفيه تحريم التصوير، وأنه لا يجوز للإنسان أن يصور ذوات الأرواح، وأن المصور ظالم؛ لأن الله وصفه بالظلم وأنه من أشد الناس ظلماً: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)، فتصوير ذوات الأرواح حرام؛ لما فيه من مضاهاة خلق الله.
وفي حديث عائشة: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله)، والحديث الآخر: (لعن الله المصور)، وفي اللفظ الآخر: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم)، وهذه الأحاديث كلها ثابتة، وهي تدل على تحريم تصوير ذوات الأرواح، وأن المصور ظالم، وفي الحديث الآخر: (من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ)، فهو يعذب يوم القيامة حيث يكلف بنفخ الروح تعذيباً له على تصويره، نسأل الله العافية.
وفيه أنه متوعد بالنار، فدل على أنه -أي: التصوير- من كبائر الذنوب، وأنه وسيلة من وسائل الشرك؛ لأن فيه المضاهاة لخلق الله، فلا يجوز أن يصور للذكرى.
والواجب طمس الصور كما في حديث أبي الهياج أن علياً قال له: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)، فيجب طمس الصور وإزالتها ما استطاع المسلم إلى ذلك سبيلاً، ولا يبق إلا ما تدعو الضرورة إليه، وهي الصورة التي لا بد منها في بطاقة الأحوال، أو رخصة القيادة، أو الأوراق النقدية، فهذه ضرورة، قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، لكن الناس الآن تساهلوا بالصور، فتجد بعض الناس يصور أولاده للذكرى، ثم يجعل صورهم في برواز ويجعله أمام الناس، وهذا محرم لا يجوز، فلا يجوز التصوير للذكرى، ولا اقتناء الصور.
وقوم نوح سبب عبادتهم للأصنام أنهم صوروا للذكرى من أجل أن يتذكروا عبادة الصالحين لما ماتوا، فوقع أحفادهم في الشرك.
فإن قيل: فالبسط والفرش التي فيها صور أنتركها ولا نشتريها، وإذا كانت معنا فهل نتلفها؟ فأقول: الصور لا تجوز لأي غرض، وأما الصورة إذا كانت ممتهنة كأن تكون على بساط أو من هذا القبيل فهذه لا تمنع دخول الملائكة، لكن التصوير من حيث هو لا يجوز لأي غرض إلا للضرورة، حتى بالفيديو أو يصور ليجعلها في مكان عام فلا، لكن إذا وجدت الصورة الممتهنة فلا تمنع دخول الملائكة.
فإن قال قائل: إذا كانت الصورة مخفية في كتاب أو غيره هل أطمسها أم لا؟ فأقول: إذا كانت مخفية فأمرها أسهل مما لو كانت مكشوفة، لكن إذا أمكن طمسها فهو أولى.
فإن قيل: هل يقال للذي يصور بالفيديو أنه مصور يدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مصور في النار)؟ أقول: هو مصور، وهو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مصور في النار)، فهو يسمى مصوراً.
فإن قيل: هناك فرق بين من يصور باليد وبين من يصور بالكاميرا؟ أقول: هذا ليس بظاهر.
بل إنه يصدق اسم المصور على المصور باليد وعلى الذي يصور بالكاميرا.
فإن قيل: هو لم يصورها وإنما صورتها الكاميرا؟ فنقول: ما وجدت الصورة إلا بعمله بيده، ولو أنه ما صور ما خرجت الصورة.
فإن قيل: إذا كانت الصورة في السطح أو في حوش المنزل فهل تمنع من دخول الملائكة إلى المنزل؟ قلنا: نعم، فكل ما كان داخل سور البيت فإنه يتبع البيت، سواء كان في السطح أو في الحوش، ثم إنه ينبغي طمسها مطلقاً وفي أي مكان إلا للضرورة، كصور المجرمين من أجل التحذير منهم وما أشبه ذلك، فالشيء الذي تدعو الضرورة إليه هو المستثنى فقط.
فإن قال قائل: أنا عملي ودخلي من التصوير.
قلنا: لا بأس أن تصور الكتب وغيرها مما ليس له روح، وأما ذوات الأرواح فلا تصورها، وإذا أردت أن تصور ذوات الأرواح فينبغي إزالة الرأس.
فإن قيل: أنا أصور من أجل أن أعلم الطلاب؟ قلنا: لا يجوز تصوير ذوات الأرواح، أرشدهم وعلمهم بدون تصوير، فما زال الناس من عهد النبوة إلى الآن يدرسون ويعلمون وتخرج العلماء من دون تصوير، وإذا احتجت إلى صورة فلا تصور الرأس والوجه حتى يزول المحذور، وكذلك إذا وجدت صورة في ورق فاطمس الرأس، ولا يكتفي بجعل خط على الحلق فإن هذا لا يكفي، بل لا بد من طمس الرأس والوجه أو قطعه إذا كان مجسماً، فإنه إذا قطع الرأس أو طمسه زال المحذور.
فإن قال قائل: وهل أطمس الصور حتى من الكتب المدرسية وإن غضب علي المعلم؟ قلنا: كتب المدرسة من باب أولى، فكلها يجب طمسها، ويجب على المعلمين أن يكونوا قدوة للمتعلمين في طمس الصور.
فإن قيل: والصور التي على سور البيت هل تمنع من دخول الملائكة البيت؟ قلنا: نعم، فكله في داخل البيت: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة)، والبيت شامل لما كان داخل سور البيت.
قال المؤلف رحمه الله: [ثم قال تعالى أيضاً: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73] أي: هم عاجزون عن خلق ذباب واحد، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه لو سلبها شيئاً من الذي عليها من الطيب].
يعني: إذا أخذ الذباب شيئاً لا تستطيع هذه الأصنام أن تأخذ هذا الشيء الذي يعلق به فكيف يعبدونها!! فهم عاجزون عن خلق الذباب، بل عاجزون عن أشد من هذا عاجزون عن استنقاذ ما علق بالذباب وعن أخذه منه والانتصار عليه، بل ينتصر عليهم ويغلبهم وهو من أحقر المخلوقات، فكيف يعبدون غير الله وهم عاجزون عن أن يخلقوا ذبابة، بل عاجزون عن استنقاذ ما أخذه الذباب!! قال المؤلف رحمه الله: [لو سلبها شيئاً من الذي عليها من الطيب ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك هذا، والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها، ولهذا قال: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الطالب الصنم والمطلوب الذباب، واختاره ابن جرير، وهو ظاهر السياق، وقال السدي وغيره: الطالب العابد والمطلوب الصنم].
قال المؤلف رحمه الله: [ثم قال: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:74] أي: ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] أي: هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]، {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:12 - 13]، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58].
وقوله: {عَزِيزٌ} [الحج:40] أي: قد عز كل شيء فقهره وغلبه، فلا يمانع ولا يغالب لعظمته وسلطانه، وهو الواحد القهار.(116/2)
تفسير قوله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس)
قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحج:75 - 76].
قال المؤلف رحمه الله: [يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلاً فيما يشاء من شرعه وقدره ومن الناس لإبلاغ رسالاته {إِنَّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75] أي: سميع لأقوال عباده، بصير بهم عليم بمن يستحق ذلك منهم، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحج:76] أي: يعلم ما يفعل برسله فيما أرسلهم به، فلا يخفى عليه من أمورهم شيء، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27]، إلى قوله: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28].
فهو سبحانه رقيب عليهم، شهيد على ما يقال لهم، حافظ لهم، ناصر لجنابهم {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].(116/3)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:77 - 78].(116/4)
حكم السجدة الثانية في سورة الحج
قال المؤلف رحمه الله: [اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه السجدة الثانية من سورة الحج هل هو مشروع السجود فيها أم لا؟ على قولين، وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضلت سورة الحج بسجدتين، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما)].
الراجح أنها سجدة ثابتة، والسجود ليس بواجب بل هو مستحب، فقد ثبت أن عمر رضي الله عنه خطب الناس وقرأ آية فيها سجدة في خطبة الجمعة، فنزل وسجد وسجد الناس، ثم قرأ في الخطبة الثانية في الجمعة الثانية آية فيها سجدة فتهيأ الناس للسجود فلم يسجد، فقال عمر رضي الله عنه: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء.
فهو مستحب وليس بواجب.
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، أي: بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم، كما قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]، وقوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78].(116/5)
فضل هذه الأمة والتخفيف عنها
قال المؤلف رحمه الله: [أي: يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] أي: ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً، فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً، وفي السفر تقصر إلى ثنتين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة كما ورد به الحديث، وتصلى رجالاً وركباناً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها، والقيام فيها يسقط لعذر المرض فيصليها المريض جالساً، فإن لم يستطع فعلى جنبه إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات، ولهذا قال عليه السلام: (بعثت بالحنيفية السمحة)، وقال لـ معاذ وأبي موسى رضي الله عنهما حين بعثهما أميرين إلى اليمن: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا)، والأحاديث في هذا كثيرة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] يعني: من ضيق].
وأخذ العلماء من هذه الآية قاعدة: وهي نفي الحرج، وكذلك قوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، فقد أخذ العلماء من هذه الآيات نفي الحرج، ونفي الضيق، وأنه لا واجب مع عجز، ولا محرم مع ضرورة، فكل هذه القواعد أخذت من هذه النصوص، وهذه الآيات: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
إذاً: فمن التخفيف أن الصلاة الرباعية تقصر إلى ركعتين في السفر وفي الخوف إلى ركعة، ويصليها للقبلة وإلى غير القبلة، وصلاة النافلة يصليها إلى غير القبلة في السفر، ويصلي المريض قائماً، فإن عجز صلى قاعداً، فإن عجز فعلى جنب، وفي حديث عمران: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فكل هذا من رفع الحرج.
فالحمد لله على هذه الشريعة السمحة.
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، قال ابن جرير: نصب على تقدير {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] أي: من ضيق بل وسعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم، قال: ويحتمل أنه منصوب على تقدير: الزموا ملة أبيكم إبراهيم].
وسعه عليكم كملة إبراهيم.
فكملة: أتت هنا مجرورة لكنها منصوبة على تقدير: على نزع الخافض؛ لأنه التقدير (كملة).
قال المؤلف رحمه الله: [قلت: وهذا المعنى في هذه الآية كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [الأنعام:161].
وقوله: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، وفي هذا قال الإمام عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] قال: الله عز وجل، وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] يعني: إبراهيم، وذلك قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكْ} [البقرة:128]، قال ابن جرير: وهذا لا وجه له؛ لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين، وقد قال الله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78]، قال مجاهد: الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر، {وَفِي هَذَا} [الحج:78] يعني: القرآن.
وكذا قال غيره، قلت: وهذا هو الصواب؛ لأنه تعالى قال: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]].
فيكون الضمير في قوله: (هو) يعود إلى الله سبحانه وتعالى، أو يعود إلى إبراهيم، والصواب أنه يعود إلى الله، {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] أي: في الكتب السابقة وفي الذكر وفي اللوح المحفوظ وفي القرآن، فالله تعالى هو سماهم المسلمين.
والقول الثاني: أن الضمير في قوله: (هو سماكم) يعود إلى إبراهيم، والقول الأول: أنه يعود إلى الله هو الصواب؛ بدليل قوله بعد ذلك: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فكل هذه الضمائر تعود إلى الله عز وجل.
قال المؤلف رحمه الله: [ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة].
يعني: بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وبأنها ملة أبيهم إبراهيم.
قال المؤلف رحمه الله: [ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها، والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان، فقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] أي: من قبل هذا القرآن، {وَفِي هَذَا} [الحج:78].
وروى النسائي عند تفسير هذه الآية: أنبأنا هشام بن عمار قال: حدثنا محمد بن شعيب قال: أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره عن أبي سلام أنه أخبره قال: أخبرني الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم، قال رجل: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟ قال: نعم وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله).
وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] من سورة البقرة، ولهذا قال: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78] أي: إنما جعلناكم هكذا أمة وسطاً عدولاً خياراً مشهوداً بعدالتكم عند جميع الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة: {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78]، لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها، فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك، وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته].
أي: أن نوح يوم القيامة يسأله الله: هل بلغت؟ فيسأل أمته فتنكر، فتشهد هذه الأمة عليهم، فيقولون: كيف تشهدون علينا وأنتم ما حضرتم؟ فقالوا: بعث الله لنا نبياً، وأنزل عليه القرآن، وأخبرنا أن نوحاً بلغكم، فنحن نشهد، فتشهد هذه الأمة على الأمم، ثم يشهد عليها الرسول، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
والحديث الأول: (من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم) فيه وعيد شديد، وأن هذا من الكبائر، فمن دعا بدعوة جاهلية فقد ارتكب كبيرة من الكبائر؛ لهذا الوعيد الشديد.
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج:78] أي: قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها، فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض، وطاعة ما أوجب، وترك ما حرم، ومن أهم ذلك إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة التوبة.
وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} [الحج:78] أي: اعتضدوا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه وتأيدوا به، {هُوَ مَوْلاكُمْ} [الحج:78] أي: حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم.
{فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78] يعني: نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء، قال وهيب بن الورد: يقول الله تعالى: ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت فاصبر وارض بنصرتي؛ فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك رواه ابن أبي حاتم والله تعالى أعلم.
وله الحمد والمنة والثناء الحسن والنعمة، وأسأله التوفيق والعصمة في سائر الأفعال والأقوال، هذا آخر تفسير سورة الحج.
وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم وشرف وكرم، ورضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين].
قول وهيب بن الورد من الآثار الإسرائيلية؛ لأن وهيب بن الورد لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم مسافة، فيستأنس به ولا يعول عليه.(116/6)
الأسئلة(116/7)
حكم من افتتح مطعماً فذبح على عتبته ولطخ زجاجه وأبوابه بالدماء
السؤال
افتتح أحدهم مطعماً في الأسبوع الماضي وقام بذبح خروف على عتبة بابه، ولطخ بدمه الزجاج والأبواب والأرض، فما حكم فعله هذا؟
الجواب
هذا محرم، وإن كان يعتقد أنه يذبح للجن وأنهم يمنعونه إذا لم يذبح فهذا شرك والعياذ بالله، وإذا كان يذبح للجن من أجل أن يحفظوه فإنه مشرك مرتد نعوذ بالله من ذلك، وعليه التوبة وتجديد إسلامه من جديد.
وأما إذا كان لا يعتقد هذا ولطخه من باب التبرك وهو يذبح لله ولا يعتقد أنه يذبح للجن، ولكن في الغالب أن الذي يفعل مثل هذا إنما يفعله للجن والعياذ بالله، فهذا ينبغي أن ينكر عليه ويبين له أن هذا شرك، وينبغي إن كان قد نبه وهو غير جاهل أن يرفع به إلى المحكمة ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل نعوذ بالله؛ لأن هذا شرك، نسأل الله السلامة والعافية، كما جاء في الحديث: (من ذبح لغير الله فقد أشرك)، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] أي: وذبحي، {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163].
وقال سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2].(116/8)
حكم التبرك بالدم
السؤال
هم يقولون: نحن نتبرك بالدم؟
الجواب
في الغالب أنه ما يكون إلا ذبح للجن، فما أدري كيف يكون التبرك بالدم، فهو عنده عقيدة الخوف من الجن، فهو يذبح للجن؛ حتى يحفظوه ويمنعوه، نعوذ بالله.
لكن ينبغي للإخوان بكل حال أن ينبهوه، وينصحوا له، ويأمروه بالتوبة إذا كان لا يعرف أن ذلك شرك.(116/9)
محرمية الرجل لبنات ربيبته
السؤال
لي ربيبة فهل أنا محرم لبناتها؟
الجواب
هي حرام عليك وكذلك بناتها.(116/10)
حكم من يتنازل عن الإمامة لأجل مبلغ من المال
السؤال
أتولى إمامة مسجد في مجمع سكني، وخدمات الكهرباء والماء والهاتف في منزل ذلك المسجد مجانية، وعرض علي مبلغ كبير مقابل أن أتنازل عن هذه الوظيفة لمن يدفع لي ذلك المبلغ، فهل يجوز لي ذلك؟
الجواب
الإمامة منصب ديني لا يؤخذ بمقابله المال، فلا يجوز له هذا، بل ينبغي للإنسان أن يقصد وجه الله والدار الآخرة، والوظائف الدينية لا يؤخذ عليها شيء من المال كالإمامة والأذان والحج والعبادات وغيرها من الوظائف الدينية، ومن أخذ على العبادة مال كإنسان يعطى مالاً حتى يؤذن، أو يصلي، أو يصوم، فهذا حرام، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
فمن حج للمال أو صلى لأجل المال فهو على خطر عظيم، لكن إذا أعطي من بيت المال مرتب أو أعطاه أحد معونة من دون أجرة لتفرغه فلا بأس، أما هذا الشخص يعطى من أجل أن يكون إماماً للناس مقصده الدنيا لا يجوز هذا، إذا كان له رغبة يبقى في المسجد وإلا يقدم تنازله ويأتي من هو أهل لذلك، وهذا المال مال سحت إذا أخذه من غير مقابل.(116/11)
مدى صحة القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه جل وعلا
السؤال
ينتشر عند بعض طلبة العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه، ويستدلون بالحديث الذي رواه الترمذي رحمه الله وفيه: (رأيت البارحة ربي في أبها صورة)، ويقولون: إن الإمام أحمد رأى ربه، وإن هناك من العلماء أو طلبة العلم من رأى ربه، فما رأيكم؟
الجواب
رؤية الله في المنام ليس فيها إشكال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: جميع الطوائف أثبتوا هذا ولا ينكره إلا الجهمية، فمن شدة إنكارهم لرؤية الله أنهم أنكروا حتى الرؤية في المنام، وأما غيرهم من جميع الطوائف فأثبتوها، فلا يوجد إشكال، والحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي في أحسن صورة، فقال: يا محمد، بم يختصم الملأ الأعلى، فقلت: لا أدري -لا أعلم- فوضع كفه بين كتفيه حتى وجدت برد أنامله، فعلمت).
والحديث معروف بحديث اختصام الملأ الأعلى، وقد شرحه الحافظ ابن رجب رحمه الله في رسالة مستقلة اسمها: شرح حديث اختصام الملأ الأعلى، وأوله: (رأيت ربي في أحسن صورة).
وكذلك أيضاً الرؤية في المنام لا إشكال فيها وهي ثابتة، ولا يلزم من ذلك التشبيه، وإنما يرى ربه على حسب اعتقاده، فإن كان اعتقاده سليماً رأى ربه في صورة حسنة، وإن كان اعتقاده غير سليم رأى ربه في مثل صورة اعتقاده، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أصح الناس اعتقاداً قال: (رأيت ربي في أحسن صورة)، فرؤية المنام غير الرؤية في اليقظة، فالله تعالى لا يراه أحد في الدنيا، ولا يرى إلا يوم القيامة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر)، ولما سأل موسى ربه الرؤية في الدنيا قال الله: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم الصواب أنه ما رآه ليلة المعراج بعين رأسه وإنما رآه بعين قلبه، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه)، وفي لفظ: (رأيت نوراً)، في حديث أبي موسى في صحيح مسلم: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
وأول الحديث: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، وأما الرؤية في المنام فهي غير الرؤية في اليقظة.(116/12)
حكم تفسير قوله تعالى: (وإن يسلبهم الذباب) بما ثبت علمياً بشأن أكل الذباب
السؤال
ثبت علمياً: أن الذباب إذا وقع على مادة معينة وأفرز عليها مادة منه تفككت جزيئاتها مباشرة، فهل يمكن أن يكون ذلك معنى قوله جل وعلا: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73]؟
الجواب
لا، معنى ((لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ)): أي: لا يستطيعون أن يأخذوه منه، ولكن أيضاً ثبت في الحديث الصحيح: أن الذباب إذا وقع على شيء رفع جناحاً وألقى جناحاً، وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، وأنه يضع الجناح الذي فيه الداء، ويرفع الجناح الذي فيه الشفاء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء)، والحديث ثابت، فهو مأمور بغمسه حتى ينغمس الجناح الذي فيه الشفاء فيزيل الداء.(116/13)
حكم من أنكر عذاب القبر
السؤال
هل من ينكر عذاب القبر يعد كافراً؟
الجواب
قد يكون له شبهة، والأحاديث في عذاب القبر قريبة من التواتر، والآيات واردة في ذلك، فلا بد أن يبين له قبل ذلك النصوص، وهذا يخشى عليه.
وبعض أهل البدع كالمعتزلة قالوا: إن العذاب للروح دون الجسد، والصواب أنه للجسد وللروح، لكن الأحكام على الروح أغلب.(116/14)
الضابط في دمى الأطفال
السؤال
ما الضابط في الجائز والممنوع من صور عرائس الأطفال والدمى المنتشرة في الأسواق، فإن لها أعيناً وأنوفاً، وبعضها يتكلم؟
الجواب
الأولى عدم استعمال عرائس الأطفال في زماننا، وعرائس الأطفال تختلف عن الصور، فقد جاء في حديث عائشة: أنها كان لها ألعاب تلعبها ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ العلماء من هذا أنه لا بأس باللعب للأطفال خاصة، لكن لعب الأطفال في زمن عائشة لم تكن مثل هذه اللعب، فقد كانت عبارة عن عظم وتضع البنات الصغار عليه شيئاً من الخرق، ويسمين هذا رجلاً، ويصنعن عظماً آخر ويجعلن عليه ثياباً ملونة ويسمينه امرأة، حتى يعود الأطفال، لكن الموجودة الآن تختلف، فهي تضحك وتبكي وتسير، فينبغي عدم التمادي فيها، وتختلف عن الصورة.
وأما لو كانت مثل هذه التي توضع باليد كالخرق والعظام فهذه أمرها سهل، لكن هذه اللعب الآن لها عين، وبعضها فتنة، وبعضها تبكي، وبعضها تضحك، وبعضها تصوت وكأنها آدمي إذا رأيته، فلا ينبغي التمادي فيها.(116/15)
حكم وسم الدابة في وجهها
السؤال
قبيلتنا يسمون دوابهم في أسفل الوجه، وقد عرفوا بين القبائل بذلك، ويصعب تغييره في الوقت الحالي فما حكم هذا الفعل؟ وهل يدخل ذلك في اللعن الوارد؟
الجواب
هذا حرام ولا يجوز، فالنبي قال: (لا تسموا الدواب في وجوهها، لعن الله من وسم الدابة في وجهها)؛ وذلك لأن الوجه رقيق، وهو مجمع المحاسن، فلا ينبغي الوسم في الوجه، وحتى الضرب لا تضرب البهيمة في وجهها، ولا الآدمي في وجهه، وكذلك الرأس، لكن يكون الوسم في الأذن أو في الظهر أو في اليد، ويحرم الوجه، وهو من كبائر الذنوب، وعلى هؤلاء أن يتوبوا إلى الله عز وجل وألا يسموا الدواب في وجوهها، وإنما يسموها في ظهرها أو في يدها أو في أذنها وما أشبه ذلك.(116/16)
المقصود بقول الله تعالى: (ينفقون أموالهم في سبيل الله)
السؤال
قوله جل وعلا: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:261]، هل المقصود في سبيل الله الجهاد فقط أم جميع أعمال الخير؟
الجواب
الظاهر أنه في الجهاد، وسياق الآية يدل على الجهاد، وأما أعمال الخير فلها وجه، لكن هذا في الجهاد، فالنفقة في الجهاد تضاعف إلى سبعمائة ضعف، {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261]، وأما غير الجهاد فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها، أي: على حسب الأعمال، لكن الآية سياقها في الجهاد، وكذلك والآية التي بعدها: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة:262].(116/17)
حكم دعاء النبي بقول: (يا مولاي)
السؤال
هل تصح مناداة الله جل وعلا في الدعاء بقوله: يا مولاي؟
الجواب
نعم، قال تعالى: {هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، فهو المولى سبحانه، وهو نعم النصير.(116/18)
حكم من نطق بالشهادتين ولم يصل
السؤال
هل الذي يشهد الشهادتين لكنه لا يصلي مخلد في النار؟
الجواب
الصواب أن ترك الصلاة ناقض من نواقض الإسلام وهو كفر وردة، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله ثم سب الله وسب الرسول بطلت الشهادة، وكذلك إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ثم استهزأ بالله وبرسوله بطلت، وإذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ثم أنكر وجوب الصلاة بطلت، كذلك إذا ترك الصلاة فتركها ناقض من نواقض الإسلام، وهذا هو الصواب؛ لأن النصوص دلت على أن الصلاة شرط في صحة الإيمان، وشرط في صحة الشهادة، فالذي يفعل ناقضاً لا تنفعه الشهادة، نسأل الله السلامة والعافية، هذا هو الصواب.
وقال بعض العلماء: إذا لم ينكر وجوبها يكون كفره كفراً أصغر، ويكون إيمانه ضعيفاً، فلا تلزمه الشهادة، والصواب الذي دلت عليه النصوص، والذي أجمع عليه الصحابة ونقل الإجماع عبد الله بن شقيق العقيلي، وإسحاق بن راهويه، وابن حزم أن ترك الصلاة كفر وردة ولو لم ينكر وجوبها، وعلى هذا فيكون ترك الصلاة ناقضاً تنتقض به الشهادة، نسأل الله السلامة والعافية.
وفق الله الجميع، ورزق الله الجميع.(116/19)