بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث أبي معشر عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق)].
فقوله: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، لأن قبلة المدينة جنوب، فإذا كانت قبلة المدينة جنوباً فستكون القبلة ما بين المشرق والمغرب، أما في نجد فالقبلة ما بين الشمال والجنوب، والقبلة في اليمن جهة الشمال وهكذا؛ ولهذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تستقبلوا القبلة بالبول أو الغائط ولكن شرقوا أو غربوا).
ونحن الآن لا نغرب في نجد ولكنا نجنب أو نشرق لقضاء الحاجة؛ لأنا إذا غربنا استقبلنا القبلة؛ ولهذا تجد بعض الناس يشددون بالبوصلة أو بالرقم أو كذا، فالانحراف اليسير لا يقبل ما دام أنه في الجهة المخالفة إلا إذا استقبل القبلة إلى جهة أخرى غير هذه الجهة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وله مناسبة ها هنا، وقد أخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي معشر واسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني به (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وقال الترمذي: وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه، ثم قال الترمذي حدثني الحسن بن بكر المروزي أخبرنا المعلى بن منصور أخبرنا عبد الله بن جعفر المخرمي عن عثمان بن محمد بن المغيرة الأخنس عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وحكي عن البخاري أنه قال: هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح].
وعبد الله بن جعفر هو المخرمي والمخزومي كما قال في التقريب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الترمذي: وقد روي عن غير واحد من الصحابة (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، منهم عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة].
يعني: إذا كنت في المدينة فجعلت المشرق عن يسارك والمغرب عن يمينك صارت القبلة أمامك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال ابن مردويه: حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن أخبرنا يعقوب بن يوسف مولى بني هاشم أخبرنا شعيب بن أيوب أخبرنا ابن نمير عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وقد رواه الدارقطني والبيهقي: وقال: المشهور عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قوله].
أي: موقوف على عمر رضي الله عنه، وعبد الله بن عمر بالتكبير ضعيف، أما عبيد الله بن عمر فهو ثقة، وكلاهما يروي عن نافع.(51/3)
بيان معنى قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: ويحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم].
أي: أن هذه الآية نزلت في الدعاء وهي محتملة كما قال ابن جرير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما حدثنا القاسم أخبرنا الحسين حدثني حجاج قال: قال ابن جريج قال مجاهد لما نزلت {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
قالوا إلى أين؟ فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، قال ابن جرير: ومعنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115]، يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال، وأما قوله {عَلِيمٌ} [البقرة:115]، فإنه يعني: عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه بل هو بجميعها عليم].
والصواب: أن هذه الأقوال كلها محتملة، فقد تكون نزلت في النافلة أو أنها نزلت في المؤمنين لما توجهوا إلى بيت المقدس، أو أنها نزلت في الدعاء، فقد تكون لها عدة أسباب والله أعلم.(51/4)
تفسير سورة الكهف [1 - 8]
سورة الكهف من السور العظيمة التي ورد في فضلها أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تناولت هذه السورة في مطلعها حمداً لله على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة، وأول هذه النعم إنزال القرآن الكريم، ثم جاءت بتسلية النبي صلى الله عليه وسلم بعد حزنه على عدم إيمان الكفار برسالته، وبشرت المؤمنين به وأنذرت الكفار المعاندين له والذين افتروا على الله ونسبوا إليه الولد سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.(52/1)
فضل سورة الكهف والعشر الآيات من أولها وآخرها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [سورة الكهف مكية وآياتها عشر ومائة.
ذكر ما ورد في فضلها والعشر الآيات من أولها وآخرها، وأنها عصمة من الدجال.
قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة عن أبي إسحاق , قال: سمعت البراء يقول: (قرأ رجل الكهف وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ فلان، فإنها السكينة تنزل عند القرآن، أو تنزلت للقرآن) أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به، وهذا الرجل الذي كان يتلوها هو أسيد بن الحضير كما تقدم في تفسير سورة البقرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أخبرنا همام بن يحيى عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال) رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث قتادة به، ولفظ الترمذي: (من حفظ ثلاث آيات من أول الكهف) وقال: حسن صحيح.
(طريق أخرى) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن قتادة سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن معدان عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال) ورواه مسلم أيضاً والنسائي من حديث قتادة به، وفي لفظ النسائي: (من قرأ عشر آيات من الكهف) فذكره].
هذه الأحاديث فيها فضل سورة الكهف، فهي تبين أن لها فضلاً عظيماً، فالحديث الأول: (لما قرأ الصحابي سورة الكهف وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قال له النبي تلك السكينة تنزلت للقرآن) , والسكينة هي الملائكة, وقيل غير ذلك, وثبت في صحيح مسلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم, أنه قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة, وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) فهذا فضل عام في قراء ة القرآن والاجتماع عليه وتدارسه وتفهم معانيه، فهؤلاء تنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة وتحفهم الملائكة ويذكرهم الله فيمن عنده، وفي الأحاديث التي بعده فضل قراءة عشر آيات من أول سورة الكهف وآخرها, فمن حفظها وتدبرها وتأمل معانيها ووثق بوعد الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم, فإنه يحصل على فضل عظيم, وأنها عصمة من الدجال , والدجال يخرج في آخر الزمان يدعي الصلاح أولاً ثم يدعي النبوة, ثم يدعي الربوبية, ويقول للناس: أنا ربكم الأعلى, ومعه خوارق عظيمة يأتي ومعه جنة ونار، ويقطع رجلاً بالسيف ويسلط عليه ولا يسلط على أحد بعده, ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت, ويمكث في الأرض أربعين يوماً، يوماً طوله كسنة ويوماً كشهر ويوماً كجمعة, وبقية أيامه كسائر أيامنا, هو فتنة عظيمة حتى إنا أمرنا في كل صلاة أن نستعيذ بالله من فتنة المسيح الدجال , وجاء في صحيح مسلم: (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أو خلق أكبر من الدجال).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(حديث آخر) - وقد رواه النسائي في اليوم والليلة عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد عن شعبة عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف فإنها عصمة له من الدجال) فيحتمل أن سالماً سمعه من ثوبان ومن أبي الدرداء.
وقال أحمد: حدثنا حسين حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان بن فايد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نوراً من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نوراً ما بين السماء والأرض) انفرد به أحمد ولم يخرجوه] هذا الحديث ضعيف، في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف، وفيه زبان بن فايد وهو أيضاً ضعيف، وأخرجه الإمام أحمد وانفرد به، ولم يخرجه أصحاب الكتب الستة, والأحاديث الثابتة هي التي سبق ذكرها، ومنها (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال) , أما هذا الحديث أنه يكون له نور من قدمه إلى عنان السماء فهذا ضعيف.
قال: [وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بإسناد له غريب عن خالد بن سعيد بن أبي مريم عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين) وهذا الحديث في رفعه نظر، وأحسن أحواله الوقف].
يعني: هذا الحديث موقوف على ابن عمر ولا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا روى الإمام سعيد بن منصور في سننه عن هشيم بن بشير عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق) هكذا وقع موقوفاً، وكذا رواه الثوري عن أبي هاشم به من حديث أبي سعيد الخدري، وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي بكر محمد بن المؤمل حدثنا الفضيل بن محمد الشعراني حدثنا نعيم بن حماد حدثنا هشيم حدثنا أبو هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين) ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه عن الحاكم، ثم قال البيهقي: ورواه يحيى بن كثير عن شعبة عن أبي هاشم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الكهف كما نزلت كانت له نوراً يوم القيامة) وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي من حديث عبد الله بن مصعب عن منظور بن زيد بن خالد الجهني عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي مرفوعاً: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة وإن خرج الدجال عصم منه).
هذه الأحاديث كما سبق فيها فضل هذه سورة الكهف، وفيها فضل حفظ عشر آيات من أولها ومن آخرها, وأنها عصمة من الدجال لمن تدبرها وتأملها وقرأها عن تصديق وإيمان.(52/2)
تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا)
قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:1 - 5].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة، ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتاباً مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم واضحاً بيناً جلياً نذيراً للكافرين، بشيراً للمؤمنين، ولهذا قال: ((وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً)) أي: لم يجعل فيه اعوجاجاً ولا ميلاً بل جعله معتدلاً مستقيماً ولهذا قال: (قَيِّمًا) أي: مستقيماً، ((لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ)) أي: لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به، ينذره بأساً شديداً: عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الأخرى، ((مِنْ لَدُنْهُ)) أي: من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد، ((وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: بهذا القرآن، الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح، ((أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا)) أي: مثوبة عند الله جميلة، {مَاكِثِينَ فِيهِ} في ثوابهم عند الله، وهو الجنة خالدين فيه ((أَبَدًا)) دائماً لا زوال له ولا انقضاء.
وقوله: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} قال ابن إسحاق: وهم مشركو العرب في قولهم: نحن نعبد الملائكة وهم بنات الله، {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي: بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه، {وَلا لِآبَائِهِمْ} أي: لأسلافهم، ((كَبُرَتْ كَلِمَةً)) نصب على التمييز تقديره: كبرت كلمتهم هذه كلمة، وقيل: على التعجب تقديره: أعظم بكلمتهم كلمة، كما تقول: أكرم بزيد رجلاً، قاله بعض البصريين، وقرأ ذلك بعض قراء مكة: كبرت كلمة، كما يقال: عظم قولك وكبر شأنك، والمعنى على قراءة الجمهور أظهر، فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم].
قوله: (كلمة) إما تمييز وإما تعجب, كما تقول: أكرم بزيد على التعجب، أما التمييز فالتقدير: كبرت كلمتهم هذه كلمة، على التنوين المنصوب وهي قراءة حفص، وهي أيضاً قراءة الجمهور، وقرأ بعض قراء مكة: كبرت كلمةٌ بالرفع كما يقال: عظم قولك وكبر شأنك، والمعنى على قراءة الجمهور أظهر، فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظاماً لإفكهم وافترائهم.
قال: [ولهذا قال: ((كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ)) أي: ليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، ولهذا قال: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}].
يعني: هذه الآيات الكريمة من أول سورة الكهف افتتحها سبحانه وتعالى بالحمد, فقال: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً)) والحمد: هو الثناء على المحمود بصفاته الجميلة، مع حبه وإجلاله وتعظيمه, فإذا خلا الحمد عن الحب صار مدحاً, والفرق بين المدح والثناء أن كلاً منهما فيه ثناء على المحمود.
إذاً: إذا كان الثناء مع حب وإجلال وتعظيم سمي حمداً، وإن خلا من الحب والإجلال والتعظيم سمي مدحاً, والحمد أيضاً يكون على الصفات والأفعال الاختيارية التي يفعلها الإنسان باختياره يقال له: حمد، أما الثناء على الصفات التي لا اختيار للإنسان فيها يسمى مدحاً، ولا يسمى حمداً, كالجمال، فأنت تمدح إنساناً بجمال، فالجمال لا صنع له فيه، فهذا لا يسمى حمداً وإنما يسمى مدحاً, وبخلاف ما إذا أثنيت على إنسان بخلقه وإحسانه للناس فهذا يسمى حمداً؛ لأنه ثناء على أفعاله التي يعملها باختياره مع حبه، ولهذا جاء في حق الرب: الحمد لله؛ لأنه ثناء على أفعاله الاختيارية مع حبه وإجلاله وتعظيمه.(52/3)
الفوائد المستنبطة من الآيات الأولى من سورة الكهف
يستفاد من الآية عدة فوائد: الأولى: أن جميع المحامد ملك لله مستحقه له.
الثانية: أن الله سبحانه وتعالى هو أعرف المعارف، والله هو المألوه المستحق للعبادة، وهو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين, وأنه مستحق لجميع العبادة وإفراده بها دون ما سواه, واسم الله مستلزم لجميع صفات الكمال, واسم الله لا يسمى به غيره, وأسماء الله مشتقة، كل اسم يثبت الاسم لله، فالله مشتق من الألوهية, والرحمن مستلزم صفة الرحمة، والعليم لصفة العلم, والقدير لصفة القدرة, والحليم لصفة الحلم وهكذا.
والإله هو المألوه الذي تألهه في القلوب محبة وإجلالاً وتعظيماً وخشية ورغبة ورهبة, فاسم الله فيه إثبات الألوهية لله, وهو مستلزم لجميع صفات الكمال، وكل عمل يراد به غير وجه الله فهو باطل, وكل محبوب سوى الله فهو محبوب بالباطل, وعبادة غيره وحب غيره تجلب الفساد، كما قال سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22].
الفائدة الثالثة من الآية: أن القرآن الكريم منزل من عند الله عز وجل، وأن الله تكلم به بحرف يقرأ وبصوت يسمع، ولهذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] فالله تعالى أنزل القرآن على عبده وهو محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبرائيل , وتكلم سبحانه بالقرآن وسمعه جبرائيل من الله بحرف وصوت, فألقاه جبريل على قلب محمد, كما قال سبحانه وتعالى في الآيات الأخرى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193 - 194] فهذه الآيات فيها الرد على المعتزلة الذين يقولون: إن القرآن مخلوق , لأن الله أخبر أنه منزل, فالقرآن منزل غير مخلوق, ومن قال: القرآن مخلوق فهو كافر, كما قال العلماء، كالإمام أحمد وغيره, وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} فيه أن القرآن منزل غير مخلوق, وكما فيه الرد على المعتزلة، فإن فيه الرد على الأشاعرة الذين يقولون: القرآن ليس بحرف ولا صوت, وإنما هو معنى قائم بنفس الرب, والأشاعرة يقولون: القرآن غير منزل، وليس في المصاحف كلام الله , ولو داسه شخص بقدميه فليس فيه كتاب الله، أعوذ بالله؛ لأن كلام الله عندهم معنى قائم بنفسه، ويقولون: إن جبريل اضطره الله ففهم معنى قائماً بنفسه، فعبر بهذا القرآن, وهذا هو القول الأول للأشاعرة.
القول الثاني للأشاعرة: أن الذي عبر به محمد صلى الله عليه وسلم, والقول الثالث للأشاعرة: أن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ، والله تعالى لم يتكلم بكلمة وليس بحرف.
نقول: قوله: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ)) فيه الرد على المعتزلة والأشاعرة؛ لأن القرآن منزل على النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله, كما قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [النحل:102].
فهذه الآية التي في أول سورة الكهف وما بعدها فيها أن القرآن منزل غير مخلوق.
وفيها إثبات العلو لله عز وجل, لأن القرآن منزل، والتنزيل يكون من الأعلى إلى الأسفل.
وفيها أن الله سبحانه وتعالى محمود على كل حال عند فواتح الأمور وخواتمها، وله الحمد في الأولى وفي الآخرة.
وفيها أن الله محمود على إنزال الكتاب العظيم؛ لأنه أعظم نعمة أنعم بها على الخلق, حيث أخرجهم به من الظلمات إلى النور.
وفيها أن الكتاب قيم لا اعوجاج فيه ولا زيغ, بل هو واضح جلي يهدي إلى الصراط المستقيم, ولهذا قال سبحانه {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا} [الكهف:1 - 2] فكتاب الله قيم لا زيغ فيه ولا اعوجاج، بل هو واضح بين يهدي إلى الصراط المستقيم.
وفيها أن القرآن إنذار وبشارة، فهو إنذار للكافرين وبشارة للمؤمنين, ولهذا قال: {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} [الكهف:2] فالقرآن إنذار للكافرين وتبشير للمؤمنين.
وفيها أن المؤمنين هم الذين يعملون الصالحات.
وفيها إثبات الثواب على الأعمال, وأن المؤمن يجازى على أعماله بالثواب, والكافر يجازى على عمله بالعقاب.
وفيها أن القرآن إنذار للذين قالوا: اتخذ الله ولداً.
وفيها أن هذه الكلمة وهي قوله: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة:116] من أعظم الكفر والضلال، ولهذا بين الله تعالى أن هذا القرآن إنذار لمن قال: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة:116].
وفيها أن قائل هذه الكلمة لا مستند له ولا دليل، وإنما هو الافتراء والكذب, ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:4 - 5].
فهذه فوائد كلها مستنبط من الآيات.(52/4)
سبب نزول سورة الكهف
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة فقال: حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس، قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالوا لهم سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنهم قد كان لهم حديث عجيب؟ وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم، فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبركم غداً عما سألتم عنه) ولم يستثن، فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غداً، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله عز وجل {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85] الآية].(52/5)
تفسير قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم)
قال الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:6 - 8].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مسلياً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في حزنه على المشركين، لتركهم الإيمان وبعدهم عنه, كما قال تعالى {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] وقال: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر:88] وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3].
باخع أي: مهلكن نفسك بحزنك عليهم، ولهذا قال: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ)) يعني: القرآن، (أسفا) يقول: لا تهلك نفسك أسفاً.
قال قتادة: قاتل نفسك غضباً وحزناً عليهم، وقال مجاهد: جزعاً, والمعنى متقارب، أي: لا تأسف عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات].
يقول تعالى في هذه الآية: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] المراد بالحديث في هذه الآية القرآن، ففيها عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم, وفيها تسلية له، حتى تخفف من حزنه, قال تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] وقال: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] وقال: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26] وقال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] فالله تعالى يسلي نبيه ويصبره ويعتني به، لشدة شفقته صلى الله عليه وسلم وحرصه على هدايتهم, حتى إنه من حرصه عليه الصلاة والسلام وحزنه على عدم إيمانهم يكاد يقتل نفسه، ولهذا قال سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] وقال: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] وقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] وذلك لما توفي عمه أبو طالب ومات على الشرك سلاه بهذه الآية، وهنا قال له سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6].(52/6)
حقيقة الدنيا ومآلها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا داراً فانية، مزينة بزينة زائلة، وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار، فقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7] قال قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)، ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها وفراغها وانقضائها وذهابها وخرابها، فقال تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:8] أي: وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار، فنجعل كل شيء عليها هالكاً صعيداً جرزاً لا ينبت ولا ينتفع به، كما قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} يقول: يهلك كل شيء عليها ويبيد.
وقال مجاهد: صعيداً جرزاً بلقعاً، وقال قتادة: الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات، وقال ابن زيد: الصعيد الأرض التي ليس فيها شيء، ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [السجدة:27].
وقال محمد بن إسحاق: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:8] يعني: الأرض، وأن ما عليها لفان وبائد، وأن المرجع لإلى الله، فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى] قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7] هذه الآية الكريمة فيها دليل على أن الله تعالى جعل مع الأرض زينة لها للابتلاء والامتحان لعباده أيهم أحسن عملاً, وفيه أنما على الأرض فان وزائل، وأن الدنيا دار ممر لا دار قرار، والله جعل ما عليها من زينة ابتلاءً وامتحاناً، فكل ما عليها زائل, وسيضمحل ولا يبقى, ولهذا قال: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:8] والصعيد هو الذي لم يكن فيه شيء لا نبات ولا غيره، والجرز الأرض التي لا تنبت، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} [السجدة:27] يعني: أن الأرض الميتة يسوق الله إليها الماء فتنبت.
وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7] كما قال سبحانه وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2] يعني: الله تعالى جعل في هذه الدنيا زينة؛ ليبلو الناس أيهم أحسن عملاً، فمنهم من ينخدع بالدنيا وزينتها وزخرفها ويفضلها على الآخرة , ومنهم من يعصمه الله فلا يغتر بالدنيا.(52/7)
ما جاء في تفسير الخازن عند قوله تعالى: (الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب)
وجاء في تفسير الخازن عند هذه الآية أنه قال: (قوله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1] أثنى الله سبحانه وتعالى على نفسه بإنعامه على خلقه وعلم عباده كيف يثنون عليه ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي الإسلام وما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم, من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم، وخص رسوله صلى الله عليه وسلم بالذكر لأن إنزال القرآن كان نعمة عليه على لخصوص وعلى سائر الناس على العموم).
فمن الفوائد التي تستنبط من قوله تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ)) أن نزول القرآن نعمة على عبده محمد على الخصوص ونعمة على العباد على العموم؛ لأن الله شرفه بإنزال هذا الكتاب عليه فهو تشريف له وهو نعمة على العباد جميعاً لأن الله أخرجهم به من الظلمات إلى النور.
قال: (وقوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1] أي شيئاً من العوج والعوج قط في المعاني كالعوج في الأعيان).
يعني: العوج يكون في المعاني ويكون في الأعيان التي هي الذوات، فالإنسان قد يكون عنده اعوجاج في رجليه أو في يديه فهذا عوج في الأعيان، والمعاني إذا كانت غير سليمة صارت فيها اعوجاج وإذا كانت مستقيمة لا يكون فيها اعوجاج، فالاعوجاج يكون في الذوات والأعيان ويكون في المعاني.
قال: (والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه).
أي: لا اختلاف في هذا القرآن ولا تناقض في معانيه بل هو يصدق بعضه بعضاً.
قال: (وقيل معناه لم يجعله مخلوقاً، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28] قال غير مخلوق).
((قَيِّمًا)) أي: مستقيماً، وقال ابن عباس عدلاً، وقيل: قيماً على الكتب كلها مصدقاً لها وناسخاً لشرائعها, ((لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا)) معناه: لينذر الذين كفروا بأساً شديداً, وهو قوله سبحانه وتعالى: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165]، ((مِنْ لَدُنْهُ)) أي: من عنده، {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف:2] يعني: الجنة ((مَاكِثِينَ فِيهِ)) أي: مقيمين فيه أبداً {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4] {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} [الكهف:5] أي: بالولد وباتخاذه، يعني: أن قولهم لم يصدر عن علم بل عن جهل فقط، فإن قلت: اتخاذ الله ولداً في نفسه محال، فكيف قيل: ما لهم به من علم؟ قلت: انتفاء العلم قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه وقد يكون في نفسه محالاً لا يستقيم تعلق العلم به).
يعني هنا: إن القائلين بهذا ليس لهم علم لجهلهم أو لأن هذا الأمر لا يتعلق به العلم لاستحالته.
قال: (وقوله: ((وَلا لِآبَائِهِمْ)) [الكهف:5] أي: ولا لأسلافهم من قبل، ((كَبُرَتْ)) أي: عظمت {كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] أي: هذا القول الذي يقولونه لا تحكم به عقولهم ولا فكرهم البتة، ((إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا))، ثم قال: (وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف:6] أي: قاتل نفسك، ((عَلَى آثَارِهِمْ)) أي: من بعدهم، {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} [الكهف:6] يعني: القرآن ((أَسَفًا)) حزناً، وقيل: غيظاً {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف:7] أي: مما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها، وقيل: يعني النبات والشجر والأنهار، وقيل: أراد بها الرجال خاصة، وقيل: أراد به العلماء والصلحاء, وقيل: جميع ما في الأرض هو زينة لها، فإن قلت: أي زينة في الحياة والعقارب والشياطين؟ قلت: زينتها كونها تدل على وحدانية الله وكمال قدرته، وقيل: إن جميع ما في الأرض ثلاثة: معدن ونبات وحيوان، وأشرف أنواع الحيوان الإنسان، قيل: الأولى ألا يدخل في هذه الزينة المكلف، بدليل قوله تعالى: ((لِنَبْلُوَهُمْ)) فمن يبلو يجب ألا يدخل في ذلك ومعنى (لنبلوهم) نختبرهم، ((أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)) أي: أصلح عملاً، وقيل: أيهم أترك للدنيا وأزهد فيها {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا} [الكهف:8] أي: من الزينة {صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:8] يعني: مثل الأرض لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء.(52/8)
تفسير سورة الكهف [9 - 17]
من أحسن القصص التي ذكرها الله في القرآن قصة أهل الكهف، فهي ذكرى وعظة لكل من آمن بربه وسلك طريق الدعوة إليه، وقد بشر الله سبحانه أنه سيحسن عاقبته ويحفظه ويحفظ له دينه.(53/1)
تفسير قوله تعالى: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً)
قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:9 - 12].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار، ثم بسطها بعد ذلك فقال: ((أَمْ حسبت)) يعني: يا محمد ((أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا)) أي: ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا؛ فإن خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى، وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيئ أعجب من أخبار أصحاب الكهف، كما قال ابن جريج عن مجاهد: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.
وقال العوفي: عن ابن عباس {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
وقال محمد بن إسحاق: ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم، وأما الكهف فهو الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون، وأما الرقيم فقال العوفي: عن ابن عباس: هو وادٍ قريب من أيلة، وكذا قال عطية العوفي وقتادة.
وقال الضحاك: أما الكهف فهو غار الوادي، والرقيم اسم الوادي وقال مجاهد: الرقيم كتاب بنيانهم ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم].
الرقيم هو لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم، ثم وضع على باب الكهف، وكان من الرصاص، وقيل: من حجارة، وعن ابن عباس: أن الرقيم اسم الوادي الذي فيه أصحاب الكهف، وقال كعب الأحبار: هو اسم للقرية التي خرج منها أصحاب الكهف، وقيل: اسم الجبل الذي فيه أصحاب الكهف، أو هو اسم للوح الذي كتب فيه أسماؤهم، أو اسم للوادي، أو اسم الجبل القريب، والأقرب أن الرقيم هو الكتاب قال تعالى: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:9] مرقوم يعني: مكتوب يكتب فيه.
إذاً: الرقيم هو الشيء الذي يكتب فيه، هذا هو الأقرب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، رضي الله عنهما في قوله: ((الرقيم)) كان يزعم كعب أنها القرية، وقال ابن جريج عن ابن عباس: الرقيم الجبل الذي فيه الكهف، وقال ابن إسحاق: عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: اسم ذلك الجبل بنجلوس، وقال ابن جريج: أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي أن اسم جبل الكهف بنجلوس، واسم الكهف حيزم، والكلب حمران].
اسم الكلب واسم الجبل والبنيان كل هذه الأشياء لا يترتب عليها كبير فائدة، وهي من أخبار بني إسرائيل، وليس عليها دليل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: القرآن أعلمه إلا حناناً والأواه والرقيم.
وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: ما أدري ما الرقيم كتاب أم بنيان.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الرقيم الكتاب وقال سعيد بن جبير: الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف، ثم وضعوه على باب الكهف.
وقال عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم: الرقيم الكتاب، ثم قرأ: ((كتاب مرقوم)) وهذا هو الظاهر من الآية، وهو اختيار ابن جرير، قال: الرقيم فعيل بمعنى مرقوم، كما يقال للمقتول: قتيل، وللمجروح جريح والله أعلم.(53/2)
تفسير قوله تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10] يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم، لئلا يفتنوهم عنه، فهربوا منهم فلجئوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم: ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً)) أي: هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا، ((وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)) أي: وقدر لنا من أمرنا رشداً هذا، أي: اجعل عاقبتنا رشداً، كما جاء في الحديث: (وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشدا)، وفي المسند من حديث بسر بن أرطأة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي النار وعذاب الآخرة)].
هذا حديث مشهور، لم يذكر المؤلف سنده.(53/3)
تفسير قوله تعالى: (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11] أي: ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف، فناموا سنين كثيرة].
هذه الآيات فيها أن هؤلاء الفتية فروا بدينهم من الفتن، وهذا له أصل في شريعتنا, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن) قال العلماء: إن هذا يكون عند فساد الزمان وخلو المدن والقرى من العلم والخير، بحيث لا يكون فيها جمعة ولا جماعة ولا نصيحة، فحينئذ يفر المسلم من الفتن، يفر بدينه إلى البوادي والصحاري ويتبع بغنمه شعف الجبال، وإلا فلا يجوز الفرار إلى البوادي، وترك الجمعة والجماعة؛ لأنه قد جاء الوعيد الشديد لمن رجع أعرابياً بعد أن كان من أهل المدينة أو القرية كما جاء في الحديث.
إذاً: فالمقصود أن التعرب والسكن في البادية لا يجوز إلا عند خلو المدن والقرى من الخير، بحيث لا يكون فيها جمعة ولا جماعة ولا أمر ولا نهي، وخاف الإنسان على نفسه، فله أن يفر بدينه من الفتن، وهؤلاء الفتية أصحاب الكهف فروا بدينهم؛ لئلا يفتنهم قومهم، فقد أرادوهم على الشرك ففروا بدينهم، فأووا إلى الكهف، وهؤلاء الفتية شباب فروا بدينهم، وولجئوا إلى الله عز وجل وسألوه أن يهيئ لهم من أمرهم رشداً، فجعلهم آية وعبرة.(53/4)
تفسير قوله تعالى: (ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً)
قال الله تعالى: [{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف:12].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: من رقدتهم تلك، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاماً يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله، ولهذا قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} [الكهف:12] أي: المختلفين فيهم، {أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:12] قيل: عدداً، وقيل: غاية، فإن الأمد الغاية كقوله: سبق الجواد إذا استولى على الأمد].
الأمد يطلق على العدد، كأن حزبين اختلفا في مدتهم، فالله تعالى قص عليهما قصة أصحاب الكهف، فقال: أي الحزبين موافق للصواب.(53/5)
تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك نبأهم بالحق)
قال الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13] ذكر الله تعالى قصة أصحاب الكهف مختصرة ثم هاهو يذكرها مفصلة فقال: {نحن نقص عليك أحسن القصص} [الكهف:13]، وهذا أسلوب بلاغي معروف في اللغة العربية، وهو أن يذكر الشيء مختصراً مجملاً ثم يفصل بعد ذلك، فالله تعالى أجملها ثم فصلها، قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13] فهنا بدأ في التفصيل، بعد أن ذكرها مجملة فقال: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:9 - 12] ثم فصلها سبحانه بعد ذلك فقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [من هاهنا شرع في بسط القصة وشرحها، فذكر الله تعالى أنهم فتية وهم الشباب، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل.
وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً].
يعني: أن الشباب هم أقبل للحق من غيرهم، أما الشيوخ الكبار الذين شاخوا على معتقداتهم مثل: شيوخ الرافضة وشيوخ البهائية والبابية وغيرهم فيثبتون على عقائدهم الفاسدة، وإنما الذي يتأثر منهم بالحق هم الشباب، وكذلك أيضاً الدعوات الهدامة يقبلها في الغالب الشباب، أما الشيوخ الكبار الذين تربوا على الحق وشابوا لا يقبلونها، فالشباب هم المحك، وهم عماد الأمة، وهم الذين تبني عليهم الأمم الآمال، وهم عماد المستقبل، والشباب سريعو التأثر، فأصحاب الكهف فتية كانوا شباباً آمنوا بربهم، ثبتهم الله لما آمنوا، وزادهم هدى، وهذا فيه أن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا قال تعالى: ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)).
إذاً: الشباب هم أقبل للدعوات، للحق وللباطل من غيرهم، وهؤلاء الشباب أصحاب الكهف لما آمنوا واستجابوا وانقادوا أثابهم الله وزادهم هدى، وربط على قلوبهم وثبتهم، وهؤلاء الشباب لجئوا إلى الله وتضرعوا إليه ودعوه أن يهيئ لهم من أمره رشداً، فعلى المؤمن أن يفعل الأسباب ويلجأ إلى الله عز وجل، ويجاهد نفسه على العمل الصالح، ويضرع إلى الله أن يثبت قلبه، وإلا يزيغ قلبه بعد أن هداه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة.
يعني الحلق، فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم فآمنوا بربهم أي اعترفوا له بالوحدانية، وشهدوا أنه لا إله إلا هو {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كـ البخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله وأنه يزيد وينقص، ولهذا قال تعالى: ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)) كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] وقال {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك].
يعني: الآيات الدالة على أن الإيمان يزيد وينقص كثيرة، وكذلك النصوص في أن الكفر يزيد وينقص، من ذلك قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:125] فالإيمان يزيد وينقص والكفر أيضاً يزيد وينقص، هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، خلاف أهل البدع الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وإيمان أهل السماء وإيمان أهل الأرض واحد، والتفاوت بينهم بالأعمال، وهذا باطل؛ لأن النصوص في أن الإيمان يزيد وينقص كثيرة منها قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] وقوله: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] فالإيمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم، فالله أعلم، والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية، فإنهم لو كانوا على دين النصرانية لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم لمباينتهم لهم]؟ يعني: يقول: إن هؤلاء لم يكونوا في زمن المسيح أو قبله؛ لأن أحبار اليهود اعتنوا بحفظ خبر هؤلاء الفتية، ولو كانوا في زمن المسيح لما اعترفوا بهم؛ للعداوة التي بينهم وبين النصارى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد تقدم عن ابن عباس: أن قريشاً بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة، يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء، وعن خبر ذي القرنين، وعن الروح، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب، وأنه متقدم على دين النصرانية والله أعلم].(53/6)
تفسير قوله تعالى: (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض)
قال الله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14].
قال المؤلف رحمه الله: [يقول تعالى: وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة، فإنه ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوماً في بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له: دقيانوس، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم، عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا الله الذي خلق السماوات والأرض، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز منهم، ويتبرز عنهم ناحية، فكان أول من جلس منهم وحده أحدهم، جلس تحت ظل شجرة فجاء الآخر فجلس إليها عنده، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم، وجاء الآخر وجاء الآخر، ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان.
كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري تعليقاً من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقولون: الجنسية علة الضم، والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو عليه عن أصحابه خوفاً منهم، ولا يدري أنهم مثله حتى قال أحدهم: تعلمون والله يا قوم إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلا شيء، فليظهر كل واحد منكم بأمره، فقال آخر: أما أنا فإني والله رأيت ما قومي عليه فعرفت أنه باطل، وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وقال الآخر: وأنا والله وقع لي كذلك، وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة، فصاروا يداً واحدة، وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبداً يعبدون الله فيه، فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه، فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عز وجل، ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا)) و (لن) لنفي التأبيد، أي: لا يقع منا هذا أبداً؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلاً، ولهذا قال عنهم: ((لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)) أي: باطلاً وكذباً وبهتاناً].(53/7)
تفسير قوله تعالى: (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة)
قال تعالى: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك، فيقال: إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا من لطف الله بهم، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه، والفرار بدينهم من الفتنة].
يعني: استدل المؤلف الحافظ ابن كثير رحمه الله على أن أصحاب الكهف الذين فروا بدينهم من قومهم لم يتعارفوا، وإنما جمعهم الإيمان، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) وأن أرواحهم ائتلفت بعضها ببعض، ولهذا هرب كل واحد من قومه واجتمعوا في مكان واحد، ثم بعد ذلك أظهر كل واحد منهم ما عنده.
فهذا سبب في انضمام بعضهم إلى بعض، فهم اجتمعوا وأبدوا ما عندهم، ثم بعد ذلك اجتمعوا في مكان يعبدون الله؛ فعلم بهم هذا الملك -ملكهم الظالم- فدعاهم، فجاءوا ودعوه إلى الله وإلى توحيده وإخلاص الدين له، فأبى عليهم وهددهم وتوعدهم، وبينوا له صحة التوحيد ووجوبه، وأن الشرك باطل وأظلم الظلم.
ولهذا قالوا له: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15].
وقالوا: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14]؛ ولهذا يستفاد من قصة أصحاب الكهف صحة التوحيد وبطلان الشرك، فهذا من أعظم الفوائد.
فأصحاب الكهف دعوا مكلهم إلى توحيد الله عز وجل، قال سبحانه وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:13 - 14].
وقبل هذه الآيات قال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، الكهف: هو الغار في الجبل، والرقيم: هو الكتاب المرقوم الذي كتبت فيه قصتهم.
يقول سبحانه وتعالى: إن قصة أصحاب الكهف والرقيم ليس عجيباً في سلطاننا وقدرتنا؛ فخلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسيير الشمس والقمر والنجوم أعجب من ذلك: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9].
ومن فوائد هذه القصة: أن من أسلوب القرآن البلاغي الإجمال ثم التفصيل؛ فإن الله تعالى أجمل قصة أصحاب الكهف ثم فصلها، فهذا أسلوب بلاغي معروف في اللغة العربية، والقرآن في الأسلوب البلاغي وصل إلى درجة عالية، فهو حجة في الأسلوب البلاغي؛ ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى أجمل قصة أصحاب الكهف ثم فصلها.
وبين سبحانه وتعالى أن أصحاب الكهف دعوا إلى توحيد الله عز وجل، وأظهروا التوحيد ودعوا إليه، وبينوا بطلان الشرك، ولهذا قال سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:13 - 14].
فيه: أن الله تعالى من عليهم وهداهم.
وفيه: أن الشباب أقرب إلى الحق من الشيوخ الذين نشئوا على الشرك والباطل، فالشباب في الغالب هم الذين يقبلون الحق، أما الشيوخ الذين نشئوا على الشرك وشاخوا عليه ففي الغالب أنهم لا يتزحزحون.
وفيه: منة الله سبحانه وتعالى على أصحاب الكهف، حيث قال سبحانه: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ))، حيث ثبتهم على التوحيد والإيمان مع شدة الفتنة، وتركوا زينة الدنيا ومظاهرها والترف، وكان قومهم أصحاب ترف.
وكذلك أنهم أبناء ملوك، ومع ذلك ثبتهم الله على التوحيد وهداهم، وربط على قلوبهم، ففارقوا قومهم وفارقوا ما هم فيه من الترف ورغد العيش، وثبتوا على التوحيد والإيمان، ودعوا قومهم إلى التوحيد وناظروهم وبينوا لهم بطلان الشرك.
ولهذا أخبر الله عنهم، فقال: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14] يعني: قولاً باطلاً.
قوله: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الكهف:15] هذا فيه دليل على أن قومهم كانوا على الشرك، {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:15]، يعني: هلا أتوا عليهم بسلطان، ولا يوجد سلطان ولا دليل على الشرك، فالشرك واضح، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15].
وفي هذه القصة: إثبات النبوة لنبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أخبر عن هذه القصة وهي وقعت في الدهر الأول، ولا يعلم هذا إلا من الوحي، ولهذا استدل بذلك اليهود على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فهم سألوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين، وقالوا: لا يعلم بهذا إلا نبي، فكان هذا دليلاً على نبوته عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا دليل على إثبات البعث والمعاد، فإن الله تعالى أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ثم أيقظهم بعد ذلك.
وفيه دليل على أن اليقظة بعد النوم تسمى بعثاً، ولهذا قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} [الكهف:12]، فاليقظة بعد النوم: بعث، والنوم في الليل: وفاة صغرى، ولهذا قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:12].
وقال سبحانه وتعالى في آية سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام:60]، فسمى النوم بالليل وفاة، وسمى اليقظة بالنهار بعثاً.
فهذه القصة فيها هذه الفوائد العظيمة: صحة التوحيد ووجوبه، وبطلان الشرك، وإثبات النبوة، وإثبات البعث والمعاد.
أما قول المؤلف: (إن لن للنفي المؤبد المستقبلي) فهي لنفي المستقبل، لكنها لا تدل على التأبيد على الصحيح، ولهذا أخبر الله عن الكفار أنهم لن يتمنوه، قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95]، ثم أخبر في آية أخرى أنهم تمنوه في النار، قالوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، فلو كانت للتأبيد لما تمنوا الموت.
ولهذا يقول ابن مالك رحمه الله في ألفيته: ومن رأى النفي بلن مؤبداً فقوله اردد وسواه فاعضدا أي: قوله مردود وضعيف، والصواب: أن لن ليست للتأبيد، وإنما هي للنفي في المستقبل، لكنها لا تدل على التأبيد حتى ولو قيدت للتأبيد، كما قيدها الله في قوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95]؛ لأنها لو كانت للتأبيد لما أجاز تحديد الفعل بعدها في قول الله تعالى عن إخوة يوسف: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80].
((فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ)) ثم جاء تحديدها بقوله: ((حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي)) فليست للتأبيد؛ لأنه حدد الفعل بعد لن.
حتى لو قيدت للتأبيد فلا تدل على دوام النفي في الآخرة، قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95]، ثم أخبر أنهم تمنوا الموت في النار، فقال الله عنهم: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] وهذا تمنٍ للموت.
المعتزلة يقولون: إن الله تعالى لا يُرى في الآخرة، واستدلوا بقول الله تعالى عن موسى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، قالوا: لن تفيد النفي المؤبد.
فبين العلماء أنها لا تدل على النفي المؤبد، وإنما ((لَنْ تَرَانِي)) المراد لن تراني في الدنيا؛ لأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفر العبد منهم خوفاً على دينه، كما جاء في الحديث: (يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)، ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ولا تشرع فيما عداها؛ لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع].
نعم هذا هو المشروع للمسلم أن يبقى في المدن والقرى يشهد الجمعة والجماعة والدعوة إلى الله وحلق الذكر والتعليم.
فالمدن والقرى إذا كان فيها خير فلا يجوز للإنسان أن يخرج إلى البراري ويتعرب، ويكون في البادية، بل إن التعرب جاء النهي عنه، التعرب والسكنى في الصحراء والبادية منهي عنه، وهو من المعاصي؛ لأن التعرب والسكنى في الصحراء يفوت الجمع والجماعات، ويفوت سماع الذكر والخير، ولو لم يفت عليه إلا الجمعة وسماع الخطبة التي هي موعظة الأسبوع، وكذلك الجماعة لما فيها من الخير، وكذلك سماع النصائح.
ولهذا فإن الأعراب أخبر الله عنهم بقوله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيم(53/8)
تفسير قوله تعالى: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف:16] أي: وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضًا بأبدانكم، {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16] أي: يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ} [الكهف:16] أي: الذي أنتم فيه، {مِرفَقًا} [الكهف:16] أي: أمرًا ترتفقون به، فعند ذلك خرجوا هرباً إلى الكهف، فأووا إليه، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وتطلبهم الملك فيقال: إنه لم يظفر بهم، وعمى الله عليه خبرهم، كما فعل بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق، حين لجآ إلى غار ثور، وجاء المشركون من قريش في الطلب، فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه، وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال: (يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)، وقد قال تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]].
وهذه معية خاصة، فمعية الله للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، هي معية خاصة عند أهل العلم، وهي معية نصر وتأييد وتوفيق وتسديد.
وهناك معية أخرى تسمى المعية العامة، فهذه المعية تحصل لكل أحد، وهي عامة للمؤمن والكافر، ومقتضاها الاطلاع والإحاطة والمحاسبة والمجازاة، أما المعية الخاصة فهي معية نصر وتأييد، ومقتضاها الحفظ والكلاءة والنصرة والتأييد.
فالمؤمن له المعيتان: المعية العامة والمعية الخاصة، والله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] وقال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] هذه معية خاصة.
وينفرد الكافر بالمعية العامة، فالمعية العامة من مقتضاها الإحاطة والاطلاع، وتأتي في سياق المحاسبة والمجازاة والتخويف، والمعية الخاصة مقتضاها النصر والتأييد والحفظ والكلاءة، وتأتي في سياق المدح والثناء.
فالمؤمن تجتمع في حقه المعيتان، والكافر له المعية العامة، فالعامة للمؤمن والكافر، والمعية الخاصة خاصة بالمؤمن.
والمعية مقتضاها المصاحبة ولا تقتضي الاختلاط والامتزاج كما قد يفهمه بعض أهل الزيغ والضلال، فهو سبحانه وتعالى مع كل أحد باطلاعه وعلمه وإحاطته ومحاسبته ومجازاته، ومع المؤمنين بنصره وتأييده وهو فوق العرش سبحانه وتعالى، لا يخفى عليه خافية.
فإن العرب تقول: مازلنا نسير والقمر معنا، مازلنا نسير والنجم معنا، والقمر فوقهم، فهذه معية تقتضي المصاحبة.
ولها معانٍ متعددة منها: أن يكون الإنسان ذاته مع الشخص، فيقول: أنا معك يعني: بذاته.
ومن معانيها: أن يكون معهم بقوته، فيقول: اذهب وأنا معك، يعني: بقوتي، ويقول الملك: اذهب وأنا معك، يقصد الجيش معه بالقوة وهو في مكانه.
ومن معانيها: أن يكون معه بالمال كأن يقول: اذهب وأنا معك يعني: بمالي، وتقول العرب: فلان وزوجته معه، وقد تكون هي في المشرق وهو في المغرب، فهذه المعية لا تقتضي المماسة ولا المحاذاة.
ويطلع الإنسان على الصبي وهو يبكي أسفل ويكون في الدور الثاني أو الثالث، فيقول للطفل: أنا معك، فيسكت الطفل، فهذه معية.
وبالمناسبة الأحناف يقولون: لو تزوج مشرقي من مغربية يعني: رجل في المشرق تزوج امرأة في المغرب، ثم أتت منه بولد في ستة أشهر، ألحقنا الولد به ولو لم يستطع الاتصال، وكان في ذلك الوقت يصعب الاتصال بين الناس بالمشرق والمغرب.
ولهذا بقية بن مخلد سافر من الأندلس في المغرب إلى المشرق في العراق إلى الإمام أحمد خلال سنتين وهو في الطريق، يريد أن يطلب الحديث عنه فلما جاء وجده مفتوناً بخلق القرآن فدق عليه الباب، وقال: إنني جئت لأطلب الحديث، فأخبره أنه مفتون، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أسافر مدة سنتين ومفتون! فأمره بأن يأتيه كل يوم على شكل شحات، يأتي ويملي عليه الحديث أو الحديثين.
فالاتصال من المشرق إلى المغرب في ذلك الوقت شبه مستحيل، والمواصلات صعبة ومع ذلك يقول الأحناف: نلحق به الولد؛ حفظاً للأنساب ولجواز أن يكون من أهل الخطوة، يعني: الكرامة، من أنه جاء واستغفل بها، وإلا ما يمكن؛ لأن المدة طويلة يقطعها من المشرق إلى المغرب.
لكن الآن المواصلات سهلة، ففي نصف يوم يأتي من المشرق إلى المغرب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف].
أي قصة الغار الذي اختفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر لما طلبهم قريش لا شك أنه أشرف وأعلى وأفضل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل: إن قومهم ظفروا بهم ووقفوا على باب الغار الذي دخلوه، فقالوا: ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم، فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم ففعلوا ذلك، وفي هذا نظر.
والله أعلم.
فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشياً، كما قال تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17].
فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال؛ لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ((ذَاتَ الْيَمِينِ)) أي: يتقلص الفيء يمنة كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: ((تَزَاوَرُ)) أي: تميل؛ وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان، ولهذا قال: {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:17] أي: تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية المشرق فدل على صحة ما قلناه، وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب، وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة لما دخله منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً؛ ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب فتعين ما ذكرناه ولله الحمد].
وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه على أصحاب الكهف؛ وذلك أنهم لجئوا إلى الله وسألوه أن يلطف بهم وأن يجعل عاقبتهم رشداً، قال تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]، فيه اللجوء إلى الله والضراعة إليه عند الملمات والشدائد.
فأصحاب الكهف لجئوا إلى الله وتضرعوا إليه، وسألوه أن يلطف بهم ويرحمهم، وأن يجعل عاقبتهم رشداً، فلطف بهم سبحانه وتعالى، وحفظهم من قومهم، وأراحهم وجعلهم آية وعبرة في هذا الكهف، حيث أنامهم هذه المدة الطويلة، ومن فضله سبحانه وتعالى وإحسانه إليهم أن جعل باب الغار جهة الشمال حتى لا تحرقهم الشمس، إذ لو كانوا في الشرق أو الغرب لأحرقت الشمس أبدانهم، ولكن لما كانوا جهة الشمال صارت الشمس تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال.
وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه إليهم، حيث حفظ أبدانهم عن الفساد وجعلهم آية، وحفظهم من قومهم لئلا يفتنوهم في دينهم.
فكان من نعمة الله تعالى على هؤلاء المؤمنين أن قبل دعاءهم لما فعلوا الأسباب وفروا بدينهم، ولجئوا إلى الله وتضرعوا إليه وسألوه أن يلطف بهم، وأن يجعل عاقبتهم رشداً.
فهم فعلوا الأسباب حين فروا بدينهم من قومهم، وبذلوا ما يستطيعون من الأسباب بعد أن دعوا قومهم إلى الله وبينوا ما هم عليه من الشرك والباطل، لذلك فإن الله تعالى حفظهم، وحفظ دينهم وأبدانهم، وجعلهم عبرة وآية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: (تقرضهم) تتركهم، وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره، ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض، إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي، وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالاً، فتقدم عن ابن عباس أنه قال: هو قريب من أيلة، وقال ابن إسحاق: هو عند نينوى، وقيل: ببلاد الروم، وقيل: ببلاد البلقاء، والله أعلم بأي بلاد الله هو].
وهذه الأقوال كلها لا دليل عليها، كونه من أيلة، أو بنينوى في العراق، أو بلاد البلقاء، أيضاً كذلك في الشام، أو في بلاد الروم، فكل هذه الأقوال تخمين لا دليل عليها.
ولا يترتب على معرفة المكان فائدة، ولو كان يترتب عليه فائدة لبينه الله لنا، إنما الفائدة في قصتهم وما جرى لهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت شيئاً يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به) فأعلمنا تعالى بصفته ولم يعلمنا بمكانه فقال: {وَتَرَى الشَّم(53/9)
تفسير سورة الكهف [18 - 21]
من أعظم الدلالات على قدرة الله ووحدانيته وإحيائه للموتى وبعثه لمن في القبور ما حكاه سبحانه لنا عن أصحاب الكهف، حيث ناموا بأمر الله ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً، ثم بعثهم الله ليكونوا عبرة لمن خلفهم وآية على أن الله يحيي الموتى ويبعث من في القبور.(54/1)
تفسير قوله تعالى (وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود)
قال الله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها].
يعني: بقيت أعينهم مفتوحة، وهذا من حفظ الله لهم، {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18]، فإذا جاء أحد ودخل الغار وجد أعينهم مفتوحة أصابه الرعب وخاف؛ لأنه يرى أنهم أيقاظ بينما هم في الحقيقة نائمون، ولهذا حفظهم الله هذه المدة، فناموا ثلاثمائة سنة بالسنة الشمسية، وثلاثمائة وتسع سنين بالسنة القمرية؛ لأن السنة القمرية تزيد على السنة الشمسية في كل مائة ثلاث سنوات، وفي كل مائتي سنة ست سنوات، وفي كل ثلاثمائة سنة تسع سنوات.
ولهذا قال سبحانه: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} [الكهف:25] يعني: بالسنة الشمسية، {وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25] بالسنة القمرية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها، ولهذا قال تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18]، وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عيناً ويفتح عيناً ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد كما قال الشاعر: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم].
هذا الذئب، وهو معروف بشدة الحذر، إحدى العينين تنام والأخرى مفتوحة، ثم تنام الأخرى وتفتح الثانية.
ينام بإحدى مقلتيه قوله: الرزايا في البيت معروف، وقيل: المنايا، ولعله رواية له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:18] قال بعض السلف: يقلبون في العام مرتين، قال ابن عباس: لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض.
وقوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18] قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: الوصيد الفناء، وقال ابن عباس: بالباب، وقيل: بالصعيد وهو التراب، والصحيح أنه بالفناء وهو الباب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ} [الهمزة:8] أي: مطبقة مغلقة، ويقال: وصيد وأصيد].
يعني: إن الكلب أصابه ما أصابهم من نوم، نام مثلهم في الباب، باسط ذراعيه في باب الغار، فالكلب أصابه ما أصابهم.
وهذا من حفظ الله لهم أن جعل أعينهم مفتوحة؛ حتى تأتي عليها الريح، ويقلبون ذات اليمين وذات الشمال حتى لا تأكلهم الأرض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب].
فالكلب ربض على الباب وأصابه ما أصابهم.
والإيصاد: هو الإغلاق، قال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ} [الهمزة:8] يعني: مغلقة مطبقة، والوصيد: الباب، فيغلق عليهم الباب حراسة، فالكلب بسط ذراعيه بالباب؛ فأصابه ما أصابهم، ونام معهم هذه المدة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج: يحرس عليهم الباب، وهذا من سجيته وطبيعته، حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم، وكان جلوسه خارج الباب؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب -كما ورد في الصحيح- ولا صورة ولا جنب ولا كافر كما ورد به الحديث الحسن].
لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة، ثبت في الحديث أن جبرائيل واعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي يوماً فتأخر؛ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بعد ذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (تأخرت، فقال: إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، وكان في الحجرة ستر فيه تمثال، فقال جبرائيل: مر بالتمثال فيقطع، فيكون قطعتين -ووجد جرواً وهو كلب صغير للحسن - وأمر بجرو الكلب فيخرج؛ فأخرج فدخل جبرائيل).
التمثال: صورة في ستر أو خرقة يستر بها الباب؛ فقطعت الصورة وأخرج الجرو فدخل جبرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [شملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذا فائدة صحبة الأخيار فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن].
هذه فوائد صحبة الأخيار، حيث استفاد الكلب، وهو الآن معروف أنه من أخس الحيوانات، ومع ذلك لما صاحب الأخيار صار له شأن وذكر، فذكر معهم في القرآن وأصابه ما أصابهم، فمصاحبة الأخيار فيها خير، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن صحبة الأخيار فيها فائدة عظيمة، حيث قال: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة)، يعني: هو مستفيد على كل حال، إما أن يعطيك، وإما أن يبيع عليك، وإما أن يعلق فيك رائحة طيبة، كذلك الجليس الصالح: إما أن يأمرك بالخير، وإما أن ينهاك عن الشر، وإما أن يدعوك إلى الخير ويحضك عليه، فأنت مستفيد.
قال صلى الله عليه وسلم: (وجليس السوء كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً كريهة)، فكذلك جليس السوء إما أن يزهدك من الخير أو يرغبك في الشر، فأنت متضرر على كل حال.
فهذا الكلب لما صاحب الأخيار صار له ذكر وأصابه ما أصابهم، كما أن الكلب المعلم لما تعلم صار له ميزة بالعلم، وصار يصيد بالتعليم، وله حكم يختلف عن بقية الكلاب.
فأباح النبي صلى الله عليه وسلم صيد الكلب المعلم، قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل)، وقال تعالى: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4]، فالكلاب صار لها شرف بالعلم، فهذا يدل على شرف العلم، حتى الكلاب إذا تعلمت صار لها شرف ومزية على غيرها.
جاء في الصحيح: (أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ).
وهذا لا شك أن فيه رخصة على أن للجنب إذا توضأ له أن ينام، لكن الحديث في السنن، ليس فيه جنب، فيحتاج إلى تأمل في صحته، أما حديث: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب) فهذا صحيح ثابت.
أما: (ولا جنب ولا كافر) فيحتاج إلى تأمل ونظر في صحة الحديث.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل: إنه كان كلب صيد لأحدهم وهو الأشبه وقيل: كلب طباخ الملك وقد كان وافقهم على الدين وصحبه كلبه فالله أعلم، وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة همام بن الوليد الدمشقي: سمعت الحسن البصري يقول: كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام جرير، واسم هدهد سليمان عنقز، واسم كلب أصحاب الكهف، قطمير، واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه بهموت، وهبط آدم عليه السلام بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدست بيسان، والحية بأصفهان، وقد تقدم عن شعيب الجبائي أنه سماه حمران].
والجبائي سماه حمران يعني: كلبهم، وكل هذه من أخبار بني إسرائيل ما عليها دليل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها، ولا طائل تحتها، ولا دليل عليها، ولا حاجة إليها، بل هي مما ينهى عنه، فإن مستندها رجم بالغيب].
صدق رحمه الله، ما عليها دليل ولا يترتب عليها شيء.
ولا يهمنا اسمه حمران أو غير ذلك، المهم القصة وما فيها من العبرة والفوائد، أما كون الاسم حمران أو غير حمران أو عنقز أو غير ذلك كل هذا من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18] أي: أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر؛ لئلا يدنو منهم أحد، ولا تمسهم يد حتى يبلغ الكتاب أجله وتنقضي رقدتهم التي شاء الله تبارك وتعالى فيهم؛ لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة].
فمن حفظ الله لهم أنه لا يدنو منهم أحد إلا أصابه الرعب؛ حتى لا يمسهم أحد، وحتى تنتهي الرقدة التي قدر الله أنهم ينامونها لما له في ذلك من الحكمة.
وفي هذا دليل على البعث، فهو من أوضح الأدلة على البعث بعد الموت, وكان المشركون ينكرون البعث بعد الموت، فالذي أنامهم هذه المدة الطويلة ثم أحياهم قادر على البعث.
فالله أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وهي مدة طويلة، ولما استيقظوا ظنوا أنه يوم واحد.
قال بعضهم: {كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف:19]، قال بعضهم: لبثنا يوماً، وبعضهم قال: نصف يوم؛ لأنهم لما ناموا في أول النهار استقيظوا في آخره فظنوا أنه هذا اليوم الأول وقد مضى عليهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ولا شك أن هذا من الأدلة على قدرة الله تعالى على البعث، والله تعالى لا يعجزه شيء، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].(54/2)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم)
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:19 - 20].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئاً؛ وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ولهذا تساءلوا بينهم: ((كَمْ لَبِثْتُمْ)) أي: كم رقدتم؟ ((قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ))؛ لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول النهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار؛ ولهذا استدركوا فقالوا: ((أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ)) أي: الله أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم فالله أعلم.
ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ)) أي: فضتكم هذه؛ وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها، فتصدقوا منها، وبقي منها، فلهذا قالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ)) أي: مدينتكم التي خرجتم منها والألف واللام للعهد.
((فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)) أي: أطيب طعاماً؛ كقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]، ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره، وقيل: أكثر طعاماً، ومنه زكا الزرع إذا كثر قال الشاعر: قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة والسبع أزكى من ثلاث وأطيب والصحيح الأول؛ لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال سواء كان كثيراً أو قليلاً.
فأزكى طعاماً في اللفظ، أي: أطيب طعاماً.
قال بعضهم: أكثر، والصواب: أن المراد الطعام الطيب الحلال، وليس المراد الكثرة.
وهذا من حكمة الله تعالى، فقد أحسوا بالجوع لما استيقظوا، فأرسلوا واحداً منهم يشتري طعاماً حتى يطلع الناس عليهم، ويعلموا خبرهم، فلما ذهب وجد المدينة تغيرت والناس قد تغيروا، وكذلك أيضاً العملة تغيرت، فاستغربوا لما أعطاهم العملة ووقد مضى عليها ثلاثمائة وتسع سنين! فالعملة قد تغيرت، وتغيرت البلاد ومن عليها، وتغير الناس والملوك؛ فظنوا أن ملكهم الأول ما زال باقياً، فخافوا منه.
قوله: ((كَمْ لَبِثْتُمْ))؟ قال بعضهم: ((لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ))، فهم يتكلمون فيما بينهم.
وفيه: أنه يجب على الإنسان أن يكل العلم إلى الله في الشيء الذي لا يعلمه.
وفيه: أن اليقظة بعد النوم تسمى بعثاً، والوفاة بالليل تسمى الموتة الصغرى، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} [الأنعام:60].
فالنوم في الليل وفاة صغرى، واليقظة بعد ذلك حياة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (يتلطف) أي: في خروجه وذهابه، وشرائه وإيابه، يقولون: وليختف كل ما يقدر عليه ((وَلا يُشْعِرَنَّ)) أي: ولا يعلمن ((بِكُمْ أَحَدًا))، ((إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ)) أي: إن علموا بمكانكم ((يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ)) يعنون أصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم فلا يزالوا يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، فإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة.
ولهذا قال: ((وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا))].
يعني: أنهم أرسلوا واحداً منهم ليشتري الطعام، وقالوا: اختف عن الناس، وظنوا أن ملكهم باقٍ، فقالوا: اختف واشتر بخفية وائت لئلا يطلع عليك؛ لأنهم إن اطلعوا علينا وعرفوا مكاننا: إما أن يفتنونا عن ديننا وإما أن يرجمونا، وإذا فتنونا في ديننا ووافقناهم هلكنا أبد الدهر.
ولا يلزم من هذا أنهم يؤاخذون بالإكراه يعني: قد يفتنوهم في دينهم من شدة الفتنة يوافقونهم، فقد يكره الإنسان ثم يوافق بعد ذلك.
ولهذا قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، قال العلماء: إلا من فعل الكفر متعمداً فهذا يكفر، ومن فعل الكفر هازلاً يكفر، ومن فعل الكفر خائفاً يكفر، ومن فعل الكفر مكرهاً واطمأن قلبه بالكفر يكفر، ومن فعل الكفر واطمأن قلبه بالإيمان لا يكفر.
فإذاً: قد يكره الإنسان ثم بعد ذلك يطمئن قلبه بالكفر والعياذ بالله نسأل الله السلامة والعافية.
فهذه خمس حالات أربع حالات منها يكفر فيها، ولا يكفر إذا فعل الكفر مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان.
فهذا هو الاطمئنان، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106].
فهذه خمس حالات، الإنسان في الحالات الأربع يكفر، وفي الحالة الأخيرة لا يكفر، وهي: ما إذا أكره واطمأن قلبه بالإيمان، نسأل الله السلامة والعافية.(54/3)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق)
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي: أطلعنا عليهم الناس ((لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا)) ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة، وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك].
وهذا قول الفلاسفة يقولون: تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، وهذا كفر وضلال بإجماع المسلمين، فمن قال: إن الجسد لا يبعث فهو كافر بإجماع المسلمين ونص القرآن.
قال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7] أمر الله نبيه أن يقسم ويحلف على القيامة والساعة في ثلاثة مواضع من كتابه العزيز، هذا الموضع الأول في سورة التغابن.
الموضع الثاني في سورة يونس: قال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس:53] يعني: البعث بعد الموت، {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53] أمره أن يحلف ((قُلْ إِي وَرَبِّي)).
الموضع الثالث في سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3].
فهذه المواضع الثلاثة أمر الله نبيه فيها أن يقسم على الساعة والبعث.
فمن أنكر بعث الأجساد فهو كافر بإجماع المسلمين، والفلاسفة ينكرون البعث، كـ ابن سينا، وبعض الناس يقولون: إنه الفيلسوف الإسلامي، واغتر به بعض الصحفيين والمذيعين فقالوا: الفيلسوف الإسلامي، وهو كافر ملحد أنكر البعث.
ويقول عن نفسه كما نقل ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان: أنا وأبي من دعوة الحاكم العبيدي، والحاكم العبيدي رافضي خبيث لا يؤمن بالله، ولا ملائكته، ولا كتبه، ولا رسله، ولا اليوم الآخر، ولا القدر، نسأل الله السلامة والعافية! وهو الذي حاول أن يقرب الفلسفة من دين الإسلام؛ لأن ابن سينا يسمى المعلم، ولو سميت باسمه المدارس ومستشفيات فهو ملحد، وهو طبيب أيضاً له كتاب: القانون في الطب، لكنه ملحد حاول أن يجمع بين الفلسفة والإسلام، فـ أرسطو وهو المعلم الأول للفلاسفة المتأخرين، ثم أبو نصر الفارابي المعلم الثاني، ثم المعلم الثالث أبو علي ابن سينا حاول أن يقرب الفلسفة من دين الإسلام، لكنه في محاولته الشديدة لم تصل إلى ما وصلت إليه الجهمية الغالية في التجهم، فالجهمية الغالية في التجهم أشد وأصح مذهباً من مذهب ابن سينا.
فالفلاسفة ينكرون بعث الأجساد ويقولون: البعث إنما هو للأرواح، والذي فتح لهم الباب الجهم بن صفوان؛ لأن الجهم بن صفوان قال: إن هذه الأجساد إذا بليت لا تبعث، وإنما تبعث أجساد أخرى.
فـ الجهم يقول: هذه الأجسام تستحيل تراباً ولا تبعث، وإنما تبعث أجساد أخرى، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن معناه: تبعث أجساد أخرى ما عصت الله وتكون في النار والعياذ بالله! وهذا معناه أن يوصف الله تعالى بالظلم.
فهذه الأجساد -الذرات- التي استحالت يعيدها الله، فالإنسان يبلى إلا عجب الذنب، وهو آخر فقرة في العمود الفقري، فهذا لا تأكله الأرض وإنما يبقى، فمنه خلق ابن آدم كما في الحديث: (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم، ومنه يركب) ويعيد الله الذرات التي استحالت تراباً كما أخبر الله سبحانه.
قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79] فهو سبحانه عليم بالذرات التي استحالت فيعيدها، حتى ولو استحالت تراباً، ولو أكل الإنسان السباع، وأكلت السباع سباع أخرى، أو أكلته الحوت وأكل الحوت حوت آخر، أو صارت المقبرة في مزرعة وزرعت.
فالله تعالى يعيد الذرات التي استحالت خلقاً جديداً، نفس الذوات هي هي! ولكن تبدل الصفات، فينشأ الناس تنشئة قوية يتحملون فيها الوقوف يوم القيامة هذه المدة الطويلة، ويتحملون فيها رؤية الله عز وجل، فالصفات هي التي تبدل.
وكذلك الأرض قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ والسَّمَوَات} [إبراهيم:48]، تبديل صفات لا تبديل ذوات، وبين الله هذه الحكمة من اطلاع الناس على أهل الكهف: ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها، ليعلموا أن وعد الله حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وكأن أهل ذلك الزمان شكُّوا في البعث وفي القيامة، فأطلع الله عليهم أهل الكهف؛ ليعلموا أن وعد الله حق، وليعلموا صحة البعث، فالذي أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين ثم أيقظهم قادر على أن يبعث الإنسان بعد موته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء شيء لهم ليأكلوه تنكر وخرج يمشي في غير الجادة حتى انتهى إلى المدينة، وذكروا أن اسمها دقسوس وهو يظن أنه قريب العهد بها، وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وتغيرت البلاد ومن عليها، كما قال الشاعر: أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجاله فجعل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها، ولا يعرف أحداً من أهلها لا خواصها ولا عوامها؛ فجعل يتحير في نفسه ويقول: لعل بي جنوناً أو مساً أو أنا حالم، ويقول: والله ما بي شيء من ذلك، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة].
يعني: أنهم دخلوا عند طلوع الشمس واستيقظوا عند غروبها، فظنوا أنه يوم واحد، كيف تغيرت الدار في يوم واحد؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام فدفع إليه ما معه من النفقة وسأله أن يبيعه بها طعاماً، فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها، فدفعها إلى جاره وجعلوا يتداولونها بينهم، ويقولون: لعل هذا وجد كنزاً فسألوه عن أمره، وهو من أين له هذه النفقة؟ لعله وجدها من كنز وممن أنت؟! فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس؛ فنسبوه إلى الجنون فحملوه إلى ولي أمرهم، فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره وهو متحير في حاله وما هو فيه، فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف -ملك البلد وأهلها- حتى انتهى بهم إلى الكهف فقال لهم: دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي، فدخل، فيقال: إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه، وأخفى الله عليهم خبرهم، ويقال: بل دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم وكان مسلماً فيما قيل، واسمه يندوسيس؛ ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم ودعوه وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم وتوفاهم الله عز وجل.
فالله أعلم.
قال قتادة: غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة فمروا بكهف في بلاد الروم فرأوا فيه عظاماً، فقال قائل: هذه عظام أهل الكهف، فقال ابن عباس: لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلاثمائة سنة، رواه ابن جرير.
وقوله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:21] أي: كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيئاتهم أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف:21] أي: في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم.
{فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف:21] أي: سدوا عليهم باب كهفهم، وذروهم على حالهم.
{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21].
حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: إنهم المسلمون منهم، والثاني: أهل الشرك منهم، فالله أعلم، والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) يحذر ما فعلوا، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده فيها شيء من الملاحم وغيرها] ولا شك أن الذين قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21] فهو مخطئون سواء كانوا مسلمين أو غير ذلك، فإن قيل: إنهم مسلمون فهم عصاة، وإن قيل: إنهم كفار فلا إشكال، لكن إذا كانوا مسلمين فهم عصاة؛ لأن هذا من وسائل الشرك، فبناء المساجد على القبور والجلوس عندها وكتابة الأسماء عليها، ووضع الزهور والرياحين، وبناء القبب، كل هذه من وسائل الشرك.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).
فلعل الذين أمروا بأن يتخذ عليهم مسجداً هم أصحاب الكلمة(54/4)
تفسير سورة الكهف [22 - 26]
الأصل في القصص القرآني أن تؤخذ منه العبرة والفائدة، أما الخوص فيما لا فائدة فيه كعدد أصحاب الكهف وأسمائهم واسم كلبهم فليس هذا من العلم الضروري، ولا ينبغي الخوض فيه بلا علم.(55/1)
تفسير قوله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم)
قال الله تعالى: [{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فحكي ثلاثة أقوال فدل على أنه لا قائل برابع، ولما ضعف القولين الأولين بقوله: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:22] أي: قولاً بلا علم كمن يرميه إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] فدل على صحته وأنه هو الواقع في نفس الأمر.
وقوله: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف:22] إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به وإلا وقفنا].
فهذا هو الواجب على المسلم، فالشيء الذي لا يعرفه يكل علمه إلى الله، وإذا أطلعه الله على شيء قال به وإلا فيتوقف ويقول: الله أعلم.
وكذلك ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أنكر على أناس يتكلمون، وقال: الناس يتكلمون بغير علم؛ من سئل عن شيء لا يعلمه، فليقل: الله أعلم، فإن الله قال لنبيه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86].
وكان الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئلوا أو سألهم قالوا: الله ورسوله أعلم؛ لأنه ينزل عليه الوحي حال حياته وأما بعد موته عليه الصلاة والسلام فيقال: الله أعلم.
بين الله سبحانه وتعالى أن الناس اختلفوا في عدة أصحاب الكهف على ثلاثة أقوال: قيل: ثلاثة والرابع الكلب.
وقيل: خمسة والسادس الكلب.
وقيل: سبعة والثامن الكلب.
أما القولان الأولان: فبين الله بطلانها في قوله {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:22]، يعني: قول لا دليل عليه، كالرامي الذي يرمي بغير قصد فلا يصيب، وإن أصاب فتكون رمية من غير رام، وأما الثالث فسكت عنه، {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22].
فبين سبحانه وتعالى أن الأمثل والأحسن في مثل هذا أن يوكل العلم إلى الله، {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] أي: من الناس.
قال قتادة: قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل كانوا سبعة، وكذا روى ابن جرير عن عطاء الخراساني عنه أنه كان يقول: أنا ممن استثنى الله عز وجل، ويقول عدتهم سبعة.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] قال: أنا من القليل كانوا سبعة، فهذه أسانيد إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة، وهو موافق لما قدمناه.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وضح الورق.
قال ابن عباس: فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله يبكون ويستغيثون بالله وكانوا ثمانية نفر مكسلمينا، وكان أكبرهم، وهو الذي كلم الملك عنهم، ويمليخا ومرطونس وكسطونس وبيرونس ودنيموس ويطبونس وقالوش].
وهذه كلها أسماء أعجمية ولا دليل على صحتها، وكلها من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هكذا وقع في هذه الرواية، ويحتمل أن هذا من كلام ابن إسحاق ومن بينه وبينه، فإن الصحيح عن ابن عباس أنهم كانوا سبعة وهو ظاهر الآية، وقد تقدم عن شعيب الجبائي أن اسم كلبهم حمران، وفي تسميتهم بهذه الأسماء، واسم كلبهم نظر في صحته والله أعلم، فإن غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب وقد قال تعالى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف:22] أي: سهلاً هيناً فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة.
{وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22] أي: فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجماً بالغيب أي: من غير استناد إلى كلام معصوم، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية فيه، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال].
ولا شك أن هذه الأقوال في أسمائهم لا دليل عليها، ولهذا قال الله تعالى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22]، لا تجادل فيهم ولا تستفت منهم أحداً، فإنهم ليس عندهم دليل إلا ما يقولون من تلقاء أنفسهم، والله تعالى جاء نبيه بالحق الواضح الذي لا مرية فيه.(55/2)
تفسير قوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً)
قال الله تعالى: قال الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:23 - 24].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا إرشاد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة -وفي رواية-: تسعين امرأة، وفي رواية: -مائة امرأة- تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له -وفي رواية: قال له الملك-: قل إن شاء الله، فلم يقل فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته، وفي رواية: ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعين).
وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف: (غداً أجيبكم) فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً].
فهذه الآية فيها إرشاد من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم -وهو إرشاد لأمته- ألا يقول لشيء إنه سيفعله في المستقبل إلا أن يشاء الله، فيقيد ذلك بمشيئة الله، ولهذا قال سبحانه: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].
فإذا أراد الإنسان أن يفعل شيئاً أو يقول شيئاً، فإنه يقول: إن شاء الله.
فهذا تقييد بمشيئة الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي بيده الأمر، وهو علام الغيوب، وهو يعلم ما كان في الماضي ويعلم ما يكون في المستقبل، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.
فإن الله سبحانه أخبر أنه يعلم الشيء الذي لا يكون، قال سبحانه وتعالى عن المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47]، فأخبر ماذا سيعملون لو خرجوا؟! وهم ما خرجوا.
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:46 - 47].
فأخبر سبحانه وتعالى عن حالهم لو خرجوا، ماذا سيعملون؟! ومثله قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].
وقال سبحانه عن أهل النار لما طلبوا الإعادة والرجعة إلى الدنيا: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28].
فهذا من علمه سبحانه بما لم يكن لو كان كيف يكون.
وفي قصة سليمان عليه الصلاة والسلام أنه ترك التقييد بالمشيئة، فلم يقل: إن شاء الله، بل قال: (لأطوفن الليلة على سبعين امرأة -وفي رواية-: تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله).
وهذا من عنايته واهتمامه بالجهاد عليه الصلاة والسلام، وفيه دليل على أن الأنبياء أعطاهم الله القوة على جماع تسعين امرأة في ليلة، فهذا شيء عظيم! ونبينا صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في حجة الوداع في وقت واحد عليه الصلاة والسلام، وجاء أيضاً في الحديث في المدينة أنه طاف على نسائه بغسل واحد عليه الصلاة والسلام.
فالأنبياء أعطاهم الله قوة، فمثل هذا لا يستطيع أحد من البشر أن يطوف على تسعين امرأة في ليلة واحدة.
وفيه دليل على أن شريعة بني إسرائيل فيها توسع في النساء، ثم قصر الله هذه الأمة على أربع نسوة، كذلك داود عليه الصلاة والسلام كان عنده عدد كثير من النساء، واليهود يعيبون على المسلمين الآن التعدد، والنصارى يعيبون على المسلمين التعدد إلى أربع نسوة، ويرون الاقتصار على واحدة، وهم في شريعتهم -شريعة بني إسرائيل- يجوز فيها التعدد الكثير، وهذا من ظلمهم وجهلهم! فالمقصود: أن هذه الآية فيها إرشاد من الله سبحانه وتعالى لنبيه وللأمة أن يقيدوا أقوالهم وأفعالهم بالمشيئة، وأن يوكلوا الأمر إلى الله عز وجل، قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، ولكن سليمان عليه الصلاة والسلام لما قال: إنه سيطوف على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً، لم يقل: إن شاء الله، وفي لفظ: أنه نسي، وفي لفظ: أنه قال له صاحبه: قل إن شاء الله؟ فلم يقل، فطاف عليهن، ولم تلد إلا واحدة منهن شق إنسان أي: نصف إنسان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته، ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعين).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف (غداً أجيبكم) فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً.
وقد ذكرناه بطوله في أول السورة فأغنى عن إعادته].
وهذا موجود هذا في أول سورة الكهف لما ذهب كفار قريش وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من اليهود عن ثلاث: عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح فقال: (أخبركم غداً عما سألتم عنه) ولم يستثن، فانصرفوا عنه، فمكث رسول صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، ثم نزل عليه الوحي فأخبره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] قيل معناه: إذا نسيت الاستثناء فاستثن عند ذكرك له، قاله أبو العالية والحسن البصري، وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف قال: له أن يستثني ولو إلى سنة، وكان يقول: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]، في ذلك قيل للأعمش: سمعته عن مجاهد؟ فقال: حدثني به ليث بن أبي سليم يرى ذهب كسائي هذا].
قوله: (وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف له، قال: له أن تستثني ولو إلى سنة، وكان يقول: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]).
هذا قول ضعيف، فالاستثناء لابد يكون متصلاً بالمستثنى منه، فإذا قال: والله لا أكلم زيداً غداً إن شاء الله، فإذا لم يكلمه لم يحنث، لكن إذا قام من مجلسه ثم أراد أن يستثني لا ينفع هذا، فالصواب: أنه لابد أن يكون الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه، أما كونه يستثني بعد سنة على هذه الرواية عن ابن عباس إن صحت، كأن يحلف ألا يدخل بيت فلان، فإذا مرت سنة قال: إن شاء الله! فلن يحنث أحد أبداً، وكل من أراد ألا يحنث قال: إن شاء الله.
وهذا قول ضعيف، ومردود؛ لأنه يلزم من هذا ألا يحنث أحد في يمين.
فالصواب: أنه لابد أن يكون المستثنى متصلاً بالمستثنى منه، فإذا قال: والله لا أكلم زيداً غداً، ثم قال: إن شاء الله لا يحنث، لكن لابد أن يكون متصلاً.
أما إذا قال: والله لا أكلم زيداً، ثم قام من مجلسه، وبعد ساعة أو ساعتين استثنى فلا يفيده هذا الاستثناء.
قوله: (قيل للأعمش: سمعته عن مجاهد؟ قال: حدثني به ليث بن أبي سليم يرى ذهب كسائي هذا).
يعني: ذهب الكسائي إلى هذا القول.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية عن الأعمش به، ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني ولو بعد سنة أي: إذا نسي أن يقول في حلفه أو كلامه: إن شاء لله، وذكر ولو بعد سنة، فالسنة له أن يقول ذلك؛ ليكون آتياً بسنة الاستثناء حتى ولو كان بعد الحنث].
ولو استثنى لكن ما يفيده في كونه لا يحنث لكن يقول: إن شاء الله، تطبيقاً للسنة ومن باب التبرك، وإذا حنث لابد أن يكفر عن يمينه، إلا إذا كان الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه.
فإذا قال: والله لا آكل طعام فلان إن شاء الله، ثم أكل لا يحنث، لكن إذا تأخر الاستثناء وانقطع الكلام أو قام من مجلسه ثم استثنى يحنث في يمينه، ولا يفيده في عدم الحنث.
قال المؤلف رحمه الله: [حتى ولو كان بعد الحنث قاله ابن جرير رحمه الله ونص على ذلك، لا أن يكون ذلك رافعاً لحنث اليمين].
وهذا هو الصواب فهو لا يرفع اليمين، ولكنه من باب التبرك باسم الله وفعل السنة ولا يرفع حنث اليمين إلا إذا كان متصلاً بالكلام.
قال المؤلف رحمه الله: [لا أن يكون ذلك رافعاً لحنث اليمين ومسقطاً للكفارة، وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه والله أعلم.
وقال عكرمة: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] إذا غضبت وهذا تفسير باللازم.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا سعيد بن سليمان عن عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن جابر بن زيد عن ابن عباس: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا(55/3)
بيان أن ذكر الله يطرد الشيطان
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويحتمل في الآية وجه آخر وهو: أن يكون الله تعالى قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى؛ لأن النسيان منشؤه من الشيطان، كما قال فتى موسى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63] وذكر الله تعالى يطرد الشيطان، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان، فذكر الله تعالى سبب للتذكر، ولهذا قال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]].
فذكر الله تعالى سبب للتذكر، أو فذكر الله تعالى سبب للذُكر، والذُّكر ضد النسيان.
أما الذكر: الأذكار المعروفة.
هذا المعنى له وجه كما قال الحافظ رحمه الله يعني: إذا نسيت أن تذكر الله؛ لأن النسيان من الشيطان، وذكر الله يطرد الشيطان وإذا طرد الشيطان تذكرت ما نسيته قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]، يعني: إذا نسيت شيئاً اذكر الله؛ لأن الذي أنساك هو الشيطان، وذكر الله يطرد الشيطان، وإذا ذهب الشيطان تذكرت حاجتك، وهذا فهم جيد من الآية.
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:24]، أي: إذا سئلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله فيه وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك، وقيل في تفسيره غير ذلك والله أعلم].
يعني: إذا لم يعلم الإنسان شيئاً فليتوجه إلى الله سبحانه وتعالى ويسأله الرشد في هذا الأمر حتى يوفقه ويعلمه.(55/4)
تفسير قوله تعالى: (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين)
قال الله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:25 - 26].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان, وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين فلهذا قال بعد الثلاثمائة: {وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]].
لأن الفرق بين السنة القمرية والشمسية عشرة أيام تقريباً، فالسنة الشمسية ثلاثمائة وستون يوماً تقريباً، وهي الأصل، ولكن السنة القمرية تنقص في الأشهر، ففي الغالب أن ستة أشهر منها تكون تسعة وعشرين يوماً، وستة أشهر تكون ثلاثين.
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26] أي: إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك, وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:26] أي: لا يعلم ذلك إلا هو ومن أطلعه عليه من خلقه وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كـ مجاهد وغير واحد من السلف والخلف.
وقال قتادة في قوله: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} [الكهف:25]، الآية، هذا قول أهل الكتاب وقد رده الله تعالى بقوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26] قال: وفي قراءة عبد الله: (وقالوا: وَلَبِثُوا) يعني: أنه قاله الناس].
وقراءة عبد الله بن مسعود هذه قراءة شاذة كما قال الحافظ: والقول الأول، وهو أن هذا خبر من الله عن مدة لبثهم، وأنهم لبثوا ثلاثمائة سنين بالسنة الشمسية، وازدادوا تسعاً بالسنة القمرية.
قال المؤلف رحمه الله: [وهكذا قال قتادة ومطرف بن عبد الله، وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير تسع يعنون: بالشمسيةولو كان الله قد حكا قولهم لما قال: {وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25] والظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله، لا حكاية عنهم وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله، ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة ثم هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور فلا يحتج بها والله أعلم].
أي: أن قراءة عبد الله بن مسعود شاذة ومنقطعة ولم يتصل سندها فلا يعول عليها.
والصواب: أن هذا خبر من الله وليس من كلام أهل الكتاب، فتكون الآية فيها قولان: القول الأول: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} [الكهف:25]، أن هذا خبر من الله أخبرناه: كيف لبثوا في نومهم ثلاثمائة سنة بالسنة الشمسية، وازدادوا تسعاً بالسنة القمرية.
والقول الثاني: أن هذا من قول أهل الكتاب، واحتجوا بقراءة عبد الله بن مسعود: (وقالوا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) ولكن هذه القراءة شاذة ومخالفة لقراءة الجمهور، وأيضاً منقطعة؛ فإن قتادة لم يسمع من ابن مسعود.(55/5)
إشكال وجوابه
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يسمع هذا القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد).
يعني: في غير الشيء الذي يجتهد فيه، والقرآن متواتر، وهذا شاذ، لم يثبت عن ابن مسعود، ولو ثبت فيحمل على أنه تفسير واجتهاد منه.
وسند هذه القراءة منقطع.(55/6)
معنى قول الله تعالى: (أبصر به وأسمع)
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف:26]، أي: إنه لبصير بهم سميع لهم.
قال ابن جرير: وذلك في معنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه.
وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكل موجود وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
ثم روي عن قتادة في قوله: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف:26] فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع.
وقال ابن زيد: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف:26]، يرى أعمالهم ويسمع ذلك منهم سميعاً بصيراً].(55/7)
إثبات صفتي السمع والبصر لله
وفيه إثبات السمع والبصر لله عز وجل، وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد, بل يسمع أصواتهم، ولا يخفى عليه شيء من أعمالهم، ويرى حركاتهم من فوق عرشه، وهو سبحانه فوق العرش.
فيرى البعوضة وهي أصغر المخلوقات في سواد الليل، ويرى مخ ساقها سبحانه وتعالى، ولا يخفى عليه شيء، ويسمع الأصوات الخفية.(55/8)
سبب نزول قوله تعالى (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها)
وقد ثبت في سبب نزول قول الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1]، أن المجادلة وهي خولة بنت حكيم جاءت تشكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت وقال: إنها عليه كظهر أمه.
وجاءت تجادل النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: يا رسول الله! إنه ظاهر مني، وإني أشكو إلى الله صبية إن ضممتهم إلي جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا، فقال لها النبي: (ما أراك إلا قد حرمت عليه) وجعلت تكرر ذلك وتقول: أشكو إلى الله صبية إن ضممتهم إلي جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا إنه تزوجني وأنا شابة، حتى إذا نثر بطني وأكل مالي جعلني كظهر أمه فهل تجد لي شيئاً أو كما قالت فقال النبي: (ما أراك إلا حرمت عليه)، وكانت قد جاءت تشتكي إلى الله, وتقول: أشكو إلى الله فأنزل الله هذه الآية: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1] فجاء الفرج.
قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان من وسع سمعه الأصوات، فقد جاءت المجادلة وهي تتكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم وإنه يخفى علي بعض كلامها، وقد سمع الله ذلك من فوق سبع سماوات وأنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] ثم جاء الفرج بالكفارة، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:3] فكفر ثم رجعت إليه زوجته.(55/9)
بيان تفرد الله في حكمه
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26].
أي: أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر, الذي لا معقب لحكمه وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير، تعالى وتقدس].(55/10)
أقسام الحكم
قوله تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26] , يشمل الحكم الكوني القدري, والحكم الشرعي الديني فإنه الحاكم في خلقه قضاء وقدراً وخلقاً وتدبيراً.
والحكم الكوني القدري هو: ما يجري على الإنسان من التقديرات من المصائب والمسرات وغيرهما، فلا أحد يشاركه فيها ولا أحد يمنعه فمثلاً: إذا حكم الله على أحد بالموت فلا أحد يمنعه، وكذلك إذا أعطى الله أحداً نعمة فلا أحد يستطيع منعها عنه وإذا أراد الله بأحد ضراً فلا أحد يستطيع دفعه، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2].
وحكمه الشرعي هو: شريعته التي أنزلها ليحكم بها بين عبادة في الدنيا، وحكمه الجزائي يكون يوم القيامة فيجازي العباد بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
فليس له شريك لا في حكمه الكوني القدري, ولا في حكمه الشرعي, ولا في حكمه الجزائي يوم القيامة.
إذاً: فحكم الله ثلاثة أنواع: حكم كوني، وهو الذي يقدره الله على العباد من سقم ومرض وغنى وصحة وموت وحياة، وهذه الأحكام الكونية القدرية لا أحد يستطيع أن يمنعها، أو أن يشارك الله فيها.
والثاني: الحكم الشرعي، وهو شريعة الله التي أنزلها ليُحكم بها بين عباده، وهي كتاب الله وسنة رسوله.
وحكم الله الشرعي لا يشاركه أحد فيه.
والثالث: الحكم الجزائي، ويكون يوم القيامة، عندما يجازي الله عباده، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ولا أحد يشاركه في ذلك سبحانه وتعالى.
قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: (في قول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف:23]، وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم من ثلاث جهات: الأولى: أنه أجاب على سؤاله، فبين لهم ما سألوه إياه على خلاف عادته في مكابريه.
والثانية: أنه علمه علماً عظيماً من أدب النبوة.
والثالثة: أنه ما علمه ذلك إلا بعد أن أجاب على سؤاله، استئلافاً لنفسه أن لا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه؛ كي لا يتوهم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله، وكذلك شأن تأديب الحبيب المكرم ومثلهما في الصحيح: أن حكيم بن حزام قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى)، إلى آخر الحديث.
وأما في قول الله عز وجل: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ} [الكهف:26]، إلى آخر الآية.
قوله: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، قال: هو رد على زعمهم بأن الله اتخذ آلهتهم شركاء له في ملكه).
والمعروف عن كفار قريش أنهم لم يزعموا أن آلهتهم شريكة لله في الملك وإنما كانوا يعبدونها ويزعمون أنها تشفع لهم عند الله, وأنها تقربهم إلى الله زلفى، ولم يعتقدوا أنها تشارك الله في ملكه كما أخبر الله عنهم بقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، يعني: قائلين.
وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18].
وفي هذه الآية: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، دليل على: أن الله تعالى ليس له شريك في حكمه، لا في حكمه الكوني القدري, ولا في حكمه الشرعي, ولا في حكمه الجزائي.(55/11)
تفسير سورة الكهف [27 - 31]
يدعو الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم -وهو خطاب لجميع أمته- أن يصبر نفسه مع المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.
ثم يخبر الله تعالى عن حال الكافرين في النار وما أعد لهم من العذاب الأليم، ويثني بذكر ما أعد للمتقين من نعيم مقيم في جنة عرضها السماوات والأرض.(56/1)
تفسير قوله تعالى: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك)
قال الله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:27 - 28].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف:27]، أي: لا مغير لها ولا محرف ولا مزيل.
وقوله: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27]، عن مجاهد: {مُلْتَحَدًا} [الكهف:27] قال: ملجئاً.
وعن قتادة: ولياً ولا مولى.
قال ابن جرير: يقول: إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فإنه لا ملجأ لك من الله كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
وقال: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] أي: سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة.
وقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] أي: اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشياً من عباد الله, سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء].(56/2)
سبب نزول قوله تعالى: (واصبر نفسك)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقال: إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه كـ بلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود وليخرج أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك، فقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52] الآية، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء، فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28]، الآية، قال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن إسرائيل عن المقدام بن شريح عن أبيه عن سعد - هو ابن أبي وقاص - قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]).
انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري].(56/3)
بيان تطبيق الرسول العملي لقوله تعالى: (واصبر نفسك)
قال المؤلف رحمه الله: [وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي التياح قال: سمعت أبا الجعد يحدث عن أبي أمامة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قاص يقص فأمسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قص، فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس أحب إلي من أعتق أربع رقاب).
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا هاشم حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت كردوس بن قيس - وكان قاص العامة بالكوفة].
يعني واعظاً يعظ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان قاص العامة بالكوفة يقول: أخبرني رجل من أصحاب بدر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أعتق أربع رقاب)].
يعني في مجلس الوعظ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال شعبة: فقلت: أي مجلس؟ قال: كان قاصاً.
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا محمد حدثنا يزيد بن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أجالس قوماً يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً) فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس فبلغت ستة وتسعين ألفاً وهاهنا من يقول: أربعة من ولد إسماعيل، والله ما قال إلا (ثمانية، دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً).
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم - وهو الكوفي - (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ سورة الكهف، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم)].
يعني: هذا كله في تأويل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] أي: الذين يدعون الله ويذكرونه فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر نفسه معهم وإذا كان هذا في الذين يدعون الله ويذكرونه فمجالس العلم أولى وأفضل، ومجالس الذكرهي: التي يُذكر الله فيها ويسبح ويُهلل ومجالس العلم هي: التي يُقرأ فيها القرآن، ويقرأ فيها العلم ويدرس، ويتعلم فيها الأحكام والحلال والحرام.
فهذا من أفضل المجالس فينبغي للإنسان أن يصبر نفسه فيها وأن يحرص على مجالس الذكر.
وقد ثبت في صحيح البخاري في كتاب العلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه في حلق -والرسول عليه الصلاة والسلام هو أول من جعل حلقاً للعلم- فجاء ثلاثة نفر، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلف الحلقة، وأما الثالث فأدبر ذاهباً فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم حديثه قال: ألا أنبئكم بخبر الثلاثة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أما الأول فأوى فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه).
فلا ينبغي للإنسان أن يكون معرضاً عن حلقات العلم، وعن أن يتعلم فيها الحلال والحرام والأحكام، من الواجب والمحرم والمندوب والمكروه والمباح ومن أن يسمع إلى قال الله وقال رسوله، ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم.
فحلق الذكر ومجالسه والحلقات والدروس العلمية تدخل دخولاً أولياً في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28].
وتعلم العلم أفضل من الذكر المجرد، وأفضل من أن يجلس الإنسان يذكر الله وحده أو يقرأ القرآن وحده إلا إذا تدبر وتأمل فيه؛ لأن هذا ذكر خاص، وهذا نفعه متعدٍ؛ لأن تعلم العلم أفضل العبادات ولهذا قال الإمام أحمد: تعلم العلم لا يعدله شيء.
وقال العلماء: إن تعلم العلم أفضل من نوافل العبادة، فهو أفضل من نوافل الصلاة، ومن نوافل الصيام وغيرهما؛ لأن نوافل الصلاة ونوافل الصيام نفعها قاصر على الشخص, وأما تعلم العلم فنفعه متعد للغير.
والذكر الجماعي ليس له أصل، ولا دليل عليه؛ وإنما كان كل أحد يذكر الله وحده.(56/4)
الأمر بصحبة الأخيار
والآية فيها: الأمر بصحبة الأخيار, ومجاهدة النفس على صحبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء, فإن في صحبتهم من الفوائد مالا يحصى، لأن الجليس الصالح يرغبك في الخير ويحثك عليه ويزهدك في الشر، أما الجليس السوء فإنه يزهدك في الخير ويرغبك في الشر, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة).
يعني: أنك مستفيد منه على كل حال فهو إما أن يرغبك في الخير ويدعوك إليه، أو يزهدك في الشر.
قال صلى الله عليه وسلم: (ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً كريهة) أي: أنك متضرر على كل حال من جليس السوء.
فهو يحسن لك الشر ويزهدك في الخير فأنت متضرر منه على كل حال، ولا شك أن مصاحبة الأخيار ولو كانوا فقراء ولزومهم فيها فوائد عظيمة.
وجملة: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، في موضع الحال ومن قال: إن وجه الله هنا مجاز، وهو كناية على إقباله على العبد كـ الأشعري فقوله غلط فإن الآية فيها: إثبات الوجه لله عز وجل وهي مثل قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] فيها إثبات الوجه وإثبات الذات جميعاً، والصواب: أنه ليس في القرآن مجاز ولا في السنة.
فإن المجاز لم يعرف إلا بعد الأئمة الأربعة، وحتى الأئمة الأربعة لم يتكلموا في المجاز ولم يكن العرب يعرفون المجاز، ولم يعرفه الصحابة، ولا الأئمة الأربعة وإنما تعلق المتأخرون بكلمة قالها الإمام أحمد، عندما قال: المجاز عن كذا.
وهو لا يريد بها المجاز، وإنمان يريد بها جواز الشيء، والمقصود: أن لله وجهاً حقيقياً والذين أولوه هم الأشاعرة وغيرهم من أهل الكلام.
فالآية فيها إثبات الوجه والذات جميعاً كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] والذين ينكرون الصفات أو يتأولونها يقولون: ويبقى ذاته.
وقصدهم من ذلك إنكار الوجه ونفيه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هكذا رواه أبو أحمد عن عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر مرسلاً, وحدثنا يحيى بن المعلى عن منصور حدثنا محمد بن الصلت حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا (جاء رسول الله ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة الكهف فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم).
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر حدثنا ميمون المرئي حدثنا ميمون بن سياه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلا وجهه, إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات).
تفرد به أحمد رحمه الله].
والحديث الأول الذي فيه الرجل الذي يقرأ وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أصبر نفسي مع هذا)، دليل على: أن حلق الذكر والحلق العلمية تدخل في هذه الآية دخولاً أولياً؛ لأن القرآن هو منبع العلوم وأصلها.
والذكر هنا عام يشمل: ذكر المصلي والصائم وقارئ القرآن ومتعلم العلم ومعلمه وهكذا.
والذكر في المسجد أفضل؛ لحديث: (إن لله ملائكة سياحين يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوها قالوا: هذه طلبتكم).
فلا شك في أن المساجد أفضل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الطبراني: حدثنا إسماعيل بن الحسن حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب عن أسامة بن زيد عن أبي حازم عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال: (نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28]، الآية.
فخرج يلتمسهم فوجد قوماً يذكرون الله, منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم).
عبد الرحمن هذا ذكره أبو بكر بن أبي داود في الصحابة، وأما أبوه فمن سادات الصحابة رضي الله عنهم].
قال في الحاشية: [وتعقبه ابن الأثير بقوله: ولا يصح.
وإنما الصحبة لأبيه ولأخيه أبي أمامة، وله رؤية].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]، قال ابن عباس: ولا تجاوزهم إلى غيرهم، يعني: تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة.
{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28] أي: شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، أي: أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ولا تكن مطيعاً له ولا محباً لطريقته ولا تغبطه بما هو فيه، كما قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:29]].
وهذا إرشاد للنبي صلى الله عليه وسلم وهو إرشاد لأمته في أنه ينبغي للإنسان أن يصحب الأخيار ويصاحبهم ويجالسهم ويصبر نفسه معهم، وأنه لا ينبغي له أن يركن إلى أصحاب الدنيا والذين غفلوا عن الآخرة, والذين صار أمرهم فرطاً، وصارت أهواءهم تبعاً للدنيا وإنما يلزم الأخيار ويصاحبهم، ويصاحب أهل الذكر والعلم؛ حتى يستفيد منهم وألا يطع أهل الدنيا والمغفلين, والذين ركنوا إلى الدنيا واطمأنوا إليها، وكانت أمورهم فرطاً، وأهواؤهم تبعاً للدنيا.
ولكن إذا زارهم للتذكير وللدعوة فلا بأس، وأما كونه يصحبهم ويركن إليهم ويكون واحداً منهم فهذا معناه أنه يكون كأمثالهم فيغفل عن الآخرة ويركن إلى الدنيا، فيؤثرون عليه.(56/5)
تفسير قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)
قال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29].
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس: هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك.
{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، هذا من باب التهديد والوعيد الشديد، ولهذا قال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} [الكهف:29] أي: أرصدنا ((لِلظَّالِمِينَ)) وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه.
{نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29] أي: سورها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لسرادق النار أربعة جدر، كثافة كل جدار مثل مسافة أربعين سنة)].
وهذا الحديث ضعيف السند؛ لأن فيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وفيه: دراج عن أبو الهيثم وهو ضعيف أيضاً.(56/6)
بيان أنه لا يستحق الإمامة إلا أهل الإيمان
وقد دلت الآية على أنه ينبغي أن يطاع ويصير إماماً للناس من امتلأ قلبه بمحبة الله، وفاض ذلك على لسانه فلهج بذكر الله وقدم مراضي ربه على هواه، فحفظ بذلك وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما من الله به عليه فحقيق بذلك أن يتبع ويجعل إماماً، والصبر المذكور في هذه الآية هو: الصبر على طاعة الله الذي هو أعلى أنواع الصبر، وبتمامه يتم باقي الأقسام.
وأما الغافل المعرض المشتت فهو الذي ركن إلى الدنيا، وهو الذي نهانا الله عن طاعته بقوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] فيه استحباب الذكر والدعاء, والعبادة طرفي النهار؛ لأن الله مدحهم بفعلها.
والغداة والعشي طرفي النهار، فالغداة طرف، والعشي طرف وهما أول النهار وآخره وهذه الآية مثل قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130].
وكل فعل مدح الله فاعله دل ذلك على أن الله يحبه، وإذا أحبه فإنه يأمر به ويرغب فيه، وهذا من أساليب توحيد العبادة، فإذا مدح الله الشيء أو أثنى على صاحبه فقد أمر به في المعنى.
قال المؤلف رحمه الله: [وأخرجه الترمذي في صفة النار وابن جرير في تفسيره من حديث دراج أبي السمح به.
وقال ابن جريج: قال ابن عباس: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29] قال: حائط من النار.
قال ابن جرير: حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا: حدثنا أبو عاصم عن عبد الله بن أمية حدثني محمد بن يحيى بن يعلى عن صفوان بن يعلى عن يعلى بن أمية].
ويقال: ابن منية فينسب إلى أمه وينسب إلى أبيه فأمه منية وأبوه أمية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البحر هو جهنم، قال: فقيل له: كيف ذلك؟ فتلا هذه الآية أو قرأ هذه الآية: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29] ثم قال: والله لا أدخلها أبداً، أو: ما دمت حياً لا تصيبني منها قطرة)] وهذا ليس بصحيح وهو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، والبحر لا بأس بدخوله، ولا بأس بإصابة شيء منه، وقد جاء ما يدل على أن البحار تكون جزءاً من جهنم فإنها تسجر يوم القيامة وتكون من جهنم ولكنه في الدنيا ليس جزءاً من جهنم، ولا بأس في دخوله والسباحة فيه.(56/7)
معنى المُهل
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29].
قال ابن عباس: المهل: الماء الغليظ مثل دردي الزيت].
يعني: أنه ثخين مثله.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال مجاهد: هو كالدم والقيح, وقال عكرمة: هو الشيء الذي انتهى حره، وقال آخرون: هو كل شيء أذيب، وقال قتادة: أذاب ابن مسعود شيئاً من الذهب في أخدود فلما انماع وأزبد قال: هذا أشبه شيء بالمهل، وقال الضحاك: ماء جهنم أسود, وهي سوداء, وأهلها سود].
فهو كالشيء الأسود الثخين -نسأل الله السلامة- وإذا استغاث أهل النار -والعياذ بالله- يغاثوا بماء كالمهل, أي: بماء أسود ثخين كالعكر من الزيت نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله: [وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرديئة كلها، فهو أسود منتن غليظ حار، ولهذا قال: {يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29]، أي من حره إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه, وحتى يسقط جلد وجهه فيه].
فهو أسود ثخين ذائب حار وغليظ منتن الرائحة, والعياذ بالله.
ومن شدة حرارته أنه إذا قربه إلى وجهه سقط لحم وجهه، والعياذ بالله نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله: [كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سرادق النار عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء كالمهل, قال: كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه) وهكذا رواه الترمذي في صفة النار من جامعه من حديث رشيدين بن سعد].
ورشدين ضعيف.
قال: [عن عمرو بن الحارث عن دراج به ثم قال: لا نعرفه إلا من حديث رشدين، وقد تكلم فيه من قبل حفظة هكذا].
يعني: أنه ضعيف، سيء الحفظ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم، عن حسن الأشيب عن ابن لهيعة عن دراج والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك وبقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو عن عبد الله بن بشر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم:16 - 17] قال: (يقرب إليه فيتكرهه, فإذا قرب منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه, فإذا شربه قطع أمعائه يقول الله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف:29]).
وقال سعيد بن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا فأغيثوا بشجرة الزقوم فأكلوا منها فاختلبت جلود وجوههم, فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم لعرف جلود وجوههم فيها ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل].
الأقرب: أنها يسلط عليهم العطش فيستغيثون, يعني: يبتلون بالعطش فإذا ابتلوا بالعطش استغاثوا, فيغاثون بهذا الماء، والعياذ بالله.
وفي تعليق للشيخ عبد الرحمن السعدي في قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] قال: هذه الآية فيها تهديد ووعيد, والأمر للتهديد.
فالأمر يأتي لعدة معان, ومنها التهديد، كما في هذه الآية: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29].
أي: أن الحق واضح {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] والله تعالى قد بين للإنسان طريق الخير وطريق الشر, فمن آمن فله الجنة والكرامة, ومن كفر فله النار والإهانة، والعياذ بالله.
قوله: (فاختلبت جلود وجوههم) وفي نسخة أخرى: فاجتثت جلود وجوههم وهو الأقرب.
وقول ابن جبير: (ثم يصب عليهم) بمعنى: يسلط عليهم العطش.
واجتثت: من الاجتثاث وهو: السقوط يعني: سقطت جلود وجوههم.
قال المؤلف رحمه الله: [ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره، لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.
ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات الذميمة القبيحة: {بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف:29]، أي: بئس هذا الشراب كما قال في الآية الأخرى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] وقال تعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5]، أي: حارة كما قال: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:44] {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]، أي: ساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق كما قالت الآية الأخرى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:66]].
وهذا بسبب كفرهم، والعياذ بالله؛ لأنهم جحدوا توحيد الله, وصرفوا محض حقه الذي لا يستحقه غيره إلى مخلوق ضعيف فوقعوا في أظلم الظلم, وأقبح القبيح, وعدلوا غير الله بالله, وماتوا على الشرك، وعلى الكفر فكان جزاؤهم النار نسأل الله السلامة والعافية لأن من مات على الكفر لا حيلة تنفعه.
كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48].(56/8)
نجاسة المشرك
ونجاسة المشرك نجاسة عينية لا يطهرها الماء, ولا تطهرها النار وهذا بخلاف العصاة الذين يدخلون النار بسبب معاصيهم، فإن معاصيهم كالنجاسة الطارئة التي تصيب الثوب ثم تغسل, فيطهرون بالنار إذا لم يعف الله عنهم, ثم يخرجون منها وأما الذين ماتوا على الشرك وعلى الكفر فلا حيلة فيهم, ونجاستهم نجاسة عينية, فيلقون في النار ويستمرون فيها أبد الآبدين نسأل الله السلامة والعافية.(56/9)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:30 - 31].
قال المؤلف رحمخه الله تعالى: [لما ذكر الله تعالى حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به, وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة, فلهم جنات عدن والعدن: الإقامة, {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:31]، أي: من تحت غرفهم ومنازلهم قال فرعون: {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، الآية {يُحَلَّوْنَ} [الكهف:31]، أي: من الحلية، {فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف:31] وقال في المكان الآخر: {وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] وفصله هاهنا فقال: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الكهف:31] فالسندس: ثياب رفاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها وأما الإستبرق: فغليظ الديباج، وفيه بريق.
وقوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف:31] الاتكاء: قيل: الاضطجاع وقيل: التربع في الجلوس وهو أشبه بالمراد هاهنا ومنه الحديث الصحيح (أما أنا فلا آكل متكئا) فيه القولان.
والأرائك: جمع أريكة.
وهي: السرير تحت الحجلة والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالبشخانة.
والله أعلم].
فهذه الآية الكريمة فيها: بيان جزاء الموحدين الذين آمنوا وعملوا الصالحات, وأن لهم الجنة فالله تعالى أعد دار كرامته وجنته للمؤمنين الموحدين, وحرمها على الكافرين, فمن مات على الشرك وعلى الكفر فالجنة عليه حرام، كما قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72].
وثبت في الحديث الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي في بعض غزواته: أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة).
وكذلك بعث مؤذنين عليه الصلاة والسلام, يؤذنون في الناس في منى في الحج في السنة التاسعة: (لا يحج بعد العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان, ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة, ومن كان له عهد فهو إلى عهده, ومن ليس له عهد فمدته أربعة أشهر) كذلك بعث أبو بكر أبا هريرة مع المؤذنين ينادي في الناس في منى في السنة التاسعة من الهجرة.
فالجنة أعدها الله للمؤمنين الموحدين, فمن مات على التوحيد والإيمان فله الجنة والكرامة، ومن مات على الشرك فالجنة عليه حرام.
نسأل الله السلامة والعافية.
ولهذا قال في سورة الكهف: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107] وقال هنا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:30 - 31] فهذا جزاء من آمن بالله ووحده, وأخلص له العبادة وبقى على التوحيد الخالص الخالي من الشرك والبدع والكبائر ومات عليه، فإنه يدخل الجنة من أول وهلة, فضلاً من الله وإحساناً.
والذين يدخلون الجنة من أول وهلة صنفان من الناس.
الصنف الأول: السابقون المقربون، الذين وحدوا الله وتقربوا إليه بأداء الفرائض, ونشطوا أيضاً فابقوا في نوافل العبادات وتركوا المحرمات، ونشطوا أيضاً فتركوا المكروهات وفضول المباحات.
والصنف الثاني: أصحاب اليمين الذين أدوا الفرائض والواجبات، ولم يكن عندهم نشاط في فعل المستحبات والمندوبات, وتركوا المحرمات، ولم يكن عندهم نشاط في ترك المكروهات وفضول المباحات.
وأما الصنف الثالث: فهم الظالمون لأنفسهم الذين وحدوا الله وأخلصوا له العبادة ولم يقعوا في الشرك ولكنهم ماتوا على كبائر من غير توبة، فهذا مات على الزنى, وهذا على السرقة, وهذا على شرب الخمر, وهذا على عقوق الوالدين, وهذا على قطيعة الرحم, فهؤلاء على خطر, فمنهم من يعذب في القبر كما في قصة الرجلين الذين رآهما النبي صلى الله عليه وسلم يعذبان كما في حديث ابن عباس في قبريهما؛ لأن أحدهما كان يمشي بالنميمة، والآخر كان لا يستتر من بوله، وقد يعفى عنه كما قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] فقد يعفو الله عنه بالتوحيد والإيمان والإسلام، وقد يعذبه فقد ثبت أن بعض أهل الكبائر لا تأكل النار وجوههم، ولكنهم ماتوا على كبائر من غير توبة فهم يعذبون في النار على قدر ذنوبهم، ثم في النهاية يخرجون منها إلى الجنة والكرامة ولا يبقى في النار إلا الكفرة.
فأهل التوحيد هم أهل الجنة والكرامة، فأما السابقون والمقربون فيدخلون الجنة من أول وهلة، وأما المقتصدون فمنهم من يدخلها من أول وهلة ويعفى عنهم, ومنهم من لا يعفى عنه, ومنهم من يعذب في قبره, ومنهم من تصيبه الأهوال والشدائد, ومنهم من يشفع فيه فلا يدخل النار, ومنهم من يدخل النار ثم يخرج منها في النهاية بعد أن يطهر من هذه النار.
وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [الكهف:31] والجنات: البساتين, وعدن: إقامة، قال تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:31]، أي: أنهار اللبن, وأنهار الماء, وأنهار الخمر, وأنهار العسل.
قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف:31] ويحلون: يلبسون الحلي في الجنة، ولو كانوا رجالاً, وأما في الدنيا فالحلية للنساء, وفي الجنة يحلى المؤمن ولو كان رجلاً, فيحلى في يديه، كما قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} [الكهف:31]، أي: يلبس في يديه أساور من ذهب, قال تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} [الكهف:31] أي: ثياباً حريراً, وفي الدنيا يحرم على الرجل أن يلبس الحرير, وأما في الآخرة فله ذلك, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة).
وقوله: خضراً هي نوعان من الحرير: نوع رقيق، ويقال له: السندس، ونوع غليظ، ويقال له: الإستبرق، وله بريق ولمعان، قال تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف:31] وقد ذكر الحافظ رحمه الله هنا أن الاتكاء إما اضطجاعاً وإما تربعاً.
وقد ذكر بعض أهل العلم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا لا آكل متكئاً) , أن الاتكاء هو: التربع.
كما فسرها الخطابي، وقال بعضهم: هو أن يتكئ إما على يده اليمنى وإما على يده اليسرى.
وهذا هو الأقرب فيكون معنى متكئاً: معتمداً على شيء.
والأرائك: جمع أريكة وهي كما قال الحافظ: معروفة وتسمى بشخانة باللغة الفارسية وهي: الحجلة، أي: قبة في وسطها سرير، وقد ذكرها ابن القيم رحمه الله في النونية الكافية الشافية, وتسمى في اللغة العربية الأريكة، نسأل الله من فضله.
قال المؤلف رحمه الله: [قال عبد الرازق أخبرنا معمر عن قتادة {عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف:31] قال: هي الحجال، قال معمر: وقال غيره السرر في الحجال.
وقوله: {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:31]، أي: نعمت الجنة ثواباً على أعمالهم {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:31] أي: حسنت منزلاً ومقيلاً ومقاماً, كما قال في النار: {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29] وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:66].
ثم ذكر صفات المؤمنين فقال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:75 - 76]].
وفي هذه الآية الكريمة دليل على: أن الجنة أعدها الله للمؤمنين, وأن المؤمنين الموحدين هم أهل الجنة والكرامة, وفي الآية السابقة دليل على أن النار أعدها الله للكفار.
فالمؤمنون الموحدون أعد الله لهم الجنة, والعاصي بين بين، فهو من أهل الجنة لكنه قد يعذب بمعاصيه إذا مات على الكبائر, وقد يعفى عنه، وقد يعذب في النار ثم يخرج منها.(56/10)
تفسير سورة الكهف [32 - 44]
ضرب الله تعالى في كتابه الكريم مثل رجلين أنعم الله تعالى على أحدهما بجنتين عظيمتين فقابل نعمة الله تعالى بالكفر والعناد والغرور، وقذف في قلب الآخر جنة عظيمة من الإيمان به تعالى وخوفه، فقابل ذلك بشكر الله تعالى وابتغاء فضله والنصح لخلقه، فنصح صاحبه الذي ظن أن ملكه لا يبيد وأن له عند الله لو بعث المزيد، فدعا عليه فأباد الله تعالى جنته وحقت العاقبة للتقوى.(57/1)
تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلاً رجلين)
قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:32 - 36].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى بعد ذكره المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين, وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم, فضرب لهم ولهم مثلاً برجلين] يعني: لهؤلاء وهؤلاء [جعل الله لأحدهما جنتين -أي: بستانين- من أعناب محفوفتين بالنخيل المحدقة في جنباتهما, وفي خلالهما الزروع, وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجودة, ولهذا قال: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا}، أي: أخرجت ثمرها {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا}، أي: ولم تنقص منه شيئاً.
{وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا} أي: والأنهار متفرقة فيهما هاهنا وهاهنا {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف:34] قيل: المراد به المال، روي عن ابن عباس وعن مجاهد وقتادة، وقيل: الثمار، وهو أظهر هاهنا].
فالأظهر: أنه الثمار على ظاهر الآية: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ}.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويؤيده القراءة الأخرى: (وكان له ثُمْر)، بضم الثاء وتسكين الميم, فيكون جمع ثمرة، كخشبة وخشب, وقرأ آخرون: (ثَمَر) بفتح الثاء والميم.
(فَقَالَ)، أي: صاحب هاتين الجنتين {لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ}، أي: يجادله ويخاصمه, يفتخر عليه ويترأس، {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} أي: أكثر خدماً وحشماً وولداً.
قال قتادة: تلك -والله- أمنية الفاجر، كثرة المال وعزة النفر.
وقوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [الكهف:35] أي: بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكاره المعاد, {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} [الكهف:35] وذلك اغترار منه لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها ظن أنها لا تفنى ولا تقرض ولا تهلك ولا تتلف, وذلك لقلة عقله وضعف يقينه بالله وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها, وكفره بالآخرة, ولهذا قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:36] أي: كائنة {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36] أي: ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ليكونن لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي, ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، كما قال في الآية الأخرى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، وقال: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77]، أي: في الدار الآخرة، تألى على الله عز وجل, وكان سبب نزولها في العاص بن وائل كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان].(57/2)
تفسير قوله تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب)
قال الله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف:37 - 41].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عما أجابه به صاحبه المؤمن واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} الآية، وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين, وهو آدم {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8]، كما قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة:28] الآية، كيف تجحدون ربكم ودلالته عليكم ظاهرة جلية كل أحد يعلمها من نفسه؟! فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوماً ثم وجد, وليس وجوده من نفسه ولا مستنداً إلى شيء من المخلوقات؛ لأنه بمثابته، فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء، ولهذا قال المؤمن: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أي: لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} أي: بل هو الله المعبود وحده لا شريك له].
هذه قصة رجلين أحدهما كان كافراً بما أنعم الله عليه وبما أعطاه من الأموال, حتى جره ذلك إلى إنكار الساعة, وشك في القيامة والبعث, ومن شك في البعث فهو كافر بإجماع المسلمين، ولهذا قال له صاحبه: {أَكَفَرْتَ} والكفر في قوله: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} يعني: أشك في قيام الساعة.
ومن شك في القيامة، أو شك في البعث، أو شك في الجنة أو في النار, أو شك في الملائكة أو في واحد منهم، أو في الرسل، أو في الكتب, أو شك في ربوبية الله, أو إلهيته أو وحدانيته فهو كافر.
فالكفر يكون بالشك, ويكون -أيضاً- بالجحود, فإذا شك في القيامة كفر، وكذلك لو شك في الله أو في ربوبيته أو في أسمائه أو في صفاته, أو في الملائكة أو في واحد منهم, أو في الكتب أو في الرسل، أو في البعث أو في القيامة أو في الجنة أو في النار، ويكون -أيضاً- بالجحود، كما لو جحد ربوبية الله أو إلهيته أو أسماءه أو صفاته, أو اسماً من أسمائه، أو جحد ملكاً من الملائكة, أو جحد كتاباً من الكتب المنزلة, أو جحد البعث، أو جحد القيامة، أو جحد الجنة أو جحد النار, أو جحد أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وجوبه, مثل أن يجحد وجوب الصلاة، أو يجحد وجوب الزكاة، أو يجحد وجوب الحج، أو وجوب الصوم، أو جحد تحريم محرم من محرمات الإسلام المعلومة بالضرورة, كأن يجحد تحريم الزنا، أو تحريم الربا، أو تحريم الخمر، أو تحريم العقوق؛ فإنه يكفر.
وقد يكون الكفر أيضاً بالقول: كما لو سب الله, أو سب الرسول, أو سب دين الإسلام, أو استهزأ بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله فإنه يكفر بهذا القول قال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
ويكون الكفر أيضاً بالفعل: كما لو سجد لصنم, أو دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله, أو داس المصحف بقدميه إهانة له، أو لطخه بالنجاسة، فإنه يكفر بهذا الفعل.
وقد يكون الكفر بالترك والإعراض أيضاً, كما لو أعرض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعبد الله به، فإنه يكفر.
وصاحب الجنتين هذا كفر بالشك في القيامة, فقد أعطاه الله تعالى جنتين -أي: بستانين- وحفهما بنخل وزرع، فاغتر ودخل الجنة وهو ظالم لنفسه, أي: بكبره واستكباره وتعاظمه على أخيه.
قال تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:35 - 36] يعني: ما أظن أن تفنى هذه الجنتان أو أن يصيبهما الفناء {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36] يعني: لو قدر أن هناك بعثاً فسيكون خير الدنيا موصولاً بخير الآخرة، كما قال الله في الإنسان الكافر في سورة فصلت: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، وكما قال عن العاص بن وائل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77].
فنصحه صاحبه وقال له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ}؟! والمعروف أن الخائن أقرب ليد الله، وهذا معروف لكل أحد، وكل أحد يعلم بنفسه أنه مخلوق، وأنه لم يخلقه مخلوق مثله؛ لأنه كان معدوماً ثم وجد، فلو لم يكن مخلوقاً لما سبقه العدم، فلابد من أن يكون وجوده بإيجاد خالق، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، فلا يكون المرء خالقاً لنفسه، ولا يخلقه مخلوق.
فلابد من أن يكون مخلوقاً لخالقه واجب الوجود في ذاته سبحانه وتعالى، ولهذا قال: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} ثم قال: (لكنا) أي: لكن أنا، فحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في النون، {هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} أي: لكن أنا أوحد الله واعترف بعبوديته وإلهيته، ولا أشرك مع الله في عبادته أحداً.(57/3)
تفسير قوله تعالى: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39]، هذا تحضيض وحث على ذلك، أي: هلا -إذ أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها- حمدت الله على ما أنعم به عليك وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك، وقلت: ما شاء الله لا قوة إلا بالله؟! ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده فليقل: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة، وقد روي فيه حديث مرفوع أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا جراح بن مخلد حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عيسى بن عون، حدثنا عبد الملك بن زرارة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) فيرى فيه آفة دون الموت)، وكان يتأول هذه الآية {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}.
قال الحافظ أبو الفتح الأزدي: عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن أنس لا يصح حديثه، وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة وحجاج، حدثني شعبة عن عاصم بن عبيد الله عن عبيد مولى أبي رهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا قوة إلا بالله)، تفرد به أحمد، وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله)].
هذه الآيات تفيد هذا، فإذا أعجبك شيء فقل: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، حتى وإن لم يصح الحديث، وفي الآيات دليل على أن من شك في القيامة فهو كافر، وفيها دليل على أنه يشرع للمرء إذا أعجبه شيء أن يقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) كما في الآية، فالمقصود أنه يشرع أن يقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله).
وكذلك تقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) حتى لا تصيب غيرك بالعين دون اختيارك، فلا شك في أن التبريك يمنع من العين، والعين تحصل من العائن من دون اختياره، فإذا قال العائن: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) امتنع من الإصابة بالعين، فإذا ذكر العائن الله كان هذا من أسباب منع وقوع العين؛ لأن بعض الناس قد تخرج بعين دون خياره.
فالتبريك يمنع حصول العين، فلكيلا تصيب أخاك تبرك وتقول إذا أعجبك شيء: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
ولهذا نصح المؤمن الكافر وقال له: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا بكر بن عيسى، حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون قال: قال أبو هريرة رضي لله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟ قال: قلت نعم فداك أبي وأمي، قال: أن تقول: لا قوة إلا بالله)].
أبو بلج -بفتح أوله وسكون اللام- بعدها جيم وهو الفزاري الكوفي ثم الواسطي الكبير، اسمه يحيى بن سليم، أو ابن أبي سليم أو ابن أبي الأسود صدوق ربما أخطأ من الخامسة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو بلج: وأحسب أنه قال: فإن الله يقول: أسلم عبدي واستسلم.
قال فقلت لـ عمرو: قال أبو بلج: قال عمرو: قلت لـ أبي هريرة: (لا حول ولا قوة إلا بالله) فقال: لا إنها في سورة الكهف {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}.
وقوله: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ}، أي: في الدار الآخرة {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا}، أي: على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى {حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ}، قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة، ومالك عن الزهري أي: عذاباً من السماء.
والظاهر أنه مطر عظيم مزعج يقلع زرعها وأشجارها، ولهذا قال: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}، أي: بلقعاً تراباً أملس لا يثبت فيه قدم.
وقال ابن عباس: كالجرز الذي لا ينبت شيئا.
وقوله: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} أي: غائراً في الأرض، وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض، فالغائر يطلب أسفلها، كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] أي: جارٍ وسائح، وقال هاهنا: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا}، والغَوْر: مصدر بمعنى: غائر، وهو أبلغ منه].
الغَوْراً أبلغ من الغائر، فقوله تعالى: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا}، يعني: غائراً نازلاً في الأرض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال الشاعر: تظل جياده نَوحْاً عليه تقلده أعنتها صفوفاً بمعنى: نائحات عليه].
يعني أن (نَوْحاً) أبلغ من (نائح)، مثل: (غَوْر) أبلغ من (غائر) فقوله: (تظل جياده نوحاً عليه) يعني: نائحات، فعبر بالنوح وحده عن النائحات، كما عبر بـ (غور) عن غائر.(57/4)
تفسير قوله تعالى: (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها)
قال الله تعالى: [قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:42 - 44].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} بأمواله أو بثماره على القول الآخر، والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر مما خوفه به المؤمن من إرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها وألهته عن الله عز وجل {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا}.
وقال قتادة: يصفق كفيه متأسفاً متلهفاً على الأموال التي أذهبها عليها].
وهكذا يقلب كفيه، فهو متأسف من شدة التأثر والتحسر يقلب كفيه على ما أنفق فيها، فقد صارت صعيداً زلقا ليس فيها شيء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} [الكهف:42 - 43]، أي: عشيرة أو ولد كما افتخر بهم واستعز {يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف:43 - 44]، اختلف القراء هاهنا فمنهم من يقف على قوله: {وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ} [الكهف:43 - 44]، أي: في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله فلا منقذ له منه ويبتدئ بقوله: {الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف:44]، ومنهم من يقف على {وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} [الكهف:43]، ويبتدئ بقوله: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف:44]، ثم اختلفوا في قراءة الولاية، فمنهم من فتح الواو من الولاية، فيكون المعنى هنالك الموالاة لله، أي: هنالك كل أحد مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب، كقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر:84]، وكقوله إخباراً عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:90 - 91]، ومنهم من كسر الواو من الولاية، أي: هنالك الحكم لله الحق، ثم منهم من رفع الحق على أنه نعت للولاية، كقوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:26]، ومنهم من خفض القاف على أنه نعت لله عز وجل، كقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام:62]، الآية، ولهذا قال تعالى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا}، أي: جزاء {وَخَيْرٌ عُقْبًا}، أي: الأعمال التي تكون لله عز وجل ثوابها خير وعاقبتها حميدة رشيدة كلها خير].
قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ} [الكهف:45]].(57/5)
تفسير الإمام السعدي لآيات قصة صاحب الجنتين
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: اضرب للناس مثل هذين الرجلين الشاكر لنعمة الله والكافر لها، وما صدر لكل منهما من الأقوال والأفعال، وما حصل بسبب ذلك من العقاب العاجل والآجل والثواب؛ ليعتبروا بحالهما ويتعظوا بما حصل عليهما، وليس معرفة هذين الرجلين وفي أي زمان أو مكان هما فيه فائدة أو نتيجة، فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط، والتعرض لما سوى ذلك من التكلف، فأحد هذين الرجلين الكافر بنعمة الله الجليلة جعل الله له جنتين، أي: بستانين حسنين من الأعناب {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ}، أي: في هاتين الجنتين من كل الثمرات، وخصوصاً أشرف الأشجار: العنب والنخل، فالعنب وسطها، والنخل قد حف بذلك ودار به، فحصل فيه من حسن المنظر وبهائه، وبروز الشجر والنخل للشمس والرياح التي تكمل بها الثمار وتنضج وتتجوهر، ومع ذلك جعل بين تلك الأشجار زرعا، فلم يبق عليهما إلا أن يقال: كيف ثمار هاتين الجنتين، وهل لهما ماء يستقيهما؟ فأخبر تعالى أن كلاً من الجنتين آتت أكلها -أي: ثمرها وزرعها- ضعفين، أي: متضاعفة، وأنها لم تظلم منه شيئا، أي: لم تنقص من أكلها أدنى شيء، ومع ذلك فالأنهار في جوانبهما سارحة].
قوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة:265]، يعني: مضاعفاً، أي: حُملت الثمار ضعفين، يعني: أثمرت ثماراً كثيرة.
قال رحمه الله تعالى: [وكان له -أي: لذلك الرجل- ثمر، أي: عظيم كما يفيده التنكير، أي: قد استكملت جنتاه ثمارهما، وارجحنت أشجارهما، ولم تعرض لهما آفة أو نقص، فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في الحر، ولهذا اغتر هذا الرجل وتبجح، وافتخر ونسى آخرته، (فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً) أي: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن وهما يتحاوران -أي: يتراجعان الكلام بينهما في بعض الماجريات المعتادة مفترخاً عليه: (أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً).
{لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، أي: ليعطيني خيراً من هاتين الجنتين، وهذا لا يفهم منه إلا أمران: إما أن يكون عالماً بحقيقة الحال، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء، فيكون زيادة كفر إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس وأبخسهم حظاً من العقل].(57/6)
فوائد قصة صاحب الجنتين
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: [ففي هذه القصة العظيمة اعتبار بحال الذي أنعم الله عليه نعماً دنيوية فألهته عن آخرته وأبغته، وعصى الله فيها، وأن مآلها الانقطاع والاضمحلال، وأنه وإن تمتع فيها قليلاً فإنه يحرمها طويلا، وأن العبد ينبغي له إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده أن يضيف النعمة إلى موليها ومحصيها، وأن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ ليكون شاكراً متسبباً لبقاء نعمته عليه، لقوله: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}.
وفيها الإرشاد إلى التخلي عن لذات الدنيا وشهواتها بما عند الله من الخير، لقوله: {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} [الكهف:39 - 40]، وفيها أن المال والولد لا ينفعان إن لم يعينا على طاعة الله، كما قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ:37]، وفيه الدعاء يتلف مال من كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه، خصوصاً إن فضل نفسه بسببه على المؤمنين وفخر عليهم].
ففي هذه الآية ما دعا المؤمن على الكافر بأن يرسل الله تعالى على جنته حسباناً من السماء، {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}، فاستجاب الله دعاءه.
قال: [وفيها أن ولاية الله وعدمها إنما تتضح نتيجتها إذا انجلى الغبار وحق الجزاء ووجد العاملون أجرهم، فهناك {الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:44]، أي: عاقبة ومآلاً].
وهذه أمور كلها واضحة بأحكامها وفوائدها، فالإنسان الذي يبتلى بشيء من المال فيغتر، يتمتع به قليلاً ثم سرعان ما يزول، وتبقى عليه حسرة مع ما حرم من ثواب الآخرة، ويستمر على كفره وعناده، وكما أن الإنسان إذا تعجب من شيء أو من نفسه أو أهله يبرك ويقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، والتبريك هو السبب في دفع العين، ومعروف في قصة العائن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركتا) وكذلك العاقبة إنما تكون للشاكرين المؤمنين، ويقول تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا}.(57/7)
تفسير سورة الكهف [45 - 49]
لقد تعرض القرآن الكريم لبيان حقيقة الدنيا في أكثر من آية بأبلغ عبارة وأعظم نذارة، مستعملاً في ذلك ضرب الأمثال والوصف المباشر وغيرهما، ليبين للعباد أن ما يلهيهم فيها من زينة الأموال والأولاد لا يعد وأن يكون من متاع الدنيا المحتقرة، وأن ما ينبغي عليهم الاشتغال به هو الباقيات الصالحات التي يجدون ثوابها عند ربهم يوم تسير الجبال وتنصب الموازين وتتطاير الصحف، ليجد كل امرئ ما عمله مسطراً في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة.(58/1)
تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا)
قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:45 - 46].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: واضرب -يا محمد- للناس مثل الحياة الدنيا -في زوالها وفنائها وانقضائها- كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض -أي: ما فيها من الحب- فشب وحسن وعلاه الزهر والنور والنضرة.
ثم بعد هذا كله (فَأَصْبَحَ هَشِيمًا)، يابساً (تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ)، أي: تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا)، أي: هو قادر على هذه الحال وهذه الحال، وكثيراً ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل، كما قال تعالى في سورة يونس {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس:24]، الآية، وقال في الزمر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [الزمر:21] الآية، وقال في سورة الحديد: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] الآية، وفي الحديث الصحيح (الدنيا خضرة حلوة)، وقوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46] كقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ} [آل عمران:14]].
هذه الآية ضرب الله تعالى فيها مثل الحياة الدنيا، فالله تعالى كثيراً ما يضرب الأمثال في كتابه، وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يضرب الأمثال في سنته، وذلك لأن المثل يقرب المعقول فيكون كالمحسوس، وكان كثيراٌ من السلف يبكي الواحد منهم إذا لم يعلم المثل، لقول الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، فالمثل ينتقل بالإنسان من الشيء المعقول إلى الشيء المحسوس الموجود، والله تعالى ضرب مثل الحياة الدنيا بماء مطر أنزله من السماء على الأرض، فأنبتت الأرض (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ) وصار أخضر، ثم سرعان ما يبس وذبل، وكذلك الدنيا، فهي سريعة الزوال.
والإنسان في هذه الدنيا في شبابه وفي صحته سرعان ما ينتهي ويصل إلى الأجل، والدنيا كلها سريعة الانقضاء، قال عليه الصلاة والسلام (مالي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)، فهذه هي الدنيا، فالإنسان كالمتنزه الذي يذهب للنزهة مدة ثم ينصرف، فكذلك الدنيا يمكث الإنسان فيها ما شاء الله ثم يرحل.(58/2)
بيان معنى الباقيات الصالحات
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، كقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ} [آل عمران:14] الآية، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15].
أي: الإقبال عليه والتفرغ لعبادته خير لكم من اشتغالكم بهم والجمع لهم والشفقة المفرطة عليهم، ولهذا قال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46].
قال ابن عباس رضي الله عنهما، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف: الباقيات الصالحات: الصلوات الخمس، وقال عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه عن الباقيات الصالحات: ما هي؟ فقال: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، رواه الإمام أحمد].
الصواب أن (الباقيات الصالحات) عام لجميع الأعمال الصالحة، والصلوات الخمس من الباقيات الصالحات، والزكاة، والصوم، والحج، والتسبيح والتهليل، وقراءة القرآن، لكن عادة السلف أنهم يفسرون الشيء ببعض معناه، فالصلوات الخمس بعض من الأعمال الصالحات، و (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) من الباقيات الصالحات، وكذلك جميع الأعمال الصالحة كلها من الباقيات الصالحات.
والأعمال الصالحة هي التي تنفع الإنسان، فهي الباقية، حيث يبقى ثوابها، وثوابها الجنة، والمال والبنون زينة الحياة، والدنيا زائلة، فالمال منته والبنون كذلك، فزينة الحياة الدنيا منتهية والأعمال الصالحة يبقى ثوابها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو عبد الله المقري، حدثنا حيوة، حدثنا أبو عقيل أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: جلس عثمان يوماً وجلسنا معه، فجاءه المؤذن، فدعا بماء في إناء -أظنه سيكون فيه مد- فتوضأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا ثم قال: (من توضأ وضوئي هذا ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين العصر، ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهي الحسنات يذهبن السيئات)].
فالصلوات تكفر السيئات، فهذا صلى الظهر فكفر الله خطاياه إلى صلاة العصر، أما الكبائر التي توعد عليها بالنار أو اللعنة أو الغضب -كالسرقة، والزنا، وشرب الخمر، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وشهادة الزور، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وجحد حقوق الناس، والغيبة والنميمة -فلابد لها من توبة، ولا يكفي في تكفيرها صلاة الفرائض، لكن من صلى الفرائض كفر الله عنه الصغائر، كما قال الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] أي: الصغائر، وقال عليه الصلاة والسلام: (الصلاة الخمس، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، فإذا اجتنب الإنسان الكبائر كفر الله بالصلوات وبالزكاة وبالصوم الصغائر، أما إذا لم يجتنب الكبائر عوقب على الصغائر والكبائر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قالوا هذه الحسنات، فما الباقيات الصالحات يا عثمان؟ قال: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تفرد به].
أي: تفرد به الإمام أحمد عن الكتب الستة، والمراد أن من الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وليست كلها، بل هي منها، والصلوات الخمس منها، وكذلك جميع الأعمال الصالحة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى مالك عن عمارة بن عبد الله بن صياد عن سعيد بن المسيب قال: الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال محمد بن عجلان عن عمارة قال: سألني سعيد بن المسيب عن الباقيات الصالحات فقلت: الصلاة والصيام، فقال: لم تصب، فقلت: الزكاة والحج، فقال: لم تصب، ولكنهن الكلمات الخمس: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله].
هذا مقطوع على سعيد، وفيه: وقال محمد بن عجلان عن عمارة، ولم يذكر السند، والصواب أنها الأعمال الصالحة كلها من الباقيات الصالحات، كالصلاة والزكاة والصوم والحج والتسبيح والتهليل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خيثم عن نافع عن سرجس أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن الباقيات الصالحات، قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال ابن جريج: وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك.
وقال مجاهد: الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ)، قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله هن الباقيات الصالحات.
قال ابن جرير: وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار عن أبي نصر التمار عن عبد العزيز بن مسلم عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر هن الباقيات الصالحات)، قال: وحدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الملة، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير، والتهليل، والتسبيح، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، وهكذا رواه أحمد من حديث دراج به.
قال وهب: أخبرني أبو صخر أن عبد الله بن عبد الرحمن مولى سالم بن عبد الله حدثه قال: أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي في حاجة فقال: قل له: القني عند زاوية القبر، فإن لي إليك حاجة، قال: فالتقيا فسلم أحدهما على الآخر، ثم قال سالم: ما تعد الباقيات الصالحات؟ فقال: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له سالم: متى جعلت فيها (لا حول ولا قوة إلا بالله)؟ قال: ما زلت أجعلها، قال: فراجعه مرتين أو ثلاثا فلم ينزع، قال: فأبيت؟ قال سالم: أجل، فأبيت؛ فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (عُرِج بي إلى السماء فرأيت إبراهيم عليه السلام فقال: يا جبريل! من هذا الذي معك؟ فقال: محمد، فرحب بي وسهل، ثم قال: مر أمتك فلتكثر من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة، وأرضها واسعة، فقلت: وما غراس الجنة؟ فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله).
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن يزيد عن العوام، حدثني رجل من الأنصار من آل النعمان بن بشير قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء، فرفع بصره إلى السماء ثم خفض حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء، ثم قال: (أما إنه سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون، فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، ألا وإن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هن الباقيات الصالحات).
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبان، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام عن مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بخٍ بخٍ لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده! وقال: بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقناً بهن دخل الجنة: يؤمن بالله، واليوم الآخر، وبالجنة، وبالنار، وبالبعث بعد الموت، وبالحساب!).
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس(58/3)
تفسير قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة)
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:47 - 49].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظام، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور:9 - 10] أي: تذهب من أماكنها وتزول، كما قال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88]، وقال تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5]، وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107].
يذكر تعالى بأنه تذهب الجبال وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض قاعاً صفصفا -أي: سطحاً مستوياً- لا عوج فيه ولا أمتا، أي: لا وادي ولا جبل، ولهذا قال تعالى: (وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً)، أي: بادية ظاهرة ليس فيها معلم لأحد، ولا مكان يواري أحدا، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية، قال مجاهد، وقتادة (وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً)، لا حجر فيها ولا غيابة].
قال قتادة: لا بناء ولا شجر].
وقد يكون لفظهما (لا خمر فيها ولا غيابة)، والخمر: الشيء الذي يغطي، ومنه الخمر، سمي خمراً لأنه يغطي العقل، ومنه خمار المرأة، سمي خماراً لأنه يسترها ويستر وجهها، أي: ليس هناك شيء يغطي شيئاً، فكل الناس موقوفون لله عز وجل حفاة عراة لا يسترهم شيء ولا يغطيهم شيء، فقوله: (لا حجر) له معنى، لكن (لا خمراً) قد تكون أقرب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا)، أي: وجمعناهم الأولين منهم والآخرين فلم نترك منهم أحداً لا صغيراً ولا كبيراً، كما قال: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50]، وقال: {َذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103]، وقوله: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف:48]، يحتمل أن يكون المراد أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفاً واحداًَ، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38]، ويحتمل أنهم يقومون صفوفاً صفوفا، كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22].
وقوله: (لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، هذا تقريع للمنكرين للمعاد وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد، ولهذا قال تعالى مخاطباً لهم: (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا)، أي: ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أن هذا كائن.
وقوله: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ)، أي: كتاب الأعمال الذي فيه الجليل، والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ)، أي: من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا)، أي: يا حسرتنا وويلنا].(58/4)
ذكر أهوال البعث والنشور والحساب والجزاء
فهذا اليوم -وهو يوم القيامة- يوم عظيم، يوم تسير فيه الجبال، ويبعث الناس من قبورهم، وينفخ في الصور بعد أن ينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشئون تنشئة غير هذه التنشئة، فالذوات يعيدها الله، ويركب الإنسان من عجب الذنب، وهو العصعص آخر فقرة في العمود الفقري، وهو لا يبلى، قال عليه الصلاة والسلام (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم ومنه يركب)، فيبقى العصعص لا تأكله الأرض، ومع هذا تأكل الأرض الأجساد ثم يعيدها الله؛ لأن الله عليم بذلك وقادر، كما قال سبحانه وتعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79].
فهو سبحانه وتعالى يقرر إثبات الإعادة بكمال علمه وكمال قدرته، وهو عالم بالذرات التي استحالت، وهو قادر على إعادتها، وله الحكمة البالغة، فيعيد الناس ويبعثهم ليجازي كلاً بعمله، فإن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، فيأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور النفخة الأولى، فيصعق الناس فيموتون إلا من شاء الله، ثم ينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشئ نفس التنشئة، وتبدل الصفات والذوات، فإذا اكتمل خلقهم أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور النفخة الثانية، فعادت الأرواح إلى أجسادها؛ لأن الأرواح باقية لا تموت، والمؤمن إذا مات كانت روحه في الجنة ولها صلة بالجسد، والكافر إذا مات وكانت روحه في النار ولها صلة بالجسد، والجسد يبلى، وأجساد الأنبياء لا تبلى، فقد حرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية عادت الأرواح إلى أجسادها، وقام الناس من قبورهم، فينفضون التراب عن رءوسهم واقفين بين يدي الله حفاة لا نعال لهم عراة لا ثياب عليهم، غرلاً غير مختونين، فالجلدة التي قطعت من أعلى الذكر تعود إليه، فيعود الناس على هذه الحال شاخصة أبصارهم إلى السماء، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم:42].
وقد قالت عائشة: لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبرها بحشر الناس عراة: وسوأتاه! والرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض! فقال لـ عائشة: (الأمر أشد من ذلك)، أي: أهم من ذلك، فكل شخص بصره إلى السماء تهمه نفسه، ولا أحد يلوي على أحد، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:33 - 37].
فلا أحد يلوي على أحد، والإنسان إذا دهش وأصابه فزع شديد تجده لا يحس بما هو أمامه، وتجده يلقى بعض الناس ولا يحس، فيقول بعض الناس: لقيته فلا هو سلم علي ولا رد السلام.
لأنه مندهش، وهذا بسبب شدة الفرح أو شدة الحزن، فكيف بأهوال يوم القيامة؟! فلا أحد يلوي على أحد ولا أحد ينظر إلى أحد، والمقام ليس بمقام نظر، بل هو مقام شدة وهول، فكل تهمه نفسه، وكل يريد أن يتخلص، ويقف الناس على هذه الحال بين يدي الله عز وجل في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وتدنو الشمس من الرءوس ويزاد في حرارتها، فيصيبهم العرق على حسب الأعمال، ويموج الناس بعضهم في بعض، ويفزع بعضهم إلى بعض يسألون الشفاعة، فيأتون إلى آدم يسألونه الشفاعة فيعتذر ويقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟! فيعتذر بأنه أكل من الشجرة، ويأمرهم بأن يذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وصفك الله بأنك عبد شكور اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! فيعتذر ويقول: إنه دعا على أهل الأرض دعوة أغرقتهم، ويقول لهم: اذهبوا إلى إبراهيم؛ فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم، ويقولون: يا إبراهيم! أنت خليل الرحمن، اشفع لنا إلى ربك.
فيعتذر ويقول: كذبت بلساني ثلاث كذبات.
وهي قوله في زوجته: هي أختي، وهي أخته في الإسلام، ولما وضع الفأس على الصنم الكبير قال: هو هذا الذي كسر أصنامكم، والثالثة حين نظر في النجوم وقال: إني سقيم فيعتذر إبراهيم ويرشدهم إلى موسى عليهما السلام، فيقول: اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: أنت كليم الله، فيعتذر ويقول: إن ربي غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها -يعني: قتله القبطي قبل النبوة- ولكن اذهبوا إلى عيسى، فيعتذر عيسى فيقول: اذهبوا إلى محمد؛ فإنه خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها، فيذهب فيسجد تحت العرش فيفتح الله عليه بمحامد لا يحسنها في دار الدنيا، فيأتيه الإذن من الرب، ويقول الرب عز وجل: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع.
فهذا هو الإذن ولابد من الإذن، حتى في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق، فمن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، فلا أحد يشفع إلا بإذنه سبحانه، بخلاف الملوك والرؤساء والأمراء في الدنيا، فكل يدخل عليه ويشفع عنده من دون إذنه، أما الله فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يشفع إلا فيمن رضيه الله، وهم أهل التوحيد ممن زاد الله في قوله وعقله، فيشفع الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيقضي بين العباد، ويحاسبهم سبحانه وتعالى ويفرغ من حسابهم في منتصف النهار، ويقيل أهل الجنة في الجنة قيلولة، قال الله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24]، وتتطاير الصحف، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، وتنصب الموازين لزنة الأعمال، وينصب الصراط على متن جهنم، ويمشي الناس عليه، فمن جاوزه فإلى الجنة، ومن سقط فإلى النار نسأل الله السلامة والعافية.
وفي الجنة لأهلها أرائك، وفرق بين الحجلة والأريكة، فالحجلة: هي القبة ليس فيها سرير، وإذا كان فيها سرير في وقتها سميت أريكة، وتسمى (بشخانة) باللغة الفارسية.
وفي الحديث: (أَلا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أَرِيكَتِه فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله) والأَرِيكة: السرير في الحَجَلة من دونه سِتْر، ولا يسمَّى منفرداً أَريكةً، وقيل: هو كُلّ ما اتُّكِئَ عليه من سرير أَو فِراش أَو مِنَصَّةٍ.
والظاهر أن الأريكة هي السرير في وسط الحجلة، فأهل الجنة على سرر وفي قبب من ذهب ومن فضة ومن زمرد تسمى بشخانة، وهي كلمة فارسية اشتهرت في زمن الحافظ ابن كثير، وزمن الحافظ ابن القيم، فكانت تسمى في زمانهم (بشخانة)، والبشخانة باللغة الفارسية هي الأريكة، ذكرها ابن القيم في صفة الجنة في الكافية الشافية، فقال: تسمى (بشخانة) في اللغة الفارسية.
وفي يوم القيامة تسير الجبال، كما قال الله {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف:47]، هذه الجبال الثقيلة تكون كالعهن المنفوش، وكالصوف المتناثر في الهواء من شدة الهول، وتبدل الأرض غير الأرض كما يبدل الأديم، ويزال ما عليها من بناء وغيره، وتكون قاعاً صفصفاً مستوية {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:107]، فتكون الأرض بارزة والناس بارزين ضاحين، والشمس فوق رءوسهم يزاد في حرارتها، إلا الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم سبعة، ففي الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، فهؤلاء السبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، والباقون في الشمس، فيصيبهم العرق على حسب الأعمال، فمنهم من يصيبه العرق إلى ركبتيه، وإلى حقويه، وإلى حلقه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ومنهم من يذهب عرقه مسافات في الأرض على حسب الأعمال، والأرض تكون بارزة، ويحشرهم الله، قال تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:47]، وعرضوا على الله صفاً كل واحد منهم ينتظر ما يحصل له، وهو يعرف أن الله تعالى يقول: (إني خلقتكم وأنصت لكم منذ خلقتكم، فأنصتوا لي) ويوبخ الكفرة الذين ينكرون البعث، فيقول تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [الكهف:48]، أي: إن كنتم تنكرون البعث وتظنون أنه لا يحصل هذا الموعد.
ثم يوضع الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ولا الفتيل والقطمير.(58/5)
بيان معنى قوله تعالى: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ)، أي: كتاب الأعمال الذي فيه الجليل، والحقير، والفتيل، والقطمير، والصغير، والكبير (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ)، أي: من أعمالهم السيئة، وأفعالهم القبيحة (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا)، أي: يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)، لا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً ولا عملاً وإن صغر (إلا أحصاها) أي: ضبطها وحفظها.
وروى الطبراني بإسناده المتقدم في الآية قبلها إلى سعد بن جنادة قال: (لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين نزلنا قفراً من الأرض ليس فيه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا، من وجد عوداً فليأت به، ومن وجد حطباً أو شيئاً فليأت به، قال: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذا؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا فليتق الله رجل، ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة فإنها محصاة عليه).
وهذا الحديث فيه تمثيل الذنوب بالقوم يجتمعون في البرية وليس عندهم شيء ينضجون به طعامهم، فيجمع هذا عوداً وهذا عوداً، فيجمعون كوماً فيؤججونها ناراً فيستفيدون منها وينضجون بها طعامهم.
وكذلك الذنوب تجتمع على الإنسان حتى تهلكه، فهذه صغيرة وهذه صغيرة وهذه صغيرة يجتمعن حتى يهلك الإنسان، وفي الحديث الآخر: (إياكم ومحقرات الذنوب، وما محقرات الذنوب؟ قال: الصغائر تتجمع على الإنسان حتى تهلكه، فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا منزلاً فحضر صنيعهم -يعني: طعامهم- فلم يبق عندهم ما ينضجون به طعامهم، فأتى هذا ببعرة وهذا بعود وهذا، فجمعوا كوماً فأججوه ناراً وأنضجوا فيه طعامهم، فكذلك الذنوب تجتمع على الإنسان حتى تهلكه).
فالإنسان لا يُظلَم مقدار ما يكون في شق النواة يوم القيامة، فالله سبحانه وتعالى هو أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، فلا يظلم أحداً سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف:49]، أي: من خير وشر، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران:30]، الآية، وقال تعالى: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:13]، وقال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9]، أي: تظهر المخبآت والضمائر.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به)، أخرجاه في الصحيحين، وفي لفظ: (يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان)].
قوله: (عند استه) يعني: مقعدته، فكل غادر ينصب له لواء عند استه، والاست: مقعدة الإنسان، يعني: عند دبره ينصب له لواء يوم القيامة، ويقال: هذه غدرة فلان ابن فلان، وهذه فضيحة، نسأل الله العافية.
غدرة فلان.
ويجب الحذر من الغدر، أن يغدر الإنسان في العهود وفي الأمانات، فينقض العهد مع غيره ويغدر، فيجب الحذر من الغدر والخيانة في العهود والأمانات، وكذلك البيعة، فإذا أعطى بيعة لولي الأمر ثم غدر وخان فإنه خائن غادر.(58/6)
بيان معنى قوله تعالى: (ولا يظلم ربك أحداً)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، أي: فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعا، ولا يظلم أحداً من خلقه، بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي، ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40]، وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47] إلى قوله {حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، والآيات في هذا كثيرة].
والله سبحانه وتعالى نفى عن نفسه الظلم فقال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، وهو قادر سبحانه وتعالى، ولكنه تنزه سبحانه وتعالى عن الظلم، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، كأن يُنقص أحداً من ثوابه وحسناته، أو يحمله أوزار غيره، فهذا تنزه عنه سبحانه وتعالى، وأمن عباده منه وهو قادر عليه، ولهذا قال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]، وقال تعالى: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17].
وفي الحديث القدسي: عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)، فالظلم مقدور لله، إلا أن الله حرمه على نفسه ولم يحرمه عليه أحد، وليس فوقه أحد، بل هو حرمه على نفسه من نفسه، وتنزه عن الظلم ونفاه عن نفسه، وقالت الجبرية من الجهمية وغيرهم: إن الظلم غير مقدور لله، ففسروا الظلم بأنه الذي لا يدخل تحت القدرة، وقالوا: كل ما يقدر الله عليه فله أن يفعله، ولا يكون ذلك ظلماً، وقالوا: إن الله تعالى له أن يقلب التشريعات والجزاءات، فيجعل العفة حراماً والزنا واجباً، ويبطل حسنات الأبرار والمتقين والأنبياء، ويحملهم أوزار الفجار، ولا يكون هذا ظلماً؛ لأنه له أن يتصرف في خلقه كيف يشاء؛ لأن الظلم هو تصرف المالك في غير ملكه، والله مالك كل شيء، فإن تصرف في ملكه فلا يكون ذلك ظلماً، هكذا يقولون، وهذا من أبطل الباطل، ومعناه أنه ليس هناك معنى للظلم عندهم، والظلم هو الذي لا يدخل تحت قدرة الله كالجمع بين الضدين، والجمع بين الممتنعين، وكالمستحيل الذي لا يمكن وجوده، هذا هو الظلم، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنه لو كان الظلم لا يدخل تحت القدرة لما أمن الله عباده، قال: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112].
فهل يخاف الإنسان الشيء الذي لا يدخل تحت القدرة؟! أي: أيخاف المستحيل؟! لا يمكن هذا، وهذا من أبطل الباطل، والصواب أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وهذا هو المعنى اللغوي، كأن يحمل أحداً أوزار غيره، أو يمنعه من ثوابه وحسناته، فقد تنزه الله عن هذا الفعل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد، حدثنا يزيد، أخبرنا همام بن يحيى، عن القاسم بن عبد الواحد المكي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلاً فسرت عليه شهراً حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب: فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه].
حذف حرف الاستفهام للعلم به، فقال ابن عبد الله؟! يعني: أأنت جابر بن عبد الله؟! فقال: نعم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله عز وجل الناس يوم القيامة -أو قال: العباد- عراة غرلاً بهماً، قلت: وما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء.
ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب)].
قوله: (عراة) يعني: لا ثياب عليهم، أي: كما ولدتهم أمهاتهم، ولكنهم شاخصة أبصارهم، فلا أحد يستطيع أن ينظر إلى أحد.
فهم عراة لا ثياب عليهم، وحفاة لا نعال لهم، وهم ليس عندهم شيء، ولا يوجد معهم شيء.
قوله: (ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب)، هذا فيه إثبات الصوت لله عز وجل، وفيه رد على الأشاعرة والكلابية الذين يقولون: كلام الله معنى قائم بنفسه، ليس بحرف ولا صوت، وفي هذا الحديث أن كلام الله حرف وصوت، وأنه يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وكلام الله بخلاف كلام المخلوق، فكلام المخلوق يسمعه القريب فقط، وأما البعيد فلا يسمعه، وأما كلام الله فيسمعه من بعد كما يسمعه من قرب على حد سواء.
قال: [(ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه).
].
وهذه اللفظة يصلح فيها (أقضيه) (أقصه)، ولكن الثابت في الحديث (أقصه) أي: أقتص له حقه.
قال: [(ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقصه منه، حتى اللطمة.
قال: قلنا: كيف وإنما نأتي الله عز وجل حفاة عراة غرلاً بهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات)].(58/7)
الرحلة في طلب العلم
هذا الحديث فيه دليل على مشروعية الرحلة في طلب العلم، وذلك أن جابر بن عبد الله الصحابي الجليل اشترى بعيراً لهذه المهمة، ورحل مسافة شهر من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، وهو صحابي، وقد رحل إلى صحابي آخر، فهو يدل على الرحلة في طلب العلم، فالرحلة إلى العلماء لطلب العلم سنة، والبخاري رحمه الله ذكر هذا الحديث معلقاً، وترجم له بقوله: (ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر في طلب حديث واحد) وقال البخاري في صحيحه في موضع آخر: ويذكر عن جابر بن عبد الله أنه رحل إلى عبد الله بن أنيس في طلب حديث واحد، وهو هذا الحديث.
فلما وصل جابر دق الباب فخرج البواب، فقال له: قل له جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟! قال: نعم.
فلما جاء عبد الله بن أنيس عانقه، فقال: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه.
فالرحلة في طلب العلم سنة، وانظر إلى المشقة العظيمة التي تحملها جابر، فهي مشقة مالية وبدنية، فقد اشترى بعيراً لهذه الرحلة، وسافر مسافة شهر لطلب حديث واحد، ونحن الآن عندنا الأحاديث -بحمد الله- مدونة في الكتب والسنن والمسانيد والأجزاء، وحلقات الدروس موجودة، فعلى الإنسان أن يقرأ ويتعلم، ولكن الناس في هذه الأيام منشغلون لا يقرءون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يعملون.
فينبغي على طالب العلم أن يحرص على طلب العلم ويجد ويجتهد فيه مادام أنه في وقت الإمكان وفي وقت الشباب.(58/8)
القصاص يوم القيامة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن شعبة عن العوام عن مزاحم عن أبي عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة)].
والجماء هي: الدابة التي ليس لها قرن من المعز أو من الضأن، فإذا اعتدت دابة لها قرن على دابة أخرى ليس لها قرن ونطحتها؛ فإنهما تبعثان يوم القيامة، فتقتص الجماء التي ليس لها قرن من القرناء التي نطحتها في الدنيا، وتأخذ حقها منها وتنطحها كما نطحتها في الدنيا، فإذا اقتصت منها قال الله لها: كوني تراباً.
فلا جنة ولا نار للحيوانات، ولهذا فإن الكافر إذا رأى أن الدواب يقال لها: (كوني تراباً) يتمنى أن يكون تراباً، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40].
فالجماء التي لا قرن لها تقتص من القرناء التي لها قرن، وهذا من كمال عدل الله سبحانه وتعالى.
وقول المؤلف: [وعن شعبة عن العوام عن مزاجم] الأقرب أنه: مراجم.
قال المؤلف رحمه الله: [رواه عبد الله بن الإمام أحمد، وله شواهد من وجوه أخر، وقد ذكرناها عند قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]، وعند قوله تعالى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38]].
وحديث عبد الله بن أنيس في القصاص في سنده عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو سيء الحفظ، ولكن له شواهد، وذكر ابن القيم أن الجهمية وأهل الكلام طعنوا في الحديث وقالوا: هذا الحديث ضعيف، وفيه عبد الله بن عقيل، وقصدهم بذلك أن ينكروا إثبات الصوت لله، وإنكار كلام الله؛ لأن الحديث فيه: (ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب).
فأهل البدع يقولون: إن الله لا يتكلم، وينكرون كلام الله، وينكرون إثبات الصوت له سبحانه وتعالى، فقالوا: إن هذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده عبد الله بن عقيل، وهو لا يحتج به.
وقد رد عليهم ابن القيم في (الصواعق) وقال: إن هذه علة باردة تعلل بها البدع.
فقولهم: إن عبد الله بن محمد بن عقيل ضعيف قول مسلم به، ولكن إنما يرد حديثه إذا خالف الثقات، وهو هنا قد وافق الثقات ولم يخالفهم؛ فالصوت ثابت لله في أحاديث كثيرة وفي نصوص كثيرة، ثم إن هذا الحديث له شواهد، وعبد الله بن محمد بن عقيل سيء الحفظ، ولكن لا يرد حديثه إلا إذا خالف الثقات، وهو هنا قد وافقهم، فدل هذا على أنه قد ضبط هذا الحديث، وأنه لم يخطئ.(58/9)
تفسير سورة الكهف [50 - 59]
يخبر الله تعالى في كتابه الكريم عباده المؤمنين بعاقبة المتكبر عن طاعة أمره، والمعرض عما أراده له ربه، وهو إبليس إمام العصاة والمستكبرين، وينهى تعالى عباده عن اتخاذه وذريته أولياء من دونه تعالى، ويحذرهم ببيان عاقبة متبع إبليس باتخاذ الشركاء مع الله تعالى، حيث يأمرهم يوم القيامة بطلب الشركاء لينفعوهم في ذلك اليوم فلا يجدون أذناً صاغية، ولا يداً باذلة، كيف وهم عاجزون عن أن ينفعوا أنفسهم بشيء؟!(59/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى منبهاً بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم، ومقرعاً من اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه وهو الذي أنشأه وابتداه، وبألطافه رزقه وغذاه، ثم بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله، فقال تعالى: ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ))، أي: لجميع الملائكة، كما تقدم تقريره في أول سورة البقرة ((اسْجُدُوا لِآدَمَ))، أي: سجود تشريف وتكريم وتعظيم، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:28 - 29]، وقوله: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} [البقرة:34]].
وهذا السجود سجود تشريف لآدم، وهو عبادة لله عز وجل؛ لأنهم امتثلوا أمر الله، فهم يعبدون الله بهذا السجود، فالملائكة عبدوا الله بهذا السجود، فقد امتثلوا أمره، حيث أمرهم بالسجود، وهو تشريف لآدم، فقد شرفه الله عندما أمر الملائكة بأن يسجدوا له.
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: ((فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ)) أي: خانه أصله؛ فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور، كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)].
قوله في الحديث: إن إبليس خلق من مارج من نار، أي: لهب النار الصافي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه].
أي: نضح وعاء إبليبس بما فيه؛ لأنه خلق من النار فظهر طيشه وحمقه وعدم رزانته ورجع إلى أصله؛ لأن أصل النار الخفة والطيش والعلو، وهي تحرق ما حولها، فلا تبقي ولا تذر، وأما آدم فأصله التراب والطين، وطبيعة التراب والطين السكون والركود والرزانة، وينبت ما حوله ويزكو، فكل رجع إلى أصله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه، وخانه الطبع عند الحاجة، وذلك أنه كان قد توسم بأفعال الملائكة، وتشبه بهم وتعبد وتنسك].
يعني أن إبليس كان قد توسم بأفعال الملائكة.
قال المؤلف رحمه الله: [ولهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة، ونبه تعالى هاهنا على أنه من الجن، أي: على أنه خلق من نار، كما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76]، قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر.
رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه].
وقال الشاعر العربي: وسل أبا الجن اللعين فقل له أتعرف الخلاق أم أنت ذا نكران فإبليس هو أبو الجن، وهو الشيطان.
وقوله تعالى: ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ))، إذا قيل: إن إبليس كان معهم، وإنه تشبه بهم، وإنه من طائفة منهم كان الاستثناء متصلاً، وإذا قيل: ليس منهم كان منقطعاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الضحاك عن ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم: الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث، وكان خازناً من خزان الجنة، وخلقت الملائكة من نور، غير هذا الحي].
يعني أن الملائكة كلهم خلقوا من نور، إلا هذا الحي الذين منهم إبليس فقد خلقوا من نار.
قال المؤلف رحمه الله: [قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت].
أي: وهو الذي خلق منه إبليس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الضحاك -أيضاً- عن ابن عباس: كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازناً على الجنان، وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض، وكان مما سولت له نفسه من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفاً على أهل السماء، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله، واستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لآدم: {وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].
قال ابن عباس: قوله: ((كَانَ مِنَ الْجِنِّ))، أي: من خزان الجنان، كما يقال للرجل: مكي ومدني وبصري وكوفي.
وقال ابن جريج عن ابن عباس نحو ذلك.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هو من خزان الجنة، وكان يدبر أمر السماء الدنيا.
رواه ابن جرير من حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد به.
وقال سعيد بن المسيب: كان رئيس ملائكة سماء الدنيا، وقال ابن إسحاق عن خلاد بن عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جناً.
وقال ابن جريج عن صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر -أحدهما أو كلاهما- عن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن، وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فعصى فسخط الله عليه فمسخه شيطاناً رجيماً لعنه الله ممسوخاً، قال: وإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه، وإذا كانت في معصية فارجه].
يعني: إذا كانت خطيئة الرجل في الكبر فلا ترج فيه الخير، وإذا كانت في غير الكبر فارج فيه الخير.
قال المؤلف رحمه الله: [وعن سعيد بن جبير أنه قال: كان من الجنَّانين الذين يعملون في الجنة.
وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها].
أي: كل هذه الأقوال التي ذكرت مأخوذة عن بني إسرائيل، من عند نقل المؤلف عن سعيد بن المسيب ومن بعده، بل ومن عند نقله عن ابن عباس، فإنه كان ينقل عن بني إسرائيل، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها، ومنها ما قد يقطع بكذبه؛ لمخالفته للحق الذي بأيدينا، وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وُضع فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين].
يعني إن بني إسرائيل ليس عندهم حفاظ كما هو الحال عند المسلمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين، كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء والسادة والأتقياء والبررة والنجباء، من الجهابذة النقاد والحفاظ الجياد، الذين دونوا الحديث وحرروه، وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه من منكره، وموضوعه ومتروكه ومكذوبه، وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال، كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر صلى الله عليه وسلم أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه، فرضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل].
يعني: وقد فعل سبحانه وتعالى، فرضي عنهم وأرضاهم.(59/2)
الموقف من أخبار أهل الكتاب
وما جاء في كتب أهل الكتاب على ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما جاء شرعنا بموافقته، فهذا حق مطلوب؛ لأنه وافق شرعنا.
القسم الثاني: ما جاء شرعنا بإبطاله، فهذا باطل مردود.
القسم الثالث: ما سكت عنه شرعنا، ولم يأت فيه ما يدل على بطلانه أو ما يدل على إثباته، فهذا لا يصدق ولا يكذب، كما في الحديث: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فإنهم قوم قد كان فيهم الأعاجيب) وفي رواية: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم).
فلا يصدق خبرهم؛ لاحتمال أن يكون كذباً، ولا يكذب؛ لاحتمال أن يكون صدقاً، فمرويات بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب، إلا إذا جاء في شرعنا ما يدل على تصديق بعضها فنصدقه، وأما إذا جاء في شرعنا ما يدل على بطلانها فنبطلها ونكذبها.
وقد ذكر هنا الحافظ ابن كثير رحمه الله أن هذه الأمة خصها الله بالمحدثين والنقاد، والأئمة والجهابذة من العلماء الذين ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وقد نقحوا السنة وطهروها ونظفوها، وميزوا الوضاعين من الكذابين ومن المجهولين ومن الثقات، وأما الأمم السابقة فليس عندهم شيء من هذا، وليس لديهم إسناد، وإنما الإسناد خاص بهذه الأمة، ولهذا كثر التحريف والتبديل في الكتب السابقة، وأما القرآن الكريم فقد حفظه الله بنفسه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فهو محفوظ بحفظ الله، وأما السنة فقد قيض الله لها الجهابذة والنقاد والعلماء يحفظونها، وأما الكتب السابقة فإن الله تعالى لم يتول حفظها، بل وكل حفظها إليهم فلم يحفظوها، كما قال سبحانه تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة:44].
أي: استحفظهم الله على حفظها فلم يحفظوها، فحرفت وبدلت، وأما القرآن فقد تولى الله حفظه بنفسه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: ((فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ))، أي: فخرج عن طاعة الله؛ فإن الفسق هو الخروج، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من أكمامها.
وفسقت الفأرة من جحرها: إذا خرجت منه للعيث والفساد].
أصل كلمة (الفسق): الخروج، وسمي الفاسق فاسقاً لخروجه عن طاعة الله، والعاصي يسمى فاسقاً، وكذلك مرتكب الكبيرة؛ لخروجهما عن طاعة الله، وسميت الفأرة فاسقة لأنها تخرج من جحرها للعيث والفساد، وتسمى الفويسقة؛ لأنها خرجت عن طبيعة غيرها بالإيذاء، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور، والغراب).
فسميت هذه فواسق لأنها خرجت عن طبيعة غيرها من الحيوانات بالإيذاء والإفساد، وسمي الفاسق فاسقاً لخروجه عن طاعة الله إلى المعصية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال تعالى مقرعاً وموبخاً لمن اتبعه وأطاعه: ((أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي)) أي: بدلاً عني.
ولهذا قال: ((بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)) وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59] إلى قوله: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62]].(59/3)
تفسير قوله تعالى: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم)
قال الله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول الله تعالى: هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم لا يملكون شيئاً، ولا أشهدتهم خلق السماوات والأرض، ولا كانوا إذ ذاك موجودين.
يقول تعالى: أنا المستقل بخلق الأشياء كلها، ومدبرها ومقدرها وحدي، ليس معي في ذلك شريك ولا وزير ولا مشير ولا نظير، كما قال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23] الآية.
ولهذا قال: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51].
قال مالك: أعواناً].
هذه الآية فيها توبيخ للذين يتخذون الشيطان ولياً من دون الله، قال سبحانه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف:51].
يعني: هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دون الله ما شهدوا خلق السماوات ولا خلق الأرض، ولم يكونوا موجودين في ذلك الوقت.
ولم يشهدوا خلق أنفسهم، وليس لهم من الأمر شيء، فكيف تتخذونهم أولياء من دون الله؟! وقد قال تعالى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51].
يعني أن المضلين لم يتخذهم الله أعواناً له، فهؤلاء الذين عُبدوا من دون الله واتُخذوا أولياء من دونه ليس لهم من الأمر شيء، ولم يشهدهم الله خلق السماوات والأرض، ولا خلق أنفسهم، فليس لهم في الأمر شيء، ولم يتخذهم الله أعواناً ولا أنصاراً، بل هو سبحانه وتعالى الكامل في ذاته وصفاته، الغني عن كل أحد، فلا يحتاج إلى أحد.
وكل من يقول: إن لبعض الأشخاص تصرفاً في الكون فقوله لا دليل عليه، وقد قال الله: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف:51] فمن قال ذلك الكلام فإنه يرد عليه بهذه الآية، وكذلك الذين يعبدون غير الله عز وجل، والذين يقولون: إن المتصرف في هذا الكون الكواكب أو غيرها، كل هؤلاء يرد عليهم بهذه الآية: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51].(59/4)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم)
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:52 - 53].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رءوس الأشهاد تقريعاً لهم وتوبيخاً: {نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [الكهف:52].
أي: في دار الدنيا، ادعوهم اليوم ينقذونكم مما أنتم فيه.
قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
وقوله: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [الكهف:52] كما قال: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [القصص:64]، الآية، وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف:5]، الآيتين، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81 - 82].
وقوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف:52].
قال ابن عباس وقتادة وغير واحد: مهلكاً، وقال قتادة: ذكر لنا أن عمراً البكائي حدث عن عبد الله بن عمرو قال: هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة.
وقال قتادة: موبقاً: وادياً في جهنم].
وهذه الآية فيها إثبات الكلام لله عز وجل، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ} [الكهف:52].
ففيها إثبات القول والكلام لله، وأن الله يتكلم، وفيها رد على من أنكر كلام الله وقال: إنه ليس بحرف ولا صوت، من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة.
وهذه الآية فيها التوبيخ للمشركين الذين عبدوا آلهة مع الله، فإن الله يناديهم ويقول لهم: {نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [الكهف:52] أي: الذي زعمتم أنهم شركاء لله وعبدتموهم معه، قال تعالى: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [الكهف:52] أي أنهم دعوهم ولكنهم لم يستجيبوا لهم ولم ينفعوهم، وجعل الله بينهم وبينهم مهلكاً، فتبين هلاكهم وخسارتهم، فأهلكهم الله وسبقوا إلى النار، والعياذ بالله، كما قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:85 - 86]، فمن عبد غير الله ومات على الشرك فليس له إلا النار، فيُساق إلى جهنم سوقاً، والعياذ بالله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سنان القزاز حدثنا عبد الصمد حدثنا يزيد بن زريع سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول في قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف:52]، قال: واد في جهنم من قيح ودم.
وقال الحسن البصري: موبقاً: عداوة.
والظاهر من السياق هاهنا أنه المهلك، ويجوز أن يكون وادياً في جهنم أو غيره.
والمعنى أن الله تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير.
وأما إن جُعل الضمير في قوله: (بَيْنَهُمْ) عائداً إلى المؤمنين والكافرين -كما قال عبد الله بن عمرو: إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به- فهو كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14]، وقال: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43]، وقال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59].
وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} [يونس:28] إلى قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:30]، وقوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:53]، أي أنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك، فإذا رأى المجرمون النار تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها، ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحَزَن لهم، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز].
أي: عذاب معجل، فكون الإنسان يخاف ويرهب ويتوقع أن يأتيه شر في المستقبل عذاب معجل، ثم إذا جاءه العذاب انتقل من عذاب إلى عذاب، والعياذ بالله، كما قال سبحانه: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:53]، فتبرز النار -والعياذ بالله- يوم القيامة، وإذا برزت ورآها الكفار تقاد يتيقنوا أنهم مواقعوها، فيزداد همهم وخوفهم ورعبهم وحزنهم، وهذا عذاب معجل لهم قبل أن يصلوا إليها، ثم يساقون إليها والعياذ بالله، ونسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:53].
أي: ليس لهم طريق يُعدل بهم عنها، ولابد لهم منها.
قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة)].
وهذا الحديث ضعيف، ففيه دراج عن أبي الهيثم وهو ضعيف، والآية واضحة وصريحة في أن الكفار يرونها ويظنون أنهم مواقعوها.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا، وإن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة)].
وهذا ضعيف؛ فإن فيه ابن لهيعة، ودراج عن أبي الهيثم.(59/5)
تفسير قوله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ولقد بينا للناس في هذا القرآن ووضحنا لهم الأمور وفصلناها؛ كيلا يضلوا عن الحق ويخرجوا عن طريق الهدى، ومع هذا البيان وهذا الفرقان الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة].
هذا هو أصل الإنسان، وهو أنه كثير الجدل وكثير المعارضة للحق، إلا من هداه الله، وقد بين الله تعالى هذا القرآن ووضحه وبين للناس فيه طريق الخير وطريق الشر، ومع ذلك فالإنسان كثير الجدل وكثير المعارضة للحق، إلا من هداه الله ووفقه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني علي بن الحسين أن حسين بن علي أخبره أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخبره (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال: ألا تصليان؟! فقلت: يا رسول الله! إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا.
فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئاً، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]) أخرجاه في الصحيحين].
فقول علي: (أنفسنا بيد الله)، يعني: سننام، فإن شاء الله بعثنا.
فلم يعجب النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، فولى ولم يرجع لهما قولاً، وضرب بيديه على فخذه، وقال: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54].
يعني: ما كان ينبغي هذا من علي رضي الله عنه، وكان ينبغي له أن يقول -مثلاً-: سنفعل إن شاء الله، وسنبذل الأسباب.
وأما قوله: (أنفسنا بيد الله)، فمعناه: إننا لا ننام باختيارنا.
فلم يعجب قوله الرسول عليه الصلاة والسلام، فولى وهو يضرب يده في فخذه، ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54] يعني أن هذا من الجدل.(59/6)
تفسير قوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى)
قال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الكهف:55 - 56].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن تمرد الكفرة في قديم الزمان وحديثه، وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات والدلالات الواضحات، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عياناً، كما قال أولئك لنبيهم {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:187]].
وهم قوم شعيب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وآخرون {قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت:29]].
وهم قوم لوط.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقالت قريش: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]].
وهذا من الشقاء والعياذ بالله، ولو وفقوا لقالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا له واجعلنا نقبله ونرضى به ونختاره.
لكن الشقاوة غلبت عليهم -نسأل الله العافية- فقالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال:32] أي: الذي جاء به محمد {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] نعوذ بالله من الخذلان.
ومع ذلك حكم الله تعالى عليهم ولم يعاجلهم بالعقوبة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الحجر:6 - 7]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.
ثم قال: {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الكهف:55]، من غشيانهم بالعذاب وأخذهم عن آخرهم، {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف:55].
أي: يرونه عياناً مواجهة ومقابلة.
ثم قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [الأنعام:48]، أي: قبل العذاب مبشرين من صدقهم وآمن بهم، ومنذرين لمن كذبهم وخالفهم.
ثم أخبر عن الكفار بأنهم: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحق} [غافر:5]، أي: ليضعفوا به الحق الذي جاءتهم به الرسل، وليس ذلك بحاصل لهم.
{وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الكهف:56].
أي: اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب {هُزُوًا} [الكهف:56].
أي: سخروا منهم في ذلك، وهو أشد التكذيب].
أي: سخر الكفرة من الآيات ومن النذر، والذي منعهم من الإيمان هو: {أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف:55]، فتعسفوا ولم يقبلوا الحق وأنكروه، فلم يبق إلا {أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف:55]، نسأل الله العافية.(59/7)
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها)
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:57 - 59].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: وأي عباد الله أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها؟! أي: تناساها وأعرض عنها ولم يصغ لها ولا ألقى إليها بالاً (وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) أي: من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ) أي: قلوب هؤلاء (أَكِنَّةً) أي: أغطية وغشاوة (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي: لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان، (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) أي: صمماً معنوياً عن الرشاد (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا)].
وهذا -نسأل الله العافية- بسبب عنادهم وكفرهم وعدم قبولهم للحق، فقد جعل الله على قلوبهم أكنة، أي: غشاوة وغطاء معنوياً يمنعهم من قبول الحق؛ بسبب عدم قبولهم للحق لما جاءهم وردهم له، كما قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، وكما قال سبحانه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]، فلما جاءهم الحق ووضحه الله لهم وردوه عن بصيرة لا عن جهل عاقبهم الله، وجعل على قلوبهم أكنة، فلا يفقهون هذا القرآن، نسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ)، أي: ربك -يا محمد- غفور ذو رحمة واسعة (لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) كما قال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، وقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:6]، والآيات في هذا كثيرة شتى.
ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر، وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد، ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد، وتضع كل ذات حمل حملها، ولهذا قال: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58].
أي: ليس لهم عنه محيص ولا محيد ولا معدل.
وقوله: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف:59]، أي: الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم.
{وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59]، أي: جعلناه إلى مدة معلومة ووقت معين، لا يزيد ولا ينقص.
أي: وكذلك أنتم -أيها المشركون- احذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي، ولستم بأعز علينا منهم، فخافوا عذابي ونذر].
وهذا فيه تهديد ووعيد لكفار قريش بأن الله سبحانه وتعالى مع كونه الغني ذا الرحمة لا يعاجلهم بالعقوبة، فهو غني وذو رحمة واسعة، ولا يعاجلهم بالعقوبة، بل يحلم عليهم ويمهلهم، كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58].
ثم بين سبحانه وتعالى أن الأمم السابقة أهلكهم الله بسبب ظلمهم وشركهم وعنادهم وتكذيبهم الأنبياء، وجعل لذلك وقتاً محدداً، ولهذا قال: {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59].
يعني: فاحذروا -أنتم أيها الكفار- أن تستمروا على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وعدم قبول الحق فيصيبكم ما أصابهم.(59/8)
تفسير سورة الكهف [60 - 65]
تعتبر القصص القرآنية جانباً من الجوانب العظيمة في عرض حقائق الدين، وبيان مآل المكذبين والمتقين، وقد حفلت سورة الكهف بجملة وافرة من تلك القصص الواقعة أحداثها في الزمن الغابر، ومن جملتها قصة موسى والخضر عليهما السلام، المتضمنة بيان سعة علم الله تعالى، واختصاصه بإطلاع من يريد على جزء من المغيبات، وتواضع الأنبياء، وشرف طلب العلم، وغير ذلك.(60/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:60 - 65].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [سبب قول موسى عليه الصلاة والسلام لفتاه -وهو يوشع بن نون - هذا الكلام أنه ذكر له أن عبداً من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى، فأحب الرحيل إليه، وقال لفتاه ذلك: (لا أَبْرَحُ) أي: لا أزال سائراً، (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) أي: هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين.
قال الفرزدق: فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ببطحاء ذي قار عياب اللطائم].
وهذا البيت مذكور في تفسير الطبري.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال قتادة وغير واحد: هما بحر فارس مما يلي المشرق، وبحر الروم مما يلي المغرب، وقال محمد بن كعب القرظي: مجمع البحرين عند طنجة، يعني: في أقصى بلاد المغرب.
فالله أعلم.
وقوله: (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) أي: ولو أني أسير حقباً من الزمان.
قال ابن جرير رحمه الله: ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحقب في لغة قيس سنة، ثم قد روى عن عبد الله بن عمر أنه قال: الحقب ثمانون سنة.
وقال مجاهد: سبعون خريفاً.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) قال: دهراً.
وقال قتادة وابن زيد مثل ذلك].
فالحقب: السنون والدهور التي لا نهاية لها.
فكلما انتهى حقب جاء حقب غيره، قال سبحانه وتعالى عن أهل النار: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) يعني: دهوراً، كل ما انتهى حقب أعقبه آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية.
فكأن موسى عليه الصلاة والسلام قال على جهة المبالغة: لا أزال أمضي حتى أبلغ مجمع البحرين وأجد هذا العبد الصالح لأتعلم منه، ولو أمضيت حقباً ودهوراً، يعني: لن أزال سائراً حتى أبلغ مجمع البحرين مهما كلف الأمر، ولو أمضيت دهوراً وحقباً من السنين.
وهذا يدل على رغبته عليه الصلاة والسلام في طلب العلم وحرصه العظيم عليه، فإذا كان موسى عليه الصلاة والسلام -وهو نبي الله- يحرص هذا الحرص على طلب العلم، وسافر ورحل في طلبه، حتى ركب البحر من أجل طلبه وتعلمه، وقد أعطاه الله النبوة واصطفاه بالرسالة والتكليم، وهو من أولي العزم، ومع ذلك يسافر في طلب العلم، ويحرص كل هذا الحرص عليه، ويقول لفتاه: لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين، أو أمضي حقباً، وإذا كان الله تعالى قد قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، فأولى بطالب العلم أن لا يفتأ يتعلم ويستفيد ويحرص على طلب العلم، وقد كان الأئمة يكتبون الحديث ويتعلمون، حتى قال بعضهم: من المحبرة إلى المقبرة.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]، يعني: ولو أمضي حقباً حتى أصل إليه.
وفتاه هذا هو يوشع بن نون، وقد أصبح نبياً بعد موسى عليه الصلاة والسلام، وهو الذي فتح بيت المقدس، وهو الذي حبست له الشمس، ولم تحبس لأحد؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام مات في التيه في الصحراء فيما بين مصر وفلسطين، وهو التيه الذي عاقب الله به بني إسرائيل لما امتنعوا من دخول بيت المقدس وقتال الكفار، وقالوا لنبيهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، وقال موسى عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25]، فقال الله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26] فحرمت عليهم تحريماً قدرياً، وهذا مثل قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:12]، والتحريم قد يكون شرعياً وقد يكون قدرياً، فهذا تحريم قدري، فالله تعالى قدر عليهم العصيان وعاقبهم بالتيه، وقدر عليهم ألا يدخلوها، قال العلماء: مات هذا الجيل الذي تربى على الخوف من فرعون وامتنع عن دخول الأرض المقدسة، وخرج جيل جديد رباهم موسى عليه الصلاة والسلام على الشجاعة والقوة، ثم توفي موسى عليه الصلاة والسلام في التيه، ففتح فتاه يوشع بن نون بيت المقدس ودخلها، ولما فتحها كان قد قرب غروب الشمس لتدخل ليلة السبت، فقال للشمس يخاطبها: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا.
فحبست الشمس حتى تم الفتح، فدخلها يوشع عليه الصلاة والسلام، ولم تحبس الشمس لأحد إلا له، وما جاء في بعض الآثار من أنها حبست لـ علي فهو أقوال ضعيفة من وضع الرافضة والشيعة، والصواب أن الشمس ما حبست إلا ليوشع بن نون عليه الصلاة والسلام.(60/2)
بيان معنى قوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما)
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا)، وذلك أنه كان قد أُمر بحمل حوت مملوح معه، وقيل له: متى فقدت الحوت فهو ثمة].
(ثَمَّ) ظرف مكان، يعني: فهو هناك.
والمعنى: إذا فقدت الحوت فستجده هناك.
وهذه علامة جعلها الله لموسى لما قال: يا رب! أين أجده؟ فقال: في مجمع البحرين.
وجعل الله له ذلك علامة، وهي فقد الحوت، فإذا فقده رجع إليه ليجد هذا العبد - الخضر - هناك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فسارا حتى بلغا مجمع البحرين، وهناك عين يقال لها: عين الحياة، فناما هنالك، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء فاضطرب، وكان في مكتل مع يوشع عليه السلام، وطفر من المكتل إلى البحر، فاستيقظ يوشع عليه السلام، وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء، والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده، ولهذا قال تعالى: (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا)، أي: مثل السراب في الأرض].
وهذا من آيات الله العظيمة، وهو دليل على قدرته العظمة، ودليل على البعث، فإن هذا الحوت كان مملوحاً ومشوياً فأحياه الله، فاضطرب ودخل في البحر، وقد كان هذا الحوت المملوح المشوي غداءً لموسى ويوشع بن نون يحملانه في مكتل، فلما ناما أصابه رشاش من هذه العين، فأحياه الله، فاضطرب فقفز، و (طفر) بمعنى: (قفز) فقفز من المكتل وسقط في البحر وجعل يمشي فيه، وأمسك الله جرية الماء، كما جاء في بعض الآثار من أن الماء أصبح مثل الطاق يشاهده يوشع، وموسى عليه الصلاة والسلام نائم، وهذا من آيات الله العظيمة، وهو دليل على قدرة الله العظيمة، وأنه لا يعجزه شيء، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وهو دليل على البعث وعلى أن الله يحيي الأرض بعد موتها، وهذه إحدى القصص التي فيها إحياء الله للموتى.
وقد ذكر الله في سورة البقرة قصصاً أحيا الله فيها الموتى، منها قتيل بني إسرائيل، فقد أحياه الله لما ذبحوا البقرة وضربوه بشيء منها.
ومنها: أن بني إسرائيل أصابتهم الصاعقة، ثم أحياهم الله بعد أن ماتوا، قال الله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56]، وذلك لما ذهبوا مع موسى وقالوا: أرنا الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فجعل موسى عليه الصلاة والسلام يبتهل إلى ربه ويسأله حتى أحياهم الله.
وكذلك الذين خرجوا من ديارهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243].
وكذلك قصة عزير الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟! فأماته الله هو وحماره، ثم أحياه الله وأحيا له حماره وهو ينظر إليه، وقد أماته الله مائة عام، وكان معه طعامه وماؤه فلم يتغيرا، ووجد أن فاكهته بعد مائة سنة على حالها لم تتغير، ولم يكن يوجد برادات ولا ثلاجات، وإنما الله تعالى لا يعجزه شيء.
وكذلك طيور إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد سأل ربه قائلاً: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، فإبراهيم عليه السلام أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، وكان موقناً مصدقاً، ولكنه أراد أن ينتقل من درجة إلى درجة؛ ليترقى في المراتب من رتبة إلى رتبة، فأراد أن ينتقل من رتبة العلم إلى رتبة المعاينة؛ لأن رتبة المعاينة فوق رتبة العلم، فأمره الله أن يأخذ أربعة من الطير فيصرهن أي: يقطعهن، فقطع الطيور الأربعة، وجعل على كل جبل منهن جزءاً، وأخذ الرءوس بيده، فصارت تتطاير وهي جثث، فإذا ركب الرأس الذي ليس له امتنع حتى تأتي الجثة التي له فيركب فيها، وهذا من آيات الله العظيمة.
وهذه القصة التي في سورة الكهف هي منها، وهي أن الله أحيا الحوت الميت المشوي الذي كان غداءً لهم، فأحياه الله بمجرد ما أصابه رشاش من هذه العين، فاضطرب وقفز من المكتل وسقط في البحر، وأمسك الله جرية الماء عنه، حتى صار مثل الطاق، وشاهده يوشع وهو يسير في البحر.
ثم أنساه الله ذلك فنسي، وهو إنما جاء مع موسى لهذه المهمة، فقد كان عمله أن يحمل الغداء، ومع ذلك نسي وقال: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63] وهذه الآية فيها دليل على أن عدو الله الشيطان يتسلط على الإنسان فينسيه، وفيها أنه قد يتسلط على الأنبياء وغيرهم، فسارا يوماً وليلة حتى أصاب موسى النصب، فقال: (آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ)؛ لأنه جُعل له علامة، فرجعا فوجدا الخضر هناك، كما جاء في الآثار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج: قال ابن عباس: صار أثره كأنه حجر].
أي: مثل الطاق.
يعني: لما دخل الحوت في البحر صار أثره كأنه حجر، فكان أثره فرقاً في البحر مثل الطاق يشاهد، والماء لا يلتئم، ومشى الحوت مسافات ويوشع يشاهده.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال العوفي عن ابن عباس: جعل الحوت لا يمس شيئاً من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة.
وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك: (ما انجاب ماء منذ كان الناس)].
قوله (انجاب) أي: وقف الماء حتى صار كالطريق للحوت، يقول: ما انجاب الماء ولا انفتح إلا لهذا الحوت المذكور في هذه القصة.
قال: [(ما انجاب ماء منذ كان الناس غير مسير مكان الحوت الذي فيه، فانجاب كالكوة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه، فقال: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ))].
يعني: حتى رجع موسى وأراه يوشع الطريق، فقد كان الطريق مفتوحاً بعد أن سار فيه الحوت، كأنه طريق في البحر، فقد وقف الماء عن يمينه وعن شماله.
ومحمد بن إسحاق مدلس، وقد عنعن، وهو ثقة.
فقوله: (غير مسير ذلك الحوت الذي فيه) يعني: أن الماء سنة الله فيه أنه يمشي ولا يقف، فلم يقف إلا في هذه الحادثة، فقد انجاب وانفتح وانقبض وتجمع يميناً وشمالاً حتى صار كالطريق وكالكوة، وهذا من آيات الله العظيمة؛ لأن سنة الله الكونية في البحر أنه يمشي ولا يقف، ومثل هذا ما حدث عندما أمر الله موسى أن يضرب البحر بعصاه، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وذلك لما تبعهم فرعون ومن معه، فصار اثني عشر طريقاً، وصار كالطود، أي: كالجبل، فقد صار يبساً في الحال، وأصبح طريقاً، وأصبح الماء عن اليمين وعن الشمال كالجبال، فدخل بنو إسرائيل هذه الطرق، فتبعهم فرعون وجنوده، فلما اكتمل خروج موسى وقومه من الجهة الأخرى، ودخل فرعون وجنوده فيه؛ أمر الله البحر بأن يعود إلى حالته فانطبق عليهم، وهذا من آيات الله العظيمة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: سرب من البحر حتى أفضى إلى البر] يعني: قفز من المكتل وهو في البر فسقط في البحر [ثم سلك فيه فجعل لا يسلك طريقًا فيه إلا صار ماء جامداً].
وهذا فيه من آيات الله العظيمة وقدرته، فمن ذلك أن الله تعالى أحيا هذا الحوت بعد أن كان مشوياً مملوحاً معداً للأكل.
وأمسك الله جرية الماء، فصار طريقاً، قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وهو سبحانه وتعالى الذي خلق البحر وخلق الحوت، وسخر البحر، فبيده كل شيء، وبيده السنن الكونية، سبحانه وتعالى فلا يعجزه شيء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (فَلَمَّا جَاوَزَا) أي: المكان الذي نسيا الحوت فيه، ونسب النسيان إليهما -وإن كان يوشع هو الذي نسيه- كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]، وإنما يخرج من المالح في أحد القولين].
يعني: نسبه تغليباً، فقال: (نَسِيَا حُوتَهُمَا) مع أن الذي نسيه هو يوشع، فقال: (نسيا) بالتثنية من باب التغليب، وإلا فالذي نسيه هو يوشع؛ لأنه كان هو الموكل بهذا الأمر، وقد أتى معه لهذه المهمة.(60/3)
بيان معنى قوله تعالى: (فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما ذهبا عن المكان الذي نسياه بمرحلة (قال) موسى: (لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا) أي: الذي جاوزا فيه المكان، (نَصَبًا)، يعني: تعباً.
(قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) قال قتادة: وقرأ ابن مسعود: (أن أذكركه) ولهذا قال: (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ)، أي: طريقه، (فِي الْبَحْرِ عَجَبًا)].
هنا تقديم وتأخير، والتقدير: وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان، أي: ما أنساني ذكر الحوت إلا الشيطان.
وقراءة ابن مسعود تحتمل: (أن أذكِّركه) وتحتمل: (أن أذكركه) بمعنى: أن أذكره لك، أي: أذكر لك خبر الحوت، فالمعنى: وكاف الخطاب يعود إلى موسى؛ لأنه هو المخاطب، والمتكلم فتاه يوشع.
وفي نسخة أخرى: [وقرأ ابن مسعود: وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان].
فلعل هناك تقديماً وتأخيراً في النسخ، والقراءة المشهورة هي: (أَنْ أَذْكُرَهُ) مع أن الحافظ يذكر القراءة، ويقول: هذه قراءة شاذة، أو قراءة كذا.
قال أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله تعالى: [يقول تعالى ذكره: قال فتى موسى لموسى حين قال آتنا غداءنا لنطعم (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) هنالك: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ) يقول: وما أنساني الحوت إلا الشيطان، (أَنْ أَذْكُرَهُ) فـ (أن) في موضع نصب رداً على الحوت؛ لأن معنى الكلام: وما أنساني أن أذكر الحوت إلا الشيطان، سبق الحوت إلى الفعل].
ويمكن أن تكون الجملة: نسب الحوت إلى الفعل.
قال: [ورد عليه قوله: (أَنْ أَذْكُرَهُ) وقد ذكر أن ذلك في مصحف عبد الله: وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان].
وهذا يحتاج إلى رجوع إلى كتب القراءات، فإن ابن جرير يقول: إن في نسخة عبد الله (وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان).
والظاهر أن موسى لم ير الحوت لما سقط في البحر، وإنما رآه فتاه، ويحتمل أنه رآه بعد ذلك، فالله أعلم، والذي جاء في الحديث أن الذي رآه يوشع، كما جاء ذلك في الأثر الذي ذكره المؤلف، ولو رآه موسى لما قال له: (آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا) فموسى عندما قال: (آتِنَا غَدَاءَنَا)، كان يريد الحوت.
قال المؤلف رحمه الله: [ولهذا قال: (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ) أي: طريقه (فِي الْبَحْرِ عَجَبًا) (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ) أي: هذا هو الذي نطلب (فَارْتَدَّا)، أي: رجعا (عَلَى آثَارِهِمَا)، أي: طريقهما، (قَصَصًا)، أي: يقصان أثر مشيهما ويقفوان أثرهما.(60/4)
بيان معنى قوله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) وهذا هو الخضر عليه السلام كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني سعيد بن جبير قال: قلت لـ ابن عباس: إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل.
قال ابن عباس: كذب عدو الله].
وهذا من باب الشدة في الإنكار، ومعنى (كذب): أخطأ.
فمن أخطأ يقال له: كذب، وإن لم يتعمد الكذب، فهذا من باب الشدة في الإنكار، ومن الكلمات التي لا يراد بها معناها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لـ صفية: (عقرى حلقى).
وهذا لا يراد به حقيقته.
فقول ابن عباس: (كذب عدو الله)، يعني: أخطأ في هذا، بل هو موسى بني إسرائيل.
ومنه ما جاء في الحديث في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن بطن أخي استطلق.
فقال: أسقه عسلاً.
فجاءه فقال له: زاد استطلاقه.
فقال: اسقه عسلاً.
فأتاه في المرة الثالثة، فقال: اسقه عسلاً، ثم قال: (صدق الله وكذب بطن أخيك).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني سعيد بن جبير قال: (قلت لـ ابن عباس: إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، فقال موسى: يا رب! وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتاً فجعله بمكتل ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: (آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا))].
أي: سارا يوماً وليلة، ونسي يوشع أن يخبر موسى بما رآه، ثم لما طلب موسى منه الغداء بعد أن أحس بالجوع والتعب أخبره بأنه نسي الحوت، وأنه ليس معهما شيء، فقال: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)، وفيه تسلط الشيطان على الإنسان حتى في الأمور الواضحة؛ لأن أمراً مثل هذا لا ينسى؛ إذ إن مهمة يوشع هي أن يحمل المكتل، وليس معه شيء آخر يشغله، ومع ذلك نسي هذه المهمة التي هي حمل الغداء.
قال: [(ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به قال له فتاه: (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا)، قال: فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً)].
أي أن الله تعالى جعل لموسى علامة على العثور على الخضر، وذلك عند فقدانه للحوت، فأخبره فتاه أنه فقد الحوت، فقال: هذا هو الذي نريد، فقد حصلت العلامة، فرجعا إلى مكانهما فوجدا الخضر.
قال: [(فقال: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا)، قال: فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام؟! قال: أنا موسى.
فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: ما جاء بك؟ قال: أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً)].
وهذا فيه فوائد، منها أن السلام مشروع في الأمم السابقة، فلهذا سلم موسى، والسلام تحية المؤمنين في الدنيا وتحية المؤمنين في الجنة، فلما جاء موسى وفتاه وجدا هذا الرجل مسجى، أي: مغطى بثوب، فسلم موسى، فرفع الخضر رأسه لما سمع السلام، فقال: (وأنى بأرضك السلام؟!) أي: من أين أنت؟ وكأن -والله أعلم- أن هذه الأرض أرض سوء ليس فيها سلام، فالسلام محل استغراب، فقال له: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.
وهذا فيه دليل واضح على أن موسى التي حصلت له القصة هو موسى بني إسرائيل، ويدل -أيضاً- على أن موسى مرسل إلى بني إسرائيل خاصة، وليست رسالته عامة كرسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، لأن الخضر كان في أرض بعيدة، ولم يكن موسى مرسلاً إليه، ولا هو مكلف بشريعة موسى، ولهذا لما قال: أنا موسى قال: موسى بني إسرائيل؟! قال: ما جاء بك، قال: جئت لتعلمني مما علمت رشداً، وفي بعض الآثار أنه قال: (أما تكفيك التوراة التي أنزلها الله عليك؟!).(60/5)
تواضع موسى عليه السلام وصبره على طلب العلم
قال: [({قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:67]، يا موسى! إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، فقال موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69]، قال له الخضر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:70])].
وهذا فيه تواضع موسى عليه الصلاة والسلام، حيث قال: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) ولا شك في أن موسى أفضل من الخضر؛ لأن موسى من أولي العزم من الرسل، أما الخضر فمختلف في نبوته، فقيل: عبد صالح، وقيل: نبي، والصواب أنه نبي، كما جاء في الحديث أنه قال: (أنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه) يعني: كل واحد منا عنده علم، وفيه دليل على أنه قد يكون عند المفضول ما ليس عند الفاضل، فالخضر كان عنده علم لا يعلمه موسى، فدل ذلك على أن العلم مشترك، وقد يكون عند الصغير ما ليس عند الكبير، وقد يكون عند التلميذ ما ليس عند الشيخ، فينبغي للإنسان أن يأخذ العلم من كل أحد، ممن فوقه وممن دونه وممن هو مماثل، ولهذا قال العلماء: لا ينبل الإنسان حتى يأخذ العلم ممن فوقه وممن دونه وممن هو مماثل له.
وهناك رواية الأصاغر عن الأكابر، كما هو معلوم في مصطلح الحديث، وكذلك رواية الآباء عن الأبناء، فقد يستفيد الأب من ابنه، وقد يستفيد الشيخ من تلميذه، فهذا موسى عليه السلام استفاد من الخضر لما كان عنده علم لا يعلمه موسى.
وفيه أن الله تعالى عتب على موسى إذ لم يرد العلم إليه، فلما سئل: من أعلم أهل الأرض؟ فقال: أنا.
وفيه أن النبي قد يغلط وقد يخطئ وقد يعتب الله عليه، ولا يقره على الخطأ.
وفيه التواضع في طلب العلم.
وفيه أنه لابد من الصبر، ولذا قال الخضر لموسى: إنك لا تستطيع أن تصبر، فأجابه: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا).
وفيه تعليق الأمر بمشيئة الله في قوله: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ)، وكما في الآية: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، فعليك بتفويض الأمر إلى الله عز وجل.
وفيه سعة علم الله عز وجل.(60/6)
موقف موسى عليه السلام من خرق الخضر للسفينة
قال: [(فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قد حملونا بغير نول فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71])].
أي: حملوا الثلاثة: الخضر وموسى وفتاه بدون أجرة؛ لأنهم عرفوا الخضر، أما موسى فليس معروفاً في هذه الأرض البحرية البعيدة، وقوله: (لقد جئت شيئاً إمراً) أي: أمراً عظيماً.
قال: [(فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم)].
يعني: فاجأهم الخضر بأن أخذ الفأس وصار يضرب ضرباً قوياً حتى خرق السفينة، فانزعج موسى لهذا الأمر ولم يصبر، فموسى عليه السلام كان شديداً في أمر الله، فقد جبله الله على الشدة والقوة وإنكار المنكر؛ لأنه يرى أن هذا مخالف لظاهر الشرع، فلذلك انزعج موسى واستغرب استغراباً عظيماً، وقال منكراً على الخضر: أناس حملونا بغير أجرة وأحسنوا إلينا تفسد عليهم سفينتهم، (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)؟! فذكره الخضر بما قال له فقال: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:72] أي: قد أخبرتك ابتداءً أنك لا تستطيع أن تصبر.
قال: [{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:72 - 73]].
يعني: ذكره الخضر بأنه اشترط عليه أن يصبر، فتذكر فقال: هذه نسيان مني.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فكانت الأولى من موسى نسياناً)].(60/7)
سعة علم الله تعالى
قال: [(قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر)].
هذا فيه سعة علم الله وإحاطته، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: ما نعلم أنه جاء مثل هذا في بيان سعة علم الله، حيث قال: ما نقص علمي وعلمك إلا كما ينقص هذا العصفور بمنقاره من البحر، ولعمري ماذا ينقص من بحر متلاطم الأمواج وقد غطى أربعة أخماس العالم؟! فهذه نسبة علم موسى والخضر إلى علم الله.
ولهذا خلق الله السماوات والأرض ليعلم الناس سعة علمه وإحاطته وعظيم قدرته، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12].(60/8)
موقف موسى عليه السلام من قتل الخضر للغلام
قال: [(ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74])، قال: وهذه أشد من الأولى {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف:76]].
هذه المسألة الثانية هي أشد وأشنع من الأولى، فكانت الأولى في البحر، والثانية في الساحل، فإنه لما نزل من السفينة وجد غلاماً يلعب مع الصبيان، فأخذ برقبته وانتزعها ورماه في الأرض، فانزعج موسى انزعاجاً عظيماً، وأنكر عليه أشد الإنكار، وقال: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا) أي: قتلت نفساً زكية معصومة بغير مسوغ للقتل؟! ولهذا قال: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا) إذ القتل لا يجوز إلا بمقابل، فكيف تقتل غلاماً يلعب مع الصبيان بدون سبب؟! فقال له الخضر: (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ)، فأكد بقوله: (لك)؛ لأنه قال له في الأولى: (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، أما هنا فقال له: (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ) ففيه زيادة تأكيد، وهذا يدل على أنه فعل هذا بوحي من الله، وهذا مما يؤيد أن الخضر نبي يوحى إليه.(60/9)
إثبات نبوة الخضر عليه السلام
يرى كثير من العلماء أن الخضر ليس نبياً، وأنه عبد صالح، وأنه فعل هذا بإلهام من الله، وهذا ليس بسديد، بل هو قول مرجوح وإن قال به الكثير، والصواب أنه لا يمكن أن يفعل هذا إلا بوحي من الله، ولهذا قال: (أنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه)، ثم قال في آخر القصة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] أي أنه إنما فعل هذا عن وحي من الله، فالصواب أنه نبي يوحى إليه، كما بين الله في آخر القصة، كما أنه قال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80]، وفي قراءة: (وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين) فكيف يعلم الخضر أنه لو عاش لكان كافراً، وأنه سيرهق أبويه طغياناً وكفراً؟! إنما يعلم ذلك بوحي، وإن الله تعالى أمره بقتله، وأبدل الله أبويه خيراً من هذا الغلام ركاة وأقرب رحماً.
وكذلك الجدار، فمن كان يعلم أن تحته كنزاً، وأنه لغلامين يتيمين في المدينة؟! والقول بأن هذا بإلهام من الله ومن العلم اللدني هو من خرافات الصوفية الذين يفعلون الفواحش ويقولون: هذا بإلهام من الله.
وفي آخر القصة قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] يعني أنه قاله عن أمر الله.(60/10)
إعذار موسى للخضر بمفارقته بعد الاعتراض
قوله: [قال: وهذه أشد من الأولى: (قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا)].
يعني: قال له موسى: إن سألتك عن شيء بعدها فأنت معذور بمفارقتي وعدم مصاحبتي، فأمهلني مرة واحدة فقط، فإن لم أصبر ففارقني ولا تصاحبني بعدها، ولهذا فارقه الخضر بعدها.(60/11)
موقف موسى عليه السلام من بناء الجدار
قال: [{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف:77] أي: مائلاً، فقال الخضر بيده {فَأَقَامَهُ} [الكهف:77]، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:77 - 78].
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما)].(60/12)
الحكمة من خرق الخضر للسفينة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال سعيد بن جبير: كان ابن عباس يقرأ: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً)].
يعني أن الخضر أراد أن يجعل في السفينة عيباً حتى لا تؤخذ.
قوله: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ) يعني: أمامهم (ملك) ظالم، (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) أي: صالحة، أما السفينة التي فيها عيب فلا يأخذها، فأراد الخضر أن يجعل فيها عيباً حتى تبقى السفينة للمساكين.
وهذا فيه دليل على أن المسكين يكون عنده شيء من المال، فهو أحسن حالاً من الفقير، إذ الفقير هو الذي لا يجد شيئاً، أو يجد أقل من نصف كفايته، فيعطى كفاية لمدة سنة، والمسكين يجد أكثر من النصف، إلا أنه لا يجد الكفاية، فيعطى ما يكفيه لمدة سنة نفقة وكسوة وسكنى، فهؤلاء كانوا مساكين، ومع ذلك يملكون سفينة.
إذاً: فالخضر أراد أن يجعل في السفينة عيباً حتى تبقى لهم، ولا يأخذها هذا الملك الظالم؛ لأنها لو بقيت سليمة لأخذها، فكان يرسل من ينظر في السفن، فالتي فيها عيب يتركونها، والسفينة الصالحة يأخذونها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان يقرأ: (وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين)].
هذه ليست قراءة سبعية، وإنما تحمل على أنها تفسير، ومعلوم أن القراءة الشاذة تحمل على أنها تفسير.(60/13)
ذكر بعض روايات البخاري للقصة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه البخاري عن قتيبة عن سفيان بن عيينة فذكر نحوه، وفيه: (فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ومعهما الحوت، حتى انتهيا إلى الصخرة فنزلا عندها، قال: فوضع موسى رأسه فنام).
قال سفيان: وفي حديث غير عمرو قال: (وفي أصل الصخرة عين يقال لها: الحياة، لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من ماء تلك العين فتحرك وانسل من المكتل، فدخل البحر، فلما استيقظ قال موسى لفتاه: (آتِنَا غَدَاءَنَا) كذا قال، وساق الحديث: ووقع عصفور على حرف السفينة، فغمس منقاره في البحر فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره) وذكر تمامه بنحوه].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال البخاري أيضاً: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد بن جبير يزيد أحدهما على صاحبه، وغيرهما قد سمعته يحدث عن سعيد بن جبير قال: إنا لعند ابن عباس في بيته إذ قال: سلوني، فقلت: أي أبا عباس -جعلني الله فداك-! بالكوفة رجل قاص يقال له: نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل.
أما عمرو فقال لي: قال: كذب عدو الله، وأما يعلى فقال لي: قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (موسى رسول الله ذكّر الناس يوماً حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى، فأدركه رجل فقال: أي رسول الله! هل في الأرض أحد أعلم منك؟)].
قوله: (أي) حرف نداء، مثل: (يا)، والمعنى: يا رسول الله! قال الحريري في الملحة: وناد من تدع بيا أو بأيا أو همزة أو أي وإن شئت هيا قال: [(فأدركه رجل فقال: أي رسول الله! هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، قيل: بلى، قال: أي رب! وأين؟ قال: بمجمع البحرين، قال: أي رب! اجعل لي عَلَماً أعلم ذلك به.
قال لي عمرو: قال: حيث يفارقك الحوت)].
العَلَم هو العلامة، كما في قوله تعالى في شأن عيسى عليه السلام: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف:61] وفي قراءة: (وإنه لَعَلَمٌ للساعة) أي أن نزول عيسى في آخر الزمان علامة من علامات الساعة، ومنه قول زكريا لما سأل الله الولد: {اجْعَلْ لِي آيَةً} [آل عمران:41]، أي: علامة: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:41].
قال: [وقال لي يعلى: (خذ حوتاً ميتاً حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل، فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني حيث يفارقك الحوت)].
يعني حين كلفه بهذه المهمة قال له: كن معي بحيث تكون مهمتك أن تكلمني إذا فقدت الحوت؛ لأنه جُعل لموسى علامة، لكن أنساه الشيطان حتى سارا مسافة يوم وليلة.
قال: [قال: (ما كلفت كبيراً)].
أي: ليس هو أمراً شاقاً.
فكان الحوت علامة، ويحتمل أن يكون معهما طعام آخر، لكن جاء في بعض الروايات أن الحوت طعامهما، والله أعلم.
قال: [فذلك قوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ)، يوشع بن نون -ليست عند سعيد بن جبير - قال: (فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان)].
قال في القاموس: ولبس أعرابي عريان فروة فقال: التقى الثريان، أي: شعر العانة ووبر الفروة، ويقال ذلك -أيضاً- إذا رسخ المطر في الأرض حتى التقى ونداها.
يعني: جلسا في مكان مبلول.
قال: [(إذ تضرب الحوت وموسى نائم، فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جرية الماء، حتى كأن أثره في حجر)].
والمعنى: كأن أثره في حجر مثل الصخرة.
ففيه أن موسى حين نام اضطرب الحوت ودخل في البحر ويوشع يشاهده، فقال: لا أوقظه، فلما استيقظ موسى نسي يوشع أن يخبره، حتى سارا يوماً وليلة ثم أخبره.
قال: [فقال لي عمرو (هكذا كأن أثره في حجر، وحلق بين إبهاميه والتي تليهما)].
يعني: كأنه في حجر وليس في ماء.
قال: [(قال: (لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)، قال: وقد قطع الله عنك النصب، -ليست هذه عند سعيد بن جبير أخبره-، فرجعا فوجدا خضراً، قال: قال عثمان بن أبي سليمان: على طنفسة خضراء على كبد البحر)].
يعني أن الخضر كان على طنفسة -أي: بساط- على ساحل البحر.
قال: [قال سعيد بن جبير: (مسجى بثوب قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه عند رأسه، فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضي من سلام؟!)].
أي أن السلام لا يعرف في هذه الأرض.
قال: [(قال: من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟! قال: نعم، قال: فما شأنك؟ قال: جئتك لتعلمني مما علمت رشداً.
قال: أما يكفيك التوراة بيديك، وأن الوحي يأتيك؟!)].
يعني: يكفيك التوراة التي أعطاك الله، ففيها علم عظيم، حتى إن الله تعالى كلف بني إسرائيل الذين أتوا بعد موسى كلهم أن يعملوا بالتوراة، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ} [المائدة:44]، حتى جاء عيسى فأنزل الله عليه التخفيف، فخفف بعض الأحكام وأحل لهم بعض الذي حرم عليهم، وقال: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50].
قال: [(يا موسى! إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه، فأخذ طائر بمنقاره من البحر فقال: والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر.
حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغاراً تحمل أهل هذا الساحل إلى هذا الساحل الآخر عرفوه فقالوا: عبد الله الصالح -قال: فقلنا لـ سعيد بن جبير: خضر؟ قال: نعم- ما نحمله بأجر، فخرقها ووتد فيها وتداً)].
قوله: (معابر) يعني: قوارب صغيرة، وكانت تحملهم من ساحل إلى ساحل، ومن جزيرة إلى جزيرة في البحر، فلما وثبوا إليها خرقها وجعل فيها وتداً حتى لا يدخل الماء، وإنما أراد أن يجعل فيها عيباً، حتى إذا جاء الذي ينظر في السفن وجد فيها عيباً فيتركها.
قال: [(قال موسى: (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا؟!) قال مجاهد: منكراً (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، كانت الأولى نسياناً والوسطى شرطاًَ والثالثة عمداً: (قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ} [الكهف:73 - 74] قال يعلى: قال سعيد: وجد غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً كافراً ظريفاً فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، فقال: أقتلت نفساً زكية لم تعمل الحنث؟!)].
(الحنث) هو الإثم، والمعنى أنه لم يبلغ حداً يؤاخذ فيه عليه؛ لأنه لم يبلغ الحلم، فهو غلام غير مكلف، حتى ولو قتل؛ لأن قتل الصبي يعتبر خطأً؛ لأنه ما بلغ الحلم.
قال: [وابن عباس قرأها: زكية زاكية مسلمة، كقولك: غلاماً زكياً].
وهذه القراءة تدخل في التفسير، أعني زيادة (مسلمة)، أما (زاكية) فهي قراءة من القراءات.
قال: [{فَانطَلَقَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف:77] قال بيده هكذا -ودفع بيده- فاستقام {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77] قال يعلى: حسبت أن سعيداً قال: فمسحه بيده فاستقام {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77] قال سعيد: أجراً نأكله، وكان وراءهم ملك، وكان أمامهم، قرأها ابن عباس: أمامهم ملك، يزعمون عن غير سعيد أنه هدد بن بدد، والغلام المقتول اسمه -يزعمون- حيسور].
وهذا كله من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم، ولا يترتب على معرفة اسم الملك ولا اسم الغلام شيء، ولو كان يترتب عليه شيءٌ لبينه الله.
قال: [(مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) فأردت إذا هي مرت به أن يدعها بعيبها].
يعني: يتركها ولا يأخذها، وهذا بيان من الخضر، يقول: أردت من خرقها أنهم إذا رأوا بها عيباً تركوها للمساكين.
قال: [فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها].
أي: إذا انتهى التفتيش، فقد كانوا يفتشون على المعابر، فالتي يجدون فيها عيباً يتركونها، فإذا جاوزوا أتوا بالخشب ووضعوه في مكانه وثبتوه بمسامير، وزال المحذور.
قال: [منهم من يقول: سدوها بقارورة، ومنهم من يقول: بالقار].
قال: [{فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80] وكان هو كافراً {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80] أي: يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه، {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} [الكهف:81] كقوله: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف:74]].
أي: يحملهما حبه على متابعته في الكفر، نعوذ بالله،(60/14)
ذكر رواية عبد الرزاق لقصة موسى والخضر عليهما السلام
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (خطب موسى عليه السلام بني إسرائيل فقال: ما أحد أعلم بالله وبأمره مني، فأُمر أن يلقى هذا الرجل) فذكر نحو ما تقدم بزيادة ونقصان، والله أعلم].(60/15)
تفسير سورة الكهف [60 - 70]
يذكر الله تعالى قصص الأولين عبرة لأولي الألباب، وتذكرة لذوي الأبصار، وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام عظات وعبر، ففيها بيان تواضع موسى عليه السلام، وفضيلة العلم، والتلطف في سؤال أهل العلم، وضحالة علم المخلوقين أمام علم الله الذي وسع كل شيء علماً.(61/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين)(61/2)
رواية ابن إسحاق لقصة موسى والخضر عليهما السلام
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن جبير قال: جلست عند ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب، فقال بعضهم: يا أبا العباس! إن نوفاً ابن امرأة كعب يزعم عن كعب أن موسى النبي الذي طلب العالم إنما هو موسى بن ميشا.
قال سعيد: فقال ابن عباس: أنوف يقول هذا يا سعيد؟! قلت له: نعم، أنا سمعت نوفاً يقول ذلك، قال: أنت سمعته يا سعيد؟! قال: قلت: نعم، قال: كذب نوف، ثم قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال: أي رب! إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني فدلني عليه، فقال له: نعم، في عبادي من هو أعلم منك، ثم نعت له مكانه، وأذن له في لقيه، فخرج موسى ومعه فتاه ومعه حوت مليح، قد قيل له: إذا حيي هذا الحوت في مكان فصاحبك هنالك، وقد أدركت حاجتك، فخرج موسى ومعه فتاه، ومعه ذلك الحوت يحملانه، فسار حتى جهده السير، وانتهى إلى الصخرة وإلى ذلك الماء، وذلك الماء ماء الحياة، من شرب منه خلد، ولا يقاربه شيء ميت إلا حيي)].
قوله: (خلد) أي: خلد تخليداً مؤقتاً، وليس المراد التخليد المؤبد؛ لأن الخلود خلودان: خلود مؤبد لا نهاية له، وهذا كخلود الكفرة في النار، وخلود مؤمد، كخلود العصاة في النار، ولهذا قال الله تعالى في القاتل العمد: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، فخلوده خلود مؤمد، إلا إذا استحله؛ لأنها دون الشرك، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، كما أن الله حرم الجنة على الكفار، وهذا ليس بكافر، إلا إذا استحل فإنه حينها يكفر، والفرق بين من يستحل وبين الذي يفعل المعصية أن من قتل شخصاً متعمداً طاعة للهوى والشيطان فقد ارتكب كبيرة من الكبائر وجريمة، وهو متوعد بوعيد شديد، لكن لا يكفر، وكذلك من زنى أو سرق أو شرب الخمر أو تعامل بالربا أو أكل مال اليتيم أو عق والديه، كل هؤلاء عصاة، لكن من قال: الزنا حلال، أو الخمر حلال، أو الربا حلال، أو عقوق الوالدين حلال، أو القتل حلال؛ فهو كافر؛ لأنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، وكذلك من أنكر وجوب الصلاة، وقال: الصلاة ليس بواجبة، أو الزكاة ليس بواجبة، أو الصوم ليس بواجب، أو الحج ليس واجباً، فهذا يكفر بلا خلاف.
أما من أنكر شيئاً مختلفاً فيه فلا يكفر، فلو قال مثلاً: الدخان ليس بحرام لا يكفر؛ لأن المسألة فيها شبهة، كما أن بعض الناس يفتي بأنه ليس بحرام فله شبهة.
وكذلك أيضاً من أنكر الوضوء من لحم الجزور؛ لأن المسألة مختلف فيها، فلا يكفر.
إذاً: القتل حرام بإجماع المسلمين، فإذا استحله المرء كفر، أما إذا قتل طاعة للهوى والشيطان، وهو يعلم أنه محرم ويعلم أنه عاص فلا يكفر، كما لو تعامل بالربا، بأن غلبه حب المال والجشع، وهو يعلم أن الربا حرام، فلا يكفر، ولو فعل الزنا، بأن غلبته الشهوة وهو يعلم أن الزنا حرام ولم يستحله لا يكفر.
فالصواب أن القاتل عمداً لا يخلد في النار خلود الكفار، وإنما يخلد خلود العصاة.
والقتل العمد العدوان يتعلق به ثلاثة حقوق لا بد من أدائها: الحق الأول: حق أولياء القتيل، فلابد من أن يسلم نفسه إليهم، فإذا سلم نفسه إلى أولياء القتيل فهم مخيرون بين قتله، أو أخذ الدية، أو العفو عنه، فإذا قتلوه، أو أخذوا الدية منه، أو عفوا عنه سقط حقهم.
الحق الثاني: حق الله، فإذا تاب توبة نصوحاً بشروطها، بأن يندم على ما مضى، ويقلع عن المعصية، ويعزم عزماً جازماً على ألا يعود إليها، سقط حق الله.
الحق الثالث: حق القتيل، وهذا يطالب به يوم القيامة، فإذا أدى حق أولياء القتيل وأدى حق الله وتاب؛ فالله تعالى يرضي عنه القتيل ويعطيه من الثواب والأجر الجزيل ما يسمح به عن أخيه، فيسقط حقه.
فلابد من هذه الحقوق الثلاثة كلها.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: إن القاتل لا توبة له، وروي عنه أنه قال: إن له توبة، والصواب أن له توبة؛ لأن القتل دون الشرك، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فهو تحت المشيئة فيما دون الشرك، ويقول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، وأجمع العلماء على أن هذه الآية نزلت في التائبين، فمن تاب من أي ذنب تاب الله عليه.
ومعنى قول ابن عباس: (لا توبة له) أي: لابد من أن يعذب بالنار، ثم يخرج منها إلى الجنة، وليس معنى ذلك أنه يخلد في النار، هذا معنى قوله: (لا توبة له)، أما من قال: (إن له توبة)، فيعني أنه إذا تاب تاب الله عليه ومحي عنه الذنب.
والصواب أن له توبة، وليس هناك ذنب ليس له توبة، فكل من تاب قبل الموت تاب الله عليه، حتى الشرك الذي هو أعظم الذنوب من تاب منه تاب الله عليه.
وكذلك قاتل نفسه مثل قاتل غيره، فهو مرتكب لكبيرة ومتوعد بالوعيد الشديد، لكن لا يكفر إلا إذا استحله، فإذا استحله كفر.
فلما نزلا ومس الحوت الماء حيي، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، فانطلقا، فلما جاوزا المنقلة وهي المرحلة من السفر يقطعها المسافر في نحو يوم قال موسى لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62].
قال الفتى وذكر: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف:63])].
قال ابن عباس: (فظهر موسى على الصخرة، حتى إذا انتهيا إليها فإذا رجل متلفف في كساء له، فسلم موسى فرد عليه العالم السلام، ثم قال له: ما جاء بك؟! إن كان لك في قومك لشغل قال له موسى: جئتك لتعلمني مما علمت رشداً)].
فهذا موسى عليه السلام -وهو نبي الله وكليم الله، وهو الذي آتاه الله التوراة، وهو في الفضل بعد إبراهيم ومحمد عليه الصلاة والسلام- يأتي إلى الخضر ويتواضع ويقول: جئتك لتعلمني، والله تعالى قال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، وهذا يدل على فضل العلم وشرف العلم، وأن الإنسان لا يزال يطلب العلم مهما بلغ، ولهذا قال بعض العلماء: من المحبرة إلى المقبرة.
يعني: لا يزال الإنسان يستفيد من العلم مهما بلغ فيه، وقد كان سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه كثيراً ما تمر عليه في الدرس بعض الأشياء ويقول: هذه أول مرة أسمعها، وهذه أول مرة تمر علي.
وهو -رحمة الله عليه- معروف باستغلاله الوقت وإمضائه الأوقات الطويلة في التعلم والتعليم، ومع ذلك يقول هذا.
وهذا موسى كليم الله آتاه الله التوراة، ومع ذلك يقول للخضر: جئتك لتعلمني مما علمت رشداً.
يريد أن يتعلم ويستفيد ويجلس مجلس المتعلم، وقد قال العلماء: إن الإنسان لا ينبل حتى يأخذ ممن فوقه وممن دونه وممن هو مماثل له؛ فقد يكون عند الطالب ما ليس عند المدرس في بعض الجزئيات، فيستفيد، ولا يزال المرء يستفيد، ولا يستنكف طالب العلم من الفائدة التي يحصل عليها، سواء أكانت ممن هو دونه، أم ممن هو فوقه، أم ممن هو مماثل له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، وكان رجلاً يعلم علم الغيب قد علم ذلك، فقال موسى: بلى، قال: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) أي: إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل، ولم تحط من علم الغيب بما أعلم].
هذا مما يؤيد أن الخضر نبي يوحى إليه، فقد كان يعلم علم الغيب مما علمه الله، ويرى أكثر العلماء أن الخضر عبد صالح وليس نبياً، والقول الثاني لأهل العلم بأنه نبي هو الصواب، وإن كان خلافاً لقول الأكثرين، وهذا المذكور مما يؤيد القول الثاني، كما يؤيده تلك الأمور العظيمة التي فعلها الخضر، ولا يمكن أن تصدر إلا بوحي، أي: كونه يخرق السفينة ويقتل غلاماً -وهو أشدها- وغير ذلك.
أما من قالوا: إنه رجل صالح فقالوا: هذه الأمور كانت بإلهام.
وهذا القول فيه فتح باب للصوفية الذين يفعلون الفواحش ويقولون: هذا بإلهام.
والصواب أن الخضر نبي يوحى إليه، ويؤيد هذا أنه قال في آخر القصة: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)، أي: لم أفعل إلا عن أمر الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69]، وإن رأيت ما يخالفني {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} [الكهف:70]، وإن أنكرته {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:70]، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرضان الناس، يلتمسان من يحملهما، حتى مرت بهما سفينة جديدة وثيقة لم يمر بهما من السفن أحسن ولا أجمل ولا أوثق منها، فسألا أهلها أن يحملوهما، فحملوهما، فلما أطمأنا فيها ولجت بهما مع أهلها أخرج منقاراً له ومطرقة، ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها، ثم أخذ لوحاً فطبقه عليها، ثم جلس عليها يرقعها، فقال له موسى ورأى أمراً أفظع به: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *(61/3)
رواية العوفي عن ابن عباس لقصة موسى والخضر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال العوفي عن ابن عباس قال: لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه مصر، فلما استقرت بهم الدار أنزل الله أن: ذكرهم بأيام الله، فخطب قومه، فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة، وذكرهم إذ نجاهم الله من آل فرعون، وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم الله في الأرض، وقال: كلم الله نبيكم تكليماً، واصطفاني لنفسه، وأنزل علي محبة منه، وآتاكم الله من كل ما سألتموه، فنبيكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرءون التوراة، فلم يترك نعمة أنعم الله عليهم إلا وعرفهم إياها، فقال له رجل من بني إسرائيل: هم كذلك يا نبي الله، قد عرفنا الذي تقول، فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال: لا، فبعث الله جبرائيل إلى موسى عليه السلام فقال: إن الله عز وجل يقول: وما يدريك أين أضع علمي؟! بلى إن على شط البحر رجلاً هو أعلم منك.
قال ابن عباس: هو الخضر، فسأل موسى ربه أن يريه إياه، فأوحى إليه أن ائت البحر، فإنك تجد على شط البحر حوتاً، فخذه فادفعه إلى فتاك، ثم الزم شاطئ البحر، فإذا نسيت الحوت وهلك منك فثم تجد العبد الصالح الذي تطلب، فلما طال سفر موسى نبي الله ونصب فيه سأل فتاه عن الحوت، فقال له فتاه وهو غلامه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63] لك، قال الفتى: لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سرباً، فأعجب ذلك موسى، فرجع حتى أتى الصخرة فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى، وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع الحوت، وجعل الحوت لا يمس شيئاً من البحر إلا يبس عنه الماء، حتى يكون صخرة، فجعل نبي الله يعجب من ذلك، حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخضر فسلم عليه، فقال الخضر: وعليك السلام، وأنى يكون السلام بهذه الأرض؟! ومن أنت؟ قال: أنا موسى، فقال الخضر: صاحب بني إسرائيل؟ قال: نعم، فرحب به وقال: ما جاء بك؟ قال: جئتك {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:66 - 67]، يقول: لا تطيق ذلك، قال موسى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69]، قال: فانطلق به، وقال له: لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه، فذلك قوله: {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:70]].(61/4)
رواية الزهري لقصة موسى والخضر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو الخضر، فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس، فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم مكان رجل أعلم منك؟ قال: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى، عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إلى لقيه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فهو ثم، فارجع فإنك ستلقاه، فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر، فقال فتى موسى لموسى: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف:63]، قال موسى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64]، فوجدا عبدنا خضراً فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه)].(61/5)
معاتبة الله تعالى لأنبيائه ورسله
في قصة موسى والخضر دليل على أن الأنبياء -وإن كانوا أنبياء- قد يعتب الله عليهم، كما عتب الله على موسى لما سأله رجل: هل هناك أحد أعلم منك؟ فقال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأخبره الله أن هناك عبداً أعلم منه في مجمع البحرين، وقيل: إن الأنبياء قد يفعل أحدهم خلاف الأولى.
وكذلك عاتب الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4]، وذلك لما جاء عبد الله بن أم مكتوم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولاً بصناديد قريش يرجو إسلامهم.
لكن الأنبياء معصومون عن الشرك، وعن الكبائر، وعن الخطأ فيما يبلغون به عن الله، وقد يفعلون خلاف الأولى فيعتب الله عليهم، وإن كانت منزلتهم عالية، فهذا نبينا -وهو أفضل الخلق- قال الله له: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2].
وكذلك في قصة زينب وزوجها زيد قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قال الله له: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37].
وقد أخبر الله أنه غفر للأنبياء وهذا يعني أن لهم ذنوباً، فقال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح:2]، وقال سبحانه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، وقال حكاية عن موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16]، وعن داود {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24] وعن سليمان {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص:25]، وقال حكاية عن ذي النون: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].(61/6)
تفسير قوله تعالى: (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً)
قال الله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:66 - 70]].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن قيل موسى عليه السلام لذلك الرجل العالم، وهو الخضر الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى].
لا شك في أن موسى أفضل من الخضر؛ لأن موسى هو من أولي العزم الخمسة، وهو في المرتبة الثالثة في الفضل بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم، وأما الخضر فهو مختلف في نبوته.
وفي هذه القصة من الفوائد أن المفضول قد يكون عنده من العلم ما ليس عند الفاضل، فالخضر كان عنده علم لم يعلمه موسى مع أن موسى أفضل منه.
وفيها دليل على أن الفضيلة الخاصة لا تقضي على الفضائل العامة، فهذه الفضيلة والمنقبة للخضر فضيلة خاصة، لكن موسى له فضائل كثيرة، ومن ذلك ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور)، فهذه منقبة لموسى، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يفيق من الصعقة يوم القيامة يجد موسى آخذاً بقائمة من قوائم العرش، فلا يدري هل هو أفاق قبله، أو أنه لم يصعق، وهذه الصعقة حين يأتي الله لفصل القضاء في موقف القيامة، وسببها تجلي الله للخلائق، فيحتمل أن موسى لم يصعق؛ لأنه صعق يوم الطور، ويحتمل أنه صعق وأفاق قبل النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه فضيلة خاصة.
وكذلك ما ورد من أن الناس يحشرون يوم القيامة عراة ليس عليهم ثياب كما ولدتهم أمهاتهم حفاة غرلاً غير مختونين، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهذه منقبة خاصة له عليه السلام.
وستكون في الدنيا نفختان: الأولى: نفخة الصعق، وهي نفخة إسرافيل، فأولها فزع وآخرها صعق، أي: غشي وموت، وهذا هو الصواب، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [النمل:87] في آية النمل، وفي الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68]، فهذه نفخة واحدة يطولها إسرافيل، فيبدأ الصوت خافتاً فلا يزال يقوى حتى يموت الناس، هذه هي النفخة الأولى.
النفخة الثانية: نفخة البعث، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر:68]، وهي نفخة البعث، وبينهما أربعون، فينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشأ الناس تنشئة غير التنشئة التي في الدنيا، فإذا كمل خلقهم أذن الله لإسرافيل فنفخ في الصور فتطايرت الأرواح وعادت إلى أجسادها، فقام الناس من طورهم.
وهناك نفخة ثالثة، وهذه تكون يوم القيامة، وتكون إذا تجلى الله لفصل القضاء والناس واقفون في موقف القيامة، فيصعقون صعقة غشي لا موت، كما في الصحيحين (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق) أي: إفاقة من الغشي.
وجاء في الحديث الآخر: (نفخات ثلاث) لكن الحديث من رواية إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، والصواب أنها نفختان، والنفخة الأولى أولها فزع وآخرها موت.
وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] قال العلماء: من شاء الله ألا يموت، مثل الأرواح؛ فإنها تظل باقية، وكذا الولدان والحور في الجنة لا يموتون؛ لأن الله استثناهم.(61/7)
التلطف للمشايخ والعلماء عند طلب العلم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} [الكهف:66]، سؤال بتلطف لا على وجه الإلزام والإجبار، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم].
أي: ينبغي أن يكون السؤال للعلماء بتلطف، وهذا فيه أدب المتعلم مع المعلم، كما قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]، كما أن السؤال إذا جاء على وجه الاستفسار والاستفهام ينشط له المعلم، وينشرح صدره، ويعطي من العلم ما عنده، لكن إذا كان السؤال على وجه إعجازه أو إيقاعه في العنت، أو على وجه الكبر والرياء، فهذا ممنوع، وهو داخل في السؤال المذموم، وقد يفوت السائل على نفسه الفائدة، وكذلك سؤال المال ممن لا يستحق فهو مذموم أيضاً.
قال المؤلف: [وقوله: (أَتَّبِعُكَ) أي: أصحبك وأرافقك، (عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) أي: مما علمك الله شيئاً أسترشد به في أمري، من علم نافع وعمل صالح].
وإذا كان هذا موسى عليه الصلاة والسلام يسترشد ويسأل الخضر لعله يفيده علماً فيعمل به عملاً صالحاً، وموسى له هذه المكانة، وعنده التوراة، فكيف بغيره ممن هو دونه؟!(61/8)
عموم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فعندها قال الخضر لموسى: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) أي: إنك لا تقدر على مصاحبتي؛ لما ترى مني من الأفعال التي تخالف شريعتك؛ لأني على علم من علم الله ما علمكه الله، وأنت على علم من علم الله ما علمنيه الله].
وهذا دليل على أن الخضر له شريعة غير شريعة موسى، وأن الخضر ليس مأموراً باتباع موسى؛ لأن له شريعة مستقلة، وموسى لم يرسل إلى أهل الأرض كافة، وإنما أرسل إلى بني إسرائيل، وإنما الشريعة العامة شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهي شريعة للثقلين: الجن والإنس، أما شريعة موسى فهي خاصة ببني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه، وأنت لا تقدر على صحبتي، (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) وأنا أعرف أنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه، ولكن ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت أنا عليها دونك، قال له موسى: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا) أي: على ما أرى من أمورك، (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا).
أي: ولا أخالفك في شيء، فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام، (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) أي: ابتداءً (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) أي: حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني].
قوله: [شارطه] يعني: اشترط عليه شرطاً، فقال: (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي)، و (إن) حرف شرط {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:70] أي: إذا كنت عازماً على أن تتبعني، فإني أشترط عليك شرطاً فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك من أمره خبراً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: حدثنا حميد بن جبير حدثنا يعقوب عن هارون عن عبيدة، عن أبيه عن ابن عباس قال: سأل موسى ربه عز وجل فقال: أي رب! أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال أي رب! أي عبادك أعلم؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى، أو ترده عن ردى، قال: أي رب! فهل في أرضك أحد أعلم مني؟ قال: نعم، قال: فمن هو؟ قال: الخضر، قال: وأين أطلبه؟ قال على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت، قال: فخرج موسى يطلبه، حتى كان ما ذكر الله، وانتهى موسى إليه عند الصخرة فسلم كل واحد منهما على صاحبه، فقال له موسى: إني أحب أن أصحبك، قال: إنك لن تطيق صحبتي، قال: بلى، قال: فإن صحبتني (فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) قال: فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحور، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه، قال: وبعث الله الخطاف، فجعل يستقي منه بمنقاره، فقال لموسى: كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟].
يعني: نقص، وفي الأحاديث الأخرى أنه عصفور [قال: ما أقل ما رزأ، قال: يا موسى! فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء].
قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: هذا أوسع ما سمعناه في علم الله.
يعني: علم موسى وعلم الخضر وعلم السلف كلهم في جنب علم الله كنسبة ما يأخذه هذا العصفور بمنقاره من هذا البحر المتلاطم الذي هو أربعة أخماس العالم، فإذا أخذ العصفور بمنقاره فكم سيأخذ؟! وهكذا نسبة علم الخلائق إلى علم الله، ولهذا خلق الله سبحانه وتعالى الخلق لعبادته وتوحيده، ولأجل أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، وليعلموا أنه على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12].
قال رحمه الله تعالى: [وكان موسى قد حدث نفسه أن ليس أحد أعلم منه أو تكلم به، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر، وذكر تمام الحديث في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإصلاح الجدار، وتفسيره له لذلك].(61/9)
حديث أبي أمامة في قصة مؤاجرة الخضر نفسه
قال الطحاوي: حدثنا أبو أمية حدثنا سليمان بن عبيد الله الأنصاري الرقي حدثنا بقية بن الوليد حدثنا محمد بن زياد الألهاني عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه: (ألا أحدثكم عن الخضر قالوا: بلى يا رسول الله، قال: بينا هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل أبصره رجل مكاتب، فقال: تصدق علي بارك الله فيك، فقال الخضر: آمنت بالله ما يريد الله من أمر يكون، ما عندي شيء أعطيكه، فقال المسكين: أسألك بوجه الله لما تصدقت علي إني نظرت إلى سيماء الخير في وجهك ورجوت البركة عندك، فقال الخضر: آمنت بالله ما عندي شيء أعطيكه إلا أن تأخذني فتبيعني، فقال المسكين: هل يستقيم هذا؟ قال: نعم، الحق أقول لك: لقد سألتني بأمر عظيم، ما لي لا أجيبك لوجه ربي؟ فبعني، فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم، فمكث عند المشتري زماناً لا يستعمله في شيء، فقال الخضر: إنك إنما ابتعتني التماس خيري فأوصني بعمل، قال: أكره أن أشق عليك وأنت شيخ كبير، قال: ليس يشق علي، فقال: قم فانقل هذه الحجارة وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم فخرج الرجل ليقضي حاجته ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعة، فقال له أحسنت وأحكمت وأطقت مالم أرك تطيقه، ثم عرض للرجل سفر فقال: إني أحسبك أميناً فاخلفني في أهلي خلافةً حسنة، قال: أوصني بعمل، قال: إني أكره أن أشق عليك ومضى الرجل لسفرة فرجع وقد شد بناءه، فقال الرجل: أسألك بوجه الله عز وجل ما حسبك وما أمرك؟ فقال: سألتني بوجه الله عز وجل ووجه الله أوقعني في العبودية، قال: سأخبرك من أنا، أنا الخضر الذي سمعت به، سألني رجل مسكين صدقة فلم يكن عندي شيء أعطيه، ثم سألني بوجه الله عز وجل فأمكنته من رقبتي فباعني، وأخبرك أنه من سئل بوجه الله فرد سائله وهو يقدر وقف يوم القيامة وليس بوجهه جلد ولا لحم ولا دم ولا عظم يتقعقع، قال: آمنت بذلك شققت عليك يا رسول الله، احكم في أهلي ومالي بما أراك الله عز وجل، أو أخيرك فأخلي سبيلك قال: أحب أن تخلي سبيلي يا عبد الله، فخلى سبيله، فقال الخضر: الحمد الله الذي أوقعني في العبودية وأخرجني منها)، أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار.
وإسناده حسن، فـ أبو أمية شيخ الطحاوي وهو - محمد بن القاسم - المعروف بـ سحيم الحراني قال فيه أبو حاتم في الجرح والتعديل: صدوق، وتابعه غيره كما عند النقاش في فنون العجائب، والطبراني في المعجم الكبير، وابن عساكر في تاريخ دمشق وسليمان بن عبيد الله الأنصاري الرقي صدوق أيضاً كما في التقريب، وبقية مدلس وقد صرح بالتحديث ومحمد بن زياد الألهاني أخرج له البخاري والأربعة وهو ثقة، ونقل النقاش عن أبي بكر بن أبي عاصم قوله: هذا خبر ثابت من جهة النقل وفيه فوائد.
وهذا الخبر إن صح فهو محمول على أن هذا جائز في شريعة الخضر، أما في شريعة الإسلام لا يجوز للإنسان أن يبيع نفسه، لأن حر، جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله وذكر منهم: من باع حراً فأكل ثمنه).
وفي هذا دليل على أنه نبي.
وهذا تخريج مشهور حسن سلمان وخرجه شعيب الأرناءوط في مشكل الآثار.
وهذا الحديث فيه سليمان بن عبيد الله الرقي وإن كان فيه كلام لكنه قد توبع، وبقية بن الوليد نقموا عليه بكثرة تدليسه عن الضعفاء فلا يحتج به إذا انفرد بشيء فيكون الحديث ضعيفاً.
ورواه الطبراني عن حسن بن علي المعمري، وأبو نعيم في أخبار أصفهان من طريق أحمد بن عمرو بن أبي عاصم فيه كلاهما عن محمد بن علي بن ميمون الرقي وعن سليمان بن عبيد الله الخطاب الأنصاري بهذا الإسناد، ورواه الطبراني أيضاً عن عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي عن محمد بن الفضل بن عمران الكندي عن بقية به، وقال الهيثمي في المجمع بعد أن نسبه إلى الطبراني: رجاله موثقون إلا أن بقية مدلس، لكنه ثقة.
وقال الحافظ ابن كثير في قصص الأنبياء بعد أن أورده عن أبي نعيم عن الطبراني بالطريق الثاني: وهذا الحديث رفعه خطأ والأشبه أن يكون موقوفاً وفي رجاله من لا يعرف والله أعلم.
وقد رواه ابن الجوزي في كتابه (عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر) من طريق عبد الوهاب بن الضحاك وهو متروك عن بقية، وعلى هذا يكون الحديث ضعيفاً.(61/10)
تفسير سورة الكهف [71 - 82]
صحب موسى عليه السلام الخضر قاصداً أن يعلمه مما علمه الله تعالى، وقد امتلأ موسى عليه السلام استنكاراً واستغراباً من تصرفات الخضر المخالفة في ظاهرها لشرعته، فلما بلغ معه حد الفراق بالشرط بين له حقائق أفعاله، وأنها صادرة عن وحي من الله تعالى وليست تصرفاً إلهامياً، فكشف عن نبوته، وتبين لموسى عليه السلام أن الله تعالى قد أطلع الخضر على علم من الغيب، ولله الحكمة البالغة.(62/1)
تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها)
قال الله تعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:71 - 73].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن موسى وصاحبه -وهو الخضر - أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه ألا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه، فركبا في السفينة.
وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة، وأنهم عرفوا الخضر، فحملوهما بغير نول -يعني بغير أجرة- تكرمة للخضر، فلما استقلت بهم السفينة في البحر ولججت -أي: دخلت اللجة- قام الخضر فخرقها واستخرج لوحاً من ألواحها ثم رقعها، فلم يملك موسى عليه السلام نفسه أن قال منكراً عليه: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71]، وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل، كما قال الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب].
يعني: أنتم تلدون للموت، فهل الموت علة في الولادة؟ لا، بل المراد العاقبة، يعني: لدوا والعاقبة الموت، وكذلك قوله: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا}، فهل الخضر خرقها لأجل أن يغرق أهلها؟! لا، بل مراد موسى: أن تكون العاقبة الغرق، وإن كان الخضر لا يريد الغرق، ومثل قوله تعالى في موسى حينما أخذه فرعون في سورة القصص: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]، فلماذا التقط فرعون موسى؟! لقد التقطه ليكون قرة عين له لا عدواً له، فهذه اللام تسمى لام العاقبة، يعني: التقطه آل فرعون والعاقبة أنه كان عدواً لهم وحزناً، وإلا فقد التقطه لأجل أن يكون له كما قالت امراته: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9]، لكن العاقبة أن كان عدواً وحزناً، فهذه تسمى لام العاقبة.
وكذلك قوله: (وابنوا للخراب)، فالناس لا يبنون للخراب، لكن العاقبة الخراب، فالدنيا ما لها قرار، وإلا فإن الناس يبنون للبقاء، وهل يبني الإنسان بيته للخراب أم يبنيه ليبقى؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} قال مجاهد: منكراً، وقال قتادة: عجباً.
فعندها قال له الخضر مذكراًَ بما تقدم من الشرط: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} يعني: وهذا الصنيع فعلته قصداً، وهو من الأمور التي اشترطت معك ألا تنكر علي فيها؛ لأنك لم تحط بها خبراً، ولها دخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت (قال) أي: موسى: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}، أي: لا تضيق علي وتشدد علي.
ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كانت الأولى من موسى نسياناً)].(62/2)
تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله)
قال الله تعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف:74 - 76].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: (فَانطَلَقَا) أي: بعد ذلك، (حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ) وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى، وأنه عمد إليه من بينهم -وكان أحسنهم وأجملهم وأوضأهم فقتله- وروي أنه احتز رأسه، وقيل: رضخه بحجر، وفي رواية: اقتلعه بيده، والله أعلم].
أي أنه قتله، وفي بعض الروايات أنه اقتلعه بيده وألقاه كما ترمى الكرة، وفي بعضها أنه رضخه وفي بعضها أنه احتز رأسه بالسكين، فالمهم أنه قتله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما شاهد موسى عليه السلام هذا أنكره أشد من الأول، وبادر فقال: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً}، أي: صغيرة لم تعمل الحنث، ولا حملت إثماً بعد فقتلته؟].
الحنث: الإثم، يعني: لم يبلغ أن يحمل الإثم، وإذا لم يبلغ فليس عليه حنث، ولهذا يقول العلماء: عمد الصبي والمجنون خطأ، فالصبي والمجنون إذا فعلا شيئاً يعتبر خطأً، كما لو قتل الإنسان خطأً، فلا يؤاخذ به الإنسان، ومثله عمد الصبي والمجنون؛ لأن الصبي لا فعل له، فلو تعمد الصبي وفعل شيئاً يكون حكمه حكم الخطأ، وكذلك المجنون، وهذا ما بلغ الحنث، ولا يمكن أن يؤاخذ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي: بغير مستند لقتله: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}، أي: ظاهر النكارة].
وكان إنكاره عليه هنا أشد من إنكاره على خرق السفينة، وقال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}، وفي الأول قال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}، فرد عليه الخضر رداً أقوى ليناسب إنكاره، ففي الأول قال الخضر: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، وفي قتل الغلام لما شدد عليه في الإنكار رد عليه رداً قوياً فقال: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} تأكيداً، {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، فكان الرد مناسباً للإنكار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، فأكد -أيضاً- في التذكار بالشرط الأول، فلهذا قال له موسى: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا} أي: إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة {فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} أي: قد أعذرت إلي مرة بعد مرة.
قال ابن جرير: حدثنا عبد الله بن زياد، حدثنا حجاج بن محمد، عن حمزة الزيات عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب، لكنه قال: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}) مثقلة].
يعني: أن الذي شرط على نفسه هو موسى، فقال: هذه آخر مرة، فإن سألتك بعدها انتهت الصحبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب)، ويعني: ليته صبر، وليته لم يشترط حتى يقص الله علينا من خبرهما من القصص ما نستفيد منه.
وضعوا قوسين [مثقلة]، قال في الحاشية: هذه زيادة من (ف) (أ)، يعني أن الطبري زادها.
ويعني بقوله [مثقلة]: أن نون (لدني) مشددة، وهي قراءة السبعة ما عدا نافعاً، فإنه قرأها (من لدني) بالتخفيف، والقراءة المشهورة قراءة حفص، وهي (من لدُنّي) بالتشديد والتثقيل.(62/3)
تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها)
قال الله تعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:77 - 78].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عنهما أنهما انطلقا بعد المرتين الأولين: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ}.
روى ابن جرير عن ابن سيرين أنها الأيلة].
الأيلة قرية في الشام، يعني: بعدما نزلا من السفينة أتيا هذه القرية، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض، واستطعما أهلها، فكانوا قوماً لئاماً لم يضيفوها، بل ردوهما، فمر الخضر بجدار يريد أن ينقض -أي: يسقط- فأخذ يعمل ليقيمه، فأنكر عليه موسى فقال: كانوا قوماً لئاماً لم يضيفونا، فمنعوا الواجب وهو الضيافة، فكيف تعمل عندهم بدون أجرة؟ فبين له الخضر وجه الحكمة في هذا، وهو أنه لا يعمل لأجل المال، ولكن تحته كنز لأيتام، والله تعالى أراد أن يبلغا أشدهما ويستخرجا الكنز من تحت الجدار، فلو تركه وسقط لضاع الكنز، ولكنه يريد أن يقيمه حتى يكون الجدار قائماً، فيعرف الكنز تحته، فلو تركه لسقط وانهدم ولضاع الكنز ولم يكن له معلم يعرف به.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث: (حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما) أي: بخلاء {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ}، إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل، والانقضاض هو السقوط].
يعني أن إسناد الإرادة إلى الجدار من باب المجاز؛ لأن الجدار ليس له إرادة، فالإرادة إنما تكون للحي، وهذا على القول بأن اللغة فيها مجاز، والصواب الذي عليه المحققون أنه ليس في القرآن مجاز ولا في السنة مجاز ولا في اللغة، وأن هذا القول بالمجاز والاستعارة محدث لم يعرفه العرب في لغتهم، ولا هو معروف في عهد الصحابة، بل ولا في عهد الأئمة الأربعة، وإنما هو محدث، والإرادة في اللغة العربية واسعة، فللإنسان إراد تليق به، والجدار له إرادة تليق به.
فاللغة العربية واسعة، حيث تطلق اللفظ على هذا وعلى هذا، فتقول: رأيت أسداً يتكلم، والأسد يطلق على الحيوان، ويطلق على الرجل الشجاع، وإذا قلت: (رأيت أسداً) ينصرف المعنى إلى الحيوان المفترس، وإذا أردت غير الحيوان فلابد من أن تأتي بالقرينة، فتقول: رأيت أسداً يتكلم، أي: الرجل الشجاع، فاللغة العربية أساليبها واسعة، ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] أي: واسأل أهل القرية.
وأول من قال بالمجاز أهل البدع، كالجهمية والمعتزلة، يريدون به نفي الصفات، وقالوا: إن إثبات صفة الله مجاز، فالاستواء على العرش مجاز، وعلمه مجاز، وقدرته وإرادته مجاز، والمجاز يصح نفيه، فيقال: ليس في القرآن كلام الله وهذا من أبطل الباطل، فالقرآن كله حقيقة ليس فيه مجاز، فالمصحف فيه كلام الله، ولهذا يقول الأشاعرة: المصحف ليس فيه كلام الله، وقالوا: هذا القرآن مجاز عن كلام الله؛ لأن كلام الله تعدى بهذا القرآن، أو يقولون: إن كلام الله معنى قائم بنفسه، والمصحف ليس فيه كلام الله وإذا قالوا: المصحف كلام الله، قالوا: المراد به المجاز؛ لأنه تعدى به كلام الله، وإلا فليس فيه كلام الله، وهذا من أبطل الباطل.
فالمقصود أن المجاز يصح نفيه، والحقائق لا يصح نفيها.
والصواب أن الجدار له إرادة تليق به، فقد جعل الله له إرادة، وسماها الله إرادة: {يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، أي: كل موجود من الكائنات إلا العدم -فالعدم لا يسمى شيئاً- يسبح، فكيف يسبح؟ الله أعلم، وكيف يريد؟ الله أعلم.
ومن هذا الباب حنين الجذع وتسبيح الحصى والطعام، وقوله صلى الله عليه وسلم عن جبل أحد: (جبل يحبنا ونحبه)، فجعل الله فيه صفات، وقوله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] أي: الحجارة، فيهبط الجبل من خشيته وهو جبل أصم، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطب أُحداً لما تحرك وهو عليه والصديق وعمر وعثمان أيضاً فقال: (أثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَأَقَامَهُ} أي: ورده إلى حالة الاستقامة.
وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه ودعمه حتى رد ميله، وهذا خارق].
يعني: خارق من خوارق العادات، وهو أنه لم يتعب في إصلاحه، فرده بيده ودعمه فاستقام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فعند ذلك قال موسى له: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}، أي: لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجاناً.
{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} أي: لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فهو فراق بيني وبينك، {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ} أي: بتفسير {مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}].
والتأويل يطلق على التفسير، ويطلق على الحقيقة التي يئول إليها الكلام، والمراد هنا التفسير، مثل قول ابن جرير: (القول في تأويل قول الله تعالى) يعني التفسير، ويطلق التأويل على العاقبة، مثل قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، أي العاقبة التي يئول إليها الكلام، مثل تأويل حقائق الآخرة.(62/4)
تفسير قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر)
قال الله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام، وما كان أنكر ظاهره، وقد أظهر الله الخضر -عليه السلام- على حكمة باطنه].
يعني: على حكمة الشيء، والباطن: الشيء الخفي، أطلع الله الخضر على الحكمة الخفية، وموسى لا يعلم إلا الظاهر، والخضر أعطي علم الباطن، ولهذا قال بعضهم: إن الخضر ألهمه الله العلم اللدني الباطني، ويحتج الصوفية بأنهم يعلمون مثل ما يعلم الخضر، والخضر الصواب في نشأته أنه نبي يوحى إليه، وأعطاه الله حكمة باطن هذه الأشياء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقال: إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها؛ لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة، {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} صالحة، أي: جيدة {غَصْبًا}، فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها، وقد قيل: إنهم أيتام].
وهذا يدل على أن المسكين يكون عنده شيء من المال ويسمى مسكيناً، فهؤلاء مساكين يملكون سفينة، والمسكين عند العلماء هو: الفقير الذي لا يجد تمام الكفاية لمدة سنة من نفقة وكسوة وسكنى، فيعطى ما يتمم كفايته، كأن يكون عنده ما يكفيه لنصف السنة أو ثلثي السنة أو ثلاثة أرباع السنة، فيعطى من مال الزكاة ما يكفيه لمدة سنة كسوة وسكنى وطعاماً له ولعائلته، والفقير أشد حاجة منه، فالفقير هو المعدم الذي لا يجد شيئاً أو يجد أقل من نصف الكفاية، أما المسكين فيجد نصف الكفاية، إلا أنه لا يجد تمام الكفاية، ولذلك بدأ الله بالفقراء في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60]، وإذا أطلق المسكين وحده دخل فيه الفقير، وإذا أطلق الفقير وحده دخل فيه المسكين، وإذا اجتمعا فسر الفقير بأنه المعدم الذي لا يجد شيئاً أو يجد أقل من النصف، والمسكين الذي يجد نصف الكفاية ولا يجد تمام الكفاية، وفي الحديث: (ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس) يعني: هذا أشد مسكنة، فالمسكين هو الذي يأتي ويدق الأبواب ويمد يده، فيعطيه هذا لقمة وهذا أكلة، وهذا ريالاً، وأشد منه المسكين الذي يستحي، فلا يقوم فيسأل الناس، ولا يفطن له فيتصدق عليه؛ لأن عليه علامة غنى، قال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273]، فهذا هو الذي ينبغي البحث عنه، فهو ليس عنده شيء، وقد يموت في بيته ولا يعلم عنه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي أن اسم ذلك الملك هدد بن بدد].
هذا من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم بأسمائهم، ولو كان في اسمه مصلحة لسماه الله لنا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد تقدم -أيضاً- في رواية البخاري، وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق، وهو من الملوك المنصوص عليهم في التوراة، والله أعلم].(62/5)
تفسير قوله تعالى: (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين)
قال الله تعالى: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80 - 81].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه جيسور، وفي هذا الحديث عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً) رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق عن سعيد عن ابن عباس به، ولهذا قال: {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أي: يحملهما حبه على متابعته على الكفر.
قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله؛ فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب].
لا شك في ذلك، ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له)، فالمؤمن كل أمره له خير في السراء والضراء، فهو في السراء شاكر وفي الضراء صابر، والشاكر مثاب والصابر مثاب، والمؤمن يتقلب بين السراء وبين الضراء وبين التوبة من الذنب، وهذا عنوان السعادة، فعنوان السعادة الشكر عند السراء والصبر عند الضراء والتوبة عند الذنب، والإنسان يتقلب بين هذه الأحوال الثلاثة، فهو إما في نعمة، فلابد لها من الشكر، وإما في مصيبة، فلابد لها من الصبر، وإما في ذنب، فلابد له من توبة.
فإذا كان وقع في الذنب تاب وبادر بالتوبة ولم يصر على المعصية، وهذه علامة المستقيم، قال الله تعالى في وصف المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135]، وليس من شأن المؤمن أنه لا يخطئ، فالمؤمن يقع في الذنب، وليس بمعصوم، لكن لا يصر على المعصية، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136]، فالمؤمن إما في ذنب فيحتاج إلى التوبة، وإما في مصيبة فيحتاج إلى صبر، وإما في نعمة فيحتاج إلى شكر، فإذا كان المسلم يصبر عند الضراء، ولا يجزع ولا يتسخط، ولا يتكلم بلسانه ما يغضب الله، ولا يعمل بجوارحه ما يغضب الله، كشق الثوب ولطم الخد ونتف الشعر، بل يصبر ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويشكر عند النعمة، ويتوب عند المعصية والذنب، فهذه علامة السعادة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وصح في الحديث: (لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له)، وقال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216].
وقوله تعالى: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}، أي: ولداً أزكى من هذا وهما أرحم به منه، قاله ابن جريج.
وقال قتادة: أبر بوالديه.
وقد تقدم أنهما بدلا جارية، وقيل: لما قتله الخضر كانت أمه حاملاً بغلام مسلم، قاله ابن جريج].(62/6)
تفسير قوله تعالى: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة)
قال الله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [في هذه الآيةِ دليل على إطلاق القرية على المدينة؛ لأنه قال أولاً: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ}، وقال هاهنا: {فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ}، كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد:13]].
وهي مكة، فمكة تسمى قرية وهي مدينة، فالمدينة تسمى قرية، والقرية تسمى مدينة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] يعني: مكة والطائف، ومعنى الآية أن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} [الكهف:82].
قال عكرمة وقتادة وغير واحد: كان تحته مال مدفون لهما.
وهذا ظاهر السياق من الآية، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله.
وقال العوفي عن ابن عباس: كان تحته كنز علم، وكذا قال سعيد بن جبير، وقال مجاهد: صحف فيها علم، وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك.
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا بشر بن المنذر، حدثنا الحارث بن عبد الله اليحصبي، عن عياش بن عباس الغساني عن أبي حجيرة عن أبي ذر رفعه قال: (إن الكنز الذي ذكر الله في كتابه لوح من ذهب مصمت مكتوب فيه: عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب؟ وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك؟ وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل؟) لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وبشر بن المنذر هذا يقال له: قاضي المصيصة، قال الحافظ أبو جعفر العقيلي: في حديثه وهم].
الأقرب أن الكنز المال، والحديث هذا لا يثبت؛ لأن فيه ضعفاً، فالأقرب أن الكنز المال، ويحتمل أنه كنز العلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي في هذا آثار عن السلف، وقال ابن جرير في تفسيره: حدثني يعقوب، حدثنا الحسن بن حبيب بن ندبة، حدثنا سلمة عن نعيم العنبري -وكان من جلساء الحسن - قال: سمعت الحسن -يعني البصري -يقول في قوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا}، قال: لوح من ذهب مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله].
هذا مقطوع على الحسن البصري، والحسن البصري تابعي، والأقرب أنه من أخبار بني إسرائيل؛ لأن هذا لا يعلم إلا من جهة المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لقلنا به، فلوح مختوم فيه هذا الكلام يحتاج إلى دليل، لكن هذا من أخبار بني إسرائيل والله أعلم، وهذا لا يصدق ولا يكذب، لكن الله تعالى أخبرنا أن تحته كنز لهما، أما هذا اللوح المكتوب فيه هذه الكلمات فالله أعلم.
ومن الرواة الذين رووا ذلك الحسن بن حبيب بن نَدَبة -بفتح النون والدال والموحدة- التميمي أبو سعيد البصري الكوسجي، روى عن هشام بن عروة وأبي حمزة، وعنه الخلال وابن المثنى وعلي بن حسين الدرهمي، وثقه النسائي، قال مطين: توفي سنة سبع وعشرين ومائة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى نقلاً عن ابن جرير: [حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عبد الله بن عياش، عن عمر مولى غُفْرَة قال: إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} قال: كان لوحًا من ذهب مصمت مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن عرف النار ثم ضحك! عجبت لمن أيقن بالقدر ثم نصب! عجبت لمن أيقن بالموت ثم أمن! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله].
قوله: [عجبت لمن أيقن بالنار كيف نصب؟] يعني: تعب، أي: كيف يتعب وهو يعلم أن الله قدر كل شيء، وهذه كلمات وعظ، وفيها الشهادة بالوحدانية، لكن هذا الكلام موقوف على السابقة، عمر مولى غفرة، وكل هذه الأخبار من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحدثني أحمد بن حازم الغفاري، حدثتنا هنادة بنت مالك الشيبانية قالت: سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا}، قال: سطران ونصف لم يتم الثالث: عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب؟].
يعني: من أيقن أن الله تعالى يرزق، وأن الله تعالى تكفل بالرزق، كيف يتعب وينصب والله تعالى تكفل بالرزق؟ فالموقن لا يتعب.
قال: [وعجبت للموقن بالحساب كيف يغفُل؟ وعجبت للموقن بالموت كيف يفرح؟ وقد قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}، قالت: وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان نساجاً.
وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة، وورد به الحديث المتقدم -وإن صح- لا ينافي قول عكرمة أنه كان مالاً؛ لأنهم ذكروا أنه كان لوحاًَ من ذهب وفيه مال جزيل، أكثر ما زادوا أنه كان مودعاً فيه علم، وهو حكم ومواعظ، والله أعلم].
كأن كلام الحافظ: (والحديث إن صح) بدون واو، أي: سياق الكلام يقتضي هذا، فكأن الحافظ شك في صحته، ولا يصح الحديث، لكن لو صح الحديث مع هذه الآثار، فإنه لا ينافي أن يكون كنزاً، أو لوح كنز مكتوباً فيه هذه الحكم، فإن لم يصح فالله أعلم بهذه الكلمات، إلا أنه كنز، والله أعلم بكيفية الكنز، فهل هو لوح أو غير لوح؟ لكن الحديث إن صح مع هذه الآثار يحمل على أنه لوح من ذهب مكتوب فيه هذه الحكم، لكن الحديث لا يصح بهذا السند، وكأن الحافظ رأى أن تلك الآثار متابعة له، لكنها آثار مقطوعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة، لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به].
وذلك كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21].
قال المؤلف رحمه الله: [قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاح].
قال تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) فحفظ المال بصلاح أبيهما، وأما هما فلم يكن لهما صلاح، أو كانا يتيمين لم يبلغا بعد، فحفظا وحفظ مالهما بصلاح أبيهما، قال تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}، والرجل الصالح تحفظ ذريته بسببه، ويشفع لهم في الآخرة ويرفعون إلى درجته، وإن كانت منزلتهم أقل، لكي تقر عينه بهم، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]، فذريته تلحقه وترفع إلى درجة أعلى، من غير أن ينقص من ثوابه شيء، ولهذا قال: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ) يعني: ما نقصناهم من ثوابهم من شيء.
وهذا من الثواب المعجل للمؤمن، فالمؤمن يثاب عاجلاً وآجلاً، فمن الثواب المعجل أن الله تعالى يحفظ ذريته به، ومن الثواب المعجل الثناء الحسن، والرؤيا الصادقة، كما قال الله تعال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:62 - 64]، فالبشرى في الدنيا فسرت بالثناء الحسن وبالرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاح، وتقدم أنه كان الأب السابع، فالله أعلم].
وظاهره أنه أبوهما المباشر، وكونه الأب السابع يحتاج إلى دليل.(62/7)
دلائل نبوة الخضر عليه السلام
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا}، هاهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى؛ لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله].
الحُلْم والحُلُم كما في قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور:59] يعني: سن التكليف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال في الغلام: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} [الكهف:81]، وقال في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، فالله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أي: هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة ووالدي الغلام وولدي الرجل الصالح، {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، أي: لكني أمرت به ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه السلام].
وهذه دلالة واضحة، وهذا هو الصواب؛ لأنه قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أي: إنما فعله بوحي من الله، والجمهور يرون أنه عبد صالح، والصواب أنه نبي يوحى إليه؛ لما في الآية الكريمة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، إنما فعله بوحي من الله، ولأن هذه الأعمال لا يمكن أن يفعلها الإنسان بالإلهام، وإنما يفعلها بوحي من الله، فالإقدام على قتل الغلام، وخرق السفينة، وكذلك بناء الجدار، وإخبار موسى بأنه ليتيمين في المدينة، وأنهما سيبلغان أشدهما لا يعلم كل هذا إلا الله، ومن يعلم أن هذين اليتيمين سيعيشان ويكبران ويأخذن كنزهما بغير وحي من الله؟! ثم القول بأنه فعل هذه الأشياء بالإلهام هو من كلام الصوفية الذين يقدمون على الأفعال المحرمة ويدعون أن هذا بإلهام، ويحتجون بقصة الخضر.
والصواب أن الخضر نبي يوحى إليه، كما هو صريح في قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}.
وهذا له نظائر؛ لأن الفضل والخير يضاف إلى الله، والشر لا يضاف إلى الله -وإن كان الله خالق الجميع- من باب الأدب، كما قال الله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]، قال تعالى عن الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]، فالشر ما أضافوه إلى الله، بل قالوا: ((أَشَرٌّ أُرِيدَ))، والخير أضافوه إلى الله فقالوا: ((أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)) وهذا من أدب الجن، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (والشر ليس إليك)، يعني: الشر المحض الذي لا حكمة في إيجاده لا ينسب إلى الله ولا يضاف إلى الله، مع أن الله تعالى خالق كل شيء، لكن الشر لا يضاف إلى الله من باب الأدب، والخير يضاف إليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه السلام، مع ما تقدم من قوله: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}.
وقال آخرون: كان رسولاً، وقيل: بل كان ملكاً، نقله الماوردي في تفسيره، وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبياً، بل كان ولياً، فالله أعلم].
قيل: إنه ولي وعبد صالح، وقيل: إنه كان نبياً، وقيل: إنه كان رسولاً، وقيل: إنه كان ملكاً، فهذه أربعة أقوال، والأكثرون على أنه عبد صالح، وأنه قال هذه الأشياء بإلهام وتعريف من الله، وهذا هو علم اللدني، حيث قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}، وذهب إلى هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله وكثير من أهل العلم.
والقول الثاني: أنه نبي، والقول الثالث: أنه رسول، والقول الرابع: أنه ملك، والصواب: أنه نبي يوحى إليه.(62/8)
دلائل موت الخضر عليه السلام
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكر ابن قتيبة في المعارف أن اسم الخضر بليا بن ملكان بن فالغ بن غابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام, قالوا: وكان يكنى أبا العباس ويلقب بـ الخضر، وكان من أبناء الملوك، ذكره النووي في تهذيب الأسماء، وحكى هو وغيره في كونه باقياً إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولين، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه، وذكروا في ذلك حكايات وآثار عن السلف وغيرهم، وجاء ذكره في بعض الأحاديث، ولا يصح شيء من ذلك، وأشهرها أحاديث التعزية، وإسناده ضعيف].
يعني: أن العلماء لهم في بقائه قولان: قول بأنه موجود وأنه باق إلى يوم القيامة، وقال آخرون: إنه مات، وهذا هو الصواب؛ لأنه لو كان باقياً لجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، والله تعالى أخذ الميثاق على كل نبي: لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه، وعيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل في آخر الزمان يكون فرداً من أفراد الأمة المحمدية، ويحكم بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن يكون الخضر -وهو نبي أو عبد صالح- في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يأتي ليؤمن به ويبايعه، ثم إنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته خطب الناس بعد العشاء وقال: (إنه على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض اليوم أحد)، والمعنى: أن مائة سنة تخرم ذلك القرن، والحديث رواه البخاري في صحيحه.
يعني: بعد مائة سنة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم يموت من هو موجود على الأرض ويأتي جيل جديد، فلو كان الخضر موجوداً على قيد الحياة لشمله هذا الحديث ومات.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله له في مجموع الفتاوى قولان: قول: أنه مات، وهذا هو الصواب، والقول الثاني أنه باق، وأجاب عن هذا بأنه ليس على وجه الأرض، وإنما هو في البحر، ولعله رجع عن هذا القول، ولكنه نقل القولين، وكأن الذي نقله عنه لا يعرف المتقدم من المتأخر، والصواب أنه مات، وليس على قيد الحياة، وبعض الناس يرى أن الخضر وإلياس من المعمرين، وأنهما باقيان إلى يوم القيامة، والصواب أنهما ليسا باقيين، ولو كانا موجودين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لجاءا وآمنا به.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك، واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34]، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حضر عنده ولا قاتل معه، ولو كان حياً لكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى جميع الثقلين: الجن والإنس، وقد قال: (لو كان موسى وعيسى حيين ما وسعهما إلا اتباعي).
وأخبر قبل موته بقليل: (أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف)، إلى غير ذلك من الدلائل].
أي: لو كان موجوداً لكان من تلك العصابة؛ لأنه يعبد الله في الأرض، ولأنه نبي أو عبد صالح، فقوله: (إن تهلك هذه العصابة) معناه: ليس في الأرض أحد في ذلك الوقت مؤمن إلا غيرهم.
وقوله: [(لو كان موسى وعيسى حيين ما وسعهما إلا اتباعي)] لعل هذا مما أخطأ فيه الكاتب، أو زاده زنديق على التفسير، فإن هذا القول يرده ما تواتر من النصوص على نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان.
فالصحيح: (ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) منافاة، فموسى لا شك في أنه توفى، وعيسى مرفوع؛ ولو كان موسى حياً لاتبعه، ولو كان عيسى موجوداً على وجه الأرض لاتبعه؛ لكنه مرفوع، وقد أخبر في الأحاديث الصحيحة بأنه ينزل في آخر الزمان ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكره ابن أبي العز في شرح الطحاوية في السياق، وعلق عليه الشيخ ناصر الألباني رحمه الله في تخريج الطحاوية بقوله: (كذا الأصل)، وكأنه يشير إلى الحديث الذي ذكره شيخه ابن كثير في تفسير سورة الكهف بلفظ: (لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي)، وهو حديث محفوظ دون ذكر عيسى فيه، فإنه منكر عندي، لم أره في شيء من طرقه، وهي مخرجة في إرواء الغليل برقم ألف وخمسمائة وتسعة وثمانين.
والصحيح أن ذكر عيسى وهم، أو خطأ مطبعي، وقوله: (كانا حيين)، الصحيح: حي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك عن معمر، عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخضر قال: (إنما سمي خضراً لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تحته تهتز خضراء) ورواه -أيضاً- عن عبد الرزاق، وقد ثبت -أيضاً- في صحيح البخاري عن همام عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء).
والمراد بالفروة هاهنا: الحشيش اليابس.(62/9)
بيان معنى قوله تعالى: (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}، أي: هذا تفسير ما ضقت به ذرعاً، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء، ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال: ما لم (تسطع)، وقبل ذلك كان الإشكال قوياً ثقيلاً فقال: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}، فقابل الأثقل بالأثقل، والأخف بالأخف، كما قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97]، وهو الصعود إلى أعلاه، {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97]، وهو أشق من ذلك، فقابل كلاً بما يناسبه لفظاً ومعنى والله أعلم].
يعني: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ففي خرقه السفينة لما أنكر عليه إنكاراً أقل قابله بالأقل، حيث قال موسى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}، فقابله الخضر بقوله: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، ولما شدد عليه في الإنكار في المرة الثانية فقال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}، شدد عليه الخضر وأكده فقال: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} فأتى بزيادة (لك)، وهنا لما كان الإشكال قوياً قال: {لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}، فلما فسر له هذه الأشياء التي فعلها، وزال الإشكال قال: {مَا لَمْ تَسْطِعْ} وحذف التاء للتخفيف، وكذلك في يأجوج ومأجوج، حيث قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] يعني: ما استطاعوا أن يصعدوا إلى أعلى، لأن الصعود إلى أعلى خفيف، وأما النقب والخرق فقال عنه: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97]؛ لأن النقب أشد، وهذا يدل على ما قاله بعضهم من أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.(62/10)
ذكر خبر يوشع بن نون بعد لقي الخضر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك؟ فالجواب أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر، وذكر ما كان بينهما، وفتى موسى معه تبع، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام].
ويوشع بن نون نبي، وهو الذي فتح بيت المقدس، ودخل بيت المقدس بعد وفاة موسى عليه الصلاة والسلام، فموسى توفي في التيه وسط صحراء سيناء التي بين مصر وفلسطين، والله تعالى عاقب بني إسرائيل بالتيه، وحرم عليهم دخول البلد؛ لأنهم امتنعوا ورفضوا أمر الله لما طلب منهم موسى أن يذهبوا معه وليقاتلوا الجبابرة ويفتحوا بيت المقدس، وأخبرهم بأن الله وعد بالفتح، فرفضوا ذلك وقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، فالله تعالى عاقبهم فقال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة:26]، وهذا تحريم قدري، إذ إن التحريم ينقسم إلى قسمين: تحريم قدري وتحريم شرعي، فالتحريم الكوني القدري مثل قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة:26]، ومثل قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]، فهذا تحريم قدري، يعني: لا يقبل ثدي امرأة إلا ثدي أمه.
والنوع الثاني: تحريم شرعي، مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3]، وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] فهذا تحريم شرعي، والتحريم الأول تحريم قدري، والمعنى أن الله منعهم، فقال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة:26]، فصاروا كلما مشوا رجعوا إلى مكانهم لا يهتدون إلى البلد أربعين سنة، حتى ماتوا في التيه، ومات معهم موسى عليه الصلاة السلام.
ثم بعد ذلك ولي الأمر يوشع بن نون فتاه الذي ذهب معه إلى البحر، وصار نبياً، وفتح بهم بيت المقدس، وحبست له الشمس؛ لأنه كاد أن يفتح المدينة قبيل غروب الشمس ليلة السبت، وكان في شريعتهم أن يوم السبت ليس فيه قتال، فنادى يوشع الشمس وقال: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبسها الله، فوقفت حتى تم الفتح قبل غروب الشمس، ثم دخل المدينة، ولم تحبس الشمس لأحد إلا ليوشع بن نون.
وجاء في أحاديث ضعيفة أنها حبست لـ علي، وثبت أنها من موضوعات الشيعة، وأنها حبست لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا لم يثبت.
والصواب أن الشمس ما حبست إلا ليوشع بن نون حتى تم الفتح، وهذا ثابت في الحديث الصحيح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال: حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة حدثني ابن إسحاق عن الحسن بن عمارة عن أبيه عن عكرمة قال: قيل لـ ابن عباس: لم نسمع لفتى موسى بذكر حديث، وقد كان معه؟ قال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال: شرب الفتى من الماء فخلد، فأخذه العالم فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة؛ وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب.
وإسناده ضعيف، والحسن متروك، وأبوه غير معروف].
قلت: المتروك هو المتهم بالكذب، وعلى هذا فيكون الحديث ضعيفاً جداً، فيه عنعنة ابن إسحاق، فالحديث ضعيف جداً ولا يصلح لأن يتقوى بالمتابعة، ثم لو صح السند لكان شاذاً؛ لأنه مخالف للحديث الصحيح الذي فيه أنه كان نبي بني إسرائيل، وأنه فتح بيت المقدس، فكيف يقال: إنه في سفينة في البحر تموج به إلى يوم القيامة؟! فلو صح السند واستقام مثل الشمس فإنه يكون شاذاً؛ لمخالفته للحديث الصحيح.(62/11)
تفسير سورة الكهف [83 - 91]
لقد حفلت سورة الكهف بجملة من القصص القرآنية العظيمة، ومنها قصة ذي القرنين الذي مكن الله تعالى له في الأرض، فبلغ مغرب الشمس، وقهر من مر بهم واستمكن منهم، وأقام حكم الله تعالى بولايته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.(63/1)
تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين)
قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:83 - 84].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ((وَيَسْأَلُونَكَ)) يا محمد ((عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ))، أي: عن خبره، وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألونهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم].
أي: يطلبون منهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالوا: سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية ما يدرى ما صنعوا، وعن الروح، فنزلت سورة الكهف.
وقد أورد ابن جرير هاهنا والأموي في مغازيه حديثاً أسنده -وهو ضعيف- عن عقبة بن عامر: أن نفراً من اليهود جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، فأخبرهم بما جاءوا له ابتداءً، فكان فيما أخبرهم به أنه كان شاباً من الروم، وأنه بنى الإسكندرية، وأنه علا به ملك إلى السماء، وذهب به إلى السد، ورأى أقواماً وجوههم مثل وجوه الكلاب.
وفيه طول ونكارة، ورفعه لا يصح، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل، والعجب أن أبا زرعة الرازي -مع جلالة قدره- ساقه بتمامه في كتابه (دلائل النبوة)، وذلك غريب منه، وفيه من النكارة أنه من الروم، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني، وهو ابن فيليبس المقدوني الذي تؤرخ به الروم، فأما الأول فقد ذكر الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل عليه السلام أول ما بناه، وآمن به واتبعه].
والإسكندر المقدوني هو الذي مهد الطريق للفلاسفة، ومنهم أرسطو الفيلسوف المعروف الذي ابتدع القول بقدم العالم، ويسمى المعلم الأول، ثم أتى بعده المعلم الثاني أبو نصر الفارابي، ثم أتى بعده المعلم الثالث أبو علي بن سينا، ويقال عن هؤلاء: فلاسفة، وهم ملاحدة، فهم الذين ابتدعوا القول بقدم العالم، وقد كان الفلاسفة قبلهم يعظمون الشرائع والأنبياء والإلهيات، ولا يتكلمون فيها، ويقولون: علومنا تتعلق بالرياضيات والطبيعة، فلما جاء الإسكندر المقدوني استوزر أرسطو، ويقال له: أرسطا طاليس.
وكان للإسكندر المقدوني شأن بسبب وزيره أرسطو، وكان الإسكندر المقدوني مشركاً يعبد الأصنام، وذلك قبل المسيح بثلاثمائة سنة كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في (إغاثة اللهفان) وغيره، وأما الإسكندر الأول -وهو ذو القرنين - فكان قبله بدهور، ويقال: إنه كان في زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنه جاء وطاف بالبيت بعدما بناه إبراهيم عليه السلام، فعلى هذا يكون بينه وبين الإسكندر المقدوني قرابة سبعمائة سنة، أو ألف سنة، ثم جاء بعده الإسكندر المقدوني الذي كان وزيره أرسطو، فاشتبه هذا بذاك على بعض الناس، وبينهما فرق، فـ الإسكندر المقدوني كان مشركاً يعبد الأصنام، والإسكندر ذو القرنين كان رجلاً صالحاً، وهو الذي بنى السد، فهناك فرق بين الرجلين في الزمان وفي العمل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان معه الخضر عليه السلام].
أي: وكان مع ذي القرنين الخضر عليه السلام، وفي بعض النسخ أن الخضر كان وزيره، كما تدل على ذلك أخبار الأزرقي في تاريخه، والأزرقي مؤرخ، والمؤرخون ليسوا كالمحدثين يمحصون الأخبار، ولهذا فإن أخبار المؤرخين لا يعتمد عليها، إلا إذا ثبتت بالأسانيد الصحيحة.(63/2)
منهج ابن سينا وأرسطو وسائر الفلاسفة في العقائد
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الثاني فهو اسكندر بن فيليبس المقدوني اليوناني وكان وزيره أرسطا طاليس الفيلسوف المشهور، والله أعلم، وهو الذي تؤرخ من مملكته ملة الروم، وقد كان قبل المسيح عليه السلام بنحو ثلاثمائة سنة].
هذا كما ذكره ابن القيم في إغاثة اللهفان، وذكرت مصادر أخرى أنه كان قبله بألف سنة، لكن هذا وهم، والإسكندر المقدوني هذا هو الذي استوزر أرسطو، وهو من فلاسفة اليونان الذين يسمون بالفلاسفة المشائين، وهم ملاحدة، وأول من ابتدع القول بقدم العالم هو أرسطو، والقول بقدم العالم معناه إنكار أن الله خلق العالم وإنكار لوجود الله، فالملاحدة لا يقولون: إن الله خلق العالم باختياره ومشيئته وإرادته، بل يقولون: إن العالم قديم، بخلاف الفلاسفة القدامى قبل أرسطو.
وأول من وضع التعاليم الحرفية -المنطق- أرسطو الذي استوزره الإسكندر المقدوني، ثم جاء بعده أبو نصر الفارابي فأخرجه إلى الصوت حيث جعله أصواتاً وأوزاناً، فعلى هذا يكون أول من ابتدع التعاليم الصوتية أبو نصر الفارابي، وأول من ابتدع التعاليم الحرفية المنطقية أرسطو.
ثم جاء أبو علي بن سينا الذي يسمونه المعلم الثالث، وهو الذي حاول بجهده أن يقرب الفلسفة من دين الإسلام ويجمع بينهما، ورغم محاولته الشديدة إلا أنه لم يصل إلى ما وصلت إليه الجهمية الغالية في التجهم، فالجهمية الغلاة في التجهم أحسن حالاً وأرشد مذهباً من مذهب ابن سينا الذي افتتن به كثير من الناس في هذا العصر، فـ أبو علي بن سينا والفارابي وأمثالهما يسمونهم بالفلاسفة الإسلاميين، والإسلام منهم بريء، وقد سميت بأسمائهم مدارس ومستشفيات.
وكثير من الصحفيين والمذيعين يقولون: الفلاسفة الإسلاميون! وهم ملاحدة.
وابن سينا سماه ابن القيم في إغاثة اللهفان: (إمام الملحدين)، ويقول ابن سينا عن نفسه: أنا وأبي من دعاة الحاكم العبيدي والحاكم العبيدي رافضي خبيث لا يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ولا بالقدر.
ومحاولة ابن سينا التقريب بين الفلسفة والإسلام تدل على نفاقه وإلحاده.
إذاً: فالمعلم الأول أرسطو الذي لم يثبت وجوداً لله، إلا من جهة كونه مبدأً للفلك وعلة غائية لحركة الفلك فقط، حيث يقول: هذا الفلك مبدؤه هو الله وإلا فهو شيء واحد، وابن سينا أراد أن يقرب الفلسفة من الإسلام، فقال: هناك وجودان: وجود الخالق، ووجود المخلوق، لكن هذا الإثبات إنما هو في الذهن؛ لأنه لم يثبت، فهذا الخالق الذي أثبته عدم -والعياذ بالله- لم يثبت له شيئاً من الصفات، ولا من الأسماء، ولا قال: إنه خلق العالم باختياره، وإنما قال بالوجود المطلق فقط.
والوجود وجودان: وجود واجب ووجود ممكن، فالوجود الواجب هو وجود الله، والوجود الممكن هو وجود المخلوق، إلا أن الواجب ليس له اسم ولا صفة، فليس له سمع، ولا بصر، ولا علم، ولا إرادة، ولا هو فوق، ولا تحت، ولا في يمين ولا في شمال، وإنما وجوده وجود مطلق، فاشترط أن يكون وجوده وجوداً مطلقاً، والوجود المطلق هو الذي لم يقيد باسم ولا صفة، وهذا لا يكون إلا في الذهن وفي اللفظ، أما في الخارج فلم يثبت وجود لله، وقال عن الملائكة: إنهم أشباح وأشكال يتخيلها النبي، وإذا تقربوا إلى أهل الإسلام قال: إنما هي عبارة عن أمور عقلية معنوية، فالملائكة عبارة عن أمور عقلية تدعو إلى الخير والإحسان والكرم، والشياطين: هي الأشباح الرديئة التي تدعو إلى الظلم والعدوان.
أما الكتب المنزلة فقال عنها: إنها فيض، يعني أنها معان تفيض على هذا الرجل العبقري.
وقال عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه رجل عبقري فيه خصائص من استكملها فهو نبي، مثل قوة الإدراك، حتى ينال من العلم أكثر من غيره، وقوة التخيل حتى يتخيل الملائكة، وقوة التأكيد، فهذه خصائص من استكملها فهو نبي.
وقال: إن النبوة ليست منحة ولا هبة ربانية، بل هي صنعة من الصناعات وسياسة من السياسات، فكل إنسان يستطيع أن يحصل عليها بالمران والخبرة، فهذا إيمانهم بالنبوة.
وأما إيمانهم بالبعث والنشور والحساب والجنة والنار فيقولون: هذه أمور خيالية لا حقيقة لها؛ لأنها من كذب هذا النبي، فالنبي يكذب على الناس حتى يستصلح أحوالهم، فهو يكذب لهم، ولا يكذب عليهم، فهو يخبرهم بأن هناك بعثاً وجزاء ونشوراً وجنة وناراً حتى يعيش الناس بسلام، وحتى لا يبغي أحد على أحد، أي: ليس هناك جنة ولا نار ولا بعث، والعياذ بالله، وهذا هو مذهب ابن سينا في محاولته الشديدة للتقريب بين الإسلام والفلسفة.
لذلك ينبغي على المسلم -لاسيما طالب العلم- ألا يغتر بهذه التخرصات؛ لأن هؤلاء الصحفيين والمذيعين ليس عندهم علم ولا بصيرة بحال هؤلاء الفلاسفة.(63/3)
ذكر سبب تسمية الإسكندر بذي القرنين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل كما ذكره الأزرقي وغيره، وأنه طاف مع الخليل بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم عليه السلام، وقرب إلى الله قرباناً، وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من أخباره في كتاب (البداية والنهاية) بما فيه كفاية ولله الحمد.
وقال وهب بن منبه: كان ملكاً، وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس، قال: وقال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك الروم وفارس، وقال بعضهم: كان في رأسه شبه القرنين، وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل قال: (سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين فقال: كان عبداً ناصحاً لله فناصحه].
النصح لله معناه: إخلاص العبادة لله عز وجل، كما في الحديث: (الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه) فالنصح لله هو إخلاص العبادة وأداء حقه سبحانه، والنصح لكتابه معناه: العمل بالقرآن العزيز، والنصح لرسوله معناه: اتباعه عليه الصلاة والسلام ومحبته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كان عبداً ناصحاً لله فناصحه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات فأحياه الله، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فسمي ذا القرنين].
هذا الحديث صححه الحافظ ابن حجر بعد عزوه إلى المختارة للحافظ الضياء، وأخرجه الطبراني من طريق أبي الطفيل قال: سمعت علياً وسألوه، فذكر نحوه.
قال الحافظ الضياء المقدسي: أخبرنا أبو المجد زاهر بن أحمد بن حامد بن أحمد الثقفي قرأت عليه بأصفهان قال: قلت له: أخبركم أبو عبد الله الحسين بن عبد الملك بن الحسين الخلال قراءة عليه وأنت تسمع قال: حدثنا الإمام أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين بن بندار الرازي أنبأنا أبو الحسن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن علي بن فراس حدثنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم الديلي حدثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي حسين عن أبي الطفيل قال: سمعت ابن الكواء يسأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذي القرنين، فقال علي: (لم يكن نبياً ولا ملكاً، بل كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه، وناصح الله فناصحه، بعث إلى قومه فضربوه على قرنه فمات، فبعثه الله، فسمي ذو القرنين).
وقال أيضاً: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل قال: سئل علي، وساق الحديث.
وهنا سند آخر، قال الضياء المقدسي: أخبرنا عبد العزيز أخبرنا عبد المعز بن محمد الهروي قراءة عليه بها قلت له: أخبركم محمد بن إسماعيل بن الفضيل قراءة عليه وأنت تسمع بأن محلم بن إسماعيل الضبي بأن الخليل بن أحمد الضبي بأن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الفراج حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عوانة عن سماك عن حبيب بن حماد قال: (كنت عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب؟ قال: سبحان الله! سخر له السحاب ومدت له الأسباب وبسط له النور، فقال: أزيدك؟ قال: فسكت الرجل وسكت علي) رواه الضياء في المختارة، وصححه المحقق، ونقل توثيق العجلي في حديث ابن حماد.
والمختارة للضياء يقول عنها شيخ الإسلام رحمه الله بأن أحاديثها أحسن من أحاديث مستدرك الحاكم، لكن الأمر يحتاج إلى نظر في الأسانيد التي سبق ذكرها في الحديث الموقوف على علي.
وكل ذلك من أخبار بني إسرائيل، أي: كونه أحياه الله مرتين، وكذا القول بأنه كان على جانبي رأسه صفحتان من النحاس، وهذا بعيد؛ لأن هذا مخالف لخلق بني آدم، فبنو آدم خلقهم الله من دم ولحم وعظم لا من نحاس، ولو كان هذا صحيحاً لورد في ذلك شيء من الأخبار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا رواه شعبة عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل سمع علياً يقول ذلك، ويقال: إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب].
ولعل هذا هو الأقرب، بلغ المشارق والمغارب، والدليل على هذا ما ذكر الله وبينه من أنه بلغ مطلع الشمس ومغربها.(63/4)
بيان معنى قوله تعالى: (إنا مكنا له في الأرض)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} [الكهف:84] أي: أعطيناه ملكاً عظيماً متمكناً فيه من جميع ما يؤتى الملوك من التمكين والجنود وآلات الحرب والحصارات، ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم من العرب والعجم، ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها.
وقوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84] قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك وغيرهم: يعني: علماً.
وقال قتادة -أيضاً- في قوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84] قال: منازل الأرض وأعلامها، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84] قال: تعليم الألسنة، كان لا يغزو قوماً إلا كلمهم بلسانهم، وقال ابن لهيعة: حدثني سالم بن غيلان عن سعيد بن أبي هلال أن معاوية بن أبي سفيان قال لـ كعب الأحبار: أنت تقول: إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟ فقال له كعب: إن كنت قلت ذلك فإن الله تعالى قال: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84]، وهذا الذي أنكره معاوية رضي الله عنه على كعب الأحبار هو الصواب].
هذا السند لا يصح؛ لأن فيه ابن لهيعة، وكعب الأحبار من بني إسرائيل أسلم، وهو يأخذ عن بني إسرائيل.
فقوله: (يربط خيله بالثريا) غير صحيح، ومعنى (آتاه الله من كل شيء سبباً) أي: آتاه من كل شيء يصلح للملوك ويؤتاه الملوك، ومكنه في الأرض، وهذا جدير بالإنكار، وابن لهيعة -أيضاً- ضعيف احترقت كتبه في آخر حياته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحق مع معاوية في ذلك الإنكار؛ فإن معاوية كان يقول عن كعب: إن كنا لنبلو عليه الكذب].
يعني: يؤثر عنه الكذب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يعني فيما ينقله، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحفه].
يعني: ينقل عن بني إسرائيل ما هب ودب، فيقع في الكذب فيما ينقله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن الشأن في صحفه أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق، ولا حاجة لنا مع خبر الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شيء منها بالكلية، فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض.
وتأويل كعب قول الله: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84]، واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحفه من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق، فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك ولا إلى الترقي في أسباب السماوات، وقد قال الله في حق بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] أي: مما يؤتى مثلها من الملوك].
يعني أن قوله: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا)، أي: مما يؤتاه الملوك، وليس المراد العموم؛ لأن العموم قد يخصص بما يدل عليه الواقع والعقل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب -أي: الطرق والوسائل- إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد].
الرساتيق كلمة أعجمية، أي: المدن والأقاليم، فـ ذو القرنين يسر الله له أسباب الفتح، كما يسر له بناء السد، وطلب من الناس أن يعينوه وأن يأتوه بالحديد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يسر الله له الأسباب -أي: الطريق والوسائل- إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك، قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سبباً، والله أعلم.
وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي من طريق قتيبة عن أبي عوانة عن سماك بن حرب عن حبيب بن حماد قال: (كنت عند علي رضي الله عنه وسأله رجل عن ذي القرنين: كيف بلغ المشرق والمغرب؟ فقال: سبحان الله! سخر له السحاب وقدر له الأسباب وبسط له اليد)].
قوله: (سخر له السحاب) يحتمل -والله أعلم- أنه بالأمطار أو بتظليل السحاب له.(63/5)
تفسير قوله تعالى: (فأتبع سبباً.
حتى إذا بلغ مغرب الشمس)
قال الله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:85 - 88].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا)، يعني: بالسبب المنزل، وقال مجاهد: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا)، منزلاً وطريقاً ما بين المشرق والمغرب، وفي رواية عن مجاهد (سَبَبًا) قال: طرفي الأرض].
قوله: (طرفي الأرض) الأقرب (طريق)، و (طرفي الأرض) لها معنى، يعني أنه بلغ المشارق والمغارب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: أي اتبع منازل الأرض ومعالمها، وقال الضحاك: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا)، أي: المنازل، وقال سعيد بن جبير في قوله: ((فَأَتْبَعَ سَبَبًا))، قال: علماً، وهكذا قال عكرمة وعبيد بن تعلى والسدي، وقال مطر: معالم وآثار كانت قبل ذلك].(63/6)
بلوغ ذي القرنين مغرب الشمس
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} [الكهف:86] أي: فسلك طريقاً حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض، وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدة والشمس تغرب من ورائه فشيء لا حقيقة له، وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب واختلاق زنادقتهم وكذبهم].
يعني أن الله أعطى بني آدم من الأسباب ما يناسبهم، وكون الشمس تغرب من وراء ذي القرنين لا يعقل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف:86]، أي: رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه، وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه].
يعني: أن الشمس في السماء في الفلك، لقوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، أي: الشمس والقمر، أي: تدور في فلكها وليست نازلة في الأرض، لكن من وصل إلى الساحل ونظر إلى الشمس حال غروبها فيظن أنها غربت في البحر، وهي في فلكها في السماء، مثل من يرى أن طرف السماء وصل بالأرض من البعد، والسماء معروف أن بينها وبين الأرض خمسمائة عام، لكن في مرأى العين يرى شيئاً، والواقع شيء آخر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحمئة مشتقة -على إحدى القراءتين- من الحمأة، وهو الطين، كما قال تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:28] أي: طين أملس، وقد تقدم بيانه.
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أنبأنا نافع بن أبي نعيم سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول: كان ابن عباس يقول: (في عين حمئة) ثم فسرها: ذات حمأة، قال نافع: وسئل عنها كعب الأحبار فقال: أنتم أعلم بالقرآن مني، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء، وكذا روى غير واحد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وغير واحد، وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا محمد بن دينار عن سعد بن أوس عن مصدع عن ابن عباس عن أبي بن كعب (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه: (حمئة)) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وجدها تغرب في عين حامية) يعني: حارة، وكذا قال الحسن البصري، وقال ابن جرير: والصواب أنهما قراءتان مشهورتان، فأيهما قرأ القارئ فهو مصيب.
قلت: ولا منافاة بين معنييهما؛ إذ قد تكون حارة لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها وملاقاتها الشعاع بلا حائل، وحمئة في ماء وطين أسود، كما قال كعب الأحبار وغيره].
يعني: تكون حارة لملاقاتها وهج الشمس، وهي حمئة؛ لأنها من طين أسود، فتجمع بين الأمرين: حمئة الطين والتراب، وحارة لملاقاتها شعاع الشمس ووهج الشمس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوام حدثني مولى لـ عبد الله بن عمرو عن عبد الله قال: (نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت، فقال في نار الله الحامية: لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض).
قلت: ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون، وفي صحة رفع هذا الحديث نظر، ولعله من كلام عبد الله بن عمرو من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك، والله أعلم].
يعني: رفعه فيه نظر، وإلا فظاهر السند الصحة، لكن لعل بعضهم وهم فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو موقوف على عبد الله بن عمرو.
وقوله: [مولى لـ عبد الله بن عمرو] فيه جهالة؛ لأنه لم يذكر اسمه، ولعل هذا المولى هو الذي رفعه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا محمد -يعني ابن بشر - حدثنا عمرو بن ميمون أنبأنا ابن حاضر: أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف: (تغرب في عين حامية)، قال ابن عباس لـ معاوية: ما نقرؤها إلا حمئة، فسأل معاوية عبد الله بن عمرو: كيف تقرؤها؟ فقال عبد الله: كما قرأتها، قال ابن عباس: فقلت لـ معاوية: في بيتي نزل القرآن، فأرسل إلى كعب فقال: أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب: سل أهل العربية فإنهم أعلم بها، وأما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين، وأشار بيده إلى المغرب، قال ابن حاضر: لو أني عندك أفدتك بكلام تزداد فيه بصيرة في (حمئة)، قال ابن عباس: وإذا ما هو؟ قلت: فيما يؤثر من قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في تخلقه بالعلم واتباعه إياه: بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قلت: الطين بكلامهم، قال: فما الثأط؟ قلت: الحمأة، قال: فما الحرمد؟ قلت: الأسود، قال: فدعا ابن عباس رجلاً أو غلاماً فقال: اكتب ما يقول هذا الرجل).
وقال سعيد بن جبير: (بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف:86] قال كعب: والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحداً يقرؤها كما أنزلت في التوراة غير ابن عباس، فإنا نجدها في التوراة تغرب في مدرة سوداء).
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف قال في تفسير ابن جريج: (وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا) قال: مدينة لها اثنا عشر ألف باب، لولا أصوات أهلها لسمع الناس وجوب الشمس حين تجب].
ومعنى: (تجب) تسقط وتغرب، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36]، يعني: سقطت على الأرض.
يعني أن هذه المدينة قريبة من مغرب الشمس، ولولا أصوات الناس لسمعوا وجبتها وسقوطها عند الغروب.
وفي السند كعب، وهو يأخذ عن بني إسرائيل، وكان من أهل الكتاب فأسلم في زمن عمر بن الخطاب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} [الكهف:86] أي: أمة من الأمم، ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم.
وقوله: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86] معنى هذا أن الله تعالى مكنه منهم وحكمه فيهم وأظفره بهم وخيره إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منَّ أو فدى، فعرف عدله وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه في قوله: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) أي: استمر على كفره وشركه بربه، (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ)، قال قتادة: بالقتل، وقال السدي: كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا].
يعني: كان يحمي لهم قدر النحاس ويلقيهم فيها، وهذا هو الأقرب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال وهب بن منبه: كان يسلط الظُلْمَة فتدخل أفواههم وبيوتهم وتغشاهم من جميع جهاتهم، والله أعلم].
يعني أن الله تعالى أخبر بأنه كان يعذب، قال عز وجل: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} [الكهف:87]، والله أعلم بكيفية العذاب، لكن الظاهر أن العذاب هو القتل؛ لأن جزاء المشرك القتل لا تسليط الظُلْمة عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا)، أي: شديداً بليغاً وجيعاً أليماً، وفيه إثبات المعاد والجزاء].
والجزاء والمعاد من الأصول التي جاءت بها الأنبياء جميعاً؛ لأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجزاء والحساب والجنة والنار أمور مجمع عليها، وأصول اتفق عليها الأنبياء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} [الكهف:88]، أي: تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف:88]، أي: في الدار الآخرة عند الله عز وجل، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:88]، قال مجاهد: معروفاً].(63/7)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا بلغ مطلع الشمس)
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف:89 - 91].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ثم سلك طريقاً فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها، وكان كلما مر بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز وجل، فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم واستباح أموالهم وأمتعتهم، واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الإقليم المتاخم لهم].
يعني أن الله سبحانه مكنه وهيأ له الأسباب؛ لأنه ملك عادل صالح، وكان يسير في الأرض، فمن وجده موحداً أكرمه، ومن كان مشركاً أهانه وأذله واستخدمه واستباح ماله ودمه؛ لأنه كافر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفاً وستمائة سنة يجوب الأرض طولها والعرض حتى بلغ المشارق والمغارب، ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال الله تعالى: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ} [الكهف:90] أي: أمة، {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90] أي: ليس لهم بناء يكنهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس، قال سعيد بن جبير: كانوا حمراً قصاراً مساكنهم الغيران، أكثر معيشتهم من السمك].
يعني أن هؤلاء ليس لهم بيوت تظلهم ولا أشجار، وإنما يعيشون في الغيران أو في أسراب تحت الأرض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا سهل بن أبي الصلت سمعت الحسن وسئل عن قوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90] قال: إن أرضهم لا تحمل البناء، فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم، وقال الحسن: هذا حديث سمرة].
يعني أن أرضهم كانت رخوة لا يستقر عليها البناء، لأن الماء قريب منها، ومعنى (تغوروا في المياه) أي: كل واحد منهم غار بجسمه في المياه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئاً، فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب، حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم، وعن سلمة بن كهيل أنه قال: ليست لهم أكنان، إذا طلعت الشمس طلعت عليهم، فلأحدهم أذنان يفرش إحداهما ويلبس الأخرى].
وهذا من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90] قال: هم الزنج.
وقال ابن جرير في قوله: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90] قال: لم يبنوا فيها بناءً قط، ولم يبن عليهم فيها بناء قط، كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسراباً لهم حتى تزول الشمس، أو دخلوا البحر، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل، جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها: لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم بها، قالوا: لا نبرح حتى تطلع الشمس، ما هذه العظام؟ قالوا: هذه جيف جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا، قال: فذهبوا هاربين في الأرض.
وقوله: {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف:91] قال مجاهد والسدي: علماً.
أي: نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض، فإنه تعالى {لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران:5]].
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:92]].(63/8)
تفسير سورة الكهف [92 - 98]
يذكر الله تعالى من شأن ذي القرنين أنه بلغ في تطوافه موضع يأجوج ومأجوج بين السدين، وهما أمتان من نسل آدم عليه السلام تعيثان في الأرض فساداً، فسخر الله تعالى ذا القرنين لنجدة أناس طالهم السوء من تلك الأمتين، فبنى لهم ردماً عظيماً سد به مخرج يأجوج ومأجوج معترفاً بمنة الله تعالى عليه في تمكينه له، وبقدرة الله تعالى على دك السد حين يأذن بخروج يأجوج ومأجوج، وكان وعد الله تعالى حقاً.(64/1)
تفسير قوله تعالى: (ثم أتبع سبباً.
حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً)
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف:92 - 93].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن ذي القرنين: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} أي: ثم سلك طريقاً من مشارق الأرض، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} وهما جبلان متناوحان] يعني: جبلان متقابلان بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيها فساداً، ويهلكون الحرث والنسل].
ويأجوج ومأجوج أمتان من بني آدم على الصحيح، وسميتا بيأجوج ومأجوج لكثرة لغطهم وأصواتهم.
وما ذكره بعضهم من أن آدم احتلم في الأرض، وأن الله خلقهما باحتلامه؛ فهو باطل لا أصل له، والصواب أنهما أمتان من بني آدم كافرتان تعيثان في الأرض فساداً، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: يا آدم! أخرج بعث النار.
فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسمعائة وتسعة وتسعون في النار وواحد إلى الجنة، فشق ذلك على الصحابة، وقالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الواحد؟! فقال: أبشروا، فإن منكم رجلاً ومن يأجوج ومأجوج ألفاً) وفي الحديث الآخر: (أنهما أمتان ما كانتا في شيء إلا كثرتاه) فهما أمتان كافرتان.
وثبت في الحديث الصحيح أن ذا القرنين -كما في الآية- بنى السد، وأنهم يخرجون في آخر الزمان ويفسدون في الأرض، فيخرجون في زمن عيسى عليه السلام حين ينزل من السماء، وهو العلامة الثالثة من العلامات الكبرى للساعة، فأولها المهدي، يخرج في آخر الزمان في وقت ليس للناس فيه إمام، ويبايع بين الركن وباب الكعبة، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فهو محمد بن عبد الله المهدي، والفتن تحصر أهل السنة وأهل الحق في الشام، وتحصل حروب في زمانه بين النصارى والمسلمين، وتفتح القسطنطينية، ويعلق المسلمون سيوفهم بالزيتون بعد فتح القسطنطينية وانتصار المسلمين، فبينما هم كذلك إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح الدجال قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج.
فخروجه يعتبر العلامة الثانية من أشراط الساعة الكبرى، ثم ينزل عيسى بن مريم من السماء في وقت الدجال وفي زمن المهدي، فنزول عيسى هو العلامة الثالثة من أشراط الساعة، فيقتل عيسى عليه الصلاة والسلام الدجال، فمسيح الهدى يقتل مسيح الضلالة.
ثم بعد ذلك يخرج يأجوج ومأجوج في زمان عيسى، فهذه أربع علامات متتالية في وقت واحد: المهدي، ثم الدجال، ثم نزول عيسى بن مريم، ثم خروج يأجوج ومأجوج، فيتحرز نبي الله عيسى ومن معه من المؤمنين بجبل الطور، فيوحي الله إلى عيسى أن: (حرز عبادي إلى الطور، فإني سأخرج عباداً لي لا يدان لأحد بهم)، فقوله: (عباداً لي) يعني العبودية العامة؛ لأن العبودية نوعان: عبودية عامة تشمل كل الناس كافرهم ومؤمنهم، بمعنى أنه تنفذ فيهم قدرة الله ومشيئته وإرادته، فلا يخرجون عنها، مثل قول الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93].
النوع الثاني: العبودية الخاصة، وهذه خاصة بالمؤمنين، أي: من يعبد الله باختياره، ولهذا يوحي الله إلى عيسى أن: (حرز عبادي إلى الطور؛ فإني مخرج عباداً لي لا يدان لأحد بهم)، يعني: لا قدرة ولا طاقة لأحد بهم، فيتحرز نبي الله عيسى ومن معه إلى جبل الطور، فيخرج يأجوج ومأجوج ويفسدون في الأرض، فيدعو نبي الله عيسى ومن معه عليهم فيهلكهم الله كموت نفس واحدة، حتى يكونوا كالجبال وكالتلال بعضهم فوق بعض، فيرسل الله طيراً كالبخت -أي: الإبل- تأخذهم فتلقيهم في البحر، فينزل الله مطراً فيطهر الأرض به، وهذا من رحمة الله؛ لأنهم لو بقوا لأوخمت الأرض وهلك الناس.
فهذه أربع علامات من أشراط الساعة الكبرى كلها متتالية، والمقصود أن يأجوج ومأجوج أمتان كافرتان مفسدتان في الأرض، ولهذا لما وصل إليهم ذو القرنين رحمه الله وشكى إليه الترك فساد يأجوج ومأجوج فقالوا: إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فاجعل بيننا وبينهم سداً، وسنعطيك مالاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً، فقال ذو القرنين: {مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} يعني: أنا عندي من المال ما يكفيني، لكن أعينوني بقوة ورجال، {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} فأعانوه فبنى السد بينهم وبين يأجوج ومأجوج.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم عليه السلام، كما ثبت في الصحيحين: (إن الله تعالى يقول: يا آدم.
فيقول: لبيك وسعديك.
فيقول: ابعث بعث النار.
فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فحينئذ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، فقال: إن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج)].
هذا الحديث فيه إثبات الكلام لله عز وجل، وأن الله يتكلم بصوت وحرف، خلافاً للجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين أنكروا الصوت، فهو يناديهم، وفي الحديث الآخر: (أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب).
والمعتزلة والأشاعرة والجهمية أنكروا الكلام، فقال الأشاعرة: إن الكلام معنى قائم بالنفس لا يسمع، ليس بحرف ولا صوت، وهذا الحديث فيه الرد عليهم، فهو سبحانه يتكلم بحرف وصوت، لكن الله لا يشبه المخلوقين في شيء من صفاتهم، فصوت الله لا يشبه صوت المخلوق، ولهذا فإن كلام الله يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، بخلاف صوت المخلوق، فلا يسمعه إلا القريب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد حكى النووي رحمه الله في شرح مسلم عن بعض الناس أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب، فخلقوا من ذلك].
هذا ذكره النووي في شرح صحيح مسلم، وهو ضعيف وليس بصحيح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم وليسوا من حواء، وهذا قول غريب جداً، ثم لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب؛ لما عندهم من الأحاديث المفتعلة، والله أعلم].
الصواب أنهم خلقوا من آدم وحواء وهما أمتان من آدم وحواء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي مسند الإمام أحمد عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ولد نوح ثلاثة: سام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك) فقال بعض العلماء: هؤلاء من نسل يافث أبي الترك، قال: إنما سموا هؤلاء تركاً لأنهم تركوا من وراء السد، وإلا فهم أقرباء أولئك، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة].
يعني: صاروا خارج السد، فسموا الترك، وبقي داخل السد يأجوج ومأجوج.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثراً طويلاً عجيباً في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم].
ومن ذلك: أن الواحد منهم يفترش إحدى الأذنين ويلتحف بالأخرى، ووهب بن منبه يأخذ عن بني إسرائيل كما ذكر الحافظ ابن كثير، والأقرب أن ذلك من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى ابن أبي حاتم أحاديث غريبة في ذلك لا تصح أسانيدها، والله أعلم.
وقوله: {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} أي: لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس].(64/2)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض)
قال الله تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: أجراً عظيما.
يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالاً يعطونه إياه، حتى يجعل بينهم وبينهم سداً، فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير: {مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه، كما قال سليمان عليه السلام: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل:36]، وهكذا قال ذو القرنين: الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه، ولكن ساعدوني بقوة، أي: بعملكم وآلات البناء {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف:95 - 96] والزبر: جمع زبرة، وهي القطعة منه، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وهي كاللبنة، يقال: كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد عليه.
(حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي: وضع بعضه على بعض من الأساس، حتى إذا حاذى به رءوس الجبلين طولاً وعرضاً، واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على أقوال (قَالَ انفُخُوا) أي: أجج عليه النار حتى صار كله ناراً (قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي: هو النحاس.
وزاد بعضهم: المذاب، ويستشهد بقوله تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ:12]، ولهذا يشبه بالبرد المحبر].
أي: القماش الذي فيه النقوش.
والسدي الكبير ثقة معروف، يروي عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس، وأما السدي الصغير فكذاب.
والمعنى أنه أتى بزبر الحديد -أي: قطع الحديد- كأنها لبن، وجعل يصف قطع الحديد بين السدين حتى وصل إلى رءوس الجبال فسدها، ثم أججها بالنار، ثم صب عليها النحاس المذاب حتى يُمسك ما بين قطع الحديد، فصار يأجوج ومأجوج من ورائه لا يستطيعون الخروج، فإذا جاء أمر الله في آخر الزمان خرجوا، قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97] أي: لا يستطيعون نقبه؛ لأنه حديد ونحاس، وليس عندهم آلات، فإذا جاء وعد الله خرجوا، كما قال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف:98] أي أنهم سيخرجون بعد نزول عيسى عليه السلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال: (ذكر لنا أن رجلاً قال: يا رسول الله! قد رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال: انعته لي قال: كالبرد المحبر، طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: قد رأيته).
هذا حديث مرسل].
يعني: كان فيه خطوط سوداء وخطوط حمراء، فقد خلط فيه نحاساً بحديد، يعني: قطع حديد كأنها لبن، فأحمى النحاس بالنار حتى ذاب وصبه عليه؛ حتى يمسك ما بين لبن الحديد فتتماسك، فعل ذلك من الأساس حتى حاذى رؤوس رأسي الجبلين.
وفي الحاشية: وقد روي موصولاً من طرق، رواه ابن مردويه في تفسيره -كما في تخريج الكشاف- من طريق أبي الجماهر عن سعيد بن بشير عن قتادة عن رجل عن أبي بكرة الثقفي: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني قد رأيته) فذكر نحوه.
ورواه البزار في مسنده -كما في تخريج الكشاف- من طريق عبد الملك بن أبي نعامة عن يوسف بن أبي مريم عن أبي بكرة بنحوه مطولاً، ورواه ابن مردويه أيضاً من طريق سفيان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن رجل من أهل المدينة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، انتهى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد بعث الخليفة الواثق في دولته بعض أمرائه وجهز معه جيشاً سرية لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا، فتوصلوا من بلاد إلى بلاد، ومن ملك إلى ملك، حتى وصلوا إليه، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس، وذكروا أنهم رأوا فيه باباً عظيماً، وعليه أقفال عظيمة، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك، وأن عنده حرساً من الملوك المتاخمة له، وأنه عال منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال، ثم رجعوا إلى بلادهم، وكانت غيبتهم أكثر من سنتين، وشاهدوا أهوالاً وعجائب].
يعني: وذلك لأنه لم تكن لديهم مواصلات سريعة مثل الحال الآن، فلم تكن لديهم سيارات ولا طائرات ولا قطارات ولا بواخر في البحر كما هو الحال اليوم.(64/3)
تفسير قوله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً)
قال الله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا فوق هذا السد، ولا قدروا على نقبه من أسفله، ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلاً بما يناسبه، فقال: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}، وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه ولا على شيء منه].
يعني: ما استطاعوا أن يصعدوه ويظهروه وما استطاعوا نقبه، وصعوده أسهل عليهم من نقبه؛ لأن نقب الحديد ليس بسهل، ولم يكن عندهم من الآلات الحديثة كما عندنا الآن، وفهم لا يستطيعون نقبه ولا يستطيعون صعوده، ولذلك قال: (فما اسطاعوا أن يظهروه) وهذا أسهل (وما استطاعوا له نقباً) وهذا أشد، فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة حدثنا أبو رافع عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً، فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله، فيستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس، فينشفون المياه، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم، فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفاً في رقابهم فيقتلهم بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكراً من لحومهم ودمائهم)].
قوله: (فيستثنى) يعني: يقول: إن شاء الله، قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24] والاستثناء فيه فائدة هنا؛ لأن الاستثناء فيه جعل الأمر إلى الله عز وجل، ولهذا لو حلف واستثنى ثم لم يفعل لم يحنث، فإذا قال: والله لا أدخل بيت زيد غداً إن شاء الله ثم دخله لا يحنث؛ لأن الله لم يشأ ذلك، فهذه فائدة الاستثناء، ولو قال: والله لا أزور فلاناً إن شاء الله، ثم زاره لا يحنث، لكن لابد من أن يكون الاستثناء متصلاً، فإن قال: والله لأزورن زيداً غداً، ثم قال بعد يوم: إن شاء الله، لا يكون استثناءً؛ لأنه لابد من أن يكون متصلاً.
وهذا الحديث -كما سيذكر: المؤلف رحمه الله- مخالف للآية، فإن الآية الكريمة فيها أنهم ما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً، فإذا جاء أمر الله جعله دكاً في آخر الزمان، ويصيبهم النغف في رقابهم، وهذا حينما ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام ويأذن الله لهم بالخروج فيخرجون فيفسدون في الأرض، فيأمر الله عيسى عليه السلام أن (حرز عبادي إلى الطور؛ فإني مخرج عباداً لي لا يدان لأحد بهم)، يعني: لا قوة لأحد بهم، فسماهم عباداً من باب العبودية العامة، لكونهم عباداً تنفذ فيهم قدرة الله ومشيئته، والعبودية نوعان: عبودية عامة وعبودية خاصة، فالعبودية العامة تشمل جميع الناس مؤمنهم وكافرهم، والجن والإنس والشياطين، فلا أحد يستعصي على قدرة الله ومشيئته، قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، يعني: معبداً مقهوراً تنفذ فيه قدرة الله ومشيئته، ليس له من نفسه تصرف ولا امتناع.
أما العبودية الخاصة فهي خاصة بالمؤمنين الذين يعبدون الله باختيارهم عن طواعية.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكراً من لحومهم ودمائهم) معناه أنهم يكونون كالجبال وكالتلال بعضهم فوق بعض من كثرتهم، ثم يبعث الله طيراً كالبخت فتأخذهم فتلقيهم في البحر، ثم يرسل الله مطراً فيغسل الأرض ويطهرها، وهذا من رحمة الله؛ لأنهم لو بقوا لأوخمت الأرض ومات الناس، فالله تعالى من رحمته بعباده يرسل طيراً فتأخذهم وتلقيهم في البحر، ثم يرسل الله مطراً يغسل الأرض من آثارهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه أحمد -أيضاً- عن حسن -هو ابن موسى الأشيب - عن سفيان عن قتادة به.
وكذا رواه ابن ماجه عن أزهر بن مروان].
ابن ماجه تقرأ بالهاء وصلاً ووقفاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا رواه ابن ماجه عن أزهر بن مروان عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: حدث أبو رافع.
وأخرجه الترمذي من حديث أبي عوانة عن قتادة ثم قال: غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه.
وهذا إسناد قوي، ولكن متنه في رفعه نكارة؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه؛ لإحكام بنائه وصلابته وشدته].
يعني أن الحديث -وإن كان سنده قوياً- متنه شاذ منكر؛ لأنه يعارض ظاهر الآية، ولأن من شرط الحديث الصحيح أن يكون برواية العدل الضابط تام الضبط عن مثله من أول السند إلى منتهاه، من غير شذوذ ولا علة، فإذا كان متنه مخالفاً للأحاديث الصحيحة أو للقرآن أو للقواعد العامة وأصول الشريعة فإنه يكون شاذاً، ولو كان سنده ظاهره الصحة، فهذا الحديث متنه شاذ مخالف للآية، يقول الله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}، وهذا الحديث فيه أنهم ينقبونه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولون: غداً نفتحه، فيأتون من الغد وقد عاد كما كان، فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولون كذلك، فيصبحون وهو كما كان، فيلحسونه ويقولون: غداً نفتحه، ويلهمون أن يقولوا: إن شاء الله، فيصبحون وهو كما فارقوه فيفتحونه، وهذا متجه، ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب؛ فإنه كان كثيراً ما كان يجالسه ويحدثه، فحدث به أبو هريرة، فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه، والله أعلم].
هذا توجيه من المؤلف، وهو أن الحديث -وإن كان سنده قوياً- يحمل على أنه من كلام كعب الأحبار، وكعب الأحبار من بني إسرائيل أسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان ينقل عن بني إسرائيل كثيراً، وكان يجالس أبا هريرة كثيراً، فلعل بعض الرواة وهم فرفع هذا الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فإن أبا هريرة رواه عن كعب، وكعب أخذه عن بني إسرائيل، لكن وهم بعض الرواة فظن أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ويشبه هذا ما ورد في صحيح مسلم في قصة خلق المخلوقات، فقد ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن الله تعالى خلق التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل)، فهذا الحديث قد رواه بعضهم عن أبي هريرة عن كعب الأحبار وهو الأصح، وهذا الحديث مخالف لظاهر القرآن؛ لأن ظاهر القرآن أن يوم السبت لم يخلق الله فيه شيئاً، وأن أول المخلوقات في يوم الأحد وآخرها في يوم الجمعة، ولهذا قالت اليهود قبحهم الله: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة، ثم تعب فاستراح في يوم السبت، فأنزل الله هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] يعني: من تعب وإعياء.
فهذا الحديث في صحيح مسلم، إلا أن النقاد بينوا أن رفع هذا الحديث من الخطأ، وأنه من كلام أبي هريرة، وأن أبا هريرة رواه عن كعب الأحبار، فوهم بعضهم ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الحديث يكاد يكون الوحيد في صحيح مسلم مما انتقد عليه من ناحية الصحة، والنقد فيه من جهة رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مأخوذ من كلام كعب الأحبار، وإلا فمعلوم أن الصحيحين تلقتهما الأمة بالقبول.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويؤيد ما قلناه من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شيء منه، ومن نكارة هذا المرفوع قول الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان عن أمها أم حبيبة عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم -قال سفيان: أربع نسوة- قالت: (استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه، وهو يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلق، قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث) هذا حديث صحيح اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث الزهري، ولكن سقط في رواية البخاري(64/4)
الجمع بين قوله تعالى: (فما اسطاعوا أني ظهروه وما استطاعوا له نقبا) وبين الأحاديث التي صرحت بذكر النقب
ذكر الحافظ ابن كثير هنا أن هذا الحديث يعارض الآية: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}، لكن الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية عندما تكلم على يأجوج ومأجوج قال: فإن قيل: فما الجمع بين قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97] وبين الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه محمراً وجهه وهو يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق تسعين)، الحديث.
وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا)؟ ف
الجواب
أما على قول من ذهب إلى أن هذا إشارة إلى فتح أبواب الشر والفتن، وأن هذا استعارة محضة وضرب مثل فلا إشكال، وأما على قول من جعل ذلك إخباراً عن أمر محسوس -كما هو الظاهر المتبادر- فلا إشكال أيضاً؛ لأن قوله: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} أي: في ذلك الزمان؛ لأن هذه صيغة خبر ماض، فلا ينفي وقوعه فيما يستقبل بإذن الله لهم في ذلك قدراً، ولكن الحديث الآخر أشكل من هذا، وهو ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً) إلى آخر الحديث، فإن لم يكن رفع هذا الحديث محفوظاً، وإنما هو مأخوذ عن كعب الأحبار -كما قال بعضهم- فقد استرحنا من المؤنة، وإن كان محفوظاً فيكون محمولاً على أن صنيعهم هذا يكون في آخر الزمان عند اقتراب خروجهم.
ثم قال: وعلى هذا فيمكن الجمع بين هذا وبين ما في الصحيحين عن أبي هريرة: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وعقد تسعين) أي: فتح فتحاً نافذاً فيه، والله أعلم.
انتهى كلام ابن كثير من البداية والنهاية، وهو يدل على أنه لا تعارض بين الآية والأحاديث، فالنقب يكون عند الإذن بخروجهم في زمن عيسى عليه السلام.
والمتأمل في قوله: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} يرى أنَّ ظاهر أن يأجوج ومأجوج ما استطاعوا نقبه وما استطاعوا مروره، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج) ليس فيه أنهم هم الذين فتحوه، فيحتمل أنه فتح من قبل غيرهم، فقد يكون -مثلاً- بأمر الله من فعله وليس من فعلهم، وهذا يدل على اقتراب أجلهم، ويدل على هذا سبب الحديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ فزعاً محمراً وجهه يقول: (لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا) يعني أنه قد اقترب خروجهم، فإذا اقترب ذلك جعله الله دكاً، وليسوا هم الذين يجعلونه دكاً، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف:98] أي: يسويه بالأرض فيكون هذا الفتح من فعل الله وليس من فعلهم، وهذا إذا جاء الوعد الحق، كما قال الله تعالى في سورة الأنبياء: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:97].
والمقصود أنه يظهر لي أن هذا يكون جواباً، وهو أن الفتح ليس من فعلهم، فإذا أذن الله بخروجهم جعله دكاً فيزول السد كاملاً، فإذا بهم يخرجون إلى الناس، وعلى هذا فلا يعارض الحديث الآية، بل الآية على ظاهرها أنهم ما استطاعوا له نقباً، والحديث ما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه أنهم هم الذين فتحوه حتى يعارض الآية، بل قال: (فُتِحَ اليوم من ردم يأجوج ومأجوج).
والشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة تكلم على الحديث فقال: [قلت: تنبيه: أورد الحافظ ابن كثير هذا الحديث من رواية الإمام أحمد رحمه الله تحت تفسير آيات قصة ذي القرنين وبنائه السد، وقوله تعالى في يأجوج ومأجوج فيه: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}، ثم قال عقبه: وإسناده جيد قوي، ولكن متنه في رفعه نكارة؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لإحكام بنائه وصلابته وشدته.
قلت: نعم، ولكن الآية لا تدل من قريب ولا من بعيد على أنهم لن يستطيعوا ذلك أبداً، فالآية تتحدث عن الماضي والحديث عن المستقبل الآتي، فلا تنافي ولا نكارة، بل الحديث يتمشى تماماً مع القرآن في قوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96]].
إذاً: حاصله أنه -كما قال الحافظ - كالجواب الثاني عن حديث زينب، أي أن هذه الآية في الماضي، وهذا الحديث في المستقبل.
ولكنه ظهر لي جواب آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إنهم نقبوه ولا فتحوه، وإنما قال: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج)، والله قادر على أن يجعله ينفتح بدونهم وبدون سببهم.(64/5)
تفسير قوله تعالى: (قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء)
قال الله تعالى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أي: لما بناه ذو القرنين {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أي: بالناس، حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلاً يمنعهم من العيث في الأرض والفساد، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} أي: إذا اقترب الوعد الحق، {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} أي: ساواه بالأرض، تقول العرب: ناقة دكاء: إذا كان ظهرها مستوياً لا سنام لها، وقال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143] أي: مساوياً للأرض.
وقال عكرمة في قوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} قال: طريقاً كما كان، {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} أي: كائناً لا محالة].(64/6)
تفسير سورة الكهف [99 - 106]
يصف القرآن الكريم أحداث القيامة ومشاهدها في كثير من آياته الكريمات، ويأخذ ذلك الوصف جملة من آيات سورة الكهف تبدأ بذكر النفخ في الصور، وجمع الخلائق، متعرضة لعرض جهنم على الكافرين قبل دخولهم فيها إمعاناً في العذاب النفسي قبل العذاب الحسي، حيث أعرضوا عن الحق في الدنيا ولم يستعملوا ما وهبهم الله تعالى في تدبر آياته، فكفروا بآيات ربهم ولقائه، فحبطت أعمالهم، وخاب سعيهم، وضل ما كانوا يعملون.(65/1)
تفسير قوله تعالى: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض)
قال الله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف:99].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} أي: الناس يومئذ، أي: يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس، ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم، وهكذا قال السدي في قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قال: ذاك حين يخرجون على الناس].
الصواب أن خروجهم بعد الدجال وبعد نزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وخروجهم هو الشرط الرابع من أشراط الساعة التي تتلوها الساعة مباشرة؛ فنحن الآن نعيش مع أشراط الساعة الصغرى، وما زلنا فيها، وهي تزيد وتكثر، وأولها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه نبي الساعة، قال عليه الصلاة والسلام: (بعثت أنا والساعة كهاتين).
ومن أشراط الساعة: موته صلى الله عليه وسلم، ومنها: فتح بيت المقدس، ومنها: الحروب التي جرت بين الصحابة، ومنها: إضاعة الأمانة وإسناد الأمور إلى غير أهلها، وتقارب الأيام، وغير ذلك مما ورد في الأحاديث، فهذه كلها أشراط الساعة الصغرى.
ثم تليها أشراط الساعة الكبرى التي تتبعها الساعة مباشرة، وهي مشبهة بالعقد الذي إذا انقطع تساقط الخرز، وأولها: خروج المهدي، والمهدي رجل من سلالة فاطمة، اسمه كاسم النبي صلى الله عليه وسلم، وكنيته ككنيته، فهو محمد بن عبد الله المهدي، يملك الأرض ويملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، ويبايع له في وقت ليس فيه إمام، ثم في زمن الفتن ونحصر الناس في الشام، ويقاتل المسلمون النصارى، والآن كثر النصارى كثرة هائلة، فيعقد المسلمون معهم صلحاً ثم يغدر النصارى ويكونون ثمانين راية تحت كل راية ثمانون ألفاً، وسيقاتلهم المسلمون، ثم تفتح القسطنطينية، وعند فتح القسطنطينية يعلق المسلمون سيوفهم بالزيتون، وهذا ظاهره أن الناس يرجعون إلى السلاح القديم، وأن هذه المخترعات تنتهي، فلهذا يقاتل الجيش الذي يخرج من المدينة المشركين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف أسماءهم وألوان خيولهم).
ثم إذا فتحت القسطنطينية -كما في صحيح مسلم - صاح الشيطان: إن الدجال قد خلفكم في أهليكم.
وقد صاح قبل هذه المرة وهو يكذب، وفي هذه المرة يخرج الدجال بعد فتح القسطنطينية، وخروج الدجال هو العلامة الثانية، ويكون في زمن المهدي، ثم ينزل عيسى بن مريم من السماء -وهو العلامة الثالثة- ويقتل الدجال، ثم تخرج يأجوج ومأجوج في زمن عيسى عليه السلام، وهم العلامة الرابعة، ثم تتابع بقية الأشراط، ومنها: هدم الكعبة والعياذ بالله، ونزع القرآن من الصدور والمصاحف، والدخان الذي يملأ الأرض، ثم طلوع الشمس من مغربها، ثم الدابة التي تسم الناس في وجوههم، ثم آخرها نار تخرج من قعر عدن -وهي العلامة العاشرة- تسوق الناس إلى المحشر، تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا، وتأتي ريح طيبة فتقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات قبل قيام الساعة، فتقوم الساعة على الكفرة والعياذ بالله.
وإذا خلت الأرض من التوحيد والإيمان، فلا يبقى فيها من يذكر الله ولا يقول كلمة التوحيد، حتى لا يقال: الله الله، حينها تقوم الساعة، وقبل ذلك تأتي ريح طيبة من جهة اليمن فتقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات كما في الحديث، حتى لو كان أحدهم في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه، فتقوم الساعة على الكفرة -والعياذ بالله- الذين لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، يتسافدون ويتناكحون في الطرقات كالحمر والعياذ بالله، فعليهم تقوم الساعة، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد) فهم شرار الناس، فنعوذ بالله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- عند قوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} الآية؛ وهكذا قال هاهنا: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} قال ابن زيد في قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قال: هذا أول يوم القيامة.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} على أثر ذلك {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} وقال آخرون: بل المراد بقوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} أي: يوم القيامة يختلط الإنس والجن.
روى ابن جرير عن محمد بن حميد عن يعقوب القمي عن هارون بن عنترة عن شيخ من بني فزارة في قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قال: إذا ماج الإنس والجن قال إبليس: أنا أعلم لكم علم هذا الأمر، فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض، ثم يظعن إلى المغرب فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض، فيقول: ما من محيص، ثم يظعن يميناً وشمالاً إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض، فيقول: ما من محيص، فبينما هو كذلك إذ عرض له طريق كالشراك فأخذ عليه هو وذريته، فبينما هم عليه إذ هجموا على النار، فأخرج الله خازناً من خزان النار، فقال: يا إبليس! ألم تكن لك منزلة عند ربك؟ ألم تكن في الجنان؟ فيقول: ليس هذا يوم عتاب، لو أن الله فرض علي فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه، فيقول: فإن الله قد فرض عليك فريضة، فيقول: ما هي؟ فيقول: يأمرك أن تدخل النار.
فيتلكأ عليه، فيقول به وبذريته بجناحيه فيقذفهم في النار، فتزفر النار زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه].
هذا حديث ضعيف؛ إذا فيه الشيخ المبهم.
ومن أسلم من الجن لا يسمى شيطاناً، والشيطان هو من بقي على كفره، فإبليس وذريته الشياطين كلهم في النار، نعوذ بالله، وهكذا لا إشكال فيه، لكن الحديث هذا فيه ضعف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به، رواه من وجه آخر عن يعقوب عن هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} قال: الجن والإنس يموج بعضهم في بعض].
رواية ابن أبي حاتم ليس فيها مبهم.
قال في الخلاصة: يعقوب بن عبد الله بن مالك بن عامر القمي -بضم القاف- أبو الحسن الأشعري، عن إخوته عبد الرحمن وعمران، وعنه ابن مهدي، وعبيد الله بن موسى، وثقه الطبراني، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال الدارقطني: ليس بالقوي.(65/2)
ذكر ما جاء في كون يأجوج ومأجوج من بني آدم وكثرة تناسلهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصبهاني حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا المغيرة بن مسلم عن أبي إسحاق عن وهب بن جابر عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً، وإن من ورائهم ثلاث أمم: تاويل، وتايس، ومنسك) هذا حديث غريب، بل منكر ضعيف].
لاشك في أنهم من بني آدم كما ثبت في الصحيحين، لكن هذا فيه أنهم ثلاث أمم، وهذا يحتاج إلى دليل واضح.
فالقول بأن وراءهم ثلاث أمم يخالف ظاهر القرآن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبيه عن جده أوس بن أبي أوس مرفوعاً: (إن يأجوج ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاءوا، وشجر يلقحون ما شاءوا، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً)].
لله الحكمة البالغة في كثرتهم، وهم مفسدون في الأرض، ولهذا جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادي الله تعالى يوم القيامة يقول: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث النار، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فشق ذلك على الصحابة، فقال: أبشروا فإن منكم واحداً ومن يأجوج ألفاً) وفي اللفظ الآخر: (أن يأجوج ومأجوج أمتان ما كانتا في شيء إلا كثرتاه)، يعني: أن عددهم كثير.
وقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} فيه قولان لأهل العلم: القول الأول: أن هذا في الدنيا، وأنهم -أي: يأجوج ومأجوج- إذا خرب السد وجعله الله دكاً صار بعضهم يموج في بعض؛ لكثرتهم وإفسادهم في الأرض.
والقول الثاني: أن هذا يوم القيامة، يعني: يموج الجن والإنس يوم القيامة، ولهذا قال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف:99].(65/3)
بيان معنى قوله تعالى: (ونفخ في الصور)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}، والصور كما جاء في الحديث: (قرن ينفخ فيه)، والذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام كما قد تقدم في الحديث بطوله، والأحاديث فيه كثيرة، وفي الحديث عن عطية عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعاً: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته واستمع متى يؤمر؟ قالوا: كيف نقول؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا)].
قوله: (حسبنا) يعني: كافينا، وفي الحديث الصحيح: (حسبنا الله ونعم الوكيل الخليل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173])، وذلك بعد غزوة أحد، حين قيل: إن المشركين يريدون أن يأتوا ليستأصلوا البقية الباقية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل، فكفاهم الله شرهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} أي: أحضرنا الجميع للحساب، {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50]، {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:47]].
النفخ في الصور نفختان: فالنفخة الأولى في آخر الدنيا، وهي نفخة الصعق والموت، وهي نفخة طويلة يطولها إسرافيل، أولها فزع وآخرها صعق وموت، وهما مذكورتان في القرآن الكريم، فالأولى: مذكورة في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87]، والأخرى: مذكورة في سورة الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ} [الزمر:68] والصعق الموت، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر:68] وهذه نفخة البعث {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
وجاء في حديث: أن النفخات ثلاث: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث، ولكن هذا حديث ضعيف؛ لأنه من رواية إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، وروى حديث الصور، وهو حديث طويل لفقه من أحاديث تصور أنها نفخة واحدة أولها الفزع ثم آخرها الصعق والموت.
وينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتا، فلا يزال الصوت يقوى حتى يموت الناس، ثم يمكث الناس أربعين سنة، ثم ينزل الله مطراً في هذه المدة أبيض تنبت منه أجسام الناس، فإذا تم خلقهم ونشأ الناس نشأة أخرى، وتبدلت الصفات والذوات، أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور فعادت الأرواح إلى أجسادها، فقام الناس من قبورهم ينفضون التراب عن رءوسهم، فيقفون بين يدي الله عز وجل.(65/4)
تفسير قوله تعالى: (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً)
قال الله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا * أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف:100 - 102].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عما يفعله بالكفار يوم القيامة أنه يعرض عليهم جهنم، أي: يبرزها لهم ويظهرها؛ ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها؛ ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم].
إن النار في أسفل سافلين في الأرض السفلى، لكنها تبرز يوم القيامة والعياذ بالله، قال تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:36]، وتسجر البحار، وتكون جزءاً من النار والعياذ بالله، ونسأل الله السلامة والعافية.
وجاء في الحديث: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) فجهنم تبرز وتسجر البحار فتكون جزءاً منها.
والجنة في أعلى عليين، وينصب الصراط على متن جهنم، ويجتاز الناس هذا الصراط، فمن اجتازه وصل إلى الجنة، والجنة في السماء وأعلاها الفردوس، والفردوس سقفها عرش الرحمن، وأعلى منزلة في الفردوس منزل نبينا صلى الله عليه وسلم، وهي منزلة تسمى الوسيلة، كما جاء في الحديث: (اللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة)، فالوسيلة منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أعلى منزلة في الجنة.
وقول بعض العامة: (آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة) هو غلط؛ لأن الوسيلة هي الدرجة الرفيعة.
ويتخاطب أهل الجنة وأهل النار، وقال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44]، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50] فهم يتخاطبون مع البعد العظيم بينهم، فالمؤمنون في الجنة في أعلى عليين، والكفار في النار في أسفل سافلين، ومع ذلك يتخاطبون ويسمع بعضهم أصوات بعض، وليس ذلك بغريب على الله تعالى، فقد أرانا في الدنيا أن نجد الإنسان يتكلم في الهاتف وهو في المشرق ويسمعه من في المغرب، وكذلك المؤمنون ينظرون إلى الكفار وهم يعذبون في نار جهنم، فالمؤمنون في أعلى عليين، والكفار في أسفل سافلين، كما أخبر الله في سورة الصافات، في قصة الرجل من أهل الجنة له قريب من أهل النار وكان قرينه في الدنيا، فقال له في الدنيا: أتصدق أن الإنسان إذا مات وبليت عظامه وصارت نخرة يبعث؟ فالمؤمن في الجنة يرى قرينه الكافر وهو في النار فيقول: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:51 - 53] يعني: مبعوثون ومدينون ومحاسبون، {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:54 - 55] أي: اطلع المؤمن من الجنة فرأى قرينه الكافر الذي كان ينكر البعث في الدنيا في وسط الجحيم يتقلب فيها، فقال له: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:56 - 59] فالآن بعثت وعذبت.
فلا مانع -إذاً- من أن يكون من في الجنة في أعلى عليين يرى من في النار وهم في أسفل سافلين على بعد عظيم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك).
ثم قال مخبراً عنهم: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} أي: تغافلوا وتعاموا وتصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق].
هذا غطاء معنوي حادث، وإلا فليس فيها غطاء حسي؛ لأن الكفار ينظرون ويشاهدون أمور دنياهم ويسمعون، لكن هذا غطاء معنوي يمنعهم من رؤية الحق وقبول الحق واستماع الحق، ولهم عقول، لكن لم ينتفعوا بها والعياذ بالله، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26] يعني: لهم أسماع لكن لا يسمعون بها الحق، ولهم عقول وقلوب لا يعقلون بها الحق، ولهم أعين لا يبصرون بها الحق، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، وقال هاهنا: {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} أي: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه، ثم قال: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} أي: اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك وينتفعون به، {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:82] ولهذا أخبر الله تعالى أنه قد أعد لهم جهنم يوم القيامة نزلاً].
هؤلاء الكفار تصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق، كما قال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، وقال هنا: {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:101] أي: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه، يعني: لا يستطيعون سماع الحق وقبوله، وإلا فهم يسمعون أمور دنياهم ومعاشهم، نسأل الله السلامة والعافية.(65/5)
تفسير قوله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً)
قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف:103 - 106].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو عن مصعب قال: سألت أبي -يعني: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- عن قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} أهم الحرروية؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، فكان سعد رضي الله عنهم يسميهم الفاسقين].
الحرورية هم الخوارج، سموا حرورية لأنهم تجمعوا في بلدة تسمى حروراء في العراق، لما سأل سعد بن أبي وقاص ابنُه مصعب: هل هم المعنيون بقوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}؟ قال: لا، إنما هم اليهود والنصارى، فاليهود كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، والنصارى كذلك كذبوه، وقالوا: إن عيسى ابن الله، وأما الحرورية فيسمون الفاسقين، والصحابة قد عاملوهم معاملة العصاة المبتدعة ولم يعاملوهم معاملة الكفرة؛ لأنهم متأولون، ولما سئل علي رضي الله عنه عنهم: هل هم كفار؟ قال: من الكفر فروا.
وقد أنكروا عذاب القبر، مع أنه ثابت شرعاً، ومن الأدلة عليه حديث: (استعيذوا بالله من عذاب القبر) قالها مرتين أو ثلاثاً، وشرع للأمة أن تستعيذ بالله في آخر التشهد من عذاب القبر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث علي رضي الله عنه، (فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله)، لكن الجمهور على أنهم مبتدعة؛ لأنهم متأولون، ولهذا لما سأل مصعب أباه سعداً: هل هم الأخسرون أعمالاً؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى، أما الحرورية فهم الفاسقون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والضحاك رحمه الله وغير واحد: هم الحرورية.
ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء، بل هي أعم من هذا؛ فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وجود الخوارج بالكلية].
يعني أنها تفسر بعمومها، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول وهو مخطئ وعمله مردود، كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4].
وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39].
وقال في هذه الآية الكريمة: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} أي: نخبركم {بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}، ثم فسرهم فقال: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: عملوا أعمالاً باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة.
{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} أي: يعتقدون أنهم على شيء وأنهم مقبولون محبوبون].
إن هؤلاء هم الأخسرون الذين يعملون أعمالاً يظنون أنهم فيها على هدى وهم ضالون، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:28 - 30].
فهذا هو مثل ما في هذه الآية: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
فهؤلاء الذين حقت عليهم الضلالة هم الأخسرون أعمالاً، الذين يعملون أعمالاً يظنون أنهم فيها على هدى وهم ضالون، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:30]، نسأل الله السلامة والعافية.
وهذا فيه دليل على أن الكافر لا يشترط لقيام الحجة عليه أن يفهم، بل يشترط في حقه قيام الحجة، فإذا بلغته النصوص فقد قامت عليه الحجة ولو لم يفهمها، ولهذا قال سبحانه: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:30]، وقال سبحانه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]، ومع ذلك قامت عليهم الحجة مع أنه شبههم بالذي ينعق من الغنم، والغنم تسمع النعيق ولا تفهم، وهؤلاء بلغتهم النصوص وقامت عليهم الحجة وإن لم يفهموها، فلا يشترط فهم الحجة، فإذا بلغهم النص كفى، قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقال سبحانه: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19].(65/6)
موازين الناس في الآخرة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} أي: جحدوا آيات الله في الدنيا وبراهينه التي أقام على وحدانيته وصدق رسله، وكذبوا بالدار الآخرة.
{فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}، أي: لا نثقل موازينهم؛ لأنها خالية عن الخير.
قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا المغيرة حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة.
وقال: اقرءوا إن شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا})].
فقد يأتي الرجل العظيم ولا يقام له وزن، وذلك بسبب عمله السيئ، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، فالميزان يخف ويثقل حسب الأعمال، فإذا كان العمل صالحاً ثقل الميزان، وإذا كان العمل سيئاً خف الميزان، فالأعمال توزن وإن كانت أعراضاً؛ لأن الله تعالى يقلبها أعياناً، وكذلك الأشخاص يوزنون، كما في الحديث: (يؤتى بالرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة)، وثبت أيضاً في الحديث الصحيح أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان دقيق الساقين، فمشى فكشفت الريح عن ساقيه، فضحك الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مم تضحكون؟ قالوا: من دقة ساقيه يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من جبل أحد) وذلك بسبب عمله الصالح، وأما الكفار فكما قال الله: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن يحيى بن بكير عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد مثله.
هكذا ذكره عن يحيى بن بكير معلقاً، وقد رواه مسلم عن أبي بكر محمد بن إسحاق عن يحيى بن بكير به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم فيوزن بحبة فلا يزنها، قال: وقرأ: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}).
وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي الصلت عن ابن أبي الزناد عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، فذكره بلفظ البخاري سواء.
وقال أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار: حدثنا العباس بن محمد حدثنا عون بن عمارة حدثنا هشام بن حسان عن واصل عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له، فلما قام على النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بريدة! هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزناً)، ثم قال: تفرد به واصل مولى أبي عنبسة وعون بن عمارة وليس بالحافظ، ولم يتابع عليه.
وقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن الأعمش عن شمر عن أبي يحيى عن كعب قال: (يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}).
وقوله: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا} أي: إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم، واتخاذهم آيات الله ورسله هزواً، استهزءوا بهم وكذبوهم أشد التكذيب].(65/7)
تفسير سورة الكهف [107 - 110]
تميزت سورة الكهف في خاتمتها ببيان عاقبة المؤمنين المتقين بعد ذكر مآل الكافرين، حيث أعد الله لعباده الصالحين الجنة وجعلها داراً لهم لا يسأمون من المكث فيها، ولا يبغون الحول عنها، وقد بين الله تعالى أن من كان يرجو مثل هذا اللقاء فليلزم العمل الصالح والإخلاص لله تعالى في العبادة؛ إذ هو وحده المستحق لها دون سواه، فهو الملك العظيم الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، ومن عظمته نفاد البحر لو كان مداداً لكلمات الله.(66/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا * قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:107 - 110].(66/2)
معنى الفردوس
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن عباده السعداء -وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به- أن لهم جنات الفردوس.
قال مجاهد: الفردوس هو البستان بالرومية.
وقال كعب والسدي والضحاك: هو البستان الذي فيه شجر الأعناب.
وقال أبو أمامة: الفردوس سرة الجنة.
وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها].
الربوة، المكان المرتفع، وسرة الجنة: وسطها.
وقد جاء في الحديث: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن)؛ فهو الوسط وهو الأعلى، ولا يكون الوسط هو الأعلى إلا إذا كان الفردوس مستديراً كالقبة، وهذا يدل على أن الجنة مستديرة الشكل وليست مربعة ولا مسدسة، إذ لو كانت مربعة أو مسدسة لما كان الوسط هو الأعلى، فالذي وسطه أعلاه هو الشيء المستدير، والفردوس فوقه عرش الرحمن، وهو مستدير، بل إن الأفلاك كلها مستديرة، السماوات والأرضون والجنة، فكلها مستديرة الشكل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي هذا مرفوعاً من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الفردوس ربوة الجنة أوسطها وأحسنها)].
هذا الحديث فيه ضعف بهذا السند، لكنه ثابت صحيح بغير هذا السند، وهذا السند فيه عنعنة قتادة، والحسن في روايته عن سمرة كلام، فقد قال بعضهم: لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة.
واستدارة الفردوس لا تنافي أن تكون السماوات والأرض مستديرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة مرفوعاً، وروي عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً بنحوه، روى ذلك كله ابن جرير رحمه الله.
وفي الصحيحين: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة)].(66/3)
الإقامة الدائمة في الجنة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {نُزُلًا} أي: ضيافة؛ فإن النزل: الضيافة، وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: مقيمين ساكنين فيها لا يظعنون عنها أبداً {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} أي: لا يختارون عنها غيرها، ولا يحبون سواها، كما قال الشاعر: فحلت سويدا القلب لا أنا باغياً سواها ولا عن حبها أتحول].
يعني: تمكنت محبتها مني حتى وصلت إلى سويداء القلب، ووصلت إلى شغافه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي قوله: {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها].
ورد في الحديث الصحيح: (أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة ينادي مناد فيقول: يا أهل الجنة! إن لكن لكم أن تصحوا فلا تسقموا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا).
ففي الجنة يكون المؤمن في شباب دائم وصحة دائمة وخلود دائم، فليس فيها مرض، ولا هموم، ولا موت، ولا شيخوخة، ولا أحزان، ولا أكدار، ولا بول، ولا غائط، ولا مخاط، ولا نوم، ولا حيض، ولا نفاس بالنسبة للنساء، بل هناك نعيم دائم، وسرور دائم، وتنزع من قلوب المؤمنين الأغلال والأحقاد؛ لأن الله يقتص للمؤمنين بعضهم من بعض، وذلك أنهم إذا تجاوزوا الصراط أوقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص بعضهم من بعض، ونرد المظالم التي كانت بينهم في الدنيا ثم تنزع السخائم من نفوسهم، فيدخلون الجنة على غاية من الصفاء وسلامة الصدر، إخواناً على سرر متقابلين، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، نسأل الله الكريم من فضله، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائماً أنه قد يسأمه أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولاً ولا انتقالاً ولا ظعناً ولا رحلة ولا بدلاً].
وذلك لما هم فيه من السرور، بخلاف منازل الدنيا، فإن الإنسان يسأم منها ويملها، وهذا أمر مشاهد، فإذا أقام الإنسان مدة طويلة في المكان سأمه، فيحب أن يغير المكان، وترى اليوم الناس إذا جاءت الإجازة الصيفية فإن أغلبهم يتحركون للرحلات، وإن كان فيها تعب؛ لأنهم سئموا الإقامة في ذلك المكان، أما أهل الجنة فيمكثون فيها المقام السرمدي الأبدي، ولكنهم يحبون البقاء فيها لما هم فيه من النعيم الدائم، والصحة الدائمة، والسلامة الدائمة، والحبور الدائم، نسأل الله الكريم أن يجعلنا منهم.(66/4)
تفسير قوله تعالى: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي)
قال الله تعالى: [{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: قل -يا محمد-: لو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة لنفد البحر قبل أن يفرغ كتابة ذلك {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} أي: بمثل البحر آخر ثم آخر وهلم جراً بحور تمده ويكتب بها لما نفدت كلمات الله، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27].
وقال الربيع بن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل الله ذلك: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي}].
والمعنى أن الله تعالى لا نفاد لكلماته، وأنه لو جعل البحر المتلاطم الأمواج ومده من بعده بسبعة أبحر فجعلت هذه المياه مداد حبر يكتب به، وجعلت أشجار الأرض أقلاماً يكتب بها لتكسرت الأقلام، ولنفدت مياه البحر ولن تنفد كلمات الله، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
وسبق في قصة الخضر أنه جاء عصفور فنقر في البحر نقرتين، فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من البحر، قال الشيخ الإمام محمد رحمه الله: وهذا أكثر ما بلغنا في علم الله عز وجل.
فهذه البحور المتلاطمة هي أربعة أخماس الأرض، ويأخذ العصفور منها نقرة أو نقرتين، فما أخذه هو نسبة علم الخلائق إلى علم الله تعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول: لو كانت تلك البحور مداداً لكلمات الله والشجر كله أقلام لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء؛ لأن أحداً لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي حتى يكون الذي هو يثني على نفسه].
قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، وقد جاء في الحديث: (لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إن ربنا كما يقول، وفوق ما نقول، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها].(66/5)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [روى الطبراني من طريق هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش عن عمرو بن قيس الكوفي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان أنه قال: هذه آخر آية أنزلت، يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم: إنما أنا بشر مثلكم، فمن زعم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به؛ فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي عما سألتم من قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين مما هو مطابق في نفس الأمر لولا ما أطلعني الله عليه، وأنا أخبركم (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ) الذي أدعوكم إلى عبادته (إِلَهٌ وَاحِدٌ) لا شريك له، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} أي: ثوابه وجزاءه الصالح.
وهو ما كان موافقاً لشرع الله {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بد أن يكون خالصاً لله صواباً على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم].
هذان ركنا العمل، فالعمل لا يصح إلا بهذين الركنين، وأي عمل وأي عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل فلا بد من أن يتوافر فيها هذان الركنان: الركن الأول: أن يكون العمل خالصاً لله مراداً به وجهه، فإن قصد به الدنيا أو حطامها أو مراءاة الناس، أو غير ذلك من المقاصد فهو باطل، فلا بد من أن يقصد به وجه الله والدار الآخرة، ولا يقصد به رياءً ولا سمعة، ولا أي غرض من الأغراض.
وفي الحديث: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
والركن الثاني: أن يكون العمل موافقاً صواباً على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان مخالفاً فهو بدعة ترد على صاحبها، فإذا تخلف الركن الأول صار العمل شركاً؛ لأنه أريد به غير الله، وإذا تخلف الركن الثاني صار العمل مبتدعاً مخالفاً للشرع.
وهذان الركنان دلت عليهما نصوص كثيرة، والركن الأول هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، والركن الثاني هو مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله.
ودل على هذين الركنين نصوص أخرى، منها قول الله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [البقرة:112] فقوله: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} أي: أخلص العمل لله.
{وَهُوَ مُحْسِنٌ} إحسان العمل: أن يكون موافقاً للشرع.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22].
ودل على الركن الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى).
ودل على الركن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
رواه مسلم.
وللشيخين: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).(66/6)
خطر الرياء والتحذير منه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى ابن أبي حاتم من حديث معمر عن عبد الكريم الجزري عن طاوس قال: قال رجل: (يا رسول الله! إني أقف المواقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}).
وهكذا أرسل هذا مجاهد وغير واحد.
وقال الأعمش: حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم عن شهر بن حوشب قال: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال: أنبئني عما أسألك عنه: أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويصوم ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويتصدق ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويحج ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد؟ فقال عبادة: ليس له شيء، إن الله تعالى يقول: (أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله، لا حاجة لي فيه)].
وهذا مثل الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم، وفيه يقول الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثنا كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن جده قال: (كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبيت عنده تكون له الحاجة أو يطرقه أمر من الليل فيبعثنا، فكثر المحتسبون وأهل النوب، فكنا نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه النجوى؟! ألم أنهكم عن النجوى؟! قال: فقلنا: تبنا إلى الله أي نبي الله، إنما كنا في ذكر المسيح وفرقنا منه.
فقال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي؟ قال: قلنا: بلى.
قال: الشرك الخفي: أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل)].
وهذا العمل يسمى شركاً خفياً لأنه يقوم بالقلوب، فهو في القلوب خفي ليس ظاهراً، وهو الشرك الأصغر، أو الشرك الخفي، وقد يكون شركاً أكبر إذا صدر من المنافقين الذين أسلموا لأجل الدنيا، كـ عبد الله بن أبي وغيره، فهؤلاء يصلون رياءً، ورياؤهم رياء أكبر مخرج من الملة؛ لأنهم أسلموا رياء وليس لوجه لله، أما رياء المؤمن فهو الذي يصدر منه في صلاته وفي صدقته، فهذا شرك أصغر لا يخرج من الملة.(66/7)
حديث عظيم في التحذير من الشرك الخفي
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الحميد - يعني ابن بهرام - قال: قال شهر بن حوشب: قال ابن غنم: لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء لقينا عبادة بن الصامت فأخذ يميني بشماله وشمال أبي الدرداء بيمينه، فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى والله أعلم بما نتناجى به، فقال عبادة بن الصامت: إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين -يعني: من وسط- قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فأعاده وأبداه، وأحل حلاله وحرم حرامه، ونزل عند منازله، لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت].
شهر بن حوشب هو الأشعري الشامي، قال عنه عثمان بن يزيد بن الحكم: صدوق كثير الإرسال والأوهام على الصحيح.
أما ابن غنم فقد قال في الخلاصة: عبد الرحمن بن غنم الأشعري زعم يحيى بن بكير أن له صحبة، وقال ابن يونس: قدم في السفينة، وذكره العجلي من كبار التابعين، عن عمر وعثمان، وعنه شهر بن حوشب ومكحول وعمير بن هانئ، وقال ابن عبد البر: كان أفقه أهل الشام، مات سنة ثمان وسبعين.
وأما الحافظ في الإصابة فقد رجح أنه من الصحابة.
وفي الخلاصة: والأقرب أنه من الصحابة.
وقوله: [لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت].
وفي نسخة: لا يجوز منكم إلا كما يجوز، ولكن الأقرب (لا يحور) يعني: لا يرجع، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:14] يعني: ألا يرجع، والحور هو الرجوع، أي: لا يرجع فيكم بخير، ولا ينتفع بما حفظ من القرآن، كما لا ينتفع بالحمار الميت صاحبه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: فبينما نحن كذلك إذ طلع شداد بن أوس رضي الله عنه وعوف بن مالك فجلسا إلينا، فقال شداد: إن أخوف ما أخاف عليكم -أيها الناس- لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من الشهوة الخفية والشرك.
فقال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء: اللهم غفراً، أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب؟! وأما الشهوة الخفية فقد عرفناها، هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها، فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد؟! فقال شداد: أرأيتكم لو رأيتم رجلاً يصلي لرجل أو يصوم لرجل أو تصدق له، أترون أنه قد أشرك؟! قالوا: نعم، والله إنه من صلى لرجل أو صام له أو تصدق له لقد أشرك.
فقال شداد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك)، فقال عوف بن مالك عند ذلك: أفلا يعمد الله إلى ما ابتغي به وجهه من ذلك العمل كله فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به؟! فقال شداد عند ذلك: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئاً فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، وأنا عنه غني)].
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند، وهو يدل على أن الرياء يكون في الأعمال، وفيه أنه يُخاف على الصالحين أكثر من غيرهم، وهذا الحديث هو من الأحاديث التي استدل بها الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: الرياء، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه) فقد سمَّت الأحاديث الرياء شركاً، وسمته الشهوة الخفية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [طريق أخرى لبعضه: قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب حدثني عبد الواحد بن زياد أخبرنا عبادة بن نسي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟! قال: شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله فذكرته فأبكاني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية؟ قلت: يا رسول الله! أتشرك أمتك من بعدك؟! قال: نعم، أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً، ولكن يراءون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه).
ورواه ابن ماجه من حديث الحسن بن ذكوان عن عبادة بن نسي به، وعبادة فيه ضعف، وفي سماعه من شداد نظر].
والشاهد هنا أن فيه دليلاً على أن الرياء يُخاف منه على الصالحين أكثر مما يُخاف على العصاة وأشد، كما في الحديث: (ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟! يقوم الرجل فيصلي فيزين الصلاة لما يرى من نظر الرجل إليه).
وقد جاء في الحديث أن أبا بكر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكفارة -أي: كفارة خطرات الرياء- فقال: (كفارة ذلك أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما تعلم ولا أعلم).
فلا بد من جهاد النفس، وعلى الإنسان أن يجاهدها إذا طرأ عليه مثل هذا، فإن كان خاطراً ودفعه فلا يضره، بل يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولكن إذا طرأ واسترسل مع الإنسان فهل يبطل العمل أو لا يبطل العمل؟ قيل: يجازى بنيته الأولى، وقيل: يبطل العمل إذا استرسل، أما إذا كان خاطراً ودفعه فلا يضره، والواجب على المسلم أن يدافع هذه الخواطر السيئة التي ترد عليه، بأن يعلم أن الناس لن ينفعوه ولن يضروه، وأنه يجب على الإنسان أن يخلص عمله لله.
وقد جاء في الحديث: (الرياء أخطر من دبيب النمل)؛ لأنه يكون في القلوب، وهناك أشياء كثيرة مثل الرياء، كالحلف بغير الله، وكقوله: ما شاء الله وشئت، فكل هذا من الشرك الخفي.
وليس معنى هذا ترك العمل إذا طرأ الرياء، فإن من ترك لأجل الناس فقد وقع في الرياء أيضاً، كما أن العمل لأجل الناس رياء.
والرياء من الشرك الأصغر، وهو أكبر من الكبائر، وقد يقال له: الشرك الخفي، وسمي خفياً لأنه يقوم بالقلوب ولخفائه أيضاً.
والشرك نوعان: أصغر وأكبر، فالخفي هو الشرك الأصغر، فيستعاذ منه، كما في الحديث: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما تعلم ولا أعلم)، وهذه الاستعاذة تعين على دفعه، لكن تكون الاستعاذة مع مدافعته لما يرد عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حديث آخر: قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الحسين بن علي بن جعفر الأحمر حدثنا علي بن ثابت حدثنا قيس بن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله يوم القيامة: أنا خير شريك، من أشرك بي أحداً فهو له كله).
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت العلاء يحدث عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا خير الشركاء، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك)، تفرد به من هذا الوجه.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد - يعني ابن الهاد - عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء).
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر قال: أخبرنا عبد الحميد - يعني ابن جعفر - قال: أخبرني أبي عن زياد بن ميناء عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري - وكان من الصحابة - أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك).
وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن بكر - وهو البرساني - به].
قال في التقريب: محمد بن بكر بن عثمان البرساني -بضم الموحدة وسكون الراء المهملة- أبو عثمان البصري، صدوق قد يخطئ.(66/8)
التحذير من المراءاة والتسميع
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك قال: حدثنا بكار قال: حدثني أبي - يعني عبد العزيز بن أبي بكرة - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به)].
والتسميع يكون في الأقوال، والمراءاة تكون في الأعمال، فـ (سمع) يعني: في القراءة، أو في الذكر، أو في التسبيح، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في الدعوة إلى الله، وأما معنى: (ومن راءى) أي: في العمل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية قال: حدثنا شيبان عن فراس عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يرائي يرائي الله به، ومن يسمع يسمع الله به)].
لفظة الجلالة إذا كان ما قبلها مكسوراً فإنها ترقق وإن كانت قبلها ضمة أو فتحة فإنها تفخم.
وهذا الحديث فيه الوعيد الشديد لصاحب الرياء والسمعة، وأن ذلك من الشرك الأصغر، وهذه النصوص يشد بعضها بعضاً، ويكفي في ذلك هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، والحديث الصحيح كذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني عمرو بن مرة قال: سمعت رجلاً في بيت أبي عبيدة أنه سمع عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سمع الناس بعمله سمع الله به سامع خلقه وصغره وحقره) فذرفت عينا عبد الله].
يعني: لا يستره عن خلقه، وفي نسخة: (مسامع خلقه) مكان (سامع خلقه)، والأقرب (سامع خلقه)، وهذا من باب المجازاة، فمن يسمع يسمع الله به، ولهذا قال: (اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون)، وفي رواية أخرى: (فضحه الله على رءوس الخلائق).(66/9)
خطورة الرياء وعواقبه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن يحيى الأيلي حدثنا الحارث بن غسان حدثنا أبو عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة في صحف مختمة، فيقول الله: ألقوا هذا واقبلوا هذا.
فتقول الملائكة: يا رب! والله ما رأينا منه إلا خيراً! فيقول: إن عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي)، ثم قال: الحارث بن غسان روى عنه جماعة، وهو ثقة بصري ليس به بأس.
وقال وهب: حدثني يزيد بن عياض عن عبد الرحمن الأعرج عن عبد الله بن قيس الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رياء وسمعة لم يزل في مقت الله حتى يجلس).
وقال أبو يعلى: حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا محمد بن دينار عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عوف بن مالك عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه عز وجل).
وقال ابن جرير: حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني حدثنا هشام بن عمار حدثنا ابن عياش حدثنا عمرو بن قيس الكندي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تلا هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} الآية، وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن.
وهذا أثر مشكل؛ فإن هذه الآية آخر سورة الكهف، والكهف كلها مكية، ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها، بل هي مثبتة محكمة، فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروى بالمعنى على ما فهمه، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن علي بن الحسين بن شقيق حدثنا النضر بن شميل حدثنا أبو قرة عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ في ليلة: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} كان له من النور من عدن أبين إلى مكة حشو ذلك النور من الملائكة) غريب جداً، آخر تفسير سورة الكهف].
قوله: (عدن أبين) وصف للبلدة؛ لأنه توجد منطقتان عدن وأبين، فقال: عدن أبين، وهي موضع باليمن نسب إلى أبين رجل من حمير؛ لأنه عدن به، أي: أقام, وهي عدن المعروفة الآن.
وتوجد بلدة أخرى اسمها عدن في غير اليمن، فيقال: عدن أبين تمييزاً لها عن غيرها.
والحديث سنده -كما قال قال الحافظ أبو بكر البزار - غريب.
وهو أيضاً منقطع، فـ سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر، وسعيد هو ابن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن مخزوم المخزومي أبو محمد المدني الأعور، رأس علماء التابعين وفردهم وخاطبهم وخطيبهم، ولد سنة خمس عشرة، روى عن عمر، وأبي وأبي ذر وأبي بكرة عند ابن ماجه، وعلي وعثمان وسعد في البخاري، ومسلم، وطائفة، وعنه الزهري وعمرو بن دينار وقتادة وبكير بن الأشج ويحيى بن سعيد الأنصاري وخلق.
قال ابن حجر: فهو -والله- أحد المقتدين به.
قال قتادة: ما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه.
وقال أحمد: مرسلات سعيد صحاح، سمع من عمر.
وقال مالك: لم يسمع منه، ولكنه أكد على المساءلة في شأنه وأمره حتى كأنه رآه.
وقال أبو حاتم: هو أثبت التابعين في أبي هريرة.
قال أبو نعيم: مات سنة ثلاث وتسعين.(66/10)
تفسير سورة مريم [1 - 7]
سورة مريم سورة مكية يذكر الله فيها قصص الأنبياء عليهم السلام، ومن ذلك قصة زكريا عليه السلام، حيث سأل الله تعالى أن يهبه ولداً يرثه في النبوة والعلم.(67/1)
بين يدي سورة مريم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهي مكية، وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه].
وهذا ثابت، أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدرها لما هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى وأرسلت قريش وفداً يطلبون من النجاشي أن يردهم إليهم، وقال الوفد للنجاشي: إن هؤلاء تركوا دين قومهم، فقال لهم: هؤلاء قوم أتوا إلي واختاروني فلا أتركهم، فقالوا له: أيها الملك! إنهم يقولون في المسيح قولاً يخالف اعتقادكم، فقال: ما تقولون؟ فقرأ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه صدر سورة مريم، فأخذ النجاشي تبنة من الأرض وقال: ما زاد هذا الذي سمعته على ما في التوراة وما في الإنجيل مثل هذا يعني: أنه موافق لما ذكره الله تعالى في التوراة والإنجيل من خبر مريم وعيسى.(67/2)
تفسير قوله تعالى: (كهيعص واجعله رب رضياً)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:1 - 6].
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة].
والصواب من الأقوال: أن الحروف المقطعة الله أعلم بالمراد بها، فهي مما استأثر الله بعلمه، وقد قال بعضهم: إن الحروف المقطعة فيها إشارة إلى أن القرآن إنما هو من هذه الحروف الثمانية والعشرين، ومع ذلك فقد تحدى الله البشر أن يأتوا بمثله فعجزوا، وأن يأتوا بعشر سور فعجزوا، وأن يأتوا بسورة فعجزوا.
واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وجمع من أهل العلم.
وقال بعضهم: إن فيها الإشارة إلى أن كل حرف فيها يدل على اسم من أسماء الله، لكن هذا قول لا وجه له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ))، أي: هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا].
وزكريا نبي من أنبياء بني إسرائيل عليه الصلاة والسلام، وكذلك ابنه يحيى من أنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا بعد موسى عليه الصلاة والسلام وكلفوا بالعمل بالتوراة، كما قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ} [المائدة:44]، فالأنبياء الذين جاءوا بعد موسى كلهم كلفوا بالعمل بالتوراة ويقال لهم أنبياء، ولا يطلق عليهم (رسل)، ويوحى إليهم وحياً خاصاً يتعلق بالمؤمنين ولا يرسلون إلى قوم كافرين، وهذا هو الصواب في الفرق بين النبي والرسول.
أما الرسول فإنه يرسل إلى أمة كافرة فيؤمن به بعضهم ويرد عليه دعوته بعضهم، وهم أهل الشرائع مثل: نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وقد أرسلوا إلى أمم عظيمة فآمن بهم بعضهم وكفر بهم بعضهم.
أما النبي فإنه يكلف بالعمل بشريعة سابقة ولا يرسل إلى الناس كافة، وإنما يرسل للمؤمنين مثل: داود وسليمان وزكريا، فقد كلفوا بالعمل بالتوراة، حتى جاء عيسى عليه السلام فأنزل الله عليه الإنجيل وفيه تخفيف لبعض الأحكام فقد أحل لهم بعض المحرمات كما أخبر الله عز وجل: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقرأ يحيى بن يعمر: (ذكَّر رحمة ربك عبده زكريا_.
قال في الحاشية: وقيل هو فعل ماض وقيل فعل أمر.
والأقرب أنه فعل أمر فقال: ذكِّر يا محمد! بهذه القصص الواردة في القرآن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وزكريا يمد ويقصر، قراءتان مشهورتان].
وزكرياء يكون بألف وبعده همزة فيكون ممدوداً، أو زكريا بألف بدون همز فيكون مقصوراً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان نبياً عظيماً من أنبياء بني إسرائيل، وفي صحيح البخاري أنه كان نجاراً] أي: كان يأكل من عمل يديه في النجارة، وهذا يدل على أن العمل والصناعة ليست عيباً، وإنما هي الشرف، فكون الإنسان يأكل من صنعة يده ليس عيباً، بل العيب أن يكون الإنسان عالة يتكفف الناس وهو يستطيع العمل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول)، واليد العليا اليد المنفقة، واليد السفلى هي اليد الآخذة، ولا تكون يد الإنسان هي اليد العليا إلا إذا اشتغل فيبيع ويشتري ويحرث ويزرع، وتكون بيده صنعة كالنجار أو الحداد أو البناء أو السباك أو الكهربائي والمبلط فكل هذه أعمال يتكسب بها الإنسان ويستغني بها عن الناس، ولهذا كان الأنبياء في أيديهم صنعة عمل، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا ورعى الغنم، قالوا: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).
وقال عليه السلام ما معناه: (أفضل ما كسب الإنسان عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور).
وكان زكريا نجاراً، وكان نوح حداداً، وكان العلماء والمحدثون وغيرهم في أيديهم صناعات فينسبون إلى صناعاتهم منها البزاز والصباغ والجصاص.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:3]، قال بعض المفسرين: إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره، حكاه الماوردي، وقال آخرون: إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله].
وهذا هو الصواب؛ لأنه أحب إلى الله، قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، وكلما كان العمل خفياً كان أقرب إلى الإخلاص، فإذا دعا العبد ربه دعاء خفياً يكون أقرب إلى الإخلاص وهو أحب إلى الله من الجهر، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]، فهو أحب إلى الله، أما القول الأول فهو يقول حتى لا يعيبه الناس إذا سمعوه وهو يطلب ولداً وهو كبير في السن قد تجاوز الحد، فسيقولون: هذا ضعيف العقل، لكن هذا قول ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال قتادة في هذه الآية: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:3]، إن الله يعلم القلب التقي ويسمع الصوت الخفي، وقال بعض السلف: قام من الليل عليه السلام وقد نام أصحابه فجعل يهتف بربه يقول خفية: يا رب يا رب يا رب! فقال الله: لبيك لبيك لبيك.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:4]، أي: ضعفت وخارت القوى.
{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم:4]، أي: اضطرم المشيب في السواد، كما قال ابن دريد في مقصورته: أما تري رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجى واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جمر الغضا].
وهذا توسل من زكريا عليه السلام إلى الله، وقد توسل بنوعين من أنواع التوسل، النوع الأول: التوسل بربوبية الله وذلك في قوله: (رب)، وهذا من أسباب قبول الدعاء.
والثاني: التوسل بحاجته وضعفه وذلك في قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم:4]، وهذا مثل قول الله تعالى عن موسى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، يعني: أنا فقير بما أنزلت إلي، فتوسل بحاله وضعفه وحاجته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمراد من هذا: الإخبار عن الضعف والكبر ودلائله الظاهرة والباطنة.
وقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4]، أي: ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء، ولم تردني قط فيما سألتك.
وقوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم:5]، قرأ الأكثرون بنصب الياء (من الموالي) على أنه مفعول، وعن الكسائي أنه سكن الياء، كما قال الشاعر: كأن أيديهن في القاع القرق أيدي جوار يتعاطين الورق.
والأصل أن يقول أيديهن؛ لأنه مفعول به، مثل: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم:5].
وفي قراءة (وإني خفت المواليْ) بالسكون، وقد سكن (أيديْهن) في الشعر.
والورق هي: الفضة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الآخر: فتى لو يباري الشمس ألقت قناعها أو القمر الساري لألقى المقالدا].
والشاهد أنه قال: الساري ولم يقل الساريَ، وقوله: لو يباري الشمس أي: في جماله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي: تغاير الشعر فيه إذ سهرت له حتى ظننت قوافيه ستقتتل].
والشاهد قوله: قوافيه، ولم يقل: قوافيَه، وهذا معروف في لغة العرب، فالأصل أن يقول: قوافية، ولكنه سكنها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد وقتادة والسدي: أراد بالموالي العصبة، وقال أبو صالح: الكلالة، وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقرؤها: (وإني خَفّتِِ الموالي من روائي) بتشديد الفاء بمعنى قلت عصباتي من بعدي].
فيصح أن يقال: عصبتي أو عصباتي فالمعنى واحد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعلى القراءة الأولى وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً، فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنبوته وما يوحي إليه].
لأن الأنبياء ما بعثوا لجمع المال، وإنما بعثوا لتوجيه الناس ودعوتهم وتبلغيهم وهدايتهم وإرشادهم، فلم يخف زكريا عليه السلام الموالي أنه يورث ماله، فالأنبياء لا يرثون فما تركه الأنبياء يكون صدقة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، وإنما أراد أن يرزقه الله ولداً يسوس الناس من بعده بالنبوة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأجيب في ذلك؛ لا أنه خشي من وراثتهم له ماله، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده أن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد فيحوز ميراثه دونه دونهم هذا وجه.
الثاني: أنه لم يذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالاً ولاسيما الأنبياء عليهم السلام].
فالغالب أن صاحب المهنة والحرفة لا ي(67/3)
تفسير قوله تعالى: (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم:7].
هذا الكلام يتضمن محذوفاً وهو أنه أجيب إلى ما سأل في دعائه فقيل له: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم:7]، كما قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:38 - 39].
وقوله: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم:7] قال قتادة وابن جريج وابن زيد: أي: لم يسم أحداً قبله بهذا الاسم، واختاره ابن جرير رحمه الله].
والمراد بالمحراب مكان الصلاة، ومنه قوله تعالى في قصة داود: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:21]، يعني: تسوروا الجدار وجاءوا إليه في مكان صلاته، وما تعارف عليه الناس من أن المحراب هو المكان الذي يكون فيه الإمام أثناء صلاته بالناس أو الجزء الذي يكون في مقدم المسجد فهذا اصطلاح محدث جديد فالمراد بالمحراب مكان الصلاة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم:7]، أي: شبيهاً].
أخذه من معنى قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، أي: شبيهاً، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي: لم تلد العواقر قبله مثله، وهذا دليل على أن زكريا عليه السلام كان لا يولد له، وكذلك امرأته كانت عاقراً من أول عمرها].
وسيأتي أيضاً أن الله تعالى وصفه بأنه سيداً وحصوراً قيل: الحصور الذي لا يأتي النساء، وقيل غير ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بخلاف إبراهيم وسارة عليهما السلام، فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق على كبرهما لا لعقرهما].
لأن إبراهيم عليه السلام ولد له إسماعيل قبل إسحاق، فبينهما ما يقارب اثنتي عشرة سنة، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ليس عقيماً، إنما ولد له من هاجر إسماعيل، لكنه تعجب من الولد مع كبر السن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر:54]، مع أنه كان قد ولد له قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة، وقالت امرأته: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:72 - 73]].(67/4)
تفسير سورة مريم [8 - 15]
بشر الله سيدنا زكريا بالولد بعد طول عمر، وكانت امرأته عاقراً، فتعجب من ذلك، فبين الله له أنه إذا أراد أمراً فإنما يقول له: كن، فيكون.(68/1)
تفسير قوله تعالى: (قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:8 - 9].
هذا تعجب من زكريا عليه السلام حين أجيب إلى ما سأل وبشر بالولد، ففرح فرحاً شديداً وسأل عن كيفية ما يولد له والوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته كانت عاقراً لم تلد من أول عمرها مع كبرها].
الله تعالى لا يعجزه شيء، والله على كل شيء قدير: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وقد سأل زكريا عليه السلام ربه هذا لما كانت عنده مريم وكان زوج خالتها وقد كفلها فكان يجد عندها فاكهة الصيف في زمن الشتاء وفاكهة الشتاء في زمن الصيف، فكما أن الله سبحانه وتعالى قد يأتي بالشيء في غير وقته، فيمكن أن يأتيه الولد في غير وقت أوانه، ولهذا قال الله تعالى في سورة آل عمران: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران:37 - 38]، يعني: من أجل ذلك.
وسؤال زكريا لم يكن اعتراضاً على الله، فهو يعلم أن الله لا يعجزه شيء وإنما تعجب من حاله وأنه سيأتيه ولد وهو كبير السن وأصله عاقر، ولهذا سأل ربه الكيفية والوجه الذي يأتيه حتى يتم الفرح، فبين الله له وجعل له علامة وآية وهي ألا يكلم الناس ثلاث ليال، فيستطيع أن يسبح ويهلل ويقرأ، لكن لا يستطيع أن يكلم الناس إلا بالإشارة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومع أنه قد كبر وعتا، أي: عسا عظمه ونحل ولم يبق فيه لقاح ولا جماع، تقول العرب للعود إذا يبس: عتا يعتو عتياً وعتواً، وعسا يعسو عسواً وعسياً.
وقال مجاهد: عتياً بمعنى نحول العظم، وقال ابن عباس وغيره: عتياً يعني: الكبر، والظاهر أنه أخص من الكبر.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا هشيم، أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لقد علمت السنة كلها غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا، ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف: ((وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا))، أو عسياً، ورواه الإمام أحمد].
مع علم ابن عباس الواسع إلا أنه خفي عليه هذا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الإمام أحمد عن سريج بن النعمان وأبو داود عن زياد بن أيوب كلاهما عن هشيم به، (قال) أي: الملك مجيباً لزكريا عما استعجب منه: ((كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ))، أي: إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها، ((هَيِّنٌ)) أي: يسير سهل على الله، ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال: ((وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا))، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم:10]].(68/2)
تفسير قوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:10 - 11].
يقول تعالى مخبراً عن زكريا عليه السلام أنه: ((قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً))، أي: علامة ودليلاً على وجود ما وعدتني لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني، كما قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260].
((قَالَ آيَتُكَ)) أي: علامتك، ((أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)) أي: أن تحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال وأنت صحيح سوي من غير مرض ولا علة.
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ووهب بن منبه والسدي وقتادة وغير واحد: اعتقل لسانه من غير مرض].
اعتقل لسانه عن كلام الناس خاصة دون غيره من الذكر وغيرها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة].
{قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:41] آية آل عمران لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً يعني: إلا بالإشارة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال العوفي عن ابن عباس: ((ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)) أي: متتابعات، والقول الأول عنه وعن الجمهور أصح، كما قال تعالى في أول آل عمران: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41].
وقال مالك عن زيد بن أسلم: ((ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا))، من غير خرس].
يعني: ليس أخرس، ولهذا قال الله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها ((إِلَّا رَمْزًا))، أي: إشارة.
ولهذا قال في هذه الآية الكريمة: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} [مريم:11] أي: الذي بشر فيه بالولد {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ}، أي: أشار إشارة خفية سريعة، ((أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا))، أي: موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله وشكراً لله على ما أولاه].
فهذه الأيام يخصها بمزيد من التسبيح بكرة وعشياً، وأوحى إليهم أي: أشار، والوحي هو الإشارة الخفية، وفي هذه الآيات الكريمات بيان رحمة الله تعالى بعبده زكريا عليه السلام، وفيه استجابة الله لدعاء الأنبياء وغيرهم وأن الله تعالى يستجيب الدعاء، وأن الله يحب الملحين في الدعاء.
وفيه فضل الدعاء الخفي وذلك في قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:3]، وأنه أفضل من الدعاء الذي يجهر به الإنسان، وهذا عام في جميع العبادات، كالقراءة والصدقة والدعاء، فما كان سراً فهو أفضل من العلن إلا إذا كان تبعاً فيه مصلحة، ولهذا قال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الأعراف:205].
وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يتوسل إلى الله بالوسائل الشرعية كما توسل زكريا بالربوبية، فقال: رب، وكما توسل بضعفه وحاجته.
وفيه أن الأنبياء لا يورثون، وفيه أن زكريا عليه السلام سأل ربه ولداً يرثه النبوة وسياسة الناس بالشرع.
وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يكون همه للآخرة أعظم من همه للدنيا، وأن يكون طلبه للآخرة أعظم من طلبه للدنيا، اقتداء بأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
وفيه كما سبق فضل العمل، وأن الإنسان ينبغي له أن يكون بيده مهنة يعمل فيها، ولهذا كان زكريا عليه الصلاة والسلام نجاراً وكان داود حداداً، وسبق الحديث: (أن أفضل ما أكل المرء من عمل يده وكل بيع مبرور)، وجاء في الحديث: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، واليد العليا هي اليد المنفقة والسفلى الآخذة، ولا تكون اليد العليا إلا إذا عمل الإنسان بيده عمل ليكف وجهه عن الناس، يكون نجاراً يكون حداداً يكون بناءً حراثاً زراعاً بياعاً يبيع ويشتري، ولا يكون كلاً وعالة على الناس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مجاهد: فأوحى إليهم أي: أشار، وبه قال وهب وقتادة.
وقال مجاهد في رواية عنه: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [مريم:11]، أي: كتب لهم في الأرض، كذا قال السدي].(68/3)
تفسير قوله تعالى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:12 - 15].
وهذا أيضاً تضمن محذوفاً تقديره أنه وجد هذا الغلام المبشر به وهو يحيى عليه الصلاة والسلام، وأن الله علمه الكتاب وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، وقد كان سنه إذ ذاك صغيراً فلهذا نوه بذكره وبما أنعم به عليه وعلى والديه فقال: ((يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ))، أي: تعلم الكتاب بقوة أي بجد وحرص واجتهاد.
{وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}، أي: الفهم والعلم والجد والعزم والإقبال على الخير والإكباب عليه والاجتهاد فيه، وهو صغير حدث.
قال عبد الله بن المبارك: قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقنا، قال: فلهذا أنزل الله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12].
وقوله: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} [مريم:13]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} [مريم:13]، يقول: ورحمة من عندنا، وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك وزاد: لا يقدر عليها غيرنا، وزاد قتادة: رحم الله بها زكريا.
وقال مجاهد: ((وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا))، وتعطفاً من ربه عليه.
وقال عكرمة: ((وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا))، قال: محبة عليه.
وقال ابن زيد أما الحنان فالمحبة.
وقال عطاء بن أبي رباح رحمه الله: ((وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا))، قال: تعظيماً من لدنا.
وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة عن ابن عباس أنه قال: لا والله! ما أدري ما حناناً.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور: سألت سعيد بن جبير عن قوله: ((وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا))، قال: سألت عنها ابن عباس فلم يجد فيها شيئاً.
والظاهر من السياق أن قوله: ((وَحَنَانًا))، معطوف على قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12]، أي: وآتيناه الحكم وحناناً وزكاة أي وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب: حنت الناقة على ولدها، وحنت المرأة على زوجها، ومنه سميت المرأة حنة من الحنية، وحن الرجل إلى وطنه، ومنه التعطف والرحمة، كما قال الشاعر: تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا وفي المسند للإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة: يا حنان يا منان!).
وقد يثنى، ومنهم من يجعل ما ورد في ذلك لغة بذاتها كما قال طرفة: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض].
والشاعر هو طرفة بن العبد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((وَزَكَاةً))، معطوفاً على ((وَحَنَانًا))، فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام].
والحنان جاء القول بأن المقصود منه: التوراة.
وأن الحنان من أسماء الله، والمنان ثابت ولا إشكال فيه، وفيه أن الله سبحانه وتعالى نشأ يحيى تنشئة صالحة، وأنه علمه الكتاب، وكلمة (كتاب) جنس يشمل جميع الكتب، والمراد به التوراة؛ لأنه الذي يعمل به بنو إسرائيل، ويحيى ابن خالة عيسى عليه السلام، لكن يحيى وزكريا كانا يعملان بالتوراة، ثم أنزل الله الإنجيل على عيسى.
((وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا))، وفيه دليل على أنه ينبغي التعلم في الصغر، وأن التعلم في الصغر له مزية، ولهذا قال الله عن يحيى: ((وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا))، فكون الإنسان يتعلم في الصغر ووقت الشباب ويجد ويجتهد فهذا هو الوقت المناسب لتحصيل العلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: الزكاة العمل الصالح.
وقال الضحاك وابن جريج: العمل الصالح الزكي.
وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((وَزَكَاةً))، قال: بركة].
رواية العوفي عن ابن عباس وعلي بن أبي طلحة منقطعة؛ لأن العوفي ما أدرك ابن عباس، وعلي بن أبي طلحة، لكنه يعلم كثيراً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((وَكَانَ تَقِيًّا))، طاهراً فلم يعمل بذنب.
وقوله: ((وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا))، لما ذكر تعالى طاعته لربه وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما ومجانبته عقوقهما قولاً وفعلاً أمراً ونهياً، ولهذا قال: ((وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا))، ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}، أي: له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال].
والسلام وهو الأمان، وهذه منقبة عظيمة أعطاها الله ليحيى عليه الصلاة والسلام وأنزل فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.
وكما قال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [ص:46 - 47]، وهذه مناقب عظمة ذكرها الله في كتابه العزيز.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه].
ولهذا يبكي حينما يسقط من بطن أمه، فقد خرج من المألوف الذي ألفه وجلس فيه مدة إلى الأرض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم].
يعاين الملائكة فيكشفون له عن مستقبله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم].
ولهذا يقول الشاعر: ولدتك حين ولدتك أمك باكياً والناس حولك يضحكون سروراً فاجهد لعلك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً أي: اجتهد بالعمل الصالح، فلما ولدت كنت تبكي والناس يضحكون سروراً فرحاً بولادتك، فاجتهد بالعمل الصالح حتى إذا بكوا عليك في يوم موتك تكون ضاحكاً مسروراً تبشرك الملائكة بالجنة {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت:30].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم، قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا عليهم الصلاة والسلام فخصه بالسلام عليه: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15] رواه ابن جرير، عن أحمد بن منصور المروزي، عن صدقة بن الفضل عنه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:14]، قال: كان ابن المسيب يذكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا)، قال قتادة: ما أذنب ولا هم بامرأة، مرسل].
فهذا مرسل؛ لأن سعيد بن المسيب تابعي والمرسل ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، حدثني ابن العاص: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا) ابن إسحاق هذا مدلس، وقد عنعن هذا الحديث، فالله أعلم].
فإذا صرح محمد بن إسحاق بالحديث فهو ثقة، وإذا عنعن يكون ضعيفاً بتدليسه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)؛ وهذا أيضاً ضعيف لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة.
والله أعلم].
وأما قوله: (وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)، فهو ثابت صحيح.
وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف عند الجمهور، وإن الترمذي رحمه الله والشيخ أحمد شاكر يحسنون حديثه، لكنه عند الجمهور ضعيف، كما قال الحافظ رحمه الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن الحسن قال: إن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام التقيا فقال له عيسى: استغفر لي أنت خير مني، فقال له الآخر: أنت خير مني، فقال له عيسى: أ(68/4)
تفسير سورة مريم [16 - 23]
اصطفى الله تعالى مريم عليها السلام لعبادته، ثم جعلها تحمل بعيسى عليه السلام من غير أب آية منه سبحانه وبرهاناً على قدرته، وبين سبحانه أنها الزكية الطاهرة المبرأة من الفحشاء والمنكر.(69/1)
تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم)
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم:16].
لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكياً طاهراً مباركاً عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليهما السلام].
وهذا فيه بيان مناسبة ذكر هذه القصة بعد قصة زكريا، فالقصة الأولى جاء فيها أن الله تعالى رزق زكريا ولداً في غير وقت أوانه؛ وذلك أنه بلغ من الكبر عتياً وامرأته عاقر عقيم، والقصة الثانية جاء فيها ذكر مريم وأن الله رزقها ولداً من دون أب فالله تعالى على كل شيء قدير {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، قال سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59].(69/2)
أقسام خلق الله لآدم وذريته
وبهذا تتم القصة الرباعية فإن الله سبحانه وتعالى قسم بني آدم وذريته إلى أربعة أقسام: القسم الأول: أن يوجد مخلوقاً بلا ذكر ولا أنثى وهو آدم عليه الصلاة والسلام فقد خلقه الله بلا ذكر وأنثى وخلقه من تراب.
القسم الثاني: أن يوجد مخلوقاً من ذكر بلا أنثى وهي حواء فقد خلقت من ضلع آدم.
القسم الثالث: أن يوجد مخلوقاً من أنثى بلا ذكر وهو عيسى عليه الصلاة والسلام فقد خلقه الله من مريم بلا أب.
والقسم الرابع: سائر الناس من ذكر وأنثى، وتمت بذلك القسمة الرباعية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [منها من غير أب، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة، ولهذا ذكرهما في آل عمران وهاهنا وفي سورة الأنبياء].
في سورة آل عمران ذكر مريم أولاً ثم ذكر قصة زكريا، وفي سورة مريم قدم قصة زكريا على قصة مريم، وكذلك ذكرهما في سورة الأنبياء متجاورين بعد زكريا: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89]، ثم قال بعدها: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء:91].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى؛ ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه، وأنه على ما يشاء قادر، فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} [مريم:16]، وهي مريم بنت عمران من سلالة داود عليه السلام، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل، وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في آل عمران، وأنها نذرتها محررة أي: تخدم مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك].
كما قال الله عنها أنها قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:35]، يعني: في خدمة بيت المقدس وكانت تظن أنه ذكر، فلما وضعتها أنثى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران:36]، يعني: والأنثى ليست كالذكر فهي قاصرة، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران:37]، ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة].
لكن لا يوجد في شريعتنا إنسان ينذر ولده خادماً لمسجد؛ لأن معنى ذلك أنه يكون حبيس المسجد ويمتنع عن الأعمال الأخرى.
وإذا أراد أن يخدم فلا بأس، لكن بدون نذر، وقد جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه أجور أمته منها القذاة يخرجها الرجل من المسجد)، لكن كونه ينذر فلا يتعدى المسجد، فهذا لا يجوز.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدءوب].
التبتل والدءوب يعني: الاستمرار، فالدأب هو الاستمرار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكانت في كفالة زوج أختها -وقيل خالتها- زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم، ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف، وثمر الصيف في الشتاء كما تقدم بيانه في آل عمران، وأراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما أراد الله تعالى -وله الحكمة والحجة البالغة- أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام، {انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم:16] أي: اعتزلتهم وتنحت عنهم، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس.
قال السدي: لحيض أصابها، وقيل لغير ذلك.
قال أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه].
هذا ضعيف؛ لأن قابوس بن أبي ظبيان ضعيف.
قال: [وما صرفهم عنه إلا قول ربك: {انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم:16] قال: خرجت مريم مكاناً شرقياً، وصلوا قبل مطلع الشمس.
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا إسحاق بن شاهين حدثنا خالد بن عبد الله عن داود عن عامر عن ابن عباس قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة؛ لقول الله تعالى: {فانتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم:16]، واتخذوا ميلاد عيسى قبلة].
قابوس بن أبي ظبيان: بفتح المعجمة وسكون الموحدة بعدها تحتانية، الجنبي: بفتح الجيم وسكون النون بعدها موحدة، الكوفي، فيه لين.
من السادسة.
القول الأول: أنه أصابها الدم، وأنها ابتعدت عنهم.
هذا هو الأقرب.
قال: [وقال قتادة: {مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم:16]: شاسعاً متنحياً.
وقال محمد بن إسحاق: ذهبت بقلتها لتستقي من الماء.
وقال نوف البكالي: اتخذت لها منزلاً تتعبد فيه.
فالله أعلم.
وقوله: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} [مريم:17] أي: استترت منهم وتوارت، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام، {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17] أي: على صورة إنسان تام كامل، قال مجاهد والضحاك وقتادة وابن جريج ووهب بن منبه والسدي في قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:17] يعني: جبريل عليه السلام].
جبريل هو الروح الأمين، (روحنا) يعني: جبريل، وإضافته إلى الله إضافة تشريف، مثل: بيت الله وعبد الله وناقة الله وروح الله، (روحنا) يعني: الروح جبريل، وهو الروح المخلوقة من الأرواح التي خلقها الله، وإضافته إلى الله للتشريف، إضافة مخلوق إلى خالقه.
قال: [{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:17] يعني: جبريل عليه السلام، وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن، فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193 - 194].
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: إن روح عيسى عليه السلام من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم، وهو الذي تمثل لها بشراً سويا، أي: روح عيسى، فحملت الذي خاطبها وحل في فيها].
الأقرب الأول، وأنه جبريل، وظاهر القرآن.
قال: [وهذا في غاية الغرابة والنكارة].
صدق رحمه الله، فالأقرب هو القول الأول.
قال: [وهذا في غاية الغرابة والنكارة، وكأنه إسرائيلي.
{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18] أي: لما تبدى لها الملك في صورة بشر وهي في مكان منفرد، وبينها وبين قومها حجاب خافته وظنت أنه يريدها على نفسها فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18] أي: إن كنت تخاف الله، أي: إن كنت تخاف الله، تذكيراً له بالله، وهذا هو المشروع في الدفع: أن يكون بالأسهل فالأسهل، فخوفته أولاً بالله عز وجل.
قال ابن جرير: حدثني أبو كريب حدثنا أبو بكر عن عاصم قال: قال أبو وائل وذكر قصة مريم فقال: قد علمت أن التقي ذو نهية].
أن التقي ذو نهية: أي: علمت أن التقي عنده شيء ينهاه، عنده مخافة الله تنهاه عن العدوان.
نُهَية، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:54] النهى: العقل.
قال: [قال أبو وائل وذكر قصة مريم فقال: قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم:18 - 19] أي: فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حصل عندها من الخوف على نفسها].
في نسخة (ما حصل).
قال: [أي: فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حصل عندها من الخوف على نفسها: لست مما تظنين، ولكني رسول ربك، أي: بعثني إليك، ويقال: إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقاً وعاد إلى هيئته].
يعني: وعاد إلى صورته التي خلقها الله عليها.
قال: [ويقال: إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقاً وعاد إلى هيئته، وقال: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19] هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء، وقرأ الآخرون {لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19] وكلا القراءتين له وجه حسن ومعنى صحيح].
القراءة الأولى: (إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاماً زكياً).
يعني: ليهب لك الله، و (لأهب) يعني: لأهب لك بأمر الله.
قال: [وكلا القراءتين له وجه حسن ومع(69/3)
تفسير قوله تعالى: (فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً وكنت نسياً منسياً)
قال الله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:22 - 23].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن مريم إنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال استسلمت لقضاء الله تعالى، فذكر غير واحد من علماء السلف: أن الملك -وهو جبرائيل عليه السلام- عند ذلك نفخ في جيب درعها، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بالولد بإذن الله تعالى، فلما حملت به ضاقت ذرعاً به، ولم تدر ماذا تقول للناس، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا، وذلك أن زكريا عليه السلام كان قد سأل الله الولد، فأجيب إلى ذلك، فحملت امرأته فدخلت عليها مريم فقامت إليها فاعتنقتها، وقالت: أشعرت يا مريم أني حبلى؟ فقالت لها مريم: وهل علمت أيضاً أني حبلى؟ وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها، وكانوا بيت إيمان وتصديق، ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في جوفها يسجد للذي في بطن مريم، أي: يعظمه ويخضع له].
الذي في جوفها يحيى، يسجد للذي في بطن مريم وهو عيسى، وكانا ابني خالة، وكلاهما نبي، والله أعلم فهذا الذي ذكر يحتاج إلى دليل.
قال: [ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في جوفها يسجد للذي في بطن مريم، أي: يعظمه ويخضع له؛ فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعاً، كما سجد ليوسف أبواه وإخوته، وكما أمر الله الملائكة أن تسجد لآدم عليه السلام].
سجود إخوة يوسف سجود تحية وإكرام، وكان جائزاً في شريعتهم، لا سجود عبادة، وسجود الملائكة لآدم كان بأمر الله، فالملائكة أمرهم الله بذلك فهم يسجدون عبادة لله، وفيه تشريف لآدم عليه السلام، وهو عبادة لله بامتثال أمره.
قال: [ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلاً لتعظيم جلال الرب تعالى].
ولما جاء معاذ رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسجد له، وأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إنه رأى الروم يسجدون لعظمائهم، وأنت أولى بذلك، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا لا يجوز، والمعروف أن معاذاً لم يذهب إلى الشام إلا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين قال: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم قال: قال مالك رحمه الله: بلغني أن عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابنا خالة، وكان حملهما جميعاً معاً، فبلغني أن أم يحيى قالت لـ مريم: إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك، قال مالك: أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام؛ لأن الله جعله يحيي الموتى، ويبرىء الأكمه والأبرص].
قوله: (بلغني) معناه أن رواية مالك منقطعة.
قال: [ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام، فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر، وقال عكرمة: ثمانية أشهر، قال: ولهذا لا يعيش ولد الثمانية أشهر، وقال ابن جريج: أخبرني المغيرة بن عتبة بن عبد الله الثقفي سمع ابن عباس وسئل عن حمل مريم، قال: لم يكن إلا أن حملت فوضعت، وهذا غريب، وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:22 - 23]، فالفاء وإن كانت للتعقيب، لكن تعقيب كل شيء بحسبه، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون:12 - 14] فهذه الفاء للتعقيب بحسبها.
وقد ثبت في الصحيحين: أن بين كل صفتين أربعين يوماً وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج:63]، فالمشهور الظاهر -والله على كل شيء قدير-: أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن، ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل بها، وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس يقال له: يوسف النجار، فلما رأى ثقل بطنها وكبره أنكر ذلك من أمرها، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها، ثم تأمل ما هي فيه فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه على أن عرَّض لها في القول، فقال: يا مريم! إني سائلك عن أمر فلا تعجلي علي.
قالت: وما هو؟ قال: هل يكون قط شجر من غير حب، وهل يكون زرع من غير بذر، وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت: نعم، وفهمت ما أشار إليه.
أما قولك: هل يكون شجر من غير حب، وزرع من غير بذر؟ فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر، وهل يكون ولد من غير أب؟ فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم، فصدقها وسلم لها حالها.
ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة انتبذت منهم مكانا قصياً، أي: قاصياً منهم بعيداً عنهم لئلا تراهم ولا يروها].
هذا يوسف النجار هو الذي كان اليهود يتهمونها به، ويقولون: إن عيسى هو ابن يوسف النجار، وهذا القول الذي ذكره المؤلف رحمه الله غريب، فرجل وامرأة في مكان واحد وإن كان رجلاً صالحاً يخدم معها ويسألها هذا بعيد، ولو كان رجلاً صالحاً لابد أن يكون بينهما فاصل.
قال: [قال محمد بن إسحاق: فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والتوحم وتغير اللون، حتى فَطر لسانها، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا، وشاع الحديث في بني إسرائيل، فقالوا: إنما صاحبها يوسف].
يعني: يوسف النجار.
[فقالوا: إنما صاحبها يوسف، ولم يكن معها في الكنيسة غيره، وتوارت من الناس واتخذت من دونهم حجاباً، فلا يراها أحد ولا تراه.
وقوله: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:23]، أي: فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع نخلة في المكان الذي تنحت إليه، وقد اختلفوا فيه.
فقال السدي: كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس.
وقال وهب بن منبه: ذهبت هاربة، فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ضربها الطلق].
هذا من أخبار بني إسرائيل وهو بعيد.
قال: [وفي رواية عن وهب: كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس في قرية هناك يقال لها: بيت لحم، قلت: وقد تقدم في أحاديث الإسراء من رواية النسائي عن أنس رضي الله عنه، والبيهقي عن شداد بن أوس رضي الله عنه: أن ذلك ببيت لحم، فالله أعلم، وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم].
ولهذا النصارى تجمعوا في بيت لحم في الألفية لعيدهم؛ لأنه مكان ميلاد عيسى في نظرهم.
قال: [ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم، وقد تلقاه الناس، وقد ورد به الحديث إن صح.
وقوله تعالى إخباراً عنها: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23] فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية، فقالت: ((يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا))، أي: قبل هذا الحال، ((وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)) أي: لم أخلق ولم أك شيئاً، قاله ابن عباس.
وقال السدي: قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس: يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه والحزن بولادتي المولود من غير بعل.
((وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)) نسي فترك طلبه كَخِرَقِ الحيض إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر، وكذلك كل شيء نسي وترك فهو نسي.
وقال قتادة: ((وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)) أي: شيئاً لا يعرف ولا يذكر ولا يدرى من أنا.
وقال الربيع بن أنس: ((وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)) هو السقط.
وقال ابن زيد: لم أكن شيئاً قط، وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة عند قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]].
تمني الموت منهي عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به)، وفي الحديث الآخر: (فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)، وفي الحديث الآخر: (لا يتمن أحدكم الموت؛ فإن عمر المؤمن لا يزيده إلا خيراً)، لكن أجاز بعضهم هذا عند الفتن، وبعضهم استدل بقوله تعالى عن يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، لكن هذه الآية ليس فيها دليل لهم؛ لأنه سؤال بالوفاة على الإسلام، لا بمطلق الوفاة، أو بالوفاة الآن.(69/4)
تفسير سورة مريم [24 - 33]
فزعت مريم عليها السلام من الحمل من غير أب، وهجمت عليها الغموم من كل جانب حتى تمنت أن لم تكن ولدت وأنها كانت نسياً منسياً، فأنطق الله وليدها بما يجعلها تطمئن وتركن إلى أن الله لن يخذلها.(70/1)
تفسير قوله تعالى: (فناداها من تحتها ألا تحزني فلن أكلم اليوم إنسياً)
قال الله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:24 - 26].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قرأ بعضهم: (مَنْ تَحْتِهَا) بمعنى: الذي تحتها، وقرأ الآخرون: (مِنْ تَحْتِهَا) على أنه حرف جر.
واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو؟ فقال العوفي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: فناداها من تحتها جبريل ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها، وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وعمرو بن ميمون والسدي وقتادة: أنه الملك جبرائيل عليه الصلاة والسلام، أي: ناداها من أسفل الوادي.
وقال مجاهد: (فناداها من تحتها) قال: عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، قال: قال الحسن: هو ابنها، وهي إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير: أنه ابنها، قال: أولم تسمع الله يقول: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:29] واختاره ابن زيد وابن جرير في تفسيره.
وقوله: ((أَلَّا تَحْزَنِي)) أي: ناداها قائلاً: لا تحزني {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب: ((قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا))، قال: الجدول، وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: السري النهر، وبه قال عمرو بن ميمون: نهر تشرب منه.
وقال مجاهد: هو النهر بالسريانية.
وقال سعيد بن جبير: السري النهر الصغير بالنبطية.
وقال الضحاك: هو النهر الصغير بالسريانية].
السريانية لغة النصارى، كما أن العبرانية لغة اليهود.
قال: [وقال إبراهيم النخعي: هو النهر الصغير، وقال قتادة: هو الجدول بلغة أهل الحجاز، وقال وهب بن منبه: السري هو ربيع الماء، وقال السدي: هو النهر، واختار هذا القول ابن جرير.
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع، فقال الطبراني: حدثنا أبو شعيب الحراني حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي].
البابلّتي بتشديد اللام.
قال: [حدثنا يحيى بن عبد الله البابلّتي حدثنا أيوب بن نهيك سمعت عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما، سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن السري الذي قال الله لـ مريم: ((قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)) [مريم:24] نهر أخرجه الله لتشرب منه)، وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه.
وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلي، قال فيه أبو حاتم الرازي: ضعيف، وقال أبو زرعة: منكر الحديث وقال أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث.
وقال آخرون: المراد بالسري عيسى عليه السلام].
لا يعتمد على هذا الحديث، لأنه ضعيف، والظاهر أنه جدول ماء أو نهر موجود، أما القول بأنه أخرجه الله في الحال فإنما جاء في هذا الحديث الضعيف.
قال: [وقال آخرون: المراد بالسري عيسى عليه السلام، وبه قال الحسن والربيع بن أنس ومحمد بن عباد بن جعفر، وهو إحدى الروايتين عن قتادة، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والقول الأول أظهر، ولهذا قال بعده: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] أي: وخذي إليك بجذع النخلة، قيل: كانت يابسة.
قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: مثمرة، قال مجاهد: كانت عجوة.
وقال الثوري عن أبي داود نفيع الأعمى: كانت صرفانة].
المهم أنها نخلة، لكن هل مثمرة أو غير مثمرة؟ إن لم تكن مثمرة فهو من الكرامات، كما كانت تأتيها الثمرة من قبل إلى المحراب حيث كانت تأتيها فاكهة الشتاء في زمن الصيف، وفاكهة الصيف في زمن الشتاء.
قال: [والظاهر أنها كانت شجرة، ولكن لم تكن في إبان ثمرها، قاله وهب بن منبه، ولهذا امتن عليها بذلك بأن جعل عندها طعاماً وشراباً، فقال: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم:25 - 26] أي: طيبي نفساً، ولهذا قال عمرو بن ميمون: ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية الكريمة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا شيبان حدثنا مسرور بن سعيد التميمي حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن عروة بن روي م عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه الصلاة والسلام، وليس من الشجر شيء يلقح غيرها)].
هذا حديث ضعيف بل موضوع.
ولعل آفته مسرور هذا، وقد ذكر في الأحاديث الموضوعة ذكره ابن الجوزي وغيره، وابن القيم ذكره في الأحاديث الموضوعة، لكن هذا معناه أنه يكون ضعيفاً لا موضوعاً.
لكن الموضوع هو الذي يكون في سنده كذاب، والذي في سنده متهم يكون ضعيفاً جداً، ولا يصل إلى درجة الوضع.
قال: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطعموا نساءكم الولد الرطب)].
(أطعموا نساءكم الولَّد)، يعني: الوالدات.
قال: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطعموا نساءكم الولَّد الرطب؛ فإن لم يكن رطب فتمر، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران)، هذا حديث منكر جداً، ورواه أبو يعلى عن شيبان به].
يكون آفته مسرور، والحديث هذا غير موضوع لكنه ضعيف.
قال: [وقرأ بعضهم: {تُسَاقِطْ} [مريم:25] بتشديد السين وآخرون بتخفيفها، وقرأ أبو نهيك: (تُسقط عليك رطباً جنياً).
وروى أبو إسحاق عن البراء أنه قرأها: (يُساقط) أي: الجذع، والكل متقارب].
الأقرب أن الذي ناداها عيسى؛ لأنها بعد ذلك لما ذهبت إلى قومها تحمله، فسألوها فأشارت إليه، يعني: كلموه؛ لأنه كلمها قبل ذلك، فالأقرب أنه الذي كلمها وناداها من تحتها.
قال: [وقوله: {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} [مريم:26] أي: مهما رأيت من أحد: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26] المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك، لا أن المراد به القول اللفظي؛ لئلا ينافي: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]].
(فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) يعني: إذا سألوها قولي: إني نذرت للرحمن، يعني: تشير أنا لا أتكلم، أنا عندي نذر، تشير بيدها، (فقولي) فأطلق القول على الإشارة، يعني: فأشيري لهم أني نذرت ألا أكلم أحداً، وإلا فكيف تقول: (إني نذرت ألا أكلم) ثم تتكلم، المراد بالقول هنا الإشارة، (فقولي) فعبر بالقول عن الإشارة.
قال: [المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك، لا أن المراد به القول اللفظي؛ لئلا ينافي: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26].
قال أنس بن مالك في قوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم:26] قال: صمتاً، وكذا قال ابن عباس والضحاك، وفي رواية عن أنس: صوماً وصمتاً، وكذا قال قتادة وغيرهما.
والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام، نص على ذلك السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد.
قال ابن إسحاق عن حارثة قال: كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر، فقال: ما شأنك؟ قال أصحابه: حلف أن لا يكلم الناس اليوم، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كلم الناس وسلم عليهم، فإن تلك امرأة علمت أن أحداً لا يصدقها أنها حملت من غير زوج.
يعني بذلك مريم عليها الصلاة السلام؛ ليكون عذراً لها إذا سئلت، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير رحمهما الله.
وقال عبد الرحمن بن زيد: لما قال عيسى عليه الصلاة والسلام لـ مريم: ((لَّا تَحْزَنِي)) قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة؟ أي شيء عذري عند الناس؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً.
قال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام: {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]، قال: هذا ك(70/2)
تفسير قوله تعالى: (فأتت به قومها تحمله)
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: [قال الله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:27 - 33].
يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك، وأن لا تكلم أحداً من البشر، فإنها ستكفى أمرها، ويقام بحجتها، فسلمت لأمر الله عز وجل، واستسلمت لقضائه، وأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله، فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جداً وقالوا: يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً، أي: أمراً عظيماً، قاله مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي، قال: وخرج قومها في طلبها، وكانت من أهل بيت نبوة وشرف، فلم يحسوا منها شيئاً، فرءوا راعي بقر فقالوا: رأيت فتاة كذا وكذا نعتها؟ قال: لا، ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره منها قط، قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيتها سجداً نحو هذا الوادي.
قال عبد الله بن زياد: وأحفظ عن سيار أنه قال: رأيت نوراً ساطعاً، فتوجهوا حيث قال لهم، فاستقبلتهم مريم، فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها، فجاءوا حتى قاموا عليها: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:27] أمراً عظيماً {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] أي: يا شبيهة هارون في العبادة {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] أي: أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟ قال علي بن أبي طلحة والسدي: قيل لها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} أي: أخي موسى، وكانت من نسله، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللمضري: يا أخا مضر.
وقيل: نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون، فكانت تقاس به في العبادة والزهادة.
وحكى ابن جرير عن بعضهم: أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم يقال له: هارون، ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.
وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين الهسنجاني حدثنا ابن أبي مريم حدثنا المفضل بن فضالة قال: حدثنا أبو صخر عن القرظي في قوله الله عز وجل: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28]، قال: هي أخت هارون لأبيه وأمه، وهي أخت موسى أخي هارون التي قصت أثر موسى، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:11]].
هذا بعيد؛ لأن بين مريم وبين موسى وهارون ما يقرب من ألف عام، وإنما قالوا: (يا أخت هارون) لأنهم يسمون بأسماء الأنبياء، أو أنه رجل صالح في زمانهم.
وأما القول بأنه رجل فاجر فبعيد أيضاً؛ لأنهم قالوا لها: (يا أخت هارون) أنت معروفة بالعبادة، (ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً) فهم يقولون: كيف يحصل هذا منك وأنت شبيهة بهارون أو أخت هارون، وكانوا يسمون بأسماء أنبيائهم.
وكذلك القول بأنها أخت هارون النبي بعيد، فبينها وبينه دهور من الزمان؛ لأن موسى أول أنبياء بني إسرائيل، وعيسى آخر أنبياء بني إسرائيل، فكيف تكون أختاً لهارون؟! لا يمكن.
قال: [وهذا القول خطأ محض؛ فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفى بعيسى بعد الرسل، فدل على أنه آخر الأنبياء].
هو آخر أنبياء بني إسرائيل، وليس بينه وبين نبينا نبي، وليس بعده نبي إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وموسى أول أنبياء بني إسرائيل، وبين موسى وعيسى أنبياء كثيرون وأمم لا يحصيهم إلا الله، داوود وسليمان ويحيى وزكريا كثير من الأنبياء، كلهم جاءوا بعد موسى، وكلفوا بالعمل بالتوراة، فكان آخرهم عيسى.
قال: [فدل على أنه آخر الأنبياء بعثاً، وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا ثبت في الصحيح عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا أولى الناس بابن مريم، إلا أنه ليس بيني وبينه نبي)].
ما جاء في الصحيحين: (أنا أولى الناس بابن مريم، إنه ليس بيني وبينه نبي)، بدون ذكر الاستثناء.
وهذا الحديث: (أنا أولى الناس بابن مريم، إنه ليس بيني وبينه نبي)، يدل على ضعف الحديث الذي فيه أن هناك نبياً في هذه الفترة اسمه خالد بن سنان، فليس هناك نبي بعد عيسى إلا نبينا محمد.
قال: [(أنا أولى الناس بابن مريم، إنه ليس بيني وبينه نبي)، ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي لم يكن متأخراً عن الرسل سوى محمد صلى الله عليه وسلم، ولكان قبل سليمان وداود].
معنى هذا إذا كانت مريم أختاً لهارون تكون قبل سليمان وداود، وهذا بعيد.
يقولون: قول القرظي بأن مريم أخت لهارون النبي أخي موسى، على هذا يكون عيسى وموسى ليس بينهما نبي، والله تعالى يقول: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة:87] أخبر الله تعالى أنه قفى بعد موسى برسل كثيرين، ثم جاء عيسى، فهذا يدل على بطلان هذا القول؛ لأن الله أخبر أنه قفى بعد موسى بالرسل، ثم بعد ذلك أرسل الله عيسى.
قال: [ولكان قبل سليمان وداود، فإن الله قد ذكر أن داود بعد موسى عليهما السلام في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246]، فذكر القصة إلى أن قال: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة:251] الآية.
والذي جرأ القرظي على هذه المقالة: ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر، وإغراق فرعون وقومه، قال: وكانت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين تضرب بالدف هي والنساء معها، يسبحن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل، فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى، وهي هفوة وغلطة شديدة، بل هي باسم هذه].
يعني: إن صح ما في التوراة، ولم يكن محرفاً؛ تكن مريم بنت عمران أخت موسى اسمها كذلك، وليست هي أم عيسى، أي أن موسى بن عمران له أخت اسمها مريم غير مريم أم عيسى، هذا لو صح ما في التوراة مع أنه لا يعتمد على ما في التوراة، والتوراة التي في أيديهم حرفت على أيدي بني إسرائيل.
قال: [وهذه هفوة وغلطة شديدة، بل هي باسم هذه، وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم، كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس سمعت أبي يذكره عن سماك عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران، فقالوا: أرأيت ما تقرءون: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم)، انفرد بإخراجه مسلم والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن إدريس عن أبيه عن سماك به، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس].
هذا قوله: (يا أخت هارون) , هارون سمي باسم هارون النبي، وهي سميت باسم مريم، فعلى هذا ليس المراد هارون النبي لأن بينهما دهوراً، وإنما هارون آخر سمي باسم هارون النبي.
قال: [وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي صدقة عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن كعباً قال: إن قوله: ((يَا أُخْتَ هَارُونَ)) ليس بهارون أخي موسى، قال: فقالت له عائشة: كذبت، قال: يا أم المؤمنين! إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة، قال: فسكتت، وفي هذا التاريخ نظر].
ثم أيضاً هو منقطع، قال محمد بن سيرين: نبئت.
من الذي نبأه؟ فيه انقطاع، والأقرب أنه أكثر من ستمائة سنة بين موسى وعيسى، بل لعله يقارب ألف سنة.
قال: [وقال ابن جرير أيضا: حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قوله: {(70/3)
تفسير قوله تعالى: (وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً)
قال تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:32] أي وأمرني ببر والدتي ذكره بعد طاعة ربه؛ لأن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] وقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
وقوله: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32] أي: ولم يجعلني جباراً مستكبراً عن عبادته وطاعته وبر والدتي فأشقى بذلك.
وقال سفيان الثوري: الجبار الشقي الذي يقبل على الغضب -وفي نسخة يقتل- وقال بعض السلف: لا تجد أحداً عاقاً لوالديه إلا وجدته جباراً شقياً ثم قرأ: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32] قال: ولا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً ثم قرأ: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36]].
وفي الحاشية قال: سيئ الملكة: الذي يسيء إلى صحبه ومماليكه، يقال: وهو سيئ الملكة والملك، وحسن الملكة والملك.
قال: [قال قتادة: ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات سلطه الله عليهن وأذن له فيهن فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، وطوبى للثدي الذي أرضعت به، فقال نبي الله عيسى عليه السلام يجيبها: طوبى لمن تلا كلام الله فاتبع ما فيه ولم يكن جباراً شقياً].
وهذه من الآيات التي أوتيها عيسى عليه السلام، أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أعطى كل نبي من الآيات والمعجزات ما هو من جنس ما تفوق به قومه، وكان الناس في زمن عيسى تفوقوا في الطب وبلغوا فيه شأواً بعيداً، فأعطاه الله من الآيات أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، فعرفوا أن هذا من الله، يحيي الموتى يعني: كما قال الله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة:110].
تخلق يعني: تصور من الطين على شكل طير ثم ينفخ فيه فيحييه الله، فعيسى منه التصوير والتغيير والنفخ والإحياء من الله.
وكذلك يبرئ الأكمه، والأكمه هو الذي لم يشق له عين، ثم يبرئه عيسى بإذن الله فيكون مبصراً، وكذلك يبرئ الأبرص، وهذه من الآيات التي أوتيها، ولما كان الناس في زمن موسى عليه السلام بلغوا في السحر شأواً بعيداً، أعطى الله موسى العصا وفاق به ما عند السحرة حتى إذا وضعها صارت حيه تسعى، وإذا أخذها عادت عصا.
ولما جمع السحرة من أجل المناظرة، جمعوا الحبال والعصي وجعلوا فيها الزئبق فكانت تتلوى كأنها حيات وامتلأ الوادي، وأوجس في نفسه خيفة موسى قال الله له: لا تخف وألق ما في يدك، فوضع العصا فصارت حية عظيمة وابتلعت جميع ما في الوادي، فعند ذلك خر السحرة سجداً لله وآمنوا بالله، قالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122] وأن هذا ليس من صنع البشر وإنما هو من عند الله.(70/4)
تفسير قوله تعالى: (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً)
قال الله تعالى: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:33] قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:33]، إثبات منه لعبوديته لله عز وجل وأنه مخلوق من خلق الله يحيا ويموت ويبعث كسائر الخلائق].
وفيه الرد على النصارى القائلين بأنه ابن الله -قبحهم الله-، وأنه ثالث ثلاثة وأنه جزء من الله -تعالى الله عما يقولون- فيقول النصارى: إن عيسى جزء من الله وهو كلمة كن، والمسلمون يقولون: هو مخلوق بالكلمة وليس هو الكلمة، بل خلقه الله بكلمة كن، والنصارى يقولون: هو نفسه الكلمة، جعلوه جزءاً من الله؛ لأن الكلام صفة من صفات الله فقالوا: عيسى نفس كلمة كن، وهذا كفر وضلال، والمسلمون يعتقدون أن عيسى مخلوق بكلمة كن، أي: مخلوق بالكلمة وليس هو الكلمة، قال الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59].
قال: [وأنه مخلوق من خلق الله يحيا ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد صلوات الله وسلامه عليه].
فالموت والحياة والبعث فيها الشدة، أي: عند الموت، وعند البعث، وعند الولادة، فله السلامة في هذه المواطن.(70/5)
تفسير سورة مريم [34 - 40]
افترقت أحزاب النصارى في سيدنا عيسى بن مريم افتراقاً كبيراً، وقد بين الله قول الحق فيه؛ أنه عبده ورسوله وروحه ألقاها إلى مريم وكلمة منه، ونزه نفسه سبحانه عن اتخاذ الولد.(71/1)
تفسير قوله تعالى: (ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون)
قال الله تعالى: [{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم:34 - 37].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام: {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم:34] أي يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به؛ ولهذا قرأ الأكثرون (قولُ الحق) برفع قول].
(ذلك عيسى بن مريم قولُ الحق) والقراءة المشهورة لـ حفص بالنصب، {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم:34].
قال: [ولهذا قرأ الأكثرون (قولُ الحق) برفع قول، وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر (قولَ الحق)، وعن ابن مسعود أنه قرأ: (ذلك عيسى بن مريم قال الحق) والرفع أظهر إعرابا، ويشهد له قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:60]، ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبداً نبياً نزه نفسه المقدسة فقال: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} [مريم:35]].
فقراءة حفص عن عاصم (قولَ الحق) بالنصب، والرفع أظهر مثلما قال الحافظ رحمه الله: (ذلك عيسى بن مريم قولُ الحق) مبتدأ وخبر، أما النصب فعلى تقدير فعل، أي: أعني قولَ الحق.
قال: [ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبداً نبيا نزه نفسه المقدسة فقال: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} [مريم:35] أي: عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علواً كبيراً.
{إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم:35] أي: إذا أراد شيئاً فإنما يأمر به، فيصير كما يشاء كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:59 - 60].
وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:36]، أي: ومما أمر عيسى به قومه وهو في مهده أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربه وربهم وأمرهم بعبادته فقال: {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:36] أي: هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم، أي: قويم من اتبعه رشد وهدي، ومن خالفه ضل وغوى].(71/2)
اختلاف أهل الكتاب وغيرهم في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم:37]، أي: اختلفت أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
فصممت طائفة منهم وهم جمهور اليهود -عليهم لعائن الله- على أنه ولد زنية].
نسأل الله العافية، وقبح الله اليهود يقولون: إنه ولد بغي، والنصارى قالوا: إنه ابن الله، فالنصارى غلوا فرفعوه من مقام العبودية إلى مقام الربوبية، واليهود قبحهم الله هبطوا به وتنقصوه، ورموه بالعظائم حتى قالوا: إنه ولد زنا والعياذ بالله، وهدى الله المسلمين، فقالوا فيه المقالة التي قالها الله في كتابه، قالوا: إنه عبد الله ورسوله نبي كريم خلقه الله من أم بلا أب، أمه مريم البتول وليس له أب، خلقه الله بكلمة كن، قال له: كن فكان، كما أنه قال لآدم: كن فكان، ليس له أب ولا أم، وحواء خلقت من آدم وليس لها أم، خلقت من ذكر بلا أنثى وسائر الناس خلقوا من ذكر وأنثى، فتمت القسمة الرباعية.
قال: [فصممت طائفة وهم جمهور اليهود -عليهم لعائن الله- على أنه ولد زنية، وقالوا: كلامه هذا سحر].
هذا كلامه حين تكلم في المهد قالوا إنه سحر، كيف يكون سحراً وهو طفلٌ يتكلم وأنطقه الله آية وتبرئة لأمه،.
قال: [وقالوا: كلامه هذا سحر، وقالت طائفة أخرى: إنما تكلم الله].
نعوذ بالله هذه طائفة الاتحادية والملاحدة الذين يقولون: الوجود واحد يقولون: تكلم الله، فهم من أكفر خلق الله، يقولون: العبد رب والرب عبد، كما قال رئيسهم ابن عربي الطائي: والعبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب أنى يكلف رب مالك وعبد هالك وأنتم ذلك، وهذه الطائفة الذين يقولون: إن الذي تكلم إنما هو الله، ومقتضى هذا القول يتمشى مع قول الاتحادية الذين هم أكفر خلق الله والعياذ بالله، رئيسهم ابن عربي الطائي، ولهم مؤلفات الآن تحقق وتطبع طباعة فاخرة في ورق فاخر موجودة في مصر وفي غيرها، وابن عربي رئيس وحدة الوجود، وله مؤلفات تسمى فصوص الحكم، والفتوحات المكية كلها كفر وضلال ومعارضه للقرآن، وسميت فصوص الحكم؛ لأنه يعارض القرآن، وفي فص قصة نوح أتى بخزعبلات وأمور باطلة، يقول: إن نوحاً يظهر بمظهر الله، وفرعون يظهر بمظهر الله وهكذا نعوذ بالله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، كفر وضلال لا يستطيع الإنسان أن يتكلم به، لولا أنه موجود ومكتوب ومسجل ومؤلف ومطبوع، وهناك من يدافع عنهم ويقول: إن هؤلاء أولياء، فهذا القول يتمشى مع هذا القول.
قوله: [وقال آخرون: هو ابن الله].
وهذا قول النصارى قبحهم الله، وهذا من اختلاف الأحزاب في عيسى، منهم من قال: إنه ولد البغي وهذا قول اليهود، ومنهم من قال: إنه ابن الله وهذا قول النصارى، ومنهم من قال إن المتكلم هو الله وهذا قول الاتحادية الذين يقولون بوحدة الوجود.
قال: [وقال آخرون: ثالث ثلاثة].
أيضاً هذا للنصارى، أنهم قالوا: إنه ثالث ثلاثة، قالوا: والآلهة ثلاثة: الله، ومريم، وعيسى، وقد كفرهم الله في قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:73]، ثم عرض عليهم التوبة فقال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74] قال العلماء: التوبة لا يحجب عنها أحد، إذا كان الله تعالى عرض التوبة على المثلثة وذنبهم عظيم؛ فالتوبة معروضة لكل أحد، مقبولة من كل أحد، ومن تاب تاب الله عليه، وذلك إذا تاب قبل أن تصل الروح إلى الحلقوم، وقبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، أما إذا سيقت الروح ووصلت إلى الحلقوم انتهى الأمر، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) وقال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام:158]، جاء في تفسير البعض أنها طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان.
قال: [وقال آخرون: بل هو عبد الله ورسوله].
وهذا هو الحق، وهو قول المسلمين وهذا هو الذي قرره تعالى في كتابه.
قال: [وهذا هو قول الحق الذي أرشد الله إليه المؤمنين، وقد روي نحو هذا عن عمرو بن ميمون وابن جريج وقتادة وغير واحد من السلف والخلف.
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم:34] قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع].
امتروا يعني: شكوا فيه.
قال: [فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية، فقال الثلاثة: كذبت، ثم قال اثنان منهم للثالث: قل أنت فيه، قال: هو ابن الله وهم النسطورية].
كل هذه من طوائف النصارى، فاليعقوبية طائفة من طوائف النصارى والنسطورية كذلك.
قال: [فقال الاثنان: كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه؟ فقال: هو ثالث ثلاثة: الله إله، وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى عليهم لعائن الله، قال الرابع: كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته، وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا، فاقتتلوا فظهروا على المسلمين، وذلك قول الله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:21]، وقال قتادة: وهم الذين قال الله: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم:37]، قال: اختلفوا فيه فصاروا أحزاباً.
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعن عروة بن الزبير عن بعض أهل العلم قريباً من ذلك، وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم].
وقد ذكر هذا أحد ملوكهم من المتأخرين، فعند النصارى اختلاف عظيم في الإنجيل حتى أوصلوها إلى أربعين إنجيلاً، والله تعالى أنزل إنجيلاً واحداً، ثم اختصروها إلى أربعة، وهكذا اجتمعوا مرات عديدة فيختلفون على ستة عشر قولاً، ويتلاعنون حتى جاء قسطنطين هذا وكان له مكانة عندهم وله هيبة وجمعهم.
قال: [فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفاً فاختلفوا في عيسى بن مريم عليه السلام اختلافاً متبايناً جداً، فقالت كل شرذمة فيه شيئاً، فمائة تقول فيه قولاً، وسبعون تقول قولاً آخر، وخمسون تقول فيه شيئاً آخر، ومائة وستون تقول شيئاً، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة وثمانية منهم، اتفقوا على قول وصمموا عليه فمال إليهم الملك، وكان فيلسوفاً فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم، فوضعوا له الأمانة الكبيرة، بل هي الخيانة العظيمة].
أي: ألفوا له كتاباً وسموه الأمانة، واجتمع عليه النصارى فيما بعد، والحافظ يقول: ينبغي أن يسمى خيانة؛ لأنه مختلق ومخالف للإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، لكن لما رأى الملك أن ثلاثمائة وثمانية اتفقوا على هذا الرأي مال إليهم وقال: ضعوا لي كتاباً فوضعوا كتاباً، يتفق عليه النصارى ويحكمون به وسموه الأمانة وهو خيانة؛ لأنه مخالف لكتاب الله.
قال: [فوضعوا له الأمانة الكبيرة، بل هي الخيانة العظيمة، ووضعوا له كتب القوانين وشرعوا له أشياء وابتدعوا بدعاً كثيرة وحرفوا دين المسيح وغيروه، فابتنى حينئذ لهم الكنائس الكبار في مملكته كلها، بلاد الشام والجزيرة والروم فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثني عشر ألف كنيسة].
هذا يدل على أن له قوة وله مكانة وقدرة.
قال: [وبنت أمه هيلانة قمامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي تزعم اليهود والنصارى أنه المسيح، وقد كذبوا بل رفعه الله إلى السماء].
صاروا يعظمون الصليب، وهذا من جهل النصارى، يزعمون أن عيسى قتل وصلب، فهم بذلك يعظمون الصليب؛ لأن عيسى مصلوب عليه، وهذا من جهلهم، يعني: كان المتبادر إلى العقل أن الصليب لا يعظم؛ لكن لأن هذا هو الذي قتل عليه نبيهم وصلب عليه يعظمونه، وهل تعظم الخشبة التي صلب عليها؟ لكن هذا من جهل النصارى وقلة عقولهم، فصاروا يعبدونه فرحاً منهم بصلبه، وهذا من كذبهم، قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] ولكن الله ألقى شبهه على أحد الناس فقتل وصلب، قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157].
فإذا قيل: هل جميع النصارى يعتقدون أن عيسى قتل؟
الجواب
قد لا يقال: كلهم، لكن هذا معروف عند كثير منهم، لكن المؤمنين من آمن به يعلم أن الله رفعه إليه، وكذلك أيضاً يمكن ممن حوله من ألقي عليه الشبه، والمتأخرون يعبدونه لأنهم يعتقدون أنه مصلوب.
ويذكر ابن القيم رحمه الله: أنهم يعتقدون أن عيسى يشنع عليهم، ويزعمون أن إلههم في بطن مريم وأنه حملت به ثم ولد بعد ذلك، ثم عاش مدة ثم قتل وصلب، ثم بعد الصلب بثلاثة أيام صعد إلى السماء، ثم بعد ذلك صار هذا إلههم، وهذا من عقائدهم الفاسدة.
قال المؤلف رح(71/3)
تفسير قوله تعالى: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا)
قال الله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:38 - 40].
يقول تعالى مخبراً عن الكفار يوم القيامة: إنهم يكونون أسمع شيء وأبصره كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]، أي: يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئاً، ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لكان نافعاً لهم ومنقذاً من عذاب الله؛ ولهذا قال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم:38]، أي: ما أسمعهم وأبصرهم {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم:38] يعني: يوم القيامة.
{لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ} [مريم:38] أي: في الدنيا ((فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) أي: لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون، فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون، ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك.
ثم قال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39]، أي: أنذر الخلائق يوم الحسرة ((إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ)) أي: فصل بين أهل الجنة وأهل النار ودخل كل إلى ما صار إليه مخلداً فيه.
((وَهُمْ)) أي: اليوم، ((فِي غَفْلَةٍ)): عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة ((وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)) أي: لا يصدقون به.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون فينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: فيقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون فينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]، وأشار بيده ثم قال: أهل الدنيا في غفلة الدنيا)، هكذا رواه الإمام أحمد، وقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الأعمش به ولفظهما قريب من ذلك].
ففي هذه الآيات الكريمات بيان حال الكفار حقاً، فهم وإن كانوا يسمعون أمور دنياهم، وأسماعهم وأبصارهم سليمة من جهة أمور الدنيا، لكنهم لا يسمعون الحق، ولا يقبلونه، بل هم، كما قال الله تعالى عنهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]؛ ولهذا قال الله سبحانه في الآية الأخرى أنهم قالوا: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة:12]، يعني: تيقنا الآن، لكن ذلك لا يفيدهم، ولهذا قال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:38 - 39] وهو يوم القيامة، إذ يتحسر الكفار على ما عملوا من أعمال سيئة ويودون أن يرجعوا إلى الدنيا، ولكن كما قال الله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]، نسأل الله السلامة والعافية.
وفي هذا الحديث أنه يجاء بالموت على صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار، والموت وإن كان أمراً معنوياً فالله قادر على أن يجعله أمراً حسياً على صورة كبش يذبح.
والذي يذبح هو الموت، وليس ملك الموت كما يظنه بعض الناس، والموت أمر معنوي قلبه الله وجعله أمراً حسياً، كما أن الأعمال يجعلها الله أمراً حسياً توزن وتوضع في كفة، وكما جاء أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان.
وكما جاء أن العمل يأتي الإنسان في قبره، فإن العمل الصالح يأتي على صورة رجل حسن الوجه طيب الريح فلا يزال يؤنسه، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، والكافر والعياذ بالله يأتيه رجل قبيح الوجه منتن الريح قبيح الصورة فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، ولا حول ولا قوة إلى بالله.
وكذلك الموت يجعل على صورة كبش ويعرفه أهل الجنة وأهل النار؛ ولهذا يشرئبون، ويتطلعون وينظرون إليه، فيقال لأهل الجنة: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، ويقال لأهل النار: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، جعل الله في قلوبهم معرفة يعرفونه بها، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، فيزداد أهل الجنة نعيماً إلى نعيمهم ويزداد أهل النار حسرة إلى حسرتهم نسأل الله السلامة والعافية.
ومن صيغ التعجب: ما أسمعهم وما أبصرهم، يعني: أنهم متيقظون وأسماعهم حادة لما يقال لهم ولما ينفعهم في ذلك اليوم لكن لا ينفع، ومن هذا الباب أن آزر والد إبراهيم الخليل يلقى ولده إبراهيم كما في صحيح البخاري فيقول له: اليوم لا أعصيك، وقد كان في الدنيا عاصياً لله، كما أخبر الله تعالى في الآيات: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:42 - 45]، دعاه ولكن أجاب الأب فقال: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:46 - 47] ثم نهي عن الاستغفار، وفي صحيح البخاري: (أنه يلقى آزر إبراهيم يوم القيامة وعلى وجهه قترة، فيقول آزر لإبراهيم: اليوم لا أعصيك)، ولا يفيده ذلك يوم القيامة، فيرق إبراهيم عليه السلام لوالده، فينادي ربه يقول: يا رب وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، وأي خزي أعظم من خزي أبي الأبعد، فلما رق له قيل له: انظر ما تحت قدميك، فيقلب الله صورته فيكون بذيخ وهو ذكر الضبع متلطخ، فيؤخذ بقوائمه ويلقى في النار؛ أي: لما رق له إبراهيم قلب الله صورته وجعله في صورة ذكر الضبع فيلقى في النار وهذا ثابت في صحيح البخاري.
وجاء في الحديث: (ما من أحد يموت إلا ندم، إن كان محسناً ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون نزع).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى هذا الحديث الحسن بن عرفة: حدثني أسباط بن محمد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً مثله، وفي سنن ابن ماجة وغيره من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة بنحوه، وهو في الصحيحين عن ابن عمر.
ورواه ابن جريج قال: قال ابن عباس فذكر من قبله نحوه، ورواه أيضاً عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير يقول في قصصه: يؤتى بالموت كأنه دابة فيذبح والناس ينظرون].
وهذا من قصص عبيد بن عمير، ولكن ما في الصحيح مقدم، ففي الحديث الصحيح أنه في صورة كبش أملح، وليس في صورة دابة.
قال: [وقال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل: حدثنا أبو الزعراء عن عبد الله - هو ابن مسعود - في قصة ذكرها قال: فليس نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار، وهو يوم الحسرة، فيرى أهل النار البيت الذي كان الله قد أعده لهم لو آمنوا، فيقال لهم: لو آمنتم وعملتم صالحاً كان لكم هذا الذي ترونه في الجنة، فتأخذهم الحسرة، قال: ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار، فيقال: لولا أن الله من عليكم! وقال السدي عن زياد عن زر بن حبيش عن ابن مسعود في قوله: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتي بالموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة! هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا فلا يبقى أحد في أهل عليين ولا في أسفل درجة في الجنة إلا نظر إليه، ثم ينادى: يا أهل النار هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا، فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في أسفل درك من جهنم إلا نظر إليه، ثم يذبح بين الجنة والنار، ثم ينادي: يا أهل الجنة هو الخلود أبد الآبدين، ويا أهل النار هو الخلود أبد الآبدين، فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتاً من فرح ماتوا، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتاً من شهقة ماتوا].
لكن(71/4)
تفسير سورة مريم [41 - 53]
إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، وفي قصته مع أبيه وقومه عبرة لأولي الألباب، فقد كان حريصاً على هداية قومه وأبيه، ولكن من جهلهم آذوه وامتنعوا من الاستجابة له، فنصره الله، وعوضه خيراً عنهم.(72/1)
تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إبراهيم فتكون للشيطان ولياً)
قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:41 - 45].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ)) واتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته، ويدعون أنهم على ملته وهو كان صديقاً نبياً مع أبيه كيف نهاه عن عبادة الأصنام، فقال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42] أي: لا ينفعك ولا يدفع عنك ضرراً].
هذا وصف الأصنام: كلها لا تسمع ولا تبصر، فهي لا تسمع من دعاها، ولا تبصر أيضاً من دعاها، ولا تغني عنهم من الله شيئاً، وكذلك المخلوقات كلها، حتى الأحياء منها وإن كان يسمع ويبصر، لكن لا يغني من الله شيئاً، ما يغني إلا العمل الصالح.
قال: [{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] يقول: وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك لأني ولدك، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه، ولا جاءك بعد: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43] أي: طريقاً مستقيماً موصلاً إلى نيل المطلوب والنجاة من المرهوب.
{يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم:44] أي: لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام فإنه هو الداعي إلى ذلك والراضي به كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60] وقال: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء:117].
وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44]، أي: مخالفاً مستكبراً عن طاعة ربه فطرده وأبعده، فلا تتبعه تصر مثله، {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:45]، أي: على شركك وعصيانك لما أمرك به {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45]، يعني: فلا يكون لك مولى ولا ناصراً ولا مغيثاً إلا إبليس، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك، كما قال تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:63]].
وهذه نصائح عظيمة، ولو عمل بها الأب لحصل على خيري الدنيا والآخرة، وهذه النصيحة التي وجهت من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه آزار هي نصيحة لكل كافر، فكل كافر وكل عاص عليه أن يتقي الله وأن يعمل بهذه النصيحة، قال تعالى: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:42 - 45]، هذه نصائح وتوجيهات عظيمة موجهة لكل كافر وكل عاصٍ أيضاً، ومن اتبع هواه لا بد أن يكون قد أطاع الشيطان في ما عصى الله.(72/2)
تفسير قوله تعالى: (قال أراغب أنت عن آلهتي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً)
قال الله تعالى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:46 - 48]،يقول تعالى مخبرًا عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم، فيما دعاه إليه أنه قال: ((أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ)) يعني: إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها، فانته عن سبها وشتمها وعيبها، فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصتُ منك وشتمتك وسببتك، وهو قوله: ((لأرْجُمَنَّكَ)) قاله ابن عباس والسدي وابن جريج والضحاك وغيرهم.
وقوله: ((وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)): قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق: يعني دهرًا.
وقال الحسن البصري: زمانًا طويلا.
وقال السدي: ((وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)) قال: أبدًا.
وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس: ((وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)) قال: سويًّا سالمًا، قبل أن تصيبك مني عقوبة.
وكذا قال الضحاك وقتادة وعطية الجدلي وأبو مالك وغيرهم واختاره ابن جرير.
فعندها قال إبراهيم لأبيه: ((سَلامٌ عَلَيْكَ)) كما قال تعالى في صفة المؤمنين: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] ومعنى قول إبراهيم لأبيه: ((سَلامٌ عَلَيْكَ)) يعني: أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى، وذلك لحرمة الأبوة، ((سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)) أي: ولكن سأسأل الله تعالى فيك أن يهديك ويغفر ذنبك، ((إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)) قال ابن عباس وغيره: لطيفًا، أي: في أن هداني لعبادته والإخلاص له].
يعني: أن الأب قال له: إنه سيسبه إن لم ينته عن آلهته وعن سبها بالرجم يعني: السب وهو الاقتصاص منه ((وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)) يعني: مدة طويلة، فإبراهيم عليه السلام قال لن أقابلك بالمثل، بل قال: ((سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي))، لن أقابلك بالمثل، لن أقابل السب بالسب، ولكني لحرمة الأبوة سأستغفر لك ربي.
وهذا فيه دليل على أنه ينبغي التلطف مع الأب ولو كان كافراً؛ لأن الأب له حق عظيم ويدعى الوالدان الكافران إلى الإسلام ويتلطف معهما ويحسن إليهما في الدنيا، كما قال الله تعالى في الوالدين: ((وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا)) ثم قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15]، يصاحب بالكلام الطيب، ينفق عليه إذا كان محتاجاً إلى النفقة والطعام والكسوة، والإحسان بالقول، ولكن لا يحبه محبةً في دينه ولا يوافقه على الشرك وعلى المعاصي.
فإذا قيل: هل يجوز أن يسكن المسلم مع من يترك الصلاة أو يعمل المعاصي من أقربائه؟ ف
الجواب
يدعوهم إذا كان يستطيع أن يدعوهم ويؤثر عليهم وإلا فعليه أن يزورهم فترات ويدعوهم، أما إذا كان يتأثر أو لا يستطيع أن يدعوهم فلا يسكن معهم لئلا يفتن في دينه، ولكن يحسن إليهم إحساناً دنيوياً، وإذا كان يستطيع أن يدعوهم ويؤثر عليهم فهذا طيب.
قال: [وقال مجاهد وقتادة وغيرهما: ((إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)) قال: وعَوّدَه الإجابة.
وقال السدي: الحفي: الذي يَهْتَم بأمره، وقد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41].
وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام، وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4]، يعني: إلا في هذا القول، فلا تتأسوا به].
والمعنى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4] في البراءة من الكفار والبراءة من معبوداتهم، إلا في استغفاره لأبيه فلا تتأسوا به ولا تقتدوا به، فليس لكم أن تستغفروا للكفار.
وقال تعالى في الآية الأخرى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، المعنى: تأسوا بإبراهيم فهو أسوة لكم في البراءة من الكفار ومن معبوداتهم وإبداء العداوة والبغضاء إلا في الاستغفار لأبيه فلا تقتدوا به ولا تتأسوا به؛ لأنه لا يجوز الاستغفار للكفار، وأما استغفار إبراهيم لأبيه فهذا كما قال الله: كان عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب إلى الإسلام لما حضرته الوفاة وحرص على هدايته، لكن الله لم يقدر له الهداية ومات على الشرك، قال النبي صلى الله عليه وسلم (لأستغفرن لك مالم أنه عنك) فأنزل الله هذه الآية: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].
وثبت في مسند الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم (زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال: إني سألت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، وسألته أن أستغفر لها فلم يأذن لي)؛ لأنها ماتت على دين قومها فمن مات على دين الجاهلية أو مات على الكفر لا يدعى له ولا يتصدق عنه ولا يحج عنه ولا يترحم عليه.
ومن مات من أهل الفترة مات على دين قومه لا يستغفر له والله أعلم، كذلك من قامت عليه الحجة، فأهل الفترة بعضهم قامت عليه الحجة، وبلغتهم دعوة إبراهيم فهذا مثلما جاء في الحديث: (إن أبي وأباك في النار)، ومثل ابن جدعان كان له جفنة كبيرة يطعم بها الحجاج قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل ينفعه ذلك؟ قال: (لا، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) أي: إنه لم يؤمن بالبعث، وظاهر هذا أنه بلغتهم الدعوة، وأما من لم تبلغهم الدعوة فمسكوت عنهم، لكن من مات على الشرك ومات على دين قومه لا يدعى له، ويكون حكمه والله أعلم إن قامت عليه الحجة حكم المشركين، وإن كان لم تقم عليه الحجة فله امتحان يوم القيامة، كما جاء في بعض الأحاديث، فقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وجماعة من أهل العلم إلى أن أهل الفترات من لم تبلغهم الدعوة يمتحنون يوم القيامة ويخرج لهم عنق من النار، فمن أجاب دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، وجاء في هذا أحاديث فيها ضعفة، لكن مجموعها يشد بعضها بعضاً.
قال: [يعني: إلا في هذا القول فلا تتأسوا به، ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك، ورجع عنه، فقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113] إلى قوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114].
وقوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} [مريم:48]، أي: أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله.
((وَأَدْعُو رَبِّي)) أي: وأعبد ربي وحده لا شريك له، {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48]، وعسى هذه موجبة لا محالة، فإنه عليه السلام سيد الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه سلم].(72/3)
تفسير قوله تعالى: (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وجعلنا لهم لسان صدق علياً)
قال الله تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:49 - 50].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله أبدله الله من هو خير منهم، ووهب له إسحاق ويعقوب، يعني ابنه وابن إسحاق].
يعني: ابنه وابن ابنه إسحاق، وهذا الاعتزال إنما كان من بعد الدعوة، بعد أن دعاهم وكرر الدعوة، بدأ وأعاد ورأى أنه لا فائدة من دعواهم حتى وعده أبوه بأن يرجمه إن لم ينته تركهم واعتزلهم، فلما اعتزلهم عوضه الله خيراً منهم ورزقه الله أبناء أنبياء، رزقه إسماعيل وهو نبي من سلالته نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو الأب الثاني وأبو العرب، ورزقه إسحاق وإسحاق نبي، وإسحاق رزق بيعقوب، ويعقوب هو إسرائيل، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من سلالة يعقوب.
قال: [ووهب له إسحاق ويعقوب، يعني ابنه وابن إسحاق كما قال في الآية الأخرى: {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72]، وقال: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71].
ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب، وهو نص القرآن في سورة البقرة: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:133] ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوب، أي: جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء، أقر الله بهم عينه في حياته].
وجعل الله في ذريته النبوة والكتاب، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27] وكل نبي بعث بعد إبراهيم فهو من سلالته، وكل كتاب نزل من السماء بعد إبراهيم فهو على نبي من ذريته، وهذه منقبة عظيمة، وإبراهيم الخليل هو أبو الأنبياء ووالد الحنفاء، وأشرف بيت نسبي على الإطلاق هو بيت إبراهيم عليه السلام، ومن هذا البيت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(72/4)
تفسير قوله تعالى (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً)
قال الله تعالى: {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:49] قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء، أقر الله بهم عينه في حياته، ولهذا قال: {وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:49]، فلو لم يكن يعقوب قد نبئ في حياة إبراهيم لما اقتصر عليه، ولذكر ولده يوسف فإنه نبي أيضاً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته حين سئل عن خير الناس فقال: (يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله)، وفي اللفظ الآخر: (إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)].
هؤلاء أربعة أنبياء في نسق واحد عليهم السلام، فيوسف نبي وأبوه يعقوب نبي وجده إسحاق نبي، ووالد جده إبراهيم نبي أيضاً.(72/5)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا لهم لسان صدق علياً)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:50].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني: الثناء الحسن، وكذا قال السدي ومالك بن أنس].
فمعنى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:50] أي: جعلنا لهم الثناء الحسن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: إنما قال (علياً) لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين].(72/6)
تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب موسى ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً)
قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:51 - 53].
وقال المؤلف رحمه الله: [لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وأثنى عليه عطف بذكر الكليم صلى الله عليه وسلم فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} [مريم:51]، قرأ بعضهم بكسر اللام من الإخلاص في العبادة].
أي: مخِلصاً، وقراءة حفص مخلَصاً.
ومعنى القراءة الأولى أنه أخلص العبادة، والقراءة الثانية بمعنى أن الله أخلصه واصطفاه.
قال المؤلف رحمه الله: [قال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي لبابة قال: قال الحواريون: يا روح الله أخبرنا عن المخلص لله؟ قال: الذي يعمل لله لا يحب أن يحمده الناس.
وقرأ الآخرون بفتحها بمعنى أنه كان مصطفى كما قال تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف:144]، {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:51]، جمع الله له بين الوصفين فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين.
وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} [مريم:52] أي: الجانب ((الأيمن)) من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة فرآها تلوح فقصدها فوجدها في جانب الطور الأيمن منه غربيه عند شاطئ الوادي فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه.
روى ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى هو القطان حدثنا سفيان عن عطاء بن يسار عن سعيد بن جبير].
الصواب أنه عطاء بن السائب كما جاء في التهذيب.
قال المؤلف رحمه الله: [روى ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى هو القطان حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52]، قال: أدني حتى سمع صريف الأقلام.
وهكذا قال مجاهد وأبو العالية وغيرهم: يعنون صريف القلم بكتابة التوراة، وقال السدي: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] قال: أدخل في السماء فكلم وعن مجاهد نحوه.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52]، قال: نجا بصدقه.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الجبار بن عاصم حدثنا محمد بن سلمة الحراني عن أبي واصل عن شهر بن حوشب عن عمرو بن معد يكرب قال: لما قرب الله موسى صلى الله عليه وسلم نجياً بطور سيناء، قال: يا موسى إذا خلقت لك قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً، وزوجة تعين على الخير فلم أخزن عنك من الخير شيئا.
وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53] أي: وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه فجعلناه نبياً].
يعني: كقوله في سورة طه: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه:29 - 31]، فأجاب الله دعاءه وأرسل له هارون.
قال رحمه الله: [وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53] أي: وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه، فجعلناه نبياً، كما قال في الآية الأخرى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:34]، وقال: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، وقال: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء:13].
وقال: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] وقال: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:13 - 14].
ولهذا قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبياً قال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53].
قال ابن جرير: حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53]، قال: كان هارون أكبر من موسى ولكن أراد: وهب له نبوة].
وهب مصدر والفعل منه يهب، ولذلك قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكره ابن أبي حاتم معلقاً عن يعقوب وهو ابن إبراهيم الدورقي به].(72/7)
تفسير سورة مريم [54 - 58]
أثنى الله تعالى في سورة مريم على كثير من الأنبياء ومنهم إسماعيل وموسى وإدريس، وذلك بما ينبغي أن يتصف به المؤمنون اقتداء بأنبياء الله ورسله من العبادة وصدق الوعد والخضوع لله.(73/1)
تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إسماعيل وكان عند ربه مرضياً)
قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54 - 55].
قال المؤلف رحمه الله: [هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان صادق الوعد.
قال ابن جرير: لم يعد ربه عدة إلا أنجزها يعني: ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام بها ووفاها حقها.
وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن سهل بن عقيل حدثه أن إسماعيل النبي عليه الصلاة والسلام وعد رجلاً مكاناً أن يأتيه فيه فجاء ونسي الرجل، فظل به إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وبات حتى جاء الرجل من الغد فقال: ما برحت من ههنا؟ قال: لا، قال: إني نسيت، قال: لم أكن لأبرح حتى تأتيني فلذلك {كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54].
وقال سفيان الثوري: بلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولاً حتى جاءه، وقال ابن شوذب: بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع مسكناً.
وقد رواه أبو داود في سننه وأبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه مكارم الأخلاق من طريق إبراهيم بن طهمان عن عبد الله بن ميسرة عن عبد الكريم].
الصواب عن بديل بن ميسرة وليس عن عبد الله بن ميسرة كما جاء في التهذيب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم يعني: ابن عبد الله بن شقيق عن أبيه عن عبد الله بن أبي الحمساء] قال في التهذيب: عبد الله بن أبي الحمساء العامري له صحبة، فهو صحابي مخضرم، أي عاش في الجاهلية وفي الإسلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فبقيت له علي بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك قال: فنسيت يومي والغد، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك فقال لي: يا فتى! لقد شققت علي! أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك)، لفظ الخرائطي وساق آثاراً حسنة في ذلك].
وهذا من الأخلاق الحميدة التي جبله الله عليها عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، ثم قويت وزادت بعد البعثة، فقد كان صلى الله عليه وسلم صادق الوعد كما كان أبوه إسماعيل متصفاً بذلك.
وهذا الحديث في سنده عبد الكريم بن عبد الله وهو مجهول فهذا الحديث ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله: [ورواه ابن مندة أبو عبد الله في كتاب معرفة الصحابة بإسناده عن إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم به.
وقال بعضهم: إنما قيل له: {صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54] لأنه قال لأبيه: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، فصدق في ذلك، فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أن خلفه من الصفات الذميمة].
من صفات المنافقين خلف الوعد، ولهذا قال النبي: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر)، وفي صحيح مسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) يعني: وزعم أنه مسلم حقاً، هذه المعاصي من صفات النفاق العملي، وصدق الوعد من الصفات الحميدة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان).
ولما كانت هذه صفات المنافقين كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين، ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضاً، لا يعد أحداً شيئاً إلا وفى له به، وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب فقال: (حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي)، (ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتني أنجز له، فجاءه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا -يعني: ملء كفيه- فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابراً فغرف بيديه من المال، ثم أمره بعده فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثليها معها)].
أي: أعطاه ألفاً وخمسمائة درهم، في ثلاث حفنات كل حفنة فيها خمسمائة درهم إنجازاً لعدة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:51] في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق؛ لأنه إنما وصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة.
وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل)، وذكر تمام الحديث فدل على صحة ما قلناه.
وقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55]، هذا أيضاً من الثناء الجميل والصفة الحميدة والخلة السديدة].
الَخلة بمعنى: الخصلة، أما الخُلة فهي نهاية المحبة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حيث كان صابراً على طاعة ربه عز وجل، آمراً بها لأهله، كما قال تعالى لرسوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] الآية، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] أي: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملاً فتأكلهم النار يوم القيامة.
وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء)، أخرجه أبو داود وابن ماجة.
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)، رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة واللفظ له].(73/2)
تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إدريس)
قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:56 - 57]].
إسماعيل وصفه الله بأنه رسول نبي، ووصف إدريس بأنه صديق نبي، فدل على تفضيل إسماعيل على إدريس، عليهما الصلاة والسلام.
وكذلك تفضيل إسماعيل على أخيه إسحاق.
قال المؤلف رحمه الله: [ذكر إدريس عليه الصلاة والسلام بالثناء عليه؛ بأنه كان صديقاً نبياً، وأن الله رفعه مكاناً علياً.
وقد تقدم في الصحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة).
وقد روى ابن جرير ههنا أثراً غريباً عجيباً فقال: حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن سليمان الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال: سأل ابن عباس رضي الله عنهما كعباً وأنا حاضر، فقال له: ما قول الله عز وجل لإدريس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]، فقال كعب: أما إدريس فإن الله أوحى إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم، فأحب أن يزداد عملاً فأتاه خليل له من الملائكة فقال له: إن الله أوحى إلي كذا وكذا، فكلم لي ملك الموت فليؤخرني حتى أزداد عملاً، فحمله بين جناحيه حتى صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم ملك الموت منحدراً، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس فقال: وأين إدريس؟ قال: هو ذا على ظهري، قال ملك الموت: العجب بعثت وقيل لي: اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض؟ فقبض روحه هناك، فذلك قول الله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]، هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات وفي بعضه نكارة والله أعلم].
وهذا من أخبار بني إسرائيل، وكعب يخبر كثيراً عن بني إسرائيل وهو ممن أسلم من التابعين ويأخذ عن بني إسرائيل كثيراً، ولا يعتمد على مثل هذا.
ولكن ظاهر قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]، المراد به المكانة الرفعية، أو الرفعة المعنوية، وأن له مكانة ومنزلة عند الله عز وجل، هذا هو ظاهر الآية.
أما كونه قبض في السماء الرابعة كما قاله كعب الأحبار، ولا يعتمد على هذا إلا بخبر صحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال الحافظ إن ابن جرير روى أثراً عجيباً غريباً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سأل كعباً فذكر نحو ما تقدم غير أنه قال لذلك الملك: هل لك أن تسأله -يعني: ملك الموت- كم بقي من أجلي لكي أزداد من العمل، وذكر باقيه، وفيه: أنه لما سأله عما بقي من أجله قال: لا أدري حتى أنظر، فنظر ثم قال: إنك تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين، فنظر الملك تحت جناحه فإذا هو قد قبض عليه الصلاة والسلام، وهو لا يشعر به.
ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن إدريس صلى الله عليه وسلم كان خياطاً، فكان لا يغرز إبرة إلا قال: سبحان الله، فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل عملاً منه، وذكر بقيته كالذي قبله أو نحوه.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] قال: إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى.
وقال سفيان عن منصور عن مجاهد: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] قال: السماء الرابعة.
وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] قال: رفع إلى السماء السادسة فمات بها، وهكذا قال الضحاك بن مزاحم.
وقال الحسن وغيره في قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] قال: الجنة].
الأقرب أن معنى قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] أي: رفعناه مكاناً عليا في الجنة، أما هذه الآثار عن كعب فلا يعتمد عليها.
أما داود عليه السلام فهو الذي زاده آدم من عمره.(73/3)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين)(73/4)
النبيون الذين أنعم الله عليهم
قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: (هؤلاء النبيون)، وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط، بل جنس الأنبياء عليهم السلام، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم:58] الآية.
قال السدي وابن جرير رحمه الله: فالذي عني به من ذرية آدم إدريس، والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح إبراهيم، والذي عنى به من ذرية إبراهيم إسحاق ويعقوب وإسماعيل والذي عنى به من ذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم.
قال ابن جرير: ولذلك فرق أنسابهم، وإن كان يجمع جميعهم آدم].
قوله: الذي عنى به من ذرية آدم إدريس هذا على القول بأن إدريس قبل نوح عليه السلام وأنه جده.
والقول الثاني: أن إدريس من أنبياء بني إسرائيل، وعلى هذا يكون ممن جاء بعد موسى عليه الصلاة والسلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس فإنه جد نوح].
وهذا على أحد القولين كما تقدم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(قلت) هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما السلام].
وهذا اختيار البخاري رحمه الله، أن إدريس هو جد نوح، وقد ذكره في الصحيح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذاً من حديث الإسراء].
وهذا هو القول الثاني.
أما حديث الإسراء فدل على أنه من بني إسرائيل؛ لأنه رحب بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، فلو كان من عمود النسب، لقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، ولهذا فإن إبراهيم عليه السلام قال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، وكذلك آدم عليه السلام حيث قال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح؛ لأنه في سلسلة النسب.
فدل على أن إدريس أخو النبي صلى الله عليه وسلم مثل موسى وعيسى ويوسف، فإنهم كلهم قالوا: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، وهذا دليل على أنهم من أنبياء بني إسرائيل، وأن إدريس عليه السلام ليس في سلسلة عمود النسب.
وبعض العلماء كالحافظ ابن كثير وابن جرير والبخاري اختاروا أنه جد نوح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذاً من حديث الإسراء حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم: (مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح)، ولم يقل: والولد الصالح، كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا يونس قال: أنبأنا ابن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن عمر أن إدريس أقدم من نوح].
في حاشية نسخة الأزهر: عبد الله بن محمد، وفي نسخة الحرم.
عبد الله بن عمر.
وهذا الحديث ضعيف لأن في إسناده ابن لهيعة وفيه أيضاً يزيد بن أبي حبيب وهو مدلس، وهذا الحديث موقوف على عبد الله بن محمد أو عبد الله بن عمر.
وفي النسخة الثالثة عن عبد الله بن عمرو، فإنه كان يحدث كثيراً عن أهل الكتاب.
قال المؤلف رحمه الله: [أن أدريس أقدم من نوح، فبعثه الله إلى قومه، فأمرهم أن يقولوا لا إله إلا الله، ويعملوا ما شاءوا فأبوا، فأهلكهم الله عز وجل].
يزيد بن أبي حبيب المصري أبو رجاء واسم أبيه سويد، واختلف في ولائه، وكان ثقة فقيه، وكان يرسل من الخامسة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنس الأنبياء أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:84 - 87]، إلى أن قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام:90].
وقال سبحانه وتعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]، وفي صحيح البخاري عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أفي (ص) سجدة؟ فقال: نعم، ثم تلا هذه الآية: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فنبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم، قال: وهو منهم.
يعني داود.
وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58] أي: إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعاً واستكانةً حمداً وشكراً على ما هم فيه من النعم العظيمة، والبكي: جمع باك، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم، واتباعاً لمنوالهم].(73/5)
عدد سجدات القرآن
هذه السجدة متفق عليها ولا شك، وسجود التلاوة مستحب وليس واجباً، واختلف العلماء في عدد سجدات القرآن، فمنهم من قال: إنها أربع عشرة، ومنهم من قال: إنها خمس عشرة سجدة، واختلفوا في سجدات المفصل، وكذلك السجدة الثانية في سورة الحج.
والأقرب أنها خمس عشرة سجدة ومنها السجدة التي في (ص) والصواب أن سجدة (ص) مستحبة كما ثبت في البخاري عن ابن عباس (أن سجدة (ص) ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة مريم فسجد، وقال: هذا السجود فأين البكي؟ يريد البكاء].
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وسقط من روايته ذكر أبي معمر فيما رأيت فالله أعلم].
أبو معمر سقط من رواية ابن جرير وهو موجود في رواية ابن أبي حاتم ورواية ابن جرير هي: قال ابن أبي حاتم: حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر.
وسفيان عن الأعمش هو سفيان الثوري.(73/6)
درجات ومراتب الذين أنعم الله عليهم
وهذه الآية فيها أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم في الدرجة الأولى ويدخلون في مقدمة من أنعم الله عليهم دخولاً أولياً، وهو قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، فهم الذين أنعم الله عليهم بالعلم والعمل، وأعطاهم الله تعالى الحكمة والنبوة، ووفقهم إلى العمل لهداية الناس وتبصيرهم وتبليغ الشريعة التي أنزلها الله عليهم.
وأتباعهم من الصديقين والشهداء والصالحين هم ممن أنعم الله عليهم وهم في درجات بعد درجة الأنبياء، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69]، فهؤلاء أربع درجات: النبيون في الدرجة الأولى، ولهذا قال سبحانه في الآية السابقة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم:58]، ثم الصديقون في الدرجة الثانية بعد درجة الأنبياء، ثم الشهداء، ثم الصالحون على اختلاف منازلهم ومراتبهم.
والصالحون طبقات أعلاهم: السابقون المقربون، ثم أصحاب اليمين، ثم بعد ذلك الظالمون لأنفسهم الذين أنعم الله عليهم بالإيمان والتوحيد؛ لكن عندهم نقص وضعف حين ارتكبوا بعض المعاصي أو قصروا في الواجبات.(73/7)
تفسير سورة مريم [59 - 60]
ذكر الله تعالى حزب السعداء من النبيين والصديقين والشهداء، ثم ذكر خلوف الأشقياء الذين يضيعون الصلاة ولا يؤتون الزكاة، وبين عاقبتهم.(74/1)
تفسير قوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة)(74/2)
حكم تارك الصلاة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:59 - 60].
لما ذكر تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره، المؤدين فرائض الله التاركين لزواجره، ذكر أنه {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم:59] أي: قرون أخر، {أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59]، وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء {يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] أي: خساراً يوم القيامة.
وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة ههنا، فقال قائلون: المراد بإضاعتها تركها بالكلية، قاله محمد بن كعب القرظي وابن زيد بن أسلم والسدي واختاره ابن جرير.
ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو المشهور عن الإمام أحمد، وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة للحديث: (بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة)، والحديث الآخر: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) وليس هذا محل بسط هذه المسألة].
الحديث الأول: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) رواه الإمام مسلم من حديث جابر، وهو حديث بريدة بن الحصيب: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) رواه الإمام أحمد وأهل السنن بسند جيد، ومن جحد وجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين، أما إذا أقر بوجوبها ثم تركها كسلاً أو تهاوناً فهذا محل الخلاف.
والصواب أنه يكفر، وهذا الذي عليه الأئمة كما ذكر المؤلف رحمه الله وهو إجماع الصحابة، كما نقل عبد الله بن شقيق العقيلي الصحابي الجليل إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة، ونقل ابن حزم وإسحاق بن راهويه الإجماع على كفر تارك الصلاة كسلاً أو تهاوناً.
ومن الأدلة على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري: (من ترك صلاة العصر حبط عمله) فمن ترك صلاة العصر بالكلية حتى خرج وقتها ولو فرضاً واحداً على القول الصحيح فقد حبط عمله، والذي يحبط عمله هو الكافر.
وقال آخرون من أهل العلم: لا يكفر إلا إذا ترك جميع الصلوات، أما إذا كان يصلي في بعض الأحيان ويترك في البعض الآخر، فهذا كفره كفر أصغر.
والصواب أنه يكفر بترك صلاة واحدة، إذا تركها متعمداً حتى خرج وقتها لا جاهلاً ولا ناسياً ولا متأولاً ولا نائماً نوماً يعذر فيه.(74/3)
معنى إضاعة الصلاة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الأوزاعي: عن موسى بن سليمان عن القاسم بن مخيمرة في قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59]، قال: إنما أضاعوا المواقيت، ولو كان تركاً كان كفراً.
وقال وكيع عن المسعودي].
المسعودي مختلف في صحة حديثه، فهذا الأثر ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال وكيع: عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن والحسن بن سعد عن ابن مسعود أنه قيل له: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5] و {عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23] و {عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام:92].
قال ابن مسعود: على مواقيتها، قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا على الترك، قال ذاك الكفر].
أي: أن تارك الصلاة كافر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مسروق: لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين، وفي إفراطهن الهلكة، وإفراطهن: إضاعتهن عن وقتهن.
وقال الأوزاعي عن إبراهيم بن يزيد: أن عمر بن عبد العزيز قرأ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، ثم قال: لم تكن إضاعتهم تركها، ولكن أضاعوا الوقت.(74/4)
معنى قوله تعالى: (واتبعوا الشهوات)
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59]، قال: عند قيام الساعة، وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ينزو بعضهم على بعض في الأزقة].
الأزقة هي: الأسواق، والمراد بقوله: عند قيام الساعة أي: عند قرب قيام الساعة، ويشير إلى ما ورد في الحديث أنه في آخر الزمان وفي قرب قيام الساعة تأتي ريح طيبة وباردة من جهة اليمن فتقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، حتى لو كان المؤمن في كبد جبل لدخلت إليه حتى تقبضه، فلا يبقى على وجه الأرض إلا الكفرة، فيتناكحون في الأسواق وفي الشوارع مثل الحيوانات، فعليهم تقوم الساعة، فهؤلاء لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً ولا يعرفون التوحيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله).
وهذا في آخر الزمان بعد علامات الساعة الكبرى، فيتمثل لهم الشيطان فيأمرهم بعبادة الأصنام والأوثان، وهم بذلك على أحسن حال في رزقهم وعيشهم فعليهم تقوم الساعة وهم يعملون، فلهم عقول لكن لا ينتفعون بها، ولهم آذان يسمعون بها في أمور دنياهم، ويبيعون ويشترون ويأكلون ويشربون ويغرسون، فتقوم الساعة وأحدهم يغرس الفسيلة قبل أن ينتهي من غرسها، وكذلك يرفع اللقمة فلا تصل إلى فمه حتى تقوم عليه الساعة، وتقوم الساعة والرجل يلوط الحوض لإبله، وتقوم الساعة والرجلان يتمادان في بيع القماش.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا روى ابن جريج عن مجاهد مثله، وروى جابر الجعفي عن مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح أنهم من هذه الأمة.
يعنون في آخر الزمان.
وقال ابن جرير: حدثني الحارث قال: حدثنا الحسن الأشيب قال: حدثنا شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59] قال: هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق، لا يخافون الله في السماء، ولا يستحيون الناس في الأرض].
جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي أبو عبد الله الكوفي ضعيف رافضي مدلس من الخامسة، فهو ضعيف في الحفظ ورافضي في العقيدة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال: حدثنا حيوة حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولاني أن الوليد بن قيس حدثه: أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيًّا)].
الخلْف بإسكان اللام هو العقب الفاسد، وبالفتح هو العقب الصالح، فعلى المعنى الأول قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59]، وكذلك قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169].
وعلى المعنى الثاني يقال: هؤلاء خير خلف لخير سلف، أي: هؤلاء صالحون يتبعون السلف الصالح.
قال: [(ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر).
قال بشير: قلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ قال: المؤمن مؤمن به، والمنافق كافر به، والفاجر يأكل به، وهكذا رواه أحمد عن أبي عبد الرحمن المقرئ به.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن موسى أنبأنا عيسى بن يونس حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب عن مالك عن أبي الرجال (أن عائشة كانت ترسل بالشيء صدقة لأهل الصفة، وتقول: لا تعطوا منه بربرياً ولا بربرية، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هم الخلف الذين قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59])، هذا حديث غريب].
وعبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب ليس بالقوي، فيه غرابة ونكارة.
وأهل الصفة هم فقراء الصحابة كانوا يسكنون زاوية في المسجد.
وأبو الرجال هو: أبو محمد بن عبد الرحمن بن حارثة البخاري.
وفي قوله: (هذا حديث غريب) قال: ورواه الحاكم في المستدرك من طريق الحسن بن علي عن إبراهيم بن موسى به، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: عبيد الله مختلف في توثيقه، ومالك لا أعرفه ثم هو منقطع].
فهذا الحديث ضعيف لأنه منقطع، ومالك هذا يقول عنه الذهبي أنه لا يعرفه.
والحديث فيه نكارة وغرابة وهو أنها تبعث الصدقة لأهل الصفة، وتقول: لا تعطوا منه بربرياً ولا بربرية، لأن أهل الصفة ليس فيهم بربري ولا بربرية، ولو فرضنا أنهم فيهم فيكون مسلمين في المدينة، ولا يمكن أن يكونوا مع أهل الصفة وهم كفار.
ومن وجوه الغرابة فيه قصر إضاعة الصلاة على جنس بعينه، وليس في الكتاب ولا في السنة الصحيحة دليل على ذلك.
فكل من أضاع الصلاة واتبع الشهوات سواء كان من البربر أو من غيرهم، فإنه من الذين قال الله فيهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59].
فلا يثبت هذا الأثر لانقطاعه، وضعف عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب كما قال الذهبي رحمه الله، ولأن في متنه غرابة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً، قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرحمن بن الضحاك قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا حريز عن شيخ من أهل المدينة أنه سمع محمد بن كعب القرظي يقول في قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم:59] الآية، قال: هم أهل الغرب يملكون وهم شر من ملك].
وهذا الحديث غريب وفيه مجهول، وهو قوله: عن شيخ من أهل المدينة.
وفي هذه النسخة: حدثنا حريز، وفي نسخة أخرى: حدثنا ابن جرير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال كعب الأحبار: والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل: شرابين للقهوات تاركين للصلوات، لعابين بالكعبات رقادين عن العتمات مفرطين في الغدوات تراكين للجماعات قال: ثم تلا هذه الآية: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]].
المراد بالقهوات جمع قهوة وهي الخمر، لأنهم يشربونها شيئاً بعد شيء.
وقوله: تراكين للصلوات، وفي نسخة تاركين، فتراكين صيغة مبالغة.
والكعبات هي من أنواع الميسر والقمار ويوجد في هذا الزمان أنواع من الكعبات.
فقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59]، أي: شربوا الخمر ولعبوا الميسر.
والعتمات جمع عتمة وهي صلاة العشاء، فكانوا يرقدون عنها، والغدوات جمع غداة وهي صلاة الفجر.
فهؤلاء جمعوا شروراً كثيرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الحسن البصري: عطلوا المساجد ولزموا الضيعات].
الضيعات هي الأموال والمزارع، فكانوا يشتغلون فيها ويضيعون الصلوات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو الأشهب العطاردي: أوحى الله تعالى إلى داود: يا داود! حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة، وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته عليَّ أن أحرمه طاعتي].
هذا من أخبار بني إسرائيل، والراوي أبو أشهب العطاردي وبينه وبين داود عليه السلام دهور، وهذا الأثر قد يكون معناه صحيحاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب قال: حدثنا أبو السمح التميمي].
وأبو السمح هو دراج بتثقيل الراء وآخره جيم ابن سمعان أبو السمح بمهملتين الأولى مفتوحة والميم ساكنة، قيل اسمه عبد الرحمن ودراج لقب، السهمي مولاهم المصري القاص صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف.
فإذا روى عن أبي الهيثم يكون ضعيفاً وهو صدوق، إذا روى عن غيره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن أبي قبيل أنه سمع عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني أخاف على أمتي اثنتين: القرآن واللبن، أما اللبن فيتبعون الريف ويتبعون الشهوات ويتركون الصلوات، وأما القرآن فيتعلمه المنافقون فيجادلون به المؤمنين)].
ومعنى الحديث أنهم يتبعون الشهوات في الدنيا، فيربون الأغنام والأبقار والإبل ويظهرون ويتوسعون في هذا ويتركون الصلوات.
وأبو قبيل هو حيي بن هانئ بن ناضر بنون ومعجمة أبو قبيل بفتح القاف وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة المعافري البصري صدوق يهم من الثالثة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه عن حسن بن موسى عن ابن له(74/5)
معنى قوله تعالى: (فسوف يلقون غياً)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] أي: خسراناً، وقال قتادة: شراً.
وقال سفيان الثوري وشعبة ومحمد بن إسحاق عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، قال: واد في جهنم بعيد القعر، خبيث الطعم].
وهذا الأثر عن عبد الله بن مسعود ضعيف لأنه منقطع، فـ أبو عبيدة لم يسمع من أبيه عبد الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الأعمش: عن زياد عن أبي عياض في قوله: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، قال: واد في جهنم من قيح ودم.
وقال الإمام أبو جعفر ابن جرير: حدثني عباس بن أبي طالب حدثنا محمد بن زياد حدثنا شرقي بن قطامي عن لقمان بن عامر الخزاعي قال: جئت أبا أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه فقلت: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بطعام ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفاً، ثم تنتهي إلى غي وآثام قال: قلت ما غي وآثام؟ قال: بئران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللذان ذكرهما الله في كتابه، {أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]) وقوله في الفرقان: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68]، هذا حديث غريب ورفعه منكر].
أبو الزرقاء هو شرقي بن سباط.
وابن زياد كما في تفسير الطبري هو محمد بن زياد بن زبار.
هذا الحديث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم منكر كما ذكر الحافظ رحمه الله تعالى، لكن قوله: إن قعرها خمسون خريفاً، فهذا موافق لما ثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سمع وجبة، يعني: صوتاً، فقال: (هذا حجر قذف به في جهنم منذ سبعين خريفاً أو أربعين خريفاً حتى بلغ قعرها) فالحديث السابق يحتاج إلى أن يراجع سنده لمعرفة رواته واتصال السند.
والغي هو الخسار والهلاك.(74/6)
تفسير قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم:60] أي: إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات، فإن الله يقبل توبته ويحسن عاقبته ويجعله من ورثة جنة النعيم، ولهذا قال: {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:60]؛ وذلك لأن التوبة تجب ما قبلها.
وفي الحديث الآخر: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)].
من فضل الله تعالى وإحسانه أن التوبة من جميع الذنوب والمعاصي تجب ما قبلها، إذا كانت توبة نصوحاً قبل بلوغ الروح الحلقوم وقبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، بأن تكون توبة بإخلاص وصدق وإقلاع عن الذنب وندم وعزم صادق، ورد المظلمة إلى أهلها إن كانت بينه وبين الناس قبل الله توبته.
قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] وقد أجمع العلماء على أنه هذه الآية في التائبين، وأن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب.
بخلاف آية النساء قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فهذه الآية في غير التائبين؛ لأنه خصص وعلق، خص الشرك بأنه لا يغفره، وعلق ما دونه على المشيئة، وقد عرض الله التوبة على المثلثة الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، ثم قال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74]، وكذلك عرضها على المنافقين، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [النساء:145 - 146].
فالتوبة مقبولة ممن تاب إلى الله تعالى توبة نصوحاً إذا وجدت شروطها وكانت في وقت الإمكان، وأتبع التوبة بالإيمان والعمل الصالح، فإن الله يبدل سيئاته حسنات، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] وهذا فضل من الله تعالى وإحسان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئاً، ولا قوبلوا بما عملوه قبلها، فينقص لهم مما عملوه بعدها؛ لأن ذلك ذهب هدراً وترك نسياً وذهب مجاناً من كرم الكريم وحلم الحليم].
قوله: لأن ذلك ذهب هدراً يعني: أن السيئة محيت ولا يقابل بشيء من الأعمال ولا يسقط شيء من الحسنات.
قال: [لأن ذلك ذهب هدراً وترك نسياً وذهب مجاناً من كرم الكريم وحلم الحليم، وهذا الاستثناء هاهنا كقوله في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:68] إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70].(74/7)
تفسير سورة مريم [61 - 65]
وعد الله تعالى عباده المؤمنين بالجنة، ووعدهم فيها بالنعيم المقيم، وحينئذ يندم الكفار والمنافقون.(75/1)
تفسير قوله تعالى: (جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب)
يقول تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:61 - 63].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: يقول تعالى: الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم هي جنات عدن، أي: جنات الإقامة التي وعد الرحمن عباده بظهر الغيب.
أي هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه، وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم:61] تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله كقوله: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} [المزمل:18] أي: كائناً لا محالة.
وقوله ههنا {مَأْتِيًّا} [مريم:61] أي: العباد صائرون إليه وسيأتونه.
ومنهم من قال {مَأْتِيًّا} [مريم:61] بمعنى آتياً؛ لأن كل ما أتاك فقد أتيته كما تقول العرب: أتت علي خمسون سنة، وأتيت على خمسين سنة، كلاهما بمعنى واحد.
وقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [مريم:62] أي هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له كما قد يوجد في الدنيا.
وقوله: {إِلَّا سَلامًا} [مريم:62] استثناء منقطع كقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26]].
استثناء منقطع؛ لأنه مستثنى من غير مستثنى منه، ويمثل النحاة لهذا مثل قولهم: قام القوم إلا حماراً، وقام الرجال إلا حماراً، هذا يسمى استثناءً منقطعاً، لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه.
وقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا} [مريم:62] السلام غير اللغو والاستثناء المنقطع بمعنى: (لكن)، أي: لا يسمعون فيها لغواً لكن يسمعون سلاماً.
قال: [وقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] أي: في مثل وقت البكرات ووقت العشيات، لا أن هناك ليلاً ونهاراً، ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار].
قوله: يعني {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] يعني: بمقدار وقت البكرة وبمقدار وقت العشي؛ لأن الجنة ليس فيها ليل ولا نهار، بل نهار مطرد، ولكن يعرفون مقدار البكرة والعشي بأنوار تظهر لهم تحت العرش تكون بمقدار وقت البكرة ومقدار وقت العشي.
فقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] يعني: بمقدار وقت أول النهار وآخر النهار، يعرفون ذلك بأنوار تحت العرش، وإلا فليس في الجنة ليل بل نهار مطرد.
قال: [كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يتمخطون فيها ولايتغوطون، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض)].
نسأل الله أن يجعلنا منهم، هؤلاء أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، أي: ليلة أربع عشرة أو خمس عشرة، لا يبولون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يموتون ولا يمرضون ولا يسقمون وليس عندهم هموم ولا أحزان، صحة دائمة وشباب دائم، وطهارة دائمة، وسعة صدر دائم، نزع الغل من نفوسهم بعدما اقتص بعضهم من بعض قبل دخول الجنة، قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
لكل واحد منهم زوجتان، يعني: هذا عام لكل واحد، وليس في الجنة أعزب، ولكل واحد منهم زوجتان، يعني: سوى زوجته في الدنيا، فقد يكون الإنسان له زوجات كثيرة، لكن هذا بالنسبة للعموم كل واحد مهما كانت درجته له زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الصفاء، ويرى وجهه في صدرها كالمرآة، ويرى مخ ساقها من وراء الثياب.
قال: [قال: (قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا)].
نسأل الله الكريم من فضله، يسبحون الله بكرة وعشياً، يعني: بمقدار البكرة والعشي، وهذا التسبيح ليس تكليفاً وإنما هو نعيم يتنعمون به، يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفس، وكما أن الإنسان يتنفس ويتلذذ بالتنفس وهو راحة له، فكذلك أهل الجنة نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس:10] فالجنة ليس فيها تكليف، لكن هذا نعيم يتنعمون به.
قال: [أخرجاه في الصحيحين من حديث معمر به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد الأنصاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء على بارق -نهر بباب الجنة- في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً) تفرد به أحمد من هذا الوجه].
وهذا يعني: قبل القيامة، وفي الحديث الآخر: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة ترد أنهارها وتأكل من ثمارها) وذلك لما بذل الشهداء أجسادهم لله فقتلوا في سبيل الله، عوض الله أرواحهم أجساداً يتنعمون بواسطتها، جعلت في حواصل طير خضر.
فالمؤمن إذا مات بقيت روحه في الجنة تتنعم، وروح الكافر تنقل وتقذف في النار، والجسد جرى له ما قدر له، والروح لها صلة بالجسد، فالشهداء تتنعم أرواحهم في الجنة بواسطة طير خضر؛ لأنهم بذلوا أجسادهم لله وأبلوها في سبيله، فعوضهم الله أجساداً أخرى تتنعم بواسطتها وهي حواصل طير خضر.
أما المؤمن غير الشهيد فإن روحه تتنعم وحدها مفردة فتأخذ شكل طائر كما في الحديث: (نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة، يأكل من أشجارها حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) (نسمة المؤمن) يعني: روح المؤمن، طائر: على شكل طائر، (يعلق): يأكل في الجنة، (حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه).
هذا المؤمن غير الشهيد، أما الشهيد فإن روحه تتنعم بواسطة طير خضر (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة ترد أنهارها وتأكل من ثمارها حتى يبعث الله أجسادهم وهم على النهر).
قال: [وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] قال: مقادير الليل والنهار.
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت زهير بن محمد عن قول الله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] قال: ليس في الجنة ليل، هم في نور أبداً، ولهم مقدار الليل والنهار يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وبفتح الأبواب.
وبهذا الإسناد عن الوليد بن مسلم عن خليد عن الحسن البصري وذكر أبواب الجنة فقال: أبواب يرى ظاهرها من باطنها فتكلم وتكلم فتفهم انفتحي انغلقي فتفعل].
يعني: يكلمونها في الجنة فتجيب.
قال: [وقال قتادة في قوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] فيها ساعتان بكرة وعشي، ليس ثم ليل ولا نهار وإنما هو ضوء ونور.
وقال مجاهد: ليس بكرة ولا عشي ولكن يأتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا.
وقال الحسن وقتادة وغيرهما: كانت العرب الأنعم فيهم من يتغدى ويتعشى، فنزل القرآن على ما في أنفسهم من النعيم فقال تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62].
وقال ابن مهدي عن حماد بن زيد عن هشام عن الحسن: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] قال: البكور يرد على العشي والعشي يرد على البكور، ليس فيها ليل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا سليمان بن منصور بن عمار حدثني أبي حدثني محمد بن زياد قاضي أهل شماط عن عبد الله بن حدير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من غداة من غدوات الجنة وكل الجنة غدوات، إلا أنه يزف إلى ولي الله فيها زوجة من الحور العين أدناهن التي خلقت من الزعفران) قال أبو محمد: هذا حديث غريب منكر].
فيه منصور بن عمار، قال في الجرح والتعديل: ليس بالقوي صاحب هوى.
وفيه نكارة من جهة المتن، كل غدوة تزف إلى الإنسان زوجة من الحور العين، والغدوات كثيرة إلى ما لا نهاية، وإن كان فضل الله واسعاً، لكن هذا يحتاج إلى ثبوت بالدليل الصحيح.
وغُدوة بالضم كالُبكرة أي: ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، والغداة: تجمع على غدوات وغديات وغدايا وعشي، أي: لا يقال: غدايا إلا مع عشايا، وغدا عليه غدواً وغُدوة بالضم.
قال: [وقوله: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُور(75/2)
تفسير قوله تعالى: (وما نتنزل إلا بأمر ربك)
يقول تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:64 - 65].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى ووكيع قالا: حدثنا عمر بن بر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرائيل: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ قال: فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64] إلى آخر الآية).
انفرد بإخراجه البخاري رحمه الله فرواه عند تفسير هذه الآية عن أبي نعيم عن عمر بن بر به.
ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن عمر به، وعندهما زيادة في آخر الحديث: (فكان ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم).
وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما (احتبس جبرائيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحزن، فأتاه جبرائيل وقال: يا محمد! {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64] الآية).
وقال مجاهد: لبث جبرائيل عن محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة، ويقولون: أقلي؟] استفهام يعني: أأبغض؟! قال تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] يعني: وما أبغضك ويقولون: أقلي؟ أي: هل كان تأخر هذه المدة لأنه أبغض؟ يعني: هل تأخره لهوان النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64] فالتنزل إنما هو بأمر الله، وجواب هذا: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] يعني: ما أبغضك.
وسبب نزول الآية: {وَالضُّحَى} [الضحى:1] {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] أنه لما لبث الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم جاءت امرأة مشركة وقالت: ما أرى شيطانك يا محمد إلا قلاك أو أبغضك، فنزلت: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3].
قال: [وقال مجاهد: لبث جبرائيل عن محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة، ويقولون: أقلي فلما جاءه قال: يا جبرائيل! لقد رثت علي].
قوله: (لقد رثت) أي: تأخرت، راث يريث أي: تأخر.
قال: [قال: يا جبرائيل! لقد رثت علي حتى ظن المشركون كل ظن، فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64] الآية.
وهذه الآية كالتي في الضحى، وكذلك قال الضحاك بن مزاحم وقتادة والسدي وغير واحد أنها نزلت في احتباس جبرائيل.
وقال الحكم بن أبان عن عكرمة قال: أبطأ جبرائيل النزول على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً، ثم نزل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما نزلت حتى اشتقت إليك.
فقال له جبريل: بل أنا كنت إليك أشوق ولكني مأمور، فأوحى الله إلى جبرائيل أن قل له: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64] رواه ابن أبي حاتم رحمه الله وهو غريب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مجاهد قال: (أبطأت الرسل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتاه جبريل فقال له: ما حبسك يا جبريل؟ فقال له جبريل: وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم، ولا تنقون براجمكم)].
والبراجم: مفاصل الأصابع، وهي من الفطرة؛ لأنه جاء في الحديث (عشر من الفطرة) وذكر منها غسل البراجم، أي: مفاصل الأصابع.
وتنقون يعني: تنظفون البراجم؛ لأن تنظيفها من الفطرة: (غسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الشارب، وقص الأظفار) كل هذه من الفطرة.
قال: [فقال له جبريل: (وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تنقون براجمكم ولا تأخذون شواربكم ولا تستاكون، ثم قرأ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64])].
وقد قال الطبراني رحمه الله: حدثنا أبو عامر النحوي محمد بن إبراهيم الصوري حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا إسماعيل بن عياش أخبرني ثعلبة بن مسلم عن أبي كعب مولى ابن عباس رضي الله عنهما عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن جبرائيل أبطأ عليه فذكر له ذلك، فقال: وكيف أنتم لا تستنون ولا تقلمون أظافركم، ولا تقصون شواربكم، ولا تنقون براجمكم) وهكذا رواه الإمام أحمد].
إذاً لابد من النظافة لمقابلة الملائكة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على الرائحة الطيبة ويكره الرائحة الكريهة، وفي بعض المرات امتنع من أكل بعض الخضروات التي لها رائحة كالكراث وغيره فامتنع أحد الصحابة فقال: (كل، فإني أناجي من لا تناجي)، يعني: أنا أناجي جبرائيل والملائكة، وهم يتأذون بالرائحة الكريهة كما يتأذى ابن آدم، ولهذا قال العلماء: إنه لا يدخل المسجد من أكل ما له رائحة كريهة ولو لم يكن فيه آدمي واحد لتأذي الملائكة بذلك، ولهذا قال له: (كل فإني أناجي من لا تناجي) فلا يأكل الشيء الذي فيه رائحة كريهة.
وكان يحب الرائحة الطيبة عليه الصلاة والسلام، ولهذا الملائكة عليهم الصلاة والسلام يحبون الرائحة الطيبة والنظافة، قالوا: (كيف نأنتيكم وأنتم لا تستنون -تستاكون- ولا تقصون أظفاركم، ولا تنقون براجمكم) وهذه كلها من الفطرة، وكلها من النظافة؛ لأن الملائكة تحب النظافة، وتحب الرائحة الطيبة.
والرواجب هي البراجم، يقال لها: رواجب وبراجم، وهي عقد الأصابع.
قال: [وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي اليمان عن إسماعيل بن عياش عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سيار حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا المغيرة بن حبيب -ختن مالك بن دينار - حدثني شيخ من أهل المدينة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصلحي لنا المجلس، فإنه ينزل ملك إلى الأرض لم ينزل إليها قط).
وقوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم:64] قيل: المراد (ما بين أيدينا): أمر الدنيا (وما خلفنا): أمر الآخرة].
فإن له أمر الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى، وهو مالك الدنيا والآخرة.
إذاً مالك الدنيا والآخرة هو الله سبحانه وتعالى، ومن هنا يتبين أن البوصيري في قصيدته التي غلا فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: فإن من جودك الدنيا وضرتها فقد وقع في أمر عظيم وهو يخاطب النبي، والمعنى: من جودك يا محمد الدنيا والآخرة، فجعل الرسول يملك الدنيا والآخرة، ولم يبق لله شيئاً، والله تعالى يقول: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم:64] فالله مالك الدنيا والآخرة، والرسول عليه الصلاة والسلام نبي كريم، وهذا غلو من البوصيري.
قال: [{وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم:64] ما بين النفختين، هذا قول أبي العالية وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة في رواية عنهما، والسدي والربيع بن أنس.
وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} [مريم:64] ما يستقبل من أمر الآخرة.
{وَمَا خَلْفَنَا} [مريم:64] أي: ما مضى من الدنيا {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم:64] أي ما بين الدنيا والآخرة، ويروى نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن جريج والثوري واختاره ابن جرير أيضاً، والله أعلم.
وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] قال مجاهد والسدي معناه: ما نسيك ربك.
وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي حدثنا محمد بن عثمان يعني أبا الجماهر حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه يرفعه قال: (ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا) ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].(75/3)
تفسير قوله تعالى: (رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته)
وقوله: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم:65] أي خالق ذلك ومدبره والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه.
{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هل تعلم للرب مثلاً أو شبيهاً].
فقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] يعني: ليس له مشابه ولا مماثل، وهذه من الآيات التي فيها نفي النقائص والعيوب عن الله إجمالاً.
وكذلك قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]، كل هذه الآيات وأمثالها يأتي فيها نفي النقائص والعيوب عن الله إجمالاً.
أما الصفات فإنها تثبت لله تفصيلاً، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة، يثبتون الأسماء والصفات إثباتاً مفصلاً وينفون النقائص والعيوب عن الله نفياً مجملاً كما في هذه الآية: {هََلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65].
والسمي: المشابه والمماثل، والاستفهام بمعنى النفي، والمعنى: لا تعلم له سمياً، يعني: ليس له سمي ولا مثيل، ولا مشابه ولا مماثل، كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74].
بخلاف أهل البدع فإنهم يعكسون، فينفون النقائص نفياً مفصلاً ويثبتون إثباتاً مجملاً، فيقولون: إن الله ليس كذا وليس كذا وليس كذا وليس كذا فيعددون، فوقعوا في التنقص.
وأحياناً تأتي الآيات للرد على المشركين، مثل نفي الولد عن الله للرد على المشركين الذين نسبوا الولد لله، وإذا جاء تفصيل فإن الرد على المشركين في هذه النقيصة التي أثبتوها لله.
قال: [قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: هل تعلم لربي مثلاً أو شبيهاً، وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وابن جريج وغيرهم.
وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه].(75/4)
تفسير سورة مريم [66 - 72]
يتصور الكافر أن الله لن يعيده يوم القيامة ويحاسبه على ما قدم، فيذكره الله تعالى أنه قد خلقه من العدم وهو قادر على إعادته ومحاسبته على أعماله، وإنزال العقوبة به.(76/1)
تفسير قوله تعالى: (ويقول الإنسان إئذا ما مت لسوف أخرج حياً)
قال الله تعالى: [{وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم:66 - 70].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن الإنسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:5].
وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:77 - 79] وقال هاهنا: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم:66 - 67] يستدل تعالى بالبداءة على الإعادة، يعني: أنه تعالى قد خلق الإنسان ولم يك شيئاً، أفلا يعيده وقد صار شيئاً كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27].
وفي الصحيح (يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من آخره.
وأما أذاه إياي فقوله: إن لي ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد)].
هذا حديث قدسي من كلام الله لفظاً ومعنى، ولا يلزم من الأذى الضرر، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الأحزاب:57] فلا يلزم من الأذى أن يلحقه ضرر؛ لأن الله تعالى لا يضره أحد من خلقه، فهذه المقالة تؤذي الله لكن لا يضره أحد من خلقه، ولا يلزم من هذا الضرر؛ بل هو النافع الضار سبحانه وتعالى.
وليس بدء الخلق بأهون من إعادته، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] بمعنى: هين عليه، وكل منهما هين على الله، فكلمة أهون ليست على بابها، ولكن المعنى: وهو هين عليه، فالكل هين على الله.
قال: [وقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم:68] أقسم الرب تبارك وتعالى بنفسه الكريمة أنه لا بد أن يحشرهم جميعاً وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم:68] قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني: قعوداً كقوله: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28].
وقال السدي في قوله: (جثيا): يعني قياماً.
وروي عن مرة عن ابن مسعود مثله.
وقوله: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} [مريم:69] يعني: من كل أمة.
قال مجاهد: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:69] قال الثوري عن علي بن الأقمر عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: يحبس الأول على الآخر حتى إذا تكاملت العدة أتاهم جميعاً ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرماً وهو قوله: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:69].
وقال قتادة: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:69] قال: ثم لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤساءهم في الشر، وكذا قال ابن جريج وغير واحد من السلف، وهذا كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جميعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] إلى قوله: {بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف:39]] وقوله: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم:70] ثم هاهنا لعطف الخبر على الخبر، والمراد أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب كما قال في الآية المتقدمة: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38].(76/2)
تفسير قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها ونذر الظالمين فيها جثياً)
وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:71 - 72].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا خالد بن سليمان عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن.
وقال بعضهم: يدخلونها جميعاً ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له: إنا اختلفنا في الورود فقال: يردونها جميعاً، وقال سليمان مرة: يدخلونها جميعاً وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت النار على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً) غريب ولم يخرجوه].
يعني: لم يخرجه أصحاب الكتب الستة.
قال: [وقال الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن معاوية عن بكار بن أبي مروان عن خالد بن معدان قال: قال أهل الجنة بعد ما دخلوا الجنة: ألم يعدنا ربنا الورود على النار؟ قال: قد مررتم عليها وهي خامدة.
وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه واضعاً رأسه في حجر امرأته فبكى فبكت امرأته فقال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت قال: إني ذكرت قول الله عز وجل {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] فلا أدري أأنجو منها أم لا؟ وفي رواية: وكان مريضاً.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا ابن يمان عن مالك بن مغول عن أبي إسحاق: كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: ياليت أمي لم تلدني ثم يبكي فقيل له: ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ قال: أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون عنها.
وقال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم.
قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا.
قال: ففيم الضحك؟ قال: فما رئي ضاحكاً حتى لحق بالله.
وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو أخبرني من سمع ابن عباس رضي الله عنهما يخاصم نافع بن الأزرق فقال ابن عباس: الورود الدخول فقال نافع: لا.
فقرأ ابن عباس {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] وردوا أم لا؟ وقال: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98] أوردها أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل نخرج منها أم لا؟ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك! فضحك نافع.
وروى ابن جريج عن عطاء قال: قال أبو راشد الحروري وهو نافع بن الأزرق: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102] فقال ابن عباس: ويلك أمجنون أنت؟ أين قوله: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98]، {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:86]، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] والله إن كان دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالماً وأدخلني الجنة غانماً].
وهذا الحديث ضعيف قال: أخبرني عمن سمع ابن عباس، ففيه مبهم مجهول.
قال: [وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المحاربي حدثنا أسباط عن عبد الملك عن عبيد الله عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما فأتاه رجل يقال له أبو راشد وهو نافع بن الأزرق فقال له: يا ابن عباس أرأيت قول الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]؟ قال: أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها فانظر هل نصدر عنها أم لا؟ وقال أبو داود الطيالسي: قال شعبة: أخبرني عبد الله بن السائب عمن سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرؤها: (وإن منهم إلا واردها) يعني: الكفار.
وهكذا روى عمرو بن الوليد].
هذا أيضاً فيه مبهم، لكونه عمن سمع ابن عباس.
قال: [وهكذا روى عمرو بن الوليد البستي أنه سمع عكرمة يقرؤها كذلك: (وإن منهم إلا واردها) قال: وهم الظلمة كذلك كنا نقرؤها.
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] يعني: البر والفاجر، ألا تسمع إلى قول الله لفرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98] الآية، {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:86]، فسمى الورود على النار دخولاً وليس بصادر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن إسرائيل عن السدي عن مرة عن عبد الله -هو ابن مسعود - {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرد الناس كلهم ثم يصدرون عنها بأعمالهم).
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عبيد الله عن إسرائيل عن السدي به.
ورواه من طريق شعبة عن السدي عن مرة عن ابن مسعود مرفوعاً هكذا وقع هذا الحديث هاهنا مرفوعاً.
وقد رواه أسباط عن السدي عن مرة عن عبد الله بن مسعود قال: (يرد الناس جميعاً الصراط، وورودهم قيامهم حول النار.
ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل، حتى إن آخرهم مراً رجل نوره على موضع إبهامي قدميه، يمر فيتكفأ به الصراط، والصراط دحض مزلة عليه حسك كحسك القتاد، حافتاه ملائكة معهم كلاليب من النار يختطفون بها الناس) وذكر تمام الحديث، رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا خلاد بن أسلم حدثنا النضر حدثنا إسرائيل أخبرنا أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] قال: الصراط على جهنم مثل حد السيف فتمر الطبقة الأولى كالبرق والثانية كالريح والثالثة كأجود الخيل والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون: (اللهم سلم سلم) ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس وأبي سعيد وأبي هريرة وجابر رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن الجريري عن أبي السليل عن غنيم بن قيس قال: ذكروا ورود النار فقال كعب: تمسك النار الناس كأنها متن إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق برهم وفاجرهم، ثم يناديها مناد: أن أمسكي أصحابك ودعي أصحابي].
والإهالة: قيل: هو ما أذيب من الإلية والشحم، وقد دُعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام من شعير وإهالة سنخة، يعني: إلى شحم متغير.
قال: [فقال كعب: تمسك النار الناس كأنها متن إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق برهم وفاجرهم، ثم يناديها مناد أن أمسكي أصحابك ودعي أصحابي.
قال: فتخسف بكل ولي لها هي أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم، قال كعب: ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة، مع كل واحد منهم عمود ذو شعبتين يدفع به الدفع فيصرع به في النار سبعمائة ألف.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أم مبشر عن حفصة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدراً والحديبية، قالت: فقلت: أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] قال: ألم تسمعيه يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72]؟)(76/3)
تفسير سورة مريم [73 - 84]
يتجبر المشركون ويتكبرون على المؤمنين، ويفتخرون بدنياهم ومناصبهم، والله تعالى يبين أن المؤمنين خير منهم عاقبة في الآخرة.(77/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات هم أحسن أثاثاً ورئيا)
قال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم:73 - 74].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان، أنهم يصدون عن ذلك ويعرضون ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم {خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73] أي: أحسن منازل وأرفع دوراً وأحسن ندياً، وهو مجتمع الرجال للحديث، أي: ناديهم أعمر وأكثر وارداً وطارقاً فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك الذين هم مختفون مستترون في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق؟ كما قال تعالى مخبراً عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] وقال قوم نوح: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111]].(77/2)
تفسير قوله تعالى: (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً)
قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا} [مريم:75].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: (قل) يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم المدعين أنهم على الحق وأنكم على الباطل: (من كان في الضلالة) أي: منا ومنكم، (فليمدد له الرحمن مداً) أي: فأمهله الرحمن فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله، (إما العذاب) يصيبه (وإما الساعة) بغتةً تأتيه (فسيعلمون) حينئذ (من هو شر مكاناً وأضعف جنداً) أي: في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندي].
فقوله تعالى: ((قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ)) يعني: منا أو منكم من باب التنزل مع الخصم.
قوله: ((فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا))، أي: حتى ينتهي أجله، ثم بعد ذلك يلقى جزاء عمله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مجاهد في قوله: (فليمدد له الرحمن مداً): فليدعه الله في طغيانه، هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير رحمه الله، وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه، كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6] أي: ادعوا على المبطل منا أو منكم بالموت إن كنتم تدعون أنكم على الحق، فإنه لا يضركم الدعاء، فنكلوا عن ذلك].
فنكلوا يعني: امتنعوا ورفضوا؛ لأنهم يعلمون أنهم على الباطل إذا باهلوا، فإنه يصيبهم الموت وهم لا يريدون الموت؛ لأنهم يعلمون أن ما بعد الموت شر لهم، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [البقرة:96] يعني: هم أحرص الناس على الحياة حتى من المشركين واليهود، {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96]؛ لأنهم يعلمون أنهم على الباطل؛ ولهذا لا يتمنون الموت؛ ولهذا قال الله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95].
المباهلة: إذا كان بينك وبين شخص نزاع في مسألة ولم يفد فيه الجدال والنزاع فكل واحد منكما يدعو على المبطل أن الله يهلكه ويعاجله، هذه مباهلة، فإذا دعا فلا بد أن يهلك الله المبطل؛ ولهذا لما جاء أصحاب نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى المباهلة رفضوا، قال سبحانه وتعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] فرفضوا وامتنعوا، قالوا: إن باهلنا هلكنا.
كان ابن عباس يدعو إلى المباهلة الخاصة في بعض المسائل، كان إذا لم يقتنع الخصم معه بعد بيان الأدلة والدعوة إلى الخير دعاه إلى المباهلة، بحيث يدعو كل واحد أن يهلك الله من كان مبطلاً، لكن الأولى ألا تصل المسألة إلى المباهلة، إلا في بعض المسائل التي تشكل كمسائل العقيدة، ومع الكفار أيضاً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار.
وعمر رضي الله عنه حصل بينه وبين بلال نزاع فقال: اللهم اكفني بلالاً وذويه، في بعض المسائل التي تتعلق بقسمة الغنائم والفيء، فما حال الحول ومنهم عين تطرف، أي: هلكوا بعد سنة.
فالمباهلة في شريعتنا جائزة بنص القرآن.
ولا بد أن تكون المباهلة من كلا الطرفين، بحيث كل منهما يدعو على المبطل، كل واحد منهما يقول: لعنة الله على الكاذبين، فكل من الخصمين يدعو على الكاذب فيهلكه الله.
أما الملاعنة بين الزوجين ففيها مفارقة مؤبدة، لكن لا يلزم من هذه الملاعنة الهلاك، كما هو حاصل في المباهلة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد تقدم ذلك في سورة البقرة مبسوطاً ولله الحمد، وكما ذكر تعالى المباهلة مع النصارى في سورة آل عمران حين صمموا على الكفر، واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد الله، وقد ذكر الله حججه وبراهينه على عبودية عيسى وأنه مخلوق كآدم، قال تعالى بعد ذلك: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] فنكلوا أيضاً عن ذلك].(77/3)
تفسير قوله تعالى: (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى)(77/4)
دليل زيادة الإيمان ونقصانه وزيادة الكفر ونقصانه
قال الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم:76].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر الله تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه وزيادته على ما هو عليه أخبر بزيادة المهتدين هدى، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125]].
وفي هذا دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، والهدى والتقى يزيد وينقص، والضلال والكفر والنفاق يزيد وينقص؛ ولهذا قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم:75] يعني: يزيد مما هو فيه من الضلال، ثم قال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76].
وقال سبحانه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10] أي: مرض النفاق والشبهة فالنفاق يزيد، وقال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124].
إذً: الإيمان يزيد وينقص، والكفر يزيد وينقص، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:125]، ويقول تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] ويقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4].(77/5)
المراد بالباقيات الصالحات
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [مريم:76] قد تقدم تفسيرها والكلام عليها وإيراد الأحاديث المتعلقة بها في سورة الكهف].
يعني: أن المراد بها الأعمال الصالحة، ومنها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، هذه من الباقيات الصالحات، فجميع الأعمال الصالحة هي الباقيات الصالحات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (خير عند ربك ثواباً) أي: جزاء، (وخير مرداً) أي: عاقبة ومرداً على صاحبها.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأخذ عوداً يابساً فحط ورقه، ثم قال: إن قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن، هن الباقيات الصالحات، وهن من كنوز الجنة) قال أبو سلمة: فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال: لأهللن الله ولأكبرن الله ولأسبحن الله حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون].
وقول أبي الدرداء: تحط الخطايا يعني: الصغائر أما الكبائر فلابد لها من توبة، والمراد الإكثار من هذه الأذكار.
هذا الحديث مرسل من مراسيل أبي سلمة بن عبد الرحمن، وفيه عنعنة يحيى بن أبي كثير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا ظاهره أنه مرسل، ولكن قد يكون من رواية أبي سلمة عن أبي الدرداء والله أعلم.
وهكذا وقع في سنن ابن ماجه من حديث أبي معاوية عن معمر بن راشد عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي الدرداء فذكر نحوه].
إذاً: الصغائر تكفر بفعل الفرائض كالصلوات الخمس والوضوء والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كل هذه تكفر الصغائر، والصغائر هي التي لا يترتب عليها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة.
أما الكبائر فإنه يترتب عليها وعيد في الآخرة بالنار أو الغضب أو اللعنة، أو يترتب عليها حد في الدنيا مثل: السرقة والزنا وشرب الخمر وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم، هذا هو أصح ما قيل في تعريف الكبيرة.(77/6)
تفسير قوله تعالى: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً)
قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:77 - 80].(77/7)
سبب نزول قوله تعالى: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا)
قال المؤلف رحمه الله: [وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن خباب بن الأرت قال: (كنت رجلاً قيناً، وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه منه، فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيتك، فأنزل الله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77] إلى قوله: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:80])، أخرجه صاحبا الصحيح وغيرهما من غير وجه عن الأعمش به.
وفي لفظ البخاري: (كنت قيناً بمكة فعملت للعاص بن وائل سيفاً فجئت أتقاضاه فذكر الحديث وقال: {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:78] قال: موثقاً).
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال خباب بن الأرت: (كنت قيناً بمكة فكنت أعمل للعاص بن وائل فاجتمعت لي عليه دراهم فجئت لأتقاضاه، فقال لي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: فإذا بعثت كان لي مال وولد، قال: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: ((أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا)) إلى قوله: ((وَيَأْتِينَا فَرْدًا))).
] قيناً يعني: كان خباب بن الأرت الصحابي الجليل حداداً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال العوفي عن ابن عباس: (إن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون العاص بن وائل السهمي بدين فأتوه يتقاضونه، فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة ذهباً وفضةً وحريراً ومن كل الثمرات؟ قالوا: بلى، قال: فإن موعدكم الآخرة، فوالله لأوتين مالاً وولداً، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به، فضرب الله مثله في القرآن فقال: ((أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا)) إلى قوله: ((وَيَأْتِينَا فَرْدًا))).
وهكذا قال مجاهد وقتادة وغيرهم: إنها نزلت في العاص بن وائل.(77/8)
معنى قوله: (لأوتين مالاً وولداً)
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: ((لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا)) قرأ بعضهم بفتح الواو من (ولداً) وقرأ آخرون بضمها وهو بمعناه، قال رؤبة: الحمد لله العزيز فرداً لم يتخذ من ولد شيء ولداً.
وقال الحارث بن حلزة: ولقد رأيت معاشراً قد ثمروا مالاً وولداً وقال الشاعر: فليت فلاناً كان في بطن أمه وليت فلاناً كان ولد حمار].
ثمروا: يعني: نموا واكتسبوا مالاً وولداً.
وقيل: إن الولد بالضم جمع، والولد بالفتح مفرد، وهي لغة قيس والله أعلم.
وقوله: (أطلع الغيب) إنكار على هذا القائل: (لأوتين مالاً وولداً) يعني: يوم القيامة، أي: أعلم ما له في الآخرة حتى تألى وحلف على ذلك: (أم اتخذ عند الرحمن عهداً) أم له عند الله عهد سيؤتيه ذلك؟ وقد تقدم عند البخاري أنه الموثق.
وقال الضحاك عن ابن عباس: (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً) قال: لا إله إلا الله فيرجو بها.
وقال محمد بن كعب القرظي: (أم اتخذ عند الرحمن عهداً) قال: شهادة أن لا إله إلا الله ثم قرأ: (أم اتخذ عند الرحمن عهداً).
وقوله: (كلا) هي حرف ردع لما قبلها، وتأكيد لما بعدها، (سنكتب ما يقول) أي: من طلبه ذلك وحكمه لنفسه بما يتمناه، وكفره بالله العظيم: (ونمد له من العذاب مداً) أي: في الدار الآخرة على قوله ذلك وكفره بالله في الدنيا، (ونرثه ما يقول) أي: من مال وولد نسلبه منه عكس ما قال: إنه يؤتى في الدار الآخرة مالاً وولداً زيادة على الذي له في الدنيا، بل في الآخرة يسلب منه الذي كان له في الدنيا؛ ولهذا قال تعالى: (ويأتينا فرداً) أي: من المال والولد.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ونرثه ما يقول) قال: نرثه.
وقال مجاهد: (ونرثه ما يقول) ماله وولده، وذلك الذي قال العاص بن وائل.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: (ونرثه ما يقول) قال: ما عنده، وهو قوله: (لأوتين مالاً وولداً)، وفي حرف ابن مسعود: ونرثه ما عنده.
وقال قتادة: (ويأتينا فرداً) لا مال له ولا ولد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (ونرثه ما يقول) قال: ما جمع من الدنيا وما عمل فيها، قال: (ويأتينا فرداً) قال: فرداً من ذلك لا يتبعه قليل ولا كثير].(77/9)
تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عداً)
قال الله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا * أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:81 - 84].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن الكفار المشركين بربهم أنهم اتخذوا من دونه آلهة لتكون تلك الآلهة (عزاً) يعتزون بها ويستنصرونها، ثم أخبر أنه ليس الأمر كما زعموا، ولا يكون ما طمعوا فقال: (كلا سيكفرون بعبادتهم) أي: يوم القيامة (ويكونون عليهم ضداً) أي: بخلاف ما ظنوا فيهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6].
وقرأ أبو نهيك: (كل سيكفرون بعبادتهم)، وقال السدي: (كلا سيكفرون بعبادتهم) أي: بعبادة الأوثان، وقوله: (ويكونون عليهم ضداً) أي: بخلاف ما رجوا منهم.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ويكونون عليهم ضداً) قال: أعواناً، قال مجاهد: عوناً عليهم، تخاصمهم وتكذبهم.
وقال العوفي عن ابن عباس: (ويكونون عليهم ضداً) قال: قرناء، وقال قتادة: قرناء في النار يلعن بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم ببعض.
وقال السدي: (ويكونون عليهم ضداً) قال: الخصماء الأشداء في الخصومة.
وقال الضحاك: (ويكونون عليهم ضداً) قال: أعداء.
وقال ابن زيد: الضد: البلاء.
وقال عكرمة: الضد: الحسرة].
الظاهر أن الضد هو المعادي، يعني: هذه الآلهة التي عبدوها من دون الله لأجل أن تكون لهم عزاً صارت يوم القيامة عدواً وضداً، نسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: تغويهم إغواءاً.
وقال العوفي عنه: تحرضهم على محمد وأصحابه.
وقال مجاهد: تشليهم إشلاء.
وقال قتادة: تزعجهم إزعاجاً إلى معاصي الله، وقال سفيان الثوري: تغريهم إغراء وتستعجلهم استعجالاً، وقال السدي: تطغيهم طغياناً].
يعني: تحضهم على الشر وتدفعهم إلى الشر، وتغريهم بالمعاصي نعوذ بالله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرحمن بن زيد: هذا كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]].
وقوله: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] أي: لا تعجل يا محمد على هؤلاء في وقوع العذاب بهم، (إنما نعد لهم عداً) أي: إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط، وهم صائرون لا محالة إلى عذاب الله ونكاله، وقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:17] الآية {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران:178] {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:24] {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم:30].
وقال السدي: (إنما نعد لهم عداً) السنين والشهور والأيام والساعات.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (إنما نعد لهم عداً) قال: نعد أنفاسهم في الدنيا.(77/10)
تفسير سورة مريم [85 - 95]
يبشر الله تعالى المتقين بما سيؤتيهم يوم القيامة من النعيم، وتستقبلهم الجنة بالحفاوة والإكرام، وذلك بخلاف الكفار والمشركين فإنهم إنما يساقون إلى النار، وذلك بسبب كفرهم وادعائهم على الله ما لا يليق به.(78/1)
تفسير قوله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً)
قال الله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:86 - 87].(78/2)
معنى قوله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا، واتبعوا رسله وصدقوهم فيما أخبروهم وأطاعوهم فيما أمروهم به وانتهوا عما عنه زجروهم، أنه يحشرهم يوم القيامة وفداً إليه.
والوفد: هم القادمون ركباناً ومنه الوفود، وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة، وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه.
وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم، فإنهم يساقون عنفاً إلى النار (ورداً) عطاشاً، قاله عطاء وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد، وههنا يقال: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن مرزوق: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال: يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحاً، فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول: لا، إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن وجهك، فيقول: أنا عملك الصالح وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا فهلم اركبني فيركبه، فذلك قوله: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً)].
هذا موقوف على ابن مرزوق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال: ركباناً، وقال ابن جرير: حدثني ابن المثنى حدثنا ابن مهدي عن سعيد عن إسماعيل عن رجل عن أبي هريرة (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال: على الإبل، وقال ابن جريج: على النجائب، وقال الثوري: على الإبل النوق، وقال قتادة: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال: إلى الجنة.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثنا سويد بن سعيد أخبرنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق حدثنا النعمان بن سعد قال: (كنا جلوساً عند علي رضي الله عنه فقرأ هذه الآية: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم:85] قال: لا والله ما على أرجلهم يحشرون ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها عليها رحائل من ذهب، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة) وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني به، وزاد: (عليها رحائل من ذهب وأزمتها الزبرجد) والباقي مثله.
وروى ابن أبي حاتم ههنا حديثاً غريباً جداً مرفوعاً عن علي رضي الله عنه فقال: حدثنا أبي حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا مسلمة بن جعفر البجلي سمعت أبا معاذ البصري قال: (إن علياً كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) فقال: ما أظن الوفد إلا الركب يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون أو يؤتون بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحال الذهب، شرك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مد البصر، فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان، فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم من دنس، ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبداً، وتجري عليهم نضرة النعيم، فينتهون أو فيأتون باب الجنة فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب فيضربون بالحلقة على الصفحة فيسمع لها طنين يا علي فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل، فتبعث قيمها فيفتح له فإذا رآه خر له - قال مسلمة أراه قال: ساجداً - فيقول: ارفع رأسك فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك، فيتبعه ويقفو أثره، فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه، ثم تقول: أنت حبي وأنا حبك وأنا الخالدة التي لا أموت وأنا الناعمة التي لا أبأس وأنا الراضية التي لا أسخط وأنا المقيمة التي لا أظعن، فيدخل بيتاً من أسه إلى سقفه مائة ألف ذراع بناؤه على جندل اللؤلؤ طرائق أحمر وأصفر وأخضر ليس منها طريقة تشاكل صاحبتها، وفي البيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون حشية على كل حشية سبعون زوجة على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الحلل، يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه، الأنهار من تحتهم تطرد، أنهار من ماء غير آسن، قال: صاف لا كدر فيه، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ولم يخرج من ضروع الماشية، وأنهار من خمر لذة للشاربين لم يعتصرها الرجال بأقدامهم، وأنهار من عسل مصفى لم يخرج من بطون النحل، فيستجلي الثمار فإن شاء أكل قائماً وإن شاء قاعداً وإن شاء متكئاً، ثم تلا: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان:14] فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض، وربما قال: أخضر، فترفع أجنحتها فيأكل من جنوبها أي الألوان شاء، ثم تطير فتذهب فيدخل الملك فيقول: سلام عليكم: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] ولو أن شعرة من شعر الحوراء وقعت لأهل الأرض لأضاءت الشمس معها سواد في نور)، هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعاً وقد رويناه في المقدمات من كلام علي رضي الله عنه بنحوه، وهو أشبه بالصحة والله أعلم].
وهذا الحديث فيه غرابة، وذكر الحافظ ابن كثير أن الأشبه أنه موقوف على علي وليس مرفوعاً؛ لأنه قال: وهو أشبه بالصحة، أي: أشبه بأن يكون موقوفاً على علي وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يحتاج إلى نظر في سنده.
وهذا الحديث فيه أبو معاذ البصري وهو سليمان بن أرقم وهو ضعيف، من السابعة، قال أحمد بن حنبل فيه: ليس بشيء، وقال أبو داود: متروك الحديث، وقال أبو حاتم والنسائي والترمذي: متروك الحديث، وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، وقال الجوزجاني: ساقط، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، والدارقطني: متروك الحديث، وقال مسلم: منكر الحديث، وقال النسائي: لا يكتب حديثه.
وهناك طرق أخرى للحديث وفيها الحارث الأعور وهو متهم ضعيف.
إذاً: قوله تعالى: ((يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)) أي: كل ما يتمناه المؤمنون يحصل لهم في الجنة، ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ويحصلون على كل خير وكرامة.(78/3)
معنى قوله تعالى: (ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:86] أي عطاشاً، {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} [مريم:87] أي: ليس لهم من يشفع لهم كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض، كما قال تعالى مخبراً عنهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101].
وقوله: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:87] هذا استثناء منقطع، بمعنى: لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً، وهو شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بحقها.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ((إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)) قال: العهد شهادة أن لا إله إلا الله، ويبرأ إلى الله من الحول والقوة، ولا يرجو إلا الله عز وجل].
وقوله: ((مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)) يعني: من مات على التوحيد وقام بحقها فهو من أهل الشفاعة وتناله الشفاعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمار بن خالد الواسطي حدثنا محمد بن الحسن الواسطي عن المسعودي عن عون بن عبد الله عن أبي فاختة عن الأسود بن يزيد قال: قرأ عبد الله يعني ابن مسعود هذه الآية: ((إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)) ثم قال: اتخذوا عند الله عهداً، فإن الله يقول يوم القيامة: من كان له عند الله عهد فليقم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن فعلمنا، قال: قولوا: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا ألا تكلني إلى عمل يقربني من الشر ويباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهداً تؤديه إلي يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد.
قال المسعودي: فحدثني زكريا عن القاسم بن عبد الرحمن أخبرنا ابن مسعود وكان يلحق بهن: خائفاً مستجيراً مستغفراً راهباً راغباً إليك.
ثم رواه من وجه آخر عن المسعودي نحوه].
المسعودي ضعيف مختلط، لكن لا شك أن الدعاء واللجوء إلى الله مطلوب.(78/4)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً)
قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:88 - 95].(78/5)
عظم القول بنسبة الولد إلى الله تعالى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما قرر تعالى في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى عليه السلام، وذكر خلقه من مريم بلا أب شرع في مقام الإنكار على من زعم أن له ولداً تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً، فقال: ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا)) ((لَقَدْ جِئْتُمْ)) أي: في قولكم هذا، ((شَيْئًا إِدًّا)) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومالك: أي عظيماً، ويقال (إداً): بكسر الهمزة وفتحها ومع مدها أيضاً، ثلاث لغات أشهرها الأولى].
يعني: (إداً) و (أداً) و (أدا) بالألف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا)) ((أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)) أي: يكاد ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجرة بني آدم إعظاماً للرب وإجلالاً؛ لأنهن مخلوقات ومؤسسات على توحيده، وأنه لا إله إلا هو، وأنه لا شريك له ولا نظير له ولا ولد له ولا صاحبة له ولا كفء له بل هو الأحد الصمد.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد قال ابن جرير: حدثني علي حدثنا عبد الله حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله: ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا)) ((أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)) قال: إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين، وكادت أن تزول منه لعظمة الله، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله، فمن قالها عند موته وجبت له الجنة قالوا: يا رسول الله فمن قالها في صحته؟ قال: تلك أوجب وأوجب، ثم قال: والذي نفسي بيده لو جيء بالسماوات والأرضين وما فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعن في كفة الميزان، ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن) هكذا رواه ابن جرير ويشهد له حديث البطاقة والله أعلم].
هذه الآيات الكريمات فيها أن الشرك من أعظم الذنوب وأعظم الكبائر، وفيها أن نسبة الولد إلى الله من أعظم الكفر، والشرك ومن أعظم المحرمات التي عظمها الله سبحانه وتعالى، وجعلت صاحبها مشركاً تجب له النار إذا مات على ذلك، نسأل الله السلامة والعافية.
وذلك أن نسبة الولد إلى الله تنقص للرب عز وجل؛ لأن الذي يحتاج إلى الولد إنما هو المخلوق الناقص الضعيف، فالولد كمال في حق المخلوق؛ فالذي يولد له ولد أكرم من الذي لا يولد له، والعقيم الذي لا يولد له عنده نقص بخلاف الذي يولد له؛ لأن المخلوق ضعيف يحتاج إلى الولد ليعينه ويساعده ولاسيما في وقت الكبر، أما الرب سبحانه وتعالى فلا يحتاج إلى أحد، وهو سبحانه وتعالى القائم بنفسه المقيم لغيره الحي القيوم سبحانه وتعالى، ليس له شريك ولا نظير ولا وزير ولا ولد ولا صاحبة، فمن نسب الولد إلى الله فقد افترى على الله أعظم فرية، بل أشرك بالله وارتكب إثماً عظيماً وحوباً كبيراً، ولهذا قال سبحانه: ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا)) ((لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا))، أي: لقد جئتم بهذه المقالة شيئاً عظيماً، ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا))، يعني: السماوات والأرض أسستا على التوحيد، وكل المخلوقات أسست على التوحيد، وكلها تسبح بحمد الله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] إلا الثقلين الجن والإنس، ولهذا تكاد السماوات إذا سمعت هذا الشرك أن تتفطر وتكاد الأرض أن تنشق وتكاد الجبال أن تخر، ((أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)) يعني: بسبب ادعائهم الولد لله.
قال الله: ((وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا)) أي: ما ينبغي ولا يليق به سبحانه أن يتخذ الولد؛ لأنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فهو واحد فرد صمد قيوم قائم بنفسه مقيم لغيره، وهو صمد في نفسه سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد وتصمد إليه الخلائق في حوائجها ليس بحاجة إلى أحد، بخلاف المخلوق الضعيف فإنه يحتاج إلى الولد يحتاج إلى من يعينه ويساعده.
والتوحيد شأنه عظيم، من مات على التوحيد وقال: لا إله إلا الله عند موته وجبت له الجنة، يعني: من قالها عن إخلاص وصدق ولم يعمل ناقضاً من نواقضها وجبت له الجنة، وكذلك إذا قالها في صحته ومات على ذلك ولم يغير ولم يبدل وجبت له والجنة، الجنة أعدها الله للموحدين والنار أعدها الله للكفار، أما العاصي الموحد فهو من أهل الجنة، لكن هذه المعاصي وهذه الكبائر التي مات عليها من غير توبة لا بد من أن يطهر منها إما بعفو الله ومغفرته، فإن عفا الله عنه دخل الجنة من أول وهلة، وإن لم يعف الله عنه فلا بد أن يطهر في النار، حتى تزول هذه المعاصي وتغسل بالنار إذا لم تغسل بعفو الله، حتى يخرج نقياً سليماً بريئاً من الخبث الذي ينقص توحيده ويضعف توحيده.
إذاً: أهل التوحيد من أهل الجنة، وإذا قال المرء كلمة التوحيد عند الموت فله هذا الوعد، وإذا قالها في حياته ومات على ذلك وحصل له غيبوبة أو زال عقله وهو على التوحيد فهو على ما كان عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الضحاك: ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ)) أي: يتشققن فرقاً من عظمة الله].
فرقاً يعني: خوفاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (وتنشق الأرض) أي: غضباً لله عز وجل، (وتخر الجبال هداً) قال ابن عباس: هدماً، وقال سعيد بن جبير: هداً ينكسر بعضها على بعض متتابعات.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن سويد المقبري حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا مسعر عن عون بن عبد الله قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه: يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر الله عز وجل؟ فيقول: نعم، ويستبشر، قال عون: لهي للخير أسمع، أفيسمعن الزور والباطل إذا قيل ولا يسمعن غيره، ثم قرأ: ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا)) ((أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)).
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا المنذر بن شاذان حدثنا هودة حدثنا عوف عن غالب بن عجرد حدثني رجل من أهل الشام في مسجد منى، قال: بلغني أن الله لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة - أو قال - كان لهم فيها منفعة، ولم تزل الأرض والشجر بذلك حتى تكلم فجرة بني آدم بتلك الكلمة العظيمة قولهم: (اتخذ الرحمن ولداً) فلما تكلموا بها اقشعرت الأرض وشاك الشجر].
يعني: نبت له الشوك وصار له شوك، وهذا الأثر ضعيف؛ لأن فيه مبهماً والمبهم رواه ببلاغ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال كعب الأحبار: غضبت الملائكة واستعرت النار حين قالوا].
كعب الأحبار يحكي عن بني إسرائيل، وهو أسلم زمن عمر رضي الله عنه.(78/6)
حلم الله عز وجل على عباده
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنه يشرك به ويجعل له ولد وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم) أخرجاه في الصحيحين، وفي لفظ: (إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم).
وقوله: ((وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا)) أي: لا يصلح له ولا يليق به لجلاله وعظمته؛ لأنه لا كفء له من خلقه؛ لأن جميع الخلائق عبيد له؛ ولهذا قال: ((إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)) ((لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا)) أي: قد علم عددهم منذ خلقهم إلى يوم القيامة ذكرانهم وإناثهم وصغيرهم وكبيرهم].
وذلك لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أوجدهم وهو الذي خلقهم من عدم وهو لا يخفى عليه شيء من خلقه {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] قوله: ((وَمَا يَنْبَغِي)) هذه عامة، يقال للشيء المحرم: ما ينبغي للإنسان أن يفعل كذا، ويقال للشيء الذي تركه أولى: ما ينبغي، فهي عامة.
وهذه الكلمة قد يقولها بعض العلماء وبعض الأئمة في الفتوى من باب التورع، يقال: لا ينبغي للإنسان أن يفعل كذا، أو ينبغي للإنسان ألا يفعل هذا؛ لكونه محرماً أو لكون تركه أولى، والله تعالى يقول: ((وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا)) يعني: هذا أمر عظيم لا ينبغي ولا يليق به سبحانه؛ لكمال عظمته وكمال وحدانيته وألوهيته وربوبيته لا ينبغي له أن يتخذ ولداً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95] أي: لا ناصر له ولا مجير إلا الله وحده لا شريك له، فيحكم في خلقه بما يشاء، وهو العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة، ولا يظلم أحداً].
أي: لا نجاة ولا حول ولا قوة إلا بالله، فمن كان عمله صالحاً ولقي الله بالتوحيد والعمل الصالح نجا، ومن لقي الله بالشرك فهو هالك والعاصي على خطر نسأل الله السلامة والعافية.(78/7)
تفسير سورة مريم [96 - 98]
إذا صدق المؤمن في توجهه بأقواله وأفعاله إلى الله تعالى تقبله الله تعالى ووضع له المحبة في قلوب عباده، وكذلك يجعل البغضاء للمرائي والكافر، فيكرهه الخلق ولا يحبونه.(79/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سجعل لهم الرحمن ودّاً)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:96 - 98].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهي الأعمال التي ترضي الله عز وجل لمتابعتها الشريعة المحمدية، يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين مودة، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه].
الود يعني: المحبة، فالله تعالى يجعل في قلوب عباده للمؤمن التقي مودة ومحبة ليس لكل أحد، ولا عبرة بالكافر والفاسق الذين لا يحبون الموحد، لكن العبرة بالمؤمنين والموحدين الذين يجعل الله في قلوبهم محبة ومودة للمؤمن التقي، ويدل على هذا الحديث: (إن الله تعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبوا فلاناً، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبداً أخبر جبريل بذلك فينادي: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض).(79/2)
افتخار الكفار والظلمة بما هم عليه من باطل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11]، وقال قوم نوح: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111].
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53] ولهذا قال تعالى راداً عليهم شبهتهم: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أي: وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم: ((هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا)) أي: كانوا أحسن من هؤلاء أموالاً وأمتعة ومناظر وأشكالاً.
وقال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس: ((خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)) قال: المقام: المنزل، والندي: المجلس، والأثاث: المتاع، والرئي: المنظر].
هذه الآية الكريمة فيها بيان عادة الكافرين والظالمين أنهم يفتخرون بما هم عليه من الباطل، وما أعطاهم الله من الأموال ومن الأثاث ومن الأمتعة وما لهم من الأتباع، وما أعطاهم الله من الأموال والسلطان والجاه، ويظنون أن هذا دليل على أنهم على حق، وأن المؤمنين الذين ما أعطوا مثل ما أعطوا من الأموال والأولاد والجاه والسلطان على الباطل؛ ولهذا قال قوم نوح: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111]، وأتباع الأنبياء هم الضعفاء؛ ولهذا لما سأل هرقل أبا سفيان قال: (هل اتبع محمداً ضعفاء الناس وأشباههم؟ قال: نعم، اتبعه ضعفاؤهم، قال: وكذلك أتباع الأنبياء).
فهذا من باب الابتلاء والامتحان؛ ولهذا قال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73] الندي: المقام من المرتبة والمكانة، والندي: المجتمع، مثل النادي، أي: مكان الاجتماع الذي يجتمع فيه هؤلاء، يقولون: نحن الآن أحسن رتبة ومكانة في المجتمع، ونادينا يجتمع فيه الأشراف والأتباع الكثيرون، فكيف يكون هؤلاء الضعفاء المختفون في دار الأرقم بن أبي الأرقم أحسن منا؟! لا يمكن هذا، فاستدلوا بما هم عليه من الأتباع وبما أعطوا من الأموال وبما أعطوا من القوة، وهذا ابتلاء وامتحان، وهذه الكثرة ليست دليلاً على الأحقية، وإنما الحق أحق أن يتبع، ومن ساروا على الحق فهم على الحق، ولو كانوا عدداً قليلاً؛ ولهذا قال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود:17]، وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:243]، وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]، وقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
إذاً: ليست العبرة بكثرة الأتباع، وليست العبرة بالأموال ولا بالأولاد ولا بالشرف ولا بالجاه؛ ولهذا يقول سبحانه: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37].
هذا من الابتلاء والامتحان؛ ولهذا اغتر كفار قريش بما هم فيه وقالوا: نحن أحسن مقاماً ورئياً وأثاثاً، فقال الله سبحانه: ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا)) أي: أحسن أثاثاً منهم وأمتعة ومنظراً وأشكالاً، وما أعطاهم الله من الأجسام ومن القوة ومن المال ومن السلطان ومن الجاه إنما هو امتحان، وكل هذه الأشياء لا قيمة لها عند الله.
والواجب هو الإيمان بالله ورسوله، واتباع ما جاءت به الرسل، ثم ما جاء به خاتمهم وإمامهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن اتبع شريعة الله وآمن بالله ورسوله واتبع شرعة الله فهو على الحق، ولو كان ماله قليلاً، ولو كان العدد قليلاً، ولو لم يكن له مال ولا جاه ولا سلطان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال العوفي عن ابن عباس: المقام: المسكن، والندي: المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها، وهو كما قال الله لقوم فرعون حين أهلكهم وقص شأنهم في القرآن: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان:25 - 26] المقام: المسكن والنعيم، والندي: المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه.
وقال الله فيما قص على رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر قوم لوط: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29] والعرب تسمي المجلس: النادي].
النادي الآن هو المعروف مثل: النادي الثقافي والنادي كذا، وهو مكان لاجتماع الناس وإلقاء الكلمات وإنشاد الأشعار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة وفيهم قشافة؛ فعرض أهل الشرك بما تسمعون: ((أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)) وكذا قال مجاهد والضحاك، ومنهم من قال في الأثاث: هو المال، ومنهم من قال: الثياب، ومنهم من قال: المتاع.
والرئي: المنظر، كما قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد، وقال الحسن البصري: يعني: الصور، وكذا قال مالك: ((أَثَاثًا وَرِئْيًا)): أكثر أموالاً وأحسن صوراً، والكل متقارب صحيح].
يعني: لا تغتروا يا كفار قريش بما أوتيتم من الأموال ومن الأجسام وجمالها، فليست هذه نافعة عند الله، وإنما العبرة بالأعمال والقلوب والنيات؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم).
فالقلوب هي محل نظر الرب، أما الصور والأجسام فالناس يتفاوتون فيها، هذا طويل وهذا قصير، وهذا وسيم جميل وهذا ذميم، ولكن تزول هذه الفوارق يوم القيامة؛ ولهذا جاء في الحديث ما معناه: أن العبد الأسود الذي له رائحة كريهة إذا قتل وصار شهيداً تزول عنه هذه الدمامة؛ وذلك لأن أهل الجنة يكونون على صورة القمر ليلة البدر.
إذاً: من كان ذميم الخلقة ومن كان قصيراً ومن كان أسود وهو من أهل الجنة والكرامة، فإنه يكون من أحسن الناس صورة يوم القيامة، كل أهل الجنة طولهم ستون ذراعاً على طول أبيهم آدم، وأبناء ثلاث وثلاثين سنة في الشباب من أحسن الناس وصورهم من أجمل الصور، وليس فيهم ذميم الخلقة، لكن في الدنيا يتفاوت الناس فيها، منهم الطويل ومنهم القصير، ومنهم الجميل ومنهم الذميم، ومنهم الفقير ومنهم الغني، يتفاوتون في عقولهم وعلومهم وأجسامهم وألوانهم وأشكالهم وأعمالهم وأموالهم في الدنيا، ولله الحكمة البالغة.
أما يوم القيامة فمعروف أن الناس يتفاوتون في الجنة في الدرجات على حسب منازلهم، فالعلماء ورثة الأنبياء وهم مقدمون وأرفع درجة من غيرهم، لا شك أنهم كلهم يدخلون الجنة ثم يتقاسمون الدرجات بأعمالهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل، قال: ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبريل فقال: يا جبريل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال: فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض).
ورواه مسلم من حديث سهيل، ورواه أحمد والبخاري من حديث ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع مولى ابن عمر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر حدثنا ميمون أبو محمد المرائي حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليلتمس مرضاة الله عز وجل، فلا يزال كذلك، فيقول الله عز وجل لجبريل: إن فلاناً عبدي يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي عليه.
فيقول جبريل: رحمة الله على فلان، ويقولها حملة العرش، ويقولها من حولهم، حتى يقولها أهل السماوات السبع، ثم يهبط إلى الأرض) غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه].
أي: لم يخرجه أصحاب الكتب الستة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر حدثنا شريك عن محمد بن سعد الواسطي عن أبي ظبية عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقة من الله -قال شريك: هي المحبة، والصيت من السماء- فإذا أحب الله عبداً قال لجبريل عليه السلام: إني أحب فلاناً.
فينادي جبريل: إن ربكم يمق -يعني يحب- فل(79/3)
أقوال أئمة التفسير في قوله تعالى: (سيجعل لهم الرحمن وداً)
وقال مجاهد عنه: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] قال: محبة في الناس في الدنيا.
وقال سعيد بن جبير عنه: يحبهم ويحببهم.
يعني: إلى خلقه المؤمنين كما قال مجاهد أيضاً والضحاك وغيرهم، وقال العوفي عن ابن عباس أيضاً: الود من المسلمين في الدنيا والرزق الحسن واللسان الصادق].
قوله: [واللسان الصادق] هو كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]: إي والله في قلوب أهل الإيمان.
وذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم.
وقال قتادة: وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: ما من عبد يعمل خيراً أو شراً إلا كساه الله عز وجل رداء عمله.
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الربيع بن صبيح عن الحسن البصري رحمه الله قال: قال رجل: والله لأعبدن الله عبادة أذكر بها.
فكان لا يرى في حين صلاة إلا قائماً يصلي، وكان أول داخل إلى المسجد وآخر خارج، فكان لا يعظم، فمكث بذلك سبعة أشهر، وكان لا يمر على قوم إلا قالوا: انظروا إلى هذا المرائي، فأقبل على نفسه فقال: لا أراني أذكر إلا بشر، لأجعلن عملي كله لله عز وجل، فلم يزد على أن قلب نيته، ولم يزد على العمل الذي كان يعمله، فكان يمر بعد بالقوم فيقولون: رحم الله فلاناً الآن.
وتلا الحسن: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96].
وقد روى ابن جرير أثراً أن هذه الآية نزلت في هجرة عبد الرحمن بن عوف، وهو خطأ؛ فإن هذه السورة بكمالها مكية، لم ينزل منها شيء بعد الهجرة، ولم يصح سند ذلك، والله أعلم].
هنا قد يقول قائل: ما حكم من دخله الرياء أثناء العمل؟
و
الجواب
أن هذا فيه تفصيل: فإذا كان الرياء طارئاً أثناء العمل ثم استعاذ بالله من الشيطان، وزال عنه الرياء فإنه لا يضره شيء، أما إن استرسل معه فإنه يبطل العمل.(79/4)
البشارة والنذارة بالقرآن الكريم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} [مريم:97] يعني: القرآن {بِلِسَانِكَ} [مريم:97] أي: يا محمد، وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل.
{لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} [مريم:97] أي: المستجيبين لله، المصدقين لرسوله صلى الله عليه وسلم.
{وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97] أي: عوجاً عن الحق، مائلين إلى الباطل، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97] لا يستقيمون.
وقال الثوري عن إسماعيل -وهو السدي - عن أبي صالح: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97] عوجاً عن الحق.
وقال الضحاك: الألد: الخصم.
وقال القرظي: الألد: الكذاب.
وقال الحسن البصري: {قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97] صماً.
وقال غيره: صم آذان القلوب.
وقال قتادة: {قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97] يعني قريشاً.
وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]: فجاراً.
وكذا روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد، وقال ابن زيد: الألد: الظلوم، وقرأ قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]].
ويجمع هذه المعاني كلها أنهم قوم منحرفون عن الحق، مائلون عن الحق، فالألد الخصم هو الذي يجادل بالباطل ولا يقبل الحق، فقوله تعالى: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97] أي: مائلين عن الحق غير قابلين له، مع أنه سبحانه وتعالى قد يسر القرآن بلسان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو اللسان العربي- ليبشر به المتقين المستجيبين لله ولرسوله.
وأما المنحرفون من غير المستجيبين للحق فلهم النذارة، فالقرآن بشارة ونذارة، فهو بشارة للمستجيبين، ونذارة للمنحرفين غير القابلين للحق.(79/5)
بيان عاقبة المكذبين لرسل الله
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} [مريم:74] أي: من أمة كفروا بآيات الله وكذبوا رسله.
{هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98] أي: هل ترى منهم أحداً أو تسمع لهم ركزاً، قال ابن عباس وأبو العالية وعكرمة والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك وابن زيد: يعني صوتاً.
وقال الحسن وقتادة: هل ترى عيناً أو تسمع صوتاً؟ والركز في أصل اللغة هو الصوت الخفي، قال الشاعر: فتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها].
وفي نسخة (فتوحشت) ومعنى (فتوجست): أي: سمعت صوتاً خفياً، والآية في الذين أهلكهم الله قبل قريش فلم يعد لهم حس ولا صوت، ولم يعد لهم أثر، حيث أبادهم الله تعالى.
وهذه الآية فيها الوعيد الشديد للكفار الذين ردوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، وبيان أن الله قادر على إهلاكهم؛ لأنه أهلك من قبلهم ممن كذبوا بالأنبياء والرسل، فلا يوجد لهم أثر ولا يسمع لهم صوت، فقد أبيدوا عن آخرهم.(79/6)
مجمل قضايا سورة مريم
هذه السورة الكريمة ذكر الله تعالى في مطلعها قصة زكريا عليه الصلاة والسلام، وأنه سأل الله الولد مع تقدم سنه وكبره، وكانت زوجه عاقراً، فأجاب الله دعاءه، وفيه دليل على أن الإنسان يلجأ إلى الله ويسأله دون يأس، فالإنسان محتاج إلى الله في جميع أحواله، حتى الأنبياء، وفيه دليل على أن الملح في الدعاء على الله يحصل على مطلوبه، وقد جاء في الحديث: (ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يعطيه من الخير مثلها، وإما يصرف عنه من السوء مثلها).
والدعاء عبادة لله تعالى وإقرار بربوبيته واعتراف منك -أيها العبد- بعبوديتك وأنك عبد ضعيف ذليل ترجو عفو الله، وترجو بره وإحسانه حتى ولو لم يجب دعاءك، فأنت مثاب على هذا الدعاء؛ لأنك تتعبد لله بالدعاء، فإما أن تعجل لك الدعوة فيستجيب الله لك، وإما أن يصرف عنك من السوء مثلها، وإما أن تعطى من الخير مثلها، بشرط خلوها من موانع الدعاء، كأن يدعو الإنسان بإثم أو بقطيعة رحم، أو يدعو بقلب غافل.
ثم ذكر الله بعد ذلك قصة مريم وابنها، ثم ذكر قصة إبراهيم ودعوته أباه، ونصحه له بأربع نصائح وجهها إبراهيم عليه السلام إلى أبيه آزر، قال تعالى عنه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:42 - 45].
وهذه نصيحة عظيمة وجهها إبراهيم عليه السلام إلى أبيه؛ لأنه أحق الناس ببره وإحسانه، فدعاه إلى الله عز وجل، دعاه إلى التوحيد، ولكن الله لم يقدر له الهداية، وفي هذا حكمة بالغة، حيث يبتلى الرجل الفاضل والعالم الكبير أو النبي بابن كافر، أو بأب كافر، أو بأولاد عصاة، أو بزوجة كافرة، وهذا من الابتلاء بالمصائب، كما ابتلي النبي صلى الله عليه وسلم بعمه أبي لهب، فكان يتبعه في مواقف دعوته، ويقول: لا تصدقوه فإنه كذاب.
ولم يقدر الله الهداية لعمه أبي طالب مع حرصه عليه الصلاة والسلام على هدايته، حتى سلاه الله عز وجل بقوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
وبين الله تعالى أنه عوض إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد ذلك بأولادٍ أنبياء صالحين، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، وذلك بسبب إخلاصه لله وتوحيده له ومقاطعته لأهل الشرك.
ثم ذكر الله قصة موسى وهارون، ثم قصة إسماعيل، ثم إدريس عليهم السلام، ثم ذكر الله بعد ذلك قصة الكافر الذي قال: {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77] وبين الله قبل ذلك أنه لا بد من المرور على الصراط، وأنه لا ينجو إلا المتقون، وبين سبحانه تسليطه الشياطين على الكفار تؤزهم أزاً.
وبين مصير المؤمنين الموحدين، ومصير الكفار، وأن الكفار يساقون إلى النار سوقاً، وأن المؤمنين لهم الجنة والكرامة، وبين سبحانه أن المؤمنين توضع لهم المحبة، وأن الله يجعل لهم في القلوب محبة ومودة في الدنيا، وهذا من البشرى العاجلة لهم، وبين سبحانه في هذه السورة أن القرآن بشارة ونذارة، فهو بشارة للمؤمنين المتقين، ونذارة لمن خالف أمر الله، ولم يقبل هدى الله، ثم توعد سبحانه وتعالى المنحرفين والصادين والمعاندين للنبي صلى الله عليه وسلم من كفار قريش بالعذاب والهلاك، وأنه أهلك من كان قبلهم، فلم يعلم لهم أثر ولا عين، قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98].(79/7)
تفسير سورة طه [1 - 8]
نزل القرآن من عند الله رحمة منه بعباده، فليس فيه شقاء ولا تعسير، بل هو يسر كله وخير كله، والله سبحانه له الملك الحقيقي، فله ملك السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وليس لأحد أن يدعي ملك شيء في السماوات أو في الأرض، وعلمه محيط بذلك كله، ولا يحيط الإنسان بشيء من علمه.(80/1)
فضل قراءة سورة طه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [روى إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد عن زياد بن أيوب عن إبراهيم بن المنذر الحزامي: حدثنا إبراهيم بن مهاجر بن مسمار عن عمر بن حفص بن ذكوان عن مولى الحرقة - يعني عبد الرحمن بن يعقوب - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف عام، فلما سمعت الملائكة قالوا: طوبى لأمة ينزل عليهم هذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسن تتكلم بهذا).
هذا حديث غريب وفيه نكارة، وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلم فيهما].
قوله: [إمام الأئمة] أي: في زمانه، وأما إمام الأئمة على الإطلاق فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإبراهيم بن مهاجر قال ابن عدي: لم أجد لـ إبراهيم - أي: ابن مهاجر - حديثاً أنكر من حديث: قرأ طه ويس.(80/2)
تفسير قوله تعالى: (طه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم.
{طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:1 - 8].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته].(80/3)
بيان المراد بالحروف المقطعة
والأرجح في هذه الحروف المقطعة: أن الله تعالى أعلم بمرداه منها، قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن فيها إشارة إلى عظمة وإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أن القرآن مركب من الحروف الهجائية الثمانية والعشرين التي يتكلم بها العرب، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، ولهذا تحداهم الله أن يأتوا بمثله فعجزوا، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور فعجزوا، بل وتحداهم أن يأتوا بسورة فعجزوا، ولهذا فكل سورة افتتحت بالحروف المقطعة لا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء في تسع وعشرين سورة مثل: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2]، {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2]، {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران:1 - 3]، وغير ذلك من الآيات.
قوله: (طه) حرفان من حروف الهجاء، طاء، وهاء، ومثلها: ن، ق، الم، الر، المص.
وأما ما يذكره بعض الناس أن: (طه) اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعرف لهذا أصل.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسين بن محمد بن شيبة الواسطي، حدثنا أبو أحمد -يعني الزبيري - أنبأنا إسرائيل عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طه: يا رجل].
ومحمد بن شنبة بفتح المعجمة والنون والموحدة الواسطي، أبو عبد الله البزاز، صدوق، الأربعة.
بعده الحسين بن معاذ، وقبله الحسين بن محمد بن زياد العبدي.
قال المؤلف رحمه الله: [وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبو مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى أنهم قالوا: (طه) بمعنى: يا رجل.
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والثوري أنها كلمة بالنبطية معناها يا رجل.
وقال أبو صالح: هي معربة.
وأسند القاضي عياض في كتابه الشفاء من طريق عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا هاشم بن القاسم عن ابن جعفر عن الربيع بن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله تعالى: ((طه)) [طه:1] يعني: طأ الأرض يا محمد! {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] ثم قال: ولا يخفى بما في هذا من الإكرام وحسن المعاملة).
وقوله: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] قال جويبر عن الضحاك: لما أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم قام به هو وأصحابه، فقال المشركون من قريش: ما أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى، فأنزل الله تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3]].
وجويبر هذا ضعيف.(80/4)
الكلمات المعربة في القرآن
فإن قيل: هل في القرآن كلمات معربة؟
و
الجواب
نعم، نحو: طه.
فإن قيل: فإن معناها يا رجل! وهي كلمة نبطية معربة.
فلا يمنع أن يكون القرآن عربياً إذا وجدت فيه بعض الكلمات المعربة.
قال المؤلف رحمه الله [فليس الأمر كما زعمه المبطلون، بل من آتاه الله العلم فقد أراد به خيرًا كثيرًا، كما ثبت في الصحيحين، عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين).
وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال: حدثنا أحمد بن زهير حدثنا العلاء بن سالم حدثنا إبراهيم الطالقاني].
جاء في المعجم الكبير العلاء بن مسلمة وهو: العلاء بن مسلمة بن عثمان بن محمد بن إسحاق الرواس أبو سالم البغدادي، مولى بني تميم.
وفي التقريب: العلاء بن مسلمة بن عثمان الرواس (بتشديد الواو) مولى بني تميم، بغدادي، يكنى أبا سالم متروك، ورماه ابن حبان بالوضع.
إذاً ابن مسلمة يكون: العلاء بن مسلمة أبو سالم.
قال المؤلف رحمه الله: [وما أحسن ما رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال: حدثنا أحمد بن زهير حدثنا العلاء بن سالم حدثنا إبراهيم الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن سماك بن حرب عن ثعلبة بن الحكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي).
إسناده جيد، وثعلبة بن الحكم هذا هو الليثي، ذكره أبو عمر في استيعابه، وقال: نزل البصرة ثم تحول إلى الكوفة، وروى عنه سماك بن حرب].
يقول ابن كثير: إسناده جيد مع أن فيه متروك.
قال في التقريب: العلاء بن سالم الطبري، أبو الحسن الحذاء نزل بغداد، صدوق من الحادية عشرة، وبعده: العلاء بن سالم العبدي الكوفي العطار، مقبول، يروي عن إبراهيم الطالقاني.
فقول ابن كثير رحمه الله: إسناده جيد.
يحتمل أن العلاء بن سالم غير متروك، لكن الحافظ محدث، فيحتاج مراجعة للتأكد من الشيوخ والتلاميذ.
هذا الحديث في بيان فضل العلماء العاملين، وأن الله يغفر لهم هفواتهم وزلاتهم.
وأما العلماء المنحرفون مثل علماء السوء من أحبار اليهود والنصارى، الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فإنهم لا يدخلون ضمن هذا الحديث.(80/5)
تفسير قوله تعالى: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)
قال المؤلف رحمه الله: [وقال مجاهد في قوله: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] هي كقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة.
وقال قتادة: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] لا والله ما جعله شقاء، ولكن جعله رحمة ونوراً ودليلاً إلى الجنة.
{إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:3] أن الله أنزل كتابه وبعث رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة رحم بها عباده؛ ليتذكر ذاكر، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله وهو ذكر أنزل الله فيه حلاله وحرامه].
قد سبق أن قوله: (طه) معناها بالنبطية: يا رجل، وهذا يحتاج إلى دليل ولا تكفي هذه الآثار، والأقرب أنها من الحروف المقطعة.
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى} [طه:4] أي: هذا القرآن الذي جاءك يا محمد، هو تنزيل من ربك، رب كل شيء ومليكه القادر على ما يشاء، الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها، وخلق السموات العلى في ارتفاعها ولطافتها، وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره أن سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبعد ما بينها والتي تليها مسيرة خمسمائة عام.
وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا حديث الأوعال من رواية العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه].(80/6)
إثبات صفة الاستواء لله تعالى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضًا، وأن المسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف: إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل].
قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] هذه من آيات الصفات وفيها إثبات استواء الرب على العرش، وأنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه حقيقة.
و (استوى) لها في اللغة العربية أربع معان: استقر، وعلا، وصعد، وارتفع، وتفسيرات السلف لهذا اللفظ لا تخرج عن هذه المعاني الأربعة، ذكرها العلامة ابن القيم في النونية: فلهم عبارات عليها أربع قد حصلت للفارس الطعان وهي استقر وقد علا وكذلك ار تفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع وأبو عبيدة صاحب الشيباني يختار هذا القول في تفسيره أدرى من الجهمي بالقرآن وأما كيفية الاستواء فلا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، فهو استواء يليق بجلاله وعظمته.
الاستواء معلوم، والمعلوم معناه: استقر وعلا وصعد.
والكيف مجهول: أي: كيفية استواء الرب، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
فالله تعالى استوى على العرش استواء حقيقة، يليق بجلاله وعظمته، فلا يكيف ولا يمثل ولا يشبه ولا يعطل، كما أننا لا نكيف ذاته، وكذلك لا يعلم كيفية صفاته إلا هو: علمه، وسمعه، وبصره، واستواؤه، ورحمته، كلها صفات متصف بها سبحانه حقيقة، كما يليق بجلاله وعظمته من غير تكييف ومن غير تمثيل ومن غير تعطيل ومن غير تحريف، قال الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].(80/7)
تفسير قوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى)
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:6] أي: الجميع ملكه وفي قبضته وتحت تصريفه ومشيئته وإرادته وحكمه، وهو خالق ذلك ومالكه وإلهه لا إله سواه ولا رب غيره.
وقوله: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:6] قال محمد بن كعب: أي ما تحت الأرض السابعة.
وقال الأوزاعي: إن يحيى بن أبي كثير حدثه أن كعباً سئل فقيل له: ما تحت هذه الأرض؟ فقال: الماء.
قيل: وما تحت الماء؟ قال: الأرض.
قيل: وما تحت الأرض؟ قال: الماء.
قيل: وما تحت الماء؟ قال: الأرض، قيل: وما تحت الأرض؟ قال: الماء.
قيل: وما تحت الماء؟ قال: الأرض، قيل: وما تحت الأرض؟ قال الماء.
قيل: وما تحت الماء؟ قال: الأرض، قيل: وما تحت الأرض؟ قال: الصخرة.
قيل: وما تحت الصخرة؟ قال: ملك، قيل: وما تحت الملك؟ قال: حوت معلق طرفاه بالعرش، قيل: وما تحت الحوت؟ قال: الهواء والظلمة وانقطع العلم].
وهذا من أخبار بني إسرائيل التي ينقلها كعب الأحبار عنهم والله أعلم.(80/8)
كروية الأرض
قال المؤلف رحمه الله: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثنا عبد الله بن عياش حدثنا عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، والعليا منها على ظهر حوت، قد التقى طرفاه في السماء، والحوت على صخرة، والصخرة بيد الملك، والثانية سجن الريح، والثالثة فيها حجارة جهنم، والرابعة فيها كبريت جهنم، والخامسة فيها حيات جهنم، والسادسة فيها عقارب جهنم، والسابعة فيها سقر، وفيها إبليس مصفد بالحديد أمامه ويد خلفه فإذا أراد الله أن يطلقه لما يشاء أطلقه) وهذا حديث غريب جداً، ورفعه فيه نظر].
لا شك أن الأرض كروية، بل جميع الأفلاك كروية، أي: مستديرة الشكل، والنصوص واضحة في ذلك: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5] والتكوير بمعنى التدوير، ولو كانت الأرض مربعة أو مسدسة ما قال: يكور.
وهي في شكل الكرة لكنها مسطحة، قال تعالى: س {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:20] أي: مسطحة ومستديرة، وليست مربعة ولا مسدسة.
وأما هذا الخبر فهو من أخبار بني إسرائيل؛ قال عنه المحقق: ورواه ابن مندة في كتاب التوحيد من طريق حرملة بن يحيى عن عبد الله بن وهب بنحوه.
ورواه الحاكم في المستدرك من طريق: بحر بن نصر عن عبد الله بن وهب عن عبد الله بن عياش عن عبد الله بن سليمان عن دراج عن أبي الهيثم عن عكرمة بن هلال عن عن عبد الله بن عمرو بمثله فزاد (أبو الهيثم في إسناده، وقال: صحيح، ولم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي بقوله: بل منكر؛ فيه عبد الله بن عياش ضعفه أبو داود وعند مسلم أنه: ثقة، ودراج كثير المناكير والحديث ضعيف مثلما قال المؤلف ورفعه فيه نظر، ولعله من أخبار بني إسرائيل؛ فإن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أصاب زاملتين يوم اليرموك فكان يحدث منهما عن بني إسرائيل، وهذا مما أخذه منهما.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو موسى الهروي عن العباس بن الفضل قال: قلت: ابن الفضل الأنصاري؟ قال: نعم، عن القاسم بن عبد الرحمن عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال: (كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فأقبلنا راجعين في حر شديد، فنحن متفرقون بين واحد واثنين منتشرين، قال: وكنت في أول العسكر إذ عارضنا رجل فسلم، ثم قال: أيكم محمد؟ ومضى أصحابي ووقفت معه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل في وسط العسكر على جمل أحمر مقنع بثوبه على رأسه من الشمس، فقلت: أيها السائل، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتاك.
فقال: أيهم هو؟ فقلت: صاحب البكر الأحمر.
فدنا منه، فأخذ بخطام راحلته، فكف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنت محمد؟ قال: نعم.
قال: إني أريد أن أسألك عن خصال لا يعلمهن أحد من أهل الأرض إلا رجل أو رجلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل عما شئت.
قال: يا محمد، أينام النبي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنام عيناه ولا ينام قلبه.
قال: صدقت.
ثم قال: يا محمد، من أين يشبه الولد أباه وأمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فأي الماءين غلب على الآخر نزع الولد.
فقال صدقت.
فقال: ما للرجل من الولد وما للمرأة منه؟ فقال: للرجل العظام والعروق والعصب، وللمرأة اللحم والدم والشعر قال: صدقت.
ثم قال: يا محمد، ما تحت هذه، يعني الأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلق.
فقال: فما تحتهم؟ قال: أرض.
قال: فما تحت الأرض؟ قال الماء قال: فما تحت الماء؟ قال: ظلمة.
قال: فما تحت الظلمة؟ قال: الهواء.
قال: فما تحت الهواء؟ قال: الثرى.
قال: فما تحت الثرى؟ ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، وقال: انقطع علم الخلق عند علم الخالق، أيها السائل، ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟ قال: فقال: صدقت، أشهد أنك رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، هل تدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: هذا جبريل عليه السلام).
هذا حديث غريب جدًا وسياق عجيب، تفرد به القاسم بن عبد الرحمن هذا، وقد قال فيه يحيى بن معين: ليس يساوي شيئًا، وضعفه أبو حاتم الرازي، وقال ابن عدي: لا يعرف.
قلت: وقد خلط في هذا الحديث، ودخل عليه شيء في شيء وحديث في حديث، وقد يحتمل أنه تعمد ذلك أو أدخل عليه فيه، والله أعلم].(80/9)
تفسير قوله تعالى: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] أي أنزل هذا القرآن الذي خلق الأرض والسموات العلى الذي يعلم السر وأخفى، كما قال تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:6] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] قال: السر ما أسره ابن آدم في نفسه {وَأَخْفَى} [طه:7] ما أخفى على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه، فالله يعلم ذلك كله].
قوله: (يعلم السر) أي: ما أخفاه الإنسان في نفسه.
وقوله: (وأخفى) أي: ما يعلمه الله مما يفعله ابن آدم في المستقبل والإنسان لا يعلمه، وهذا ظاهر العبارة.
قال المؤلف رحمه الله: [فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد].
أي: علم الله فيما مضى وفيما بقي من المستقبل واحد.
قال المؤلف رحمه الله: [وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة، وهو قوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]].
وقد ذكر ابن جرير، فقال: ما أخفى على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعمله.
وهذا أحسن.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال الضحاك: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] قال: السر: ما تحدث به نفسك، وأخفى ما لم تحدث به نفسك بعد.
وقال سعيد بن جبير: أنت تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غداً، والله يعلم ما تسر اليوم وما تسر غداً.
وقال مجاهد {وَأَخْفَى} [طه:7] يعني: الوسوسة، وقال أيضاً هو وسعيد بن جبير.
{وَأَخْفَى} [طه:7] أي: ما هو عامله مما لم يحدث به نفسه].(80/10)
سعة علم الله
قوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] فيها بيان سعة علم الله عز وجل، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو سبحانه يعلم ما كان في الماضي، ويعلم ما يكون في المستقبل، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، فهو لا يخفى عليه شيء، وحتى الشيء الذي لا يكون يعلمه لو كان سبحانه وتعالى، كما أخبر الله عن المنافقين الذين يخرجون مع المسلمين للجهاد ماذا يفعلون؟ فقال سبحانه: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} [التوبة:47] ماذا سيعملون؟ قال: {مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].
وقال سبحانه عن الكفار الذين تمنوا أن يردوا إلى الدنيا: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28].
وقال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] كل هذه الآيات فيها بيان علمه سبحانه بما لم يكن لو كان كيف يكون، وهو سبحانه يعلم السر الذي يخفيه الإنسان في نفسه، وأخفى من ذلك ما سيعمله في المستقبل، أو ما سيسره غداً، أو ما توسوس به نفسه، فكل ذلك يعلمه سبحانه وتعالى، والآية شاملة لكل هذه المعاني.
كما أن قدرته سبحانه وتعالى شاملة لكل شيء، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو الذي خلق الخلائق كأنها نفس واحدة: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ} [لقمان:28]، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] أي: إعادة الخلق وبدؤهم هين على الله سبحانه.(80/11)
تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى)
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:8] أي: الذي أنزل عليك القرآن، هو الله الذي لا إله إلا هو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى، وقد تقدم بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى في أواخر سورة الأعراف ولله الحمد والمنة.(80/12)
تفسير سورة طه [9 - 16]
من رحمة الله على العباد أن أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين يدلونهم على الخير ويحذرونهم من الشر، وأول شيء أمر الأنبياء والرسل بالدعوة إليه هو التوحيد الخالص، كما أمر الأنبياء بإنذار الناس بالساعة وأنها آتية لا ريب فيها ليقضى فيها بين الخلق ويثاب المحسن ويعاقب المسيء.(81/1)
تفسير قوله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى)
قال الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:9 - 10].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [من هنا شرع تبارك وتعالى في ذكر قصة موسى، وكيف كان ابتداء الوحي إليه وتكليمه إياه، وذلك بعدما قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم، وسار بأهله قيل: قاصداً بلاد مصر بعدما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين، ومعه زوجته، فأضل الطريق وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء وسحاب وظلام وضباب، وجعل يقدح بزند معه ليوري ناراً كما جرت له العادة به، فجعل لا يقدح شيئاً ولا يخرج منه شرر ولا شيء، فبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارًا، أي ظهرت له نار من جانب الجبل الذي هناك عن يمينه، فقال لأهله يبشرهم: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} [طه:10] أي شهاب من نار وفي الآية الأخرى: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} [القصص:29] وهي الجمر الذي معه لهب.
{لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7] دل على وجود البرد.
وقوله: {بِقَبَسٍ} [طه:10] دل على وجود الظلام.
وقوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10] أي: من يهديني الطريق].
وهذه من حكمة الله عز وجل أن جعل سيره في هذا الوقت من الظلام والضباب والسحاب، وكان يقدح بزند معه ولا يخرج منه شرر ولا شيء، وضل الطريق، فهو بحاجة الآن إلى النار وإلى من يدله على الطريق، وبينما هو في هذه الحالة رأى ناراً بجانب الجبل، فقال لأهله: {امْكُثُوا} [طه:10] أي: اجلسوا ههنا في مكانكم، فإني رأيت ناراً عند الجبل حتى أذهب إليها: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} [طه:10] أي: قطعة من النار، لعلكم تستدفئون بها من البرد، ولعلي أجد حولها من يدلنا على الطريق، فلما وصل إليها كلمه الله، وأرسله، وكان هذا أول بدء النبوة.
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10] أي من يهديني الطريق، دل على أنه قد تاه عن الطريق، كما قال الثوري عن أبي سعد الأعور عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10] قال: من يهديني إلى الطريق، وكانوا شاتين وضلوا الطريق، فلما رأى النار قال: إن لم أجد أحدًا يهديني إلى الطريق أتيتكم بنار توقدون بها.
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:11 - 16].(81/2)
تفسير قوله تعالى: (فلما أتاها نودي يا موسى)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا} [طه:11] أي النار، واقترب منها {نُودِيَ يَا مُوسَى} [طه:11] وفي الآية الأخرى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص:30] وقال هاهنا: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه:12] أي الذي يكلمك ويخاطبك.
{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12] قال علي بن أبي طالب وأبو ذر وأبو أيوب وغير واحد من السلف: كانتا من جلد حمار غير ذكي].
وهذا في شرع من قبلنا، إذ معروف أن الحمر الأهلية ما حرمت إلا في السنة السابعة من الهجرة، وذلك أن الصحابة في غزوة خيبر- ذبحوا الحمر وطبخوها، وكانت حلالاً قبل ذلك ثم حرمت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية) وأكفئت القدور وإنها لتغلي بها، وكان هذا في أول الإسلام، وكانت حلالاً مباحة، وهي في شرع من قبلنا في زمن موسى مباح؛ لكنها هنا جلد من حمار غير مذكى، إذ لو ذكي صار طاهراً؛ لأن الحمار كان حلالاً ولم يكن حراماً، فإذا دبغ جلده وجعلت منه النعلان صارت مباحة، فلما مات صار ميتة، فإذا أخذ جلده وجعل منه حذاء صارت الحذاء من جلد غير مذكى، فهو إذاً نجس، ولو ذكي لكان طاهراً؛ لأنه كان حلالاً في ذلك الوقت، وهذا على ما قاله الصحابة إن صح عنهم.
وقد جاء في بعض الروايات أنه يوم أن كلم الله موسى كانت عليه جبة صوف، وكساء صوف، وسراويل صوف، ونعلان من جلد حمار غير مذكى.
قال ابن جرير الطبري: حدثنا به بشر بن خلف قال: حدثنا خلف بن خليفة عن حميد بن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوم كلم الله موسى كانت عليه جبة صوف وكساء صوف وسراويل صوف، ونعلان من جلد حمار غير مذكى).
قال عفا الله عنه: صحيحاً لم نعده إلى غيره، ولكن في إسناده نظر يجب التثبت فيه.
قال المصنف رحمه الله: [وقيل: إنما أمره بخلع نعليه تعظيماً للبقعة].
وهذا هو الأقرب، إذا لم يصح الحديث السابق الذي ذكره ابن جرير الطبري، ويدل على هذا قوله تعالى في الآية الأخرى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12] والواد المقدس مطهر، و (طوى) اسم الوادي.
ومما يؤيد ضعف الحديث السابق أنه تكلم في أحد رجاله وهو: خلف بن خليفة.
واسمه: خلف بن خليفة بن صاعد الأشجعي مولاهم أبو أحمد الكوفي نزل واسط ثم بغداد، صدوق اختلط في الآخر، وادعى أنه رأى عمرو بن حريث الصحابي فأنكر عليه ذلك ابن عيينة وأحمد، وهو من الثامنة.
إذاً: فيكون ضعيف مختلط، وبقية إسناده لا يصح.
والأصل هو ما دلت عليه الآيتان، ولأن الحكمة من خلع النعلين تعظيم البقعة.
قال ابن جرير: وأولى القولين في ذلك بالصواب: قول من قال: أمره الله تعالى ذكره بخلع نعليه ليباشر بقدميه بركة الوادي إذ كان وادياً مقدساً.
قال المصنف رحمه الله: [قال سعيد بن جبير: كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة، وقيل: ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافياً غير منتعل، وقيل: غير ذلك والله أعلم].
والقول الثاني يرجع إلى القول الثالث.(81/3)
المراد بـ (طوى)
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {طُوًى} [طه:12] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو اسم للوادي، وكذا قال غير واحد، فعلى هذا يكون عطف بيان].
الوادي المقدس، أي: المسمى طوى {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12] فطوى: اسم للوادي.
وجبل الطور جبل مبارك، والأرض تسمى بالأرض المباركة، والأرض التي حولها البركة هي أرض مباركة، فأرض الشام وأرض فلسطين حول المسجد الأقصى، لكن هل الجبل الآن له مزية أو فضيلة؟ لا، ولذا عندما سافر أبو هريرة إلى الطور أنكر عليه أبو ذر الغفاري وقال: لو علمت لما سافرت، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى).
قال المصنف رحمه الله: [وقيل: عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه.
وقيل: لأنه قدس مرتين، وطوى له البركة وكررت، والأول أصح كقوله: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات:16]].(81/4)
تفسير قوله تعالى: (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى)
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه:13] كقوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] أي على جميع الناس من الموجودين في زمانه، وقد قيل: إن الله تعالى قال: يا موسى أتدري لم خصصتك بالتكليم من بين الناس؟ قال: لا، قال: لأني لم يتواضع لي أحد تواضعك].
وقد قيل: إن هذا ليس عليه دليل، وإنما هو اختيار من الله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] فله الحكمة البالغة سبحانه وتعالى.(81/5)
أول واجب على العبد
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13] أي: اسمع الآن ما أقول لك وأوحيه إليك: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:14] هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له].
إن أعظم وأول واجب المكلف هو توحيد الله عز وجل، وهو: أن يعلموا أنه لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، ولهذا أول واجب بدأ الله به بوحيه إلى موسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] فلا إله إلا الله معناه: لا معبود بحق إلا الله، فهو أول واجب وآخر واجب، فأول ما يدخل به في الإسلام كلمة التوحيد، وآخر ما يخرج به من الدنيا: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله).
وهذا أول واجب على المكلف خلافاً لأهل البدع القائلين: إن أول واجب هو الشك فتشك فيما حولك، ثم تنتقل من الشك إلى التوحيد واليقين.
وبعضهم يقول: أول واجب هو النظر والتأمل.
وبعضهم يقول: أول واجب هو: القصد إلى النظر فهذه ثلاثة أقوال لأهل البدع، وهي باطلة، وإنما الصحيح أن أول واجب هو توحيد الله عز وجل كما قال الله لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] وهو الغاية من بعثة الرسل عليهم السلام: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {فَاعْبُدْنِي} [طه:14] أي وحدني وقم بعبادتي من غير شريك {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] قيل: معناه: صلّ لتذكرني.
وقيل: معناه وأقم الصلاة عند ذكرك لي، ويشهد لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14])، وفي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك)].(81/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} [طه:15] أي: قائمة لا محالة وكائنة لا بد منها.
وقوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15] قال الضحاك عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: أكاد أخفيها من نفسي يقول: لأنها لا تخفى من نفس الله أبدًا.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: من نفسه.
وكذا قال مجاهد وأبو صالح ويحيى بن رافع].
وهذه القراءة تحمل على التفسير، فالقراءة إذا لم تثبت متواترة يقال عنها تفسير، ومثلها ما جاء في مصحف عائشة في قوله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر، ومثلها ما جاء في مصحف ابن مسعود في كفارة اليمين: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فمتتابعات تحمل على أنها تفسير.
قال المصنف رحمه الله: [وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15] يقول: لا أطلع عليها أحداً غيري.
وقال السدي: ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة وهي في قراءة ابن مسعود إني أكاد أخفيها من نفسي، يقول: كتمتها من الخلائق حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت.
وقال قتادة: ((أَكَادُ أُخْفِيهَا))، وهي في بعض القراءات: أخفيها عن نفسي، ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء والمرسلين].
وهذا من باب تأكيد الكلام، وليس المراد القسم، ومثل ذلك: ما جاء عن عائشة في البخاري في تفسير سورة يوسف عندما قالت: ولعمري، وجاء أيضاً في سنن ابن ماجة الذي جاء فيه كلام لـ ابن القيم عندما قال: لعمري، أي: تأكيد الكلام، وليس المراد بها القسم، وأما قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] فهذا قسم من الله بحياة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قلت: وهذا كقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وقال: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف:187] أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا منجاب حدثنا أبو نميلة حدثني محمد بن سهل الأسدي].
لعله ثميلة، وليس نميلة.
قال المصنف رحمه الله: [عن ورقاء].
وقاء قال: بكسر أوله وقاف أبو إياس الأسدي أبو يزيد الكوفي لين الحديث.
قال في التقريب: ورقاء بن عمر اليشكري أبو بشر الكوفي نزيل المدائن صدوق.
قال المصنف رحمه الله: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة قال: حدثنا منجاب قال: حدثنا أبو ثميلة قال: حدثني محمد بن سهل الأسدي عن ورقاء قال: أقرأنيها سعيد بن جبير: (أَكَادُ خْفِيهَا) يعني: بنصب الألف وخفض الفاء، يقول: أظهرها ثم قال: أما سمعت قول الشاعر: داب شهرين ثم شهراً دميكاً بأريكين يخفيان غميراً وقال الأسدي: الغمير: نبت رطب، ينبت في قلال يبس، والأريكين موضع والدميك: الشهر التام، وهذا الشعر لـ كعب بن زهير.
وقوله سبحانه وتعالى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15] أي: أقيمها لا محالة لأجزي كل عامل بعمله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} النمل:90]].(81/7)
تفسير قوله تعالى: (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16] المراد بهذا الخطاب: آحاد المكلفين، أي: لا تتبعوا سبيل من كذب بالساعة، وأقبل على ملاذه في دنياه، وعصى مولاه، واتبع هواه، فمن وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر: {فَتَرْدَى} [طه:16] أي: تهلك وتعطب، قال الله تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:11]].
في هذه الآيات الكريمات يبين تعالى أنه كلم موسى، وبين له التوحيد الذي هو أول واجب على العبد، وأمره بعبادته فقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14]، ثم ثنى بالأمر بإقامة الصلاة؛ لأنها أعظم العبادات البدنية، وهي داخلة في قوله سبحانه: {فَاعْبُدْنِي} [طه:14] لكنه خص الصلاة لعظم شأنها، والصلاة صلة بين العبد وبين ربه: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ثم بين له وأخبره أنه لا بد من الإيمان بالساعة والقيامة، وأنه لا يعلم وقت قيامها إلا الله، وأن الله قد أخفاها عن الخلق، وأنه لا بد من قيام الساعة، ولا بد من إتيانها {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15] والجزاء لا بد له من يوم القيامة، والقيامة: هي: البعث، والجزاء ثابت بالشرع وبالفطرة وبالعقل؛ لأنه في هذه الدنيا يختلط البر بالفاجر، والمؤمن بالكافر، والعاصي بالمطيع، وهناك الظالم، وهناك العابد، وهناك المشرك، وهناك الكافر، وهناك من يظلم نفسه بالشرك، وهناك من يظلم غيره بالاعتداء على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وهناك من يظلم نفسه بالمعاصي، فلا يمكن أن يترك الناس سدى لا يؤمرون ولا ينهون في الدنيا، ولا يثابون ولا يعوضون في الآخرة، لا بد من قيام الساعة حتى تجزى كل نفس بسعيها وعملها {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15] ثم قال سبحانه: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16] المراد: أحاد الناس الذين اتبعوا أهواءهم وشهواتهم، ولم يؤمنوا بالساعة والبعث اتباعاً للهوى فهلكوا بذلك؛ ولهذا قال: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16].(81/8)
تفسير سورة طه [17 - 35]
كل نبي أو رسول أرسل إلى قومه ساق الله معه آية من آياته ومعجزة تدل على أنه نبي من عند الله، ولقد كان من أعظم المعجزات والآيات الباهرات ما أرسل به موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه.(82/1)
تفسير قوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى)
قال الله تعالى: [{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:17 - 21].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا برهان من الله تعالى لموسى عليه السلام، ومعجزة عظيمة، وخرق للعادة باهر، دل على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا الله عز وجل، وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل، وقوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] قال بعض المفسرين: إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له.
وقيل: إنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي: أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها، فسترى ما نصنع بها الآن، {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] استفهام تقرير.
{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه:18] أي: أعتمد عليها في حال المشي: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه:18] أي: أهز بها الشجرة ليسقط ورقها، لترعاه غنمي، قال عبد الرحمن بن القاسم: عن الإمام مالك: الهش: أن يضع الرجل المحجن في الغصن، ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره، ولا يكسر العود، فهذا الهش، ولا يخبط.
وكذا قال ميمون بن مهران أيضاً.
وقوله: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] أي: مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك].
العصا فيها مصالح عدة، منها: ما ذكره موسى عليه السلام من أنه يعتمد عليها في مشيه، ويهش بها على غنمه، وله فيها مصالح: كأن يضرب بها السبع مثلاً، أو الحية، أو العقرب، وكذلك أيضاً: يدافع بها عن نفسه إذا اعتدى عليه عدو، ويضعها سترة له عندما يصلي، ويضع عليها ثوباً يستظل به، ومصالح وفوائد كثيرة، كما أخبر في قوله: {فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18].
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18]، أي: مصالح ومنافع وحاجات أخر غيرذلك، وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت، فقيل: كانت تضيء له بالليل، وتحرس له الغنم إذا نام، ويغرسها فتصير شجرة تظله، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، والظاهر أنها لم تكن كذلك، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه السلام صيرورتها ثعباناً، فما كان يفر منها هارباً، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية، وكذا قول بعضهم: إنها كانت لآدم عليه السلام، وقول الآخر: أنها هي الدابة التي تخرج قبل يوم القيامة، وروي عن ابن عباس أنه قال: كان اسمها: (ماشاء) والله أعلم بالصواب].
وكل هذه من أخبار من بني إسرائيل ولا دليل عليها، والأقرب: أن المآرب هي المعروفة التي سبق ذكرها.
قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه:19] أي: هذه العصا التي في يدك يا موسى، (ألقها) {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20] أي: صارت في الحال حية عظيمة ثعباناً طويلاً يتحرك حركة سريعة، فإذا هي تهتز كأنها جان، وهو: أسرع الحيات حركة ولكنه صغير، فهذه في غاية الكبر وفي غاية سرعة الحركة {تَسْعَى} [طه:20] أي: تمشي وتضطرب.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا أحمد بن عبدة قال: حدثنا حفص بن جميع قال: حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20] ولم تكن قبل ذلك حية، فمرت بشجرة فأكلتها، فمرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها، فولى مدبراً، فنودي أن: يا موسى، خذها.
فلم يأخذها، ثم نودي الثانية: أن خذها ولا تخف.
فقيل له في الثالثة: إنك من الآمنين فأخذها.
وقال وهب بن منبه في قوله: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20] قال: فألقاها على وجه الأرض، ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، فدب يلتمس كأنه يبتغى شيئاً يريد أخذه يمر بالصخرة مثله مثل الخلفة من الإبل فيلتقمها، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه تتقدان ناراً].
أي: نظرة إلى العصا لما وضعها فرآها ثعبان عظيم، فهذه من الآيات العظيمة، وقدرة ربانية عظيمة، حيث أنه إذا أخذها بيده تكون عصا، ويضعها على الأرض فتكون ثعبان معروف، قال الله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه:24] فهذه آية وبرهان إذا طلب منك آية ودليل.
والآية الثانية: يده يدخلها في جيبه ثم يخرجها فإذا هي بيضاء تتلألأ من غير سوء، يعني: من غير ضرر، نور تتلألأ مثل الشمس، قال الله: ((فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ))].
هذه التفصيلات كونها تتوقد ناراً، وكونها ابتلعت الصخرة، وكونها قطعت أصل الشجرة، كل هذا يحتاج إلى دليل، المهم أنها صارت ثعبان عظيم، وحية تسعى وتضطرب بسرعة هائلة.
قال المصنف رحمه الله: [وقد عاد المحجن منها عرفاً، قيل: شعر مثل النيازك، وعاد الشعبتان فماً مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب].
عرفاً بالضم، يعني: الحية.
قال المصنف رحمه الله: [لها صريف، فلما عاين ذلك موسى ولى مدبراً ولم يعقب، فذهب حتى أمعن، ورأى أنه قد أعجز الحية، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه، ثم نودي: يا موسى! أن ارجع حيث كنت.
فرجع موسى وهو شديد الخوف.
فقال: خذها بيمينك {وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:21] وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف، فدخلها بخلال من عيدان، فلما أمره بأخذها أدلى طرف المدرعة على يده، فقال له ملك: أرأيت يا موسى، لو أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً؟ قال: لا ولكني ضعيف، ومن ضعف خلقت.
فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية، حتى سمع حس الأضراس والأنياب، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها، وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين؛ ولهذا قال تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:21] أي: إلى حالها التي تعرف قبل ذلك].(82/2)
تفسير قوله تعالى: (واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء)
قال تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:22 - 35].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا برهان ثان لموسى عليه الصلاة والسلام وهو: أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه كما صرح به في الآية الأخرى، وهاهنا عبر عن ذلك بقوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه:22]].
وفي الآية الأخرى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل:12] أي: آية أخرى.
قال المصنف رحمه الله: [وقال في مكان آخر: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [القصص:32]].
برهانان: البرهان الأول: العصا، والبرهان الثاني: اليد، فهذه معجزتان لموسى، دليل على صدقه وأنه رسول من عند الله تعالى.
قال المصنف رحمه الله: [وقال مجاهد: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه:22] كفه تحت عضدك، وذلك أن موسى عليه السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها، تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر، وقوله: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه:22] أي: من غير برص ولا أذى ومن غير شين.
قاله ابن عباس].
من غير شين، أي: من غير عيب.
قوله: (من غير شين)، أي: من غير عيب كالبرص وغيره من العيوب، فهي تتلألأ مثل القمر، وتلك معجزة له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم.
وقال الحسن البصري: أخرجها والله كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز وجل، ولهذا قال تعالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه:23].
وقال وهب: قال له ربه: ادنه، فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة، فاستقر وذهبت عنه الرعدة وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه.
وقوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] أي: اذهب إلى فرعون ملك مصر الذي خرجت فاراً منه وهارباً فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم؛ فإنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا، ونسي الرب الأعلى.
قال وهب بن منبه: قال الله لموسى: انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني، وإن معك يدي وبصري، وإني قد ألبستك جنة من سلطاني؛ لتستكمل بها القوة في أمري، فأنت جند عظيم من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي، وأمن مكري وغرته الدنيا عني، حتى جحد حقي، وأنكر ربوبيتي، وزعم أنه لا يعرفني، فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السماوات والأرض، والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال دمرته، وإن أمرت البحار غرقته، ولكنه هان علي وسقط من عيني، ووسعه حلمي، واستغنيت بما عندي، وحقي أني أنا الغني لا غني غيري، فبلغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي، وذكّره أيامي، وحذره نقمتي وبأسي، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي، وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة، ولا يروعنك ما ألسبته من لباس الدنيا؛ فإن ناصيته بيدي، ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني].
قوله: (يطرف) أي: ينظر بطرفه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقل له: أجب ربك فإنه واسع المغفرة، وقد أمهلك أربعمائة سنة في كلها أنت مبارزه بالمحاربة، تسبه وتتمثل به وتصد عباده عن سبيله، وهو يمطر عليك السماء، وينبت لك الأرض، لم تسقم، ولم تهرم، ولم تفتقر، ولم تغلب، ولو شاء الله أن يعجل لك العقوبة لفعل ولكنه ذو أناة وحلم عظيم، وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده، فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة -ولا قليل مني- تغلب الفئة الكثيرة بإذني، ولا تعجبنكما زينته ولا ما متع به، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين، ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي، وقديماً ما جرت عادتي في ذلك فإني لأذودهم عن نعيمها وزخارفها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم في دار كرامتي سالماً موفراً لم تكلمه الدنيا، واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا؛ فإنها زينة المتقين، عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع، وسيماهم في وجوههم من أثر السجود، أولئك أوليائي حقاً حقاً، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلل قلبك ولسانك، واعلم أنه من أهان لي ولياً أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة وبادأني، وعرض لي نفسه ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي؟ أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني؟ أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني؟ وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة لا أكل نصرتهم إلى غيري.
رواه ابن أبي حاتم].
وكلام وهب بن منبه هذا مأخوذ من الإسرائيليات والله أعلم.(82/3)
تفسير قوله تعالى: (قال رب اشرح لي صدري)
قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا سؤال من موسى عليه السلام لربه عز وجل أن يشرح له صدره فيما بعثه به؛ فإنه قد أمره بأمر عظيم، وخطب جسيم، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك، وأجبرهم وأشدهم كفراً، وأكثرهم جنوداً، وأعمرهم ملكاً، وأطغاهم وأبلغهم تمرداً، بلغ من أمره أن ادعى أنه لا يعرف الله ولا يعلم لرعاياه إلهاً غيره، هذا وقد مكث موسى في داره مدة وليداً عندهم في حجر فرعون على فراشه، ثم قتل منهم نفساً فخافهم أن يقتلوه، فهرب منهم هذه المدة بكمالها، ثم بعد هذا بعثه ربه عز وجل إليهم نذيراً يدعوهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له، ولهذا قال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26] أي: إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري وإلا فلا طاقة لي بذلك.(82/4)
تفسير قوله تعالى: (واحلل عقدة من لساني)
قال الله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذلك لما كان أصابه من اللثغ حين عرض عليه التمرة والجمرة، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه كما سيأتي بيانه، وما سأل أن يزول ذلك بالكلية بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة، ولو سأل الجميع لزال ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة، ولهذا بقيت بقية، قال الله تعالى إخباراً عن فرعون أنه قال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] أي: يفصح بالكلام.
وقال الحسن البصري: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه:27] قال: حل عقدة واحدة، ولو سأل أكثر من ذلك أعطي.
وقال ابن عباس: شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه سؤله، فحل عقدة من لسانه.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عمر بن عثمان حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه قال: أتاه ذو قرابة له فقال له: ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك، ولست تعرب في قراءتك.
فقال القرظي: يا ابن أخي! ألست أفهمك إذا حدثتُك؟ قال: نعم، قال: فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحلل عقدة من لسانه؛ كي يفقه بنو إسرائيل كلامه ولم يزد عليها.
هذا لفظه].
وهذا الإسناد منقطع في الموضعين، في قول ابن أبي حاتم: ذكر عن عمر بن عثمان، وفي قول أرطأة بن المنذر: حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب.
وفي هذه الآية الكريمة أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يشرح له صدره، وأن ييسر له أمره؛ لأنه أرسله بأمر عظيم، فقد أرسله بالنبوة والرسالة، وأرسله إلى أعظم ملوك أهل الأرض في زمانه، وأكثرهم عتواً وجبروتاً وطغياناً وهو فرعون ملك مصر، فقد ادعى الربوبية، وأنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات، وقال للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، فقد أنكر الرب العظيم تكبراً مع أنه كان مستيقناً في الباطن، كما قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، وصار فرعون إماماً في الضلال يقود إلى النار، كما قال الله عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41]، وصار كل إمام ضلال وإمام انحراف وإمام فساد ينسب إلى فرعون، ولهذا الجهمية الذين ينكرون علو الرب ينسبون إلى فرعون، فمن أنكر العلو فهو جهمي فرعوني، ومن أثبت علو الرب وأن الله في السماء فهو موسوي محمدي ينسب إلى موسى ومحمد عليهما السلام، ففرعون أنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات، وعذب بني إسرائيل وسامهم سوء العذاب، وأخاف الناس، كما قال الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
وفي إحدى الليالي رأى فرعون رؤيا أن ملكه سيزول على يد رجل من بني إسرائيل، فأمر بذبح أبناء بني إسرائيل، فقيل له: إنك إذا ذبحت بني إسرائيل لا تجد يداً عاملة؛ لأنهم هم اليد العاملة الذين يخدمونه، فأمر أن يذبحوا في سنة ويتركوا في سنة، فولد هارون في السنة التي يترك فيها الغلمان وولد موسى في السنة التي يذبح فيها الغلمان لحكمة أرادها الله، ولما خافت أم موسى على وليدها ألهمها الله بأن تضعه في تابوت وأن تلقيه في اليم، فذهب اليم بهذا التابوت حتى أوصله إلى دار فرعون، فأخذته امرأة فرعون فألقى الله محبته في قلبها، فقالت لزوجها فرعون: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9].
قال: إني أخشى أن يكون هذا هو الذي يكون هلاكي على يديه، قالت: {لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9] فتربى في حجر فرعون وهو يخاف منه، فتربى موسى في حجر امرأته في بيته وترعرع وأصبح شاباً، وقد خرج يوماً فوجد رجلين يقتتلان: إسرائيلي وقبطي، فاستغاثه الإسرائيلي على القبطي، فوكزه موسى فقضى عليه وقتله، فجاء رجل من المدينة يسعى قال: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20]، وهذا الفعل من موسى كان قبل النبوة، وإلا فالأنبياء معصومون من الشرك ومن الكبائر بعد النبوة، ثم ذهب إلى فلسطين واجتمع بالرجل الصالح، واتفق معه على أن يرعى له الغنم ثمانِ سنين أو عشر سنين ويزوجه إحدى ابنتيه، فرعى له الغنم هذه المدة وتزوج، ثم أخذ أهله وسار بها إلى جانب الطور، وكانت ليلة باردة كما أخبر الله في أول الآيات، وكان قد ضل الطريق فوجد ناراً قبله قرب جبل الطور، وقال لأهله: امكثوا إني آنست ناراً لعلي أجد خبراً، أي: أحداً يدلنا على الطريق أو آخذ جذوة من النار لتصطلون وتستدفئون بها، فلما جاء إلى الطور كلمه الله ونبأه وبعثه وأرسله إلى فرعون، فسأل ربه أن يشرح صدره، وأن ييسر له أمره، وأن يعينه على هذا الأمر العظيم، فقد أرسل إلى جبار لا يبالي بالقتل والبطش، جبار ادعى الربوبية، ويسوم الناس سوء العذاب، كيف وموسى قد قتل رجلاً منهم أيضاً وهو مطلوب من أجله، فالله سبحانه وتعالى يسر له أمره، وشرح صدره وحل عقدة من لسانه وقوى أزره بأخيه هارون، واستجاب الله طلبه وجعله نبياً مثله وأعانه، وقال سبحانه وتعالى لموسى وأخيه: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] فذهبا إلى فرعون، وكان من أمرهما ما قص الله علينا في كتابه كما سيأتي.(82/5)
تفسير قوله تعالى: (واجعل لي وزيراً من أهلي)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} [طه:29 - 30]، وهذا أيضاً سؤال من موسى عليه السلام في أمر خارجي عنه وهو مساعدة أخيه هارون له.
قال الثوري: عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: نبئ هارون ساعتئذ حين نبئ موسى عليهما السلام.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن نمير حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر فنزلت ببعض الأعراب، فسمعت رجلاً يقول: أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا: لا ندري؟ قال: أنا والله أدري! قالت: فقلت في نفسي: في حلفه لا يستثني، إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه، قال: موسى حين سأل لأخيه النبوة.
فقلت: صدق والله! قلت: ومن هذا قال الله تعالى في الثناء على موسى عليه السلام: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]].
قلت: هذا الأثر منقطع الإسناد، فهو إذاً ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه:31] قال مجاهد: ظهري.
{وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:32] أي: في مشاورتي.
{كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه:33 - 34] قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً.
وقوله: {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:35] أي: في اصطفائك لنا، وإعطائك إيانا النبوة، وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون، فلك الحمد على ذلك].
{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} [طه:36] يعني: أجاب الله سؤاله في هذه الأمور كلها، فشرح صدره، ويسر له أمره، وحل عقدة من لسانه، وجعل أخاه هارون نبياً معه، ووزيراً له يشد أزره، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه على عبده ورسوله موسى عليه الصلاة والسلام.
وقول الله تعالى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26] فهذا دعاء في كل وقت وليس في الاختبارات فقط، بل ينبغي للمسلم أن يقول: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26] في كل وقت وحين، وشرح الصدر، قال الله تعالى لنبيه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:1 - 2].
وإذا شرح الله للإنسان صدره، وهداه للإسلام ووفقه ويسر له أمره، حصل على كل شيء في كل وقت.
والإنسان يثاب على كل شيء، فعندما يبتلى بالهموم أو الغموم أو ضيق الصدر أو أي شيء يؤلم الإنسان المؤمن فإنه يثاب عليه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن إلا كفر الله من خطاياه حتى الشوكة يشاكها) فعندما يصاب بالهم والغم فإنه يحتسب ويسأل ربه، ويتضرع إلى الله أن يزيل همومه وغمومه وأن يشرح صدره وهو مأجور على ذلك.(82/6)
تفسير سورة طه [36 - 40]
سأل موسى ربه أن يشد أزره بأخيه هارون، وأن يشرح صدره ويحلل عقدة من لسانه حتى يبلغ دعوة ربه، فاستجاب الله له وذكره بالنعم التي أنعم بها عليه منذ ولادته إلى أن خرج من مصر هارباً.(83/1)
تفسير قوله تعالى: (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى)
قال الله تعالى: [{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:36 - 40].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذه إجابة من الله لرسوله موسى عليه السلام فيما سأل من ربه عز وجل وتذكير له بنعمه السالفة عليه فيما كان من أمر أمه حين كانت ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه؛ لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها الغلمان، فاتخذت له تابوتاً فكانت ترضعه ثم تضعه فيه وترسله في البحر وهو النيل وتمسكه إلى منزلها بحبل، فذهبت مرة لتربط الحبل فانفلت منها وذهب به البحر، فحصل لها من الغم والهم ما ذكره الله عنها في قوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص:10] فذهب به البحر إلى دار فرعون].
قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص:10] يعني: لولا أن الله ربط على قلبها لذهب عقلها، فقد جبل الله الأم على الحب لولدها، فكيف تستطيع الصبر؟! فأرادت أن ترده لكن الله تعالى ربط على قلبها، وتولى الله هذا الغلام بعنايته لما أراد به من الكرامة، وإطلاعه لما أراد به سبحانه من إظهار الدلائل للناس على أن الله على كل شيء قدير، ومن المعجزات على يدي موسى عليه الصلاة والسلام، وله الحكمة البالغة: أن الله تولاه بعنايته، فهو الذي خلق البحر وخلق أم موسى وخلق موسى وخلق فرعون، وهو الذي حفظه، فسار هذا التابوت حتى وصل إلى دار فرعون، وكان فرعون يقول: {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] يعني: بيته الذي تجري من تحته النيل.
وكان فرعون قد رأى رؤيا فعبرت له أنه سيزول ملكه على يد رجل من بني إسرائيل، فكان الأقباط يمتهنون بني إسرائيل لأنهم عمال عندهم، والعمال لا قيمة لهم عند الأقباط ولا وزن، فلما قتلهم قيل ستنتهي اليد العاملة من كثرة القتل، فجعل يقتلهم سنة ويتركهم سنة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] أي: قدراً مقدوراً من الله حيث كانوا هم يقتلون الغلمان من بني إسرائيل حذراً من وجود موسى، فحكم الله وله السلطان العظيم والقدرة التامة أن لا يربى إلا على فراش فرعون ويغذى بطعامه وشرابه مع محبته وزوجته له].
وهذه حكمة بالغة، فهو يقتل الغلمان خوفاً منه، ومع ذلك يتربى هذا الغلام الذي سيكون زوال ملكه على يديه في بيته، وفي حجر امرأته ويأكل من طعامه وشرابه، وصار كأنه ابن من أبناء الملوك، وهذا من حكم الله العظيمة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] أي: عند عدوك جعلته يحبك.
قال سلمة بن كهيل: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] قال: حببتك إلى عبادي.
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39].
قال أبو عمران الجوني: تربى بعين الله].
قوله: بعين الله، أي برعايته وعنايته سبحانه وتعالى، فهو الذي تولى عنايته.
وهذه من العبر العظيمة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: تغذى على عيني.
وقال معمر بن المثنى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] بحيث أرى.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف وغذاؤه عندهم غذاء الملك، فتلك الصنعة.(83/2)
تفسير قوله تعالى: (إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} [طه:40] وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون عرضوا عليه المراضع فأباها.
قال الله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]].
قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:12] هذا التحريم تحريم قدري، والتحريم ينقسم إلى قسمين: تحريم شرعي، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:3] فهذا تحريم شرعي، والثاني: تحريم قدري، {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:12] يعني منعناه قدراً وكوناً لما استقر في بيت فرعون، وألقى الله المحبة في قلب امرأة فرعون، وقالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9] وليس لهم أولاد، فأرادوا أن يرضعوه فلم يقبل المراضع أبداً، فكلما أتوا بمرضعة رفضها وتركها، وهذا معنى قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:12]، فجعلت أخته تطوف تتحسس وتتجسس وهم يبحثون عن مرضعة، فقالت أخته: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]، فدلتهم على أمه؛ فلما جاءوا به إلى أمه وأعطته ثديها التقم الثدي ففرحوا بذلك وصاروا يعطونها أجرة وهي أمة ويأخذونه منها، وصارت أم موسى ترضع ابنها وتأخذ أجرتها كما جاء في الحديث؛ وهذا معنى قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:12] أي: تحريم قدري.
والظاهر: أن زوجة فرعون هي التي أحبت موسى في الأول، ولذلك قالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9] ثم قذف الله محبته في قلب فرعون وإلا لما أبقاه في بيته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فجاءت أخته وقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]].
يعني: يربونه لكم ويرضعونه ويقومون بشئونه؛ فيكفوكم المئونة من جهة الإرضاع والإطعام والعناية والتنظيف ويردونه عليكم، وهذا يسر أمه ويزول ما في أمه من اللوعة على ابنها، فهذا من عناية الله ولطفه بموسى وبأمه.
ولا تؤخذ صفة العين من هذه الآية، وهي قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فالمراد بها: على عنايتي، لكن صفة العين تؤخذ من حديث جابر: (إن الدجال أعور العين اليمنى وإن ربكم ليس بأعور).
فقد أخذ العلماء من هذا إثبات العين لله وأن لله عينان كريمتان، أما قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39].
وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فمعناه: على مرأى منا وعناية، فإثبات العين إنما يؤخذ من حديث جابر.
وهذا مثل قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] فليس فيه إثبات اليدين؛ لأن الأيدي جمعت وأضيفت بالجمع وعلمنا ذلك، والعين هنا أفردت، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39].
فالله تعالى له عينان، إنما يأتي هذا إذا أضيفت إلى الرب سبحانه وتعالى: (إن ربكم ليس بأعور) مثل اليد، في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] لكن يؤخذ منه إثبات جنس العين، أما إثبات العينين فإنما يؤخذ من حديث جابر.
وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] فيه إثبات اليد لله، لكن إثبات اليدين يؤخذ من قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] لأنها مثنى ومضافة إلى الرب سبحانه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تعني: هل أدلكم على من ترضعه لكم بالأجرة، فذهبت به وهم معها إلى أمه، فعرضت عليه ثديها فقبله، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً واستأجروها على إرضاعه، فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا وفي الآخرة أعظم وأجزل].
وأيقنت بما ألهمها الله في أن الله سيتم أمره، وزال القلق والخوف والهم الذي أصابها، كما قال الله: {وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا جاء في الحديث: (مثل الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها)].
يعني: أن الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير يأخذ الأجرة على صنعته كالحداد والنجار مثلاً، فهو يأخذ أجرة على صنعته وله أجر عند الله في أن نفع الأمة بهذه الصنعة، فكذلك أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها، فاكتسبت من جهة ابنها، مع أنها سترضعه حتى ولو دفعت هي أجراً على إرضاعه، فكذلك الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير، فهو يأخذ أجرة على هذه الصنعة ويحتسب بها معيشته ولأهله ويأجره الله على حسابه وأجره ونيته.
وروى أبو داود في المراسيل من طريق جبير بن نفير نحوه ولفظه: (مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون الجعل ويتقوون على عدوهم به مثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى هاهنا: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [طه:40] أي: عليك.
{وَقَتَلْتَ نَفْسًا} [طه:40] يعني: القبطي، {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} [طه:40] وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله؛ ففر منهم هارباً حتى ورد ماء مدين، وقال له ذلك الرجل الصالح: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]].
أي: أنه ذهب وابتعد عن مملكة فرعون فليس له سلطان على هذا المكان.
والذي قال له هذا هو رجل صالح، وما يذكره بعض الناس من أنه شعيب النبي فليس بصحيح؛ لأن شعيب متقدم، وهو في زمن قوم لوط، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89] وقوم لوط في زمن إبراهيم، وبين إبراهيم وموسى دهور من الزمن، فهو رجل صالح وإن كان اسمه شعيباً فهو تشابه في الأسماء لا غير.(83/3)
حديث الفتون
قال المؤلف رحمه الله تعالى: وقوله: [{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40]: قال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله في كتاب التفسير من سننه: قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40] حدثنا عبد الله محمد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا أصبغ بن زيد حدثنا القاسم بن أبي أيوب أخبرني سعيد بن جبير قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عز وجل لموسى عليه السلام: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40] فسألته عن الفتون ما هو؟ فقال: استأنف النهار يا ابن جبير! فإن لها حديثاً طويلاً، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم، فقال فرعون: فكيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه، ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم والصغار يذبحون، قالوا: ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم].
يعني: أن العمال من بني إسرائيل قد كانوا ممتهنين، فهم الذين يخدمون ويعملون، فإذا كان الكبار يموتون بآجالهم والصغار يذبحون فمن يشتغل ومن يعمل؟ فلا يبقى إلا النساء، والنساء لا يستطعن أن يعملن كثيراً من الأعمال؛ لأن النساء ضعيفات، فلذلك اتفقوا على أن يترك الصغار سنة ويذبحوا سنة، فولد هارون في السنة التي يترك فيها الغلمان، وولد موسى في السنة التي يذبح فيها الغلمان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر فيقل أبناؤهم، ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلك].
أي: أنهم وجدوا أن هذا حل رصين، فيقتلون في عام ويبقون عام؛ لأنهم إذا قتلوا في عام لم يكثروا كثرة يخاف منها، وتبقى منهم بقية يقومون بالخدمة والعمل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية آمنة].
أي: آمنة مطمئنة؛ لأن الغلمان لا يذبحون في هذا العام، وهارون أخو موسى لأمه وأبيه، وأما قوله: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} [طه:94] فهو من باب الاستعطاف، فهو يستعطفه بنسبته إلى أمه وإلا فهو أخوه لأبيه وأمه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما كان من قابل حملت بموسى عليه السلام، فوقع في قلبها الهم والحزن، وذلك من الفتون يا ابن جبير! ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به، فأوحى الله إليها ألا تخافي ولا تحزني؛ إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين].
هذا الوحي إلهام، كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] أي: ألهمها الله ذلك، فالوحي يطلق على الإلهام، وكقوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل:68] يعني: وحي إلهام، وقد استدل ابن حزم رحمه الله بهذا على أن أم موسى نبية، قال: إن الله أوحى إليها، وكذلك أيضاً مريم أم عيسى قال: إنها نبية، لأن الملائكة كلمتها، كما قال تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} [آل عمران:43]، وكذلك سارة امرأة إبراهيم قال: إنها نبية! وهذا من أوهامه وأخطائه رحمه الله، والصواب الذي عليه جمهور العلماء أنه ليس في الأنبياء نبية، وإنما هذا وحي إلهام، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] فالنبوة خاصة بالرجال وليس في النساء نبية، ولأن الله تعالى قال في شأن أفضلهن وهي أم عيسى مريم في مقام الامتنان: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] يعني: بلغت درجة الصديقين ولكنها لم تبلغ درجة النبوة، فلو كان هناك أعلى من هذا لذكره الله في مقام الامتنان، وهذا هو الصواب بنص الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا} [يوسف:109].
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن يكن في أمتي محدثون -يعني: ملهمون- فإن منهم عمر)، فظاهر الحديث أن هناك محدثين ومنهم عمر رضي الله عنه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم، فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها: ما فعلتُ بابني؟! لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه، فانتهى الماء به حتى أوفى عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه فأردن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن: إن في هذا مالاً، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدناه فيه، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئاً حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه غلاماً فألقى الله عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط، وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبير! فقالت لهم: أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل].
أي: أنهم جاءوا بشفارهم ليذبحوه بناء على الأوامر الصادرة من فرعون: أن يذبحوا كل غلام في هذه السنة يذبح، فلما جاءوا إليها قالت: إليكم، أقروا هذا فهو واحد لا يزيد في بني إسرائيل ولو كان في السنة التي يذبح فيها الغلمان، قال ابن عباس: وهذا من الفتون، والفتون: ما أصابها من الهم حين حملته في بطنها.
والخوف عليه، ثم لا تركته في ذلك التابوت، ثم لما أتي به إلى امرأة فرعون وجاء الذباحون، كل هذا من الفتون الداخل في قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالت لهم: أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فأتت فرعون فقالت: قرة عين لي ولك، فقال فرعون: يكون لكِ فأما لي فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي يحلف به! لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها، ولكن حرمه ذلك)، فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لبن لتختار له ظئراً].
الظئر هي المرضعة غير الأم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئراً تأخذه منها فلم يقبل، وأصبحت أم موسى والهاً؛ فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكراً؟ وهل هو حي أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت ما وعدها الله فيه، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:11]، والجنب: أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه وهو لا يشعر به، فقالت من الفرح حين أعياهم وجود الظئر: أنا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُون، فأخذوها فقالوا: وما يدريكِ ما نصحهم له، هل تعرفينه؟ فشكوا في ذلك، وذلك من الفتون يا ابن جبير!].
يعني: شكوا فيها، هل هي أمه أم لا؟ وهذا من مواضع الفتون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في صهر الملك ورجاء منفعة الملك، فتركوها].
يعني: محبتهم أن يكونوا نصحاً وظئراً للملك، وعندها زال الشك عنهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئراً، فأرسلت إليها، فأتت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثي ترضعي ابني هذا فإني لم أحب شيئاً حبه قط.
قالت أم موسى: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيراً فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه، فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله منجز وعده].
يعني: أنها كانت تريد البقاء عند ابنها لولا أنما تذكرت قول الله فتعاسرت وأيقنت بوعد الله قال تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] وأن الله لن يضيعه، فسأذهب إلى بيتي ولابد أن يرضحوا لهذا، فرضخت امرأة فرعون لأم موسى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فرجعت به إلى بيتها من يومها وأنبته الله نباتاً حسناً وحفظه لما قد قضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم].
يعني: خف وزال عنهم الظلم بسبب أن موسى منهم وهو عند فرعون الملك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أزيريني ابني، فدعتها يوماً تزيرها إياه فيه].
قوله: أزيريني: من الزيارة، والظاهر أنه بقي مدة تربيته عند أمه لا يذهب إلى امرأة فرعون فيها، ولعله في وقت من أوقات صغره، ثم بعد ذلك أخذته إن صح هذا، فيكون هذا في صغره قبل الفطام ثم بعد ذلك صار في بيت فرعون، وفي هذا قال الله عن فرعون أنه قال لموسى: {أَ(83/4)
إرسال الله تعالى موسى إلى فرعون
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن، فشكا إلى الله تعالى ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه؛ فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءاً، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه، وأوحى الله إلى هارون، وأمره أن يلقاه فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليهما الصلاة والسلام فانطلقا جميعاً إلى فرعون فأقاما على بابه حيناً لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فقالا: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه:47] قال: فمن ربكما؟].
قوله: فأخبراه أي: موسى وهارون.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأخبره بالذي قص الله عليك بالقرآن، قال فما تريدان؟ وذكره القتيل].
أي: القتيل الذي قتله موسى، كما قال الله في سورة الشعراء: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} [الشعراء:18 - 19]، أي: القتل، {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:19]، {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فاعتذر بما قد سمعت قال: أريد أن تؤمن بالله وترسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه وقال: ائت بآية إن كنت من الصادقين.
الخطاب لموسى، وهارون معه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء، يعني: من غير برص، ثم ردها فعادت إلى لونها الأول فاستشار الملأ حوله فيما رأى].
استشار أي: فرعون، والملأ: أشرافه وكبراؤه ووزراؤه، وخاصته.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقالوا له: هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهب بطريقتكم المثلى، يعني: ملكهم الذي هم فيه، والعيش، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئاً مما طلب، وقالوا له: اجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير].
قوله: قالوا خطاب لفرعون، أي: أن الأشراف قالوا لفرعون اجمع السحرة فإنهم يقابلون موسى وعندهم قدرة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حتى تغلب بسحرك سحرهما، فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا: بما يعمل هذا الساحر؟ قالوا: يعمل بالحيات، قالوا: فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل، وما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم: أنتم أقاربي وخاصتي].
أي: كما قال الله: {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42]، أي: مقربون إلي، فوعدهم بأنه سيقربهم، ويعطيهم الهبات وجزيل العطايا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم، فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى، قال سعيد بن جبير: فحدثني ابن عباس: أن يوم الزينة الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء].
يحشر أي: يجتمع الناس، وأعلن بأنه سيكون اجتماع كبير للسحرة من جميع مدائن مصر مع موسى، ويحضر الناس في يوم ووقت معينين، ويجتمعون وينظرون، ويكون موسى والسحرة أمامهم، وينظر هؤلاء الجمع أيهما الذي يغلب.
السؤال
هل يوم الزينة الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء؟
الجواب
هذا على ما جاء في الحديث قال سعيد بن جبير: حدثني ابن عباس أنه يوم عاشوراء.
وهذا اليوم محتمل أنه يوم الزينة، وظاهره أنه يوم يتزينون فيه، وأنه يوم عيد لهم، يلبسون فيه الثياب الجميلة، وليس ببعيد أنه يوم العيد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:40]].
الناس كلهم في هذا الاجتماع يقولون: ننظر السحرة فإنهم سيغلبون، ولا يشكون أن السحرة سيغلَبون؛ لأنه واحد أو اثنين أمام هذا الجمع من السحرة الذين لهم دراية وعناية بالسحر لمدة طويلة، كما قال: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف:112]، وهم لا يشكون في أن السحرة سينتصرون، ويقولون: انظروا نجتمع فإذا غلبت السحرة اتبعنا السحرة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يعنون: موسى وهارون استهزاء بهما، فقالوا: {يَا مُوسَى} [الأعراف:115] لقدرتهم بسحرهم، {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف:115]، {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44].
حلفوا وأقسموا بعزة فرعون؛ لتعظيمهم له، فلما ألقوا الحبال والعصي امتلأ الوادي حبالاً وعصياً، وجعلوا فيها الزئبق، وجعلت تتلوى، وصار الوادي كله حيات وعقارب تتلوى، وأقسموا بعزة فرعون أنهم سيغلبون موسى، وفرعون أعظم شيء عندهم، حتى إن موسى عليه السلام أوجس في نفسه خيفة كما قال الله: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه:68 - 69].
فلما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة، وابتلعت جميع ما في الوادي من الحبال والعصي، فلما رأى السحرة الأمر عرفوا أن هذا ليس من صنع البشر، وأنه لا طاقة لهم به، وأيقنوا أن هذا من عند الله فآمنوا في الحال وسجدوا لله، قال تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122].
قال لهم فرعون: إن هذه خطة مدبرة بينكم وبين موسى، ولكن سوف أعذبكم وأقطع أيديكم وأرجلكم من خلاف، قالوا: افعل ما تريد إنا آمنا بربنا، فقد ظهر لنا الحق، قال تعالى: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]، أي: اقض ما أنت قاض، تعذب، أو تقتل، فنحن لا نبالي، فقد ظهر لنا الحق، وظهر لنا أن هذا شيء من عند الله وليس من عند البشر، فافعل ما تريد.
ولم يكن ما ألقوه حيات حقيقية كما قال الله {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] فهي حيات: حبال وعصي جعلوا فيها الزئبق، وصارت تتلوى، وسحروا أعين الناس واسترهبوهم حتى أصاب الناس رهبة، كما قال تعالى: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، سحروا أعين الناس، وأصاب الناس رهبة حتى أن موسى وجد في نفسه خيفة، لكن الحق يعلوا ولا يعلى عليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة، فأوحى الله إليه أن ألق عصاك، فلما ألقاها صارت ثعباناً عظيمة فاغرة فاها، فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جرزاً إلى الثعبان تدخل فيه، حتى ما أبقت عصاً ولا حبلاً إلا ابتلعته، فلما عرفت السحرة ذلك قالوا: لو كان هذا سحراً لم يبلغ من سحرنا كل هذا، ولكن هذا أمر من الله عز وجل، آمنا بالله وبما جاء به موسى، ونتوب إلى الله مما كنا عليه] {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70]، فكلهم خروا لله سجداً، وآمنوا في الحال وتابوا، فتوعدهم فرعون وقال: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} [الأعراف:124]، يقال: إنه قتلهم، فكانوا في أول النهار سحرة كفرة وفي آخر النهار شهداء بررة، وهذا على القول بأنه قتلهم، وسيأتي الكلام فيها على ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119]، وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه].
لأنها مؤمنة رضي الله عنها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه، وإنما كان حزنها وهمها لموسى، فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف موعده، وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات كل ذلك يشكو إلى موسى، ويطلب إليه أن يكفها عنه، ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلاً فلما أصبح فرعون، ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة، وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه].
أي: لما أخلف فرعون الموعد ولم يرسل معه موسى بني إسرائيل سار بهم موسى، فأرسل فرعون في المدائن وحشر الناس، وتبع موسى مع بني إسرائيل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر، وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا لله، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء:61]، وتقاربا {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب، قال: وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم ا(83/5)
عبادة بني إسرائيل العجل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم، وقال: إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عوار وودائع].
قوله: عوارٍ: جمع عارية، والودائع: جمع وديعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولكم فيهم مثل ذلك فإني أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية، ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثم أوقد عليه النار فأحرقته فقال: لا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري من قوم يعبدون البقر جيران لبني إسرائيل، ولم يكن من بني إسرائيل فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا.
فقضي له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة، فمر بهارون فقال له هارون عليه الصلاة والسلام: يا سامري، ألا تلقي ما في يدك؟ -وهو قابض عليه لا يراه أحد طول ذلك- فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يجعلها ما أريد، فألقاها].
أي: ألقى أثر الفرس الذي عليه جبريل.
وقوله: قابض أي: على قبضة التراب في يده من أثر الفرس الذي عليه جبريل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ودعا له هارون فقال: أريد أن يكون عجلاً فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع، أو حلية، أو نحاس، أو حديد، فصار عجلاً أجوف ليس فيه روح وله خوار، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا والله ما كان له صوت قط، إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه، وكان ذلك الصوت من ذلك فتفرق بنو إسرائيل فرقاً، فقالت فرقة: يا سامري ما هذا وأنت أعلم به؟ قال: هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق].
كما قال الله تعالى قال: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه].
أي: اشتبه عليهم ربهم فما عرفوه، نسأل الله العافية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى.
وقالت فرقة: هذا من عمل الشيطان وليس بربنا، ولا نؤمن به، ولا نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل].
وقوله: أشرب أي: أشربوا حب العجل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أعلنوا التكذيب به، فقال لهم هارون عليه الصلاة والسلام: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90]، قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوماً ثم أخلفنا، هذه أربعون يوماً قد مضت، وقال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه يتبعه، فلما كلم الله موسى وقال له ما قال أخبره بما لقي قومه من بعده: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه:86]، فقال لهم ما سمعتم في القرآن، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وألقى الألواح من الغضب، ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له.
وانصرف إلى السامري فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه:96]، وفطنت لها، وعميت عليكم، {فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه:96 - 97].
ولو كان إلهاً لم يخلص إلى ذلك منه، فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون، فقالوا لجماعتهم: يا موسى، سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فيكفر عنا ما عملنا].
أي: يكفر عنهم ذنبهم حينما عبدوا العجل، وقولهم: سل لنا ربك؛ لأنه كان وجيهاً عنده، ومع عتوهم فهم معترفون بها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فاختار موسى قومه سبعين رجلاً لذلك لا يألوا الخير خيار بني إسرائيل، ومن لم يشرك في العجل، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة فرجفت بهم الأرض، فاستحيا نبي الله من قومه، ومن وفده حين فعل بهم ما فعل.
فقال: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف:155]، وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به، فلذلك رجفت بهم الأرض فقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:156 - 157].
فقال: يا رب، سألتك التوبة لقومي فقلت: إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة؟].
يقصد: محمداً صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا، وغفر الله للقاتل والمقتول].
هذه التوبة قال الله تعالى فيها: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة:54]، توبتهم من عبادة العجل أن يقتل أحدهم أباه أو أخاه، فكل واحد يقتل من أمامه، فانجلت هذه الغمة وتاب الله عليهم.
نسأل الله السلامة والعافية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم سار بهم موسى عليه الصلاة السلام متوجهاً نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمرهم به أن يبلغهم من الوظائف فثقل ذلك عليهم، وأبوا أن يقروا بها فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل، والكتاب بأيديهم، وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم].
كما قال الله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [الأعراف:171] نعم.(83/6)
امتناع بني إسرائيل من دخول الأرض المقدسة، وعقاب الله لهم بالتيه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون خلقهم خلق منكر، وذكروا من ثمارهم أمراً عجيباً من عظمها، فقالوا: يا موسى، إن فيها قوماً جبارين لا طاقة لنا بهم، ولا ندخلها ما داموا فيها، {فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22] {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [المائدة:23] قيل لـ يزيد هكذا قرأت؟ قال: نعم من الجبارين آمنا بموسى، وخرجا إليه قالوا: نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم، وعددهم فإنهم لا قلوب لهم، ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون].
الآية قرأت: (أن فيها قوماً من الجبارين)، وقراءة حفص: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة:22].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويقول أناس: إنهم من قوم موسى فقال الذين يخافون بنو إسرائيل: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، فأغضبوا موسى فدعا عليهم وسماهم فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين، وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض].
هذا هو التحريم القدري.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار].
غضب الله عليهم وعاقبهم لما امتنعوا من دخول الأرض المقدسة، وحرمها عليهم أربعين سنة حتى مات هذا الجيل، ومات موسى في الصحراء بين مصر وبين فلسطين في التيه، عاقبهم الله بالتيه فصاروا لا يهتدون إلى البلد، فيدورون ويرجعون مكانهم حتى هلكوا، ومات موسى معهم في التيه، ونشأ جيل جديد؛ لأن هذا الجيل تربى على الذعر والخوف من فرعون، وجاء جيل جديد، وجاء فتاه يوشع بن نون -فتى موسى- الذي أصبح نبي بعد ذلك، وفتح بيت المقدس بأحفادهم وأبنائهم من الجيل الجديد.
أما الجيل الأول فإنهم رفضوا امتنعوا، وقالوا: لا يمكن أن ندخل الأرض المقدسة، حتى قالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24]، فقال موسى: إن الله وعدني لئن أنتم سبقتم ودخلتم عليهم فإنكم غالبون، لكن رفضوا فحرمها الله عليهم، وعاقبهم بالتيه أربعين سنة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثياباً لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجراً مربعاً، وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية ثلاثة أعين، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها].
حتى لا يحصل نزاع بينهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلا يرتحلون من مكان إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس.
رفع ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس رضي الله عنه عنهما يحدث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل، فقال: كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك؟ فغضب ابن عباس رضي الله عنهما فأخذ بيد معاوية وانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري فقال له: يا أبا إسحاق هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني؟ قال: إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره.
وهكذا رواه النسائي رحمه الله في السنن الكبرى، وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما، كلهم من حديث يزيد بن هارون به، وهو موقوف من كلام ابن عباس وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره والله أعلم، وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضاً].
وهذا الحديث حديث طويل عظيم، وفي رفعه نظر، وهو موقوف على ابن عباس وقد أخذ أكثره من بني إسرائيل، وبعضه مرفوع، وهذا الحديث يسمى حديث الفتون.(83/7)
تفسير سورة طه [41 - 48]
من حكمة الله وعدله أنه لا يعذب قوماً إلا بعد أن يرسل إليهم رسلاً؛ حتى تقام عليهم الحجة ولا يكون لهم عذر بعد ذلك، ومن ذلك أنه أرسل موسى وأخاه هارون إلى فرعون وقومه، وأمرهما بأن يلينا لفرعون لعله يتذكر ويستجيب لدعوة الله، فلما لم يستجب ولم يؤمن بآيات الله أنزل الله به بأسه وسطوته وانتقامه.(84/1)
تفسير قوله تعالى: (واصطنعتك لنفسي)
قال الله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي * اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:41 - 44].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخاطباً لموسى عليه الصلاة والسلام: إنه لبث مقيماً في أهل مدين فاراً من فرعون وملئه يرعى على صهره].
أي: يرعى الغنم، وهذا حسب الاتفاق الذي كان بينه وبين صهره أنه يرعى الغنم ثماني سنين فيكون منه هذه المنفعة مهراً لزواجه.
قوله: يرعى على صهره: الكلام مختصر، والمعنى: لأجل الاتفاق الذي حصل بينه وبينه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حتى انتهت المدة، وانقضى الأجل، ثم جاء موافقا لقدر الله وإرادته من غير ميعاد، والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء، ولهذا قال: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]].
في هذه الآية يقول الله تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]، وهي دليل على إثبات القدر، وأن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن كل ما يعمله العباد بقدر، جاء في الحديث: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)، أي: حتى العجز والكسل الذي يصيب الإنسان والكيس والجد والنشاط كله بقدر، وكذلك كل شيء يعمله العباد، وكل شيء في هذا الوجود مما يعمله الناس، ومما يعمله الدواب والحيوانات والملائكة خلقهم وإيجادهم وذواتهم وصفاتهم وأفعالهم، وكل حركة وسكون في هذا الوجود وكل رطب ويابس هو مكتوب في اللوح المحفوظ.
قال الله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]، والإمام المبين: هو اللوح المحفوظ، قال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70]، قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].
ومن ذلك ما في هذه الآيات الكريمة من لبث موسى في مدين عشر سنين، ثم إرسال الله عز وجل له وإعطائه النبوة والرسالة، وإرساله إلى فرعون كل هذا بقدر؛ ولهذا قال سبحانه: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]، ليس صدفة، ولا شيء مستحدث وجديد لم يكتب في الأجل، بل شيء مكتوب ومقدر.
فالله تعالى علم أعمال العباد وأفعالهم وذواتهم وصفاتهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء).
ولما سأل الصحابة رضوان الله عليهم: (قالوا: يا رسول الله! ما يعمله العباد أشيء فرغ منه؟ أم شيء يستقبلونه، فقال عليه الصلاة والسلام: لا بل فرغ منه، قالوا: يا رسول الله، ففيم العمل؟ - مادام مفروغ منه- قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فسييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]) فهذا ميسر لليسرى وهذا ميسر للعسرى.
وكل شيء من خير وشر من طاعات ومعاصي من حركة وسكون من ذوات وصفات كلها مقدرة ومكتوبة ولا يوجد شيء يخرج عن القدر.
وهو قدر كوني وقدري، قال تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]، فهو كوني لأن الله قدره، وهو شرعي لأن الله أرسل وقدر شرعاً، وأمرهم شرعاً بذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء، ولهذا قال: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]].
كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:22]، هو المسير لعباده ومخيرهم، وقد يسأل بعض الناس ويقول: هل الإنسان مسير أو مخير؟ فنقول: الإنسان مسير ومخير جميعاً، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:22]، وهذه كلمة مستحدثة ما كان الناس يعرفونها، لكن استحدثها بعض الناس وصاروا يسألون: هل الإنسان مسير أو مخير؟ فنقول: مسير ومخير، فهو مسير؛ لأن الله قدر كل شيء، ومخير؛ لأن العبد له قدرة واختيار ومشيئة، لكنها تابعة لمشيئة الله، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29].
فالعبد له قدرة ومشيئة واختيار إلا أنها تابعة لمشيئة الله.
فإن قيل: ما حكم إطلاق لفظ: صدفة عند اللقاء بغير ميعاد؟ قلنا: إذا كان مقصودك أنه بالنسبة لك فجائز، هذا بالنسبة بيني وبينك، وبين البشر بعضهم بعضاً.
أما بالنسبة لله فلا يوجد شيء اسمه صدفة، بل كل شيء مقدر، فإذا قصد بالنسبة لله نقول: هذا باطل، أما بالنسبة للمخلوق أي: بيني وبينك تقول: صدفة، فجائز، لأني لا أعلم شيئاً، والمخلوق ضعيف ناقص، وأنت كذلك لا تعلم، وليس بيننا ميعاد، ولا اتفاق سابق فقابلتك صدفة.
{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]؟ أرسل الله موسى إلى فرعون على قدر بعدما لبث في مدين على قدر قدره الله قدراً وشرعاً.
وموسى لا يعلم أنه سيعود، فبعد أن رعى الغنم عشر سنين وذهب بأهله في يوم بارد، وضل الطريق، فرأى ناراً عند جبل الطور وكان في يوم شات بارد وليلة مظلمة، ولا يجد من يدله على الطريق فقال لأهله: امكثوا في هذا المكان وسآتي هذه النار فإما أن أجد عندها أحداً يدلنا على الطريق، أو على الأقل نأخذ منها جذوة من النار نستدفئ بها من البرد، فلما جاء إلى الجبل نبأه الله وأرسله، وهو لا يعلم قبل ذلك، لكن الله أكرمه بالرسالة.(84/2)
ذكر احتجاج آدم وموسى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]، قال مجاهد: أي على موعد، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]، قال: على قدر الرسالة والنبوة].
فقدر الله أن الله يرسله وينبئه في هذا الوقت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، أي: اصطفيتك واجتبيتك رسولاً لنفسي، أي: كما أريد وأشاء، وقال البخاري عند تفسيرها: حدثنا الصلت بن محمد قال: حدثنا مهدي بن ميمون قال: حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (التقى آدم وموسى فقال موسى: أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم: وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فوجدته قد كتب علي قبل أن يخلقني قال: نعم.
فحج آدم موسى)، أخرجاه].
أي: آدم حج موسى؛ لأن موسى إنما لام آدم على المصيبة التي لحقته وذريته بالإخراج من الجنة، فقال: أنت أشقيتنا وأشقيت نفسك وأخرجتنا من الجنة، فاحتج آدم بأن المصيبة مكتوبة عليه، قال: (أنت الذي اصطفاك الله برسالته)، وقوله: فوجدت ذلك أي: في التوراة مكتوب علي، وفي اللفظ الآخر: (قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ قال: نعم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى).
وفي لفظ أنه كرر هذا اللفظ ثلاث مرات: (حج آدم موسى، حج آدم موسى) أي: غلبه وخصمه بالحجة؛ لأن الاحتجاج بالقدر على المصيبة جائز، وليس المراد أنه لامه على الذنب؛ لأنه تاب من الذنب والتائب لا يلام، وإنما لامه موسى على المصيبة التي لحقته وذريته فاحتج آدم بأن المصيبة مكتوبة عليه، والاحتجاج بالقدر على المصائب جائز.
ولا يجوز الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعاصي، فالقدر ليس بحجة للعصاة ولا للكفرة، ولو كان حجة لكان حجة لقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح الكفرة، والزاني لا يحتج على زناه بالقدر، ولما جاء السارق إلى عمر رضي الله عنه وقد سرق وأراد عمر أن يقطع يده احتج السارق بالقدر، وقال: مكتوب علي، أنا سرقت بقضاء الله وقدره، فقال: عمر رضي الله عنه: ونحن نقطع يدك بقضاء الله وقدره، فقطع يده.
وهذا معنى قول أهل العلم: يحتج بالقدر على المصائب لا على المعائب، المعائب هي: الذنوب والمعاصي، والمقصود أن آدم غلب موسى بالحجة؛ لأنه احتج عليه بأن المصيبة مكتوبة عليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} [طه:42]، أي: بحججي وبراهيني ومعجزاتي {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تبطئا، وقال مجاهد عن ابن عباس: لا تضعفا، والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له كما جاء في الحديث: (إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه)].
أي: وهو يقاتل عدوه، وقرنه: المقارن له، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه)، أي: في الجهاد في سبيل الله، ويقاتل (قرنه)، أي: المكافئ له بالقوة والشجاعة، فالمجاهد في سبيل الله إذا كان يذكر الله ففضله عظيم، وهذا أفضل الأعمال، وأما ما جاء في الحديث: (ألا أخبركم بما هو أفضل من إنفاق الذهب والفضة ومن أن تلقوا عدوكم: تضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ ذكر الله)، قال العلماء: المراد: أفضل من الجهاد مع الغفلة، أما الجهاد مع الذكر كما في هذا الحديث: (إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه)، أي: العبد حقيقة الذي قام بمقام العبودية ووفاها حقها هو الذي يذكر الله وهو مناجز قرنه.
وهذا الحديث رواه الترمذي في السنن من حديث عمارة بن زعكرة رضي الله عنه.
وقال الترمذي هذا حديث غريب ولا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي.
والحديث إسناده ضعيف، لكن معناه صحيح، فالذي يذكر الله وهو مناجز قرنه قد جمع بين عبادتين: الجهاد وذكر الله.(84/3)
تفسير قوله تعالى: (إذهبا إلى فرعون إنه طغى لعله يتذكر أو يخشى)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {اذْهَبْا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43]، أي: تمرد وعتا وتجبر على الله وعصاه].
قال الله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، كما قال يزيد الرقاشي عند قوله: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}، يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه.
وقال وهب بن منبه: قولا له إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة.
وعن عكرمة في قوله: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]، قال: لا إله إلا الله، وقال عمرو بن عبيد عن الحسن البصري: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44] اعذرا إليه، قولا له: إن لك رباً ولك معاداً، وإن بين يديك جنة وناراً.
وقال بقية عن علي بن هارون عن رجل عن الضحاك بن مزاحم عن النزال بن سبرة عن علي في قوله: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]، قال: كنّه، وكذا روي عن سفيان الثوري: كنّه بـ أبي مرة].
فهذه كنية فرعون على ما جاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رفيق، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
وقوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، أي: لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة، أو يخشى أي: يوجد طاعة من خشية ربه كما قال تعالى: (لمن أراد أن يذكر أو يخشى)، فالتذكر: الرجوع عن المحذور والخشية: تحصيل الطاعة، وقال الحسن البصري في قوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، يقول: لا تقل -أنت يا موسى وأخوك هارون- أهلكه قبل أن أعذر إليه].
أن أعذر إليه يعني: قبل أن يذهب عذرك فتقيم عليه الحجة ولا يكون له عذر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهاهنا نذكر شعر زيد بن عمرو بن نفيل ويروى لـ أمية بن أبي الصلت فيما ذكره ابن إسحاق: وأنت الذي من فضل منّ ورحمة بعثت إلى موسى رسولاً منادياً.
يخاطب الرب سبحانه وتعالى، والمقصود بقوله: بعثت إلى موسى أي: الوحي.
قال: [فقلت له فاذهب وهارون فادعوا إلى الله فرعون الذي كان باغيا فقولا له هل أنت سويت هذه بلا وتد حتى استقلت كما هيا].
يعني: الأرض.
قال: [وقولا له: أأنت رفعت هذه بلا عمد أرفق إذاً بك بانيا].
يعني: السماء فذكر الأرض بلا وتد، والسماء بلا عمد.
قال: [وقولا له: أأنت سويت وسطها منيراً إذا ما جنه الليل هاديا وقولا له: من يخرج الشمس بكرة فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا وقولا له من ينبت الحب في الثرى فيصبح منه البقل يهتز رابيا ويخرج منه حبة في رءوسه ففي ذاك آيات لمن كان واعيا].
لمن كان واعيا، أي: لمن يتذكرو كان عنده وعي.
وقوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، قيل: معنى (لعل) في هذا الموضع الاستفهام فكأنهم وجهوا معنى الكلام إلى: ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا)) فانظرا هل يتذكر ويرجع أو يخشى الله فيرتدع عن طغيانه.(84/4)
تفسير قوله تعالى: (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى)
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله عز وجل: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45].
يقول تعالى إخباراً عن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: إنهما قالا متسجيرين بالله تعالى شاكيين إليه: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] يعنيان: أن يبدر إليهما بعقوبة أو يعتدي عليهما فيعاقبهما وهما لا يستحقان منه ذلك.
قال عبد الرحمن بن زيد: أن يفرط: يعجل، وقال مجاهد: يبسط علينا، وقال الضحاك عن ابن عباس: ((أَوْ أَنْ يَطْغَى)) يعتدي.(84/5)
تفسير قوله تعالى: (قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى)
قال الله تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: لا تخافا منه فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه، لا يخفى علي من أمركم شيء، واعلما أن ناصيته بيدي فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني وبعد أمري، وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي].
قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، يعني: بنصره وتأييده، وهذه معية خاصة، وهو سبحانه بذاته فوق العرش، والعرش هو سقف المخلوقات وتنتهي المخلوقات إليه، والله فوق العرش بعد نهاية المخلوقات، وهو مع الناس والخلق جميعاً باطلاعه وإحاطته ونفوذ سمعه وبصره، ونفوذ قدرته ومشيئته، وهو مع أنبيائه ورسله ومع المؤمنين بنصره وعونه وتأييده.
{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، يعني: أكلؤكما وأحفظكما وأعينكما، وهذه خاصة بموسى وهارون.
وجاءت المعية العامة في قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15]، وهنا دخل في الخطاب فرعون معهم، يعني: أسمع كلامكم وأرى مكانكم، تنفذ فيكم قدرتي ومشيئتي، فالمعية العامة تأتي في سياق التخويف والجزاء والتهديد، والمعية الخاصة تأتي في سياق المدح والثناء.
والله تعالى في جميع الأزمان حي لا يموت.
أما القول أن الله في كل مكان فهذا باطل وهو كفر وضلال، وهذا قول الجهمية والاتحادية والملاحدة الحلولية الذين قالوا: إنه موجود في أجواف وبطون السباع والطيور -تعالى الله عما يقولون- وهذا كفر وضلال، فالله تعالى بذاته فوق العرش وعلمه في كل مكان وهو محيط بالخلق، تنفذ فيهم قدرته ومشيئته، ونواصيهم بيده، ولا يتحركون ولا يفعلون أي فعل إلا بقدرته ومشيئته وإرادته، وهو ليس موجوداً بذاته مع المخلوقين.
ومن قال إنه في كل مكان فهو كافر وهذا اعتقاد كفري، لكن الشخص لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، وليس له شبهة كما قال كثير من السلف، منهم أحمد والبخاري وغيرهما، فمن قال: إن الله في كل مكان فقد كفر، أما إذا كان له شبهة فيزال يبين له أن هذا كفر وضلال، فإن أصر بعد البيان فقد كفر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، قال حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: لما بعث الله عز وجل موسى إلى فرعون قال: رب! أي شيء أقول؟ قال: قل هيا شراهيا].
وهذا باللغة العبرية؛ قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4]، لكن أبو عبيدة ما سمع من عبد الله بن مسعود، فيكون منقطعاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الأعمش: فسر ذلك: الحي قبل كل شيء والحي بعد كل شيء، إسناده جيد، وشيء غريب].
والجيد معناه المنقطع.
وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غير هذا، ويقال اسمه عامر وهو كوفي، ثقة، والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه.(84/6)
تفسير قوله تعالى: (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك)
قال الله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه:47].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس أنه قال: مكثا على بابه حيناً لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد.
وذكر محمد بن إسحاق بن يسار أن موسى وأخاه هارون خرجا فوقفا بباب فرعون يلتمسان الإذن عليه وهما يقولان: إنا رسولا رب العالمين].
ويصح أن يقال: إنا رسل، فيطلق الجمع على المثنى، والأحسن أن يقال: إنا رسولا كما جاء في الآية: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه:47].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فآذنوا بنا هذا الرجل، فمكثا فيما بلغني سنتين يغدوان ويروحان لا يعلم بهما ولا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما].
وهذا منقطع؛ لأنه يقول: فيما بلغني.
وهذا من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حتى دخل عليه بطال له يلاعبه ويضحكه، فقال له: أيها الملك! إن على بابك رجلاً يقول قولاً عجيباً، يزعم أن له إلها غيرك أرسله إليك، قال: ببابي؟ قال: نعم، قال: أدخلوه، فدخل ومعه أخوه هارون وفي يده عصاه، فلما وقف على فرعون، قال: إني رسول رب العالمين، فعرفه فرعون، وذكر السدي أنه لما قدم بلاد مصر ضاف أمه وأخاه وهما لا يعرفانه].
ومعنى: ضاف أي: استضاف، وصارا ضيفان عنده.
قال المؤلف رحمه الله: [وكان طعامهما ليلتئذ الطفيل وهو اللفت، ثم عرفاه وسلما عليه، فقال له موسى: يا هارون! إن ربي قد أمرني أن آتي هذا الرجل فرعون فأدعوه إلى الله وأمرك أن تعاونني].
أي: أن هارون لازال في مصر عند أمه، وموسى هو الذي ذهب إلى مدين ونبأه الله وأرسله إلى فرعون، فجاء موسى فضاف أخاه هارون وأمه ثم نبأ الله هارون معه على هذا القول، والله أعلم فهذا من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: افعل ما أمرك ربك، فذهبا وكان ذلك ليلاً، فضرب موسى باب القصر بعصاه فسمع فرعون فغضب، وقال: من يجتريء على هذا الصنيع؟ فأخبره السدنة والبوابون بأن هاهنا رجلاً مجنوناً يقول: إنه رسول الله، فقال: علي به، فلما وقفا بين يديه قالا، وقال لهما ما ذكر الله في كتابه.
وقوله: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [طه:47]، أي: بدلالة ومعجزة من ربك، {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47]، أي: والسلام عليك إن اتبعت الهدى، ولهذا لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم كتاباً كان أوله: (بسم الله الرحمن الرحمن من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين)، وكذلك لما كتب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً صورته: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت بالأمر معك].
يقصد الرسالة والنبوة، ومعنى أشركت: أي صرت رسولاً مثلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك، فلك المدر ولي الوبر].
والوبر هي بيوت الشعر، والمعنى: فلي بيوت الشعر أي: البوادي، ولك المدر أي: البيوت المصنوعة من الطين، ويقصد الحاضرة، فنقتسم الناس إلى قسمين، فلك أهل الحضر وأهل القرى المبنية من الطين، ولي أهل بيوت الوبر والشعر وهي الخيام، وأهلها هم البدو.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن قريشاً قوم يعتدون، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)].
فكتاب مسيلمة هذا فيه كتاب يغلب عليه صفة الغصب والاقتسام وطلب الدنيا.
والشاهد قوله: (سلام على من اتبع الهدى)، فالمسلم عندما يريد أن يرد التحية على الكافر يقول: السلام على من اتبع الهدى، وإذا كان مسلم يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فكتاب المشركين والكفرة واليهود والنصارى يذكر السلام على من اتبع الهدى ولا يسلم عليه، ولكتاب المسلمين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأهل الكتاب لا يبدءون بالسلام لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام)، لكن إذا سلموا يقال: وعليكم، فقد جاء في الحديث: (إذا سلم عليكم اليهود، فقولوا: وعليكم)، يعني: ترد تحيتهم بقولك وعليكم، فقد كان اليهود يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: وعليكم، وكانوا يقولون: السام عليك يعني: الموت، فيرد عليهم بقوله: وعليكم، وقد سمعت عائشة هذا يوماً فقالت: (وعليكم السام واللعنة، فقال النبي: يا عائشة! إن الله يبغض الفحش والتفحش، قالت: يا رسول الله! أما علمت ما قالوا؟ يقولون: السام عليك، قال: أما علمت ما قلت؟ لقد قلت: وعليكم، فإنها تقبل منا ولا تقبل منهم)، فكان يرد عليهم تحيتهم سواء كانت التحية حسنة أو سيئة.
وإذا قال قائل: هل أرد على الرافضة وهم يعدون كفرة، ف
الجواب
إذا عرفت أنهم رافضة حقيقة وأنهم يكفرون الصحابة أو يفسقونهم أو يعبدون آل البيت فتقول: وعليكم.
فهم منافقون وزنادقة، لكن من لم يظهر بدعته فالأصل أنه مسلم فترد عليه كما كان يفعل المسلمون مع عبد الله بن أبي وإذا اختلط عليك الأمر ولم تعرف أنه شيعي أو مسلم فالأصل أنهم مسلمون فبلدهم بلد إسلامي.
ولا يجوز السلام بالإشارة فهي من عادات اليهود والنصارى، لكن إذا كان المسلم بعيداً فتسلم وتشير إليه حتى ينتبه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:47 - 48]، أي: قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم أن العذاب متمحض لمن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 39]، وقال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:14 - 16]، وقال تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32]، أي: كذب بقلبه وتولى بفعله].(84/7)
تفسير سورة طه [49 - 66]
لقد جاء موسى عليه السلام بالبينات إلى فرعون وقومه لعلهم يؤمنون برسالته، ويتبعون شرع الله المنزل إليهم، فما كان من فرعون إلا أن احتج على موسى بما كان عليه الأوائل من عبادة غير الله تعالى، فبين له موسى عليه السلام حكم ذلك، فانتقل فرعون بعد عجزه عن المناضرة إلى اتهام موسى بالباطل وأنه ساحر، وذلك عندما أراه الآيات البينات.
فحشر فرعون سحرته كي يغلبوا موسى بزعمهم، فكانت العاقبة والفوز لموسى، فلما عرف السحرة ذلك خروا سجداً لله، وآمنوا برب العالمين، فقام فرعون بتهديدهم بالصلب والقتل، فلم يبالوا بكلامه؛ فقد عرفوا الحق المبين.(85/1)
تفسير قوله تعالى: (قال فمن ربكما يا موسى)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49 - 50].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن فرعون: إنه قال لموسى عليه الصلاة والسلام منكراً وجود الصانع الخالق إله كل شيء وربه، قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] أي: الذي بعثك وأرسلك من هو؟ فإني لا أعرفه وما علمت لكم من إله غيري {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقول: خلق لكل شيء زوجة.
وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: جعل الإنسان إنساناً، والحمار حماراً، والشاة شاة.
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: أعطى كل شيء صورته، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: سوى خلق كل دابة.
وقال سعيد بن جبير في قوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] قال: أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه، ولم يجعل للإنسان من خلق الدابة، ولا للدابة من خلق الكلب، ولا للكلب من خلق الشاة، وأعطى كل شيء ما ينبغي له من النكاح، وهيأ كل شيء على ذلك، ليس شيء منها يشبه شيئاً من أفعاله في الخلق والرزق والنكاح.
وقال بعض المفسرين: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] كقوله تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3] أي: قدر قدراً وهدى الخلائق إليه، أي: كتب الأعمال والآجال والأرزاق، ثم الخلائق ماشون على ذلك لا يحيدون عنه، ولا يقدر أحد على الخروج منه.
يقول ربنا الذي خلق الخلق وقدر القدر وجبل الخليقة على ما أراد].(85/2)
تفسير قوله تعالى: (قال فما بال القرون الأولى)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أصح الأقوال في معنى ذلك: أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، أي: الذين لم يعبدوا الله، أي: فما بالهم إذا كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره؟ فقال له موسى صلى الله عليه وسلم في جواب ذلك: هم وإن لم يعبدوه فإن علمهم عند الله مضبوط عليهم، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله، وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمال {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، أي: لا يشذ عنه شيء، ولا يفوته صغير ولا كبير، ولا ينسى شيئاً.
يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط، وأنه لا ينسى شيئاً تبارك وتعالى وتقدس وتنزه، فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان، أحدهما: عدم الإحاطة بالشيء، والآخر نسيانه بعد علمه، فنزه نفسه عن ذلك].
وهذه الآية وهي قوله: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] حجة المشركين، وهي اتباع الأسلاف والآباء والأجداد في الضلال، فالواجب على كل إنسان أن يتبع الدليل ولا يتبع الآباء والأجداد والسابقين إذا كانوا على الباطل، ولهذا أخبر الله عن الكافرين أنهم قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، الأمة: هي الدين، كما أن هذا الكلام هو الحجة القرشية، فقد احتجت بها قريش، وهي أيضاً حجة فرعون حيث قال: إذا كان ربك هو الذي أعطى كل شيء خلقه فهدى فلماذا القرون الأولى ما عبدوا الله؟ وكما أخبر الله أيضاً عن قريش بقوله: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7]، ولهذا فالشيخ محمد رحمه الله يقول حينما بين التوحيد وأنه يجب اتباع الحق قال: إن سلمك الله من هذه الحجة {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] وهي حجة فرعون، أو من الحجة القرشية: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7]، فاتباع الآباء والأجداد واتباع السابقين في الباطل حجة باطلة.
والواجب اتباع الحجة والدليل والعمل بالشرع، فإذا جاء الهدى من الله اعمل به ولا تنظر إلى السابقين الهالكين.(85/3)
تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهداً)
قال الله تعالى: [{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:53 - 54].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه عز وجل حين سأله فرعون عنه، فقال: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، ثم اعترض الكلام بين ذلك، ثم قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا} [طه:53]، وفي قراءة بعضهم (مهاداً) أي: قراراً تستقرون عليها، وتقومون وتنامون عليها، وتسافرون على ظهرها.
{وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [طه:53] أي: جعل لكم طرقاً تمشون في مناكبها، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31].
{وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه:53] أي: من أنواع النباتات من زروع وثمار ومن حامض وحلو ومر وسائر الأنواع.
{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه:54] أي: شيء لطعامكم وفاكهتكم].
أي: أعد شيئاً لطعامكم ولأنعامكم وفاكهتكم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وشيء لأنعامكم لأقواتها خضراً ويبساً.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} [طه:54] أي: لدلالات وحجج وبراهين، {لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:54] أي: لذوي العقول السليمة المستقيمة على أنه لا إله إلا الله، ولا رب سواه].
والآيات الماضية فيها دلالات لأصحاب العقول السليمة على أنه لا معبود بحق إلا الله، وعلى أنه لا إله إلا الله، ودلالة على أن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، وهو الذي يستحق العبادة ولا يستحقها غيره.(85/4)
تفسير قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)
قال الله تعالى: [{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: من الأرض مبدؤكم؛ فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض، ((وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ)) أي: وإليها تصيرون إذا متم وبليتم، ((وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى))، {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:52]، وهذه الآية كقوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف:25]، وفي الحديث الذي في السنن: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر، وقال: منها خلقناكم، ثم أخذ أخرى وقال: وفيها نعيدكم، ثم أخرى وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى)].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه:56]، يعني: فرعون، أنه قامت عليه الحجج والآيات والدلالات، وعاين ذلك وأبصره، فكذب بها وأباها كفراً وعناداً وبغياً، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]].(85/5)
تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى)
قال الله تعالى: [قال الله تعالى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:57 - 59].
يقول تعالى مخبراً عن فرعون أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى، وهي إلقاء عصاه فصارت ثعباناً عظيماً، ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء فقال: هذا سحر جئت به لتسحرنا وتستولي به على الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم، ولا يتم هذا لك؛ فإن عندنا سحراً مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه، {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} [طه:58] أي: يوماً نجتمع نحن وأنت فيه فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر في مكان معين ووقت معين، فعند ذلك (قال) لهم موسى: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه:59]، وهو يوم عيدهم ونوروزهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماعهم جميعهم، ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية؛ ولهذا قال: ((وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ)) أي: جميعهم ((ضُحًى)) أي: ضحوة من النهار؛ ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح، وهكذا شأن الأنبياء كل أمرهم واضح بين ليس فيه خفاء ولا ترويج، ولهذا لم يقل ليلاً، ولكن نهاراً ضحى.
قال ابن عباس: وكان يوم الزينة يوم عاشوراء، وقال السدي وقتادة وابن زيد: كان يوم عيدهم، وقال سعيد بن جبير: يوم سوقهم، ولا منافاة.
قلت: وفي مثله أهلك الله فرعون وجنوده كما ثبت في الصحيح].
وهذه الأقوال كلها لا تنافي بينها، {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه:59]، وهو يوم العيد ويوم نوروزهم واجتماعهم، ويوم تفرغهم، والقول بأنه يوم عاشوراء فيكون يوم عاشوراء هو اليوم الذي أظهر الله فيه حججه على يدي موسى، وهو اليوم الذي أغرق الله فيه فرعون.
وآيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلها واضحة ظاهرة جلية، بخلاف السحرة فإن أمرهم ملتبس، فتجد السحرة عندهم التباس وعندهم تدليس وتضليل، وليس أمرهم واضحاً، ولهذا تجد السحرة والمشعوذين لا يسكن أحدهم إلا في بيت صغير ضيق ملتو، وفي شوارع ضيقة، وفي بيوت مظلمة، ويكون بعيداً عن الناس بعيداً عن الاجتماعات وله روائح منتنة.
وكذلك أعمالهم فإن فيها تدليساً وتضليلاً وتلبيساً؛ لأنهم ليس لديهم حقائق، وتجدهم لا يحبون الأمكنة الواضحة والشوارع الواضحة، ولا يحبون البيوت الواسعة، وقد يعد الناس في أوقات غير مناسبة غير واضحة للناس، بخلاف الأنبياء فإن أمرهم واضح جلي، فهم يكشفون عنه في رابعة النهار ليراه كل واحد؛ لأن ليس عندهم إلا الحق.
ولهذا قال موسى لما قال له فرعون: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:58 - 59]، يوم اجتماع الناس وتفرغهم؛ لكي يعلمه الخاص والعام، وحتى يرى الناس خوارق العادات النبوية، وتظهر الحقائق، وتنجلي ويندثر الباطل وينقمع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال وهب بن منبه: قال فرعون: يا موسى! اجعل بيننا وبينك أجلاً ننظر فيه، قال موسى صلى الله عليه وسلم: لم أؤمر بهذا، إنما أمرت بمناجزتك إن أنت لم تخرج دخلت إليك، فأوحى الله إلى موسى صلى الله عليه وسلم أن اجعل بينك وبينه أجلاً، وقل له أن يجعل هو، قال فرعون: اجعله إلى أربعين يوماً، ففعل وقال مجاهد: وقتادة: مكاناً سوى منصفاً.
وقال السدي: عدلاً.
وقال: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (مكاناً سوى) مستوياً بين الناس، وما فيه لا يكون صوباًَ ولا شيئاً يتغيب بعض ذلك عن بعض، مستوياً حين يُرى].
وصوباً جمع صوبة وهو الكثيب المرتفع، والمكان الذي لا يوجد فيه ارتفاع ولا انخفاض.(85/6)
تفسير قوله تعالى: (فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى)
قال الله تعالى: [{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:60 - 62].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن فرعون: أنه لما تواعد هو وموسى عليه الصلاة السلام إلى وقت ومكان معلومين ((تَوَلَّى)) أي: شرع في جمع السحرة من مدائن ممكلته كل من ينسب إلى سحر في ذلك الزمان، وقد كان السحر فيهم كثيراً نافقاً جداً كما قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس:79]].
وهذه من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل معجزات الأنبياء من جنس ما فاق به أهل ذلك الزمان، فالناس في زمن فرعون انتشر بينهم السحر، وكان لهم عناية بالسحر، وبلغوا فيه بلوغاً عظيماً، حتى إن هناك سحرة عندهم علم قوي بالسحر، ولهذا قال الملأ لفرعون: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف:112]، فجعل الله معجزة موسى العصا تفوق ما فاق به هؤلاء من السحر، فأتاهم موسى بمعجزة من عند الله وبما لا قبل لهم بها حتى علم السحرة أن هذا ليس من صنع البشر، وإنما هذا من أمر الله، وإنما هذه قدرة الله فلذلك خروا سجداً وآمنوا في الحال؛ لأن عندهم عناية ومعرفة عظيمة بالسحر، وقد عرفوا السحر من أوله إلى آخره، فعرفوا أن هذا ليس من عند الله، فلهذا آمنوا في الحال، فكانت معجزة موسى عليه السلام تفوق ما برع به هؤلاء السحرة.
ولما كان الناس في زمن عيسى عليه السلام قد برعوا بالطب وبلغوا شأواً بعيداً في الطب أعطى الله عيسى من المعجزات ما فاق به الأطباء، فكان يبرئ الأكمه والأبرص، فالأبرص يداويه فيبرؤه الله في الحال، والأكمه الذي ولد ولم يشق له عين يبرئه عيسى بإذن الله، فيشق له عيناً، وكذلك يخلق من الطين كهيئة الطير ويصور من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، ويخلق الله له روحاً، ففاق الأطباء في زمنه، وعلموا أن هذا ليس من صنع البشر، وإنما من المعجزات التي أعطاها الله الأنبياء.
ولما كانت العرب في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد بلغوا شأواً بعيداً في الفصاحة والبلاغة والشعر والتصرف في الأساليب العربية، وكانت لهم أسواقاً يتناشدون فيه الأشعار ويتفاخرون بالمجاز وغيره، كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الذي أنزله الله بلسان عربي مبين، وجعله أفصح الكلام، وأصدق الكلام، وأحسن الكلام، فتحداهم الله وهم الفصحاء وفرسان البلاغة الذين لا يجارون فعجزوا، ثم تحداهم الله أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم الله أن يأتوا بسورة فعجزوا، مع أن القرآن متكون من الحروف الهجائية، ومتكون من ألفاظ ومعانٍ يعرفونها ومع ذلك عجزوا، فهو ليس من عند البشر، وإنما هو كلام الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس:79]، ثم أتي، أي: اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة، وجلس فرعون على سرير مملكته واصطف له أكابر دولته، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة، وأقبل موسى صلى الله عليه وسلم يتوكأ على عصاه ومعه أخوه هارون ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفاً، وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم في إجازة عملهم في ذلك اليوم، ويتمنون عليه].
يتمنون عليه يعني: يقولون: ماذا ستعطينا من الجوائز إذا غلبنا موسى، كما قال الله، قال السحرة: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:113 - 114] أي: لكم الجوائز والهدايا والتحف وأيضاً التقريب فأقربكم إلي وتكونوا مقربين من الملك في الوظائف والأعمال، ولكن لما جاء الحق ضاعت هذه الأشياء كلها وما نفع الترغيب ولا الترهيب ولا التقريب، فخر السحرة سجداً لله، وآمنوا في الحال.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو يعدهم ويمنيهم فيقولون: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42].
{قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:61] أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها].
وهي العصي والحبال التي يبهرجون بها على الناس، فيضعون فيه الزئبق ويخيلون على أعين الناس، ويسحرون أعين الناس فيخيل إليهم أنها حيات وعقارب تتلوى، وهي عصي في الحقيقة وحبال عادية يضعون فيها الزئبق، فسحروا أعين الناس، فصار كل الوادي على سعته حيات وعقارب، حتى إن موسى عليه الصلاة والسلام وهو نبي كريم أوجس في نفسه خيفة ورهبة عظيمة فهو وادٍ مد البصر امتلأ حيات وعقارب، {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] قال الله له: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه:68 - 69]، وهي العصا {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69].
ولهذا قال لهم: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:61] أي: لا تزوروا وتبهرجوا على الناس وتسحروا أعين الناس وتضعون الزئبق على العصي والحبال فتكون عقارب وحيات؛ تبهرجون وتزخرفون وتموهون، وتجعلون الناس يعتقدون غير الحقائق.
{وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61]، فكانت هذه الكلمة من موسى عليه السلام لها تأثير عظيم، حتى إن السحرة تنازعوا أمرهم بينهم وفشلوا بسبب هذه المقالة التي قالها {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:61]، لا تروجوا على الناس بالباطل وتموهون على الناس وتسحرون أعين الناس {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} وخوفهم بالوعيد (يسحتكم بعذاب) يعني: يهلككم ويستأصلكم بالعذاب، (وقد خاب من افترى).
فكانت هذه الكلمة لها تأثير في تنازع السحرة واختلاف كلمتهم: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:62].
قال المؤلف رحمه الله: [{قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:61].
أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها وأنها مخلوقة وليست مخلوقة، فتكونون قد كذبتم على الله: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه:61] أي: يهلككم بعقوبة هلاكاً لا بقية له].
يعني: يخيلوا للناس أن هذه العصي والحبال حيات وعقارب وأنها مخلوقة وليست بمخلوقة، وهذا من الكذب والافتراء والتزوير على الله، ولهذا قال: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَاب وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61]، وأنتم مفترون بالأفعال، وقد يكون الإنسان مفترٍ بالأقوال وقد يكون مفترٍ بالأعمال.
والافتراء بالأقوال كأن يفتري على الله الكذب في أسمائه وصفاته، فينفي أسماء الله، ويقول: ليست لله، أو ينفي صفاته، أو يئولها، فهذا من الافتراء على الله، وكأن يقول: معنى الاستواء الاستيلاء، أو يفتري على الله في الحلال والحرام وهو كاذب، وكذلك يكون الافتراء بالأعمال كما فعل السحرة.
والكلمة التي قالها موسى كان لها الأثر العظيم القوي، وسببت النزاع فيما بين السحرة واختلاف الكلمة، وهذه من أقوى العدة ومن أقوى أسباب الانتصار على الخصم: إذا حصل بين أفراد الخصوم النزاع، وإذا حدث بين رؤسائهم وقادتهم فتعتبر هذه هزيمة لفرعون وللسحرة، ونصر لموسى وهارون عليهم السلام، فنصرهما الله بتنازعهم واختلاف كلمتهم.
ومن القوة اتحاد الكلمة والاتفاق في الرأي، وأما الاختلاف والتنازع فهو من أسباب الهزيمة.
ولهذا قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، وهذه أوصى الله بها المجاهدين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45 - 46]، فالتنازع يؤدي إلى الفشل وذهاب الريح وهي القوة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه:61 - 62]، قيل معناه: أنهم تشاجروا فيما بينهم، فقائل يقول: ليس هذا بكلام ساحر، إنما هذا كلام نبي، وقائل يقول: بل هو ساحر، وقيل غير ذلك.
والله أعلم.
{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:62] فيما بينهم].
المهم أنهم تنازعوا واختلفوا، فصار في هذا هزيمة لهم ونصر لموسى وهارون عليهم الصلاة والسلام.(85/7)
تفسير قوله تعالى: (قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما)
قال الله تعالى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه:63].
قالالمؤلف رحمه الله تعالى: [هذه لغة لبعض العرب جاءت هذه القراءة على إعرابها، ومنهم من قرأ: (إن هذين لساحران)، وهذه اللغة المشهورة، وقد توسع النحاة في الجواب عن المسألة الأولى بما ليس هذا موضعه].
لأن إن تنصب الاسم وترفع الخبر، والمثنى ينصب بالياء، فاللغة المشهورة (إن هذين) (إنْ) مخففة من الثقيلة (إنَّ)، وأصله (إنَّ هذان) فتنصب الاسم وترفع الخبر، و (هذين) اسم إن منصوب وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، لساحران: ساحران خبر مرفوع وعلامة رفعه الألف لأنه مثنى، وهذه القراءة المشهورة: (إن هذين لساحران) وهذا على اللغة المشهورة، لكن جاءت في لغة أخرى غير مشهورة وهي رفع المثنى، (إن هذان لساحران) وهي قراءة حفص.
ولا يصح أن يقال: هي لحن؛ فالقرآن أفصح الكلام، وهذا لا يجوز، وإن قال هذا الكلام عالم متعمد فقد يكون مرتداً والعياذ بالله، وإن كان جاهلاً فهو جاهل جهلاً مركباً، وهذا طعن في كلام الله، فاللغة العربية تطوع حتى توافق القرآن، فهو كلام الله العليم الخبير الذي خلق البشر وخلق لغاتهم.
وإيراد بعض مفردات هذه اللغة غير المشهورة في القرآن الكريم دليل قاطع على وجودها، ومثل ذلك قوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:62]، وهو مثل قولهم: أكلوني البراغيث، واللغة المشهورة (وأسر النجوى) بدون الواو، وأكلني البراغيث، ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)، واللغة المشهورة (يتعاقب فيكم)، فهي وإن كانت لغة غير مشهورة إلا أنها لغة صحيحة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم: تعلمون أن هذا الرجل وأخاه -يعنون موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام- ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر، يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس وتتبعهما العامة، ويقاتلا فرعون وجنوده فينتصرا عليه، ويخرجاكم من أرضكم.
وقوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63] أي: ويستبدا بهذه الطريقة وهي السحر، فإنهم كانوا معظمين بسببها لهم أموال وأرزاق عليها].
أي: أنهم فاقوا بالسحر، فهم معظمون عند فرعون وعند الناس بسبب السحر، ولهم أموال ووظائف تدر عليهم بسبب السحر، فقالوا: إن هذين الرجلين -أي موسى وهارون- يريدان أن يغلباكم على صناعة السحر حتى تكون الأموال والمكانة لهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقولون: إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض وتفردا بذلك، وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم، وقد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس قال في قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63]: يعني: ملكهم الذي هم فيه والعيش.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا نعيم بن حماد قال: حدثنا هشيم عن عبد الرحمن بن إسحاق سمع الشعبي يحدث عن علي في قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63]، قال: يصرفا وجوه الناس إليهما.
وقال مجاهد: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63] قال: أولو الشرف والعقل والأسنان].
والمقصود أشرافكم وسرواتكم وأكابركم.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال أبو صالح: {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63]: أشرافكم وسرواتكم، وقال عكرمة: بخيركم، وقال قتادة: وطريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل، وكانوا أكثر القوم عدداً وأموالاً، فقال عدو الله: يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما وقال عبد الرحمن بن زيد: ((بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى)) أي بالذي أنتم عليه].(85/8)
تفسير قوله تعالى: (فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً)
قال الله تعالى: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:64] قوله: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} [طه:64].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: اجتمعوا كلكم صفاً واحداً وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة؛ لتبهروا الأبصار، وتغلبوا هذا وأخاه].
وهذا من وصية السحرة بعضهم لبعض، قالوا: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63] يعني: يريدان أن يذهبا بالشرف والأموال، فأجمعوا أمركم، أي: اجتمعوا فتكون كلمتكم واحدة، وصمموا وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة؛ حتى تغلبوا موسى.
لأنهم يخافون على أموالهم، فالسحرة يظنون أن عيشهم أحسن عيش، وهم في أحسن حالة، ويريدون أن يبقوا على هذا الحال، وهم يعلمون أنهم مبطلون، لكن يريدون أن يبقوا على ما هم عليه، فلما تبين لهم الحق تغير الحال فسبحان من يغير ولا يتغير، فلما تبين لهم الحق ذهبت هذه الأطماع وهذه الآمال الباطلة وذهب البهرج واتضح الحق، فآمنوا بالله وتركوا ما يؤملونه من بقاء الأموال وبقاء الشرف؛ لأنهم تبين لهم الحق الآن وظهر واضحاً أبلج.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:64] أي: منا ومنه، أما نحن فقد وعدنا الملك العطاء الجزيل، وأما هو فينال الرياسة العظيمة].
أي: أفلح اليوم من ظهر وعلا وغلب، فهو منا أو منهم، فإن ظهر علينا فله الفلاح، وإن ظهرنا عليه فلنا الفلاح، وهذا هو الوقت الفاصل الآن، ووقت حسم للأمر، فإما أن يظهر موسى وهارون فيكون لهم الفلاح والاستعلاء، وإما أن نظهر فيكون لنا الفلاح والاستعلاء، وهذه لحظة حاسمة بسبب اجتماع الناس، فكل الناس قد أتوا في وقت واضح أبلج وهو وقت الزينة، وهو موعد مسبق ومكان مسبق قد عرفه الناس، فيوصي السحرة بعضهم بعضاً بالاجتماع والاتحاد والعناية والاجتهاد في غلبة موسى وإلقاء ما في أيديهم مرة واحدة.(85/9)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى)
قال الله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:65 - 66].
قالوا لموسى: اختر إما أن تلقي ما معك أو نلقي، قال لهم موسى: بل ألقوا أنتم، فألقوا العصي والحبال في هذا الوادي العظيم المتسع والصحراء العظيمة فصارت تتلوى، حتى إن موسى وجد في نفسه خيفة ورهبة عظيمة، فألقى موسى العصا فصارت حية عظيمة ابتلعت جميع ما في الوادي، فجاء الباطل ثم أتى الحق فزهق الباطل، ولهذا قال لهم موسى: ابدءوا أنتم، فالحق هو الذي يأتي ثانياً ليزهق الباطل، وليس العكس.
[قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]].
يخيل إلى موسى خيالاً لا حقيقة، وهو مجرد رأي العين، فهذا تخييل للعيون والأبصار، وفي الآية الأخرى يقول تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف:116]، أي: أصابتهم رهبة عظيمة، {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، فهم وضعوا الزئبق في العصي والحبال واسترهبوا الناس حتى أصاب الناس رهبة عظيمة، وصارت العيون مسحورة، وخيل للناس أنها حيات عظيمة لا قبل لأحد بها، {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ} [الأعراف:116] أي: موصوف بأنه عظيم، حتى إن موسى مع جلالة قدره وعلوه أوجس في نفسه خيفة، لكن الله سدده وأوحى إليه: {َأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه:69].
والموقف موقف عظيم ليس بالسهل ولا بالهين، فهو موقف أمام ملك جبار متصف بالجبروت والقوة يدعي الربوبية والألوهية، ويقول للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وسحرة تعلموا السحر وبرعوا فيه وبلغوا فيه شأواً عظيماً، وفاقوا الأمم في السحر، ويجتهدون اجتهاداً عظيماً في غلبة موسى حتى يتقربون من الملك، ويأخذوا ما وعدهم به من الأموال الجزيلة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليه السلام أنهم قالوا لموسى: ((إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ)) أي: أنت أولاً {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا} [طه:65 - 66] أي: أنتم أولاً؛ ليرى ماذا تصنعون من السحر، وليظهر للناس جلية أمرهم، {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}، وفي الآية الأخرى أنهم لما ألقوا: {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]].
لأن فرعون معظم عندهم، فحلفوا بعزته إنهم الغالبون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، وقال هاهنا: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]؛ وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها، وإنما كانت حيلة، وكانوا جماً غفيراً وجمعاً كبيراً، فألقى كل منهم عصاً وحبلاً حتى صار الوادي ملآن حيات يركب بعضها بعضاً].
السحر قسمان: قسم خيال، وقسم له حقيقة، وما فعله سحرة فرعون من قسم الخيال، وهذا هو الصواب، فقد قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66].
وقسم له حقيقة يقتل ويمرض ويفرق بين المرء وزوجه، قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4]، وهذا دليل على أن له حقيقة، ولولا أن للسحر حقيقة لما أمر الله بالاستعاذة من شر النفاثات -أي: السواحر- اللاتي يعقدن العقد وينفثن في عقدهن.
وذهب المعتزلة وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن السحر كله خيال وليس له حقيقة، وهذا قول باطل، وذهب إلى هذا الجصاص من علماء الحنفية في أحكام القرآن.(85/10)
تفسير سورة طه [67 - 82]
لقد قام سحرة فرعون بسحر أعين الناس واسترهبوهم، فأوجس موسى في نفسه الخوف من عظمة ذلك، لكن الله ثبته وربط على قلبه، فألقى ما في يمينه فإذا هي حية تلقف ما يأفكون، فوقع الحق وزهق الباطل، فخر السحرة سجداً، فآمنوا إيماناً عظيماً، فقد كانوا في أول النهار سحرة، وصاروا في آخره شهداء بررة.(86/1)
تفسير قوله تعالى: (فأوجس في نفسه خيفة موسى)
قال الله تعالى: قوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:67 70].
قال المؤلف رحمه الله: [أي: خاف على الناس أن يفتتنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه].
أي: خاف على الناس ولم يخف على نفسه من سحرهم، فالله ثبته وأمره بأن يلقي العصا التي في يده.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأوحى الله تعالى إليه في الساعة الراهنة أن: (وألق ما في يمينك) يعني: عصاه، فإذا هي {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه:69]، وذلك أنها صارت تنيناً عظيماً هائلاً].
والتنين هو الذكر من الحيات العظيمة، وهو من أسماء الحيات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذا عيون وقوائم وعنق ورأس وأضراس، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئاً إلا تلقفته وابتلعته، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عياناً جهرة نهاراً ضحوة، فقامت المعجزة، واتضح البرهان، وبطل ما كانوا يعملون].
أي: بطل السحر واضمحل وزال وذهب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال حدثنا محمد بن موسى الشيباني قال: حدثنا حماد بن خالد قال: حدثنا ابن معاذ أحسبه الصائغ عن الحسن عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أخذتم -يعني: الساحر- فاقتلوه، ثم قرأ: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى))، قال: لا يؤمن به حيث وجد)، وقد روى أصله الترمذي موقوفاً ومرفوعاً].
قال الترمذي هذا الحديث لم يأت مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف هذا الحديث.
وعلى كل حال فإنه يوجد غير هذا الحديث ينص على قتل الساحر، وقد صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح عن عمر أنه أمر بقتل كل ساحر، وأنه كتب إلى عماله أن يقتلوا كل ساحر وساحرة، قال الراوي: فقتلنا ثلاث سواحر.
وجاء عن حفصة أنها أمرت بجارية لها سحرتها فقتلت، وكذا صح عن جندب أنه أمر بقتل الساحر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه -ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه- علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل، وأنه حق لا مرية فيه، ولا يقدر على هذا إلا الذي يقول للشيء كن فيكون، فعند ذلك وقعوا سجداً لله، وقالوا: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما وعبيد بن عمير: كانوا أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء بررة وقال محمد بن كعب: كانوا ثمانين ألفاً، وقال القاسم بن أبي بزة: كانوا سبعين ألفاً، وقال السدي: بضعة وثلاثين ألفاً، وقال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة: كان سحرة فرعون تسعة عشر ألفاً، وقال محمد بن إسحاق: كانوا خمسة عشر ألفاً، وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن علي بن حمزة حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت السحرة سبعين رجلاً أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا المسيب بن واضح بمكة حدثنا ابن المبارك قال: قال الأوزاعي: لما خر السحرة سجداً رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها.
قال: وذكر عن سعيد بن سلام حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن سليمان عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قوله: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} [طه:70] قال: رأوا منازلهم تبنى لهم وهم في سجودهم وكذا قال عكرمة والقاسم بن أبي بزة].(86/2)
تفسير قوله تعالى: (قال آمنتم به قبل أن آذن لكم)
قال الله تعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:71 - 73]].
وهناك فرق كبير وبون شاسع بين قول السحرة قبل أن يؤمنوا وبعد أن آمنوا، فقد قالوا قبل الإيمان لفرعون: ماذا ستعطينا إذا غلبنا موسى؟ {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42]، ويقول بعضهم كذلك: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} [طه:64] وأما قولهم بعد الإيمان: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] أي: افعل ما تريد يا فرعون،: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]، قالوا: إن هذه الدنيا منقضية مهما كان الحال، ولو عشنا فإنها سوف تنقضي، {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، فهي منقضية ونحن على الإيمان ثابتون لا يهمنا أي شيء تعمله، فالموت موت واحد، ثم ذكروا: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75].
وقوله: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:72] أي: لن نؤثر العاجلة وهي الدنيا، ونؤثر سحرك على ما ظهر لنا من البينات، ولن نؤثر الدنيا على الآخرة، والذي يؤثر الدنيا على الآخرة ليس بمسلم.
وقوله: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] أي: اصنع ما تصنع، فمهما توعدت ومهما فعلت فالنهاية هي الموت ولا شيء غير الموت، والموت لابد منه، ونحن سنثبت على الحق ونموت على الحق مهما توعدت ومهما فعلت، ((فاقض ما أنت قاض)) أي: افعل ما أنت فاعل، فلا تستطيع فعل ما هو أكثر من الموت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والآية العظيمة، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم، وغلب كل الغلب، شرع في المكابرة والبهت، وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة].
وهذه عادة المنهزم فإذا عجز عن الحجة لجأ إلى القوة، وهذه عادة المبتدعين فهم يلجئون إلى القوة، كما كان حال المعتزلة في زمن المأمون الذين يقولون: إن القرآن مخلوق، فقد ناظروا الإمام أحمد رحمه الله، فلما غلبهم بالحجة استعدوا عليه السلطان، وقالوا: إن هذا مبتدع، وإنه يضل الناس، حتى قال أحمد بن أبي دؤاد رئيس المعتزلة في زمن المأمون: اقتل الإمام أحمد ودمه في ذمتي، فعادة الكفرة والمبتدعة إذا عجزوا عن المجادلة والمناظرة استعدوا السلاطين والأمراء على أهل الحق، وهذا هو العجز بعينه، وهذا حال من لم يستطع أن يدفع الحجة بالحجة.
وهكذا تجد المنافقين في كل زمان يستعدون السلطة على المؤمنين وعلى الأخيار.
قال المؤلف رحمه الله: [فتهددهم وتوعدهم، وقال: {قَالَ آمَنْتُمْ} [طه:71] أي: صدقتموه ((قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)) أي: وما أمرتكم بذلك، وافتئتم علي في ذلك].
يقول: تفتائتون في هذا الأمر، أي: تعملون أمراً يخالف أمري ولم تستشيروني؟ فالأمر لي والسلطة لي، فكيف تعلمون شيئاً دون مشورتي وأخذ رأيي، فهو يوبخهم على فعلهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قولاً يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71] أي: أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى، واتفقتم أنتم وإياه علي وعلى رعيتي لتظهروه، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:123]].
يقول فرعون للسحرة: لقد اتفقتم مع موسى على هذا، فقد حصل بينكم وبينه اتفاق، وهو كبيركم وقد علمكم السحر، واتفقتم معه في أمر مسبق على أن تنهزموا أمامه، حتى يظهر موسى، وتكونوا من أتباعه، وهو يعلم أن هذا بهتان وكذب، لكن المغلوب ليس له إلا أن يستعمل قوته وسلطانه، فقال: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:124].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم أخذ يتهددهم فقال: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] أي: لأجعلنكم مُثلة، ولأقتلنكم ولأشهرنكم، قال ابن عباس: فكان أول من فعل ذلك، رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: ((وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى)) أي: أنتم تقولون: إني وقومي على ضلالة، وأنتم مع موسى وقومه على الهدى فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه، فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل، و ((قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ)) أي: لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين، ((وَالَّذِي فَطَرَنَا))، يحتمل أن يكون قسماً، ويحتمل أن يكون معطوفاً على البينات].
يحتمل أن يكون معنى قولهم: لن نؤثرك على البينات وعلى الذي فطرنا وهو الله، ويحتمل أن يكون: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:72]، ثم استأنفوا كلاماً جديداً فقالوا: ((وَالَّذِي فَطَرَنَا)) وقصدهم الحلف بالله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يعنون لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم المبتدي خلقنا من الطين، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت، {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] أي: فافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] أي: إنما لك تسلط في هذه الدار وهي دار الزوال، ونحن قد رغبنا في دار القرار {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} [طه:73] أي: ما كان منا من الآثام خصوصاً ما أكرهتنا عليه من السحر لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73] قال: أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل فأمر أن يعلموا السحر بالفرماء].
أي: مكان يتعلم فيه هؤلاء الشباب السحر.
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: علموهم تعليماً لا يعلمه أحد في الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فهم من الذين آمنوا بموسى وهم من الذين قالوا: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73]، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقوله: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) أي: خير لنا منك ((وَأَبْقَى)) أي: أدوم ثواباً مما كنت وعدتنا ومنيتنا، وهو رواية عن ابن إسحاق رحمه الله.
وقال محمد بن كعب القرظي: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ)) أي: لنا منك إن أطيع، ((وَأَبْقَى)) أي: منك عذاباً إن عصي.
وروي نحوه عن ابن إسحاق أيضاً، والظاهر أن فرعون لعنه الله صمم على ذلك وفعله بهم رحمة لهم من الله].
وكأن المسألة فيها قولان: قول بأنه نفذ ما توعد به وقتلهم، والقول الثاني إنه تهدد ولم ينفذ، فقال ابن كثير رحمه الله: الظاهر أنه نفذ وأنه قتلهم، وهذا رحمة من الله بهم حتى يصلوا إلى ما أعد الله لهم من النعيم، ويستريحوا من تعب الدنيا ونصبها، ولهذا جاء في الحديث: (أنه مر بجنازة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مستريح ومستراح منه، فقالوا: يا رسول الله ما مستريح ومستراح منه؟ فقال: المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها وتعبها، والكافر أو الفاجر يستريح منه الناس والشجر والدواب)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء].(86/3)
تفسير قوله تعالى: (إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم)
قال الله تعالى: [{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:74 - 76].
قال المؤلف رحمه الله: [الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد، فقالوا: ((إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا)) أي: يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم، ((فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا))، كقوله: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36]، وقال: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:11 - 13]، وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]].
والكافر والعياذ بالله هو الذي يبقى في جهنم لا يموت فيها ولا يحيا، فلا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة هنية، بل يبقى معذباً، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، نسأل الله السلامة.
فصار السحرة دعاة فوعظوا فرعون قبل أن يقتلهم، وصاروا دعاة مع موسى عليه الصلاة والسلام، ففي أول النهار يحلفون بعزة فرعون وفي آخر النهار وعظوه ونصحوه، ثم قتلهم بعد ذلك.
فلم تهده نصيحة موسى وهارون وهما نبيان كريمان نصحاه وجاءا بالبينات الواضحات فلم ينتفع، ثم وعظه السحرة أيضاً فلم ينتفع، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا إسماعيل أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم فتميتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحماً أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة، فيقال: يا أهل الجنة! أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل)].
والحِبة أي: البذرة، وحميل السيل أي: محمول السيل، فالسيل يمشي ويحمل معه غثاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية)].
أي: يعرف هذا أهل البوادي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح من رواية شعبة وبشر بن المفضل كلاهما عن أبي سلمة سعيد بن يزيد به.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا أبي حدثنا حيان سمعت سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما أهلها الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا من أهلها)].
والمقصود بأهل النار: الكفرة، والذين ليسوا من أهلها هم: العصاة الموحدون، فدخولهم عارض للتطهير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(وأما الذين ليسوا من أهلها فإن النار تمسهم، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون فتجعل الضبائر، فيؤتى بهم نهر يقال له: الحياة أو الحيوان، فينبتون كما ينبت العشب في حميل السيل).
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} [طه:75] أي: ومن لقي ربه يوم المعاد مؤمن القلب قد صدق ضميره بقوله وعمله {فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:75] أي: الجنة ذات الدرجات العاليات، والغرف الآمنات، والمساكن الطيبات.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان أنبأنا همام حدثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس)].
والفردوس هو أعلى الجنة، وأوسط الجنة، تخرج منه أنهار الجنة الأربعة المذكورة في قوله تعالى: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15]، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
وقال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الترمذي من حديث يزيد بن هارون عن همام به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي أخبرنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال: (كان يقال: الجنة مائة درجة، في كل درجة مائة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فيهن الياقوت والحلي، في كل درجة أمير يرون له الفضل والسؤدد)].
أي: أن في الجنة مائة درجة كبيرة، في كل درجة مائة درجة صغيرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيحين: (إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء؛ لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء؟ قال: بلى والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)].
أي: التصديق الكامل الذي يستلزم القول والعمل، فآمنوا بالله وصدقوا المرسلين بأقوالهم وأعمالهم الطيبة.
قال المؤلف رحمه الله: [وفي السنن: أن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما].
أي: من الرجال الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين؛ لأنهم ليسوا أنبياء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} [طه:76] أي: إقامة، وهي بدل من الدرجات العلى، {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [طه:76] أي: ماكثين أبداً {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:76] أي: طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك، وعبد الله وحده لا شريك له، واتبع المرسلين فيما جاءوا به من خبر وطلب].
والطلب هو الأوامر والنواهي، يعني: اتبع المرسلين وصدقهم في أخبارهم، ونفذ الطلب من الأوامر والنواهي، فامتثل الأوامر واجتنب النواهي، ويكون بذلك قد صدق المرسلين التصديق الكامل.(86/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي)
قال الله تعالى: [قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:77 - 79].
قال المؤلف رحمه الله: [يقول تعالى مخبراً أنه أمر موسى عليه الصلاة والسلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل، ويذهب بهم من قبضة فرعون، وقد بسط الله هذا المقام في غير هذه السورة الكريمة؛ وذلك أن موسى صلى الله عليه وسلم لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا مجيب، فغضب فرعون غضباً شديداً {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف:111] أي: من يجمعون له الجند من بلدانه ورساتيقه].
والرستاق: هو ما يقال فيه: رزداق، وهو موضع فيه مزدرع وقرى.
وقد خرج موسى ببني إسرائيل وهم اليد العاملة، فلما أصبح فرعون لم يجد أحداً من بني إسرائيل، واليد العاملة كلها قد خرجت مع موسى، فغضب فرعون {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف:111]، وتبع موسى يريد أن ينتقم منه.
قال المؤلف رحمه الله: [يقول: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:54 - 55]، ثم لما جمع جنده واستوسق له جيشه].
واستوسق بمعنى: اجتمع له جيشه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ساق في طلبهم، {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء:60] أي: عند طلوع الشمس، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء:61] أي: نظر كل من الفريقين إلى الآخر، {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62].
ووقف موسى ببني إسرائيل: البحر أمامهم، وفرعون وراءهم، فعند ذلك أوحى الله إليه أن {اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه:77]، فضرب البحر بعصاه وقال: انفلق بإذن الله، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي: الجبل العظيم، فأرسل الله الريح على أرض البحر فلفحته حتى صار يابساً كوجه الأرض، ولذلك قال: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا} [طه:77] أي: من فرعون، {وَلا تَخْشَى} [طه:77] يعني: من البحر أن يغرق قومك].
قوله: ((لا تَخَافُ دَرَكًا)) أي: لا تخاف أن يدركك فرعون ويلحقك، ولا تخشى من البحر أن ينطبق على قومك فيغرقون، وهذا من عناية الله تعالى بموسى وبني إسرائيل، فقد جعل الله لهم مخرجاً على الرغم من أن العدو خلفهم والبحر أمامهم، فأمره الله فضرب البحر بعصاه فانفلق وصار طرقاً متعددة {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] أي: صارت أمواج البحر كأنها جبال والطرق يابسة يمشون عليها؛ فسلكوا هذه الطرق، فلما خرجوا من الجهة الأخرى تبعهم فرعون، فلما تكامل فرعون وقومه داخلون وتكامل موسى وقومه خارجون من الجهة الأخرى أمر الله البحر أن يعود إلى حالته، فانطبق على فرعون وجنوده، فكانوا من المغرقين، فذهبت أجسامهم للغرق، وأرواحهم للنار والحرق، نعوذ بالله نسأل السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا} [طه:77]، أي: من فرعون، {وَلا تَخْشَى} [طه:77] يعني: من البحر أن يغرق قومك.
ثم قال تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ} [طه:78] أي: البحر {مَا غَشِيَهُمْ} [طه:78] أي: الذي هو معروف ومشهور، وهذا يقال عند الأمر المعروف المشهور، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:53 - 54]، وكما قال الشاعر: أنا أبو النجم وشعري شعري].
وصاحب البيت هو أبو النجم العجلي، وقوله: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه:78] يعني: ما غشيهم من الموج المعروف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: الذي يعرف وهو مشهور، وكما تقدمهم فرعون فسلك بهم في اليم فأضلهم وما هداهم إلى سبيل الرشاد، كذلك {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98]].(86/5)
تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم)
قال الله تعالى: [قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:80 - 82].
قال المؤلف رحمه الله: [يذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل العظام ومننه الجسام حيث نجاهم من عدوهم فرعون، وأقر أعينهم منه، وهم ينظرون إليه وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة لم ينج منهم أحد، كما قال تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50].
وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود تصوم عاشوراء فسألهم، فقالوا: هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى على فرعون، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أولى بموسى، فصوموه)، رواه مسلم أيضاً في صحيحه.
ثم إنه تعالى واعد موسى صلى الله عليه وسلم وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون إلى جانب الطور الأيمن، وهو الذي كلمه تعالى عليه، وسأل فيه الرؤية، وأعطاه التوراة هنالك، وفي غضون ذلك عبد بنو إسرائيل العجل كما يقصه تعالى قريباً].
وهذا فيه بيان أن التوراة إنما أنزلت على موسى بعد هلاك فرعون، وفيه أن موسى سأل ربه الرؤية كذلك، كما قال الله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] أي: لما جاء للميقات الذي واعده ربه سأل الرؤية، فأخبره الله أنه لن يراه، وأمره أن ينظر إلى الجبل، فلما تجلى الله للجبل دُكَّ الجبل وخر موسى صعقاً، فلما أفاق من الغشي الذي أصابه: {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143].
وفي الوقت الذي ذهب فيه موسى لميقات ربه عبد بنو إسرائيل العجل، وقد استخلف أخاه هارون عليهم، ولكنهم استضعفوا هارون عليه السلام ولم يسمعوا كلامه، وأضلهم السامري، فقد صور لهم العجل من الحلي والذهب، فافتتنوا به وعبدوه من دون الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما المن والسلوى فقد تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة وغيرها، فالمن حلوى كانت تنزل عليهم من السماء].
وسبق في سورة البقرة أنه نوع من العسل وقد يكون حلوى، المهم أنه شيء حلو المذاق فلا منافاة، وقد قرر الحافظ ابن كثير أنه إن جعل مع غيره صار فاكهة وحلوى، وإن جعل وحده صار غذاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والسلوى: طائر يسقط عليهم، فيأخذون من كل قدر الحاجة إلى الغد لطفاً من الله ورحمة بهم وإحساناً إليهم، ولهذا قال تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه:81] أي: كلوا من هذا الرزق الذي رزقتكم، ولا تطغوا في رزقي فتأخذوه من غير حاجة، وتخالفوا ما آمركم به.
((فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي)) أي: أغضب عليكم {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي: فقد شقى وقال شفي بن مانع: إن في جهنم قصراً يرمى الكافر من أعلاه فيهوي في جهنم أربعين خريفاً قبل أن يبلغ الصلصال؛ وذلك قوله: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81] رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [طه:82] أي: كل من تاب إلي تبت عليه من أي ذنب كان، حتى إنه تعالى تاب على من عبد العجل من بني إسرائيل].
وهذا يتحقق إذا كانت توبة صادقة ولو كانت من أعظم الذنوب وهو الشرك، فقد تاب الله على بني إسرائيل لما عبدوا العجل ووقعوا في الشرك، وعرض الله تعالى للمثلثة من النصارى عرض الله عليهم التوبة وذنبهم من أعظم الذنوب، قال الله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:73]، ثم قال سبحانه: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74].
والمثلثة هم الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فكل من تاب من الذنب تاب الله عليه إذا تحققت الشروط، بأن يتخلى عن المعصية، ويندم على ما مضى منها، ويعزم على ألا يعود إليها، وتكون التوبة في وقت الإمكان قبل بلوغ الروح إلى الحلقوم، وقبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، فمن تاب بهذه الشروط تاب الله عليه.
ولهذا قال سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، وقد أجمعوا على أن هذه الآية في التائبين، ((إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)) لمن تاب من أي ذنب ابتداءً الشرك فما دونه، وأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فهذه في غير التائبين؛ لأن الله أخبر أنه لا يغفر الشرك، وخص الشرك بأنه لا يغفر وعلق ما دون الشرك بأنه تحت المشيئة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((تَابَ)) أي: رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو نفاق أو معصية.
وقوله: ((وَآمَنَ)) أي: بقلبه، ((وَعَمِلَ صَالِحًا)) أي: بجوارحه.
وقوله: ((ثُمَّ اهْتَدَى)) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي: ثم لم يشكك.
وقال سعيد بن جبير: ((ثُمَّ اهْتَدَى)) أي: استقام على السنة والجماعة، وروي نحوه عن مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف.
وقال قتادة: ((ثُمَّ اهْتَدَى)) أي: لزم الإسلام حتى يموت.
وقال سفيان الثوري: ((ثُمَّ اهْتَدَى)) أي: علم أن لهذا ثواباً، و (ثم) هاهنا لترتيب الخبر على الخبر، كقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17]].
وهذا فيه بيان فضل الله تعالى وإحسانه إلى عباده، وأنه سبحانه وتعالى يغفر لمن تاب من الذنب بشرط أن تكون التوبة صادقة، فيكون مصدقاً بقلبه مستقيماً على السنة وعلى الإسلام، فمن كان كذلك تاب الله عليه من أي ذنب كان.(86/6)
تفسير سورة طه [83 - 98]
لما ذهب موسى إلى لقاء ربه قام بنو إسرائيل -لجهلهم وتعنتهم- بعبادة العجل الذي صنعه لهم السامري، فقام هارون عليه السلام بتحذيرهم من ذلك حتى كادوا يقتلونه، فلما عاد موسى إليهم وقد أخبره الله بذلك عاد غضبان أسفاً بسبب فعلهم هذا.(87/1)
تفسير قوله تعالى: (وما أعجلك عن قومك يا موسى)
قال الله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:83 - 85].
قال المؤلف رحمه الله: [لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون، {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:138 - 139] وواعده ربه ثلاثين ليلة، ثم أتبعها عشراً، فتمت أربعين ليلة، أي: يصومها ليلاً ونهاراً، وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك، فسارع موسى عليه الصلاة والسلام مبادراً إلى الطور، واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي} [طه:83 - 84] أي: قادمون ينزلون قريباً من الطور].
كان نبينا عليه الصلاة والسلام يواصل الليل مع النهار صوماً، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فكان يواصل وينهى أصحابه عن ذلك فقالوا له: يا رسول الله! إنك تواصل، فقال: (إني لست كهيئتكم؛ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني).
وقد اختلف العلماء في معنى قوله: (أبيت يطعمني ربي ويسقيني).
فقيل: إنه يؤتى بطعام وشراب من الجنة، ولكن هذا القول مرجوح، والصواب هو القول الثاني: أن الله يسر له من مواد أنسه، ونفحات قدسه، ولطائف معارفه ما يغنيه عن الطعام والشراب، ولأنه لو كان يؤتى بطعام ويسقى من الجنة ما كان مواصلاً، فهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فلا يستبعد أن يكون موسى أيضاً يصوم العشرة الأيام ليلاً ونهاراً.
قال المؤلف رحه الله: [{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] أي: لتزداد عني رضا.
{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:85]، أخبر تعالى نبيه موسى صلى الله عليه وسلم بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري.
وفي الكتب الإسرائيلية أنه كان اسمه: هارون، وكتب الله تعالى له في هذه المدة الألواح المتضمنة للتوراة، كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف:145] أي: عاقبة الخارجين عن طاعة المخالفين لأمري].
وما دامت في كتب الإسرائيليات فهذا لا يعنينا، فإن الله قد أخبر أنه السامري].(87/2)
تفسير قوله تعالى: (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً)
قال الله تعالى: [{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:86 - 89].
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه:86] أي: بعدما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم، هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم، وتسلم التوراة التي فيها شريعتهم، وفيها شرف لهم، وهم قوم قد عبدوا غير الله ما يعلم كل عاقل له لب وحزم بطلان ما هم فيه، وسخافة عقولهم وأذهانهم.
(غضبان أسفاً)، والأسف: شدة الغضب.
وقال مجاهد: ((غَضْبَانَ أَسِفًا)) أي: جزعاً.
وقال قتادة والسدي: أسفاً حزيناً على ما صنع قومه من بعده.
((قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا)) أي: أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة، وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم، وإظهاركم عليه وغير ذلك من أيادي الله جل وعلا؟ ((أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ)) أي: في انتظار ما وعدكم الله، ونسيان ما سلف من نعمه، وما بالعهد من قدم، ((أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ)) (أم) هاهنا بمعنى: بل، وهي للإضراب عن الكلام الأول وعدول إلى الثاني، كأنه يقول: بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي، قالوا -أي: بنو إسرائيل- في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم].
قرعهم يعني: وبخهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا)) أي: عن قدرتنا واختيارنا، ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر.
((فَقَذَفْنَاهَا)) أي: ألقيناها عنا، وقد تقدم في حديث الفتون: أن هارون عليه الصلاة والسلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار، وهي في رواية السدي، عن أبي مالك عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنما أراد هارون أن يجتمع الحلي كله في تلك الحفيرة ويجعل حجراً واحداً حتى إذا رجع موسى عليه الصلاة والسلام رأى فيه ما يشاء، ثم جاء بعد ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول، وسأل من هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوة، فدعا له هارون عليه الصلاة والسلام وهو لا يعلم ما يريد، فأجيب له، فقال السامري عند ذلك أسأل الله أن يكون عجلاً، فكان عجلاً له خوار، أي: صوت، استدراجاً وإمهالاً ومحنة واختباراً، ولهذا قال: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [طه:87 - 88].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبادة بن البختري، حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هارون عليه الصلاة والسلام مر بـ السامري وهو ينحت العجل، فقال له: ما تصنع؟ فقال: أصنع ما يضر ولا ينفع.
فقال هارون: اللهم! اعطه ما سأل على ما في نفسه، ومضى هارون عليه الصلاة والسلام، وقال السامري: اللهم! إني أسألك أن يخور فخار، فكان إذا خار سجدوا له، وإذا خار رفعوا رءوسهم.
ثم رواه من وجه آخر عن حماد، وقال: أعمل ما ينفع ولا يضر].
وهذا فيه ابتلاء من الله كما قال الله: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} [طه:85].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال السدي: كان يخور ويمشي، فقالوا -أي: الضلال منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه-: ((هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)) أي: نسيه هاهنا وذهب يتطلبه، كذا تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس رضي الله عنهما].
وقد سول لهم الشيطان ذلك، وهذا من العجائب، كيف تصل عقولهم إلى هذا التفكير وعندهم نبي كريم وهو هارون، وشاهدوا بأعينهم إهلاك الله لبني إسرائيل وفرعون والقبط، وشاهدوا كيف أنعم عليهم هذه النعم العظيمة، ومع ذلك عبدوا العجل، فبمجرد ما إن ذهب موسى لميقات ربه أربعين ليلة إذا بهم يعبدون العجل، ومعهم هارون لكنهم استضعفوه ولم يسمعوا كلامه، وكادوا يقتلونه، وقالوا: إن موسى نسي إلهه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبه قال مجاهد، وقال سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَنَسِيَ} أي: نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم].
فالقول الأول: أنه نسي إلهه ههنا، والقول الثاني: نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فقال: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه:88]، قال: فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط، يعني: مثله].
وهذا معنى قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]، وفي الآية الأخرى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93] يعني: حب العجل، نعوذ بالله، فهذا من الابتلاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول الله: ((فَنَسِيَ)) أي: ترك ما كان عليه من الإسلام -يعني السامري -.
قال الله تعالى رداً عليهم، وتقريعاً لهم، وبياناً لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي: العجل، أفلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه ولا إذا خاطبوه، {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:89] أي: في دنياهم ولا في إخراهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا والله! ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره فيخرج فيسمع له صوت، وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري رحمه الله: أن هذا العجل اسمه بهموت، وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم، وعبدوا العجل، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب -يعني: هل يصلي فيه أم لا-؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: انظروا إلى أهل العراق قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني الحسين - وهم يسألون عن دم البعوضة].
وهذا فيه بيان أن بني إسرائيل والعياذ بالله تورعوا بزعمهم، وأنهم أخذوا هذا الحلي من القبط، ويريدون أن يلقوها عنهم؛ لكي يتخلصوا من حق الغير من باب الورع، فلما ألقوها عبدوا العجل، ووقعوا في الشرك الذي هو أعظم، فتورعوا عن الأمر الحقير ووقعوا في الشيء الكبير، مثل أهل العراق فقد جاءوا يسألون ابن عمر يقولون: إذا أصاب ثوب الإنسان دم البعوضة فهل تصح الصلاة فيه أم لا تصح؟ أي: هل يصير الثوب نجساً؟ وهم قتلوا الحسين ابن بنت رسول الله، فتورعوا في الشيء القليل وتركوا الشيء العظيم.
نسأل الله السلامة والعافية.
وهذه الآية استدل بها العلماء على إثبات كلام الله عز وجل، وأن صفة الكلام صفة كمال، وأن عدم الكلام نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:89] فكيف يعبدون العجل وهو لا يكلمهم؟! وقال العلماء: إن بني إسرائيل مع كفرهم، وكونهم وقعوا في الشرك والكفر، وعبدوا العجل، صاروا أحسن حالاً من الجهمية والمعتزلة في هذه الحالة، فقد قال المعتزلة: إن الله لا يتكلم، وقال الله: ((أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا)) إنه لا يتكلم، فلو كانوا ينكرون الكلام لقالوا: وربك لا يتكلم أيضاً، لكنهم سكتوا، فالمعتزلة وقعوا في هوة سحيقة في هذه المسألة جعلتهم تحت اليهود الذين عبدوا العجل، فهم أحسن حالاً من هذه الجهة.(87/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به)
قال الله تعالى: [قال الله تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:90 - 91].
قال المؤلف رحمه الله: [يخبر تعالى عما كان من نهي هارون عليه السلام لهم عن عبادتهم العجل، وإخباره إياهم إنما هذا فتنة لكم.
((وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ)) الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] الفعال لما يريد، ((فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي)) أي: فيما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه، ((قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى)) أي: لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه، وخالفوا هارون عليه السلام في ذلك، وحاربوه وكادوا أن يقتلوه].
فلما صنع لهم السامري عجلاً جسداً له خوار شبه عليهم وفتنوا به وأحبوا العجل وعبدوه من دون الله، وقد نصحهم هارون ونهاهم، قال لهم: ((وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي))، وشدد عليهم حتى كادوا يقتلوه.
((قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى)) فلن نسمع كلامك، وإذا جاء موسى ننظر ماذا يقول، وقد ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه، وكلمه الله بخبر قومه عند جبل الطور {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:85]، فلما جاء ووجدهم يعبدون العجل اشتد غضبه عليهم، حتى إنه ألقى الألواح التي معه فتكسرت، وكان فيها كلام الله، لكن الغاضب معذور، وأخذ برأس أخيه هارون وهو نبي مثله، وجعل يجره ويقول: كيف تركتهم يعبدون العجل؟ قال له هارون: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94]، وقال له: يبنؤم، من باب الاسترقاق، وإلا فهو أخوه لأبيه وأمه، {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [طه:94]، وقال: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150].
فلما ذهب الغضب عن موسى {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151].(87/4)
تفسير قوله تعالى: (قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا)
قال الله تعالى: [{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:92 - 93]].
هذا كلام موسى بعد أن جاء من ميقات ربه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94].
يخبر تعالى عن موسى عليه السلام حين رجع إلى قومه فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم، فامتلأ عند ذلك غضباً، وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه.
وقد قدمنا في سورة الأعراف بسط ذلك، وذكرنا هناك حديث: (ليس الخبر كالمعاينة)].
ليس الخبر كالمعاينة؛ لأن موسى لما أخبره الله أنهم عبدوا العجل تأثر قليلاً، لكنه لما رآهم بعينه يعبدون العجل وعاينهم اشتد غضبه وألقى الألواح وتكسرت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وشرع يلوم أخاه هارون عليه السلام، فقال: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ} [طه:92 - 93] أي: فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع.
((أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)) أي: فيما كنت قدمت إليك، وهو قوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142].
((قَالَ يَبْنَؤُمَّ)) فترقق له بذكر الأم، مع أنه شقيقه لأبويه؛ لأن ذكر الأم ههنا أرق وأبلغ في الحنو والعطف، ولهذا قال: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94]، هذا اعتذار من هارون عليه السلام لموسى عليهما السلام في سبب تأخره عنه، حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم، قال: إني خشيت أن أتبعك فأخبرك بهذا فتقول لي: لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم؟ {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] أي: وما راعيت ما أمرتك به، حيث استخلفتك فيهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكان هارون هائباً مطيعاً له].(87/5)
تفسير قوله تعالى: (قال فما خطبك يا سامري)
قال الله تعالى: [{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه:95 - 97].
قال المؤلف رحمه الله: [يقول موسى عليه السلام للسامري: ما حملك على ما صنعت؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت؟ قال محمد بن إسحاق: عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان السامري رجلاً من أهل باجرما].
وباجرما قرية من أعمال البليخ قرب الرقة من أرض الجزيرة من جهة العراق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل، وكان اسمه موسى بن ظفر.
وفي رواية عن ابن عباس: أنه كان من كرمان، وقال قتادة: كان من قرية سامراء].
والكل في العراق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)) أي: رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون، ((فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)) أي: من أثر فرسه، هذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث أخبرنا عبيد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن السدي عن أبي بن عمارة عن علي رضي الله عنه قال: إن جبريل عليه السلام لما نزل فصعد بموسى عليه السلام إلى السماء بصر به السامري من بين الناس، فقبض قبضة من أثر الفرس، قال: وحمل جبريل موسى عليهما السلام خلفه، حتى إذا دنا من باب السماء صعد وكتب الله الألواح، وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح، فلما أخبره: أن قومه قد فتنوا من بعده، قال: نزل موسى فأخذ العجل فأحرقه غريب].
المعراج خاص بنبينا صلى الله عليه وسلم، وما نعلم أن أحداً عرج به إلى السماء إلا عيسى عليه السلام، فقد رفع إلى السماء لما أراد اليهود قتله، وسينزل في آخر الزمان، وعلى كل حال فالحديث وإن كان رجاله ثقات فلا شك أنه غريب ومنكر وشاذ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: ((فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)) قال: من تحت حافر فرس جبريل، قال: والقبضة ملء الكف، والقبضة بأطراف الأصابع، قال مجاهد: نبذ السامري، أي: ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلاً جسداً له خوار، حفيف الريح فيه فهو خواره].
أخذ قبضة من آثار حافر الفرس وألقاها على الحلي، وهو الذهب الذي أخذوه من القبط، فبعد هلاك فرعون جمعوا حلياً كثيراً فانسبك عجلاً، ولعله تكلم بكلمات كانت سبباً بإذن الله وقدره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى أخبرنا علي بن المديني حدثنا يزيد بن زريع حدثنا عمارة حدثنا عكرمة: أن السامري رأى الرسول فألقي في روعه: أنك إن أخذت].
الرُوع هو القلب، أما الروع بفتح الراء فهو الخوف، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} [هود:74] والرُوع هو القلب، ومنه قول الحديث: (إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها).
والمقصود بالرسول: جبريل عليه السلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فألقي في روعه: أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء فقلت له: كن فكان، فقبض قبضة من أثر الرسول، فيبست أصابعه على القبضة، فلما ذهب موسى للميقات، وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلي آل فرعون، فقال لهم السامري: إن ما أصابكم من أجل هذا الحلي فاجمعوه، فجمعوه، فأوقدوا عليه فذاب، فرآه السامري، فألقي في روعه: أنك لو قذفت هذه القبضة في هذه فقلت: كن فيكون، فقذف القبضة وقال: كن فكان عجلاً جسداً له خوار، فقال: ((هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى))، ولهذا قال: ((فَنَبَذْتُهَا)) أي: ألقيتها مع من ألقى].
حوكي في قلبه: أنه إذا أخذ قبضة من حافر الفرس ويبست، والحلي الذهب لما جمعوه في حفيرة فألقوه، ألقى القبضة عليه وقال: كن عجلاً، فكان بإذن الله وقدره، نعم، فقال لهم: هذا إلهكم، فعبدوه من دون الله، نعوذ بالله.
وهذا فيه ابتلاء وامتحان، فكيف يشاهدون حلياً جاءوا به من ديارهم من القبط وهو حلي يعرفونه، ثم يلقي عليه السامري قبضة ويصير عجل له خوار، فيعبدونه من دون الله، كيف يخفى عليهم؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)) أي: حسنته وأعجبها إذ ذاك.
{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه:97] أي: كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول فعقوبتك في الدنيا (أن تقول لا مساس) أي: لا تماس الناس ولا يمسونك، ((وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا)) أي: يوم القيامة، {لَنْ تُخْلَفَهُ} [طه:97] أي: لا محيد لك عنه].
وهذه عقوبة عاجلة من جنس عمله، فكما أنه مس شيئاً وأخذ ما لا يحق له أخذه صارت عقوبته في الدنيا: لا مساس، فلا تمسوني ولا أمسكم، وعقوبة الآخرة أشد، ولهذا قال: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} [طه:97] أي: في الآخرة؛ لأنه دعا إلى الشرك والعياذ بالله، ودعا إلى عبادة العجل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: ((أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ)) قال: عقوبة لهم، وبقاياهم اليوم يقولون: لا مساس.
وقوله: ((وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ)) قال الحسن وقتادة وأبو نهيك: لن تغيب عنه.
وقوله: ((وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ)) أي: معبودك، ((الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا)) أي: أقمت على عبادته، يعني: العجل.
((لَنُحَرِّقَنَّهُ)) قال الضحاك عن ابن عباس والسدي: سحله بالمبارد وألقاه على النار].
ومعنى سحله أي: حكه وقشره وبرده ثم ألقاه في اليم: وهو البحر، وموسى لديه قوة عليه الصلاة والسلام، فبنو إسرائيل استضعفوا هارون، ولم يسمعوا كلامه، فلما جاء موسى عليه السلام كسر العجل، وسحله وألقاه في البحر، وعوقب السامري في الدنيا وفي الآخرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: استحال العجل من الذهب لحماً ودماً فحرقه بالنار ثم ألقى رماده في البحر، ولهذا قال: (ثم لننسفنه في اليم نسفاً)].
واستحال العجل، يعني: تحول العجل المصنوع من الذهب إلى لحم ودم، ولا شك في أنه حرقه، ثم ألقى رماده في البحر، وأما كونه تحول إلى لحم ودم فالله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الله بن رجاء قال: أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمارة بن عبد الله وأبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال: إن موسى لما تعجل إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل، ثم صوره عجلاً، قال: فعمد موسى عليه السلام إلى العجل، فوضع عليه المبارد فبرده بها وهو على شط نهر، فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب، فقالوا لموسى: ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً، وهكذا قال السدي].
كما قال الله في آية البقرة: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54].
وقد سبق قراءة هذه الآية من سورة البقرة، وأنه جاءتهم ظلمة وكانت توبتهم بأن يأخذوا السيوف والخناجر فيقتل بعضهم بعضاً في الظلمة، حتى انجلى القتل عن آلاف مؤلفة، فكانت هذه توبتهم، حتى ناشد موسى ربه، وقال: رب فنيت بنو إسرائيل، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد تقدم في تفسير سورة البقرة في حديث الفتون بسط ذلك.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98] يقول لهم موسى عليه السلام: ليس هذا إلهكم، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له، فإن كل شيء فقير إليه عبد له].
لا إله إلا هو كلمة التوحيد، وتعني: لا معبود بحق سواه، والإله هو المعبود، ولا: نافية للجنس، وهي من أخوات (إن) تنصب الاسم وترفع الخبر، وإله اسمها، والخبر محذوف تقديره حق، لا إله حق إلا الله، والمعنى: لا معبود حق إلا الله، فقوله: ((إِنَّمَا إِلَهُكُمُ)) يعني: معبودكم بالحق هو الله، وأما هذا العجل فليس إلهكم، وكيف يخفى هذا على بني إسرائيل؟! فأين ذهبت عقولهم؟! وكيف ضاعت العقول؟! نسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98] نصب على التمييز، أي: هو عالم بكل شيء].
((علماً)) منصوب على التمييز.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12(87/6)
الأسئلة(87/7)
حكم الاهتمام بآثار الرسول وزيارتها
السؤال
هل يجوز الاهتمام بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم، وزيارتها مثل: غار حراء وغار ثور وغيرها من آثاره؟ وما رأيكم فيمن يهتم بآثار التاريخ كآثار الفراعنة وغيرهم؟
الجواب
هذا ليس مشروعاً، فقد سبق معنا في البخاري: أن ابن عمر رضي الله عنه كان يتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا اجتهاد له خاص، وأن كبار الصحابة كأبيه عمر وأبو بكر لم يتتبعوا آثار النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا زاره الإنسان من باب النزهة أو التفرج لا أن يعتقد فيه فضيلة فلا بأس في ذلك.
وأما ما يفعله بعض الناس من كونهم يزورون بعض الآثار ويتتبعونها مثل غار حراء وجبل ثور فكل هذا ليس بمشروع، وليس من العبادة في شيء.(87/8)
الفرق بين صحف موسى والتوراة
السؤال
هل هناك فرق بين صحف موسى وبين التوراة؟
الجواب
نعم، فالتوراة كتاب أنزله الله على موسى، والصحف كأنها غير التوراة، فكأنها مواعظ وعبر.(87/9)
تفسير سورة طه [99 - 111]
قص الله تعالى في هذا القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الأمم الماضية، ما حصل لهم من المحن والابتلاءات، وعاقبة ذلك في الدنيا والآخرة.(88/1)
تفسير قوله تعالى: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق)
قال الله تعالى: [قال الله تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه:99 - 101].
قال المؤلف رحمه الله: [يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كما قصصنا عليك خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع، كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة ولا نقص، هذا (وقد آتيناك من لدنا) أي: من عندنا ذكراً، وهو القرآن العظيم الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، الذي لم يعط نبي من الأنبياء منذ بعثوا إلى أن ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم كتاباً مثله، ولا أكمل منه، ولا أجمع لخبر ما سبق، وخبر ما هو كائن، وحكم الفصل بين الناس منه، ولهذا قال تعالى: ((مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ))].
يعني: هذا الكتاب العظيم وهو كتاب الله القرآن العظيم الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أجمع كتاب وأفضل كتاب، فيه أخبار الماضين والسابقين واللاحقين، وأخبار الغيوب المستقبلة من أشراط الساعة والبعث والجزاء والحساب، وفيه الحكم في فصل المنازعات والخصومات، فكل خصومة جاء ذكرها في القرآن حلها وفصلها، وهو خاتم الكتب السماوية، والمهيمن عليها، والحاكم بينها: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:48].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: ((مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ)) أي: كذب به وأعرض عن اتباعه أمراً وطلباً، وابتغى الهدى في غيره، فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم].
والقرآن فيه الأوامر والأخبار، ومن أعرض عنه خبراً وأمراً فإنه ضال، والواجب على كل إنسان أن يصدق بأخباره، وأن ينفذ أوامره، فالأخبار تصدق والأوامر تنفذ، وتلاوة القرآن حق التلاوة: أن تصدق أخباره، وتنفذ أوامره، فإن تلاوة القرآن نوعان: تلاوة لفظية وهي قراءة القرآن، وهذه عبادة، فيتعبد الله المسلمين بتلاوة الكتاب، وقد جاء في حديث ابن مسعود: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف).
والنوع الثاني: تلاوة حكمية، وهي تنفيذ أوامره، وتصديق أخباره، وهذه هي الغاية من إنزال الكتاب، وعليها مدار السعادة والشقاوة، فقد يتلو الإنسان القرآن تلاوة لفظية، لكنه لا يعمل بها، فتقوم عليه الحجة ويكون من الأشقياء، قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:121].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: ((مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا)) أي: إثماً، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17]، وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم أهل الكتاب وغيرهم.
كما قال: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] فكل من بلغه القرآن فهو نذير له وداع، فمن اتبعه هدي، ومن خالفه وأعرض عنه ضل وشقي في الدنيا والنار موعده يوم القيامة، ولهذا قال: ((مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا)).
((خَالِدِينَ فِيهِ)) أي: لا محيد لهم عنه ولا انفكاك، ((وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا)) أي: بئس الحمل حملهم].(88/2)
تفسير قوله تعالى: (يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً)
قال الله تعالى: [{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:102 - 104].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصور فقال: (قرن ينفخ فيه)، وقد جاء في حديث الصور من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أنه قرن عظيم، الدائرة منه بقدر السموات والأرض ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام].
الصور فيه دوائر، والدائرة مثل أطباق السماوات والأرض، فينفخ فيه إسرافيل بأمر الله عز وجل، ينفخ فيه نفختين: النفخة الأولى تسمى نفخة الصعق والموت، فأولها فزع وآخرها صعق وموت، فأول ما ينفخ في الصور يخرج صوت ليس بقوي، ولا يزال الصوت يقوى يقوى يقوى حتى يموت الناس، فأوله فزع، كما قال سبحانه في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87]، وآخره صعق وموت كما قال تعالى في سورة الزمر قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68]، فإذا مات الناس بقوا أربعين، فينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشأ الناس تنشئة قوية، وتبدل الصفات، وتبقى الذوات كما هي، فإذا تم خلقهم أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور النفخة الثانية، وهي نفخة البعث، فتتطاير الأرواح إلى أجسادها، وتدخل كل روح في جسدها، فيقوم الناس فينفضون التراب عن رءوسهم للحساب، ويقفون بين يدي الله، وهذا هو معنى قوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
وجاء في حديث الصور أنها ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة البعث، ونفخة الموت، لكن الحديث ضعيف، والصواب أنهما نفختان، لكن الأولى طويلة، وأولها فزع وآخرها صعق وموت، ثم النفخة الثانية نفخة البعث.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وجاء في الحديث: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له فقالوا: يا رسول الله! كيف نقول؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا)].
والمقصود بصاحب القرن: إسرافيل عليه الصلاة والسلام.
وقد ذكر ابن كثير هذا الحديث في تفسير سورة الأنعام، وقال: هذا حديث غريب، وقد أخرجه الترمذي عن عطية عن أبي سعيد، قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال صاحب تحفة الأحوذي: وأخرجه الحاكم وصححه.
قال الحافظ في الفتح بعد ذكر حديث أبي سعيد هذا: وأخرجه الطبراني من حديث زيد بن أرقم وابن مردويه من حديث أبي هريرة، ولـ أحمد والبيهقي من حديث ابن عباس وفي أسانيد كل منها مقال، فإذا كانت الأسانيد كلها تدور على من فيه مقال فلا فائدة منها، وإن كانت متعددة الأسانيد فإن بعضها يشد بعضاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}، قيل: معناه زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال].
وهذا وصف المجرمين نسأل الله العافية: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] أي: زرق العيون من شدة الأهوال التي تصيبهم، أما المؤمن فإنه لا يصيبه ذلك، قال الله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:8 - 10]، نسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ)) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يتسارون بينهم، أي: يقول بعضهم لبعض: ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا)) أي: في الدار الدنيا، لقد كان لبثكم فيها قليلاً عشرة أيام أو نحوها.
قال الله تعالى: ((نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ)) أي: في حال تناجيهم بينهم، ((إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً)) أي: العاقل الكامل فيهم، ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا)) أي: لقصر مدة الدنيا في أنفسهم يوم المعاد].
يعني: ذهبت الدنيا وكأنها يوم.
((يَتَخَافَتُونَ)) يعني: يتناجون سراً فيما بينهم ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا)).
قال الله: ((نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً)) أي: أحسنهم عقلاً يقول: ما لبثتم إلا يوماً واحداً، فالدنيا قلت في نفوسهم لما رأوا الأهوال.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لأن الدنيا كلها، وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها وساعاتها كأنها يوم واحد ولهذا يستقصر الكافرون مدة الحياة الدنيا يوم القيامة، وكان غرضهم في ذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة].
قصدهم من قولهم: إن الدنيا قصيرة لكي لا تقوم عليهم الحجة، ولهذا إذا سألهم الله يوم القيامة: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:112 - 115] قصدهم من هذا: إنكار طول المدة؛ حتى لا تقوم عليهم الحجة، والحجة قائمة عليهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:55 - 56]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37]، وقال تعالى: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:112 - 114] أي: إنما كان لبثكم فيها قليلاً لو كنتم تعلمون لآثرتم الباقي على الفاني، ولكن تصرفتم فأسأتم التصرف، قدمتم الحاضر الفاني على الدائم الباقي].(88/3)
تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن الجبال فلا تسمع إلا همساً)
قال الله تعالى: [{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:105 - 108].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ)) أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول؟ ((فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا)) أي: يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييراً ((فَيَذَرُهَا)) أي: الأرض، ((قَاعًا صَفْصَفًا)) أي: بساطاً واحداً، والقاع: هو المستوي من الأرض والصفصف: تأكيد لمعنى ذلك].
والقاع هو الذي يرى فيه سراب، وليس فيه ارتفاع ولا جبال.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: الذي لا نبات فيه، والأول أولى، وإن كان الآخر مراداً أيضاً باللازم].
إن الأرض يوم القيامة يزال ما عليها من الجبال والارتفاعات فتكون مستوية، ((قَاعًا صَفْصَفًا)) * ((لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا)) فليس فيها جبال ولا نبات، وتمد الأرض كما يمد الأديم، وتبسط وتستوي، فيكون هناك الحساب على راحة الأرض بعد استوائها، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]، وهذا تبديل صفات لا تبديل ذات، فإنها تمد كما يمد الأديم، فيزال ما عليها من الجبال، فتكون قاعاً صفصفاً، فيكون الحساب عليها، كما أن جلود الكفار تبدل كما قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56]، وهذا تبديل صفات لا تبديل ذوات، خلافاً لأهل البدع كالجهمية وغيرهم الذين يقولون: إن الجلود تبدل بجلود أخر، فينسبوا الظلم إلى الله، تعالى الله عما يقولون، فمعنى الآية: إذا نضجت جلودهم بدلت وجددت؛ ليذوقوا العذاب.
كما أن الإنسان يبعث يوم القيامة بذاته، ويبدأ خلقه من عجب الذنب، خلافاً للجهم بن صفوان قبحه الله، الذي يقول: إن الإنسان يبلى ويبعث إنساناً آخر، يعني: يبعث شخصاً آخر غير الذي مات، وهذا من أبطل الباطل، فلما قال الجهم كذلك فتح باباً لـ ابن سينا بأن أنكر المعاد وأنكر البعث، وقال: ما دام أن الذي يبعث شخص آخر فلا يوجد بعث للأجساد وإنما البعث يكون للأرواح، قال هذا في رسالة له أنكر فيها البعث، وهذا كفر، فمن أنكر البعث للأجساد فهو كافر بإجماع المسلمين وبنص القرآن، قال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم على البعث وعلى الساعة في ثلاثة مواضع: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3]، وقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53] فالفلاسفة الذين ينكرون بعث الأجساد كفار بإجماع المسلمين، مثل: ابن سينا والفارابي وأرسطو وكل هؤلاء ملاحدة؛ لأنهم ينكرون بعث الأجساد.
وأرسطو هو أول من قال بقدم العالم، وكان شيخه سقراط وشيخه أفلاطون كلهم يعظمون الشرائع والإلهيات، ويقولون بحدوث العالم، فلما جاء أرسطو ابتدع القول بقدم العالم، وقال: إن العالم قديم ليس له أول ولا بداية، وهذا إنكار لله، نسأل الله العافية.
ومن قال: إن البعث للروح دون الجسد فهو كافر، والجهم هو الذي فتح لهم الباب؛ لأن الجهم قال: إن الذوات تفنى وتبعث ذوات أخرى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: ((لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا)) أي: لا ترى في الأرض يومئذ وادياً ولا رابية، ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً، كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومجاهد والحسن البصري والضحاك وقتادة وغير واحد من السلف.
((يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ)) أي: يوم يرون هذه الأحوال والأهوال يستجيبون مسارعين إلى الداعي، حيثما أمروا بادروا إليه ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم، ولكن حيث لا ينفعهم لا ينفعهم].
فالمبادرة والاستجابة في الدنيا ينتفع بها صاحبها، لكن الاستجابة يوم القيامة للداعي لا ينفعهم؛ لأن الدنيا هي دار العمل وقد انتهت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم:38]، وقال: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر:8].
وقال محمد بن كعب القرظي: يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة، ويطوي السماء، وتتناثر النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادي مناد، فيتبع الناس الصوت فيأتونه، فذلك قوله: ((يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ))، وقال قتادة: (لا عوج له) لا يميلون عنه، وقال أبو صالح: (لا عوج له) أي: لا عوج عنه].
يعني: أنهم يتبعون صوت الداعي ولا يميلون ولا ينحرفون عنه، بل يسمعونه ويقصدونه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ)) قال ابن عباس رضي الله عنهما: سكنت، وكذا قال السدي.
((فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني: وطء الأقدام، وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وقتادة وابن زيد وغيرهم.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)) الصوت الخفي، وهو رواية عن عكرمة والضحاك.
وقال سعيد بن جبير: ((فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)) الحديث وسره، ووطء الأقدام، فقد جمع سعيد كلا القولين، وهو محتمل.
أما وطء الأقدام: فالمراد سعي الناس إلى المحشر، وهو مشيهم في سكون وخضوع، وأما الكلام الخفي: فقد يكون في حال دون حال، فقد قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105]].
ولذلك فإن مشاهد القيامة متعددة، ففيه مشهد لا يتكلم فيه أحد، كما أخبر الله عن الكفار أنهم يحشرون على وجوههم صماً وعمياً وبكماً، وفي مشهد يتكلمون وينطقون وينكرون فيه، قال الله عنهم: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23].(88/4)
تفسير قوله تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن)
قال الله تعالى: [{يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:109 - 111] قال المؤلف رحمه الله: [يقول تعالى: {يَوْمَئِذٍ) [طه:109] أي: يوم القيامة، ((لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ} [طه:109] أي: عنده، ((إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا))، كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]].
والشفاعة لابد فيها من توفر هذين الشرطين: إذن الله للشافع بأن يشفع، ورضاه عن المشفوع عنه، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال سبحانه: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وقد جمع الله بين الشرطين في قوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، وكما في هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109].
فلابد من الإذن للشافع، حتى ولو كان أوجه الناس وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا يبدأ بالشفاعة مباشرة، وإنما يسجد تحت العرش، ويحمد الله ويلهمه محامد لا يحصيها، ثم يأذن الرب سبحانه فيقال: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطى، واشفع تشفع)، ثم بعد ذلك إذا شفع في العصاة فيحد الله له حداً من كذا إلى كذا، فيجعل له علامة يشفع فيهم ويخرجهم من النار، وهم من رضي الله قولهم، وهم العصاة من أهل التوحيد، أما الكفرة فلا تكتب لهم الشفاعة، قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، ولا يقبل الله أقوالهم ولا أعمالهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]، وقال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38].
وفي الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد ولد آدم وأكرم الخلائق على الله عز وجل، أنه قال صلى الله عليه وسلم: (آتي تحت العرش، وأخر لله ساجداً، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء أن يدعني، ثم يقول: يا محمد! ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أعود) فذكر أربع مرات، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء].
وثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، في كل مرة يحد الله له حداً من الناس فيدخلهم الجنة، جاء في بعضها: أن الله تعالى يشفع فيه، فيقول الله: (أخرج من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، وفي المرة الثانية: أخرج من كان في قلبه مثقال نصف دينار، -وفي بعضها يقول في المرة الثالثة- أخرج من كان في قلبه مثقال حبة من خردل، وفي بعض الروايات: أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث أيضاً: (يقول تعالى: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان، أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرة، من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان) الحديث].
وذلك أن المعاصي -وإن عظمت وكثرت- لا تقضي على الإيمان، بل لا بد أن يبقى بقية من الإيمان، فلا يخلد صاحبها في النار، ويخرج بهذا الإيمان من النار، فالمعاصي -وإن كثرت وعظمت- لا تقضي على الإيمان؛ لكنها تضعفه ولا يبقى إلا أقل القليل، وهذا القليل يُخرج صاحبه من النار، ولا ينتهي الإيمان إلا إذا وجد الكفر الأكبر، أو الشرك الأكبر، أو النفاق الأكبر، فهذا هو الذي يقضي على الإيمان، وبه ينتهي الإيمان، ولا يبقى منه شيء ولا مثقال ذرة.
والمرء إذا قال: لا إله إلا الله، وأتى بناقض من نواقض الإسلام، فإنه يبطل توحيده وإيمانه، والصلاة تبطل مع عدم صحة الإيمان، ولو توضأ الإنسان وتطهر وأحسن الطهارة، ثم خرج منه ريح أو بول فإنه تنقض الطهارة وتزول، فكذلك إذا كان الإنسان يقول: لا إله إلا الله، وكان موحداً ويصلي، ثم سب الله، أو سب الرسول، أو قال: إن محمداً رسول للعرب خاصة، أو قال: إن رسالة محمد ليست للثقلين، أو ليس خاتم النبيين بل بعده رسول، أو شك في ربوبية الله أو في ألوهيته، أو شك في ملك من الملائكة، أو شك في البعث، أو في الجنة، أو في النار، فإنه يبطل توحيده.
فكذلك إذا قال: لا إله إلا الله، ووحد الله، ولم يصل، فإنه يبطل توحيده؛ لأن الصلاة شرط في صحة التوحيد كما أن الطهارة شرط في صحة الصلاة، فالصلاة شرط في صحة الدين.
فالصلاة لا بد منها في الإيمان، والذي لا يصلي ليس عنده إيمان.
والزكاة إذا أنكرها الإنسان جاحداً بوجوبها كفر، وإن منعها بخلاً وتهاوناً يفسق، وتؤخذ منه ويؤدب، ولا يكفر على الصحيح، وقال بعض العلماء بكفره، فإن بعض العلماء يرى أن ترك الزكاة كفر، وترك الصيام كفر، وترك الحج كفر كالصلاة.
والصواب: أن هذا خاص بالصلاة؛ لأن الصلاة جاء فيها من الأدلة ما لم يأت في غيرها، وعلى هذا فإن ترك الصلاة كفر، وأما ترك الزكاة تهاوناً وكسلاً، وترك الصوم تهاوناً أو الحج فلا يكون كفراً أكبر، وإنما يكون فاعل ذلك مرتكب كبيرة، فيعزر وعليه الوعيد الشديد، ولا يكفر إلا إذا جحد، فإذا جحد وجوب الزكاة أو وجوب الصوم أو وجوب الحج كفر، وهذا بالإجماع.
وأما إذا لم يجحد وجوب الزكاة لكن تركها بخلاً، ويعلم أن الصوم واجب وأفطر كسلاً، فإنه لا يكفر، وعليه الوعيد الشديد.
وبعض أهل العلم يرى أنه إذا ترك ركناً من أركان الإسلام فإنه يكفر، كالزكاة والصوم ولو أقر بوجوبها.
وإذا منعوها وقاتلوا عليها هذا يدل على جحدهم، وأما لو منعوها ولم يقاتلوا عليها فإنها تؤخذ منهم ويعزرون، فالإنسان إذا منعها وقاتل عليها هذا يدل على جحوده، فيعامل معاملة الكفار.
وجاء عن شقيق بن عبد الله أنه قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً تركه كفر غير الصلاة.
قال الله تعالى: [وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [طه:110] أي: يحيط علماً بالخلائق كلهم {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، كقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]، وقوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111] قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد: خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء يدبره ويحفظه، فهو الكامل في نفسه، الذي كل شيء فقير إليه، لا قوام له إلا به].
قوله: (الحي القيوم) قيل: إن هذا هو الاسم الأعظم، وقد جمع الله بين هذين الاسمين في ثلاثة مواضع في كتابه، قال تعالى في آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، وقال في أول سورة آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران:1 - 3]، وقال في هذه الآية في سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111].
وجميع الصفات والأسماء ترجع إلى هذين الاسمين، كالعلم والقدرة والسمع وغيرها من الصفات الذاتية، وكذلك الصفات الفعلية.
والقيوم هو: القائم بنفسه المقيم لغيره، فهو سبحانه وتعالى القائم بنفسه الذي لا يحتاج إلى أحد، المقيم لغيره فلا قيام لأحد إلا به سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111] أي: يوم القيامة؛ فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء].
قوله: حتى يقاد للشاة الجلحاء، هذا جاء في حديث: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) والشاة الجلحاء هي: التي ليس لها قرون، فإذا نطحتها الشاة التي لها قرون فإنها تقتص منها يوم القيامة، يقول رسول الله: (فيقص بعضهم من بعض، ثم يقول الله لها: كوني تراباً)، فالحيوانات تبعث، فيقص من بعضها لبعض، ثم إذا انتهى القصاص يقول الله لها: (كوني تراباً)؛ لأنها ليس لها جنة ولا نار، وليس عليها حساب ولا عذاب، فعند ذلك يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث (يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي! لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم).
وفي الصحيح (إياكم والظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)، والخيبة كل الخيبة لمن لقي الله وهو به مشرك؛ فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]].
فالظالم متوعد بال(88/5)
تفسير سورة طه [112 - 126]
لقد وعد الله من عمل الصالحات وهو مؤمن أن يحييه حياة طيبة، وأن يجزيه أجره بأحسن ما عمل، ووعده بعدم الضلال في الدنيا، وعدم الشقاء في الآخرة.
وأوعد من أعرض عن دينه بالمعيشة الضنك في الدنيا والآخرة، فيكون أعمى البصر والبصيرة، فلا يرى الحق ولا يعيه وينتبه لما يضره.(89/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً)
قال الله تعالى: [وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر الظالمين ووعيدهم ثنى بالمتقين وحكمهم، وهو أنهم لا يظلمون ولا يهضمون، أي: لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة وغير واحد.
فالظلم: الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره، والهضم النقص].
وهذا فيه أن الله تعالى أمن عباده من الظلم، كما قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]، والظلم هو: أن يحمل عليه سيئات غيره، والهضم هو: أن ينقص من ثواب حسناته، فالله سبحانه وتعالى أمنه من أن يوضع عليه سيئات غيره، أو ينقص من حسناته.
وهذا فيه دليل على أن الظلم مقدور لله، لكن الله تنزه عنه ونفاه، قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]، وقال: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17].
وفي حديث أبي ذر يقول الرب عز وجل: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا) فالظلم يقدر عليه الرب سبحانه وتعالى ولكن الله تنزه عنه، فحرمه على نفسه ونفاه وهو قادر عليه، وهذا خلافاً للجبرية والجهمية والأشاعرة، فإنهم يقولون: إن الظلم غير مقدور لله، والظلم عندهم من الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، وهو عندهم مستحيل، كالجمع بين الضدين، وقالوا: كل شيء يدخل تحت القدرة فليس لله أن يفعله، تعالى الله عما يقولون.
وقالوا: إن لله تعالى أن يقلب التشريعات والجزاءات، فيجعل العفة محرمة، والزنا واجباً، والكفر إيماناً والإيمان كفراً، نعوذ بالله؛ لأن الله يفعل في ملكه ما يشاء، هكذا يقولون، وينكرون الحكمة، وينكرون الحكم، ويقولون إن الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، والظلم لا يكون إلا من مأمور منهي، والله ليس فوقه آمر ولا ناهي، فله أن يفعل ما يشاء، وإذا فعل ما يشاء فلا يكون ظلماً، فلو قلب التشريعات والجزاءات، وأبطل حسنات الأبرار والأنبياء، وحملهم سيئات الفجار، وعذب الأبرار بالنار، لما كان هذا ظلماً؛ لأنه تصرف في ملكه بما يشاء، واستدلوا بقوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (لو عذب أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم)، وهذا من جهلهم وضلالهم؛ فإن الله عز وجل حكيم، والظلم مقدور لله، ولكن الله تنزه عنه، ومعنى قوله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] أي: لا يسأل لكمال حكمته؛ لأنه حكيم، فلكمال حكمته لا يسأل.
وقولهم: لو عذب أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، أي: أنه لو حاسب الله عباده بأعمالهم وبنعمه عليهم لكانوا مدينين له، وحينئذ لو وضع عدله فيهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، لكنه سبحانه لا يفعل ذلك.
فالجبرية مذهبهم باطل، فإنهم يقولون: الظلم هو الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، وعلى عكسهم المعتزلة والقدرية، فإنهم يقولون: الظلم: كل ما كان من العبد ظلماً وقبيحاً، فيكون ظلماً وقبيحاً من الله تعالى، وأهل السنة قالوا: الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وهو أن يحمل أحداً أوزار غيره، أو يمنعه من ثواب عمله، كما في هذه الآية: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]، فالظلم تنزه عنه الرب سبحانه، ونفاه، وحرمه على نفسه، وهو قادر.(89/2)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً)
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:113 - 114].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ولما كان يوم المعاد والجزاء بالخير والشر واقعاً لا محالة أنزلنا القرآن بشيراً ونذيراً بلسان عربي مبين فصيح لا لبس فيه ولا عي.
((وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) أي: يتركون المآثم والمحارم والفواحش، ((أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا)) وهو إيجاد الطاعة وفعل القربات، ((فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ)) أي: تنزه وتقدس الملك الحق، الذي هو حق، ووعده حق، ووعيده حق، ورسله حق، والجنة حق، والنار حق، وكل شيء منه حق، وعدله تعالى ألا يعذب أحداً قبل الإنذار وبعثة الرسل، والإعذار إلى خلقه؛ لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة.
وقوله: ((وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)) كقوله تعالى في سورة: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19].
وثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعالج من الوحي شدة، فكان مما يحرك به لسانه، فأنزل الله هذه الآية، يعني: أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا جاءه جبريل بالوحي كلما قال جبريل آية قالها صلى الله عليه وسلم معه؛ من شدة حرصه على حفظ القرآن، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه؛ لئلا يشق عليه، فقال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 17] أي: أن نجمعه في صدرك، ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئاً، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:18 - 19].
وقال في هذه الآية: ((وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)) أي: بل أنصت، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده، {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أي: زدني منك علماً].
وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه إلى نبيه، فإنه كان عليه السلام يعاني من الوحي شدة، وكان إذا قرأ جبريل يحرك لسانه بالقرآن؛ يخشى أن ينساه، فأمره الله أن ينصت، ووعده أن يجمعه في صدره ويثبته في قلبه، ونزل قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 17] أي: إن علينا أن نجمعه في صدرك، ثم تقرأه بعد ذلك، فكان ينصت، فإذا انطلق جبريل قرأه كما جاء به؛ لأن الله ثبته في صدره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال في هذه الآية: ((وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)) أي: بل أنصت فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده، ((وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)) أي: زدني منك علماً.
قال ابن عيينة رحمه الله: ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة حتى توفاه الله عز وجل؛ ولهذا جاء في الحديث: (إن الله تابع الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم حتى كان الوحي أكثر ما كان يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
وهذا من زيادة العلم، فمن زيادة العلم أن الله تابع الوحي على نبيه، فكان أكثر ما ينزل عليه الوحي قبيل وفاته عليه الصلاة والسلام، فزاده الله علماً، وجعل آخر عمره خير عمله، وعارضه جبريل القرآن في السنة التي توفي فيها مرتين، يعني: قابله عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير عن موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علماً، والحمد الله على كل حال).
وأخرجه الترمذي عن أبي كريب عن عبد الله بن نمير به وقال: غريب من هذا الوجه، ورواه البزار عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي عاصم عن موسى بن عبيدة به، وزاد في آخره: (وأعوذ بالله من حال أهل النار)].
الدعاء بزيادة العلم أمركما قال الله، نص الآية: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، لكن الحديث هذا ضعيف؛ لأن موسى بن عبيدة ضعيف.(89/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:115 - 122].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي.
وكذا رواه علي بن أبي طلحة عنه، وقال مجاهد: ترك.
وقوله: ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)) يذكر تعالى تشريف آدم عليه السلام وتكريمه، وما فضله به على كثير ممن خلق تفضيلاً، وقد تقدم الكلام على هذه القصة في سورة البقرة، وفي الأعراف، وفي الحجر، والكهف، وسيأتي في آخر سورة (ص) يذكر تعالى فيها خلق آدم عليه السلام، وأمره الملائكة بالسجود له تشريفاً وتكريماً، ويبين عداوة إبليس لبني آدم ولأبيهم قديماً؛ ولهذا قال تعالى: ((فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى)) أي: امتنع واستكبر.
((فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ)) يعني: حواء عليهما السلام، ((فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى)) أي: إياك أن تسعى في إخراجك منها؛ فتتعب وتعنى وتشقى في طلب رزقك، فإنك هاهنا في عيش رغيد هنيء بلا كلفة ولا مشقة.
{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} إنما قرن بين الجوع والعري لأن الجوع ذل البطن والعري ذل الظاهر، وهذان أيضاً متقابلان، فالظمأ حر الباطن وهو العطش، والضحى حر الظاهر].
وهذه الآيات فيها تكريم الله لآدم، فالله تعالى كرم آدم وفضله بأنواع من التفضيلات منها: أنه خلقه الله بيده، وهذه مزية ليست لغيره من المخلوقات، فإن سائر المخلوقات خلقها الله بكلمة كن؛ ولهذا جاء في بعض الأحاديث التي استدل بها على تفضيل الأنبياء على الملائكة: أن الملائكة قالوا: يا ربنا! كما جعلت الدنيا لبني آدم يلهون ويأكلون ما يشتهون، فاجعل لنا الآخرة، فقال الرب سبحانه في حديث قدسي: (لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان) فالملائكة خلقوا بكلمة كن، وآدم خلقه الله بيده، وهذا تشريف وتكريم، التكريم الأول: أن الله خلقه بيده، والتكريم الثاني: أنه أسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فهذه تشريفات عظيمة، وكذلك أسكنه الله الجنة، وقال له الله: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه:118] أي: لك عيش رغيد، بدون تعب ولا مشقة، فنفى عنه ذل الظاهر والباطن، فالجوع ذل الباطن، والعري ذل الظاهر.
وقوله: ((وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى)) الظمأ حر الباطن، ويضحى حر الظاهر، ولهذا فإن المحرم يكشف الرأس، ولما رأى بعض السلف من يغطي قال له: اضح لمن حرمت له، يعني: اكشف رأسك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى)) قد تقدم أنه دلاهما بغرور، {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}.
وقد تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أن يأكلا من كل الثمار، ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في الجنة، فلم يزل بهما إبليس حتى أكلا منها، وكانت شجرة الخلد، يعني: التي من أكل منها خلد ودام مكثه].
والله تعالى حذر آدم وحوى من طاعة الشيطان، فقال تعالى: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، وأمرهما أن يأكلا من جميع الثمار التي في الجنة إلا شجرة واحدة عينت لهما؛ لحكمة بالغة، ولكن الشيطان ما زال بهما حتى أوقعهما في الأكل منها، حيث جعل يزين لهما، ويحلف لهما، وأقسم أنه ناصح، وهو كذاب، قال عز وجل: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21].
فاغترا فأكلا منها، فلما أكلا منها سقطت الثياب التي على الظاهر، وبدت العورة، فالمعاصي عري، وكشف للسوأة، فلما عصيا الله سقطت الثياب، فاستحيا من ربهما، وجعلا يخصمان من ورق الجنة، ويستران أنفسهما من من ورق الشجر، قال عز وجل: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22]، فالمعاصي ذل وعري في الباطن.
وهناك حكمة لله عز وجل من عصيانهما وخروجهما من الجنة وهي: إسكانهما في الأرض، وانتشار الذرية، ووجود الأنبياء والصالحين والأبرار والفجار والكفار، وليبتلي هؤلاء بهؤلاء، وما يحصلون من الطاعات والمعاصي، وحصول العبودية المتنوعة، وابتلاء هؤلاء بهؤلاء، وذلك بأن يبتلي سبحانه المؤمنين بالكفار، والكفار بالمؤمنين، فيحصل من ذلك العبودية المتنوعة، كعبودية الجهاد، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الولاء والبراء، وعبودية الحب في الله والبغض في الله، كل هذه من الحكم والأسرار.
وهكذا ظهور أسماء الله القهرية كالقهار والمتجبر، وظهور أسماء المغفرة والتوبة والرحمة، وبيان قدرة الله على وجود المتقابلات، كل هذه من الحكم المترتبة على فعل المعصية، وإهباطهما من الجنة إلى الأرض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد، فقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن أبي الضحى سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها، وهي شجرة الخلد)، ورواه الإمام أحمد.
وقوله: ((فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)) قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه؛ فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة، فأخذت شعره شجرة فنازعها، فناداه الرحمن: يا آدم! مني تفر؟ فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب! لا، ولكن استحياءً، أرأيت إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم) فذلك قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37].
وهذا منقطع بين الحسن وأبي بن كعب فلم يسمعه منه، وفي رفعه نظر أيضاً].
هذا الحديث ضعيف؛ لأن الحسن البصري لم يسمع من أبي بن كعب، وفيه عنعنة قتادة وسعيد بن أبي عروبة.
وسقوط اللباس هذا دلت عليه الآية: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف:22]، لكن كونه أخذت شجرة شعر رأسه، وكونه ناداه الله: مني تفر؟ هذا كله يحتاج إلى ثبوت الدليل بذلك، وأما هذا فضعيف؛ لانقطاعه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ)) قال مجاهد: يرقعان كهيئة الثوب، وكذا قال قتادة والسدي وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن عون حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ)) قال: ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما.
وقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121 - 122]، قال البخاري: حدثنا قتيبة قال حدثنا أيوب بن النجار عن يحي بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حاج موسى آدم فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى! أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني، أو قدره الله علي قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى) وهذا الحديث له طرق في الصحيحين وغيرهما من المسانيد].
وهذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما، وهو حديث مشهور وله طرق متعددة، وفيه: (أنه تحاج موسى وآدم لما لقيه، فقال موسى لآدم: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء؟ قال: نعم، قال: فلماذا أشقيتنا وأخرجتنا من الجنة؟ فقال: أنت موسى الذي اصطف(89/4)
تفسير قوله تعالى: (قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو)
قال الله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126].
قال المؤلف رحمه الله: [يقول تعالى لآدم وحواء وإبليس: اهبطوا منها جميعاً، أي: من الجنة كلكم، وقد بسطنا ذلك في سورة البقرة.
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36] قال: آدم وذريته وإبليس وذريته.
وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [طه:123] قال أبو العالية: الأنبياء والرسل والبيان].
يعني: هذا هو الهدى الأنبياء والرسل، والبيان الذي جاء في كتب الله المنزلة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)) قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة].
الله تعالى تكفل لمن عمل بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، والدليل هذه الآية: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123]، فمن اتبع هدى الله، وآمن بكتبه المنزلة، وآمن برسوله الذي أرسل إليه في أي زمان؛ فإنه موعود بالهداية، وهو من المهديين الذين لا يضلون في الدنيا، ولا يشقون في الآخرة.
ومن أعرض عن هدي الله، وعن كتابه، وعن نبيه الذي أرسله إليه في أي زمان، فإنه شقي في الآخرة، وضال في الدنيا، وله المعيشة الضنكا، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي)) أي: خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} أي: ضنك في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشرح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك].
وهذا واقع؛ فإن الكفرة الآن وإن توصلوا إلى ما وصلوا إليه من الاختراعات الحديثة، والتطور وما وصلوا إليه من التقنية؛ فإنهم في معيشة ضنكا، فلا يجدون راحة في نفوسهم، ولا طمأنينة، بل يجدون ضيقاً وحرجاً، ويملون حياتهم، ويسأمونها؛ ولهذا نسمع عن الانتحارات كثيراً، وهم قد وصلوا إلى ما وصلوا، وعندهم آلاف والملايين من الأموال، ومع هذا لم يسعدوا بها.
فالكافر قد يكون عنده تقدم في العلم، وعنده شهادات علمية، لكن عنده ضيق وحرج؛ لأنه ليس عنده إيمان ولا هدى، وقلبه خالٍ من الإيمان والهدى؛ فيعيش عيشة ضنكاً، ويمل الحياة ويسأمها، وتضيق عليه الدنيا بما رحبت، وهو عنده الأموال، وعنده كذا، وعنده من الجاه؛ لكنه لما لم يكن في قلبه هدى ويقين ضاق صدره، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وصار في ضنك وقلق وعدم راحة وطمأنينة، نسأل الله السلامة والعافية.
والمؤمن قد يصاب بالهموم، فيكفر الله بها عنه من الخطايا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا غم إلا كفر الله من خطاياه، حتى الشوكة يشاكها) فقد يكون الإنسان عنده هموم وغموم لكن مع ذلك فالمؤمن عنده راحة وطمأنية، وثقة بالله عز وجل، وبوعده وبما أعده للصابرين من الكرامة والأجر، فهو يعلم أن هذه الهموم وهذه المصائب وهذه النكبات يكفر الله بها من خطاياه، ويرفعه بها درجات، فيطمئن، وإن كان فقيراً، وإن كان مريضاً، ويكون قلبه منشرحاً مطمئناً راضياً بالله عز وجل؛ لما يعلم ما عند الله من الكرامة، ففرق بين المؤمن والكافر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلا يزال في ريبه يتردد، فهذا من ضنك المعيشة.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} قال: الشقاء، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)) قال: كل مال أعطيته عبداً من عبادي قل أو كثر لا يتقيني فيه فلا خير فيه، وهو الضنك في المعيشة].
وهذا مما يؤيد حال بعض الأغنياء الذي لا يتقي ربه فيما أعطاه بل يعصي ربه، فيكون وبالاً وضنكاً عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً: إن قوماً ضلالاً أعرضوا عن الحق، وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين، فكانت معيشتهم ضنكاً، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفاً لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله والتكذيب، فإذا كان العبد يكذب بالله ويسيء الظن به والثقة به، اشتدت عليه معيشته، فذلك الضنك.
وقال الضحاك: هو العمل السيء والرزق الخبيث.
وكذا قال عكرمة ومالك بن دينار.
وقال سفيان بن عيينة عن أبي حازم عن أبي سلمة عن أبي سعيد في قوله: ((مَعِيشَةً ضَنكًا)) قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه.
وقال أبو حاتم الرازي: النعمان بن أبي عياض يكنى أبا سلمة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان أنبأنا الوليد أنبأنا عبد الله بن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: ((فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)) قال: (ضمة القبر له)، والموقوف أصح].
رواية دراج عن أبي الهيثم ضعيفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج أبو السمح عن ابن حجيرة -واسمه عبد الرحمن - عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن في قبره في روضة خضراء، ويفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له قبره كالقمر ليلة البدر، أتدرون فيمَ أنزلت هذه الآية: ((فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا))؟ أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده! إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً، أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية، لكل حية سبعة رءوس ينفخون في جسمه، ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون) رفعه منكر جداً.
وقال البزار: حدثنا محمد بن يحيى الأزدي حدثنا محمد بن عمرو حدثنا هشام بن سعد عن سعيد بن أبي هلال عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] قال: (المعيشة الضنك التي قال الله: أنه يسلط عليه تسعاً وتسعين حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة).
وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة حدثنا أبو الوليد حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] قال: (عذاب القبر)، إسناد جيد.
وقوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] قال مجاهد وأبو صالح والسدي: لا حجة له.
وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم.
ويحتمل أن يكون المراد: أنه يبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة أيضاً، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]، ولهذا يقول: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه:125] أي: في الدنيا {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126] أي: لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها؛ كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك، {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف:51]؛ فإن الجزاء من جنس العمل.
فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه فليس داخلاً في هذا الوعيد الخاص، وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى، فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك].
مراد المؤلف رحمه الله: أن من أعرض عن ذكر الله، وأعرض عن آيات الله، ولم يعمل بكتاب الله، فإن عليه الوعيد الشديد: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، نسي آيات الله فنسيه الله، يعني: نسي آيات الله فلم يعمل بها، فعومل معاملة المنسي؛ جزاء وفاقاً، كما قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف:51].
والمراد بالنسيان لآيات الله عدم العمل بها، وارتكاب النواهي، وعدم تنفيذ الأو(89/5)
تفسير سورة طه [127 - 135]
يستنكر الله تعالى على المشركين كيف لا يتعظون وهم يعلمون كيف أهلك الله الأمم السابقة لما عاندت واستكبرت عن تقبل هذا الدين، وهم كثيراً ما يمرون على ديار هؤلاء الذين أهلكهم الله تعالى.(90/1)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه)
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة، {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [الرعد:34]؛ولهذا قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127] أي: أشد ألماً من عذاب الدنيا وأدوم عليهم، فهم مخلدون فيه، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: (إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة)].(90/2)
تفسير قوله تعالى: (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون)
قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى * وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:128 - 130].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ((أَفَلَمْ يَهْدِ)) لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد! كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم، فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر، كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها يمشون فيها.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:128] أي: العقول الصحيحة، والألباب المستقيمة، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، وقال في سورة السجدة: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السجدة:26]].
وهذا مثل ديار ثمود؛ فإنهم شاهدوها في الحجْر على طريقهم، فلما مروا بها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين؛ أن يصيبكم ما أصابهم، ثم قنع رأسه وأسرع عليه الصلاة والسلام بالسير).
وهذا يدل على أنه لا ينبغي دخولها على سبيل المزاح واللعب، كما يفعل بعض الناس، فإنهم يدخلون ديار ثمود للفرجة والنزهة وللضحك، وهذا لا ينبغي، وإنما يكون على وجه الاعتبار والعظة والثبات، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين؛ أن يصيبكم ما أصابهم) ثم قنع رأسه وأسرع عليه الصلاة والسلام بالسير.
فمن مر عليها أو دخلها على هذه الكيفية التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه:129] أي: لولا الكلمة السابقة من الله، وهو أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، والأجل المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة؛ لجاءهم العذاب بغتة، ولهذا قال لنبيه مسلياً له: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه:130] أي: من تكذيبهم لك، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} [طه:130] يعني: صلاة الفجر، {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130] يعني صلاة العصر، كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) ثم قرأ هذه الآية].
والصلاة التي قبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر، والصلاة التي قبل غروبها هي صلاة العصر، وهذا فيه بشارة للمؤمنين، وأنهم يرون ربهم يوم القيامة.
وفيه دليل على أهمية هاتين الصلاتين، وأن إتيان هاتين الصلاتين من أسباب رؤية الله عز وجل يوم القيامة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) وتضامون بتخفيف الميم أو بتشديده، (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الفجر وقبل غروبها فافعلوا) يعني: أن ذلك من أسباب رؤية الله عز وجل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عمارة بن رويبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)، رواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير به].
وقوله: (لن يلج النار) يعني: لن يدخل النار، (من صلى قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها) وهما: صلاة العصر وصلاة الفجر، فليس المعنى أنه يهمل بقية الصلوات، بل المعنى: أنه من حافظ على هاتين الصلاتين، ولا بد أن يحافظ على بقية الصلوات، وإيمانه الذي يدفعه إلى العناية بهاتين الصلاتين سيدفعه للمحافظة على بقية الصلوات، وليس المراد أنه يصلي العصر ويصلي الفجر ويترك بقية الصلاة الصلوات؛ لأن من ترك صلاة واحدة كفر، والعياذ بالله! فالمعنى أنه يخص هاتين الصلاتين بمزيد من العناية، ويحافظ على بقية الصلوات، وهذا لا بد منه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي المسند والسنن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة، ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه، وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى الله تعالى في اليوم مرتين)] وهذ الحديث في سنده ثوير بن أبي فاختة وهو ضعيف ليس بشيء، وفيه: (أن أدنى أهل الجنة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي) وهذا يعارض الحديث الصحيح الذي ورد في البخاري: (أن آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً فيها رجل يخرج وقد وُجه وجهه إلى النار، فيقول: يا رب! اصرف وجهي عن النار؛ فقد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فيأخذ الله عليه العهود ألا يسأله غيرها، فيعطيه العهود والمواثيق، فيصرف الله وجهه، ثم ترفع له شجرة فيمكث ما شاء الله، ثم يقول: رب! ادنني، فيقول الله: ويلك ما أغدرك! ألم تعط العهود ألا تسألني غيرها؟ وربك يعذره، فلا يزال ترفع له شجرة بعد شجرة، حتى يصل إلى الجنة، فإذا قرب منها سكت ما شاء الله، ثم ترفع له الجنة فيرى ما فيها من النعيم، فيقول: رب أدخلني الجنة، فيقول الله: ويلك ما أغدرك! ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غيرها؟ فيقول: يا رب! لا أكون أشقى خلقك، فيضحك الله منه، قال له: ادخل الجنة، فيخيل إليه أنها ملأى فيقول يا رب! ما فيها مكان -مرتين أو ثلاثاً-، فيقول له الله: أما ترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: بلى، رضيت يا رب! فيقول الله: فإن لك ذلك ومثله ومثله -خمس مرات-، ثم قال: لك ذلك وعشرة أمثاله)، فهذه له مثل ملك من ملوك الدنيا خمسين مرة، هذا آخر من يخرج من النار، وآخر من يدخل الجنة، له مثل ملك في الدنيا خمسين مرة.
وهذا الحديث فيه أن أدنى أهل الجنةلمن ينظر في ملكه وخدمه ألفي عام، يعني: هذا دون هذا، فهذا الحديث الصحيح يعارض هذا الحديث الذي فيه ثوير بن أبي فاختة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} [طه:130] أي: من ساعاته فتهجد به، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه:130] في مقابلة آناء الليل {لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130]، كما قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5].
وفي الصحيح (يقول الله: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى؟)].(90/3)
تفسير قوله تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم)
قال الله تعالى: [{وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه: لا تنظر إلى هؤلاء المترفين وأشباههم ونظرائهم وما هم فيه من النعم؛ فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة؛ لنختبرهم بذلك، وقليل من عبادي الشكور، وقال مجاهد: ((أزواجاً منهم)) يعني: الأغنياء، فقد آتاك الله خيراً مما آتاهم، كما قال في الآية الأخرى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [الحجر:87 - 88]، وكذلك ما ادخره تعالى لرسوله في الدار الآخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف، كما قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، ولهذا قال: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]، وفي الصحيح: (أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نسائه)].
والمشربة هي الغرفة المرتفعة، وقد هجر نساءه عليه الصلاة والسلام شهراً واعتزلهن في غرفة مرتفعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(حين آلى منهن، فرآه متوسداً مضطجعاً على رمال حصير وليس في البيت إلا صبرة من قرظ وأهب معلقة)].
وأهب معلقة: جمع إهاب، وهو جلد، فرآه عمر بن الخطاب وليس له فراش إلا الحصير وقد أثر في جسده، فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله! إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله أفضل الناس وهكذا يؤثر الحصير في جسدك؟ ولا يوجد شيء في البيت؟ فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقال (أفي شك يا ابن الخطاب؟! إن أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فابتدرت عينا عمر بالبكاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ فقال: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه، فقال: أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت طيباتهم في حياتهم الدنيا).
فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها، وإذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله، ولم يدخر لنفسه شيئاً لغد.
قال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟! قال: بركات الأرض).
وقال قتادة والسدي: (زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا) [طه:131] يعني: زينة الحياة الدنيا.
وقال قتادة: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131] لنبتليهم.(90/4)
تفسير قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)
قال الله تعالى: [{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
قال المؤلف رحمه الله: [أي: استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، فاصبر أنت على فعلها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يبيت عنده أنا ويرفأ].
كان يبيت عند غلمانه، فـ زيد بن أسلم غلام ويرفأ غلام آخر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان له ساعة من الليل يصلي فيها، فربما لم يقم فنقول: لا يقوم الليلة كما كان يقوم، وكان إذا استيقظ أقام يعني أهله، وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132].
وقوله: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132] يعني: إذا أقمت الصلاة آتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]].
وتقوى الله هي توحيد الله وطاعته وأداء الأوامر واجتناب النواهي، فمن وحد الله وأدى حقه واجتنب نهيه، فهو المستقيم، وهو موعود بالرزق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، ولهذا قال: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132]، وقال الثوري: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه:132] أي: لا نكلفك الطلب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج قال: حدثنا حفص بن غياث عن هشام عن أبيه: أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفاً، فإذا رجع إلى أهله فدخل الدار قرأ: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه:131] إلى قوله: {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132]، ثم يقول: الصلاة الصلاة رحمكم الله].
وهشام هو هشام بن عروة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني قال: حدثنا سيار قال: حدثنا جعفر عن ثابت رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه خصاصة نادى أهله: يا أهلاه! صلوا صلوا، قال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة)].
فزعوا أي: في النوافل، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام (كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة) فيصلي النافلة، وإذا كانت فريضة صلى الفريضة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى الترمذي وابن ماجة من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً، وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك).
وروى ابن ماجة من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك)].
قوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] هذا عام في الفرائض، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)، فالأهل والأولاد كلهم يجب أمرهم بالصلوات المفروضة، والنوافل تبع، لكن المهم هي الفرائض، ومن ذلك ما جاء في الحديث: (رحم الله من قام من الليل وأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل وزوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)، وهذا من التعاون على البر والتقوى، ومن أمر الأهل بالصلاة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروي أيضاً من حديث شعبة عن عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت الدنيا همه: فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته: جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)].
وهذا سند جيد.
وأحياناً ينبغي للإنسان أن يجعل همه هم الآخرة، والدنيا تكون وسيلة لا غاية، فإذا جعل هم الآخرة نصب عينيه أتت الدنيا وهي راغمة، وإذا جعل الدنيا همه تشتت عليه أموره، وامتلأ قلبه بالدنيا، وتشعبت الهموم عليه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، وفاته نصيبه من الآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] أي: وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة -وهي الجنة- لمن اتقى الله، وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع وأنا أتينا برطب ابن طاب فأولت ذلك: أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة، وأن ديننا قد طاب)].
وهذا ثابت في الصحيحين، وفيه: (أتينا برطب ابن طاب) وهذا نخل في المدينة يسمى رطب ابن طاب، وتأولها النبي: بأن عيشنا قد طاب، هذا من باب الفأل الحسن، فقد تفاءل عليه الصلاة والسلام بذلك.(90/5)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه)
قال الله تعالى: [{وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:133].
قال المؤلف رحمه الله: [يقول تعالى مخبراً عن الكفار في قولهم: {لَوْلا} [طه:134] أي: هلا يأتينا محمد بآية من ربه، أي: بعلامة دالة على صدقه في أنه رسول الله، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:133] يعني: القرآن الذي أنزله عليه الله، وهو أمي لا يحسن الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب، وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف الدهور بما يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها، فإن القرآن مهيمن عليها يصدق الصحيح ويبين خطأ المكذوب فيها وعليها].
ومهيمن أي: هو الحاكم على الكتب السابقة، يصدق الحق وينفي الباطل، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، (مصدقاً لما بين يديه من الكتاب) المراد بالكتاب الجنس، أي: جنس الكتب السابقة: التوراة والإنجيل، فهو يصدق ما فيها، وينفي الباطل منها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه الآية كقوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:50 - 51]، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)].
يعني: أن الأنبياء السابقين أعطاهم الله من المعجزات ما يؤمن على مثله البشر، وهي معجزات حسية، فموسى أعطاه الله العصا واليد، وعيسى كان يبرئ الأكمه والأبرص؛ لأن قومه برعوا في الطب وبلغوا شأناً عظيماً، فأعطى لهم من الآيات ما بهر به الأطباء، فكان يبرئ الأكمه الذي لم يشق له عين، فيشق له عيناً فيبصر، والأطباء لا يستطيعون ذلك؛ لأن هذا آية من آيات الله، وكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيحييه الله، فيكون طيراً بإذن الله، فبهر الأطباء.
ولما كان الناس في زمان موسى عليه السلام قد برعوا في السحر ووصلوا إلى شأو بعيد منه، وكثر السحرة في زمن فرعون وملئوا وادياً بالحيات والعقارب حين ألقوا العصي والحبال، فجعل الله عصا موسى تنيناً يأكل حبالهم وعصيهم، فبهرت هذه المعجزة عقول السحرة، وعلموا أن هذا من عند الله، فخروا لله سجداً وآمنوا، و {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، ولما توعدهم فرعون بأن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَاأَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:72 - 73]، ولهذا قال بعض العلماء: كانوا في أول النهار سحرة فجرة، وفي آخر النهار شهداء بررة.
وهذا على القول بأنه صلبهم وقتلهم.
فأعطاهم الله من المعجزات الحسية، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فأعطاه الله القرآن، وهو وحي يتلا إلى يوم القيامة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً)، فلما بلغ الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم شأواً بعيداً في الفصاحة والبلاغة، وكانت لهم الأسواق ينشدون فيها الأشعار ويفتخرون فيها، أنزل الله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن وتحداهم وهم فرسان البلاغة وأمراء البيان، فتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن فعجزوا، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بآية فعجزوا، وهو متكون من ثمانية وعشرين حرفاً، وهي الحروف التي ينطقون بها، ومع ذلك عجزوا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما ذكر هاهنا أعظم الآيات التي أعطيها عليه السلام وهو القرآن، وإلا فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر كما هو مودع في كتبه، ومقرر في مواضعه].
فمعجزات الرسول كثيرة، لكن القرآن هو المعجزة الخالدة الباقية إلى يوم القيامة، وإلا فقد أعطاه معجزات كثيرة منها: تكثير الطعام، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكلم الحجر، وحنين الجذع إلى غير ذلك من المعجزات الكثيرة، لكن هذا القرآن هو أعظمها، وهو الباقي وهو المعجزة الخالدة إلى يوم القيامة.(90/6)
تفسير قوله تعالى: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا)
قال الله تعالى: [ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى * قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} [طه:134 - 135].
قال المؤلف رحمه الله: [أي: لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم، وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم لكانوا قالوا: رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه، كما قال: {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، يبين تعالى أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون، {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:97]، كما قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155] إلى قوله: {بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام:157]، وقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ} [فاطر:42]، وقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام:109] الآيتين، ثم قال تعالى: {قُلْ} [طه:135] أي: يا محمد! لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده، {كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} [طه:135] أي: منا ومنكم، {فَتَرَبَّصُوا} [طه:135] أي: فانتظروا].
أي: أنا منتظر ما وعدني الله به من إظهار الدين، وسوف يأتيكم ما وعدتم في الدنيا أو في الآخرة، فكل منا منتظر، ونزلت هذه الآية قبل أن يؤمر عليه الصلاة والسلام بالجهاد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} [طه:135] أي: الطريق المستقيم، {وَمَنِ اهْتَدَى} [طه:135] إلى الحق وسبيل الرشاد، وهذا كقوله تعالى: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:42]، وقال: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} [القمر:26]، آخر تفسير سورة طه.
ولله الحمد والمنة، ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة الأنبياء، ولله الحمد].(90/7)
تفسير سورة الأنبياء [1 - 15]
من العجب أن يقترب موعد الحساب والناس في غفلة، لأن العاقل إذا علم بموعد الحساب استعد وأعد له العدة، ولقد ضرب المشركون أعظم الصور في غفلتهم عما هم قادمون عليه، فكذبوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه الحق، والجاهلون منهم اتهموه بالشعر والسحر والكهانة وأسروا النجوى فيما بينهم وتعنتوا في طلب الآيات.(91/1)
سورة الأنبياء من أول ما نزل من السور
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [سورة الأنبياء، وهي مكية، قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال: بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، هن من العتاق الأول، وهن من تلادي].
قول المؤلف (عبد الله) هو: عبد الله بن مسعود؛ لأن عبد الرحمن بن يزيد من تلاميذ عبد الله بن مسعود.
وقوله: وهن من تلادي].
يعني: التي حفظتها قديماً، فالتلاد: هو القديم، ومنه المال التليد، والمال الطريف، فالمال التليد: المال القديم، والطريف: المال الجديد.
فيقول عبد الله بن مسعود: سورة بني إسرائيل، والكهف، والأنبياء حفظتها قديماً في أول الهجرة، وقوله: (هن من تلادي) أي: حفظتها قديماً، فقد كان رضي الله عنه من حفاظ القرآن، حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليقرأه على ابن أم عبد)، وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وقوله: (من العتاق الأول) يعني: من أوائل ما نزل.(91/2)
تفسير قول الله تعالى: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون)
قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم.
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:1 - 6].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا تنبيه من الله عز وجل على اقتراب الساعة ودنوها، وأن الناس في غفلة عنها أي: لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها.
وقال النسائي: حدثنا أحمد بن نصر حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ({فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] قال: في الدنيا) وقال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1].
وقال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1 - 2]، وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن هانئ أبي نواس الشاعر أنه قال: أشعر الناس الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث يقول: الناس في غفلاتهم ورحى المنية تطحن].
أبو العتاهية في أشعاره حكمة، وهو ليس جاهلياً.
وهذه الآية فيها تنبيه من الله سبحانه وتعالى لعباده أن ينتبهوا وأن يستعدوا للحساب بالعمل الصالح، فقوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1]، يعني: قرب {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، يعني: أكثرهم، فهذا أكثر أحوال الناس، فهم في غفلة معرضون عما خلقوا له؛ لانشغالهم بشهواتهم ودنياهم والحساب قريب، وما بين الإنسان وبين هذا إلا أن يقال: فلان مات.
فالواجب على كل إنسان أن يستعد للقاء الله تعالى بالعمل الصالح وإخلاص العبادة، وأداء الواجبات، وترك المحرمات، والاستقامة على دين الله، والوقوف عند حدود الله، فهذا تنبيه من الله تعالى لعباده وحث لهم على الاستعداد والانتباه وعدم الغفلة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقيل له: من أين أخذت هذا؟ قال: من قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1].
وروى في ترجمة عامر بن ربيعة من طريق موسى بن عبيدة الآمدي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال: (إني استقطعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وادياً في العرب، وقد أردت أن اقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]).
ثم أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله، والخطاب مع قريش ومن شابههم من الكفار فقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2] أي: جديد إنزاله {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، كما قال ابن عباس: ما لكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرءونه محضاً لم يشب، ورواه البخاري بنحوه].
قوله: (وروى) كأن الضمير يعود إلى ابن عساكر.
قوله تعالى: (محدث) يعني: جديداً، وليس فيه حجة لمن يقول إن القرآن مخلوق؛ لأن حدث الله ليس كحدث المخلوق؛ ولأن كلام الله لا يشابه كلام المخلوقين، وهو محدث يعني: جديد تكلم الله به وأنزله على نبيه.
وقد رد الإمام أحمد رحمه الله على الزنادقة في كتابه الرد على الزنادقة، وبين لهم أنه ليس لهم حجة ولا متعلق بهذه الآية قال: إن حدث الله لا يشبه حدث المخلوق، والجهمية والمعتزلة يقولون محدث، وهذا دليل على أن القرآن مخلوق محدث.(91/3)
تفسير قوله تعالى: (وأسروا النجوى الذين ظلموا)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:3] أي: قائلين فيما بينهم خفية {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء:3]، يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبعدون كونه نبياً؛ لأنه بشر مثلهم فكيف اختص بالوحي دونهم؛ ولهذا قال: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:3]، أي: أفتتبعونه فتكونون كمن أتى بالسحر وهو يعلم أنه سحر، فقال تعالى مجيباً لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأنبياء:4]، أي: الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية، وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا الذي يعلم السر في السموات والأرض.
وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء:4]، أي: السميع لأقوالكم العليم بأحوالكم، وفي هذا تهديد لهم ووعيد].
في هذه الآيات إثبات هذين الأسمين لله عز وجل فمن أسمائه السميع والعليم، وفيه إثبات صفة السمع والعلم لله عز وجل؛ لأن أسماء الله مشتقة وليست جامدة، فكل اسم مشتمل على صفة، فقوله: (هو السميع) فيه إثبات السمع، ويدعى الله بأسمائه فيقال: يا سميع يا عليم، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180].
ففي هذه الآية إثبات صفة السمع والعلم، فهو يسمع أقوال عباده ويعلم أحوالهم ونياتهم، قال سبحانه وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1].
قالت عائشة رضي الله عنها: (سبحان من وسع سمعه الأبصار لقد جاءت المجادلة -وهي خولة بنت حكيم - تجادل النبي صلى الله عليه وسلم في زوجها أوس بن الصامت وقد ظاهر منها وقال لها: أنت كظهر أمي، فجاءت تشتكي وتجادل النبي صلى الله عليه وسلم وتشتكي إلى الله، وتقول: يا رسول الله! ماذا أعمل؟ أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة فلما نثر بطني وأكل مالي جعلني كظهر أمه، فقال لها النبي: ما أراك إلا حرمت عليه، قالت: أشكو إلى الله صبية إن ضممتهم إلي جاعوا أو إليه ضاعوا، فجعلت تجادل النبي صلى الله عليه وسلم وقالت عائشة: وكان يخفى علي بعض كلامها، والله سمع من فوق سبع سماوات فأنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1])، ثم جاء الفرج وجاءت الفتوى من الله تعالى فقال: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} [النساء:127]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2]، فبين الله حكم الظهار في هذه الآية.
والسمع والبصر من صفاته الذاتية قال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، والفعلية مثل الكلام، فإن الكلام يتعلق بالمشيئة، والاختيار والغضب والرضا والاستواء هذه أيضاً من الصفات الفعلية، فهي متعلقة بالمشيئة والاختيار.(91/4)
تفسير قوله تعالى: (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ} [الأنبياء:5]، هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون به القرآن وحيرتهم فيه وضلالهم عنه، فتارة يجعلونه سحراً، وتارة يجعلونه شعراً، وتارة يجعلونه أضغاث أحلام، وتارة يجعلونه مفترى، كما قال: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء:48]].
وهكذا هم متناقضون، فالباطل لا يستقر على شيء، فأقوالهم متضاربة متناقضة، وهذا يدل على فسادها وبطلانها فمرة يقولون ساحر، ومرة يقولون شاعر، ومرة يقولون كاهن، ومرة يقولون مجنون، ويريدون بذلك رد الحق، لكن يختلفون بأي شيء يردونه، فكلما أتوا بقول تبين لهم بطلانه، ورأوا أن الناس لا يصدقونه فينتقلون للقول الثاني وهكذا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} [الأنبياء:5]، يعنون ناقة صالح وآيات موسى وعيسى، وقد قال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء:59]، ولهذا قال تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:6] أي: ما آتينا قرية من القرى الذين بعث فيهم الرسل آية على يدي نبيها فآمنوا بها، بل كذبوا فأهلكناهم بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟ كلا بل {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96 - 97]].
من كتب الله عليه الشقاء فلا حيلة فيه كما قال تعالى: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:97]، وهذا من رحمة الله تعالى بهم أنه لم يعطهم الآيات فلم يجيبوا ولو أعطوا آية ثم لم يؤمنوا بها لعوجلوا بالعقوبة؛ لأن من عادة الله أن من اقترح آية وأعطاه الله الآية التي يقترحها ثم لم يؤمن أن يعجل له بالعقوبة كما حصل لقوم صالح لما اقترحوا الناقة فأعطاهم الله إياها، فلما لم يؤمنوا أهلكهم الله، وهكذا فكل من أعطي آية فلم يؤمن بها عذب وأهلك، ومن هؤلاء أصحاب المائدة على القول بأنها نزلت كما قال تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115].
وهذا قاله سبحانه لما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الآيات فقالوا: يا محمد! اسأل ربك أن يفتح لنا هذه الجبال التي بمكة فقد ضيقت علينا؛ حتى نزرع ونبذر مثلما يبذر أهل الأمصار، أو اسأل ربك أن يجعلها لنا ذهباً.
وهكذا آيات اقتراحية كما أخبر الله في سورة الإسراء: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:90 - 93]، فكلها آيات اقتراحية، ولكن من رحمة الله أنه ما أجابهم؛ لأنهم لو أجيبوا ثم لم يؤمنوا لعوجلوا بالعقوبة.
قال رحمه الله تعالى: [هذا كله وقد شاهدوا من الآيات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أظهر وأجلى وأبهر وأقطع وأقهر مما شوهد مع غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قال ابن أبي حاتم رحمه الله: ذكر عن زيد بن الحباب: حدثنا ابن لهيعة حدثنا الحارث بن زيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي حدثني من شهد عبادة بن الصامت يقول: (كنا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرئ بعضنا بعضاً القرآن فجاء عبد الله بن أبي ابن سلول ومعه نمرقة وزربية، فوضع واتكأ، وكان صبيحاً فصيحاً جدلاً، فقال: يا أبا بكر، قل لمحمد يأتينا بآية كما جاء الأولون، جاء موسى بالألواح وجاء داود بالزبور وجاء صالح بالناقة وجاء عيسى بالإنجيل وبالمائدة، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: قوموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لا يقام لي إنما يقام لله عز وجل، فقلنا: يا رسول الله، إنا لقينا من هذا المنافق فقال: إن جبريل قال لي: أخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك وفضيلته التي فضلت بها، فبشرني أني أبعث إلى الأحمر والأسود، وأمرني أن أنذر الجن، وآتاني كتابه وأنا أمي، وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر، وذكر اسمي في الأذان، وأيدني بالملائكة، وآتاني النصر، وجعل الرعب أمامي، وآتاني الكوثر، وجعل حوضي من أعظم الحياض يوم القيامة، ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعو رؤوسهم، وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس، وأدخل في شفاعتي سبعين ألفاً من أمتي الجنة بغير حساب، وآتاني السلطان والملك، وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم، فليس فوقي أحد إلا الملائكة الذين يحملون العرش، وأحل لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا)، وهذا الحديث غريب جداً].
هذا الحديث غريب وضعيف ففيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وفيه أيضاً انقطاع، وقوله: (حدثني من شهد عبادة) يدل على أن في آخره انقطاع، لكن هذه الأشياء التي جاءت في الحديث بعضها له شواهد من الآيات والأحاديث الصحيحة، وقوله: (إنه لا يقام لي وإنما يقام لله)، جاء في اللفظ الآخر: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل).(91/5)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم)
قال الله تعالى: قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء:7 - 9].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى راداً على من أنكر بعثة الرسل من البشر: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7]، أي: جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالاً من البشر لم يكن فيهم أحد من الملائكة كما قال في الآية الأخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109].
وقال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9]، وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم أنهم أنكروا ذلك فقالوا: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن:6].
ولهذا قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، أي: اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف: هل كان الرسل الذين أتوهم بشراً أو ملائكة؟ وإنما كانوا بشراً، وذلك من تمام نعمة الله على خلقه إذ بعث فيهم رسلاً منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ عنهم].
إن الله تعالى أرسل إلى الناس رسلاً من جنسهم؛ حتى يأخذون عنهم، ويحفظون كلامهم، ولو كانوا من جنس آخر لما فهموا عنهم، ولما استفادوا منهم، ولهذا لما اقترح المشركون أن يكون الرسل من الملائكة قيل لهم: إن هذا لا يكون، وإنه لو كان الرسول ملكاً لكان بشراً، وإن البشر لا يستطيعون أن يأخذوا من الملك على صورته التي خلق عليها ولا أن يقربوا منه.
ولهذا قال الله سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:8 - 9]، وفي هذه الآية دليل على أن النبوة خاصة بالرجال قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} [الأنبياء:7].
وأنه ليس في النساء نبية، وفيه رد على ابن حزم القائل بأن أم عيسى مريماً نبية؛ لأن الملائكة كلمتها وكذلك أيضاً سارة امرأة إبراهيم قال: إنها نبية؛ لأن الملائكة كلمتها، وأم موسى قال: إنها نبية، وهذا باطل، والصواب أنه ليس في النساء نبية، فالنبوة مختصة بالرجال كما في هذه الآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109].
فالله تعالى ذكر منزلة مريم التي هي من أفضل النساء في مقام الامتنان، بأنها صديقة قال تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75]، فبلغت درجة الصديقية ولم تصل إلى درجة النبوة.(91/6)
تفسير قوله تعالى: (وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء:8]، أي: بل قد كانوا أجساداً يأكلون الطعام كما قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20]، أي: قد كانوا بشراً من البشر يأكلون ويشربون مثل الناس، ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة، وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئاً كما توهمه المشركون في قولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان:7 - 8]، الآية.
وقوله: {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء:8]، أي: في الدنيا بل كانوا يعيشون ثم يموتون {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34]، وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه، وقوله: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} [الأنبياء:9]، أي: الذي وعدهم ربهم ليهلكن الظالمين صدقهم الله وعده وفعل ذلك.
ولهذا قال: {فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ} [الأنبياء:9]، أي: أتباعهم من المؤمنين {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء:9]، أي: المكذبين بما جاءت به الرسل].(91/7)
تفسير قوله تعالى: (لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم)
يقول الله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:10 - 15].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى منبهاً على شرف القرآن ومحرضاً لهم على معرفة قدره: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: شرفكم، وقال مجاهد: حديثكم، وقال الحسن: دينكم، {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، أي: هذه النعمة وتتلقونها بالقبول].
يا لها من نعمة وهي هذا القرآن الكريم فقال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]، فهو شرف، وقوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10] أي: هذه النعمة فتشكرونها، وتقبلون على القرآن وتعملون به وتصدقون أخباره وتنفذون أحكامه، فتعملون بمحكمه وتؤمنون بمتشابهه، فالواجب على الأمة أن تعتني بهذا القرآن وتعتز به، وأن تفتخر به فهو فخرها، وسؤددها، وشرفها، وعزها، إذا عملت به، وإن ضيعته هلكت وضاعت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، أي: هذه النعمة وتتلقونها بالقبول كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44].(91/8)
تفسير قوله تعالى: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة)
وقوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء:11]، هذه صيغة تكثير كما قال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء:17]، وقال تعالى:: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الحج:45]].
قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا} [الأنبياء:11]، يعني: كثير من القرى قصمناها وأهلكناها بسبب ظلمها.
و (كم) للتكثير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء:11]، أي: أمة أخرى بعدهم].(91/9)
تفسير قوله تعالى: (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون)
قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} [الأنبياء:12] قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما وعدهم نبيهم {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء:12]، أي: يفرون هاربين {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ} [الأنبياء:13]، هذا تهكم بهم قدراً أي: قيل لهم قدراً لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور والمعيشة والمساكن الطيبة.
قال قتادة: استهزاء بهم.
{لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء:13]، أي: عما كنتم فيه من أداء شكر النعم.
{قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:14]، اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك، {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:15]، أي: ما زالت تلك المقالة وهي الاعتراف بالظلم هجيراهم حتى حصدناهم حصداً وخمدت حركاتهم وأصواتهم خموداً].
لا يفيد الاعتراف بعد نزول العذاب كما قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:86 - 85] فإذا نزل العذاب لا يفيد الإيمان، ففرعون آمن لما نزل به العذاب، وهو الذي كان يقول للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] فلما نزل به العذاب قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، لكن هذا لا يفيد فإذا نزل العذاب فقد انتهى الأمر.
وقوله: (هجيراهم) يعني: يلهجون بها.
وهذا فيه تحذير من الاستمرار على المعاصي؛ لأن الواجب على الإنسان ألا يستمر على المعاصي، بل يجب عليه أن ينتبه من غفلته ويتوب إلى الله عز وجل قبل أن تأتيه العقوبة؛ لأنها إذا نزلت فلا يفيد حينئذ الاعتراف.(91/10)
تفسير سورة الأنبياء [16 - 33]
لم يخلق الله السماوات والأرض عبثاً، بل إن الله تعالى خلقهما لحكمة بالغة، وغاية عظيمة، وهو سبحانه يقذف بالحق على الباطل فيدمغه، والويل والثبور لمن وصف الله بالباطل، وغفل عن الحكمة من خلق الخلق.(92/1)
تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين)
قال الله تعالى: [{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:16 - 20].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق، أي: بالعدل والقسط {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]، وأنه لم يخلق ذلك عبثاً ولا لعباً، كما قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27].
وقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17]، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء:17] يعني: من عندنا، يقول: وما خلقنا جنة ولا ناراً، ولا موتاً ولا بعثاً ولا حساباً، وقال الحسن وقتادة وغيرهما: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} [الأنبياء:17]: اللهو المرأة بلسان أهل اليمن، وقال إبراهيم النخعي: {لاتَّخَذْنَاهُ} [الأنبياء:17] من الحور العين.
وقال عكرمة والسدي: والمراد باللهو هاهنا: الولد.
وهذا والذي قبله متلازمان، وهو كقوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4]، فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقاً ولاسيما عما يقولون من الإفك والباطل من اتخاذ عيسى، أو العزير، أو الملائكة، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً].
هذا شرط تقديري لا يكون؛ لأن (أو) امتناع لامتناع، فقال تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17]، ولو حرف امتناع لامتناع، وكما في الآية الأخرى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر:4]، لكنه لا يكون؛ لأن هذا مستحيل، فهذا شرط تقديري يبين به مقادير الأشياء مثل قوله تعالى لنبيه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، وهو معصوم من الشرك عليه الصلاة والسلام، لكن هذا لبيان قدر الأعمال، وأن الشرك أمره عظيم يحبط الأعمال مهما كان.(92/2)
إثبات علو الله تعالى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17] قال قتادة والسدي وإبراهيم النخعي ومغيرة بن مقسم: أي: ما كنا فاعلين، وقال مجاهد: كل شيء في القرآن (إن) فهو إنكار.
وقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء:18] أي: نبين الحق فيدحض الباطل؛ ولهذا قال: {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] أي: ذاهب مضمحل، {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} [الأنبياء:18] أيها القائلون لله ولد {مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] أي: تقولون وتفترون.
ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ودأبهم في طاعته ليلاً ونهاراً، فقال: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} [الأنبياء:19]، يعني: الملائكة {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء:19] أي: لا يستنكفون عنها، كما قال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172].
وقوله: {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19] أي: لا يتعبون ولا يملون {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، فهم دائبون في العمل ليلاً ونهاراً، مطيعون قصداً وعملاً، قادرون عليه كما قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]].
وهذه الآية من أدلة صفة العلو لله عز وجل، قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19]، فإن الله سبحانه وتعالى أخبر أن له من في السموات ومن في الأرض كلها، ثم خص الملائكة فقال: ((وَمَنْ عِنْدَهُ)).
فدل على ثبوت العلو، ولو كانت الملائكة وغيرها سواء لصارت الملائكة وغيرها كلها في العلية سواء، فلما أخبر أنه له من في السموات والأرض وخص الملائكة بالعندية دل على أنهم عند الله في العلو، قال تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19]، وهم الملائكة.(92/3)
لزوم الملائكة للطاعة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي قال: أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء قال: حدثنا سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم: هل تسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم)، غريب ولم يخرجوه].
وفي اللفظ الآخر: (أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك راكع، أو ساجد، أو قائم).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه ابن أبي حاتم من طريق يزيد بن أبي زريع عن سعيد عن قتادة مرسلاً.
وقال أبو إسحاق عن حسان بن مخارق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام، فقلت له: أرأيت قول الله تعالى للملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل؟ فقال: من هذا الغلام؟ فقالوا: من بني عبد المطلب قال: فقبل رأسي، ثم قال لي: يا بني! إنه جعل لهم التسبيح، كما جعل لكم النفس، أليس تتكلم وأنت تتنفس، وتمشي وأنت تتنفس؟].
وجاء في أهل الجنة أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس.
والسائل: من الغلام؟ هو كعب.(92/4)
تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون)
قال الله تعالى: [قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:21 - 23].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة فقال: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} [الأنبياء:21] أي: أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض؟ أي: لا يقدرون على شيء من ذلك فكيف جعلوها لله نداً وعبدوها معه؟ ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السموات والأرض فقال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء:22] أي: في السماء والأرض ((لَفَسَدَتَا)).
كقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]، وقال هاهنا: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22] أي: عما يقولون إن له ولداً أو شريكاً سبحانه وتعالى وتقدس وتنزه عن الذي يفترون ويأفكون علواً كبيراً.
وقوله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] أي: هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد؛ لعظمته وجلاله وكبريائه وعلوه وحكمته وعدله ولطفه، {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] أي: وهو سائل خلقه عما يعملون، كقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]، وهذا كقوله تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88].(92/5)
تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا)
قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:24 - 25].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ((اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ)) يا محمد! ((هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ)) أي: دليلكم على ما تقولون ((هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ)) يعني: القرآن، ((وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي)) يعني: الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولون وتزعمون، فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ناطق بأنه لا إله إلا الله، ولكن أنتم أيها المشركون لا تعلمون الحق، فأنتم معرضون عنه، ولهذا قال: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون].
قراءة حفص عن عاصم: (نوحي)، وهناك قراءة سبعية وهي: (وما أسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه).
وهذه الآيات فيها تقرير توحيد الله عز وجل، وأن الله تعالى هو المستحق للعبادة دونما سواه، وأنه لا صلاح ولا قيام للسموات والأرض إلا بأن يكون الإله واحداً، وأن يكون هذا الإله هو الله عز وجل، وأن فساد السموات والأرض لازم بوجود آلهة غير الله، قال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22].
فلو: حرف امتناع لامتناع، وهذا شرط تقديري لا يمكن وقوعه، فلا يمكن أن يكون فيهما إله غير الله، ولكن هذا شرط تقديري لبيان مقادير الأشياء، كقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17]، وقوله: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر:4].
وقوله لنبيه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الشرك، لكن الآية لبيان مقدار الشرك وأن أمره عظيم، وأنه يحبط الأعمال.(92/6)
إثبات دليل التمانع من القرآن
يقول الله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17]، ويقول: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر:4]، والتقدير: لا يكون، ويقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الشرك، لكن هذا بيان مقدار الشرك وأن أمره عظيم، وأنه يحبط الأعمال مهما كانت، ولو صدر من أي إنسان مهما كان، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الشرك.
قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22] أي: لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته؛ لأنه يضع الأشياء مواضعها، لا كما يقوله الجبرية: أنه لا يسأل عما يفعل لكونه يفعل بالقدرة والمشيئة، ولا حكمة له تعالى الله عن ذلك، بل هو حكيم لقوله سبحانه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] فلكونه حكيماً يضع الأشياء مواضعها، ولكمال حكمته لا يسأل عما يفعل.
ومشاهد القيامة متعددة، فقد جاء في الآيات أنهم في موقف لا يسألون، وفي موقف ينطقون ويكذبون، ويقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، فمشاهد القيامة متعددة.
قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91]، فهذا يسمونه دليل التمانع، وقد قال به بعض المتكلمين، وقالوا في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] قالوا: إن القرآن فيه دليل التمانع، يقولون: فلو كان للعالم ربان فعند اختلافهما: كأن يريد أحدهما إماتة شيء، والآخر يريد إحياءه، أو يريد أحدهما تحريك شيء، والآخر يريد تسكينه، فإما أن يحصل مرادهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما، أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر، فأما كونه يحصل مرادهما جميعاً فهذا مستحيل؛ لأنه يلزم منه اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء المتحرك ساكناً، والحي ميتاً، وهذا لا يمكن، وكونه لا يحصل مراد واحد منهما أيضاً هذا باطل؛ لأنه يلزم عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلهاً، فبقي الأمر الثاني وهو: أن الذي يحصل مراده هو الإله، والذي لا يحصل مراده هو العاجز المغلوب والمقهور.
فيقولون: إن هذا دليل التمانع وأن الآية هذه فيها دليل التمانع، وهي قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91]، فالقرآن أتى بأحسن من أدلتهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، كما قال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فكل نبي بعثه الله يدعوه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والفطرة شاهدة بذلك أيضاً، والمشركون لا برهان لهم، وحجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.(92/7)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه)
قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:26 - 29].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى رداً على من زعم أن له -تعالى وتقدس- ولداً من الملائكة، كمن قال ذلك من العرب: إن الملائكة بنات الله، فقال: {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] أي: الملائكة عباد الله مكرمون عنده في منازل عالية، ومقامات سامية، وهم له في غاية الطاعة قولاً وفعلاً {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27] أي: لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه فيما أمر به، بل يبادرون إلى فعله، وهو تعالى علمه محيط بهم لا يخفى عليه منهم خافية {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [الأنبياء:28].
وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقوله: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، في آيات كثيرة في معنى ذلك، {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ} [الأنبياء:28] أي: من خوفه ورهبته {مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء:28 - 29] أي: من ادعى منهم أنه إله من دون الله أي: مع الله {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29] أي: كل من قال ذلك، وهذا شرط والشرط لا يلزم وقوعه، كقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]].
وهذا فيه بيان عظمة الله عز وجل وكماله وكمال كبريائه، وأنه سبحانه وتعالى من عظمته لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، بخلاف المخلوقين فإنه يشفع عندهم الشفيع من دون إذنهم، فيأتي الشافع للسلطان أو للأمير أو للغني ويشفع من دون أن يأذن له، وأما الله عز وجل فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؛ لكمال عظمته، ونبينا صلى الله عليه وسلم الذي هو أوجه الناس عند الله لا يبدأ بالشفاعة أولاً بل يأتي ويسجد تحت العرش، فيحمد الله بمحامد تفتح عليه في ذلك الموقف، ثم يأتيه الإذن من الرب، فيقول الله تعالى له: (يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع)، فيأتي الإذن، وكذلك إذا شفع للعصاة الموحدين يحد الله لهم حداً، فالشفاعة لا بد لها من شرطين: أولهما: إذن الله للشافع أن يشفع، والثاني: رضاه عن المشفوع له، وبين سبحانه وتعالى ورد على الكفار الذين قالوا: إن لله ولداً فقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} [البقرة:116] أي: تنزه، {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] أي: الملائكة عباد {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27]، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، فمع كونهم عباد مكرمون يشفعون إلا بإذنه وبرضاه عن المشفوع له {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28].
{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29] أي: من ادعى أنه يستحق شيئاً من العبودية، أو دعا إلى عبادة نفسه، أو رضي بأن يعبد من دون الله، فهذا كافر جزاؤه جهنم أياً كان، ومثل هذا لا يقوله الملائكة ولا غيرهم، وإنما هو كفر مقدم {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} [الأنبياء:29]، وهذا حكم مقدر لا يشترط وقوعه وإنما هو لبيان عظم هذا الأمر.(92/8)
تفسير قوله تعالى: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً)
قال الله تعالى: [{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:30 - 33].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى منبها على قدرته التامة، وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء، وقهره لجميع المخلوقات، فقال: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:30] أي: الجاحدون لإلهيته، العابدون معه غيره، ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق، المستبد بالتدبير، فكيف يليق أن يعبد غيره أو يشرك به ما سواه؟ ألم يروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً، أي: كان الجميع متصلاً بعضه ببعض، متلاصقاً متراكماً بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه فجعل السموات سبعاً والأرض سبعاً، وفصل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض، ولهذا قال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30] أي: وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئاً فشيئاً عياناً، وذلك دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء.
ففي كل شيء له أية تدل على أنه واحد(92/9)
معنى رتق السموات والأرض
قال سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة قال: سئل ابن عباس: الليل كان قبل أو النهار؟ فقال: أرأيتم السموات والأرض حين كانتا رتقاً هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثنا حاتم عن حمزة بن أبي محمد عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلاً أتاه يسأله عن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما، قال: اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ثم تعال فأخبرني بما قال لك، قال: فذهب إلى ابن عباس فسأله، فقال ابن عباس: كانت السموات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، فلما خلق للأرض أهلاً فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره، فقال ابن عمر: الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علماً، صدق هكذا كانت.
قال ابن عمر: قد كنت أقول ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن فالآن علمت أنه قد أوتى في القرآن علماً.
وقال عطية العوفي: كانت هذه رتقاً لا تمطر فأمطرت، وكانت هذه رتقاً لا تنبت فأنبتت.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: سألت أبا صالح الحنفي عن قوله: {أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، قال: كانت السماء واحدة ففتق منها سبع سماوات، وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين وهكذا قال مجاهد، وزاد: ولم تكن السماء والأرض متماستين.
وقال سعيد بن جبير: بل كانت السماء والأرض ملتزقتين، فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه.
وقال الحسن وقتادة: كانتا جميعاً، ففصل بينهما بهذا الهواء].
وبهذا يتبين أن معنى هذه الآية: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30] أنهما كانتا ملتصقتين، ثم فتق هذه من هذه، والقول الثاني لـ ابن عباس: في فتقهما بعد أن كانتا رتقاً: كانت السماء لا تمطر والأرض لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات، وبهذا يتبين بطلان ما يدعي بعض علماء الهيئة الذين يفسرون هذه الآية ويقولون في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]: أن الأرض كانت جزءاً من الشمس، وأنها كانت من فصيلة الشمس، ثم حصل شيء فانفصلت الأرض، ثم بردت فصارت أرضاً، فقالوا هذا معنى قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30].
وعموا عن الآية التي فيها: (أن السموات والأرض) وليس فيها أن الشمس والأرض كانتا رتقاً، ومع ذلك فهم في علومهم وفي النشرات يقولون: إن معنى الآية: أن الأرض جزء من الشمس ثم انفصلت وبردت، فصارت هذه أرض، وهذه شمس، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الآية صريحة في أن السموات والأرض وما فيها كانتا رتقاً، فيستدلون بهذه الآية ويفسرونها بأن الأرض كانت جزءاًً من الشمس فانفصلت، وقالوا هذا معنى قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، وهذا موجود الآن في المؤلفات، وفي العلوم، وفي النشرات، ويقرره بعض علماء العلوم وغيرهم.
إذاً فهم يقولون: إنها جزء من الشمس، لكن هذا يحتاج إلى الدليل، والآية لا تدل على قولهم بأن الأرض جزء من الشمس، ثم انفصلت وبردت، وصارت أرضاً، ويقولون: إن هذا هو معنى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:30] والله تعالى يقول: {أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنبياء:30]، وما قال: الشمس والأرض.
قال ابن جرير: ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله السموات والأرض بالرتق، وكيف كان الرتق؟ وبأي معنى فتق؟ فقال بعضهم: عنى بذلك أن السموات كانتا ملتصقتين ففصل الله بينهما بالهواء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أن السموات كانت مرتتقة طبقة فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة ففتقها فجعلها سبع أرضين.
وقال آخرون: بل عني بذلك أن السموات كانت رتقاً لا تمطر، والأرض كذلك رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض والنبات.
وقال آخرون إنما قيل: {فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، لأن الليل كان قبل النهار، ففتق النهار.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء:30] من المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث، والأرض بالنبات، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] على ذلك، وأنه جل ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه.
وقوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء:30] فيه أقوال: قيل: كانت الأرض ملتصقة بالسماء ففتق هذه من هذه، وقيل: ((كَانَتَا رَتْقًا)) أي: كانت السماء والأرض وحدها ففتق السموات سبع سماوات، والأرض فتقها سبع أرضين، وقيل: ((كَانَتَا رَتْقًا)): كانتا ظلمة ثم فتق النهار من الليل، وقيل: ((كَانَتَا رَتْقًا)) كانت السماء لا تمطر، والأرض لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات.
فهذه أربعة أقوال، واختار القول الأخير لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، وليس صحيحاً ما يقوله بعض علماء الهيئة من أن الأرض قطعة من الشمس، وأنها فتقت وبرزت فصارت أرضاً.
وهذه كلها أقوال للسلف، وكلها تحتمل في الآية، وظاهر النص يقوي القول بأنهما كانتا ملتصقين ثم فتق هذه من هذه، وهو قول قوي، وكذلك قوله فتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات تحتمله الآية.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: أن معنى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء:30] من المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، ورجح هذا ابن جرير بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، قال: هذا دليل على أن المراد ففتقنا هذه بالمطر وهذه بالنبات، أي: كانتا ملتصقتين، ثم فتقهما الله وفصل هذه من هذه.(92/10)
بيان أن الماء أصل كل شيء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] أي: أصل كل الأحياء منه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر حدثنا سعيد بن بشير حدثنا قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أنه قال: (يا نبي الله! إذا رأيتك قرت عيني، وطابت نفسي، فأخبرني عن كل شيء قال: كل شيء خلق من ماء)].
هذا الحديث أخرجه الحاكم وصححه، وفي سنده سعيد بن بشير وهو ضعيف، وأبو الجماهر: قد يكون بضم الجيم أو بفتحها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا همام عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة قال: قلت: (يا رسول الله! إني إذا رأيتك طابت نفسي، وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيء، قال: كل شيء خلق من ماء، قلت: أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة، قال: أفش السلام، وأطعم الطعام، وصل الأحارم، وقم بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام)].
تفرد به أحمد، والحديث له أصل، وإسناده على شرط الصحيحين.
والشاهد فيه تفسيره للآية: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، وهو قوله: (كل شيء خلق من ماء).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه أيضاً عن عبد الصمد وعفان وبهز عن همام، تفرد به أحمد، وهذا إسناد على شرط الصحيحين إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن واسمه سليم، والترمذي يصحح له، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً، والله أعلم].
أبو ميمونة، تابعي وهو رجال السنن.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} [الأنبياء:31] أي: جبالاً أرسى الأرض بها وقررها وثقلها؛ لئلا تميد بالناس، أي: تضطرب وتتحرك، فلا يحصل لهم عليها قرار؛ لأنها غامرة في الماء إلا مقدار الربع فإنه باد للهواء والشمس؛ ليشاهد أهلها السماء وما فيها من الآيات الباهرات، والحكم والدلالات].
ما بدا من الأرض إلا الربع والباقي ماء البحار، أي: ثلاثة أرباع الأرض بحار، والآن في التقريرات الأخيرة يقولون: إنها أقل من الربع، أي: أن اليابس أقل من الربع.
والنار لا شك أنها في الأرض السابعة، وستبرز يوم القيامة وتسجر البحار وتكون جزءاً منها نعوذ بالله، ولا شك أن هذا ليس فيه إشكال، قال تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:36].(92/11)
عظم بعض مخلوقات الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:31] أي: لئلا تميد بهم، وقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء:31]].
هذا قد يستدل به لمن قال: إن الأرض ثابتة، وأنها قارة وليست متحركة، كما قال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل:15]، وقد نقل القرطبي إجماع العلماء على أن الأرض قارة ثابتة، وكذلك نقله ابن القيم، وفيه رد على أهل الهيئة الذين يقولون: إن الأرض متحركة، وأنها تدور، ويقولون: إنها متحركة، وإن كانت متحركة حركة لا تؤثر، لكن هذا خلاف الظاهر، وظاهر النصوص تدل على أن الأرض ثابتة قارة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [{وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء:31] أي: ثغراً في الجبال يسلكون فيها طرقاً من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، كما هو المشاهد في الأرض، يكون الجبل حائلاً بين هذه البلاد، وهذه البلاد فيجعل الله فيه فجوة لغيره، ليسلك الناس فيها من هاهنا إلى هاهنا، ولهذا قال: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31].
وقوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا} [الأنبياء:32] أي: على الأرض، وهي كالقبة عليها، كما قال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَْيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]، وقال: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5]، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6]، والبناء هو: نصب القبة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) أي: خمس دعائم، وهذا لا يكون إلا في الخيام على ما تعهده العرب {مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32] أي: عالياً محروساً أن ينال، وقال مجاهد: مرفوعاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي حدثني أبي عن أبيه عن أشعث يعني ابن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: (يا رسول الله! ما هذه السماء؟ قال: هذا موج مكفوف عنكم)، إسناده غريب.
وقوله: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32] كقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] أي: لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم، والارتفاع الباهر، وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها، وفي النهار من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكماله في يوم وليلة، فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الله الذي قدرها وسخرها وسيرها.
وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتابه التفكر والاعتبار: أن بعض عباد بني إسرائيل تعبد ثلاثين سنة وكان الرجل منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة، فلم ير ذلك الرجل شيئاً مما كان يُرى لغيره].
أي: ما حصل له شيء مما يحصل لغيره، وكان الواحد منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة، وهذا تعبد ثلاثين سنة ولم تظله غمامة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فشكا ذلك إلى أمه، فقالت له: يا بني! فلعلك أذنبت في مدة عبادتك هذه؟ فقال: لا والله ما أعلم، قالت: فلعلك هممت؟ قال: لا والله ولا هممت، قالت: فلعلك رفعت بصرك إلى السماء ثم رددته بغير فكر؟ فقال: نعم، كثيراً، قالت: فمن هاهنا أتيت.
ثم قال منبهاً على بعض آياته: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [الأنبياء:33] أي: هذا في ظلامه وسكونه، وهذا بضيائه وأنسه، يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى، وعكسه الآخر {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الأنعام:96]، هذه لها نور يخصها وفلك بذاته، وزمان على حدة، وحركة وسير خاص، وهذا بنور آخر، وفلك آخر، وسير آخر وتقدير آخر {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]].
كل واحد منهما له سير، وكل واحد منهما له فلك، كما قال تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33]، والشمس دورتها في اليوم، والقمر دورته شهرية، فكل شهر يدور يخرج من المغرب ثم ينتهي إلى المشرق.
وإذا كانت الدورة الكاملة يبدأ من المغرب هلالاً فيتنقل، ولا يزال يكبر حتى يكون في منتصف الشهر، فيكون تمامه، ثم لا يزال ينقص شيئاً فشيئاً حتى يضعف، وهذا في نوره، وفي الدورة الشهرية، ونوره في السموات، كما أن نوره في الأرض.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس رضي الله عنهما: يدورون كما يدور المغزل في الفلكة، وكذا قال مجاهد: فلا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا الفلكة إلا بالمغزل، كذلك النجوم والشمس والقمر لا يدورون إلا به، ولا يدور إلا بهن، كما قال تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام:96]].(92/12)
تفسير سورة الأنبياء [34 - 47]
لم يجعل الله تعالى الخلد لأحد من مخلوقاته، بل كتب الفناء على كل شيء ويبقى وجهه سبحانه.
أما أهل الباطل من المشركين الذين كانوا يستهزئون بالرسول صلى الله عليه وسلم ويحتقرونه، فقد سلى الله نبيه بأنه قد استهزئ بالأنبياء قبله فصبروا، والعاقبة للصابرين.(93/1)
تفسير قوله تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد)(93/2)
ترجيح موت الخضر
قال الله تعالى: [{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:34 - 35] يقول تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ)) أي: يا محمد، ((الْخُلْدَ))، أي: في الدنيا بل {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]].
وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام قد مات وليس بحي إلى الآن؛ لأنه بشر سواء كان ولياً أو نبياً أو رسولاً.
وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34]، وقوله: {أَفَإِينْ مِتَّ} [الأنبياء:34] أي: يا محمد، {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] أي: يؤملون أن يعيشوا بعدك، فلا يكون هذا بل كل إلى فناء، ولهذا قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]].
الصواب أن الخضر قد مات، ومن العلماء من قال أن الخضر موجود، وقالوا: إنه من المعمرين، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لو كان باقياً لجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، وهو إما عبد صالح أو نبي، ولو كان موجوداً لأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لو قدر أنه موجود لشمله الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، وهو: (أرأيتم ليلتكم هذه، فإنه بعد مائة سنة لا يبقى على ظهر الأرض أحد).
هذا هو الصواب خلافاً لمن قال: إنه من المعمرين، وأنه باقٍ.
[وقد روي عن الشافعي رحمه الله أنه أنشد واستشهد بهذين البيتين: تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد].
أي: لستُ الوحيد، فقد سبقني غيري.
قال المصنف رحمه الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] أي: نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى؛ لننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَنَبْلُوكُمْ} [الأنبياء:35] يقول: نبتليكم (بالشر والخير فتنة) بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال وقوله: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] أي: فنجازيكم بأعمالكم.
{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ * خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:36 - 37]].
وقوله: أن السماء قبة للأرض لا يعني أن الأرض مسطحة، بل يعني: أن السماء مستديرة والأرض كذلك.(93/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزواً)
قال الله تعالى: [قال الله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ * خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:36 - 37].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:36]، يعني: كفار قريش كـ أبي جهل وأشباهه {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الأنبياء:36] أي: يستهزئون بك وينتقصونك ويقولون: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36] يعنون: أهذا الذي يسب آلهتكم، ويسفه أحلامكم؟! قال تعالى: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء:36] أي: وهم كافرون بالله، ومع هذا يستهزئون برسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال في الآية الأخرى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:41 - 42]].(93/4)
بيان أن الإنسان طبع على العجلة، والحكمة من ذكرها هنا
قوله: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] كما قال في الآية الأخرى: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11] أي: في الأمور، قال مجاهد: خلق الله آدم بعد كل شيء من آخر النهار يوم خلق الخلائق، فلما أحيا الروح عينه ولسانه ورأسه لم يبلغ أسفله قال: يا رب! استعجل بخلقي قبل غروب الشمس].
من عجلته لم يصبر، قال تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]، فلما وصلت الروح إلى رأسه وعينيه قال: رب عجِّل بالخلق قبل غروب الشمس.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا محمد بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي، وقبض أصابعه يقللها فسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه)].
قوله: يقللها أي: ساعة قليلة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو سلمة: فقال عبد الله بن سلام: قد عرفت تلك الساعة، وهي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة، وهي التي خلق الله فيها آدم، قال الله تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37] والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلوات الله وسلامه عليه وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك، فقال الله تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]، لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يؤجل ثم يعجل، وينظر ثم لا يؤخر].
قوله: يؤجل ثم يعجل، أي: يؤخر ثم يعاجل بالعقوبة، ويملي للظالم ثم يعاجله ويأخذه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} [الأنبياء:37] أي: نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني {فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37]].(93/5)
تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)
قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [الأنبياء:38 - 40].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضاً بوقوع العذاب بهم؛ تكذيباً وجحوداً وكفراً وعناداً واستبعاداً، فقال: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:48].
قال الله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء:39] أي: لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا به، ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16]، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41].
وقال في هذه الآية: {حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء:39]، وقال: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50]، فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الأنبياء:39] أي: لا ناصر لهم كما قال: {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [الرعد:34].
وقوله: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً} [الأنبياء:40] أي: تأتيهم النار بغتة، أي: فجأة {فَتَبْهَتُهُمْ} [الأنبياء:40] أي: تذعرهم، فيستسلمون لها حائرين لا يدرون ما يصنعون].
وفي نسخة أخرى: تفزعهم، وتذعرهم وتفزعهم متقاربة، فهذا من الذعر وهذا من الفزع، وفي نسخة أخرى فتدعوهم، أي: تدعوهم إليها، نسأل الله العافية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [{فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} [الأنبياء:40] أي: ليس لهم حيلة في ذلك.
{وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [الأنبياء:40]، أي: ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة.(93/6)
تفسير قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك)
قال الله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:41 - 43].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مسلياً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنبياء:41] يعني: من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34].
ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه لهم بالليل والنهار، وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام فقال: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] أي: بدل الرحمن بمعنى غيره.
كما قال الشاعر: جارية لم تلبس المرققا ولم تذق من البقول الفستقا أي: لم تذق بدل البقول الفستق].
قوله: لم تلبس المرققا: أي الثياب الرقيقة، بمعني: أنها ليست جارية منعمة، وقوله: ولم تذق من البقول الفستقا أي: بدل، و (من) هنا بمعنى: بدل، والمؤلف يريد أن يستشهد بهذا البيت على أن قوله: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] أن معناها: بدل الرحمن، أي: لا يكلؤكم غيره سبحانه وتعالى.
وفي هذه الآيات بيان أن المشركين كانوا يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رأوه اتخذوه هزواً، وقالوا كما قال تعالى: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان:41]، وكما قال: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36]، فيسخرون منه عليه الصلاة والسلام، أي: أهذا الذي يعيب آلهتكم ويشتمها! قال الله تعالى: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:42]، {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43].
وقوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ * خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:36 - 37]، يبين فيه سبحانه وتعالى أنه خلق الإنسان من عجل، وأنه خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة بعد نهاية الخلائق.
{سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37] أي: فلا ينبغي للإنسان أن يستعجل بإهلاك هؤلاء الكفار؛ لأن الإنسان مخلوق من عجل، والله تعالى يمهل ولا يهمل، ويملي للظالم، ويفتح باب الرجاء للعبد، ويعطيه المهلة ويمهله لعله يتوب ويرجع إلى الله، والله حليم لا يعجل سبحانه وتعالى، بخلاف الإنسان فإنه مخلوق من عجل.
ثم سلى نبيه عليه الصلاة والسلام وقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام:10]، فالأنبياء الذين سبقوك استهزأ بهم، كنوح وهود وصالح وشعيب، فصبروا وأوذوا، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {وَحَاقَ بِهِمْ} [الأحقاف:26] أي: وقع بهم {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأحقاف:26]، فهذه تسلية لنبينا عليه الصلاة والسلام؛ ليقتدي بمن سبقه، وهو عليه الصلاة والسلام أقواهم وأشدهم تحملاً وصبراً، عليه الصلاة والسلام.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:42] أي: لا يعترفون بنعمه عليهم وإحسانه إليهم، بل يعرضون عن آياته وآلائه.
ثم قال: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} [الأنبياء:43] استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ، أي: ألهم آلهة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا؟ ليس الأمر كما توهموا، ولا كما زعموا، ولهذا قال: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ} [الأنبياء:43] أي: هذه الآلهة التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر أنفسهم، وقوله: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43] قال العوفي عن ابن عباس: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43] أي: يجارون، وقال قتادة: لا يصحبون من الله بخير، وقال غيره: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43]: يمنعون].
ينكر الله تعالى عليهم ويقول: هل لهم آلهة تمنعهم من دوننا؟! قال تعالى: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43] أي: يجارون ويمنعون، فهم لا يستطيعون نصر أنفسهم، ولا يمنعون من قبل الله؛ لأنهم تحت قبضته وفي تصرفه، فالله تعالى هو الذي يكلأ عباده ويحفظهم سبحانه وتعالى، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأنبياء:42 - 43] أي: معبودات من دون الله، قوله تعالى: {تَمْنَعُهُمْ} [الأنبياء:43]، أي: من الله، وهؤلاء الآلهة لا ينصرون أنفسهم وقوله تعالى: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43] أي: يجارون ويمنعون، فلا أحد يمنعهم، ولا أحد يدفع عنهم من الله شيئاً إذا أراد بهم شيئاً، فليس لهم هناك آلهة تمنعهم، وليس هناك إلا الله فليعترفوا بفضل الله ونعمته، فهو الذي يكلأ عباده، وهذه الآلهة لو قدرت فلا تستطيع نصر أنفسها، ولا تستطيع أن تمنع نفسها من الله إذا أراد بها شيئاً.(93/7)
تفسير قوله تعالى: (بل متعنا هؤلاء وآباءهم)(93/8)
بيان أن الكفار مغلوبون، ومعنى نقص الأرض
قال الله تعالى: [{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ * قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ * وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:44 - 47].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن المشركين: إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنهم مُتّعوا في الحياة الدنيا، ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء، ثم قال واعظاً لهم: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:44]، اختلف المفسرون في معناه، وقد أسلفناه في سورة الرعد، وأحسن ما فسر بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27].
وقال الحسن البصري: يعني بذلك: ظهور الإسلام على الكفر، والمعنى: أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه، وإهلاكه الأمم المكذبة، والقرى الظالمة، وإنجائه لعباده المؤمنين؛ ولهذا قال: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44] يعني: بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون].
أي: أن هؤلاء المشركين لما متعهم الله، وطال عليهم العمر ظنوا أنهم على شيء، قال الله تعالى مبيناً: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:44] بإهلاك الكفرة المخالفين للرسل، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف:27]، فهذا هو نقص الأرض بإهلاك هؤلاء الكفرة، وغلبة الرسل عليهم، وإنجاء الله للرسل وأتباعهم، فكيف تغترون أيها الكفار بما متعتم به من الأعمار فتظنون أنكم على شيء؟! ألا ترون أن المكذبين أهلكهم الله؟ فلا تستمروا على كفركم فإن عاقبتكم كعاقبتهم.
وقوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44] أي: بل هم المغلوبون الأسفلون، فالمكذبون وأعداء الرسل هم المغلوبون، وهم المهلكون، والعاقبة للرسل وأتباعهم.
وقوله: (ننقصها) هذا نقص في الأرض، وجاء قول آخر أن معنى ذلك موت العلماء.
فإن قيل: هل تستجاب دعوة الكافر؟ قلنا: نعم، قد تجاب دعوته؛ لأن هذا يتعلق بالربوبية، كما أن الله يخلق الكافر ويرزقه فقد يجيب دعوته إذا كان مضطراً، ولا يدل ذلك على قربه من الله؛ ولأنه قد يكون مظلوماً أيضاً فتجاب دعوته ولو كان كافراً، والمؤمن قد يمنع ولا تجاب دعوته إذا كان آكلاً للحرام متلبساً بالمعاصي حتى يتوب إلى الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [{قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45] أي: إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذركم به من العذاب والنكال، وليس ذلك إلا عما أوحاه الله إلي، ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته، وختم على سمعه وقلبه، ولهذا قال: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء:45].
وقوله: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:46] أي: ولئن مس هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله ليعترفن بذنوبهم، وأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدنيا.
وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47] أي: ونضع الموازين العدل ليوم القيامة، والأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه].(93/9)
بيان أن الميزان يوم القيامة حقيقي حسي
أكثر العلماء على أنه ميزان واحد، وهو ميزان عظيم له كفتان، وكل كفة أعظم من طباق السموات والأرض، وله لسان، فيوزن فيه جميع أعمال العباد، وجمع الموازين هنا لتعدد الأعمال.
وقال آخرون من أهل العلم: إن هناك موازين متعددة، وكل شخص له ميزان يوزن به عمله، ولكن الأقرب أنه ميزان واحد، وإنما جمع نظراً لتعدد الأعمال التي توزن فيه، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} [الأنبياء:47] وهو ميزان واحد.
وهو ميزان حسي له كفتان كل كفة كأطباق السموات والأرض، فتوزن فيه الأعمال، ويوزن الأشخاص أيضاً، وفي الحديث: (يؤتى بالرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قرأ قول الله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]).
وأنكر المعتزلة الميزان الحسي، وقالوا: ليس هناك ميزان حسي، وإنما هو ميزان معنوي وهو العدل، وقالوا: إن الرب لا يحتاج إلى ميزان، والذي يحتاج إلى الميزان هو البقال والفوال، وأما الرب فلا يحتاج إلى ميزان، وإنما المقصود بالميزان العدل، فالله يعدل بين العباد، وليس هناك ميزان حسي توزن فيه الأعمال؛ لأن الرب لا يحتاج إلى هذا، فعارضوا النصوص بعقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة، والصواب: أنه ميزان حسي، له كفتان -كما دل عليه القرآن الكريم- عظيمتان، وله لسان، وتوزن فيه أعمال العباد، ويوزن فيه الأشخاص كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فقد جاء أن الريح كشفت عن ساقي ابن مسعود رضي الله عنه فضحك الصحابة، فسألهم: مما ضحكتم؟ قالوا: من دقة ساقيه، فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد)؛ بسبب عمله الصالح رضي الله عنه وأرضاه.
وهو ميزان حسي خلافاً للمعتزلة القائلين بأن المراد به العدل، وهو أعظم من طباق السموات والأرض.(93/10)
ثقل العمل في الميزان يوم القيامة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، كما قال تعالى: {وََلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40].
وقال لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)].
والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: (ثقيلتان في الميزان)، وهذا الحديث آخر حديث في صحيح البخاري، فهي لا تكلف شيئاً، وهي خفيفة على اللسان، والرحمن يحبها، وهي ثقيلة في الميزان، وفيه إثبات المحبة للرب عز وجل: (حبيبتان إلى الرحمن).
والحديث فيه الرد على من أنكر المحبة من الأشاعرة والمعتزلة والجهمية.
ويوم القيامة يوزن العمل، ويوزن بعض الأشخاص كما جاء هذا في الأحاديث، كما في حديث ابن مسعود: (أنه يؤتى بالرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة).(93/11)
حديث البطاقة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني قال: حدثنا ابن المبارك عن ليث بن سعد قال: حدثني عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، قال: أفلك عذر أو حسنة؟ قال: فبهت الرجل فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم اليوم عليك، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، قال: ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم)].
الحبلى: بضم الحاء والباء.
هذا الحديث معروف عند أهل العلم بحديث البطاقة، وهو أرجى حديث لأهل السنة، وأرجى حديث للمؤمنين، وفيه قصة الرجل الذي يخرج له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، وكله سيئات، فيعرض عليه، فيقول الله: أليست هذه أعمالك؟ فيقول: بلى يا رب! فيقول: أظلمتك كتبتي الحفظة؟ هل يوجد شيء لم تعمله؟ فيقول: لا يا رب! فيقول: هل لك حسنة؟ أتذكر شيئاً عملته؟ فيقول: لا يا رب! فيقول الله: بلى إن لك عندنا حسنة، فيخرج له بطاقة فيها الشهادتان: أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمد رسول الله، فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فغفر له.
فهذا أرجى حديث للمؤمنين الموحدين، ومعلوم أن كل واحد من المسلمين له مثل هذه البطاقة، وكل واحد يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وكثير من المسلمين عصاة يعذبون في النار، ويعذبون في قبورهم، وهذا الرجل نجا فما السبب مع أن له بطاقة فيها الشهادتان، وكل المسلمين لهم مثل هذه البطاقة؟
و
الجواب
أن هذه الشهادة قالها عن علم وصدق وإخلاص وتوبة صادقة، فمحت هذه الذنوب وقضت عليها، فقد تاب عند الموت ولم يتمكن من العمل، فالتوبة محت هذا الذنوب وقضت عليها.
وليس هذا الحديث حجة لمن يترك الصلاة؛ لأن هذا قالها عن توبة وإخلاص وصدق لكنه لم يتمكن من العمل، ومن شروط صحة الشهادة الصلاة، فمن لم يصل لم تصح شهادته، والذي لا يصلي تلغى هذه الشهادة، وقد يكون قد قالها عند الموت عن توبة وإخلاص ولم يتمكن من العمل؛ لأنه لا تصح الشهادة ولا تكون شهادة نافعة إلا إذا وجد شرطها، وشرطها الصلاة، فالصلاة شرط صحة الإيمان وصحة الشهادة، ومن لم يصل فتكون شهادته باطلة منتقضة.
كما أن من صلى بغير وضوء فصلاته باطلة، فكذلك من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بغير صلاة لم تصح شهادته.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث الليث بن سعد به، وقال الترمذي: حسن غريب].
قوله: (ولا يثقل مع اسم الله شيء)، وهذه الزيادة فيها نظر، والحديث رواه الترمذي، ولا بأس به، واعتمده العلماء، وهو مشهور بحديث البطاقة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة، ويوضع ما أحصي عليه فيمايل به الميزان، قال: فيبعث به إلى النار، قال: فإذا أدبر به إذا صائح من عند الرحمن عز وجل يقول: لا تعجلوا فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله، فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان)].
يميل به: أي يرجح به، ومال الميزان: رجح، وهذا كله فيه دليل على أن الميزان ميزان حقيقي حسي، وله كفتان حسيتان، وفيه الرد على المعتزلة القائلين بأنه ميزان معنوي وليس ميزاناً حسياً، وهذه النصوص دليل أنه ميزان حسي، وله كفتان، يوضع فيهما الأشخاص والأعمال، وتوزن حقيقة.(93/12)
كيفية القصاص يوم القيامة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو نوح قراد قال: أنبأنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه فقال: يا رسول الله! إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك، فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماله لا يقرأ كتاب الله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، فقال الرجل: يا رسول الله! ما أجد شيئاً خيراً من فراق هؤلاء - يعني عبيده - إني أشهدك أنهم أحرار كلهم)].
أبو نوح هو عبد الرحمن بن غزوان، وكنيته أبو نوح ولقبه قراداً.
وليث بن سعد إمام، والزهري كذلك إمام، وعروة إمام من أئمة التابعين.
هذا الرجل يقول: إن له عبيداً لا يطيعونه ويكذبونه ويخونونه، وهو يضربهم ويشتمهم، ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم ما حالي وحالهم يوم القيامة؟ فقال: ينظر إن كان عقابك إياهم أقل من كذبهم وخيانتهم لك بقي لك فضل يوم القيامة، وإن كان بمقدار كذبهم وخيانتهم فهو كفاف لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك أكثر فيقتصون منك الزائد، فاختار أن يفارقهم وأعتقهم.
والسيد إذا ضرب عبيده ضرب تأديب فلا بأس بذلك، فضرب التأديب مطلوب، لكن إذا زاد فذلك ممنوع، والمراد أن يكون الضرب ضرب تأديب لا ضرب تعذيب، وكذلك ضرب الخادم، وضرب التلميذ، وضرب الأب لابنه، فالأب ينبغي عليه أن يضرب ضرب تأديب، فإذا زاد فإنه يقتص منه، فلا يضرب ضرب تعذيب وإيذاء.
وكذلك ضرب الرجل زوجته عند خوف نشوزها قال الله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، فبعد الوعظ والهجر يأتي الضرب، ويكون ضرب تأديب، قال العلماء: لا يضرب الوجه، ولا يكسر عظماً، ولا يجرح.(93/13)
تفسير سورة الأنبياء [48 - 67]
كان أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام يدعو قومه إلى التوحيد، وترك الشرك، وقد جادلهم بالحجة الظاهرة الباهرة، بطريقة عقلية واضحة بينة، فلم ينقادوا له لعمى قلوبهم، ولاتباعهم لآبائهم.(94/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء:48 - 50].
قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما وبين كتابيهما ولهذا قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء:48]، قال مجاهد: يعني الكتاب، وقال أبو صالح: التوراة، وقال قتادة: التوراة حلالها وحرامها، وما فرق الله بين الحق والباطل، وقال ابن زيد يعني: النصر.
وجامع القول في ذلك: أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام، وعلى ما يحصل نوراً في القلوب وهداية وخوفاً وإنابة وخشية، ولهذا قال: {الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48] أي: تذكيراً لهم وعظة].
هذا عام في جميع كتب الله كلها، فكل الكتب فيها فرقان بين الحق والباطل، وأنزلها الله تعالى فرقاناً وبياناً، وإيضاحاً للحق وهداية للخلق، فهذا وصف للكتب التي أنزلها الله تبياناً، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الأنبياء:49]، كقوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]، {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:49] أي: خائفون وجلون، ثم قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء:50] يعني: القرآن العظيم الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء:50] أي: أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور.(94/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:52 - 56].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه آتاه رشده من قبل، أي: من صغره، ألهمه الحق والحجة على قومه، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام:83]، وما يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب وهو رضيع، وأنه خرج به بعد أيام، فنظر إلى الكواكب والمخلوقات فتبصر فيها، وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم فعامتها أحاديث بني إسرائيل، فما وافق منها الحق مما بأيدينا عن المعصوم قبلناه؛ لموافقته الصحيح، وما خالف شيئًا من ذلك رددناه، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه بل نجعله وقفاً].
يعني: نتوقف فيه، وهذا التفصيل الذي ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله هو الحق، وهو أن أخبار بني إسرائيل على أحوال ثلاثة: الحالة الأولى: ما وافق ما جاء به شرعنا، فهذا مقبول.
الحالة الثانية: ما خالف ما جاء به شرعنا، فهذا مردود.
الحالة الثالثة: ما لم يوافق ولم يخالف، فهذا يتوقف فيه ويحدث به، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).
وقد بين المؤلف رحمه الله تعالى هذا في مقدمة تفسيره، ولكن نبه عليه هنا أيضاً من باب الإيضاح.
فمن ذلك ما يذكره المفسرون في قصة إبراهيم وأنه أدخله أبوه السرب وأنه خرج ونظر في النجوم وقال كذا وكذا، والله جل وعلا أخبر في كتابه في سورة الأنعام فقال: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:76 - 78].
وللمفسرين في هذا قولان: فمنهم من قال: إنه لم يتبين له ثم تبين له، ولكن هذا القول ضعيف.
ومنهم من قال: إنه قال هذا من باب المجادلة والمناظرة لقومه؛ ليبين لهم بطلان ما هم عليه.
وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48] لو كان الفرقان هو التوراة كما قال ذلك من قاله لكان التنزيل: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء؛ لأن الضياء الذي آتى الله موسى وهارون هو التوراة التي أضاءت لهما ولمن اتبعهما أمر دينهم، فبصرّهم الحلال والحرام، ولم يقصد بذلك في هذا الموضع ضياء الإبصار، وفي دخول الواو في ذلك دليل على أن الفرقان غير التوراة التي هي ضياء.
فالضياء هو التوراة، قال ابن زيد في قوله: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ)) قال: الفرقان: الحق آتاه الله موسى وهارون فرق بينهما وبين فرعون، فقضى بينهم بالحق، وقرأ: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال:41] قال: يوم بدر.
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد في ذلك أشبه بظاهر التنزيل، وذلك لدخول الواو في الضياء، ولو كان الفرقان هو التوراة كما قال من قال ذلك لكان التنزيل: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء.
يعني: على ذلك القول يكون الفرقان غير الضياء، وتكون التوراة هي الضياء، والفرقان شيء آخر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما كان من هذا الضرب منها فقد ترخص كثير من السلف في روايتها].
ما كان من هذا النوع وهو الذي لم يأت شرعنا بإثباته ولا بإلغائه فقد توسع العلماء في روايتها، ومنهم المؤلف، فإنه ذكر كثيراً من أخبار بني إسرائيل في تفسيره، واستطرد في بعض المواضع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما كان من هذا الضرب منها فقد ترخص كثير من السلف في روايتها، وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه، ولا حاصل له مما لا ينتفع به في الدين، ولو كانت فيه فائدة تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة، والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية؛ لما فيها من تضييع الزمان، ولما اشتَمل عليه كثيرٌ منها من الكذب المروج عليهم، فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة.
والمقصود هاهنا أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده من قبل، أي: من قبل ذلك.
وقوله: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51] أي: وكان أهلاً لذلك].
وللعلماء في قوله تعالى: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ)) قولان: الأول: إن قوله: (من قبل) في صغره كما ذكر المؤلف.
والقول الثاني: إنه من قبل إنزال التوراة، وتكون الآية متصلة بما قبلها، أي: من قبل إنزال التوراة والإنجيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]، هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره: الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عز وجل، فقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] أي: معتكفون على عبادتها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد الصباح حدثنا أبو معاوية الضرير حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال: مر علي على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأن يمس أحدكم جمراً حتى يطفأ خير له من أن يمسها].
لاشك أن اللعب بالشطرنج ممنوع إذا كان فيه عوض، وإن لم يكن فيه عوض فأقل أحواله الكراهة، وأقل ما فيه من المفاسد إضاعة الأوقات بلا فائدة، لكن هذا الأثر ضعيف؛ لأن سعد بن طريف رافضي متروك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:53] لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال، ولهذا قال: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54]].
وهذه حجة الكفرة كلهم، وهذه هي الحجة الملعونة: اتباع الآباء والأجداد في الباطل، وهذه الحجة أنكرها الله، وهي حجة فرعون، كما قال الله عز وجل حاكياً عنه: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]، وحجة قريش فقد قالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7]، وقال الله عن المشركين أنهم قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22] يعني: على دين، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، وفي الآية التي بعدها: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، نسأل الله العافية.
فالواجب على الإنسان ألا يكون إمعة، بل يتبع الحق، وإن كان الآباء والأجداد على الباطل فلا يتبعهم، وإن كانوا على الحق فيقتدي بأفعالهم الطيبة، فلا يلغي الإنسان عقله ويغمض عينيه ويكون إمعة يتبع الناس على ما هم عليه، بل يكون عنده بصيرة فيتبع الحق ويدور مع الحق حيثما دار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54] أي: الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم، فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم.
فلما سفه أحلامهم، وضلل آباءهم، واحتقر آلهتهم: ((قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ)) يقولون: هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعباً أو محقاً فيه؟ فإنا لم نسمع به قبلك.
((قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ)) أي: ربكم الذي لا إله غيره هو الذي خلق السموات والأرض وما حوت من المخلوقات، الذي ابتدأ خلقهن وهو الخالق لجميع الأشياء، ((وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)) أي: وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه].(94/3)
تفسير سورة الأنبياء [68 - 75]
عاقبة المتقين حميدة، ونهايتهم سعيدة؛ وذلك لقيامهم بأوامر الله تعالى، وابتعادهم عن نواهي الله تعالى، وقصة إبراهيم عليه السلام خير مثال على ذلك، فقد أراد به قومه شراً فألقوه في النار، لكن الله جعلها عليه برداً وسلاماً، ونصره، وأهلك أولئك الظالمين.(95/1)
تفسير قوله تعالى: (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين)
قال الله تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:68 - 70].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما دحضت حجتهم، وبان عجزهم، وظهر الحق، واندفع الباطل عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم، فقالوا: ((حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ))].
أي: لجأوا إلى القوة، وهكذا حال أهل البدع وأهل الضلال؛ فإنهم إذا عجزوا عن مناظرة أهل الحق لجأوا إلى القوة، فأهل البدع الآن إذا عجزوا عن مقاومة أهل السنة استدعوا السلاطين عليهم، كما فعل الجهمية في زمن المأمون؛ فإنهم استعدوا المأمون على أهل السنة لما كانت لهم القوة، وكان أحمد بن أبي دؤاد رئيس المعتزلة هو رئيس القضاة في زمن المأمون، فاستعدى المأمون على أهل السنة، وألزموا بالقول بخلق القرآن، وسحب الإمام أحمد رحمه الله وضرب في تلك الفتنة، وهذه هي طريقة أهل البدع والكفر، فأهل البدع إذا عجزوا عن مناظرة أهل الحق أو عن مجادلتهم لجأوا إلى القوة، واستعدوا السلاطين عليهم، وقالوا: إن هؤلاء يريدون كذا ويريدون كذا، وهؤلاء يريدون قلب الحكم ويريدون كذا، وهكذا في كل زمان، والتاريخ يعيد نفسه في كل زمان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالوا: ((حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ))، فجمعوا حطباً كثيراً.
قال السدي: حتى إن كانت المرأة تمرض، فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطباً لحريق إبراهيم].
وهذا من غيظهم، فإنهم جمعوا حطباً عظيماً، والمرأة كانت إذا مرضت تنذر أن تجمع حطباً لإحراق إبراهيم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم جعلوه في جوبة من الأرض، وأضرموها ناراً، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع، لم توقد نار قط مثلها، وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد، قال شعيب الجبائي: اسمه هيزن، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة].
الله أعلم بهذا، فهذا من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما ألقوه قال: حسبي الله ونعم الوكيل].
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]) وحسبنا الله ونعم الوكيل، معناها: كافينا الله ونعم الوكيل، فهو المتوكل عليه سبحانه وتعالى.
والحسب: الكفاية، والحسب لا يقال إلا لله، فلا يقال: حسبي الله وفلان، ولهذا قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، فالحسب خاص بالله، وهو من العبادة الخاصة به سبحانه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حسبي الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا ابن هشام حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي جعفر عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك).
ويروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال: (لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد، ولك الملك، لا شريك لك).
وقال شعيب الجبائي: كان عمره إذ ذلك ست عشرة سنة.
فالله أعلم.
وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى.
وقال سعيد بن جبير -ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا- قال: لما ألقي إبراهيم جعل خازن المطر يقول: متى أؤمر بالمطر فأرسله، قال: وكان أمر الله أسرع من أمره، قال الله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، قال: فلم تبق من الأرض نار إلا طفئت.
وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أحد يومئذٍ بنار، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه].
الله أعلم بهذا، فإن الله تعالى وجه الخطاب لنار إبراهيم: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، قال العلماء: إن الله قال لها: كوني برداً وسلاماً، ولو قال: لها كوني برداً لهلك إبراهيم من شدة البرد، ولو تركها على حالها لمات إبراهيم من إحراقها، فلما قال: (كوني برداً وسلاماً) صار الجو معتدلاً لا حاراً ولا بارداً، بل برداً وسلاماً، والله عز وجل يقول: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فالله على كل شيء قدير، وكل المخلوقات بيد الله يصرفها كيف يشاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الثوري عن الأعمش عن شيخ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)) قال: بردت عليه حتى كادت تقتله، حتى قيل: ((وَسَلامًا)) قال: لا تضرِّيه].
فرج الله أسرع من كل شيء، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]، وإبراهيم ممن يتقي الله عز وجل، وهو إمام للمتقين، ولما كان متقياً جعل الله له مخرجاً من هذه النار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس وأبو العالية: لولا أن الله عز وجل قال: ((وَسَلامًا)) لآذى إبراهيم بردها.
وقال جويبر عن الضحاك: ((كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)) قال: صنعوا له حظيرة من حطب جزل، وأشعلوا فيه النار من كل جانب، فأصبح ولم يصبه منها شيء حتى أخمدها الله.
قال: ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق، فلم يصبه منها شيء غير ذلك].
لكن جويبر هذا ضعيف، وعلى هذا فهذا ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال السدي: كان معه فيها ملك الظل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا يوسف بن موسى حدثنا مهران حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن المنهال بن عمرو قال: أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار، فقال: كان فيها إما خمسين وإما أربعين.
قال: ما كنت أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها، وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها].
وهذا من أخبار بني إسرائيل، والمنهال بن عمرو قال: أخبرت، وبينه وبين إبراهيم عليه السلام دهور.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار وجده يرشح جبينه قال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم! وقال قتادة: لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا الوزغ].
وهذا ثابت في الصحيحين أن الوزغ من خبثه كان ينفخ في النار، ولهذا يستحب قتله، ومن قتله في الضربة الأولى فله كذا من الحسنات، ومن قتله في الضربة الثانية فله كذا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الزهري: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، وسماه فويسقاً].
لاشك في فسقه؛ لخروجه على غيره بالأذى، ومن خبثه أنه كان ينفخ في نار إبراهيم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبيد الله ابن أخي ابن وهب حدثني عمي حدثنا جرير بن حازم أن نافعاً حدثه قال: حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت: دخلت على عائشة رضي الله عنها فرأيت في بيتها رمحاً، فقلت: يا أم المؤمنين! ما تصنعين بهذا الرمح؟ فقالت: نقتل به هذه الأوزاغ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله)].
وهذا الحديث ثابت في أحد الصحيحين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ)) أي: المغلوبين الأسفلين؛ لأنهم أرادوا بنبي الله كيداً فكادهم الله ونجاه من النار فغلبوا هنالك.
وقال عطية العوفي: لما ألقي إبراهيم في النار جاء ملكهم لينظر إليه فطارت شرارة فوقعت على إبهامه، فأحرقته مثل الصوفة].(95/2)
تفسير قوله تعالى: (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين)
قال الله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ * وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:71 - 75] قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم أنه سلمه الله من نار قومه، وأخرجه من بين أظهرهم مهاجراً إلى بلاد الشام إلى الأرض المقدسة منها، كما قال الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه في قوله: ((إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)) قال: الشام، وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة.
وكذا قال أبو العالية أيضاً.
وقال قتادة: كان بأرض العراق، فأنجاه الله إلى الشام، وكان يقال للشام: عماد دار الهجرة، وما نقص من الأرض زيد في الشام، وما نقص من الشام زيد في فلسطين.
وكان يقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها ينزل عيسى بن مريم عليه السلام، وبها يهلك المسيح الدجال].
وهي الأرض المباركة، وهي الأرض التي هاجر إليها إبراهيم الخليل؛ فإنه هاجر من العراق إلى الشام، وهي مبعث الأنبياء، فإن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا هناك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال كعب الأحبار في قوله: ((إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)) إلى حران.
وقال السدي: انطلق إبراهيم ولوط عليهما السلام قبل الشام، فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حران، وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزوجها على ألا يغيرها.
رواه ابن جرير، وهو غريب].
هذا غريب؛ لأن المشهور أن سارة بنت عمه، هذا هو المعروف، لا أنه تزوجها من تلك الأرض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمشهور أنها ابنة عمه، وأنه خرج مهاجراً من بلاده، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: إلى مكة، ألا تسمع قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:96 - 97]؟].
وهذا ضعيف، وما أظنه أتى بها مكة، إنما أتى بـ هاجر وبإسماعيل بعد ذلك.(95/3)
معنى قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً)) قال عطاء ومجاهد: عطية.
وقال ابن عباس وقتادة والحكم بن عتيبة: النافلة ولد الولد.
يعني: أن يعقوب ولد إسحاق، كما قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71].
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: سأل واحداً فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]، فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة.
{وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء:72] أي: الجميع أهل خير وصلاح، ((وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً)) أي: يقتدي بهم، ((يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)) أي: يدعون إلى الله بإذنه؛ ولهذا قال: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ)) من باب عطف الخاص على العام].
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة داخلة في فعل الخيرات، فعطْفهما على فعل الخيرات هو من عطف الخاص على العام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: فاعلين لما يأمرون الناس به.
ثم عطف بذكر لوط، وهو لوط بن هاران بن آزر، كان قد آمن بإبراهيم، واتبعه وهاجر معه].
وهو ابن أخيه، وإبراهيم عمه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26]، فآتاه الله حكماً وعلماً وأوحى إليه وجعله نبياً، وبعثه إلى سدوم وأعمالها، فخالفوه وكذبوه، فأهلكهم الله ودمر عليهم، كما قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز؛ ولهذا قال: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:74 - 75]].
ومن خبثهم أنهم كانوا مع الشرك بالله عز وجل يعملون اللواط، وهو إتيان الذكر الذكر والعياذ بالله، ولم يسبقوا إليها، ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام فقال: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80]، نسأل الله السلامة والعافية.(95/4)
الأسئلة(95/5)
حال الناس عند قيام الساعة
السؤال
ذكرت حفظك الله في حديثك بأنه لن يكون هناك مؤمن أو مسلم على وجه الأرض حين تقوم القيامة، فكيف نوفق بين ذلك وبين الحديث الذي يذكر أن الصالحين يقومون الليل ويصلون ويطول عليهم الليل وبعد ذلك تخرج الشمس من مغربها؟
الجواب
قبض أرواحهم يكون بعد طلوع الشمس من مغربها، فلما تطلع الشمس من مغربها حينئذٍ يغلق باب التوبة وليس هناك إيمان جديد، فالمؤمن يبقى مؤمناً والكافر يريد أن يؤمن، وتأتي الدابة تسم الناس في جباههم، فالمؤمن تسمه بسمة بيضاء، فيبيض لها وجهه، والكافر تسمه بسمة سوداء، فيسود لها وجهه، فيتبايع الناس في أسواقهم: خذ هذا يا مؤمن! بع هذا يا كافر! يعني: أنه أغلق باب التوبة، والمؤمن يبقى على إيمانه والكافر يبقى على كفره، وليس هناك إيمان جديد، ثم بعد مدة تأتي ريح طيبة فتقبض أرواح المؤمنين.(95/6)
سبب تنوع تسمية اليهود في القرآن
السؤال
ما سبب تسمية بني إسرائيل في القرآن (بنو إسرائيل) مرة، ومرة يسميهم الله عز وجل اليهود؟
الجواب
إسرائيل اسم ليعقوب عليه السلام، وهم بنوه، وبنو إسرائيل يشمل اليهود والنصارى؛ لأنهم من ذرية يعقوب، ويعقوب هو إسرائيل عليه الصلاة والسلام، ولهذا اليهود سموا دولتهم دولة إسرائيل، وبعض الناس يلعن إسرائيل -يعني: الدولة- وهذا لا ينبغي؛ لأنه اسم نبي، فاليهود جزء من بني إسرائيل، فتارة يخاطب الله اليهود وتارة يخاطب النصارى، وتارة يخاطبهم جميعاً بقوله: (يا بني إسرائيل).(95/7)
تفسير سورة الأنبياء [76 - 82]
لم ييأس نوح عليه السلام من دعوة قومه إلا حين أعلمه الله أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فدعا نوح عليهم وحصل الهلاك العظيم.
وقد مكن الله لداود وسليمان وآتاهما الحكم والملك والقوة، فكانوا قدوة لحكام وملوك الأرض.(96/1)
تفسير قوله تعالى: (ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له)
قال الله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:76 - 77].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح عليه السلام، حين دعا على قومه لما كذبوه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10]، {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، ولهذا قال هاهنا: ((إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ)) أي: الذين آمنوا به، كما قال: {وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} [هود:40].
وقوله: ((مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)) أي: من الشدة والتكذيب والأذى، فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل، فلم يؤمن به منهم إلا القليل، وكانوا يتصدون لأذاه، ويتواصون قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل على خلافه.
وقوله: ((وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ)) أي: ونجيناه وخلصناه منتصراً من القوم.
((الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ)) أي: أهلكهم الله بعامة، ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد؛ إذ دعا عليهم نبيهم].
وذلك بعد أن أخبره الله بأنهم لا يؤمنون، وقد لبث فيهم مدة طويلة وصبر عليه الصلاة والسلام صبراً عظيماً، وكان يدعوهم ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً وهم لا يزدادون إلا شدة، ويرمونه بالجنون وبالسفه وبالضلال وهو صابر عليه الصلاة والسلام، ولبث هذه المدة الطويلة وهم لا يزدادون إلا شدة وأذى، حتى إن الأجداد كانوا يوصون الأحفاد بالكفر بنوح، وكل جيل كان يوصي الجيل الذي بعده بالكفر بنوح عليه الصلاة والسلام، حتى أخبره الله في النهاية بأن عدد المؤمنين لن يزداد، كما قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] فلما أخبره الله بذلك دعا عليهم، وقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]، فأخبره الله بأنه لن يؤمن أحد زيادة، ومع هذه المدة الطويلة كانوا قلة، ولذا فالذين آمنوا كلهم ركبوا في سفينة نوح، والباقي أهلكهم الله حيث انفجرت الأرض عيوناً وانشقت السماء بالمطر والتقى ماء الأرض وماء السماء على أمر قد قدر، فأهلك الله جميع من على وجه الأرض إلا من ركب في السفينة.
فمع هذه المدة الطويلة -ألف سنة إلا خمسين عاماً- ما آمن إلا عدد قليل ركبوا في السفينة، وفي بعض الأخبار الإسرائيلية ذكر أنه كان عددهم ستين أو سبعين أو ثمانين، ولكن كل هذا ليس عليه دليل، ولا نستطيع أن نجزم إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونوح عليه السلام دعا عليهم، ولما امتنعت دوس وأبت عن الإيمان قالوا: يا رسول الله! ادع الله عليهم، ثم قالوا: هلكت دوس، فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم) فهداهم الله وجاءوا مسلمين.(96/2)
تفسير قوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث)
قال الله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء:78 - 82].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو إسحاق عن مرة عن ابن مسعود: كان ذلك الحرث كرماً قد نبتت عناقيده.
وكذا قال شريح].
يعني: كان عنباً، فإن الكرم هو العنب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس رضي الله عنهما: النفش: الرعي.
وقال شريح والزهري وقتادة: النَّفْشُ بالليل.
زاد قتادة: والهمل بالنهار].
الهمل هو: الرعي، وقوله: (نفشت فيه غنم القوم) يعني: رعته ليلاً، بأن جاءت في الليل ودخلت وأكلت منه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم قالا: حدثنا المحاربي عن أشعث عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: ((وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ)) قال: كرم قد أنبتت عناقيده، فأفسدته.
قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله! قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله: ((فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ))، وهكذا روى العوفي عن ابن عباس.
وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد: حدثني خليفة عن ابن عباس قال: فحكم داود عليه السلام بالغنم لأصحاب الحرث، فخرج الرعاء معهم الكلاب، فقال لهم سليمان: كيف قضى بينكم، فأخبروه، فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا! فأخبر بذلك داود عليه السلام، فدعاه فقال: كيف تقضي بينهم؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون لهم أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه أخذ أصحاب الحرث الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا خديج عن أبي إسحاق عن مرة عن مسروق قال: الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرماً نفشت فيه الغنم، فلم تدع فيه ورقة ولا عنقوداً من عنب إلا أكلته، فأتوا داود عليه السلام فأعطاهم رقابها، فقال سليمان عليه السلام: لا، بل تؤخذ الغنم فتعطى أهل الكرم، فيكون لهم لبنها ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم، ثم يعطى أهل الغنم غنمهم، وأهل الكرم كرمهم.
وهكذا قال شريح ومرة ومجاهد وقتادة وابن زيد وغير واحد.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن أبي زياد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا إسماعيل عن عامر قال: جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما: إن شاة هذا قطعت غزلاً لي، فقال شريح: نهاراً أم ليلاً؟ فإن كان نهاراً فقد برئ صاحب الشاة، وإن كان ليلاً فقد ضمن، ثم قرأ: ((وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ)) الآية.
وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث الليث بن سعد عن الزهري عن حرام بن محيصة: (أن ناقة البراء بن عازب رضي الله عنهما دخلت حائطاً فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها) وقد علل هذا الحديث، وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب الأحكام، وبالله التوفيق].
وهذه الآيات فيها أن المجتهد إذا اجتهد فإنه مأجور على اجتهاده ولو لم يصب الحق، وإذا أصاب الحق فله أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة؛ لأن الله تعالى أثنى على داود وسليمان جميعاً، وأخبر سبحانه أنه فهَّم سليمان، ويدل لهذا الحديث الآخر: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) والله تعالى أخبر أن سليمان وداود كلاً منهما مجتهد فأثنى عليهما وقال: ((وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا))، وبين أن المصيب هو سليمان فقال: ((فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ)) فدل على أن المجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فخطؤه مغفور، وله أجر على اجتهاده، وكل من سليمان وداود اجتهدا، وداود لم يصب وسليمان هو الذي أصاب؛ حيث إن الله فهمه، ثم أثنى عليهما جميعاً فقال: ((وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)) وذلك أن في هذه القصة أن أصحاب غنم جاءت غنمهم ودخلت بستاناً فيه كرم وعنب فأكلته ولم تبق منه شيئاً، فجاء أصحاب الكرم يشكون إلى داود عليه السلام ما فعل أصحاب الغنم بكرمهم، فقضى داود عليه السلام بالغنم لأصحاب الكرم، فقال: تعطون غنمكم أصحاب الكرم بدلاً من الكرم الذي أكلته غنمهم، أي: أنه قضى أن تكون الغنم لأصحاب البستان مقابل ما أكلت من الحرث، وحكم فيها سليمان بأن تدفع الغنم إلى أصحاب العنب ويدفع العنب إلى أصحاب الغنم، فأما أصحاب الكرم فإنهم إذا دفعت إليهم الغنم يعلفونها ويشربون ألبانها وما ولدت من الأولاد يكون لهم، وأما أصحاب الغنم فيأخذون الكرم يبذرون ويسقون حتى يعود العنب كما كان، فإذا عاد العنب كما كان دفع الكرم إلى أصحاب البستان ودفعت الغنم إلى أصحابها، هذا قضاء سليمان عليه السلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْماً)) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حميد أن إياس بن معاوية لما استقضي أتاه الحسن فبكى، قال: ما يبكيك؟ قال: يا أبا سعيد! بلغني أن القضاة: رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة.
فقال الحسن البصري: إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء حكماً يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم، قال الله تعالى: ((وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ)) فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود].
النفش هو الرعي ليلاً، وفي حديث البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأن على أهل الحائط أن يحفظوا حائطهم بالنهار وأن على أهل المواشي أن يحفظوا مواشيهم بالليل، فإذا أصابت المواشي شيئاً بالنهار فهو هدر ليس فيه شيء، وإذا أصابت في الليل فهو مضمون على أصحابها؛ لأن عليهم أن يحفظوها بالليل، لكن الحديث فيه كلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال -يعني: الحسن -: إن الله اتخذ على الحكام ثلاثاً: لا يشتروا به ثمناً قليلاً، ولا يتبعوا فيه الهوى، ولا يخشوا فيه أحداً، ثم تلا: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] وقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]، وقال: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} [المائدة:44]].
وفي نسخة: (الحكماء) وحاكم يجمع على حكماء ويجمع على حكام، والحكام هم القضاة، والحكماء المراد بهم هنا القضاة، وعلى هذا فيكون الحكماء والحكام بمعنى واحد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: أما الأنبياء عليهم السلام فكلهم معصومون مؤيدون من الله عز وجل، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف، وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر).
فهذا الحديث يرد نصاً ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار، والله أعلم].
هذا إن ثبت عن إياس، فإنه إذا اجتهد القاضي فأخطأ فهو مأجور وخطؤه مغفور، وإذا اجتهد وأصاب فله أجران.
وبعضهم يقول: كل مجتهد مصيب، وليس كذلك؛ لأن الحق واحد لا يتعدد، فمن قال: إنه مصيب فمعناه: أنه مصيب في اجتهاده، يعني: مأجور على اجتهاده، فالصواب: أنه ليس كل مجتهد مصيب؛ لأن الحق واحد لا يتعدد، لكن إذا اجتهد وأصاب فله أجران: أجر(96/3)
تفسير قوله تعالى: (وعلمناه صنعة لبوس لكم)
قال الله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء:80].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يعني: صنعة الدروع.
قال قتادة: إنما كانت الدروع قبله صفائح، وهو أول من سردها حلقاً، كما قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:10 - 11] أي: لا توسع الحلقة فتقلق المسمار، ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة، ولهذا قال: ((لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ)) يعني: في القتال].
يعني: أن الحلقة تكون بمقدار المسمار لا تزيد عليه، ولا يكون المسمار غليظاً فيخرق الحلقة، ولا تكون الحلقة واسعة فيقلق ويتحرك المسمار، وإنما يقدر في السرد تقديراً، كما قال سبحانه: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ)) أي: نعم الله عليكم، لما ألهم به عبده داود، فعلمه ذلك من أجلكم.
وقوله: ((وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً)) أي: وسخرنا لسليمان الريح العاصفة.
((تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)) يعني: أرض الشام.
((وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ)) وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله، فتدخل تحته، ثم تحمله وترفعه وتسير به، وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض، فينزل، وتوضع آلاته وحشمه، قال الله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36]، وقال تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12].
قال ابن أبي حاتم: ذكر عن سفيان بن عيينة عن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال: كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي، فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن، ثم يأمر الطير فتظلهم، ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه وسلم].
وهذه خاصية أعطاها الله سليمان عليه الصلاة والسلام ولم يعطها أحداً بعده، ولهذا سأله سليمان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]، فالله عز وجل سخر له الريح والشياطين والجن، ولهذا لما عرض عفريت على النبي صلى الله عليه عليه وسلم خنقه وقال: (أردت أن أربطه في سارية من سواري المسجد حتى يلعب صبيان المدينة، فذكرت قول أخي سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] فتركته)، يعني: أن تسخير الجن والشياطين خاص بسليمان، فخشي النبي صلى الله عليه عليه وسلم أنه لو ربط هذا الشيطان في سارية يكون هذا مشاركة لسليمان في ملكه، فلذلك أطلقه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان سليمان يأمر الريح فتجتمع كالطود العظيم كالجبل، ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها، ثم يدعو بفرس من ذوات الأجنحة، فترتفع حتى يصعد على فراشه، ثم يأمر الريح فترتفع به كل شرف دون السماء، وهو مطأطئ رأسه، ما يلتفت يميناً ولا شمالاً؛ تعظيماً لله عز وجل، وشكراً لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله عز وجل، حتى تضعه الريح حيث يشاء أن تضعه.
وقوله: ((وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ)) أي: في الماء يستخرجون اللآلئ والجواهر وغير ذلك.
((وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ)) أي: غير ذلك، كما قال الله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ} [ص:37 - 38]].
يعني: بعضهم يبني وبعضهم يستخرج اللآلئ، وبعضهم مصفد مربوط في الأغلال؛ لتمردهم، فإنه عليه الصلاة والسلام سلط عليهم فكان يربط المتمردين، ومنهم غير ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ)) أي: يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء، بل كل في قبضته وتحت قهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه، بل هو يحكم فيهم: إن شاء أطلق، وإن شاء حبس منهم من يشاء.
ولهذا قال: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ} [ص:38]].
وهذا مما خص عليه الصلاة والسلام به، ولهذا مات وهو متكئ على عصاه ولم تعلم الجن بوفاته، بل كانوا يعملون ويشتغلون وهم يظنون أن سليمان حي، فلم يعلموا حتى سقط، وذلك لما أكلت الأرضة العصا فسقطت العصا فسقط سليمان، فعرفوا أنه مات، كما قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] فكانوا يشتغلون ويعملون أعمالاً شاقة وسليمان ميت له مدة على العصا ولم يعلموا.(96/4)
تفسير سورة الأنبياء [83 - 84]
قد يبتلي الله عز وجل عبده المؤمن ليقربه إليه وليرفعه عنده درجات، وعلى قدر البلاء يكون الأجر، وعلى قدر الصبر تكون حسن العاقبة، وقد كان أيوب عليه السلام مثالاً وقدوة للصابرين.(97/1)
تفسير قوله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر)
قال الله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 - 84].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يذكر تعالى عن أيوب عليه السلام ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير، وأولاد كثيرة، ومنازل مرضية، فابتلي في ذلك كله، وذهب عن آخره، ثم ابتلي في جسده، يقال: بالجذام في سائر بدنه، ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه؛ يذكر بهما الله عز وجل، حتى عافه الجليس، وأفرد في ناحية من البلد، ولم يبق من الناس أحد يحنو عليه سوى زوجته؛ كانت تقوم بأمره، ويقال: إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل)، وفي الحديث الآخر: (يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه) وقد كان نبي الله أيوب عليه السلام غاية في الصبر، وبه يضرب المثل في ذلك].
يقال: أيوب الصابر، وصف الصبر لأنه كان ملازماً له عليه الصلاة والسلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال يزيد بن ميسرة: لما ابتلى الله أيوب عليه السلام بذهاب الأهل والمال والولد، ولم يبق له شيء أحسن الذكر، ثم قال: أحمدك رب الأرباب الذي أحسنت إلي، أعطيتني المال والولد، فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخله ذلك، فأخذت ذلك كله مني، وفرَّغت قلبي، فليس يحول بيني وبينك شيء، ولو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني.
قال: فلقي إبليس من ذلك منكراً].
يعني: فلقي إبليس من هذا شيئاً منكراً، لما علم بأن أيوب فرغ الله قلبه للذكر، فإن أيوب عليه السلام ذهب ماله وأهله وولده فبقي قلبه ولسانه، فحسده إبليس كيف يبقى قلبه ولسانه؟ يريد أن يستولي على قلبه ولسانه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيوب عليه السلام: يا رب! إنك أعطيتني المال والولد، فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته، وأنت تعلم ذلك، وإنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها وأقول لنفسي: يا نفس! إنك لم تخلقي لوطء الفراش، ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك.
رواه ابن أبي حاتم.
وقد روي عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه، وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين، وفيها غرابة تركناها لحال الطول].
يعني: في قصة ذهاب ولده وماله، وفيها أن إبليس قال: يا رب! سلطني على ماله، فسلط على ماله وأحرق الزرع وكذا، ثم قال: رب! سلطني على ولده، فجاءهم وأسقط عليهم الدار، ثم قال: رب! سلطني على جسده، فنفخ فيه فأصابه الجذام، قال: ولم يبق إلا قلبه ولسانه، إلخ القصة، وهي طويلة تقارب سبع صفحات، والأقرب أنها مأخوذة عن بني إسرائيل، والقصة هذه يذكرها أهل القصص، كالإخباريين فإنهم يذكرون قصص أيوب أنه كذا وأنه سلط عليه إبليس، وأنه سلط أولاً على ماله، وسلط على الزرع، وسلط على الدواب، وسلط على كذا، ثم سلط على الأهل، ثم سلط على الأولاد، ثم سلط على جسده، فالله أعلم، ولاشك أن الله ابتلى أيوب عليه السلام وأنه صبر، لكن هذه الأخبار التي فيها هذه التفاصيل هي مأخوذة عن بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة، ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا الدعاء، فقال الحسن وقتادة: ابتلي أيوب عليه السلام سبع سنين وأشهراً ملقى على كناسة بني إسرائيل، تختلف الدواب في جسده، ففرج الله عنه وأعظم له الأجر وأحسن عليه الثناء.
وقال وهب بن منبه: مكث في البلاء ثلاث سنين، لا يزيد ولا ينقص.
وقال السدي: تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام، فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالرماد يكون فيه].
يعني: يكون عليه؛ فإن حروف الجر قد ينوب بعضها عن بعض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالت له امرأته لما طال وجعه: يا أيوب! لو دعوت ربك يفرج عنك؟ فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحاً، فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة، فجزعت من ذلك، فخرجت، فكانت تعمل للناس بأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه].
يعني: أنه عليه السلام قلاه كل أحد، القريب والبعيد، ولم يبق إلا هذه الزوجة، فكانت تشتغل عند الناس وتعمل، فإذا كسبت الأجرة اشترت بها طعاماً ونفقة وأتت بذلك إلى أيوب عليه السلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن إبليس انطلق إلى رجلين من فلسطين كانا صديقين له وأخوين، فأتاهما فقال: أخوكما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا، فأتياه وزوراه واحملا معكما من خمر أرضكما، فإنه إن يشرب منه برئ، فأتياه، فلما نظرا إليه بكيا، فقال: من أنتما؟ فقالا: نحن فلان وفلان! فرحب بهما وقال: مرحباً بمن لا يجفوني عند البلاء.
فقالا: يا أيوب! لعلك كنت تسر شيئاً وتظهر غيره، فلذلك ابتلاك الله؟ فرفع رأسه إلى السماء ثم قال: هو يعلم، ما أسررت شيئاً أظهرت غيره، ولكن ربي ابتلاني؛ لينظر أأصبر أم أجزع، فقالا له: يا أيوب! اشرب من خمرنا فإنك إن شربت منه برأت.
قال: فغضب، وقال: جاءكما الخبيث فأمركما بهذا؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما علي حرام.
فقاما من عنده، وخرجت امرأته تعمل للناس، فخبزت لأهل بيت لهم صبي، فجعلت لهم قرصاً، وكان ابنهم نائماً، فكرهوا أن يوقظوه، فوهبوه لها، فأتت به إلى أيوب، فأنكره وقال: ما كنت تأتيني بهذا، فما بالك اليوم؟ فأخبرته الخبر.
قال: فلعل الصبي قد استيقظ، فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله، فانطلقي به إليه، فأقبلت حتى بلغت درجة القوم، فنطحتها شاة لهم، فقالت: تعس أيوب الخطاء، فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ وهو يطلب القرص، ويبكي على أهله، لا يقبل منهم شيئاً غيره، فقالت: رحم الله أيوب، فدفعت القرص إليه ورجعت.
ثم إن إبليس أتاها في صورة طبيب، فقال لها: إن زوجك قد طال سقمه، فإن أراد أن يبرأ فليأخذ ذباباً فليذبحه باسم صنم بني فلان فإنه يبرأ، ويتوب بعد ذلك، فقالت ذلك لأيوب، فقال: قد أتاك الخبيث، لله علي إن برأت أن أجلدك مائة جلدة، فخرجت تسعى عليه، فحظر عنها الرزق].
يعني: منع، منع منها الرزق، ولم تحصل على شيء؛ لحكمة بالغة أرادها الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها].
يعني: أنها كانت كلما جاءت أهل بيت قالوا: ما عندنا شيء، وما عندنا عمل؛ لحكمة بالغة، ولم تكسب شيئاً ذلك اليوم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما اشتد عليها ذاك وخافت على أيوب الجوع حلقت من شعرها قرناً فباعته من صبية من بنات الأشراف، فأعطوها طعاماً طيباً كثيراً فأتت به أيوب، فلما رآه أنكره وقال: من أين لك هذا؟ قالت: عملت لأناس فأطعموني.
فأكل منه، فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد فحلقت أيضاً قرناً فباعته من تلك الجارية، فأعطوها من ذلك الطعام، فأتت به أيوب، فقال: والله! لا أطعمه حتى أعلم من أين هو؟ فوضعت خمارها، فلما رأى رأسها محلوقاً جزع جزعاً شديداً، فعند ذلك دعا ربه عز وجل: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
والضفيرة من الشعر قد لا يستفيدون منها شيئاً، ولكن هذا كله من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم به، وقد جاء في بعض أخبار بني إسرائيل: أن أيوب لما مرض كان لا يستطيع أن يقوم إلا بالضفيرة، وكل هذا من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم بها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي: أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له: مسوط].
وفي رواية: (مبسوط).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وكانت امرأة أيوب تقول: ادع الله فيشفيك، فجعل لا يدعو حتى مر به نفر من بني إسرائيل، فقال بعضهم لبعض: ما أصابه ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه، فعند ذلك قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
وحدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان لأيوب عليه السلام أخوان، فجاءا يوماً، فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه، فقاما بعيداً، فقال أحدهما للآخر: لو كان الله علم من أيوب خيراً ما ابتلاه بهذا؛ فجزع أيوب من قولهما جزعاً لم يجزع من شيء قط، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني، فصدق من السماء وهما يسمعان.
ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط، وأنا أعلم مكان عارٍ فصدقني، فصدق من السماء وهما يسمعان، ثم خر ساجداً، ثم قال: اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبداً حتى تكشف عني، فما رفع رأسه حتى كشف عنه].
لاشك أن الله كشف الضر عن أيوب، لكن هذا الحديث مروي عن عبيد بن عمير عن بني إسرائيل، أما كشف ضره فهو وارد بنص القرآن، كما قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء:83 - 84]، فأيوب ابتلاه الله في أهله وماله وولده ونفسه، ثم عافاه الله وشفاه في جسمه ورد عليه أهله وماله وولده فضلاً منه وإحساناً، والله تعالى له الحكمة البالغة، قد يبتلى الإنسان، وقد يكون ذلك بذنب وقد يكون بغير ذنب، فالأنبياء والأخيار يبتلون لرفع درجاتهم، وأما غيرهم فكثير من الابتلاءات تكون بسبب المعاصي، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَ(97/2)
تفسير قوله تعالى: (وآتيناه أهله ومثلهم معهم)
قال الله تعالى: [وقوله: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء:84] قد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ردوا عليه بأعيانهم، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس أيضاً].
يعني: أن الله أحيا أهله أنفسهم ورد ماله بعينه، والله على كل شيء قدير، والله تعالى يقول: ((وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروي مثله عن ابن مسعود ومجاهد وبه قال الحسن وقتادة.
وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة، فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد النجعة].
يعني: إن كان ذلك أخذاً من الآية: ((وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا)) فهذا بعيد، والله أعلم باسمها.
والنجعة بالضم، والشائع عند الناس النَجعة بالفتح، وفي القاموس النُجعة بالضم.
وقوله تعالى: ((وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ)) معنى الآية: أنه أوتي أهله وأهلاً آخرين، يعني زوجات أخر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة، فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد النجعة، وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب وصح ذلك عنهم، فهو مما لا يصدق ولا يكذب.
وقد سماها ابن عساكر في تاريخه -رحمه الله تعالى-قال: ويقال: اسمها ليا بنت منشا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، قال: ويقال: ليا بنت يعقوب عليه السلام زوجة أيوب عليه السلام، كانت معه بأرض البثنية].
والبثنية قرية بين دمشق وأذرعات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: قيل له: يا أيوب إن أهلك لك في الجنة فإن شئت أتيناك بهم، وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم.
قال: لا، بل اتركهم لي في الجنة.
فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا.
وقال حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني عن نوف البكالي قال: أوتي أجرهم في الآخرة وأعطي مثلهم في الدنيا.
قال فحدثت به مطرفاً فقال: ما عرفت وجهها قبل اليوم].
يعني: ما عرفت تأويلها إلا الآن لما سمعت هذا الكلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا روي عن قتادة والسدي وغير واحد من السلف، والله أعلم].
معنى قوله تعالى: ((َآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ)) على هذا التفسير: أنه رد الله عليه أهله، وأعطاه مثلهم في الأجر، لكن هذا خلاف ظاهر الآية، فظاهر الآية: أنه أوتي أهله وأوتي معهم في الدنيا، لكن نوفاً البكالي يقول: إنه أوتي أهله في الدنيا وأعطي مثل أجورهم في الآخرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا)) أي: فعلنا به ذلك رحمة من الله به.
((وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)) أي: وجعلناه في ذلك قدوة؛ لئلا يظن أهل البلاء إنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا، وليتأسوا به بالصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده بما يشاء، وله الحكمة البالغة في ذلك].
الله سبحانه وتعالى بين أن الحكمة من ابتلاء أيوب عليه السلام فقال: ((رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)) أي: ليتأسى به أهل البلاء وليكون قدوة لهم في الصبر على البلاء، ولئلا يظنوا أنهم ابتلوا لهوانهم على الله، وليعلموا أن الله إنما ابتلاهم لحكمة بالغة، فهذا أيوب نبي كريم ابتلاه الله، وهو عليه الصلاة والسلام قدوة لكل مبتلى.(97/3)
تفسير سورة الأنبياء [85 - 86]
أعظم صفة يتحلى بها الداعية هي الصبر على البلاء، بدليل أن الله سبحانه عندما يقص علينا قصص أنبيائه يصفهم بالصبر.(98/1)
تفسير قوله تعالى: (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين)
قال الله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:85 - 86].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وقد تقدم ذكرهم في سورة مريم، وكذلك إدريس عليه السلام، وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي.
وقال آخرون: إنما كان رجلاً صالحاً وكان ملكاً عادلاً وحكماً مقسطاً، وتوقف ابن جرير في ذلك، فالله أعلم].
يعني: أنه اختلف في ذو الكفل: هل هو نبي أو رجل صالح؟ فبعضهم يرون أنه نبي، وآخرون يرون أنه رجل صالح، وأنه ملك عادل، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جريج عن مجاهد في قوله: ((وَذَا الْكِفْلِ)) قال: رجل صالح غير نبي، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له، ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك فسمي ذا الكفل، وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضاً.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا داود عن مجاهد قال: لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي، حتى أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس، فقال: من يتقبل مني بثلاث: أستخلفه بصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب؟ قال: فقام رجل تزدريه العين، فقال: أنا.
فقال: أنت تصوم النهار، وتقوم الليل، ولا تغضب؟ قال: نعم، قال: فردهم ذلك اليوم، وقال مثلها في اليوم الآخر، فسكت الناس، وقام ذلك الرجل وقال: أنا.
فاستخلفه، قال: وجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان.
فأعياهم ذلك الرجل، قال: دعوني وإياه، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة].
يعني: أنه كان لا ينام إلا القيلولة فقط؛ لأنه كان يقوم الليل ويصوم النهار فيستريح في القيلولة، فأتاه الشيطان لما أرسل إليه جنوده وعجزوا عنه، وأتى إليه في صورة شيخ في وقت القيلولة؛ ليشغله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فدق الباب، فقال: من هذا؟ قال: شيخ كبير مظلوم.
قال: فقام ففتح الباب، فجعل يقص عليه، فقال: إن بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني، وفعلوا بي وفعلوا.
وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة].
يعني: أنه قص عليه قصة طويلة؛ حتى لا ينام ويصل الليل بالنهار فيتعب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقال: إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك.
فانطلق، وراح.
فكان في مجلسه، فجعل ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره، فقام يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس، وينتظره ولا يراه، فقام يتبعه].
أي: يسير وراءه ويتطلبه، وفي تفسير الطبري: فجعل يبتغيه، وفي الدر المنثور: فقام يبغيه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره ولا يراه، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب، فقال: من هذا؟ قال: الشيخ الكبير المظلوم.
ففتح له، فقال: ألم أقل لك: إذا قعدت فأتني؟ قال: إنهم أخبث قوم، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نحن نعطيك حقك وإذا قمت جحدوني].
يعني: إذا قمت من مجلس القضاء جحدوا، وإذا جلست للقضاء قالوا: نحن نعطيك حقك، وجاء في وقت القيلولة ليضيع عليه وقت القيلولة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: فانطلق، فإذا رحت فأتني.
قال: ففاتته القائلة، فراح فجعل ينتظره ولا يراه، وشق عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق علي النوم.
فلما كان تلك الساعة أتاه فقال له الرجل: وراءك وراءك؟ فقال: إني قد أتيته أمس، فذكرت له أمري، فقال: لا والله! لقد أمرنا ألا ندع أحداً يقربه.
فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت، فتسور منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب من داخل، قال: فاستيقظ الرجل فقال: يا فلان! ألم آمرك؟ فقال: أما من قبلي والله! فلم تؤت، فانظر من أين أتيت؟].
يعني: أما من جهتي فما أوتيت، لكن هذا شيء فوق طاقتي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا الرجل معه في البيت فعرفه، فقال: أعدو الله؟ قال: نعم، أعييتني في كل شيء، ففعلت ما ترى لأغضبك.
فسماه الله ذا الكفل؛ لأنه تكفل بأمر فوفى به.
وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث زهير بن إسحاق عن داود عن مجاهد هو بمثله].
يعني: أنه دخل من أجل أن يغضبه، فإنه عجز عنه من ناحية السهر وبقي الثانية، فتسلق عليه الجدار وأتى حتى يغضب، وهي من الصفات التي أخذها على نفسه، ومنها أنه لا يغضب، فلم يغضب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن مسلم قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان قاضٍ في بني إسرائيل فحضره الموت، فقال: من يقوم مقامي على ألا يغضب.
قال: فقال رجل: أنا.
فسمي ذا الكفل.
قال: فكان ليله جميعاً يصلي، ثم يصبح صائماً فيقضي بين الناس، قال: وله ساعة يقيلها، قال: فكان كذلك، فأتاه الشيطان عند نومته، فقال له أصحابه: ما لك؟ قال: إنسان مسكين، له على رجل حق وقد غلبني عليه.
قالوا: كما أنت حتى يستيقظ، قال: وهو فوق نائم، قال: فجعل يصيح عمداً حتى يوقظه، قال: فسمع، فقال: ما لك؟ قال: إنسان مسكين له على رجل حق.
قال: اذهب فقل له: يعطيك.
قال: قد أبى.
قال: اذهب أنت إليه.
قال: فذهب، ثم جاء من الغد، فقال: ما لك؟ قال: ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأساً.
قال: اذهب إليه فقل له: يعطيك حقك، قال: فذهب، ثم جاء من الغد حين قال، قال: فقال له أصحابه: اخرج، فعل الله بك، تجيء كل يوم حين ينام، لا تدعه ينام، فجعل يصيح: من أجل أني إنسان مسكين، لو كنت غنياً].
يعني: من خبثه جعل يصيح ويقول: لأجل أني فقير تطرودني، ولو كنت غنياً ما طردتموني.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: فسمع أيضاً فقال: ما لك؟ قال: ذهبت إليه فضربني.
قال: امش حتى أجيء معك.
قال: فهو ممسك بيده، فلما رآه ذهب معه نثر يده منه ففر].
لأنه ليس هناك خصومة ولا شيء، ولكن هذه القصة من أخبار بني إسرائيل، وابن عباس رضي الله عنه ينقل عن بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث ومحمد بن قيس وابن حجيرة الأكبر وغيرهم من السلف، نحو هذه القصة، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر أخبرنا سعيد بن بشير حدثنا قتادة عن أبي كنانة القرشي قال: سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر: ما كان ذو الكفل بنبي، ولكن كان -يعني: في بني إسرائيل- رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة، فتكفل له ذو الكفل من بعده، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة، فسمي ذا الكفل.
وقد رواه ابن جرير من حديث عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال أبو موسى الأشعري، فذكره منقطعاً.
والله أعلم].
يعني: أن قتادة لم يدرك أبا موسى الأشعري فيكون منقطعاً.
وأبو كنانة مجهول، والسند الثاني منقطع، ولو صح السند يكون موقوفاً على أبي موسى الأشعري، وهذا من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى الإمام أحمد حديثاً غريباً فقال: حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين -حتى عد سبع مرات-ولكن قد سمعته أكثر من ذلك، قال: (كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته، أرعِدَت وبكت، فقال: ما يبكيك؟ أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حملني عليه الحاجة.
قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط؟ ثم َنزل فقال: اذهبي فالدنانير لك.
ثم قال: والله لا يعصي الله الكفل أبداً.
فمات من ليلته، فأصبح مكتوباً على بابه: قد غفر الله للكفل)، هكذا وقع في هذه الرواية الكفل من غير إضافة، فالله أعلم.
وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وإسناده غريب، وعلى كل تقدير فلفظ الحديث إن كان الكفل، ولم يقل: ذو الكفل، فلعله رجل آخر، والله أعلم].
وهذا الحديث في متنه غرابة، ففيه أن ذا الكفل فعل هذا، مع أن ذا الكفل قرنه الله تعالى بالأنبياء، وهذا ظاهره أنه إما نبي أو رجل صالح، وهذا فيه غرابة؛ لأن فيه أنه كان يعصي وكان لا يتورع من المعاصي، ولا يتورع من ذنب فعله، فهذا الحديث غريب المتن وضعيف السند.
قال المحقق: أخرجه الترمذي من طريق عبيد بن أسباط عن أبيه به، وقال: هذا حديث حسن، وقد رواه شيبان وغير واحد عن الأعمش نحو هذا ورفعه، وروى بعضهم عن الأعمش فلم يرفعه.
يعني: اختلفوا في رفعه كأنه حتى شاهد آخر من شواهده، وهذا السند ضعيف؛ لجهالة كعب مولى طلحة.
وهذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك والترمذي وابن حبان.
وعلى كل حال هذا سنده ضعيف ومتنه غريب، ثم إن تحسين الترمذي إما لأنه متساهل في هذا، فإن(98/2)
تفسير سورة الأنبياء [87 - 91]
في ذكر الله سبحانه لقصص الأنبياء عبرة للمعتبرين، فكل نبي من الأنبياء أسوة وقدوة فيما ميزه الله به، وكل نبي من الأنبياء يعتبر مثالاً يقتدى به ونوراً يضيء طريق المؤمنين في مسيرتهم إلى الله رب العالمين.(99/1)
تفسير قوله تعالى: (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه)
قال الله تعالى: [{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذه القصة مذكورة هاهنا، وفي سورة الصافات، وفي سورة ن، وذلك أن يونس بن متى عليه السلام بعثه الله إلى أهل قرية نينوى، وهي قرية من أرض الموصل].
وأرض الموصل في العراق، يعني: أرسل الله ذا النون إلى أهل نينوى في العراق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فدعاهم إلى الله فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، وجأروا إليه، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالها، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]].
وهذه القرية استثناهم الله فهم مستثنون من العذاب، فإذا تحقق نزول العذاب وجاء العذاب لا تقبل التوبة إلا أهل نينوى استثناهم الله فقال: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:98]، قبل الله توبتهم، قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:84 - 85].
فمن شروط التوبة: أن تكون قبل نزول العذاب، وهنا تحقق نزول العذاب، وأخبرهم نبيهم بذلك، لكن الله استثناهم فقال: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:98]، فإنهم لما تحققوا نزول العذاب وعلموا أن نبيهم لا يكذب خرجوا يجأرون فقبل الله توبتهم، وذا النون عليه الصلاة والسلام ذهب مغاضباً فركب البحر في السفينة، فلما ثقلت السفينة قالوا: لابد أن يلقى منا واحد لكي لا تغرق، فوقع السهم على ذي النون فألقي، وهذا تأديب من الله سبحانه وتعالى لنبيه وامتحان له، ولهذا بعض غلاة نفاة العلو الذين ينفون علو الله على خلقه، ومنهم الجويني امتنع أن يفسر كون يونس بن متى ومحمد في درجة واحدة، حتى أعطي مالاً جزيلاً فقال: إن يونس وهو في لجة البحار ومحمد في القرب سواء من الله، هذا القصد منه إنكار العلو، فتكلم العلماء على هذا وبينوا أنه هناك فرق بين يونس وهو في بطن الحوت ومحمد ليلة المعراج وهو في السبع الطباق فليس قربهم من الله سواء، فالله فوق السموات وفوق العرش، فالقول أنهما في القرب سواء وفي المكانة سواء غير صحيح، ولا شك أن يونس نبي كريم، لكن هناك فرقاً بينه وبين محمد، فمحمد عليه الصلاة والسلام فوق السبع الطباق مكرم مبجل معظم، وذا النون في قعر البحار مؤدب ممتحن، فلا مساواة بينهما، ولكن مع ذلك فيونس نبي كريم فلا ينبغي لإنسان أن يتنقصه.
ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)، وذلك في الصحيح.
وفي لفظ آخر: (لا يقول الناس أنا خير من يونس بن متى، ومن قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب) يعني: هذا لا يمكن أن يقوله نبي، وإذا قاله إنسان فهو كافر؛ لأنه لا يمكن أن يكون خيراً من نبي، ولا يمكن أن يقول نبي من الأنبياء: أنا خير من يونس بن متى، وغير النبي إذا قال: أنا خير من يونس بن متى فهو كذاب؛ لأن يونس خير منه، وذلك أنه قد يتوهم بعض الناس أن يونس لما ألقي في البحر أن درجته ناقصة وأنه أكمل من يونس، فإذا توهم هذا التوهم فهو كاذب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم سفينة فلججت بهم، وخافوا أن تغرق بهم، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس عليه السلام، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً فأبوا، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضاً، قال الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] أي: وقعت عليه القرعة، فقام يونس عليه السلام وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله سبحانه وتعالى من البحر الأخضر، فيما قاله ابن مسعود رضي الله عنه حوتاً يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا يأكل له لحماً، ولا يهشم له عظماً، فإن يونس ليس لك رزقاً وإنما بطنك تكون له سجناً].
وهذا من حكمة الله البالغة، فيونس عليه السلام أخبر الله عنه فقال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء:87] يعني: غضب عليهم ولم يصفح عليه الصلاة والسلام، وهو نبي كريم، لكن كما قال الله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، وهو ذا النون، صاحب الحوت ما صبر، ويخاطب نبيه قائلاً: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، فلما دعاهم يونس ردوا عليه دعوته وكذبوه فغضب عليهم وقال: أنا ذاهب والعذاب سيأتيكم بعد ثلاثة أيام فذهب وتركهم وركب السفينة، فلججت بهم السفينة فقالوا: لابد أن يلقى واحد منا يخفف الحمل؛ لئلا تغرق السفينة، وكون واحد يلقى ويهلك أحسن من أن تهلك السفينة بمن فيها، فلجئوا إلى القرعة، فوقعت على يونس، فقالوا: لا يمكن أن يلقى هذا الرجل الصالح، نعيد القرعة مرة أخرى، ثم أعادوا فوقعت عليه القرعة مرة ثانية، فقالوا: نعيدها، فأعادوها في المرة الثالثة فوقعت عليه، فلما رأى ذلك تجرد من ثيابه وألقى نفسه في البحر، فقالوا: لعله عبد أبق من سيده، فأرسل الله الحوت وابتلعه فما هشم له عظماً، ولا أصابه بأسنانه بلعه فنزل من فمه إلى بطنه في الحال، فصار سجناً فيه تأديب له، والأنبياء لهم مكانة عند الله، فجعل يسبح في بطن الحوت، قال الله تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144]، ثم بعد ذلك أنبت الله له شجرة من يقطين على الساحل، فلفظه الحوت إليها، وهذه الشجرة من حكمة الله أنها لا يقع عليها شيء من النواميس والحشرات؛ لأنه حين مكث هذه المدة في بطنه أصبح جلده رقيقاً جداً يؤثر عليه أي شيء حتى الريح، فلو وقعت عليه حشرة لجرحته؛ لأنه أصبح لين الجسم بسبب المدة التي مكثها في بطن الحوت، فأنبت الله هذه الشجرة كي لا يقع عليه شيء من الدواب حتى يتعود ويتقوى جسمه وجلده ويصلب ويأتيه الهواء شيئاً فشيئاً، ثم بعد ذلك أمره الله أن يرجع إلى قومه؛ لأنهم أسفوا عليه، وتمنوا رجوعه، فلما رجع إليهم آمنوا كلهم وكانوا كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:147 - 148].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَذَا النُّونِ} [الأنبياء:87] يعني: الحوت، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة].
ذا النون صاحب الحوت، وسمي صاحب الحوت؛ لأنه سقط في بطنه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء:87]، قال الضحاك لقومه: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ} [الأنبياء:87]].
قال الضحاك معنى قوله: {مُغَاضِبًا} [الأنبياء:87] أي: مغاضباً لقومه ليس مغاضباً لله، فالقوم غضب عليهم لما ردوا دعوته فتركهم وركب البحر، قال الضحاك تفسيراً لقوله: {مُغَاضِبًا} [الأنبياء:87] أي: مغاضباً لقومه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] أي: نضيق عليه في بطن الحوت يروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم، واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7]].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عطية العوفي: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] أي: نقضي عليه، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير فإن العرب تقول: قدر وقدر بمعنى واحد وقال الشاعر: فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يكن فلك الأمر].
ما تقدر يعني: ما تقضي، {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]، قال عطية العوفي: أن نقضي عليه.
كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير، فإن العرب تجعل قدَر وقدَّر بمعنى واحد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنه قوله تعالى: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12] أي: قدر] والأقرب المعنى الأول: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] أي: أن لن نضيق عليه، في بطن الحوت، وهذا ما جاء في الآية، {وَأَمَّا إِذَا مَا ا(99/2)
تفسير قوله تعالى: (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً)
قال الله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:89 - 90].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن عبده زكريا حين طلب أن يهبه الله ولداً يكون من بعده نبياً، وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم، وفي سورة آل عمران أيضاً، وههنا أخصر منها: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء:89] أي: خفية عن قومه، {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا} [الأنبياء:89] أي: لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في الناس، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] دعاء وثناء مناسب للمسألة، قال الله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90] أي: امرأته.
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: كانت عاقراً لا تلد فولدت، وقال عبد الرحمن بن مهدي عن طلحة بن عمرو عن عطاء: كان في لسانها طول فأصلحها الله، وفي رواية: كان في خلقها شيء فأصلحها الله، وهكذا قال محمد بن كعب والسدي، والأظهر من السياق الأول].
يعني: يظهر من السياق أنها كانت عقيماً لا تلد فأصلحها الله فصارت تلد؛ لأن هذا هو المناسب للسياق، وقيل: إنه كان فيها عيب في لسانها فأصلحها الله، وهذا الدعاء ينبغي للمسلم أن يدعو به ربه، وألا ييأس؛ لأن الدعاء عبادة، والله تعالى يحب الملحين في الدعاء، قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وقال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، والأنبياء قدوة الناس في هذا فيدعون ربهم، فزكريا دعا ربه خفية، والدعاء خفية أفضل، وإذا دعت الحاجة إلى الإعلان فلا بأس، فقوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89]، هذا ختام مناسب فهو سبحانه خير الوارثين، وهو سبحانه وتعالى يرث الأرض ومن عليها، فزكريا عليه الصلاة والسلام دعا ربه بألا يتركه فرداً ليس له ولد يرثه في العلم والنبوة ودعوة الناس، ثم ختم هذا الباب بقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] وهذا توسل إلى الله، فهو يقول: فأنت يا ألله خير الوارثين ارزقني ولداً يرثني.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90] أي: في عمل القربات وفعل الطاعات، {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] قال الثوري: رغباً فيما عندنا، ورهباً مما عندنا.
{وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي: مصدقين بما أنزل الله، وقال مجاهد: مؤمنين حقاً، وقال أبو العالية: خائفين، وقال أبو سنان: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب لا يفارقه أبداً وعن مجاهد أيضاً: {خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] أي: متواضعين، وقال الحسن وقتادة والضحاك: {خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] أي: متذللين لله عز وجل، وكل هذه الأقوال متقاربة].
نعم، كلها متقاربة خاشعين أي: متذللين، خاضعين لله، خائفين الخوف الملازم للقلب، وكلها متقاربة، وفي هذه الآية بيان فضل الخوف والرجاء، وأنهما من أنواع العبادة العظيمة، وخوف الله ورجاؤه من أجل القربات وأفضل الطاعات، ولهذا وصف الله الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام بالرغب والرهب فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، رغباً: الطمع والرجاء، ورهباً: الخوف والخشية، وفيه رد على الصوفية الذين يقولون: لا حاجة إلى الدعاء، ولا حاجة إلى الخوف والرجاء، ويزعم أحدهم أنه يتعبد لله محبة لذاته لا خوفاً ولا طمعاً ولا رغبة ولا رهبة، فهذا من أبطل الباطل، وهذه زندقة،؛ لأن من عبد الله بالحب وحده فقد تزندق، لابد في العبادة من الحب والخوف والرجاء، ومن ذلك ما يذكر في كتب الوعظ أن رابعة العدوية قالت: ما عبدت الله خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، فأكون كأجير السوء، ولكن عبدته حباً لذاته والشوق إليه، فهذا من أبطل الباطل، العبادة لا تكون إلا بثلاثة أركان: المحبة والخوف والرجاء، فمن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، وهذه طريقة الصوفية، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري من الخوارج، وهذه طريقة الخوارج، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو من المرجئة، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، كيف يقول الصوفية: إنا لا نعبده خوفاً وطمعاً، وإنما نعبده حباً لذاته، والله تعالى وصف أنبياءه الكرام بالرغبة والرهبة وهو الخوف والطمع، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]؟ فبعد أن ذكر الأنبياء عليهم السلام ومنهم: موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وزكريا قال بعد ذلك: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90].
وقال عن عباده المتقين: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]، وقال سبحانه في وصف عباده: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، فكيف يقول الصوفية بعد هذا لا حاجة إلى الخوف والرجاء وإنا نعبد الله حباً لذاته؟! والله تعالى ذكر أقسام العبادة في الفاتحة فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] هذه المحبة، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] فيها صفات الرجاء، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فيها صفات الخوف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا محمد بن فضيل حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الله القرشي عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه ثم قال: أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله، وتثنوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]].(99/3)
تفسير قوله تعالى: (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا)
قال الله تعالى: [{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليه السلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام فيذكر أولاً: قصة زكريا ثم يتبعها بقصة مريم؛ لأن تلك موطئة لهذه، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن ومن امرأة عجوز عاقر لم تلد في حال شبابها، ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر، وهكذا وقع في سورة آل عمران وفي سورة مريم، وههنا ذكر قصة زكريا ثم أتبعها بقصة مريم بقوله: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء:91] يعني: مريم عليها السلام كما قال في سورة التحريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم:12].
وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91] أي: دلالة على أن الله على كل شيء قدير، وأنه يخلق ما يشاء وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وهذا كقوله: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم:21].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمر بن علي حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن شبيب -يعني: ابن بشر - عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91] قال: العالمين الجن والإنس {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]].
وهذا من آيات الله العظيمة الدالة على عظيم قدرته، وأنه سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فهو سبحانه وتعالى خلق عيسى من أنثى بلا ذكر، فتمت بذلك القسمة الرباعية، فالله سبحانه وتعالى خلق آدم بلا ذكر ولا أثنى، خلقه من طين، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى فخلقها من ضلع آدم، وخلق سائر الناس من ذكر وأنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، فتمت بذلك القسمة الرباعية، والله سبحانه وتعالى ذكر قبل هذه القصة قصة أسهل منها توطئة لها، وهي قصة زكريا وامرأته، فإن زكريا عليه الصلاة والسلام كان عقيماً لا يولد له، ومضت السنون في شبابه ولم يولد له، وكذلك امرأته كانت عاقراً لا تلد ومضى شبابها فلما كانا في زمن الكبر رزقهم الله الولد.
ثم ذكر الله بعد ذلك قصة وهي أعجب منها، فذكر القصة الأولى؛ لأنها أسهل وأخف على النفوس، ثم ذكر قصة أعظم وأشد، وهي: إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر، والله على كل شيء قدير، والمؤمن مصدق لأخبار الله ليس عنده ارتياب ولا شك، هكذا شأن المؤمن، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، قال سبحانه: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57].
فالذي خلق آدم وأوجده من تراب قادر على أن يوجد ذكراً مولوداً من أنثى بلا ذكر.(99/4)
تفسير سورة الأنبياء [92 - 97]
خلق الله الحياة الدنيا للاختبار والامتحان، وأخبر سبحانه أن هناك يوماً سيأتي على الدنيا ويجعلها حصيداً كأن لم تغن بالأمس، ولم يخبر سبحانه متى سيكون هذا اليوم بل جعل له علامات وإشارات منها خروج يأجوج ومأجوج.(100/1)
تفسير قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)
قال الله تعالى: [{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:92 - 94].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، يقول: دينكم دين واحد.
وقال الحسن البصري: في هذه الآية بين لهم ما يتقون وما يأتون ثم قال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] أي: سنتكم سنة واحدة، فقوله: إن هذه، إن واسمها، و (أمتكم): خبر إن، أي: هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم، وقوله: (أمة واحدة) نصب على الحال، ولهذا قال: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، كما قال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51] إلى قوله: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد) يعني: أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]].
وأولاد العلات: هم الإخوة من الأب، (ديننا واحد وأمهاتنا شتى) الأب واحد، والأمهات متعددة، وهذا مثل الشرائع من الأوامر والنواهي والحلال والحرام فتختلف من شريعة إلى أخرى، أما الدين فواحد وهو توحيد الله، وكل الأنبياء بعثهم الله بالتوحيد فدينهم واحد، وكل الأنبياء يدعون إلى أصول الدين: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وكل الأنبياء بعثوا بالتوحيد فأمرهم الله بتوحيده ونهاهم عن الشرك، وأمر الناس بطاعة الأنبياء وتعظيم الأوامر، فالدين واحد لكن الشرائع مختلفة، فمثلاً في شريعة يعقوب يجوز الجمع بين الأختين، وفي شريعة التوراة يجب القصاص، وفي شريعة الإنجيل يجب العفو، وفي شريعتنا التي هي أكمل الشرائع يخير بين القصاص والدية والعفو، كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48].
فهؤلاء الإخوة من الأب يقال لهم إخوة علات، ولهذا قال: (أولاد علات، ديننا واحد، وأمهاتنا شتى) يعني: الشرائع، وأما الإخوة من الأم فيقال لهم: الأخيار، والأشقاء يقال لهم: أعيان، والإخوة من الأب أولاد علات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء:93] أي: اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب، ولهذا قال: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء:93] أي: يوم القيامة، فيجازي كل بحسب عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ولهذا قال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الأنبياء:94] أي: قلبه مصدق وعمل عملاً صالحاً {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء:94] كقوله: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] أي: لا يكفر سعيه وهو عمله، بل يشكر فلا يظلم مثقال ذرة، ولهذا قال: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94] أي: يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شيء].(100/2)
تفسير قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون)
قال الله تعالى: [{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ * حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:95 - 97].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء:95] قال ابن عباس: وجب.
يعني: قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة، هكذا صرح به ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد، وفي رواية عن ابن عباس: أنهم لا يرجعون أي: لا يتوبون، والقول الأول أظهر والله أعلم].(100/3)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [الأنبياء:96] قد قدمنا أنهم من سلالة آدم عليه السلام بل هم من نسل نوح أيضاً من أولاد يافث أبي الترك، والترك شرذمة منهم تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين].
هذا هو الصواب، أن يأجوج ومأجوج من بني آدم، فهما أمتان: أمة يقال لها يأجوج، والأمة الثانية يقال لها مأجوج، من الأجيج واللغط وكثرة الأخطاء، أمتان كافرتان وهما من أولاد يافث بن نوح، وأما ما جاء في الآثار أن آدم احتلم فاختلط منيه بالتراب فخلق الله منه يأجوج ومأجوج هذا لا يصح.
فذو القرنين بنى السد بينهم وبين الناس، فمن كان خارج السد سموا الترك؛ لأنهم تركوا خارج السد، وذلك لأن ذا القرنين طاف المشارق والمغارب -وهو ملك عادل صالح- ولما مر بهم طلبوا منه أن يبني سداً بينهم وبين يأجوج ومأجوج؛ لأنهم أفسدوا في الأرض، قال تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94] فبنى السد وترك أناساً سموا الترك؛ لأنهم تركوا خارج السد، وسيخرجون في آخر الزمان، وخروجهم يكون من أشراط الساعة الكبار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف:98 - 99] الآية، وقال في هذه الآية الكريمة: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96] أي: يسرعون في المشي إلى الفساد، والحدب: هو المرتفع من الأرض، قاله ابن عباس وعكرمة وأبو صالح والثوري وغيرهم، وهذه صفتهم في حال خروجهم].
يخرجون من كل حدب أي: من كل مرتفع، ينسلون: يسرعون من أجل الفساد، فهم طبعوا على الفساد والعياذ بالله، ولهذا لما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى ينادي يوم القيامة يقول: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك فيقول: أخرج بعث النار، فيقول: يا رب من كم؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فشق ذلك على الصحابة، فقال: أبشروا فإن منكم واحد ومن يأجوج ومأجوج ألف).
فهماً أمتان كافرتان عددهم كثير، إذا خرجوا فهذا وصفهم: من كل حدب ينسلون أي: من كل مرتفع يسرعون بالمشي لأجل الفساد، ولهذا يتحصن منهم عيسى عليه الصلاة والسلام -لأنهم سيخرجون في زمن عيسى بعدما ينزل- فيوحي الله إليه: أن حرز عبادي إلى الطور، فيتحصنون بجبل الطور، ثم يدعون عليهم فيهلكهم الله في ليلة واحدة؛ فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ويكونون كالتلال بعضهم فوق بعض، ثم يأمر الله طيراً فتأتي تأخذهم وتلقيهم في البحر، ثم ينزل الله مطراً ليغسل الأرض، وهذا من حكمة الله؛ لأنهم لو بقوا لأنتنت الأرض وهلك الناس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه صفة في حال خروجهم كأن السامع مشاهد لذلك: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، هذا إخبار عالم ما كان وما يكون، الذي يعلم غيب السموات والأرض لا إله إلا هو.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن مثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عبيد الله بن يزيد قال: رأى ابن عباس صبياناً ينزو بعضهم على بعض يلعبون، فقال ابن عباس: هكذا يخرج يأجوج ومأجوج، وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنة النبوية.
فالحديث الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون كما قال الله عز وجل: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96]، فيغشون الناس، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم، ويشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابساً، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول: قد كان ههنا ماء مرة، حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة قال قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء قال: ثم يهز أحدهم حربته، ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة، فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل دوداً في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه، فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس، فيقول المسلمون: ألا رجل يشري نفسه فينظر ما فعل هذا العدو؟ قال: فيتجرد رجل منهم محتسباً نفسه قد أوطنها على أنه مقتول، فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي: يا معشر المسلمين! ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم؛ فيخرجون من مدائنهم وحصونهم يسرحون مواشيهم فما يكون لهم رعي إلا لحومهم فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط) رواه ابن ماجة من حديث يونس بن بكير عن ابن إسحاق به].
الحديث صححه الألباني، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، بعضه في مسلم، وقال البكيري: في زوائد هذا إسناده صحيح، رجاله ثقات.
وبعضه له شواهد عند مسلم فكونهم يشربون الماء ثم يقولون لقد كان ههنا ماء، هذا جاء في مسلم، أيضاً كونهم يرسلون حربتهم فترجع مخضبة بالدماء هذا في مسلم، وكذلك قوله: فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، وأما كونه ترعى المواشي لحومهم هذا فيه نظر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الحديث الثاني: قال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص حدثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي قال: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فلما روحنا إليه عرف ذلك في وجوهنا فسألناه فقلنا: يا رسول الله! ذكرت الدجال الغداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال: غير الدجال أخوفني عليكم، فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب جعد قطط عينه طافية، وإنه يخرج خلة بين الشام والعراق)].
هنا ذكر عينه طافية، وفي اللفظ الآخر: عينه اليمنى طافية، وفي اللفظ الآخر: (مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن)، وفي لفظ: (ك ف ر يقرؤه كل مؤمن)، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه إلى عباده أن جعل لهم علامة، وبين النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال بياناً شافياً حتى يحذره المؤمنون، وهو خارج من الخلة يعني: وسط بين الشام والعراق من جهة الشرق، كذلك فتن كثيرة تأتي من جهة الشرق فالجهمية والمبتدعة، والدجال كلهم يخرجون من جهة الشرق بين الشام والعراق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(وإنه يخرج خلة بين الشام والعراق فعاث يميناً وشمالاً يا عباد الله! اثبتوا، قلنا: يا رسول الله! ما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، يوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: يا رسول الله! فذاك اليوم الذي هو كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: لا اقدروا له قدره، قلنا: يا رسول الله! فما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح قال: فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذرى وأمده خواصر، وأسبغه ضروعاً، ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قوله؛ فتتبعه أموالهم فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم شيء)].
وهذا من الابتلاء والامتحان، وقد سمي الدجال؛ لأن فيه صفة مبالغة من الدجل والكذب، وهو الدجال الأخرص، يدعي أولاً الصلاح، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية والعياذ بالله! وأعطاه الله هذه الخوارق العظيمة، بأن يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، ويأتي إلى القوم فيدعوهم؛ فمن استجاب له كثر ماله وسرحتهم من الإبل والغنم ترجع وقد امتلأت ضروعها باللبن، ويأتي القوم فيردون عليه دعوته فيصبحون ممحلين ابتلاءً وامتحاناً، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك؛ فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، قال: ويأمر برجل فيقتل فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض)].
وهذا كله من الابتلاء والامتحان، حيث إنه يأمر بالخربة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ويقطع الرجل نصفين ويمشي بين القطعتين ثم يقول له: قم فيستوي قائماً ولا يسلط إلا عليه، فيقول له: هل عرفت الآن؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة كما جاء في الحديث الآخر، قال النبي: (فذلك أعظم الناس ثابتاً عند رب العالمين)، يسلط على هذا الإنسان ولا يسلط على غيره، وهذا ابتلاء وامتحان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(ثم يدعوه فيقبل إليه يتهلل وجهه فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعاً يديه على أجنحة ملكين فيتبعه فيدركه فيقتله عند باب لد الشرقي)].
هذا في الشام وكان اسمه: باب لد فيدركه فيقتله، فمسيح الهدى يقتل مسيح الضلالة، إذا خرج الد(100/4)
خبر يأجوج ومأجوج وإفسادهم في الأرض
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن جرير هاهنا من حديث جبلة به، والأحاديث في هذا كثيرة جداً، والآثار عن السلف كذلك، وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معمر عن غير واحد عن حميد بن هلال عن أبي الصيف قال: قال كعب].
وفي نسخة أبو الضيف.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: قال كعب رضي الله عنه: إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج، حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فئوسهم، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول: نجيء غداً فنخرج، فيعيده الله كما كان.
فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان، فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فئوسهم، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول: نجيء غداً فنخرج إن شاء الله، فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه، فيحفرون حتى يخرجوا، فتمر الزمرة الأولى بالبحيرة، فيشربون ماءها].
الزمرة الأولى بمعنى: الجماعة الأولى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم تمر الزمرة الثانية فيلحسون طينها، ثم تمر الزمرة الثالثة فيقولون: قد كان هاهنا مرة ماء، فيفر الناس].
أي: يبست البحيرة فالأولى: شربت الماء والثانية: لحسوا الطين، والثالثة: ما وجدت الماء فقالت: قد كانت مليئة يوماً بالماء.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيفر الناس منهم، فلا يقوم لهم شيء.
ثم يرمون بسهامهم إلى السماء فترجع إليهم مخضبة بالدماء].
وهذا ابتلاء وامتحان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيقولون: غلبنا أهل الأرض وأهل السماء، فيدعو عليهم عيسى ابن مريم عليه السلام، فيقول: اللهم لا طاقة ولا يد لنا بهم، فاكفناهم بما شئت، فيسلط الله عليهم دوداً يقال له: النغف فيفرس رقابهم].
وفي نسخة: فيفرش.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويبعث الله عليهم طيراً تأخذهم بمناقيرها فتلقيهم في البحر، ويبعث الله عيناً يقال لها: الحياة يطهر الله الأرض وينبتها، حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن].
المقصود بالسكن ساكن البيت.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن.
قيل: وما السكن يا كعب؟ قال: أهل البيت قال: فبينما الناس كذلك إذ أتاهم الصريخ أن السويقتين يريده].
والمراد بأتاهم الصريخ أي: المنذر، المحذر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: فيبعث عيسى بن مريم طليعة سبعمائة، أو بين السبعمائة والثمانمائة، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله ريحاً يمانية طيبة، فيقبض فيها روح كل مؤمن، ثم يبقى عجاج الناس، فيتسافدون كما تتسافد البهائم].
يتسافدون المقصود به النكاح، فيتناكحون في الشوارع كالبهائم لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً نعوذ بالله، وهذا من كعب الأحبار والبعض جعله من الأحاديث الصحيحة، وهو من كلام كعب لكن له شواهد منها في صحيح مسلم وغيره.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيتسافدون كما تتسافد البهائم فمثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه متى تضع قال كعب: فمن قال بعد قولي هذا شيئاً أو بعد علمي هذا شيئاً فهو المتكلف].
ومعنى قول كعب أي: من زاد شيئاً لم أقله فهو متكلف، إذ لم يرد علم به.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا من أحسن سياقات كعب الأحبار لما شهد له من صحيح الأخبار].
وصدق رحمه الله فهذا من أحسن ما روى كعب الأحبار لأن له شواهد في الأحاديث الصحيحة في مسلم وفي غيره، فإن كعب الأحبار رحمه الله من بني إسرائيل الذين أسلموا من التابعين ويروي الغث والسمين، لكن هذا من أحسن سياقاته.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد ثبت في الحديث أن عيسى بن مريم يحج البيت العتيق].
بعد نزول عيسى عليه الصلاة والسلام يحج الناس البيت؛ لأن الدجال وعيسى من علامات الساعة الكبرى وهي المتقدمة ويعقبها الأشراط المتأخرة كطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة والنار وهذه آخرها، وقد ترتب على هذا النحو، أولها: المهدي، ثم خروج الدجال، ثم نزول عيسى بن مريم، ثم خروج يأجوج ومأجوج، فهذه أربع متوالية وهي أول الأشراط، ثم هناك بقية الأشراط العشرة، فعيسى عليه الصلاة والسلام من أشراط الساعة المتقدمة الكبرى، ولهذا يحج عيسى بالناس آمنين ويؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقام هذا الدين، فيحج الناس ويصلون ويصومون ثم بعد ذلك تأتي أشراط الساعة الأخرى كهدم الكعبة ونزع القرآن من الصدور والدخان، وطلوع الشمس من مغربها والدابة، وآخرها النار التي تخرج من قعر عدن.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود قال: حدثنا عمران عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليحجن هذا البيت، وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج)، انفرد بإخراجه البخاري.
وقوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء:97] يعني: يوم القيامة، إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلابل، أزفت الساعة واقتربت، فإذا كانت ووقعت قال الكافرون: {هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] ولهذا قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:97] أي: من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام: {يَا وَيْلَنَا} [الأنبياء:97] أي: يقولون: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء:97] أي: في الدنيا {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:97]، يعترفون بظلمهم لأنفسهم حيث لا ينفعهم ذلك].
وكذلك في النار يعترفون، قال الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10 - 11] لأن الأوان قد فات نسأل الله السلامة والعافية.
وأن يرزقنا الاستقامة واليقظة والإعتبار، وأن يعيذنا من الغفلة والإعراض، وأن يثبتنا على دينه القويم.
وقد يسأل سائل فيقول: كيف نوفق بين قول الله تعالى: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] وبين أنه: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله)؟ والحقيقة أنه لا منافاة بينهما فالأرض يرثها عباد الله الصالحون، حتى ينتهي عباد الله الصالحون بالموت بالريح التي تقبضهم، ثم بعد ذلك تقوم الساعة على شرار الخلق، كما أنهم إنما يرثون الأرض قبل آخر الزمان، وقبل أشراط الساعة الكبرى، ومما يدل على ذلك أن عيسى ومن معه من المؤمنين ورثوا الأرض، فصار الباقين حتى جاءت الريح الطيبة، وقبضتهم وانتهت الأرض، وانتهوا منها ولم يبق في الأرض أحد منهم فتقوم الساعة، أما ما دام في الأرض مؤمنون وكفار فالعاقبة للمتقين، وإذا قبضت أرواح المؤمنين بقي الكفرة فقامت عليهم القيامة، وهنا يعلم أن لا منافاة، والله أعلم.(100/5)
تفسير سورة الأنبياء [98 - 104]
رحمة الله واسعة، لكن عذابه أليم شديد، يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وكذلك أملى لمن ظلموا أنفسهم وعبدوا غيره حتى أدخلهم النار مع من كانوا يعبدونهم من الأوثان والطواغيت.
وفي المقابل فقد أدخل من لم يشرك به شيئاً جنة عرضها السماوات والأرض وأمنه من الفزع الأكبر.(101/1)
تفسير قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم)
قال الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:98 - 103].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخاطباً لأهل مكة من مشركي قريش، ومن دان بدينهم من عبدة الأوثان:: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، قال ابن عباس: أي: وقودها، يعني: كقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة} [التحريم:6].
وقال ابن عباس أيضاً: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] يعني: شجر جهنم.
وفي رواية قال: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] يعني: حطب جهنم بالزنجية، وقال مجاهد وعكرمة وقتادة: حطبها.
وهي كذلك في قراءة علي وعائشة رضي الله عنهما].
يريد أن في قراءة علي وعائشة (إنكم وما تعبدون من دون الله حطب جهنم)، وإذا لم تكن سبعية كانت شاذة يستفاد منها في التفسير، ومثل ذلك ما وجد في بعض مصحف عائشة: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر) يحمل على أنه تفسير، فقوله تعالى: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] معناه: حطب جهنم.
والمعنى: أن الكفار يدخلون النار مع من عبدوهم زيادة في التنكيل بهم، فالأصنام والأوثان التي تعبد تكون مع أهلها في النار، والشمس والقمر يكوران يوم القيامة ويجعلان في النار مع من عبدهم إلا المؤمنين والأنبياء والملائكة الذين لم يرضوا بالعبادة فهم مستثنون كما سيأتي في الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] فعيسى عليه السلام عُبد، ولكنه لم يرض وكذلك الملائكة لم يرضوا بعبادتهم فهؤلاء مستثنون في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].
أما الكفار الذين يرضون بعبادة المعبودين فهم معهم؛ لأنهم كفرة مثلهم، وكذلك الجمادات تكون مع من عبدوها في النار.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الضحاك: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] أي: ما يرمى به فيها، وكذا قال غيره.
والجميع قريب.
وقوله: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] أي: داخلون.
{لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء:99] يعني: لو كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون الله آلهةً صحيحة لما وردوا النار وما دخلوها، {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:99] أي: العابدون ومعبوداتهم، كلهم فيها خالدون].
{لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء:99] لو كان هؤلاء المعبودون من دون الله آلهة معبودين بحق لما دخلوا النار، فلما كانوا آلهة في الباطل دخلوا النار مع من عبدوهم من دون الله؛ ولهذا قال سبحانه: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:99] كل من العابدين والمعبودين مخلدون في النار.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} [هود:106] كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106]، والزفير: خروج أنفاسهم، والشهيق: ولوج أنفاسهم {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100]].
الزفير: خروج النفس، والشهيق: دخول النفس فللنفس دخول وخروج؛ وذلك من شدة الألم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن فضيل حدثنا عبد الرحمن -يعني المسعودي - عن أبيه قال: قال ابن مسعود: إذا بقي من يخلد في النار، جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار، فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره].
فمن شدة ما يجد من العذاب يرى أنه لا يعذب أحد مثل عذابه، وفي الحديث: (إن أهون أهل النار عذاباً لرجل في أخمصيه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه).
وفي لفظ: (إن أهون أهل النار لرجل له شراكان من نار يغلي منهما دماغه، وإنه ليظن أنه أشد أهل النار عذاباً من شدة ما يجد) وإنه لأهونهم وأسهلهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم تلا عبد الله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100] ورواه ابن جرير من حديث حجاج بن محمد عن المسعودي عن يونس بن حبان عن ابن مسعود فذكره].
المسعودي فيه ضعف.
أما يونس فلعله يونس بن خباب، لا ابن حبان.(101/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى)
يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101] قال عكرمة: الرحمة.
وقال غيره: السعادة، {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله، عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسوله، وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة، وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26].
وقال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله مآبهم وثوابهم، ونجاهم من العذاب وحصل لهم جزيل الثواب، فقال: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:101 - 102] أي: حريقها في الأجساد.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا محمد بن عمار قال: حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة عن أبيه عن الجريري عن أبي عثمان: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102] قال: حيات على الصراط تلسعهم، فإذا لسعتهم قال: حس.
حس.
وقوله: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:102] فسلمهم من المحذور والمرهوب، وحصل لهم المطلوب والمحبوب.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي شريح حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني].
ليس ابن أبي شريح بل شريج بالجيم، أما الهمداني فبالدال المهملة؛ لأنه نسبة إلى قبيلة همدان، أما بالذال -همذاني- وبفتح الميم فنسبة إلى بلدة في الشرق، في إيران.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن ليث بن أسليم عن ابن عم النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال: وسمر مع علي ذات ليلة فقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] قال: أنا منهم، وعمر منهم، وعثمان منهم، والزبير منهم، وطلحة منهم، وعبد الرحمن منهم، أو قال: سعد منهم، قال: وأقيمت الصلاة، فقام وأظنه يجر ثوبه وهو يقول: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102]].
والحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف لكن معناه صحيح، فلا شك أن من الذين سبقت لهم منه الحسنى علياً وكذا الزبير وطلحة فهم من المبشرين بالجنة رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال شعبة عن أبي بشر عن يوسف المكي عن محمد بن حاطب قال: سمعت علياً يقول في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101] قال: عثمان وأصحابه].
فـ عثمان وأصحابه كلهم داخلين في هذا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن أبي حاتم ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد وليس بـ ابن ماهك عن محمد بن حاطب عن علي فذكره ولفظه: عثمان منهم.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مراً هو أسرع من البرق، ويبقى الكفار فيها جثياً فهذا مطابق لما ذكرناه.
وقال آخرون: بل نزلت استثناء من المعبودين وخرج منهم عزير والمسيح كما قال حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وعثمان عن عطاء عن ابن عباس: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] ثم استثنى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101] فيقال: هم الملائكة، وعيسى ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل، وكذا قال عكرمة والحسن وابن جريج.
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101] قال: نزلت في عيسى بن مريم وعزير عليهما السلام].
وعلى هذا يكون في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] قولان لأهل العلم: القول الأول: أن الآية مطلقة وليست مقيدة بالآية السابقة، والمعنى أن الله أخبر أن الذي سبقت لهم من الله السعادة مبعدون عن النار لا يدخلونها ولا يسمعون حسيسها.
والقول الثاني: أنها مستثناة من المعبودين في قوله عز وجل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] ثم استثنى سبحانه وتعالى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101] فلا يدخلون النار فالعابد والمعبود في النار جميعاً إلا من سبقت لهم من الله الحسنى: كالملائكة، والمسيح وعزير، فإن هؤلاء سبقت لهم من الله الحسنى ولم يرضوا بعبادة من عبدهم من دون الله فهم مستثنون.
أما ما عداهم من المعبودات فهي مع من عبدها، فالشمس والقمر يكوران ويلقيان في النار مع من عبدهما، والأصنام والأوثان كلها مع من عبدها، فلا يستثنى إلا من سبقت لهم من الله الحسنى من الملائكة والأنبياء والصالحين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا الحسين بن عيسى بن ميسرة حدثنا أبو زهير حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ عن علي في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101] قال: كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا الشمس والقمر وعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.
إسناده ضعيف].
وهذا ضعيف؛ لأن الشمس والقمر كما جاء في الحديث يكوران ويلقيان في النار.
أما سعد بن طريف فهو سعد بن طريف الإسكافي الحنظلي الكوفي متروك، ورماه ابن حبان بالوضع وكان رافضياً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، قال: عيسى، وعزير، والملائكة.
وقال الضحاك: عيسى، ومريم، والملائكة، والشمس، والقمر.
وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي صالح وغير واحد.
وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثًا غريباً جداً فقال: حدثنا الفضل بن يعقوب الرخامي].
حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك حدثنا الليث بن أبي سليم عن مغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] قال: عيسى وعزير والملائكة.
وذكر بعضهم قصة ابن الزبعري ومناظرة المشركين].
والحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف لكن هؤلاء لا شك أنهم مستثنون: عيسى والملائكة وعزير، أما قصة ابن الزبعري فقد تكلم عنها المصنف رحمه الله فقال: [قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن سهل حدثنا محمد بن حسن الأنماطي حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة حدثنا يزيد بن أبي حكيم حدثنا الحكم يعني: ابن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: (جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، فقال ابن الزبعري: قد عبدت الشمس والقمر والملائكة، وعزير وعيسى بن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا؟ فنزلت: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:57 - 58].
ثم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]) رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه الأحاديث المختارة].
أما الأحاديث المختارة فهي جيدة يقول شيخ الإسلام: إنها أجود من أحاديث الحاكم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا(101/3)
تفسير قوله تعالى: (لا يحزنهم الفزع الأكبر)
قال الله تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء:103].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قيل: المراد بذلك: الموت.
رواه عبد الرزاق عن يحيى بن ربيعة عن عطاء.
وقيل: المراد بالفزع الأكبر: النفخة في الصور.
قاله العوفي عن ابن عباس وأبو سنان سعيد بن سنان الشيباني، واختاره ابن جرير في تفسيره.
وقيل: حين يؤمر بالعبد إلى النار.
قاله الحسن البصري.
وقيل: حين تطبق النار على أهلها.
قاله سعيد بن جبير وابن جريج.
وقيل: حين يذبح الموت بين الجنة والنار.
قاله أبو بكر الهذلي فيما رواه ابن أبي حاتم عنه].
وكل هذه أقوال لا شك أنها قد تشملها كلها، {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء:103] فجميع هذه المواقف كلها حق، إما عند الموت كما قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت:30] وكذلك في المواضع الأخرى فهم مأمنون.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] يعني: تقول لهم الملائكة تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] أي: فأملوا ما يسركم.(101/4)
تفسير قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب)
قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: هذا كائن يوم القيامة، {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
وقد قال البخاري: حدثنا مقدم بن محمد حدثني عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله وعليه وسلم قال: (إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماوات بيمينه) انفرد به من هذا الوجه البخاري رحمه الله].
ومثل ذلك قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يوم القيامة يجعل السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والماء والثرى على أصبع، والشجر على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن بيده فيقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟)، فهذه خمسة أصابع.
وفيه إثبات الأصابع لله عز وجل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرقي حدثنا محمد بن سلمة عن أبي الواصل عن أبي المليح الأزدي عن أبي الجوزاء الأزدي عن ابن عباس قال: (يطوي الله السموات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه يكون ذلك كله في يده بمنزلة خردلة)].
الخردلة: الحبة الصغيرة.
وفي الحديث الآخر: (ما السموات السبع والأرضين السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم) ومعلوم أن الخردلة: الحبة الصغيرة لا تساوي شيء بالنسبة للإنسان، وهو مستول عليها إن شاء قبضها وإن شاء وضعها فهي لا تساوي شيء، فـ (السموات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن كخردلة في يد أحدكم)، فسبحان الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104]، قيل: المراد بالسجل: الكتاب.
وقيل: المراد بالسجل هاهنا ملك من الملائكة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا يحيى بن يمان قال: حدثنا أبو الوفاء الأشجعي عن أبيه عن ابن عمر في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] قال السجل: ملك فإذا صعد بالاستغفار قال: اكتبها نوراً، وهكذا، وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن ابن يمان به.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك.
وقال السدي في هذه الآية: السجل: ملك موكل بالصحف، فإذا مات الإنسان رفع كتابه إلى السجل فطواه ورفعه إلى يوم القيامة.
وقيل المراد به: اسم رجل صحابي كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا نوح بن قيس عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] قال: السجل: هو الرجل.
قال نوح: وأخبرني يزيد بن كعب هو العوذي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا رواه أبو داود والنسائي كلاهما: عن قتيبة بن سعيد عن نوح بن قيس عن يزيد بن كعب عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي كما تقدم.
ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن عمرو بن مالك النكري عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى السجل وهو قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] قال: كما يطوى السجل الكتاب، كذلك تطوي السماء ثم قال: وهو غير محفوظ].
كما يطوي السجل الكتاب، أي: كما يطوي الملك أو هذا الرجل الكاتب للنبي صلى الله عليه وسلم، الكتاب تطوى السماء.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: أنبأنا أبو بكر البرقاني أنبأنا محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي: أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي أن حمدان بن سعيد حدثهم عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: السجل: كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا منكر جدًا من حديث نافع عن ابن عمر، لا يصح أصلا وكذلك ما تقدم عن ابن عباس، من رواية أبي داود وغيره، لا يصح أيضًا.
وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه- وإن كان في سنن أبي داود - منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المزي فسح الله في عمره ونسأ في أجله.
وختم له بصالح عمله، وقد أفردت لهذا الحديث جزءًا على حدته ولله الحمد].
والحافظ قد أفرد رسالة خاصة في هذا، تبحث هذه الرسالة في تضعيف حديث أبي داود: إن السجل كاتب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صرح بعضهم بأنه موضوع.
قال ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخنا ابن تيمية رحمه الله يقول: هذا الحديث موضوع، ولا يعرف أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب اسمه السجل قط، ذكره في كتاب الجامع.
والحديث الذي في سنن أبي داود في إسناده يزيد بن كعب قال الحافظ متروك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث ورده أتم رد، وقال: لا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل، وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم معروفون، وليس فيهم أحد اسمه السجل، وصدق رحمه الله في ذلك، وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث، وأما من ذكره في أسماء الصحابة فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره والله أعلم.
والصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السجل هي الصحيفة قاله علي بن أبي طلحة والعوفي عنه، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد.
واختاره ابن جرير؛ لأنه المعروف في اللغة، فعلى هذا يكون معنى الكلام: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب) أي: على الكتاب بمعنى المكتوب، كقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103]، أي: على الجبين، ولهن نظائر في اللغة والله أعلم].
قوله تعالى: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] يعني: كطي الكتاب على المكتوب، فاللام بمعنى: (على) كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] أي: على الجبين فيكون معنى: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] كطي الصحيفة بالكتاب على المكتوب، وهذا هو المعروف في اللغة.
قال ابن حجر رحمه الله: وأولى الأقوال بذلك عندنا بالصواب قول من قال: السجل في هذا الموضع الصحيفة لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، ولا يعرف لنبينا صلى الله عليه وسلم كاتب كان اسمه السجل ولا في الملائكة ملك ذلك اسمه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] يعني: هذا كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق خلقاً جديداً، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم وذلك واجب الوقوع؛ لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل وهو القادر على ذلك ولهذا قال: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104].
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وابن جعفر المعنى قالا: حدثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: (إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علنيا إن كنا فاعلين)، وذكر تمام الحديث.
أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة.
ذكره البخاري عند هذه ال(101/5)
تفسير سورة الأنبياء [105 - 112]
كتب الله عز وجل عنده في اللوح المحفوظ كما كتب في جميع الكتب المنزلة أنه سيورث الأرض العباد الصالحين، ووعد المؤمنين بالنصر والعزة والتمكين إن عبدوه ولم يشركوا به شيئاً، وأرسل لهم محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة بهم يدعوهم إلى التوحيد حتى يمكنوا في الأرض.(102/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:105 - 107].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة كقوله تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]].
فهم موعودون بوراثة الأرض في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا تكون العاقبة للمؤمنين، وفي الآخرة يرثون أرض الجنة فهي للمتقين المؤمنين {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] وقال عن موسى عليه السلام لما قالوا له: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129].
{إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55]، وأخبر تعالى أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية والقدرية، فهو كائن لا محالة، ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105] قال الأعمش: سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105] فقال: الزبور: التوراة والإنجيل والقرآن.
وقال مجاهد: الزبور: الكتاب، وقال ابن عباس والشعبي والحسن وقتادة وغير واحد: الزبور: الذي أنزل على داود عليه السلام، والذكر: التوراة، وعن ابن عباس الذكر: القرآن.
وقال سعيد بن جبير: الذكر الذي في السماء.
وقال مجاهد: الزبور الكتب بعد الذكر، والذكر أم الكتاب عند الله، واختار ذلك ابن جرير رحمه الله].
وذكر في نسخ أخرى قول ابن عباس أن الزبور هو القرآن، والزبور على هذا القول يشمل جميع الكتب فيشمل التوراة والإنجيل والزبور القرآن، وسمي زبوراً؛ لأنه مزبور، أي: مكتوب من الزبر وهو الجمع، والذكر: اللوح المحفوظ، فالله تعالى كتب في كتب السماء التي أنزلها بعد اللوح المحفوظ {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] فكتب هذا شرعاً وقدراً، أما قدراً: كتبه في اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها الصالحون، وكتب ذلك في الكتب الشرعية: التوراة، والإنجيل والزبور والقرآن، فوراثة الأرض للمؤمنين مكتوب كتبه الله شرعاً وقدراً.
وأما كون الذكر: اللوح المحفوظ فهذا ما اختاره ابن جرير، والزبور يشمل الكتب المنزلة كلها: التوارة والإنجيل والزبور والقرآن.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذا قال زيد بن أسلم: هو الكتاب الأول.
وقال الثوري: هو اللوح المحفوظ.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الزبور: الكتب التي نزلت على الأنبياء، والذكر: أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويدخلهم الجنة وهم الصالحون.
وقال مجاهد عن ابن عباس: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] قال: أرض الجنة.
وكذا قال أبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي وأبو صالح والربيع بن أنس والثوري.
وقال أبو الدرداء: نحن الصالحون، وقال السدي: هم المؤمنون].
والأقرب مثلما اختار ابن جرير رحمه الله أن الذكر المراد به: اللوح المحفوظ، والزبور: الكتب المنزلة على الأنبياء: من التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، فالله تعالى كتب في اللوح المحفوظ وكتب في الكتب السماوية التي نزلها بعد اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون.(102/2)
تفسير قوله تعالى: (إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106] أي: إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم لبلاغًا لمنفعة وكفاية لقوم عابدين، وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم.
وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] يخبر تعالى أن الله جعل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلهم، فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردها وجحدها خسر الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم:28 - 29].
وقال تعالى في صفة القرآن: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44].
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: (يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة) انفرد بإخراجه مسلم].
إن لعن العصاة والكافرين والمشركين إذا كان على وجه العموم فلا بأس به؛ لأن الله تعالى لعنهم في كتابه فقال: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، وقال: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] وقال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء)، وقال: (لعن الله شارب الخمر وعاصره) وقال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)، لكن لعن المعين لا يجوز، ومثال ذلك في رجل تعرفه يشرب الخمر فلا تعلنه بعينه، ولهذا لما جيء برجل قد شرب الخمر وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلده، وكان كثيراً ما يجلد، قال: رجل من القوم: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله).
فالصواب أنه لا يلعن المعين، لكن يجوز اللعن للوصف، كأن تقول: لعن الله من شرب الخمر، لعن الله الكفرة، لعن الله اليهود، لعن الله النصارى، لعن الله السراق.
أما فلان ابن فلان السارق، أو فلان ابن فلان الشارب فلا يجوز لعنه على الصحيح.
وساء قوله من كان لعاناً، أعني اللعن الخاص، فإن بعض الناس تجده يلعن فلاناً، ويلعن فلاناً على الدوام، وقد لعنت امرأة ناقة لها؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركها وأخذ ما عليها وقال: (لا تصحبنا ناقة ملعونة).
وفي الحديث الآخر: (إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة)، أما لعن من لعنه الله ورسوله، فهذا لا بأس به.
فإن قيل: هل يقر من يلعن المتبرجات ويخص بعضهن بالذكر؟ ف
الجواب
أنه لا يقر، وإنما يجوز لعن المتبرجات على العموم، ولا يقل: لعن الله فلانة بنت فلان.
إذ قد لعن الله المتبرجات، أما تعيين فلانة من النساء فلا يجوز على الصحيح؛ لأنها قد تتوب، وقد لا يكون بلغها النص؛ ولأن اللعن يعني الطرد من رحمة الله.
فلا تلعن ولكن تنصح ويدعى لها بالاستقامة والثبات، وكذلك إذا رأى إنسان يشرب الدخان فلا يلعنه، ولكن يدعو له وينصحه.
وكذلك لعن المشرك المعين لا يجوز على الصحيح، إلا من اشتد أذاه لهم، وذلك لكونه اعتدى عليهم.
وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن دوساً عصت وأبت فادع الله عليهم، فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم).(102/3)
شمول الرحمة النبوية للمؤمن والكافر
قال المؤلف رحمه الله [وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة حدثني عمرو بن قيس عن عمرو بن أبي قرة الكندي قال: كان حذيفة بالمدائن، فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حذيفة إلى سلمان فقال سلمان: يا حذيفة! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: (أيما رجل سببته في غضبي أو لعنته لعنة فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون، وإنما بعثني الله رحمة للعالمين، فاجعلها صلاة عليه يوم القيامة) ورواه أبو داود عن أحمد بن يونس عن زائدة.
فإن قيل: فأي رحمة حصلت لمن كفر به؟! ف
الجواب
ما رواه أبو جعفر بن جرير حدثنا إسحاق بن شاهين حدثنا إسحاق الأزرق عن المسعودي عن رجل يقال له: سعيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] قال: من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف].
يعني أنه رحمة للكافر؛ لأنه يعافى من الخسف والقذف، والقذف هو الرمي بالحجارة، كما رجم قوم لوط.
قال المؤلف رحمه الله: [وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث المسعودي عن أبي سعد -وهو سعيد بن المرزبان البقال - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره بنحوه، والله أعلم.
وقد رواه أبو القاسم الطبراني عن عبدان بن أحمد عن عيسى بن يونس الرملي عن أيوب بن سويد عن المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] قال: من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يتبعه عوفي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف].(102/4)
الرحمة النبوية بالمعاندين لرسالة الإسلام
قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع الطحان حدثنا أحمد بن صالح قال: وجدت كتاباً بالمدينة عن عبد العزيز الدراوردي وإبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن خمرة: يا معشر قريش! إن محمداً نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئاً، فاحذورا أن تمروا طريقه أو تقاربوه، فإنه كالأسد الضاري، إنه حنق عليكم لأنكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم، والله إن له لسحرة ما رأيته قط ولا أحداً من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة -يعني الأوس والخزرج- فهو عدو استعان بعدو].
قوله: (خمرة) خطأ، والصواب: (حمزة) أي: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه كما هي عند الطبراني، كما ذكر ذلك في البداية والنهاية، وكان هذا في السنة الأولى، حيث خرج حمزة في سرية قبل بدر.
وبنو قيلة هم الأوس والخزرج نسبوا إلى أمهم، وكان اسمها قيلة، وكان الأوس والخزرج أخوين، ثم صارا حيين، وحدثت بينهم حروب، وكانت الحروب بينهم لا تهدأ قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جمعهم الله بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين بادروا إلى الإسلام.
فـ أبو جهل يقول لهم: أنتم تعرفون عداوة الخزرج لكم، وتعلمون عداوة محمد، فهو عدو نزل على عدو.
وهذا إن صح هذا الخبر.
ويثرب: اسم للمدينة، وهو اسم جاهلي، فلما هاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم سماها طيبة وطابة، ولهذا أخبر الله عن المنافقين أنهم قالوا في غزوة الأحزاب: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:13] والمناسم جمع منسم -بكسر فسكون- وهو طرف خف البعير، وقيل: منسم البعير ظفراه اللذان في يديه.
قوله: (إنه له لسحرة) لعله (لسحراً).
قوله: (ما رأيته قط) يعني أن تأثيره في السحر أشد من تأثير غيره.
قال: المؤلف رحمه الله: [فقال له مطعم بن عدي: يا أبا الحكم! والله ما رأيت أحداً أصدق لساناً ولا أصدق موعداً من أخيكم الذي طردتم، وإذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكف الناس عنه.
قال أبو سفيان بن الحارث: كونوا أشد ما كنتم عليه؛ إن ابني قيلة إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة، وإن أطعتموني ألجأتموهم حير كنانة أو تخرجوا محمداً من بين ظهرانيهم، فيكون وحيداً مطروداً، وأما ابنا قيلة فوالله ما هما وأهل دهلك في المذلة إلا سواء، وسأكفيكم حدهم].
قوله: [دَهْلَك]: بفتح أوله وسكون ثانيه، ولام مفتوحة، وآخره كاف، وهو اسم أعجمي معرب، وهي جزيرة في بحر اليمن، وهو مرسى بين بلاد اليمن والحبشة.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال: سأمنح جانباً مني غليظا على ما كان من قرب وبعد رجال الخزرجية أهل ذل إذا ما كان هزل بعد جد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (والذي نفسي بيده لأقتلنهم، ولأصلبنهم، ولأهدينهم، وهم كارهون؛ إني رحمة بعثني الله، ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه، لي خمسة أسماء أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب)، وقال أحمد بن صالح: أرجو أن يكون الحديث صحيحاً].
وقال: الترمذي حديث حسن صحيح، وصححه الألباني.
والشاهد من الحديث قوله: (إني رحمة).(102/5)
الرحمة المهداة
قال المؤلف رحمه الله: [وفي الحديث الآخر: (إنما أنا رحمة مهداة)، رواه عبد الله بن أبي عرابة وغيره عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً، قال إبراهيم الحربي: وقد رواه غيره عن وكيع فلم يذكر أبا هريرة رضي الله عنه، وكذا قال البخاري وقد سئل عن هذا الحديث فقال: كان عند حفص بن غياث مرسلاً.
قال الحافظ ابن عساكر: وقد رواه مالك بن سعيد بن الخمس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً].
ومالك بن سعيد بكسر المعجمة وسكون الميم بعده سين مهملة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرئ وأبي أحمد الحاكم كلاهما عن بكر بن محمد بن إبراهيم الصوفي حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا رحمة مهداة).
ثم أورده من طريق الصلت بن مسعود عن سفيان بن عيينة عن مسعر عن سعيد بن خالد عن رجل عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين)].
هذا الحديث ضعيف؛ ففيه رجل مبهم، لكن يصح مع الشاهد الذي قبله.(102/6)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:108 - 112].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى آمراً رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يقول للمشركين: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء:108] أي: متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له، {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [الأنبياء:109] أي: تركوا ما دعوتهم إليه، {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء:109] أي: أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي، بريء منكم كما أنكم برآء مني، كقوله: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41]، وقال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58]، أي: ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء، وهكذا ههنا: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء:109] أي: أعلمتكم ببراءتي منكم وبراءتكم مني لعلمي بذلك.
[وقوله: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء:109].
أي: هو واقع لا محالة، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء:110] أي: إن الله يعلم الغيب جميعه، ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون، يعلم الظواهر والضمائر، ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما العباد عاملون في أجهارهم وأسرارهم، وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل.
وقوله: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء:111] أي: وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين.
قال ابن جرير: لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى، وحكاه عون عن ابن عباس رضي الله عنهما، فالله أعلم].
وقوله: [إجهارهم] متعد بالهمزة، وأصل الفعل منه (جهر) فعدي بالهمزة، ومثله أكرم وأقدم.
وأجهر جهاراً، متعد بالهمزة، مثل كرم، أكرم.(102/7)
تفسير قوله تعالى: (قال رب احكم بالحق)
قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق.
قال قتادة: كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89].
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك، وعن مالك عن زيد بن أسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد غزاة قال: (رب احكم بالحق))].
وقوله: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112].
أي: على ما يقولون ويفترون من الكذب، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك، والله المستعان عليكم في ذلك].(102/8)
الأسئلة(102/9)
حكم البراءة من الكفار وحكم من أكره على موالاتهم
السؤال
هل تجب البراءة من الكفار، وما الحكم إذ أكره المرء على خلاف ذلك؟ الجواب إذا أكره فإنه يتقيهم، كما قال الله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] وأما مع عدم الإكراه فإنه تجب البراءة ظاهرة، فعلى كل مسلم يعلن البراءة من الكفار، قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].
فتجب البراءة إلى الله تعالى من المشركين والكفار والمنافقين واليهود والنصارى، ونبرأ إلى الله تعالى من اعتقادهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم.(102/10)
تفسير سورة الحج [1 - 4]
يخبر الله تعالى عن يوم القيامة وما فيه من شدائد وأهوال، وهذا إنذار منه لعباده حتى يخافوه ويتقوه ويجتنبوا معاصيه، ولقد أنكر سبحانه على من يجادل في الله بغير علم ويتبع في ذلك هواه والشيطان، ويحذر سبحانه عباده من تولي مثل هؤلاء لأن من تولاهم أضلوه ودعوه إلى عذاب السعير.(103/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى آمراً عباده بتقواه ومخبراً لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها، وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة أو ذلك عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم، كما قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:1 - 2]، وقال تعالى: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة:14 - 15]، وقال تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:4 - 6].
فقال قائلون: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا وأول أحوال الساعة.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} قال: قبل الساعة.
ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري عن منصور والأعمش عن إبراهيم عن علقمة فذكره.
قال: وروي عن الشعبي وإبراهيم وعبيد بن عمير نحو ذلك، وقال أبو كدينة عن عطاء عن عامر الشعبي {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} قال: هذا في الدنيا قبل يوم القيامة.
وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور].
وحديث الصور هذا ضعيف؛ لأن إسماعيل بن رافع هذا ضعيف، وقد ذكر فيه ثلاث نفخات، والمعروف في الأحاديث الصحيحة أنه نفختان: نفخة الصعق والموت، ثم نفخة البعث، ونفخة الفزع مذكورة في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87].
ونفخة الصعق مذكورة في سورة الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68]، ونفخة البعث قال: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، فالأولى والثانية نفخة واحدة طويلة، يطولها إسرافيل، وأولها تفزع الناس، ثم لا يزال في النفخ حتى يموت الناس.
فهي نفخة واحدة أولها فزع وآخرها صعق وموت، ثم نفخة البعث بعد ذلك بعد أربعين.
وأما حديث إسماعيل بن رافع فضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور من رواية إسماعيل بن رافع قاضي أهل المدينة عن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي عن رجل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر، قال أبو هريرة: يا رسول الله! وما الصور؟ قال: قرن، قال: فكيف هو؟ قال: قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله، ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر، وهي التي يقول الله تعالى: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص:15]، فيسير الله الجبال فتكون سراباً، وترج الأرض بأهلها رجاً، وهي التي يقول الله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات:6 - 8]، فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح، فيمتد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً، وهو الذي يقول الله تعالى: {يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:32 - 33]، فبينما هم على ذلك إذ انصدعت الأرض من قطر إلى قطر، فرأوا أمراً عظيماً، فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم خسف شمسها وقمرها، وانتثرت نجومها ثم كشطت عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك).
قال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87]؟ قال أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون؛ وقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه، وهو الذي يقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]).
وهذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير وابن أبي حاتم وغير واحد مطولاً جداً، والغرض منه أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة].
حديث إسماعيل بن رافع طويل، لكن هذا جزء منه، وهو مجمع وملفق من عدة أحاديث، وإسماعيل بن رافع ضعيف.
والزلزلة تكون في آخر الدنيا وأول الآخرة، يعني: قبل قيام الناس المقبورين، ثم يقوم الناس من قبورهم، هذا قول، والقول الثاني: أن الزلزلة تكون بعد قيام الناس من قبورهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والغرض منه أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة أضيفت إلى الساعة لقربها منها، كما يقال: أشراط الساعة، ونحو ذلك، والله أعلم، وقال آخرون: بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال كائن يوم القيامة في العرصات بعد القيام من القبور].
العرصات: جمع عرصة، والعرصة: المكان الفضاء أو موقف القيامة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال آخرون: بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال كائن يوم القيامة في العرصات بعد القيام من القبور، واختار ذلك ابن جرير، واحتجوا بأحاديث: الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن هشام حدثنا قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض أسفاره، وقد تفاوت بين أصحابه السير رفع بهاتين الآيتين صوته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]، فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطي، وعرفوا أنه عند قول يقوله، فلما دنوا حوله قال: (أتدرون أي يوم ذاك ذاك؟ يوم ينادى آدم عليه السلام، فيناديه ربه عز وجل فيقول: يا آدم! ابعث بعثك إلى النار، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار، وواحد في الجنة، قال: فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة، فلما رأى ذلك قال: أبشروا واعملوا فوالذي نفس محمد بيده! إنكم مع خليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج ومن هلك من بني آدم وبني إبليس، قال: فسري عنهم ثم قال: اعملوا وأبشروا؛ فوالذي نفس محمد بيده! ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة)].
الشامة هي نقطة في جنب البعير، فهذه الأمة بالنسبة ليأجوج ومأجوج نقطة؛ لأن يأجوج ومأجوج كثرة كاثرة.
وجاء في رواية: (فقال: أبشروا؛ فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم واحداً).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما عن محمد بن بشار عن يحيى -وهو القطان - عن هشام -وهو الدستوائي - عن قتادة به بنحوه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
طريق آخر لهذا الحديث: قال الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر حدثنا(103/2)