ـ[شرح تفسير ابن كثير]ـ
المؤلف: عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن الراجحي
مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية
http://www.islamweb.net
[ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 116 درسا](/)
مقدمة تفسير ابن كثير [1]
يعد تفسير ابن كثير من أشهر التفاسير المشهورة والمتداولة بين طلبة العلم والعوام، حيث قام رحمه الله بتفسير القرآن بالقرآن وبالسنة وبما جاء عن السلف، وهذا هو المنهج الذي يجب على كل من يفسر القرآن أن ينتهجه.(1/1)
نبذة مختصرة عن تفسير ابن كثير
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
إن تفسير الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه تفسير عظيم ومن أحسن التفاسير وأمثلها، وتفسيره يتمشى مع منهج أهل السنة والجماعة في آيات الصفات، وهو تلخيص لتفسير الإمام ابن جرير رحمة الله عليه شيخ المفسرين، والحافظ ابن كثير كان يتعقب اختيارات ابن جرير المرجوحة، ويختار القول الراجح، واختيار الحافظ ابن كثير في الغالب موفق ومسدد.
وينقل كثيراً عن الحافظ العابد العالم أبو عبد الرحمن عبد الرحمن بن أبي حاتم، وينقل أيضاً عن الحافظ ابن مردويه وعن السدي الكبير وهو ثقة، أما السدي الصغير فهو كذاب لا يعتمد عليه، والسدي الكبير دائماً ما يروي عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس وعن عروة عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه في مقدمة هذا التفسير أن أحسن طريقة يسير عليها المفسر هي أن يفسر القرآن بالقرآن، فالآيات المجملة تفسر بالآيات المفصلة، وهكذا، أيضاً بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأحاديث المجملة تفسر بالأحاديث المفسرة، وهكذا، أيضاً بكلام أهل العلم، فحين يأتي كلام مجمل لبعض أهل العلم ويأتي قول آخر مفصل، فيفسر المجمل بالمفصل، هذه هي الطريقة التي ينبغي أن يسلكها المفسر عندما يفسر كتاب الله، وقد ألف العلامة الشنقيطي رحمة الله عليه كتاب (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) وهو مبني على هذه الطريقة وهي تفسير القرآن بالقرآن.
ثم بعد ذلك تفسير القرآن بالسنة النبوية؛ فإن السنة شارحة للقرآن وموضحة له، والسنة مع القرآن لها أحوال ثلاثة: الحالة الأولى: أن تأتي مفسرة وموضحة لما أجمل في القرآن الكريم.
الحالة الثانية: تأتي مقيدة لما أطلق في القرآن الكريم ومفصلة لما أجمل.
والحالة الثالثة: تأتي بأحكام جديدة ليست في القرآن العزيز، كتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، فإذا لم يجد المفسر تفسير الآية بالقرآن الكريم رجع إلى السنة المطهرة، فإذا لم يجد في السنة المطهرة رجع إلى أقوال الصحابة، فإن الصحابة أعلم الناس بكتاب الله؛ لأنهم عايشوا التنزيل، وكانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما أشكل عليهم، فإذا لم يجد فبعض المفسرين يرجع إلى أقوال كبار التابعين؛ كالإمام مجاهد بن جبر فإنه عرض القرآن على ابن عباس ثلاث مرات يوقفه عند كل آية ويسأله عنها، وكذلك أيضاً مما ينبغي للمفسر معرفته علوم اللغة العربية؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب وبلسان عربي مبين.(1/2)
مقدمة ابن كثير لتفسيره
قال الشيخ الإمام الأوحد البارع الحافظ المتقي عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير الشافعي رحمه الله تعالى ورضي عنه: [الحمد لله الذي افتتح كتابه بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:1 - 5]، وافتتح خلقه بالحمد فقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، واختتمه بالحمد فقال بعد ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، ولهذا قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70]، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ:1] فله الحمد في الأولى والآخرة، أي: في جميع ما خلق وما هو خالق، هو المحمود في ذلك كله كما يقول المصلي: اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، ولهذا يلهم أهل الجنة تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس، أي: يسبحونه ويحمدونه عدد أنفاسهم؛ لما يرون من عظيم نعمه عليهم وكمال قدرته وعظيم سلطانه وتوالي مننه ودوام إحسانه إليهم].
يعني: أن الله تعالى هو المستحق لأنواع المحامد كلها، ملكاً واستحقاقاً، وهو سبحانه وتعالى المحمود في فواتح الأمور وخواتمها، ولهذا افتتح كتابه العزيز بالحمد فقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وقال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1]، وافتتح خلقه بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:1]، وختم ذلك أيضاً إذا دخل أهل الجنة الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الأعراف:43] {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، وهو محمود على كل حال سبحانه وتعالى محمود على السراء والضراء، وعلى المحبوب والمكروه، حتى أهل النار في دخولهم النار يحمدون الله على ذلك؛ لما ظهر لهم من عدل الله سبحانه وتعالى؛ لأن أحكام الله دائرة بين العدل والفضل، فأهل الجنة في فضله وأهل النار في عدله سبحانه وتعالى، وهو محمود على كل حال، وأهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس ويكون جزءاً من حياتهم يتنعمون به ليس فيه مشقة ولا تكريب، وإنما هو نعيم يتنعمون به وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه بهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:9 - 10].
والحمد لله الذي أرسل رسله {مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، وختمهم بالنبي الأمي العربي المكي الهادي لأوضح السبل، أرسله إلى جميع خلقه من الإنس والجن من لدن بعثته إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، فمن بلغه هذا القرآن من عرب وعجم وأسود وأحمر وإنس وجان فهو نذير له، ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17]، فمن كفر بالقرآن ممن ذكرنا فالنار موعده بنص القرآن، كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت إلى الأحمر والأسود)، قال مجاهد: يعني: الإنس والجن].
قلت: لقد أخذ بعض العلماء من هذه الآيات أنه لا يعذر أحد بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد نزول القرآن، ولا يكون حكمه حكم أهل الفترة؛ لقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] أي: هذا القول فيه نذارة لكل من بلغه، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فمن بلغه القرآن وبلغه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة وليس له عذر، ولاسيما في الأمور الواضحة، كالعبادة التي خلق الله الخلق من أجلها، والتوحيد الذي من أجله بعث الله رسله وأنزل كتبه، فلا عذر للمشرك في كونه يذبح لغير الله وينذر لغير الله أو يستغيث بغير الله أو يطوف بغير بيت الله، أو يطلب المدد من غير الله وهو بين المسلمين، وقد بلغه القرآن وبلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، أما من لم تبلغه الدعوة ولم يبلغه القرآن وكان لا يتكلم بالعربية ولم يسمع شيئاً عن القرآن فهذا حكمه حكم أهل الفترة حتى تقام عليه الحجة.(1/3)
واجب المسلمين تجاه كتاب الله تعالى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهو صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى جميع الثقلين: الإنس والجن مبلغاً لهم عن الله تعالى ما أوحاه إليه من هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وقد أعلمهم فيه عن الله تعالى أنه ندبهم إلى فهمه، فقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله وتفسير ذلك وطلبه من مظانه، وتعلم ذلك وتعليمه، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77].
فذم الله تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن كتاب الله المنزل عليهم، وإقبالهم على الدنيا وجمعها واشتغالهم بغير ما أمروا به من اتباع كتاب الله، فعلينا -أيها المسلمون- أن ننتهي عما ذمهم الله تعالى به، وأن نأتمر بما أمرنا به من تعلم كتاب الله المنزل إلينا وتعليمه وفهمه وتفهيمه، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:16 - 17].
ففي ذكره تعالى لهذه الآية بعد التي قبلها تنبيه على أنه تعالى كما يحيي الأرض بعد موتها كذلك يلين القلوب بالإيمان والهدى بعد قسوتها من الذنوب والمعاصي، والله المؤمل، وهو المسئول أن يفعل بنا هذا إنه جواد كريم].(1/4)
أحسن طرق تفسير القرآن العظيم(1/5)
تفسير القرآن بالقرآن ثم بالسنة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105]، وقال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:64]، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) يعني السنة، والسنة أيضاً تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن، إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن، وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك].
السنة وحي من الله، والسنة نوعان: النوع الأول: الأحاديث القدسية التي يضيفها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ويقول فيها: (قال الله)، فهذا من كلام الله لفظاً ومعنى كالقرآن، فالقرآن كلام الله لفظاً ومعنى خلافاً للأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله معنى قائم بالنفس، وخلافاً للمعتزلة الذين يقولون: القرآن مخلوق.
وهذا كفر وضلال، ولهذا كفر الأئمة والعلماء من قال: القرآن مخلوق، وتكفيرهم لقائل ذلك هو على وجه العموم، أما الشخص المعين فلابد من أن تقوم عليه الحجة، فمن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر.
والأشاعرة يقولون: القرآن كلام الله، وكلام الله معنى قائم بنفسه ليس بحرف ولا صوت، أما الحروف والأصوات فهي مخلوقة، وليس في المصحف شيء من كلام الله؛ لأن كلام الله معنى قائم بنفسه، وما في المصحف هو عبارة عن كلام الله، وهذا الذي ذهب إليه الأشاعرة يوافق المعتزلة في نصف مذهبهم؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن لفظه ومعناه مخلوق، والأشاعرة يقولون: لفظه مخلوق ومعناه قائم بنفسه تعالى ليس بمخلوق، وهذا من أبطل الباطل، فالقرآن كلام الله لفظه ومعناه، فيجب على كل مسلم أن يعتني بهذا القرآن العظيم، فإنه سعادة الأمة وفلاحها ونجاحها.
فالنوع الأول من السنة هو الأحاديث القدسية التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله)، كحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) فهذا كلام الله لفظه ومعناه وهو كالقرآن، إلا أنه يختلف عن القرآن في الأحكام، فالقرآن يتعبد بتلاوته، والحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، والقرآن لا يمسه إلا المتوضئ، والأحاديث القدسية يمسها غير المتوضئ، والقرآن معجز في لفظه ومعناه، والحديث القدسي ليس كذلك.
والنوع الثاني: الأحاديث النبوية التي ليست قدسية، وهذه الأحاديث معناها وحي من الله تعالى، ولفظها من النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا تنسب إلى الرسول، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، ومعناها من الله؛ لأنها وحي ثان، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
وما ذكره بعض مؤلفي كتب علوم القرآن كـ السيوطي في الإتقان وغيره من أن الحديث القدسي لفظه من النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه من الله فإنه خطأ يتمشى على مذهب الأشاعرة، والسيوطي رحمه الله ليس عنده تحقيق في هذا، فهذا قد يشكل على بعض الطلبة إذا وجده في الإتقان لليسوطي وفي غيره من كتب أصول التفسير، فمن وجد ذلك فليعلم أن هذا يتمشى على مذهب الأشاعرة، والصواب أن الحديث القدسي لفظه ومعناه من الله كالقرآن، إلا أن الأحكام تختلف كما تقدم.
وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في شئون الحياة العادية لا يعتبر من الوحي، كأن ينزل في المكان الفلاني، ويبول في المكان الفلاني، ويجلس في المكان الفلاني، ونحو ذلك، فالصواب في هذه المسألة أن هذه من الأمور العادية، ولا يشرع الاقتداء به فيها، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يتتبع الأماكن التي يتنزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم اجتهاداً منه، فكان ينزل في المكان الذي كان ينزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر البخاري شيئاً من هذا، فقال: كان ابن عمر يتتبع أماكن كثيرة.
ولكنه خالف في هذا كبار الصحابة كـ الصديق وعمر وغيرهم؛ فإنهم لم يتتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأماكن، ولهذا لما رأى عمر رضي الله عنه قوماً يأتوا إلى الشجرة التي بايع عندها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أمر بقطعها.
والمقصود أن الأمور العادية التي كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة ليست من التشريع.
وأما ما كان يفعله مع زوجاته صلى الله عليه وسلم فإنه ينظر فيه، فإن كان على سبيل التشريع فإنه يقتدى به فيه، مثل معاملته لزوجاته ونحو ذلك، ومثله ما كان يفعله في البيت من الطهارة والغسل ونحو ذلك مما نقله إلينا أزواجه صلى الله عليه وسلم.
وكلام الله في القرآن يتفاضل، هذا هو الصواب، فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن، وآية الكرسي أفضل آية في كتاب الله، والفاتحة أفضل سورة في كتاب الله، فكلام الله يتفاضل، وبعضه أفضل من بعض، وإذا كان القرآن كلام الله يتفاضل فالحديث القدسي كذلك يتفاضل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة].
فأول طريقة من طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن.(1/6)
تفسير القرآن بأقوال الصحابة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ حين بعثه إلى اليمن: (فبم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله).
وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه].
هذا الحديث سنده جيد كما ذكر المؤلف رحمه الله، وجود سنده كذلك شيخ الإسلام وابن القيم، وفيه أن الإنسان يعمل بكتاب الله، فإن لم يجد فإنه يعمل بالسنة، فإن لم يجد فإنه يجتهد، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً قال له: (بم تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي) أما نحن فإننا إذا بحثنا ولم نجد في السنة دليلاً فإننا نأخذ بأقوال الصحابة إذا لم تتعارض، فقول الصحابي إذا لم يعارضه قول صحابي آخر يؤخذ به، فإن عارضه قول صحابي آخر تساقطا، فحينئذٍ يرجع إلى أصول الشريعة وقواعدها.(1/7)
ذكر بعض أئمة التفسير من الصحابة(1/8)
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك؛ لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، لاسيما علماءهم وكبراءهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين المهديين وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم.
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا جابر بن نوح حدثنا الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود -: والذي لا إله غيره ما نزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته].
هذا من حرص الصحابة رضي الله تعالى عنهم على العلم، فـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يحلف أنه ما من آية إلا وهو يعلم أين نزلت وفيم نزلت وفيمن نزلت، يقول: ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه حتى أتعلم منه وأستفيد منه.
وجابر بن عبد الله -كما ذكر البخاري في صحيحه- رحل إلى عبد الله بن أنيس من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، واشترى لهذه المهمة بعيراً، وكانت المسافة شهراً كاملاً.
فهذا هو حرص الصحابة الكرام، ولهذا بلغوا تلك المنزلة، فـ جابر يشتري لهذه المهمة بعيراً مع قلة ذات اليد، والآن الكتب كلها موجودة، والصحاح والسنن كلها مدونة، والحمد لله، وكل شيء الآن متوفر، والمهم هو الحرص والعناية والتفهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الأعمش -أيضاً- عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئونا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً].
وبهذا فضلوا على من بعدهم، فتعلموا العلم والعمل جميعاً، ونحن الآن ينقصنا العمل والتطبيق.(1/9)
ابن عباس ترجمان القرآن
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له حيث قال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل).
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار وحدثنا وكيع حدثنا سفيان عن الأعمش عن مسلم قال عبد الله -يعني ابن مسعود -: نعم ترجمان القرآن ابن عباس.
ثم رواه عن يحيى بن داود عن إسحاق الأزرق عن سفيان عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال: نعم الترجمان للقرآن ابن عباس].
مسلم بن صبيح هو غير الربيع بن صبيح.
ومسلم بن صبيح يروي عن أبي الضحى، وأبو الضحى يروي عن مسروق عن ابن مسعود، وفي بعض الطرق: (عن أبي الضحى عن ابن مسعود) وهذا إسناد منقطع؛ لأن أبا الضحى لم يسمع من ابن مسعود، بل بينهما واسطة.
وقوله: [نعم الترجمان للقرآن ابن عباس] هذه شهادة من ابن مسعود لـ ابن عباس رضي الله عنهما.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه عن بندار عن جعفر بن عون عن الأعمش به كذلك، فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة، وقد مات ابن مسعود رضي الله عنه في سنة اثنتين وثلاثين على الصحيح، وعمر بعده عبد الله بن عباس ستاً وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟!].
يعني: إذا كان ابن مسعود شهد لـ ابن عباس بقوله: [نعم ترجمان القرآن ابن عباس] في حياته ثم توفي وعاش بعده ابن عباس ستاً وثلاثين عاماً وهو يتعلم ويجتهد فكيف سيكون علمه؟! وقد كان عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، لكنه كان حريصاً على العلم، وقد أخذ من الصحابة، وكان له زميل من الأنصار في أول الطلب، فقال زميله من الأنصار: يا ابن عباس! تظن الناس يحتاجون إلينا! فتركه ابن عباس وانصرف الأنصاري، وقال: الناس ليسوا بحاجة إلينا، والصحابة كثيرون.
فشمر ابن عباس في طلب العلم، فكان يأتي إلى الصحابة في بيوتهم، وكان إذا بلغه حديث عن بعض الصحابة أو أراد أن يأخذ العلم منه أتى إلى بابه، ثم توسد ذراعه ونام تحت الباب حتى يخرج، فإذا خرج قال: ما لك يا ابن عم رسول الله؟ ألا أخبرتني؟ ألا طرقت علي فأخرج؟ وما زال يجتهد ويحرص ويجد ويجتهد ويستغل الوقت في الأخذ عن الصحابة حتى بلغ شأناً عظيماً في العلم، ومات كثير من الصحابة وبقي، فصار مرجع الناس في العلم، وصار الناس يأتون إليه من كل مكان، وكان يجلس للناس بعد صلاة الفجر، فيأتيه أهل التفسير، ثم يأتيه أهل الحديث، ثم يأتيه أهل اللغة، ثم يأتيه جميع أصحاب الفنون حتى يرتفع الضحى، وذلك الأنصاري الذي تركه لم يكن عنده شيء من العلم، فلما رأى حال ابن عباس ورأى ما أوتي من العلم ومجيء الناس إليه قال لبعض أصحابه: هذا أعقل مني يعني ابن عباس؛ لأنه بقي في طلب العلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الأعمش عن أبي وائل: استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة -وفي رواية سورة النور- ففسرها تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا، ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره عن هذين الرجلين: عبد الله بن مسعود وابن عباس].
السدي الكبير ثقة يروي عن ابن عباس وعن ابن مسعود، فهو يروي عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس، ويروي عن عروة عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو سند السدي الكبير.
وقوله: [استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم] أي: جعل ابن عباس أميراً على الحج في خلافته.(1/10)
أقسام أحاديث أهل الكتاب وحكم نقلها عنهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو].
هذا فيما يروى عن بني إسرائيل مما لم يخالف الكتاب والسنة؛ لأن أقوال بني إسرائيل على ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يكون الخبر عن بني إسرائيل يخالف ما جاء في القرآن العزيز والسنة المطهرة، فهذا باطل مردود.
الحالة الثانية: أن يكون موافقاً لما جاء في الكتاب والسنة، وهذا مقبول.
الحالة الثالثة: أن يكون ذلك الخبر لم يأت في القرآن ولا في السنة ما يخالفه ولا ما يوافقه، وهذا هو الذي يحدث به ولا يصدق ولا يكذب، وهو المقصود في قوله صلى الله عليه وسلم: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يوم اليرموك قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك].
يعني: من الأشياء التي لم تخالف النصوص على حسب اجتهاده، فقد وجد زاملتين من كتب أهل الكتاب في الشام، وكانت تابعة لأهل الكتاب، فوجد الزاملتين فجعل يحدث منهما عنهم، ولهذا فإن أحاديث عبد الله بن عمرو كثير منها عن بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في هذا كثيراً، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم وعدتهم وعصا موسى من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى].
ومثله -أيضاً- الشجرة التي أكل منها آدم، فكل هذا لا يترتب عليه فائدة، وإنما العبرة في معرفة أن آدم أكل من الشجرة، أما أن الشجرة هي شجرة كذا أو شجرة كذا فلا فائدة في ذلك، وكذلك كون أهل الكهف كان لون كلبهم أحمر أو غير ذلك، وأن اسم فلان منهم كذا واسم فلان كذا كل ذلك لا عبرة فيه، فالعبرة بالقصة التي حصلت، أما معرفة الأسماء، ومعرفة لون الكلب، ومعرفة عصا موسى من أي الشجر هي، ومعرفة الشجرة التي أكل منها آدم عليه السلام، كل هذا لا يترتب عليه شيء، وما وجد من مثل هذا فهو من أخبار بني إسرائيل التي لا تصدق ولا تكذب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دينهم ولا دنياهم].
ولو كان فيه فائدة تعود علينا في ديننا أو دنيانا لبينه الله تعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:22]].
هذا الكلام يعود إلى علماء أهل الكتاب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22]، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث، فدل على صحته؛ إذ لو كان باطلاً لرده كما ردهما، ثم أرشد على أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فقال في مثل هذا: ((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ))، فإنه ما يعلم ذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه، فلهذا قال: ((فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا)) أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب، فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف].
إن الله تعالى ذكر الخلاف في عدة أصحاب الكهف فقال: ((سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ)) فالقول الأول أنهم ثلاثة والرابع الكلب: ((وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ)) وهذا هو القول الثاني، وهو أن عدد أصحاب الكهف خمسة والسادس الكلب، ثم رد الله تعالى ذلك فقال: ((رَجْمًا بِالْغَيْبِ)) أي: أن هذين القولين ما عليهما دليل، ثم قال تعالى: ((وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)) وسكت عن هذا، فدل على أنه هو القول الصحيح، وهذا استنباط.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف، أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن تنبه على الصحيح منها وتبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته فتشتغل به عن الأهم فالأهم، فأما من حكى خلافاً في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه].
هذا إذا أراد أن يحكي الأقوال، أما إذا أراد أن يفتي فإنه يختار القول الصحيح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضاً، فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب، أو جاهلاً فقد أخطأ، وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته أو حكى أقوالاً متعددة لفظاً ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان وتكثر بما ليس بصحيح، فهو كلابس ثوبي زور.
والله الموفق للصواب].(1/11)
مقدمة تفسير ابن كثير [2]
التابعون الكرام هم أقرب الناس إلى الصحابة رضوان الله عليهم، فقد أخذوا منهم تفسير القرآن الكريم كونهم شاهدوا التنزيل وتعلموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والتفسير رواية عن الله لا يجوز الخوض فيه إلا بعلم، ولذلك كان من السلف كالصحابة والتابعين من يقول في تفسير آية: الله أعلم.
وليس معنى ذلك كتم العلم، فمن علم وجب عليه أن يبلغ.(2/1)
الرجوع إلى أقوال التابعين في تفسير القرآن
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: [فصل: إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كـ مجاهد بن جبر؛ فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها].
يعتبر مجاهد رحمه الله من أئمة التابعين ومن كبارهم، ولهذا رجع كثير من المفسرين إلى قوله مع أمثاله من كبار التابعين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: أنبأنا أبو كريب حدثنا طلق بن غنام عن عثمان المكي عن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهداً سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس: اكتب.
حتى سأله عن التفسير كله.
ولهذا كان سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به].
يعني: يكفيك، أي: اعتمده؛ لأن له عناية به لملازمته ابن عباس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكـ سعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومسروق بن الأجدع وسعيد بن المسيب وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة والضحاك بن مزاحم وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عبارتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافاً فيحكيها أقوالاً، وليس كذلك، فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو بنظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في أكثر الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي].
هذا معروف، وهو أن الغالب أن كثيراً من السلف كانوا يفسرون اللفظ بشيء من معناه، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] فيقول بعضهم: يؤمنون بالجنة والنار ويؤمنون بالصراط، ويقول بعضهم: يؤمنون بالميزان، ويقول بعضهم: يؤمنون بالبعث بعد الموت، ويؤمنون بسؤال منكر ونكير، وهذا كله حق، فالسلف كانوا يفسرون اللفظ بجزء من معناه، ولا يقصدون من ذلك الاقتصار على الشيء، بل يريدون أن يذكروا نوعاً مما هو داخل في الآية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟!].
يعني: أن بعض العلماء يرى الرجوع إلى أقوال التابعين، وبعضهم -كـ شعبة - قال: لا يرجع إليها؛ لأن أقوالهم ليست حجة في الفروع، ففي التفسير من باب أولى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة].
وهذا لا شك فيه، حتى الصحابة إذا اختلفوا فإنه لا يكون قول أحدهم حجة على الآخر، وإنما يرجع إلى المرجحات الأخرى، أما إذا أجمع الصحابة على قول أو أجمع التابعون على قول فإنه يكون حجة؛ إذ لا يجمعون عليه إلا لأنه حق، وهذه الأمة معصومة من أن تجمع على خطأ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على قول بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك].
وكذلك أصول الشريعة وقواعدها، كل هذه يرجع إليها، وإذا اختلف التابعون فإنه لا يكون قول بعضهم حجة على بعض، ويرجع إلى ما يؤيد أحد الأقوال، فيرجع إلى أقوال الصحابة، ويرجع إلى اللغة العربية، ويرجع إلى أصول الشريعة وقواعدها.(2/2)
حكم تفسير القرآن بمجرد الرأي
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام؛ لما رواه محمد بن جرير رحمه الله تعالى حيث قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا سفيان حدثني عبد الأعلى -هو ابن عامر الثعلبي - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار)، وهكذا أخرجه الترمذي والنسائي من طرق عن سفيان الثوري به، ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي عوانة عن عبد الأعلى به مرفوعاً، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وهكذا رواه ابن جرير أيضاً عن يحيى بن طلحة اليربوعي عن شريك عن عبد الأعلى به مرفوعاً، ولكن رواه عن محمد بن حميد عن الحكم بن بشير عن عمرو بن قيس الملائي عن عبد الأعلى عن سعيد عن ابن عباس فوقفه، وعن محمد بن حميد عن جرير عن ليث عن بكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس من قوله.
فالله أعلم].
قوله: (من قوله) يعني: من كلامه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: أنبأنا العباس بن عبد العظيم العنبري حدثنا حبان بن هلال حدثنا سهيل أخو حزم حدثنا أبو عمران الجوني عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ)، وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي والنسائي من حديث سهيل بن أبي حزم القطعي، وقال الترمذي: غريب.
وقد تكلم بعض أهل العلم في سهيل، وفي لفظ لهم: (من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ) أي: لأنه قد تكلف ما لا علم له به وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرماً ممن أخطأ، والله اعلم.
وهكذا سمى الله القذفة كاذبين فقال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13]، فالقاذف كاذب ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، ولو كان أخبر بما يعلم؛ لأنه تكلف ما لا علم له به، والله أعلم].
يعني أن من سلك الطريق غير المشروع فهو مخطئ حتى ولو أصاب الحق، فالذي يتكلم عن جهل مخطئ ومتوعد بالوعيد ولو وافق الحق، وكذلك من فسر القرآن برأيه فهو متوعد بالوعيد ولو أصاب.(2/3)
تحرج السلف عن تفسير ما لا علم لهم به
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن أبي معمر قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟! وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمد بن يزيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟! منقطع].
هذا الإسناد الأخير منقطع لأن إبراهيم التيمي ما أدرك أبا بكر رضي الله تعالى عنه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عبيد أيضاً: حدثنا يزيد بن حميد عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر].
يعني التكلف في معرفة هذا النبت من أي شجرة هو، وأما كونه نبتاً فمعروف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد بن حميد: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي ظهر قميصه أربع رقاع فقرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] فقال: فما الأب؟ ثم قال: هو التكلف، فما عليك أن لا تدريه.
وهذا كله محمول على أنهما رضي الله عنهما إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتاً من الأرض ظاهر لا يجهل؛ لقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا} [عبس:27 - 28] الآية.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن أيوب عن ابن أبي مليكة أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فأبى أن يقول فيها.
إسناده صحيح].
يعني أنه توقف ولم يجب حتى يتأمل وينظر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال: سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما عن يوم كان مقداره ألف سنة، فقال له ابن عباس: فما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال له الرجل: إنما سألتك لتحدثني! فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما.
فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم].
يعني بذلك اليوم المذكور في قول الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:1 - 4]، وظاهر هذا أنه يوم القيامة؛ لأنه تعالى قال بعد ذلك: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:5 - 9]، وأما اليوم الثاني فهو المذكور في قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] قال بعضهم: إنه يوم من أيام الله، وإن المراد بألف سنة العروج والصعود، فإن نزول جبريل مقداره خمسمائة وصعوده مقداره خمسمائة، فما بين السماء إلى الأرض مقدار خمسمائة، كما ذكر الله تعالى ذلك في سورة السجدة فقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، وابن القيم رحمه الله في القصيدة النونية ذكر الخلاف في ذلك، فإنه لما ذكر قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ذكر قولين: القول الأول: إنه يوم القيامة.
والقول الثاني: إن المراد بخمسين ألف سنة المدة المحسوبة من العرش إلى الأرض السفلى، فاليوم الأول من السماء إلى الأرض، وخمسون ألف سنة من السماء إلى العرش، فبين كل سماء وسماء مسافة، وفوق السماء السابعة بحر، ثم بعد ذلك العرش، يقول: أختار أن المراد النزول من العرش إلى الأرض، فهذا النزول مقداره خمسون ألف سنة، واليوم الأول من السماء إلى الأرض، والقول الثاني أنه يوم القيامة، وهذا هو الأقرب، ثم لما اختار أحد القولين قال في آخر القصيدة الكافية الشافية: إن هذه المسألة لم تحتمل في ذهني، وأنا متوقف فيها، وأعوذ بالله من أن أقول بغير علم، وكلامه جميل في هذا، وقال: من كان عنده علم فليبده.
أو كما قال رحمة الله عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير أيضاً: حدثني يعقوب -يعني ابن إبراهيم - حدثنا ابن علية عن مهدي بن ميمون عن الوليد بن مسلم قال: جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله رضي الله عنه فسأله عن آية من القرآن، فقال: أحرج عليك إن كنت مسلماً لما قمت عني أو قال: أن تجالسني].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: إنا لا نقول في القرآن شيئاً، وقال الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن، وقال شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن فقال: لا تسألني عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء.
يعني عكرمة].
وذلك لأن عكرمة كان من تلاميذ ابن عباس، وكان مولى لـ ابن عباس، حتى إنه كان يدرسه ويعلمه وهو في القيد، فحصل علماً كثيراً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن شوذب: حدثني يزيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع.
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبدة الضبي حدثنا حماد بن زيد حدثنا عبيد الله بن عمر قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم: سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وسعيد بن المسيب ونافع.
وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن هشام بن عروة قال: ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله قط، وقال أيوب وابن عون وهشام الدستوائي عن محمد بن سيرين: سألت عبيدة -يعني السلماني - عن آية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن، فاتق الله وعليك بالسداد.
وقال أبو عبيد: حدثنا معاذ عن ابن عون عن عبد الله بن مسلم بن يسار عن أبيه قال: إذا حدثت عن الله حديثاً فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده.
حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه.
وقال شعبة عن عبد الله بن أبي السفر قال: قال الشعبي: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله عز وجل].
وإبراهيم النخعي وأصحابه هم أهل الكوفة أصحاب ابن مسعود.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عبيد: حدثنا هشيم حدثنا عمرو بن أبي زائدة عن الشعبي عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله].(2/4)
الجمع بين ما ورد عن السلف من تحرجهم من التفسير وما روي من أقوالهم في التفسير
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه].
الأمر كما ذكر المؤلف رحمه الله، فكل ذلك محمول على أنهم كانوا يتحرجون عن الشيء الذي لا علم لهم به، أما الذي عنده علم بالشيء الواضح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يتكلم ولا يكتم العلم، فهذه الآثار محمولة -كما ذكر المؤلف- على التحرج عن الشيء الذي لا يعلمه الإنسان، فلا يتكلم بشيء لا يعلمه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه].
هذا هو الجمع بين النصوص، فالصحابة جاءت عنهم نصوص فيها المنع من التفسير، ونصوص أخرى فيها جواز التفسير، فالنصوص التي جاء فيها المنع من التفسير محمولة على التفسير الذي لا يستند إلى علم، فلا ينبغي أن يتكلم المرء في شيء لا يعلمه، والنصوص التي فيها أنهم كانوا يفسرون محمولة على أنهم كانوا يفسرون بما يعلمون من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واللغة العربية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه؛ لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]، ولما جاء في الحديث الذي روي من طرق: (من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)، وأما الحديث الذي رواه أبو جعفر بن جرير قال: حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثنا محمد بن خالد بن عثمة حدثنا أبو جعفر بن محمد بن الزبيري حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفسر شيئاً من القرآن إلا آياً بعدد علمهن إياه جبريل عليه السلام)، ثم رواه عن أبي بكر محمد بن يزيد الطرسوسي عن معن بن عيسى عن جعفر بن خالد عن هشام به، فإنه حديث منكر غريب، وجعفر هذا هو ابن محمد بن خالد بن الزبير بن العوام القرشي الزبيري، قال البخاري: لا يتابع في حديثه.
وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي: منكر الحديث.
وتكلم عليه الإمام أبو جعفر بما حاصله أن هذه الآيات مما لا يعلم إلا بالتوقيف عن الله تعالى مما وقفه عليها جبريل، وهذا تأويل صحيح لو صح الحديث، فإن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ومنه ما لا يعذر أحد في جهله كما صرح بذلك ابن عباس فيما قال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبي الزناد قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه أحد إلا الله].
أي: أن التفسير منه ما تعرفه العرب من كلامها، ومنه ما لا يعذر أحد بجهالته لوضوحه، مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا} [البقرة:43] وقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، وقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران:130] وهناك تفسير لا يعرفه إلا العلماء، وهناك تفسير لا يعلمه إلا الله، فبعض الآيات لا يعلمها إلا الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: وقد روي نحوه في حديث في إسناده نظر: حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي أنبأنا ابن وهب قال: سمعت عمرو بن الحارث يحدث عن الكلبي عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنزل القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به، وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب)].
هذا الحديث ليس بصحيح، فرواية الكلبي عن أبي صالح ضعيفة جداً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والنظر الذي أشار إليه في إسناده هو من جهة محمد بن السائب الكلبي، فإنه متروك الحديث، لكن قد يكون إنما وهم في رفعه، ولعله من كلام ابن عباس كما تقدم، والله اعلم].
محمد بن السائب الكلبي متروك، أي: أن حديثه ضعيف جداً وقريب من الوضع، فيكون قد وهم في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والصواب أنه من كلام ابن عباس.(2/5)
مقدمة تفسير ابن كثير [3]
سور القرآن مكية ومدنية، فالمكي منها ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها، وقد اهتم أهل العلم بآيات القرآن وكلماته وحروفه، فعدوها، وقسموا القرآن إلى أحزاب وأجزاء، وذلك حتى يسهل حفظه للحفاظ وتتيسر تلاوته لمن يتلوه آناء الليل وأطراف النهار.(3/1)
بيان معنى مكي السور ومدنيها
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: [مقدمة مفيدة تذكر في أول التفسير قبل الفاتحة: قال أبو بكر بن الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة قال: نزل في المدينة من القرآن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وبراءة والرعد والنحل والحج والنور والأحزاب ومحمد والفتح والحجرات والرحمن والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون والتغابن والطلاق و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم:1] إلى رأس العشر، و {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة:1] و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1] هؤلاء السور نزلت بالمدينة وسائر السور بمكة].
شرع المؤلف رحمه الله تعالى في بيان السور التي نزلت في مكة والسور التي نزلت في المدينة، وهذا الأمر محل خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من قال: إن المكي من السور ما نزل في مكة، والمدني ما نزل في المدينة، ومن العلماء من قال: المكي من السور ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، ولو نزل في مكة، كلقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فهذه الآية نزلت في مكة في حجة الوداع يوم عرفة، لكنها تعتبر مدنية؛ لأنها نزلت بعد الهجرة.
والصواب أن المكي من القرآن ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، حتى ولو نزل في السفر، فما نزل في السفر وما نزل في مكة بعد الهجرة يعتبر مدنياً.(3/2)
بيان عدد آيات القرآن الكريم وكلماته وحروفه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما عدد آيات القرآن العظيم فستة آلاف آية، ثم اختلف فيما زاد على ذلك على أقوال، فمنهم من لم يزد على ذلك، ومنهم من قال: ومائتي آية وأربع آيات، وقيل: وأربع عشرة آية، وقيل: ومائتان وتسع عشرة آية، وقيل: ومائتان وخمس وعشرون آية أو ست وعشرون آية، وقيل: ومائتان وست وثلاثون، حكى ذلك أبو عمرو الداني في كتابه البيان، وأما كلماته فقال الفضل بن شاذان عن عطاء بن يسار: سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة، وأما حروفه فقال عبد الله بن كثير عن مجاهد: هذا ما أحصيناه من القرآن، وهو ثلاثمائة ألف حرف وأحد وعشرون ألف حرف ومائة وثمانون حرفاً، وقال الفضل بن عطاء بن يسار ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألفاً وخمسة عشر حرفاً، وقال سلام أبو محمد الحماني: إن الحجاج جمع القراء والحفاظ والكتاب فقال: أخبروني عن القرآن كله كم من حرف هو؟ قال: فحسبنا فأجمعوا أنه ثلاثمائة ألف وأربعون ألفاً وسبعمائة وأربعون حرفاً، قال فأخبروني عن نصفه.
فإذا هو إلى الفاء من قوله في الكهف: {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف:19]، وثلثه الأول عند رأس مائة آية من براءة، والثاني على رأس مائة أو إحدى ومائة من الشعراء، والثالث إلى آخره، وسبعه الأول إلى الدال من قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ} [النساء:55] والسبع الثاني إلى التاء في قوله تعالى في سورة الأعراف: {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ} [التوبة:17] والثالث إلى الألف الثاني من قوله تعالى في الرعد: {أُكُلُهَا} [الرعد:35]، والرابع إلى الألف في الحج من قوله: {جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج:34] والخامس إلى الهاء من قوله في الأحزاب: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب:36]، والسادس إلى الواو من قوله تعالى في الفتح: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:6] والسابع إلى آخر القرآن، قال سلام أبو محمد: علمنا ذلك في أربعة أشهر، قالوا: وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربع القرآن، فالأول إلى آخر الأنعام، والثاني إلى (وليتلطف) في سورة الكهف، والثالث إلى آخر الزمر، والرابع إلى آخر القرآن].
المهم هو التدبر والعمل، بحيث يقرأ المسلم بتدبر وخضوع وخشوع ورغبة ورهبة ثم يعمل، وقد ثبت في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف).
وقوله: (قالوا: وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربع القرآن، فالأول إلى آخر الأنعام، والثاني إلى {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف:19] في سورة الكهف، والثالث إلى آخر الزمر، والرابع إلى آخر القرآن) هذا لو صح لكان من الحسنات التي عملها الحجاج، فـ الحجاج فاسق ظالم أسرف في القتل حتى قتل الألوف، وقد قتل سعيد بن جبير، ويقال: إنه رئي في المنام بعد موته فسئل عن حاله فقال: قتلت بكل قتيل قتلة إلا سعيد بن جبير قتلت به سبعين قتلة، وإني بعد ذلك أرجو ما يرجو المحسنون.
وهو موحد لكنه عند أهل العلم فاسق وظالم؛ لأنه أسرف في القتل فقتل خلقاً كثيراً، فإن صح أنه كان يقرأ في كل ليلة ربع القرآن فذلك من حسناته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد حكى الشيخ أبو عمرو الداني في كتابه (البيان) خلافاً في هذا كله.
فالله أعلم].(3/3)
ذكر تحزيب القرآن وتجزيئه
قال رحمه الله تعالى: [وأما التحزيب والتجزئة فقد اشتهرت الأجزاء من ثلاثين كما في الربعات بالمدارس وغيرها].
في زمانهم كانت توجد مدارس، ولكن ليست على غرار المدارس الموجودة الآن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكرنا فيما تقدم الحديث الوارد في تحزيب الصحابة للقرآن، والحديث في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجة وغيرهم عن أوس بن حذيفة أنه سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل حتى تختم].
هذا هو المعروف المشهور عن الصحابة، وهو أنهم كانوا يقرءون القرآن ثلاثاً وخمساً وسبعاً وتسعاً وإحدى عشرة وثلاث عشرة والمفصل، فالثلاث: البقرة وآل عمران والنساء، والخمس: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة، وهكذا، فكانوا يجعلون القرآن سبعة أحزاب: الحزب الأول ثلاث سور، والثاني خمس، والثالث سبع، وبعده تسع، ثم إحدى عشرة، ثم ثلاث عشرة، فيصل الحزب السادس إلى قاف، ثم يكون الحزب السابع هو حزب المفصل من (ق) إلى آخر القرآن الكريم، فيختم المرء القرآن في سبعة أيام على هذا النحو، وهذا هو السنة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو بن العاص لما بلغه أنه يصوم النهار ويقوم الليل، فقد أنكر عليه وقال له: (صم من الشهر ثلاثة أيام) وأمره أن يقرأ القرآن في كل شهر فقال عبد الله: إني أطيق أقوى من ذلك، فما زال به حتى أوصله في تلاوة القرآن إلى سبع ليال، وجاء في الحديث الآخر: (لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث) وهذا يدل على أنه قد يقرأ القرآن أحياناً في ثلاث، لكن الأفضل أن يكون في سبع، وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عبد الله بن عمرو: (اقرأه في سبع ولا تزد) وفي الصيام أوصاه بأن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، حتى قال له: صم يوماً وأفطر يوماً، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، فقال: (لا صام من صام الدهر)، وفي لفظ: (لا صام من صام الأبد)، وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا صام ولا أفطر)، فلا تجوز الزيادة على نصف الدهر، فالحد هو نصف الدهر، فيصوم يوماً ويفطر يوماً، وللقرآن سبعة أيام، وفي الصلاة كذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (قم ونم).
وأما ما جاء عن السلف في رمضان من تلاوة القرآن في يوم واحد فإن بعض أهل العلم قال: إن هذا خاص بالأوقات الفاضلة، لكن ينبغي أن لا يكون ذلك في أقل من ثلاث؛ لحديث: (لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث)، وما فعله بعض السلف فهو اجتهاد منهم.
فالحاصل أن الصحابة حزبوا القرآن إلى سبعة أحزاب على تلك الطريقة، وأما جعله ثلاثين جزءاً فالظاهر أنه ليس من فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم.(3/4)
بيان معنى السورة واشتقاقها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: واختلف في معنى السورة مما هي مشتقة، فقيل: من الإبانة والارتفاع، قال النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب فكأن القارئ ينتقل بها من منزلة إلى منزلة، وقيل: لشرفها وارتفاعها، كسور البلدان، وقيل: سميت سورة لكونها قطعة من القرآن وجزء منه، ومأخوذ من أسار الإناء، وهو البقية، وعلى هذا فيكون أصلها مهموزاً، وإنما خففت الهمزة فأبدلت الهمزة واواً لانضمام ما قبلها، وقيل: لتمامها وكمالها؛ لأن العرب يسمون الناقة التامة سورة.
قلت: ويحتمل أن يكون من الجمع والإحاطة لآياتها، كما يسمى سور البلد لإحاطته بمنازله ودوره، وجمع السورة: سور بفتح الواو، وقد يجمع على سورات وسوارات].
هذا كله ليس ببعيد، فقد تشمل السورة هذه المعاني كلها؛ إذ فيها إبانة وفيها ارتفاع وفيها انتقال من منزلة إلى منزلة وفيها إحاطة.(3/5)
بيان معنى الآية وأصلها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الآية فمن العلامة على انقطاع الكلام الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصالها، أي: هي بائنة عن أختها ومنفردة، قال الله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} [البقرة:248]].
وقال النابغة: توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع وقيل: لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه، كما يقال: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعاتهم، قال الشاعر: خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا وقيل: سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها، قال سيبويه: وأصلها أيية، مثل أكمة وشجرة، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً فصارت آية بهمزة بعدها مدة، وقال الكسائي: أصلها آيية، على وزن (آمنة) فقلبت ألفاً، ثم حذفت لالتباسها، وقال الفراء: أصلها أيية فقلبت ألفاً كراهية التشديد فصارت آية، وجمعها آي وآياي وآيات].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الكلمة فهي اللفظة الواحدة، وقد تكون على حرفين مثل (ما) و (لا) ونحو ذلك].(3/6)
الكلمة في القرآن العظيم
وقد تكون أكثر، وأكثر ما تكون عشرة أحرف مثل: (وليستخلفنهم)، (أنلزمكموها)، (فأسقيناكموه)] هذه عشرة أحرف، كل عشرة منها تكون كلمة واحدة.
قوله: [وقد تكون الكلمة الواحدة آية مثل: (والفجر)، (والضحى)، (والعصر)، وكذلك: (الم)، و (طه)، و (يس)، و (حم) في قول الكوفيين، و (حم عسق) عندهم كلمتان، وغيرهم لا يسمي هذه آيات، بل يقول: هذه فواتح السور].
والمعتمد أنها آية كما هو موجود في المصاحف.
قوله: [وقال أبو عمرو الداني: لا أعلم كلمة هي وحدها آية إلا قوله تعالى: (مدهامتان) بسورة الرحمن.
فصل.
قال القرطبي: أجمعوا على أنه ليس في القرآن شيء من التراكيب الأعجمية، وأجمعوا أن فيه أعلاماً من الأعجمية، كإبراهيم ونوح ولوط، واختلفوا هل فيه شيء من غير ذلك بالأعجمية، فأنكر ذلك الباقلاني والطبري وقالا: ما وقع فيه مما يوافق الأعجمية فهو من باب ما توافقت فيه اللغات].
وهذه المسألة فيها كلام لأهل العلم، منهم من قال في بعض الكلمات كسجيل وأبابيل وغيرها: إنها أعجمية ثم دخلت العربية، ومنهم من قال: هذا مما توافقت فيه اللغات.(3/7)
تفسير سورة الفاتحة [1]
سورة الفاتحة هي أعظم سور القرآن، وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة، ولهذه السورة العظيمة أسماء عديدة منها: الحمد، وأم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والشفاء، والرقية، والواقية، والكافية وغيرها، وتعدد الأسماء يدل على عظمة المسمى.(4/1)
بين يدي تفسير سورة الفاتحة
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم.
يقال لها: الفاتحة، أي: فاتحة الكتاب خطاً، وبها تفتح القراءة في الصلوات، ويقال لها أيضاً: أم الكتاب عند الجمهور، ذكره أنس، والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك، قال الحسن وابن سيرين: إنما ذلك اللوح المحفوظ، وقال الحسن: الآيات المحكمات هن أم الكتاب، ولذا كرها أيضاً أن يقال لها: أم القرآن.
وقد ثبت في الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله رب العالمين أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والقرآن العظيم).
ويقال لها: الحمد، ويقال لها: الصلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي) الحديث].
إن أعظم سورة في القرآن هي فاتحة الكتاب، ولم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها.(4/2)
أسماء سورة الفاتحة
إن للفاتحة أسماء متعددة منها: الحمد، وفاتحة الكتاب، وأم القرآن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمى: الصلاة؛ وذلك لما جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين …)، فسماها صلاة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فسميت الفاتحة صلاة؛ لأنها شرط فيها، ويقال لها: الشفاء؛ لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعاً: (فاتحة الكتاب شفاء من كل سم).
ويقال لها الرقية؛ لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أنها رقية؟)].
هذا الحديث له قصة، وهي: أن الصحابة استضافوا بعض العرب فلم يضيفوهم، فلما ذهبوا عنهم لدغ سيدهم، فالتمسوا له الأطباء فلم يفد في شيء، ثم جاءوا إلى الصحابة وقالوا: إن سيدنا لدغ، وقد عملنا له كل الأسباب فلم ينتفع بشيء، فهل عندكم من راقٍ؟ فقال بعض الصحابة: نعم أنا أرقي، ولكن لا أرقيه إلا بجعل، فقد استضفناكم فلم تضيفونا، فاتفقوا معه على ثلاثين رأساً من الغنم، فجاء رجل من الصحابة لم يكن معروفاً بحفظ القرآن، فأخذ العضو الذي فيه اللدغة وجعل يقرأ عليه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ويتفل ويرددها حتى خرج السم، فقال الصحابة: فكأنما نشط من عقال، فاستاقوا الثلاثين رأساً من الغنم، ثم تحرجوا وقالوا: كيف نأخذها ولم نسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وما يدريك أنها رقية؟! خذوها واضربوا لي معكم منها بسهم)؛ تطييباً لخواطرهم، وسمي اللديغ سليماً تفاؤلاً له بالسلامة، كما تسمى الصحراء مفازة تفاؤلاً بالفوز بالسلامة، فالعرب تستعمل الشيء لضده من باب التفاؤل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى الشعبي عن ابن عباس: أنه سماها أساس القرآن، قال: وأساسها بسم الله الرحمن الرحيم، وسماها سفيان بن عيينة: بالواقية، وسماها يحيى بن أبي كثير الكافية؛ لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة: (أم القرآن عوض من غيرها، وليس من غيرها عوض منها) ويقال لها: سورة الصلاة والكنز، ذكرهما الزمخشري في كشافه].
وذلك لأنها ركن في الصلاة لابد منها؛ فلو اقتصر عليها في الصلاة لصحت صلاته بخلاف غيرها.(4/3)
بيان أقوال الصحابة والتابعين في مكية سورة الفاتحة ومدنيتها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهي مكية، قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية، وقيل: مدنية، قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري، ويقال: نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة، والأول أشبه؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر:87]، والله تعالى أعلم].
الراجح أنها نزلت بمكة، ولا يبعد أن تكون نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة؛ لعظم شأنها، فهي أعظم سورة في القرآن، ولم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها، فجميع ما في الكتب المنزلة من المعاني جمعت في القرآن، وجميع ما في القرآن جمع في الفاتحة، وجميع ما في الفاتحة جمع في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحكى أبو الليث السمرقندي: أن نصفها نزل بمكة ونصفها الآخر نزل بالمدينة، وهو غريب جداً، نقله القرطبي عنه].
إذاً: ففي مكان نزولها أقوال، فقيل: نزلت بمكة، وقيل: نزلت بالمدينة، وقيل: نزلت مرتين، وقيل: نزل نصفها بمكة ونزل نصفها الآخر بالمدينة، وهذا قول غريب كما ذكر المؤلف رحمه الله.(4/4)
عدد آياتها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهي سبع آيات بلا خلاف، وقال عمرو بن عبيد: ثمان، وقال حسين الجعفي: ست، وهذان القولان شاذان].
صدق رحمه الله! فهذان القولان شاذان لا يعول عليهما، والصواب أنها سبع آيات، وهذا كالإجماع من العلماء أنها سبع آيات، والصواب أنها سبع آيات بغير البسملة، فالآية الأولى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1]، والآية الثانية: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2]، والآية الثالثة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:3]، والآية الرابعة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:4]، والآية الخامسة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:5]، والآية السادسة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6]، والآية السابعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، فهذا هو الصواب من أقوال أهل العلم، وقال بعض أهل العلم: إن البسملة هي الآية الأولى، وجعلوا: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] آية واحدة، أي: جعلوا الآيتين السادسة والسابعة آية واحدة، وهذا قول مرجوح، ويدل على الأول قول الله تعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1]) ولم يقل: فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم، بل ابتدأ بالحمد.
وهذا على خلاف ما هو موجود الآن في المصاحف، فالموجود الآن في المصاحف هو جعل البسملة الآية الأولى.
والصواب أن البسملة آية مستقلة في أول كل سورة، فليست من الفاتحة ولا من غيرها.
وقال بعضهم: إنها آية من أول كل سورة، وهذا قول مرجوح، وهي بعض آية من سورة النمل بالإجماع، وذلك قوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، فالصواب أنها سبع آيات بدون البسملة، وأما القول بأنها ست أو ثمان فهو قول شاذ لا يعول عليه، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما اختلفوا في البسملة هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة، وقول جماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف، أو بعض آية، أو لا تعد من أولها بالكلية كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء، على ثلاثة أقوال سيأتي تقريرها في موضعه إن شاء الله تعالى، وبه الثقة].(4/5)
كلماتها وحروفها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قالوا: وكلماتها خمس وعشرون كلمة، وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفاً].
أي: لابد من الإتيان بالكلمات والحروف، فإذا أسقط حرفاً منها لم تصح الصلاة، وفيها إحدى عشرة شدة وهي في المواضع التالية: ((لِلَّهِ))، ((رَبِّ))، ((الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))، ((الدِّينِ))، ((إِيَّاكَ))، ((وَإِيَّاكَ))، ((الصِّرَاطَ))، ((الَّذِينَ))، ((وَلا الضَّالِّينَ))، وفيها شدتان، فلابد من الإتيان بالشدات، ولابد من الإتيان بالحروف، وكذلك إذا قرأ قراءة يلحن فيها لحناً يخل بالمعنى، كما يقرأ بعضهم: إياكِ نعبد بكسر الكاف، فإن الصلاة تبطل، كذلك إذا قرأ: أهدنا الصراط من الهديّة، تغير المعنى وبطلت صلاته، وكذا إذا قرأ: أنعمتُ فأضاف الضمير إلى نفسه، وأما إذا كان اللحن لا يغير المعنى فلا تبطل الصلاة، كما يقرأ بعض العامة: الحمد لله ربَّ العالمين بفتح الباء، أو يقرأ: مالك يومَ الدين، بفتح الميم، أو يقرأ: صراط الذين أنعمتَ عليهُم بضم الهاء، فهذا لحن، لكنه لا يغير المعنى.
وأما الضاد والظاء فسيأتي كلام المؤلف رحمه الله، وفيه أنه يتساهل فيهما لقرب مخرجهما، فإذا نطق الضاد ظاءً صحت الصلاة كما سينبه المؤلف عليه.(4/6)
سبب تسميتها بأم الكتاب وأم القرآن ونحوهما
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال البخاري في أول كتاب التفسير: وسميت أم الكتاب؛ لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة، وقيل: إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته.
قال ابن جرير: والعرب تسمي كل جامع أمر أو مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع أماً].
يعني: أن العرب تسمي الشيء الذي له أصل وله توابع تسميه أمَّاً، وسميت الأم أماً لأن الطفل يرجع ويئول إليها، فكذلك الفاتحة تسمى أم القرآن؛ لأن معاني القرآن ترجع إليها، ومكة تسمى أم القرى؛ لأن القرى ترجع إليها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس، ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أماً، واستشهد بقول ذي الرمة: على رأسه أم لنا نقتدي بها جماع أمور ليس نعصي لها أمرا يعني: الرمح.
قال: وسميت مكة أم القرى؛ لتقدمها أمام جميعها، وجمعها ما سواها، وقيل: لأن الأرض دحيت منها.
ويقال لها أيضاً: الفاتحة؛ لأنها تفتتح بها القراءة، وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام، وصح تسميتها بالسبع المثاني، قالوا: لأنها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كل ركعة، وإن كان للمثاني معنى آخر غير هذا، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا ابن أبي ذئب، وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أم القرآن: (هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم)، ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به.
وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني).
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد حدثنا محمد بن غالب بن حارث حدثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي حدثنا المعافى بن عمران عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله رب العالمين سبع آيات، بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم، وهي أم الكتاب وفاتحة الكتاب)، وقد رواه الدارقطني أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً بنحوه أو مثله، وقال: كلهم ثقات].
وعلى هذا تكون البسملة أول آية في الفاتحة، لكن الصحيح أنها سبع آيات بدون البسملة كما سبق.
وعلى هذا من قال: إن البسملة ليست آية من الفاتحة تكون قراءتها عنده سنة وليست بواجبة، فمن تركها صحت الصلاة، وأما على القول بأنها آية من سورة الفاتحة فإنها تكون واجبة.
والمعروف عند العلماء أن الاستفتاح والتعوذ والبسملة من سنن الصلاة، والواجب هو قراءة الفاتحة فقط.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم فسروا قوله تعالى: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر:87] بالفاتحة، وأن البسملة هي الآية السابعة منها، وسيأتي تمام هذا عند البسملة، وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لـ ابن مسعود: لم لم تكتب الفاتحة في مصحفك؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة، قال أبو بكر بن أبي داود: يعني: حيث يقرأ في الصلاة، قال: واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها.
وقد قيل: إن الفاتحة أول شيء أنزل من القرآن، كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة، ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة، وقيل {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] كما في حديث جابر في الصحيح، وقيل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وهذا هو الصحيح كما سيأتي تقريره في موضعه والله المستعان].
هذا هو الصواب كما ثبت في البخاري أن أول ما نزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، ثم نزل بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، فبنزول (اقرأ) صار صلى الله عليه وسلم نبياً، وبنزول (المدثر) صار رسولاً عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال العلماء: نبئ باقرأ، وأرسل بالمدثر.(4/7)
فضلها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر ما ورد في فضل الفاتحة.
قال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: (كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت، قال: فأتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قال: قلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، قال: ألم يقل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد، قلت: يا رسول الله! إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن، قال: نعم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)، وهكذا رواه البخاري عن مسدد وعلي بن المديني كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به، ورواه في موضع آخر من التفسير، وأبو داود والنسائي وابن ماجة من طرق عن شعبة به].
هذا صريح في أن الفاتحة أعظم سورة في القرآن، وأعظم آية هي آية الكرسي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاري عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى عن أبي بن كعب فذكر نحوه.
وقد وقع في الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ما ينبغي التنبيه عليه، فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي أن أبا سعيد مولى ابن عامر بن كريز أخبرهم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي في المسجد، فلما فرغ من صلاته لحقه، قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي، وهو يريد أن يخرج من باب المسجد، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو ألا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها، قال أبي رضي الله عنه: فجعلت أبطيء في المشي رجاء ذلك، ثم قلت: يا رسول الله! ما السورة التي وعدتني؟ قال: كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال: فقرأت عليه: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:2] حتى أتيت على آخرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي هذه السورة، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت)، فـ أبو سعيد هذا ليس بـ أبي سعيد بن المعلى كما اعتقده ابن الأثير في جامع الأصول ومن تبعه، فإن ابن المعلى صحابي أنصاري، وهذا تابعي من موالي خزاعة، وذاك الحديث متصل صحيح، وهذا ظاهره أنه منقطع إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبي بن كعب، فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم والله أعلم، على أنه قد روي عن أبي بن كعب من غير وجه، كما قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب وهو يصلي، فقال: يا أبي! فالتفت ثم لم يجبه، ثم قال أبي: فخفف أبي، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك أي رسول الله! فقال: وعليك السلام، ما منعك أي أبي إذ دعوتك أن تجيبني؟ فقال: أي رسول الله! كنت في الصلاة، قال: أولست تجد فيما أوحى الله تعالى إلي: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، قال: بلى يا رسول الله! لا أعود، قال: أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ قلت: نعم أي رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو ألا أخرج من هذا الباب حتى تعلمها، قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي يحدثني وأنا أتبطأ مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث، فلما دنونا من الباب قلت: أي رسول الله! ما السورة التي وعدتني؟ قال: ما تقرأ في الصلاة؟ قال: فقرأت عليه أم القرآن، قال: والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها السبع المثاني)].
وما بلغت هذه السورة هذه المنزلة إلا لما اشتملت عليه من الإلهيات، وإثبات النبوة، والتوحيد والمعاد، وإخلاص العبادة لله عز وجل، والرد على أهل البدع، وتقسيم الناس إلى الذين أنعم الله عليهم، والمغضوب عليهم، والضالين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه فذكره، وعنده: (أنها من السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته)، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح].
المعروف في الأحاديث: (أنها السبع المثاني) ولعل (من) زائدة.
وفي الحديث السابق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ألم يقل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:24])، ففيه دليل على إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم ولو في الصلاة، وهذا مستثنى بنص الآية.
وكذلك إذا كان في صلاة النفل ودعاه والداه أو أحدهما وكان يعلم أنهما لا يغضبان ولا يتأثران بذلك فيكمل صلاته، وأما إذا كان يعلم أنهما يتأثران فيجيبهما ويقطع الصلاة؛ لأنها صلاة نفل وإجابة الوالدين واجبة، وأما الفريضة فلا.
ومعروف قصة جريج كما في الصحيحين: (كان جريج راهباً عابداً في صومعة، فجاءت أمه تناديه، فقال: رب! أمي وصلاتي، فلم يجبها، ثم جاءت مرة أخرى ونادت: يا جريج! فقال: رب! أمي وصلاتي، فاشتغل بالصلاة وقدم الصلاة ولم يجبها، ثم نادت في الثالثة قالت: يا جريج! قال: رب! أمي وصلاتي، فلم يجبها، فدعت عليه قالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات -يعني: الزانيات والعياذ بالله-، فاستجاب الله دعاء أمه، فجاءت امرأة بغي حول صومعته ومكنت نفسها من راعي غنم حتى حملت، فلما ولدت جاءوا إليها، فقالت: إنه ابن جريج، فجاءوا وأنزلوه من صومعته وهدموا صومعته، قال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي وجاءت بهذا الولد منك، قال: أين الغلام؟ فأتوا بالغلام، فتوضأ وصلى ثم طعن في بطن الغلام بأصبعه وقال: يا غلام من أبوك؟ فقال: فلان الراعي، فاعتذروا إليه وقالوا: نبني صومعتك من ذهب، فقال: لا، أعيدوها كما كانت من طين)، فالمقصود أن الله استجاب دعوة أمه، فنظر إلى وجه المومسة المرأة البغي هذه، وهذا يدل على أن حق الوالد عظيم وأنه لا ينبغي أن يفرط فيه.
وإجابة الرسول عليه الصلاة والسلام أولى من إجابة الوالد؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الباب عن أنس بن مالك، ورواه عبد الله بن الإمام أحمد عن إسماعيل بن أبي معمر عن أبي أسامة عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن أبي بن كعب رضي الله عنه فذكره مطولاً بنحوه أو قريباً منه، وقد رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن أبي عمار حسين بن حريث عن الفضل بن موسى عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي نصفين)، هذا لفظ النسائي، وقال الترمذي: حديث حسن غريب].
ومعنى كونها نصفين أن نصفها الأول ثناء، ونصفها الأخير دعاء وسؤال، فنصفها الأول لله ونصفها الثاني للعبد.(4/8)
أقوال العلماء في تفاضل سور القرآن وآياته
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا هاشم -يعني ابن البريد - حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن جابر قال: (انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أهراق الماء، فقلت: السلام عليك يا رسول الله! فلم يرد علي، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله! فلم يرد علي، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله! فلم يرد علي قال: فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا خلفه، حتى دخل رحله، ودخلت أنا المسجد، فجلست كئيباً حزيناً فخرج علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تطهر، فقال: عليك السلام ورحمة الله وبركاته وعليك السلام ورحمة الله وبركاته وعليك السلام ورحمة الله، ثم قال: ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأخير سورة في القرآن؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها)، هذا إسناد جيد، وابن عقيل هذا يحتج به الأئمة الكبار].
هذا الحديث ضعيف، سببه عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيء الحفظ، وفي متنه غرابة من جهة كون النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد السلام على عبد الله بن جابر من أجل أنه لم يكن على طهارة، فقد جاء في حديث آخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عليه مهاجر بن قنفذ فاستقبل الجدار وحكه وتيمم ثم رد عليه السلام، وقال: حرصت ألا أذكر الله إلا على طهر)، وهذا من باب الاستحباب، وكذلك كون الرسول صلى الله عليه وسلم يرد السلام ثلاث مرات: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وعليك السلام ورحمة الله، وهذا غير معروف في الأحاديث.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعبد الله بن جابر هذا الصحابي، ذكر ابن الجوزي أنه هو العبدي والله أعلم.
ويقال: إنه عبد الله بن جابر الأنصاري البياضي فيما ذكره الحافظ ابن عساكر.
واستدلوا بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض كما هو المحكي عن كثير من العلماء منهم: إسحاق بن راهويه وأبو بكر بن العربي وابن الحصار من المالكية].
الصواب أن القرآن يتفاضل، فبعضه أفضل من بعض، ومما يدل على ذلك أن آية الكرسي أفضل آية في القرآن، وسورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن، وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] تعدل ربع القرآن، وسورة الزلزلة تعدل ربع القرآن، فكلام الله يتفاضل، وبعضه أفضل من بعض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذهبت طائفة أخرى إلى أنه لا تفاضل في ذلك؛ لأن الجميع كلام الله، ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه، وإن كان الجميع فاضلاً، نقله القرطبي عن الأشعري وأبي بكر الباقلاني وأبي حاتم بن حبان البستي وأبي حيان ويحيى بن يحيى، ورواية عن الإمام مالك أيضاً].
هذا القول ضعيف، وهو خلاف النصوص، والصواب الذي دلت عليه النصوص هو القول الأول: أنه يتفاضل.(4/9)
تابع ما ورد في فضل سورة الفاتحة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حديث آخر: قال البخاري في فضائل القرآن: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا وهب حدثنا هشام عن محمد عن معبد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم، وإن نفرنا غيب، فهل منكم راقٍ؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية)].
(سليم) يعني: لديغ، وهذا من باب التفاؤل له بالسلامة.
(وإن نفرنا غيب) أي: ما عندنا أحد من الرجال، فهي تطلب منهم أن يعالجوه.
(فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية) أي: ما كان يعرف أنه قارئ، أو ما يعرفون أنه يحفظ شيئاً من القرآن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبناً، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي ونسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وما كان يدريه أنها رقية؟! اقسموا واضربوا لي بسهم)].
يعني: فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من باب تطييب خواطرهم نفوسهم؛ ليعلموا أنها حل وأنها مباح، فقد شكوا وتوقفوا، فبين لهم أن هذا لا بأس به.
وفيه أيضاً دليل على أنه لا بأس بأخذ الأجرة على القراءة في الرقية، وهنا أمر مهم وهو أنه لا ينبغي التوسع في هذا؛ لأن الأصل هو أن يقرأ على المريض وينفث، أو يقرأ في ماء كما جاء في سنن أبي داود، وأما ما يفعله بعض القراء من قراءته في زجاجات الصحة ويأخذ عليها أجرة كبيرة أو ما أشبه ذلك فهذا غلط، وبعضهم يقرأ في خزان وهذا توسع لا وجه له.
لكن إذا قرأ على المريض وأخذ أجرة معقولة فهذا لا بأس به إن احتاج إلى ذلك، وأما كونه يستغل حاجة الناس ويقرأ في زجاجات، أو خزان، أو يقرأ على جماعة كثيرين، أو يقرأ بمكبرات الصوت فكل هذا توسع لا أصل له.
فإن قيل: هل يشترط على القارئ ألا يأخذ أجرة على القراءة حتى يشفى المريض الذي قرأ عليه، ويستدل على ذلك بهذا الحديث؟ أقول: لا أعرف في هذا مانعاً، لكن هذا الحديث ليس فيه أنهم اشترطوا أن يشفى.
وكذلك التمائم التي تكتب في ورقة ثم يصورها من يكتبها ويبيعها، فهذا من الشرك ولو كانت من القرآن؛ لحديث: (من تعلق تميمة فلا أتم الله)، إذاً: فالصواب أن التميمة ممنوعة حتى ولو كانت من القرآن؛ لعموم النصوص.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو معمر: حدثنا عبد الوارث حدثنا هشام حدثنا محمد بن سيرين حدثني معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري بهذا، وهكذا رواه مسلم وأبو داود من رواية هشام، وهو ابن حسان عن ابن سيرين به، وفي بعض روايات مسلم لهذا الحديث: أن أبا سعيد الخدري هو الذي رقى ذلك السليم -يعني: اللديغ- يسمونه بذلك تفاؤلاً.
حديث آخر: روى مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث أبي الأحوص سلام بن سليم عن عمار بن زريق عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبرائيل إذ سمع نقيضاً فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفاً منها إلا أوتيته)، وهذا لفظ النسائي ولـ مسلم نحوه].(4/10)
تفسير سورة الفاتحة [2]
قراءة الفاتحة ركن في كل ركعة في الصلاة فرضاً كانت أو نافلة، وسواء أكان المصلي منفرداً أو إماماً أو مأموماً، ولا تصح صلاة لا تقرأ فيها فاتحة الكتاب.
في الراجح من أقوال الفقهاء.(5/1)
حكم قراءة الفاتحة في الصلاة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حديث آخر: قال مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -هو ابن راهويه - حدثنا سفيان بن عيينة عن العلاء يعني ابن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثاً غير تمام، فقيل لـ أبي هريرة: إنا نكون خلف الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، قال الله: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).
وهكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، وقد روياه أيضاً عن قتيبة عن مالك عن العلاء عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة، وفي هذا السياق: (فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل)، وهكذا رواه ابن إسحاق عن العلاء، وقد رواه مسلم من حديث ابن جريج عن العلاء عن أبي السائب هكذا، ورواه أيضاً من حديث ابن أبي أويس عن العلاء عن أبيه وأبي السائب كلاهما عن أبي هريرة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وسألت أبا زرعة عنه فقال: كلا الحديثين صحيح، من قال: عن العلاء عن أبيه وعن العلاء عن أبي السائب، وقد روى هذا الحديث عبد الله ابن الإمام أحمد من حديث العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة عن أبي بن كعب مطولاً.
وقال ابن جرير: حدثنا صالح بن مسمار المروزي حدثنا زيد بن الحباب حدثنا عنبسة بن سعيد عن مطرف بن طريف عن سعيد بن إسحاق عن كعب بن عجرة عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين وله ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال: أثنى علي عبدي، ثم قال: هذا لي وله ما بقي)، وهذا غريب من هذا الوجه].(5/2)
الكلام على ما يتعلق بحديث (قسمت الصلاة) مما يختص بالفاتحة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الكلام على ما يتعلق بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة من وجوه: أحدها: أنه قد أطلق فيها لفظ الصلاة والمراد: القراءة، كقوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء:110] أي: بقراءتك كما جاء مصرحاً به في الصحيح عن ابن عباس].
قلت: جاء في الصحيح أنها نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وكان إذا رفع صوته بالقراءة سب المشركون القرآن ومن أنزله، وإذا خفض صوته بالقراءة لم يسمعه أصحابه، فأنزل الله: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} يعني: بقراءتك؛ لئلا يسب المشركون الرب، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا}؛ لئلا تخفي ذلك عن أصحابك، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} يعني: بين الجهر وبين الإخفاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا قال في هذا الحديث: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل)، ثم بين تفصيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة، فدل على عظمة القراءة في الصلاة، وأنها من أكبر أركانها إذا أطلقت العبادة وأريد بها جزء واحد منها وهو القراءة، كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]].
والمراد بقوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ} يعني: وقت صلاة الفجر، وسمى صلاة الفجر قرآناً؛ لأن أعظم أركانها القراءة، وكذا العكس نطلق الصلاة على القرآن، كما في حديث: (قسمت الصلاة) يعني: القراءة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمراد صلاة الفجر كما جاء مصرحاً به في الصحيحين: (أنه يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار) فدل ذلك كله على أنه لابد من القراءة في الصلاة، وهو اتفاق من العلماء، ولكن اختلفوا في مسألة نذكرها في الوجه الثاني؛ وذلك أنه هل يتعين للقراءة في الصلاة غير فاتحة الكتاب أم تجزئ هي أو غيرها؟ على قولين مشهورين: فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه وغيرهم أنها لا تتعين، بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصلاة].
وهذا القول ضعيف، والصواب أنه لابد من قراءة الفاتحة ولا يقوم غيرها مقامها، وأما ما زاد عليها فغير واجب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واحتجوا بعموم قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]، وبما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة المسيء في صلاته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) قالوا: فأمره بقراءة ما تيسر ولم يعين له الفاتحة ولا غيرها، فدل على ما قلنا.
].
قلت: هذا الاستدلال يجاب عنه: بأن قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] مجمل، وحديث المسيء في صلاته مجمل، وقد بينتهما الأحاديث الصحيحة: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والقول الثاني: أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ولا تجزئ الصلاة بدونها، وهو قول بقية الأئمة: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء، واحتجوا على ذلك بهذا الحديث المذكور حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج)، والخداج هو الناقص كما فسر به في الحديث: (غير تمام).
واحتجوا أيضاً بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، ووجه المناظرة هاهنا يطول ذكره، وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك رحمهم الله.
ثم إن مذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم أنها تجب قراءتها في كل ركعة، وقال آخرون: إنما تجب قراءتها في معظم الركعات، وقال الحسن وأكثر البصريين: إنما تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلوات أخذاً بمطلق الحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)].
قلت: الصواب أنها ركن في كل ركعة للإمام والمنفرد، فأما المأموم ففيه خلاف، لكن الإمام والمنفرد يجب عليه أن يقرأ الفاتحة في كل ركعة، ولا تصح الصلاة إلا بقراءتها في كل ركعة، فهذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: لا تتعين قراءتها، بل لو قرأ بغيرها أجزأه؛ لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]، والله أعلم.
وقد روى ابن ماجة من حديث أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعاً: (لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها) وفي صحة هذا نظر، وموضع تحرير هذا كله في كتاب (الأحكام الكبير)، والله أعلم].
كتاب (الأحكام الكبير) هو للمؤلف رحمه الله.
فحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها) هو كما قال المؤلف: في صحته نظر؛ لأنه لا يتعين إلا الفاتحة.
وأما بالنسبة للإمام والمنفرد فإنه يجب قراءة الفاتحة عليهما، وأما المأموم ففيه خلاف، وهناك عدة أقوال: الأول: ذهب الجمهور إلى أن المأموم تسقط عنه، وأن قراءة الإمام قراءة له.
وقيل: إنها مستثناة، ويستدلون بقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، قال الإمام ابن حجر: أجمع العلماء على أنها نازلة في الصلاة، وبما ثبت في صحيح مسلم: (وإذا قرأ فأنصتوا)، قالوا: فهذا يدل على أن المأموم لا يقرأ الفاتحة.
القول الثاني لأهل العلم: أن المأموم يقرؤها وأنها لا تسقط عنه، فإن كان للإمام سكتات قرأها في السكتات.
وأجابوا عن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] بأنها عامة، وأجابوا عن حديث: (إذا قرأ فأنصتوا) بأنه يستثنى منه الفاتحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وهذا عام يشمل الإمام والمنفرد والمأموم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها).
فإن قيل: إذا جاء المأموم والإمام يقرأ في السورة التي بعد الفاتحة فهل يشرع له الاستفتاح؟
الجواب
لا؛ لأن الاستفتاح سنة، وقد فات محله، وإنما يقتصر على الواجب وهو الفاتحة، وإذا جاء والإمام راكع سقطت عنه لحديث أبي بكرة: (أنه لما جاء والنبي راكع ركع دون الصف، ثم دب حتى دخل في الصف، فلما سلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصاً ولا تعد) ولم يأمره بإعادة الركعة، فدل هذا على أن المأموم إذا جاء والإمام راكع تسقط عنه الفاتحة، وكذلك إذا لم يتمكن من قراءتها.
أما البخاري وجماعة فيرون أنها لا تسقط بكل حال، حتى لو جاء والإمام راكع فإنه يقضي هذه الركعة؛ لعموم حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وقد ألف البخاري جزءاً في هذا سماه (جزء القراءة).
كذلك إذا كان الإمام يطيل الاستفتاح فإنه يشرع للمأموم أن يقرأ الفاتحة أثناء ذلك، ولا يعد ذلك مسابقة؛ لأن المسابقة تكون في الركوع والسجود لا في القراءة.(5/3)
حكم قراءة المأموم للفاتحة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الوجه الثالث: هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء: أحدها: أنه تجب عليه قراءتها كما تجب على إمامه؛ لعموم الأحاديث المتقدمة.
والثاني: لا تجب على المأموم قراءة بالكلية لا الفاتحة ولا غيرها لا في صلاة الجهرية ولا في صلاة السرية؛ لما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، ولكن في إسناده ضعف، ورواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر من كلامه، وقد روي هذا الحديث من طرق ولا يصح شيء منها عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
والقول الثالث: أنه تجب القراءة على المأموم في السرية لما تقدم، ولا يجب ذلك في الجهرية؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا)، وذكر بقية الحديث، وهكذا رواه بقية أهل السنن: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإذا قرأ فأنصتوا)، وقد صححه مسلم بن الحجاج أيضاً، فدل هذان الحديثان على صحة هذا القول، وهو قول قديم للشافعي رحمه الله، والله أعلم، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
والغرض من ذكر هذه المسائل هاهنا بيان اختصاص سورة الفاتحة بأحكام لا تتعلق بغيرها من السور].
إذاً: هنا ثلاثة أقوال: تجب مطلقاً في السرية والجهرية، لا تجب مطلقاً في السرية والجهرية، تجب في السرية دون الجهرية، وأيضاً هناك قول رابع: وهو أنها تجب على من أدرك الإمام راكعاً، والصواب أنها واجبة مطلقاً في السرية والجهرية، وهي مستثناة من قوله: (وإذا قرأ فأنصتوا)، ومستثناة أيضاً من قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204]، كما سبق في الحديث قال: (يا أبا هريرة إني أكون خلف الإمام؟ فقال له أبو هريرة: اقرأ بها في نفسك يا فارسي!).
فـ أبو هريرة رضي الله عنه اختار هذا القول، وهو أنها واجبة على المأموم مطلقاً في السرية والجهرية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا غسان بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فقد أمنت من كل شيء إلا الموت)].
وهذا في صحته نظر؛ لأن المعروف أن آية الكرسي هي التي تقرأ عند النوم وكذلك الذكر المعروف، وأما قراءة الفاتحة عند النوم ففي صحة ذلك نظر.(5/4)
تفسير سورة الفاتحة [3]
الاستعاذة هي طلب العوذ والالتجاء إلى الله تعالى مما يخافه الإنسان، وقد ورد الأمر بالاستعاذة في عدة آيات في القرآن، ولها أحكام من حيث مكانها، ومن حيث سببها.(6/1)
تفسير الاستعاذة وأحكامها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تفسير الاستعاذة وأحكامها.
قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:199 - 200]، وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:96 - 98]، وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:34 - 36].
فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها].
هذه الآيات في سورة الأعراف, وفي سورة حم السجدة، والثالثة في سورة المؤمنون.
فقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:199 - 200]].
فهذا أمر بالاستعاذة بالله من الشيطان.
وقال تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:98].
وهذه هي الآية الثانية، وهي في سورة المؤمنون، والشاهد: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون:97].
وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:34 - 36].
وهذه الآية الثالثة في سورة فصلت.
قوله: [فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها.
وهو أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه؛ ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى الموالاة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة، إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27].
وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]].
فالعدو للإنسان نوعان: عدو من الإنس، وعدو من الجن, فعدو الإنس تتخلص منه بالإحسان والمصانعة, وتحسن إليه بالكلام, فإذا تكلم عليك بالسب والشتام ترد عليه رداً طيباً, وكذلك إذا آذاك بالفعل أو بالقول تصانعه، وتهدي إليه هدية فيزول شره عنك, وتنقلب عداوته صداقة في الغالب كما قال سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] أي: إذا دفعت بالتي هي أحسن انقلب الذي بينك وبينه عداوة إلى صداقة، وصار كأنه ولي حميم، أي: كأنه صديق قوي الصداقة.
وأما الشيطان فلا حيلة فيه، فلا تنفع فيه المصالحة، ولا ينفع فيه الكلام الطيب, ولهذا يلجأ العبد إلى الاستعاذة بالله منه، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36]، فالعدو من الإنس تنفع فيه المصانعة، والكلام الطيب، والإحسان والهدية, فطبعه الخير وأصله الخير, فيرجع إلى أصله، لكن إذا قابلته بالمثل زادت العداوة وزاد الشر وآذاك؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، ثم قال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35] أي: لا يستطيع هذا ولا يقوى عليه إلا الموفق من أهل الصبر وأهل الحظوظ العظيمة, أما العدو من الجن فلا حيلة فيه، ولا ينفع فيه المصانعة ولا الكلام الطيب ولا الهدية، لأن العداوة شديدة وقديمة؛ ولهذا لا ينفع إلا الالتجاء إلى الله والاستعاذة بالله من شره فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, يعني: ألوذ والتجئ وأعتصم بك يا الله من شر هذا الشيطان العدو اللدود الذي يريد أن يفسد علي ديني؛ فلهذا أمر العبد بأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند تلاوة القرآن؛ لأن الشيطان يحرص على الإنسان عند فعل الخير.
قوله: [وقال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، وقد أقسم للوالد آدم عليه السلام إنه له لمن الناصحين وكذب، فكيف معاملته لنا وقد قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83]].
هذا قسم وحلف بعزة الله، فهي صفة من الصفات، فحلف أنه سيغوي بني آدم, وقد أقسم لأبينا إنه ناصح وصادق، وقد كذب وأوقعه في المعصية، وكذلك ذرية آدم أقسم بالله ليغوينهم, وقال: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:62]، وقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40]، فالعداوة قديمة وليس هناك حيلة في المصالحة أبداً مع الشيطان, وليس هناك طريق للمصالحة, فالعداوة مستمرة وقديمة, فالإنسان عليه أن يأخذ حذره، وأن يستعيذ بالله من شره, وأن يلجأ إلى الله ويعتصم به، ويلوذ بحماه من شر هذا الشيطان, وأما المصالحة معه فغير ممكنة, ولا يمكن المصافاة، وأما العدو الإنسي فيمكن مصالحته، ويمكن مصافاته.(6/2)
اختلاف العلماء في موضع الاستعاذة عند قراءة القرآن الكريم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:98 - 100].
قالت طائفة من القراء وغيرهم: يتعوذ بعد القراءة، واعتمدوا على ظاهر سياق الآية، ولدفع الإعجاب بعد فراغ العبادة].
أي: أن حجة هؤلاء: أن الله قال: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، قالوا: فظاهر الآية أن الاستعاذة تكون بعد قراءة القرآن, وأيضاً فيه فائدة أخرى وهي دفع الإعجاب.
وقال آخرون من أهل العلم: أنه يستعيذ بعد قراءة الفاتحة، وهذا قول ضعيف.
وقال آخرون: يستعيذ قبل القراءة, ومعنى قوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [النحل:98] أي: فإذا أردت، وهذا له نظائر، مثل قوله عليه الصلاة والسلام (إذا دخل أحدكم الخلاء فليقل: باسم الله) يعني: إذا أراد دخول الخلاء, وهنا: (فإذا قرأت) يعني: إذا أردت، وهذا هو الصواب، وسيأتي أن الاستعاذة تكون قبل القراءة.
قوله: [وممن ذهب إلى ذلك حمزة فيمن نقله عنه ابن قلوقا وأبو حاتم السجستاني، حكى ذلك أبو القاسم يوسف بن علي بن جنادة الهذلي المغربي في كتاب العبادة الكامل، وروي عن أبي هريرة أيضاً وهو غريب، ونقله محمد بن عمر الرازي في تفسيره عن ابن سيرين في رواية عنه، قال: وهو قول إبراهيم النخعي وداود بن علي الأصبهاني الظاهري، وحكى القرطبي عن أبي بكر بن العربي، عن المجموعة، عن مالك رحمه الله أن القارئ يتعوذ بعد الفاتحة، واستغربه ابن العربي].
هذا غريب؛ لأن الفاتحة أم القرآن.
قوله: [وحكى قولاً ثالثاً وهو: الاستعاذة أولاً وآخراً؛ جمعاً بين الدليلين، نقله الرازي].
وهذا قول ثالث: أن يستعيذ قبل القراءة ويستعيذ بعد القراءة، والقول الرابع: أنه يستعيذ مرة واحدة قبل القراءة، وهو الصواب.
قوله: [والمشهور الذي عليه الجمهور أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة؛ لدفع الموسوس عنها].
الموسوس: هو الشيطان, وهذا هو الصواب: أن الاستعاذة مرة واحدة قبل القراءة، وأما القول بأنها بعد القراءة أو القول أنها بعد الفاتحة أو القول بأنه يستعيذ مرتين فهي أقوال مرجوحة، والصواب: أنه يستعيذ مرة واحدة قبل القراءة؛ لدفع الموسوس وهو الشيطان.
قوله: [ومعنى الآية عندهم: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] أي: إذا أردت القراءة، كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:6] الآية أي: إذا أردتم القيام].
يعني: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم الخلاء فليقل باسم الله) يعني: إذا أراد.
قوله: [والدليل على ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا محمد بن الحسن بن أنس حدثنا جعفر بن سليمان عن علي بن علي الرفاعي اليشكري عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبر قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول: لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه).
وقد رواه أهل السنن الأربعة من رواية جعفر بن سليمان عن علي بن علي وهو: الرفاعي، وقال الترمذي: هو أشهر شيء في هذا الباب، وقد فسر الهمز بالموتة وهي الخنق].
يعني: صرع الشيطان للإنسان.
قوله: [والنفخ: بالكبر، والنفث بالشعر].
فالتفسير: من همزه يعني: صرعه، ونفخه: وهو الكبر، ونفثه: وهو الشعر.
قوله: [كما رواه أبو داود وابن ماجة من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن عاصم العنزي عن نافع بن مطعم عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل في الصلاة قال: (الله أكبر كبيراً ثلاثاً، الحمد لله كثيراً ثلاثاً، سبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاثاً، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه)].
هذا نوع من أنواع الاستفتاحات، قوله صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر ثلاثاً، الحمد لله ثلاثاً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاثاً) أي: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، سبحان الله بكرة وأصيلا، سبحان الله بكرة وأصيلا، سبحان الله بكرة وأصيلا.
فهذا أحد الاستفتاحات.
ومن الاستفتاحات وهو أخصر الاستفتاحات وأفضلها في ذاته؛ لأنه ثناء قوله صلى الله عليه وسلم: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) وهذا الذي كان يعلمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس على المنبر، واختاره الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وهو مختصر، وأصح منه ما رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! إذا كبرت سكت هنيهة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب, اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس, اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) , فهذا أصح ما ورد في الاستفتاحات؛ لأنه رواه الشيخان, و (سبحانك اللهم وبحمدك)، هذا أفضل الاستفتاحات في ذاته؛ لأنه ثناء على الله.
وهناك استفتاحات كثيرة وطويلة في قيام الليل, ومن ذلك ما رواه مسلم عن عائشة: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
وهناك استفتاح ابن عباس، وهو استفتاح طويل: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن, ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، لقاؤك حق، ووعدك حق، ومحمد حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق والنبيون حق) إلى آخره، لكن هذا في قيام الليل، والمقصود: أن هذا نوع من الاستفتاحات.
قوله: [قال عمرو: وهمزه: الموتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر.
وقال ابن ماجة: حدثنا علي بن المنذر، حدثنا ابن فضيل، حدثنا عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه ونفخه ونفثه) قال: همزه: الموتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا شريك، عن يعلى بن عطاء، عن رجل حدثه أنه سمع أبا أمامة الباهلي يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثلاثاً، ثم قال: لا إله إلا الله ثلاث مرات، وسبحان الله وبحمده ثلاث مرات، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه).(6/3)
الاستعاذة بالله من أسباب إزالة الغضب
وقال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان الكوفي حدثنا علي بن هشام بن البريد عن يزيد بن زياد عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (تلاحى رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فتمزع أنف أحدهما غضباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أني لأعلم شيئاً لو قاله لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن يوسف بن عيسى المروزي عن الفضل بن موسى عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد به.
وقد روى هذا الحديث: أحمد بن حنبل، عن أبي سعيد عن زائدة، وأبو داود، عن يوسف بن موسى، عن جرير بن عبد الحميد، والترمذي والنسائي في اليوم والليلة عن بندار عن ابن مهدي عن الثوري والنسائي أيضاً من حديث زائدة بن قدامة ثلاثتهم عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما غضباً شديداً حتى يخيل إلي أن أحدهما يتمزع أنفه من شدة غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد من الغضب، فقال: ما هي يا رسول الله؟! قال: يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم) قال: فجعل معاذ يأمره فأبى وجعل يزداد غضباً وهذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي: مرسل، يعني: أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يلق معاذ بن جبل فإنه مات قبل سنة عشرين.
قلت: وقد يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى سمعه من أبي بن كعب كما تقدم، وبلغه عن معاذ بن جبل، فإن هذه القصة شهدها غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.
قال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عدي بن ثابت قال: قال سليمان بن صرد رضي الله عنه: (استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، فأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجده لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني لست بمجنون)].
فهذا يحتمل أنه لا زال في غضبه وأنه سريع الغضب أو أنه منافق, لكن الأقرب أنه يستولي عليه الغضب، وجاء في اللفظ الآخر أنه قيل له: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لك قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, قال: أبي جنون حتى أقولها؟!)، فهذا يدل على أنه قد استولى عليه غضب وأنه ما أفاق من غضبه, ويحتمل أنه من المنافقين.
وهذا فيه دليل على أن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم من أسباب زوال الغضب, ومن أسباب إزالة الغضب الوضوء كما جاء في الحديث الآخر؛ لأن الغضب من الشيطان، والشيطان مخلوق من نار, والنار يطفئها الماء.
ومنها: أنه يغير حالته التي هو عليها، فإن كان قائماً فليجلس، وإن كان جالساً فليضطجع، وليخرج أيضاً من البيت إذا كان في البيت, أو من المكان, فكل هذه من أسباب إزالة الغضب, فقد يحصل بين بعض الناس وبين أهله مغاضبة فليخرج, كما حصل بين علي رضي الله عنه وفاطمة مغاضبة، فذهب ونام في المسجد، وسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة فقال: (أين ابن عمك؟ قالت: غاضبني فخرج إلى المسجد) أو كما جاء في الحديث, فيشرع للإنسان أن يخفف الغضب، ويعمل الأسباب التي تزيل هذا الغضب: من استعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والوضوء، وتغيير الحالة، والانتقال والخروج من المكان أو من البيت، حتى يهدأ غضبه ويعود إليه رشده، وحتى لا يفعل شيئاً يندم عليه، ولا تحمد عقباه في المستقبل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رواه أيضاً مع مسلم وأبي داود والنسائي من طرق متعددة عن الأعمش به.
وقد جاء في الاستعاذة أحاديث كثيرة يطول ذكرها ههنا وموطنها كتاب الأذكار وفضائل الأعمال، والله أعلم.(6/4)
ضعف أثر أمر جبريل النبي بالاستعاذة عند أول نزول القرآن
وقد روي أن جبريل عليه السلام أول ما نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالاستعاذة كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة حدثنا أبو روق عن الضحاك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد استعذ، قال أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]).
قال عبد الله: وهي أول سورة أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم بلسان جبريل، وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف فإن في إسناده ضعفاً وانقطاعاً، والله أعلم].
هذا الأثر ضعيف، لكن كون أول ما نزل من القرآن هو (اقرأ) فهو ثابت بالأحاديث الصحيحة، وبها صار نبياً عليه الصلاة والسلام، ثم فتر الوحي ونزل عليه بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، وبها صار رسولاً، نبئ باقرأ وأرسل بالمدثر، لكن الغرابة في قوله: استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وقل: بسم الله الرحمن الرحيم، فهذا غلط، وأما كون جبريل نزل عليه وقال: (اقرأ) فهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة ليس فيه إشكال.
وسند هذا الحديث فيه بشر بن عمارة ضعيف، والانقطاع بين الضحاك وابن عباس.(6/5)
أقوال العلماء في حكم الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مسألة: وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة يأثم تاركها، وحكى الرازي عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة، قال: وقال ابن سيرين إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب].
هذان قولان متقابلان, منهم من يقول: لا تجب إلا في العمر مرة، ومنهم من يقول: تجب في كل قراءة.
قوله: [واحتج الرازي لـ عطاء بظاهر الآية {فَاسْتَعِذْ} [الأعراف:200] وهو أمر ظاهره الوجوب، وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها؛ ولأنها تدرأ شر الشيطان، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ ولأن الاستعاذة أحوط وهو أحد مسالك الوجوب.
وقال بعضهم: كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وحكي عن مالك أنه لا يتعوذ في المكتوبة، ويتعوذ لقيام رمضان في أول ليلة منه].
والصواب: الأول وهو ما عليه جمهور العلماء أنها مستحبة عند كل قراءة في الصلاة وخارجها، إلا أنها في الصلاة تكفي أن يستعيذ في الركعة الأولى، وكذلك البسملة مستحبة, وليست من الفاتحة، وهي آية مستقلة على الصحيح، فهي مستحبة في الصلاة وخارجها.(6/6)
أقوال العلماء في حكم الإسرار بالاستعاذة والبسملة والجهر بهما في الصلاة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مسألة: وقال الشافعي في الإملاء: يجهر بالتعوذ، وإن أسر فلا يضر، وقال في الأم بالتخيير؛ لأنه أسر ابن عمر وجهر أبو هريرة].
والأفضل: الإسرار بالتعوذ والبسملة في الصلاة كما جاء في الأحاديث الصحيحة، ففي حديث أبي هريرة وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يستفتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها، وفي لفظ: يسرون) فالسنة الإسرار في التعوذ والبسملة في الصلاة, وإن جهر بها بعض الأحيان كما فعل أبو هريرة فلا حرج.
قوله: [واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الأولى هل يستحب التعوذ فيها: على قولين، ورجَّحَ عدم الاستحباب والله أعلم، فإذا قال المستعيذ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة، وزاد بعضهم: أعوذ بالله السميع العليم، وقال آخرون: بل يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، قاله الثوري والأوزاعي.
وحكي عن بعضهم أنه يقول: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لمطابقة أمر الآية؛ ولحديث الضحاك عن ابن عباس المذكور، والأحاديث الصحيحة كما تقدم أولى بالاتباع من هذا، والله أعلم].
وهو أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, وإن قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فلا بأس، وحديث الضحاك عن ابن عباس كما سبق ضعيف لانقطاعه.
فإن قيل: هل تشرع الاستعاذة في الصلاة في السورة التي بعد الفاتحة؟ ف
الجواب
لا، فمن السنة الاستعاذة مرة واحدة في الصلاة، فيستعيذ ويبسمل في الفاتحة، والسورة إذا قرأها من أولها فإنه يبسمل وإن قرأ من أثناء السورة فلا يحتاج إلى البسملة, فالأفضل يكتفي بالاستعاذة في الركعة الأولى فقط.
ففي بداية السورة يبسمل، ثم بعد ذلك كلما قرأ سورة يبسمل.(6/7)
اختلاف العلماء فيما تكون له الاستعاذة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مسألة: ثم الاستعاذة في الصلاة إنما هي للتلاوة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: بل للصلاة، فعلى هذا يتعوذ المأموم وإن كان لا يقرأ، ويتعوذ في العيد بعد الإحرام، وقبل تكبيرات العيد، والجمهور بعدها قبل القراءة].
فقول الجمهور: على أنه يستعيذ بعد التكبيرات قبل القراءة، وهذا هو الصواب: أن الاستعاذة للقراءة وليست للصلاة، والذي لا يقرأ لا يحتاج أن يستعيذ، فتكون بعد تكبيرات العيد الزوائد، فتكبر ستاً في الأولى, وخمساً في الثانية ثم تستعيذ بالله, هذا إذا أراد القراءة وأما الذي لا يقرأ فلا يستعيذ، فالاستعاذة ليست للصلاة وإنما هي للقراءة، هذا هو الصواب.(6/8)
من لطائف الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن لطائف الاستعاذة: أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث، وتطييب له وهو يتهيأ لتلاوة كلام الله، وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، ولا يقبل مصانعة، ولا يدارى بالإحسان، بخلاف العدو من نوع الإنسان كما دلت على ذلك آيات من القرآن في ثلاث من المثاني].
قوله: (المثاني) يعني: فوق المائة فهي في الأعراف والمؤمنون وفصلت، وهذه من المثاني.
قوله: [وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:65]، وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري، فمن قتله العدو الظاهر البشري كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطني كان طريداً، ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجوراً].
وهذا في غزوة بدر وفي غزوة حنين لما نزلت الملائكة لقتال العدو البشري وهو الكافر، ومن قتله العدو البشري في الجهاد في سيبل الله فهو شهيد، ومن قتله العدو الباطني وهو الشيطان فهو مطرود من رحمة الله؛ لأنه غلبه نعوذ بالله.
قوله: [وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري، فمن قتله العدو الظاهري البشري كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطني كان طريداً، ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجوراً، ومن قهره العدو الباطني كان مفتوناً أو موزوراً، ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان].
كما قال سبحانه {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، هذا هو الأصل أن الشيطان يرى الإنسان ولا يراه, وقد يتبدى الجني للإنسان, وقد يظهر بعض الأحيان, لكن هذا قليل, والغالب والأصل: أن الشياطين والجن يرون الناس والناس ولا يرونهم، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، ولهذا إذا دخلت الحمام وسميت الله كان لك ستراً من الشيطان، فإن الشيطان يعمى، ولا يرى الإنسان إذا سمى, وقد جاء في الحديث الأمر بالاستعاذة وأن الشياطين تلعب بعورات بني آدم, أو كما جاء في الحديث، وقد يكون فيه ضعف، لكن معروف أن الشيطان يرى الإنسان, فإذا سمى صار بينه وبين الشيطان ستر وحجاب.(6/9)
معاني الاستعاذة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل.
والاستعاذة: هي الالتجاء إلى الله تعالى والالتصاق بجانبه من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير].
قوله: (أعوذ بالله) يعني: ألتجئ وأعتصم وأستجير بك يا الله وأحتمي بك يا الله من شر هذا الشيطان العدو اللدود الذي يريد أن يفسد عليّ عبادتي, فالعياذ: هو الاستجارة والاحتماء، فمن استعاذ بميت أو بغائب فقد أشرك بالله؛ لأن هذه عبادة، ومن استعاذ بحي حاضر فيما يقدر عليه فلا بأس به، فيقول: أعذني من شر أولادك, ومن شر زوجتك, ومن شر دابتك, فهذا جائز، وأما أن يستعيذ بميت أو بغائب فهذا من الشرك, فالاستعاذة هي الالتجاء والاعتصام, وأما اللياذ فهو طلب الخير وتأمينه.
قوله: [والاستعاذة: هي الإلتجاء إلى الله تعالى والإلتصاق بجانبه من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير كما قال المتنبي: يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به ممن أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره].
يعني: لا يكسرون عظماً يجبره الله, كما أنهم لا يجبرون كسراً كسره الله.
والشاهد قوله: يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به ممن أحاذره.
فالاستعاذة تكون من الشيء الذي يحذره الإنسان, واللياذ: تأمين الخير وطلبه.
قوله: [ومعنى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله؛ ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن؛ لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة، قوله تعالى في الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر ثم قال: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200].
وقال تعالى في سورة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:96 - 98].
وقال تعالى في سورة (حم) السجدة: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:34 - 36].
الشيطان في لغة العرب مشتق من شطن، إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: مشتق من شاط؛ لأنه مخلوق من نار].
أي: مشتقٌ من شطن إذا بعد، أو من شاط إذا احترق؛ لأن الشيطان مخلوق من نار, أو من شطن لبعده عن بني آدم، وبعده عن الخير بفسقه.
قوله: [ومنهم من يقول: كلاهما صحيح في المعنى، ولكن الأول أصح، وعليه يدل كلام العرب قال أمية بن أبي الصلت في ذكر ما أوتي سليمان عليه السلام: أيما شاطٍ عصاه عكاه ثم يلقى في السجن والأغلال].
قال الشاعر: (ثم يلقى في السجن والأغلال) فيه إشارة إلى قوله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص:37 - 38] يعني: سخروا له, (مقرنين في الأصفاد) أي: في الأغلال يربطون؛ ولهذا لما جاء الشيطان إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يصلى- بشهاب من نار يريد أن يحرقه، أخذه النبي وخنقه حتى وجد برد لعابه، وقال: (كدت أن أربطه في سارية من سواري المسجد, ولو فعلت للعب به صبيان أهل المدينة, لكن ذكرت قول أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]) فتركه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [فقال: أيما شاطن ولم يقل أيما شائط].
فدل على أنه مشتق من شطن، وهذا هو الشاهد، ولو كان من شاط لقال: شائط.
قوله: [وقال النابغة الذبياني وهو زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع بن مرة بن سعد بن ذبيان: نأت بسعاد عنك نوى شطون فباتت والفؤاد بها رهين].
قوله: (نوى شطون) يعني: نوى بعد، والنوى: البعد، نأت بـ سعاد، يعني: بعدت، وهذا شاهد على أنها مشتق من شطن لا من شاط، وهذا هو الأقرب؛ لأن شطن: بعد، فهو من البعد عن الخير، فهو بعيد عن الخير، وبعيد عن بني آدم وعن طباعهم.
قوله: [يقول: بعدت بها طريق بعيدة، وقال سيبويه: العرب تقول: تشيطن فلان، إذا فعل فعل الشياطين، ولو كان من شاط لقالوا: تشيّط].
وهذا معروف الآن في لغتنا الدارجة، نقول: فلان تشيطن، يعني: فعل فعل الشياطين, وهذه الكلمة باقية عندنا ولا يستغرب هذا، ولا يستغرب أن تبقى كلمات من العربية.
قوله: [وقال سيبويه: العرب تقول: تشيطن فلان، إذا فعل فعل الشياطين، ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح؛ ولهذا يسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان: شيطاناً، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112].
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن، فقلت: أوللإنس شياطين؟ قال: نعم).
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقطع الصلاة المرأة، والحمار، والكلب الأسود، فقلت: يا رسول الله ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر؟ فقال: الكلب الأسود شيطان)].
وفي اللفظ الآخر: (يقطع صلاة المرء إذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل المرأة والكلب والحمار)، وهذا اللفظ لـ مسلم.
وقوله: (الكلب الأسود) يعني: شيطان الكلاب, فالحيوانات لها شيطان، وكل من خرج من طبيعته يسمى شيطاناً، ومن تمرد من الحيوانات يسمى شيطاناً, ومن تمرد من الإنس يسمى شيطاناً, وكذلك الطيور، فإذا تمردت الدجاجة وطارت تصبح شيطانة وهكذا، وكل متمرد يسمى شيطاناً، فهو ليس خاصاً بشياطين الجن, فكل متمرد يسمى شيطاناً, سواء كان من الإنس أو الدواب أو الطيور.
قوله: [وقال ابن وهب: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ركب برذوناً فجعل يتبختر به، فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبختراً، فنزل عنه وقال: ما حملتوني إلا على شيطان، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي.
إسناده صحيح].
البرذون: لغة في البغل، وهو متولد من الخيل ومن الحمار, أمه حمارة وأبوه حصان, وإذا نزا الخيل على الحمر تولدت البغال، والبغل محرم والخيل حلال، تغليباً لجانب التحريم؛ لأنه متولد من حلال وحرام.
قوله: [والرجيم: فعيل، بمعنى: مفعول، أي: أنه مرجوم مطرود عن الخير كله، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5]، وقال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:6 - 10]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر:16 - 18] إلى غير ذلك من الآيات، وقيل: رجيم بمعنى: راجم؛ لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث، والأول أشهر وأصح].
معنى الربائث: الموانع التي تمنع من الخير، وهي جمع ربيثة، وهي المانعة من الخير، فهو يرجم الناس بالوساوس وموانع الخير.(6/10)
معرفة صحة حديث معاذ لما بعثه النبي إلى اليمن
السؤال
الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل معاذاً لما بعثه إلى اليمن: (بم تحكم؟ قال: بكتاب الله, قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله) هذا الحديث كما سبق يقول الحافظ: إسناده جيد، وقد أقر هذا الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
ولكن الشيخ الألباني حفظه الله ذكر في كتابه الأحاديث الضعيفة هذا الحديث برقم كذا وقال: إنه حديث منكر, فما موقف طالب العلم من ذلك: هل يأخذ بقول المتقدم من ذلك أم يأخذ بقول المتأخر؟
الجواب
طالب العلم يبحث عن الأسانيد وينظر فيها إذا كان عنده قدرة ولا يكتفي بالتقليد، فإذا وجد أن الحديث له أسانيد وله طرق يشد بعضها بعضاً أخذ به, وإن وجد أن الحديث طرقه ضعيفة فلا يأخذ به، لكن معروف عند العلماء أنه حديث جيد، وقد اعتمده العلماء والأصوليون والإمام شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم، وقد يكون الألباني وفقه الله -إن صح عنه هذا- ما اطلع على كل الطرق، فقد يفوت عليه شيء، فالشيخ الألباني فاتت عليه أشياء كثيرة كغيره، ففي (إرواء الغليل) فات عليه أحاديث كثيرة، فبعضها سكت عنها، وبعضها قال: لا أعرفه، ثم تعقبه وكتب بعده الشيخ صالح آل الشيخ، فقد خرج أكثر من مئتي حديث لم تخرج في إرواء الغليل بل كلها سكت عنها الألباني , وفي أشياء كذلك وهم فيها الألباني رحمه الله، فهو ليس بمعصوم، حتى إن شيخ الإسلام رحمة الله عليه مع إمامته قد يتوهم في بعض الأشياء، فطالب العلم يجمع الأسانيد وينظر فيها, وسند هذا الحديث معروف عند العلماء أنه جيد، وما دام اطلع العلماء على أنّ سنده جيد فهذا يدل على أن الشيخ الألباني قد خفي عليه بعض الأسانيد, وقد يكون ضعفه اجتهاداً منه، وضعفه مثلاً من أجل بعض الرواة والعلماء الآخرون, قد قووا هؤلاء الرواة في المتابعات، فالمقصود: أن طالب العلم عليه أن يتأمل، وإذا أراد أن يقلد فلا شك أن تقليد الأقدمين أولى, فإذا لم يكن عنده بصيرة قلد الأقدمين، فتقليد شيخ الإسلام والعلماء الأكابر والقدامى أولى من تقليد الشيخ الألباني في هذا، هذا إذا رجعت إلى مسألة التقليد، وإن كان عندك استطاعة فلتنظر ولتجمع الأسانيد.(6/11)
تفسير سورة الفاتحة [4]
الابتداء بالبسملة بركة في كل شيء، فهي استعانة باسم الله تعالى، ومن استعان به وفقه الله إلى مراده ومقصوده، والراجح من أقوال العلماء أن البسملة آية مستقلة في أول كل سورة، وأنه يسر بها في الصلاة، ولا بأس أن يجهر بها أحياناً للتعليم.(7/1)
تفسير البسملة وأحكامها(7/2)
ذكر الخلاف في كون البسملة آية مستقلة وكونها آية من كل سورة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] افتتح بها الصحابة كتاب الله، واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل، ثم اختلفوا هل هي آية مستقلة في أول كل سورة، أو من كل سورة كتبت في أولها، أو أنها بعض آية من كل سورة، أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها، أو أنها إنما كتبت للفصل لا أنها آية، على أقوال للعلماء سلفاً وخلفاً، وذلك مبسوط في غير هذا الموضع].
فالأرجح في {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] أنها آية مستقلة في أول كل سورة، فليست من الفاتحة ولا من غيرها، هذا هو الأقرب, وهي بعض آية من سورة النمل في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، فهي بعض آية من سورة النمل، وهي آية مستقلة في أول كل سورة, وليست من الفاتحة ولا من غيرها, وقال بعض العلماء: إنها آية من الفاتحة، وهو الموجود الآن في المصاحف فهي الآية الأولى، فتجدون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] هي الآية الأولى رقم واحد، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] رقم اثنين، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] رقم ثلاثة، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] رقم أربعة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] رقم خمسة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] رقم ستة {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] رقم سبعة، هذا هو الموجود في المصاحف, والصواب: خلاف هذا، فالآية الأولى هي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، والثانية: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، والثالثة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] والرابعة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، والخامسة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، والسادسة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، والسابعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، فهذه سبع آيات بدون البسملة, و {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} آية مستقلة ليست من الفاتحة ولا من غيرها.
وقراءتها سنة مستحبة، والاستعاذة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والبسملة سنة في أول القراءة في أول السورة، وفي أول ركعة من ركعات الصلاة، ولو تركها صحت الصلاة، وأما على القول بأنها آية فلو تركها لم تصح الصلاة، والدليل على أن أول آية من الفاتحة هي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قول الرب عز وجل في الحديث القدسي: (قال الله: إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي) وفي أول الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) والمراد بالصلاة هنا الفاتحة، فهي من أسماء الفاتحة.
قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي)، فدل هذا على أن الآية الأولى هي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ولو كانت البسملة هي الآية الأولى لقال الرب سبحانه: فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم, ولكن قال: فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قال الله: (حمدني عبدي) فدل على أن الآية الأولى هي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرجه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في مستدركه أيضاً، وروي مرسلاً عن سعيد بن جبير.
وفي صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية) لكنه من رواية عمر بن هارون البلخي وفيه ضعف، عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عنها].
بل عمر بن هارون البلخي متهم بالكذب وكان حافظاً من كبار التاسعة، مات سنة أربع وتسعين، وعلى هذا فيكون الحديث ضعيفاً جداً، لا ينجبر بالشواهد والمتابعات.
وقد قال عنه أبو داود: غير ثقة، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المناكير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى له الدارقطني متابعاً عن أبي هريرة مرفوعاً، وروي مثله عن علي وابن عباس وغيرهما.
وممن حكي عنه أنها آية من كل سورة إلا براءة: ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو هريرة وعلي، ومن التابعين: عطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومكحول والزهري، وبه يقول عبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل في رواية عنه وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام رحمهم الله تعالى، وقال مالك، وأبو حنيفة وأصحابهما: ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وقال الشافعي في قول في بعض طرق مذهبه: هي آية من الفاتحة وليست من غيرها، وعنه: أنها بعض آية من أول كل سورة، وهما غريبان].
والأقرب هو القول الأول: أنها ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها، ولكنها آية مستقلة إما للفصل بين السور، أو آية من كل سورة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال داود هي: آية مستقلة في أول كل سورة لا منها، وهذا رواية عن الإمام أحمد بن حنبل، وحكاه أبو بكر الرازي عن أبي الحسن الكرخي وهما من أكابر أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله، هذا ما يتعلق بكونها آية من الفاتحة أم لا].(7/3)
اختلاف العلماء في الجهر بالبسملة والإسرار بها في الصلاة
[فأما الجهر بها ففرعٌ على هذا، فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها، وكذا من قال إنها آية في أولها].
والصواب الذي دلت عليه الأحاديث أنه لا يجهر بها, كما جاء في حديث أنس قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم أرهم يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم)، وفي لفظ: (لا يقرءون ببسم الله الرحمن الرحيم لا في أول قراءة ولا في آخرها)، وفي لفظ آخر: (كانوا يسرون).
فالسنة الإسرار بالبسملة، وهذا يدل على أنها ليست آية من الفاتحة، ولو كانت آية من الفاتحة لشرع الجهر بها في الصلاة الجهرية, فلما جاءت السنة بعدم الجهر بها وأنها تسر بها دل على أنها ليست من الفاتحة, وهذا هو الصواب, ولكن لو جهر بها أحياناً في التعليم كما فعل أبو هريرة فلا بأس، والشافعية يرون الجهر بها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا، فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة، وهو مذهب طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفاً وخلفاً، فجهر بها من الصحابة أبو هريرة وابن عمر وابن عباس ومعاوية، وحكاه ابن عبد البر والبيهقي عن عمر وعلي، ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهو غريب، ومن التابعين عن: سعيد بن جبير وعكرمة وأبي قلابة والزهري وعلي بن الحسين وابنه محمد].
علي بن الحسين هو زين العابدين، وابنه: محمد، يقال له: محمد الباقر، هو من الأئمة الذين وقفوا ضد الرافضة، ومن أئمتهم: علي والحسن والحسين بن علي، ثم علي بن الحسين زين العابدين، ثم الباقر محمد بن علي، ثم جعفر الصادق , وعلي بن الحسين ومحمد بن علي كلاهما إمام، لكن الشيعة شوهوا تاريخهم ولطخوه بالأكاذيب, نسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وسالم ومحمد بن كعب القرظي وعبيد وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأبي وائل وابن سيرين ومحمد بن المنكدر وعلي بن عبد الله بن عباس وابنه محمد ونافع مولى ابن عمر وزيد بن أسلم وعمر بن عبد العزيز والأزرق بن قيس وحبيب بن أبي ثابت وأبي الشعثاء ومكحول وعبد الله بن مغفل بن مقرن، زاد البيهقي: وعبد الله بن صفوان ومحمد بن الحنفية، زاد ابن عبد البر: وعمرو بن دينار.
والحجة في ذلك: أنها بعض الفاتحة، فيجهر فيها كسائر أبعاضها، وأيضاً فقد روى النسائي في سننه، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة، وقال بعد أن فرغ: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم.
وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم)، وقال الترمذي: وليس إسناده بذاك].
أي: ليس بثابت، يعني: إن كان المراد: أن يستفتح الصلاة جهراً فهذا لم يثبت، والمراد: أنه يقرؤها سراً، وجهر أبي هريرة رضي الله عنه بها محمول على أنه يجهر بها للتعليم؛ ولذا قال: إني أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا جهر بها أحياناً للتعليم فلا حرج، وإلا فالسنة الإسرار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)، ثم قال: صحيح].
إن صح هذا الحديث فهو يفعل أحياناً للتعليم، وإلا فالثابت في الأحاديث الصحيحة أنه كان يسر كما في حديث أنس: (صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر فلم أرهم يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم)، فإن صح أنه جهر بها فهو محمول على أنه جهر بها أحياناً في التعليم.
لكن روى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم) ثم قال: صحيح.
وفي إسناده: عبد الله بن عمرو بن حسان، كذبه الدارقطني، وقال علي بن المديني: يضع الحديث، لذلك تعقب الذهبي الحاكم فقال: إن ابن حسان كذبه غير واحد.
وعلى هذا فلا يثبت هذا الحديث، والعمدة على الأحاديث الصحيحة في الإسرار بالبسملة، والحاكم رحمه الله متساهل، فقد قال: صحيح، وفيه هذا المتهم بالكذب.
فلا يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها، والعمدة على الأحاديث الصحيحة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسر بالبسملة وكذلك أبو بكر وعمر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك: (أنه سئل عن قراءة النبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت قراءته مداً، ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] يمد باسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم).
وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:1 - 4])، وقال الدارقطني: إسناده صحيح].
وقوله: (يقطع قراءته) يعني: يقف على رأس كل آية، فهذه هي السنة، وهذا هو الأفضل,: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1 - 2] ثم يقف {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] ويقف، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ويقف على رأس الآية، فهذا هو الأفضل، وإن جمع بين آيتين أو ثلاث فلا بأس, فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:2 - 7] فلا بأس، لكن الأفضل الوقوف على رأس الآية كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ويقطع قراءته, ويقف على رءوس الآي؛ كما أنه عليه الصلاة والسلام يمد: الرحمن {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ}، وهو من المدود الطبيعية فلا يسرع بالقراءة فيها كما يفعل بعض الناس، فبعضهم لا يمد فيها المدود الطبيعية من مخارجها.
قوله: [وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي والحاكم في مستدركه عن أنس رضي الله عنه: أن معاوية صلى بالمدينة فترك البسملة، فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك، فلما صلى المرة الثانية بسمل].(7/4)
الوجوه التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية ورد بها حديث معاوية
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا الحديث رواه الشافعي، ثم قال: فهذا الحديث يعلم ضعفه من وجوه: الوجه الأول: أنه قد روي عن أنس الرواية الصحيحة الصريحة المستفيضة التي ترد هذا، وهي:: (كان الرسول يسر ببسم الله الرحمن الرحيم).
الوجه الثاني: أن مدار ذلك الحديث على عبد الله بن عثمان بن خثيم وقد ضعفة طائفة, وقد اضطربوا في روايته إسناداً ومتناً كما تقدم, وذلك يبين أنه غير محفوظ.
الوجه الثالث: أنه ليس فيه إسناد متصل السماع، بل فيه من الضعف والاضطراب ما لا يؤمن معه الانقطاع وسوء الحفظ.
الوجه الرابع: أن أنساً كان مقيماً في البصرة، ومعاوية لما قدم المدينة لم يذكر أحداً علمناه أن أنس كان معه، بل الظاهر أنه لم يكن معه.
الوجه الخامس: أن هذه القضية بتقدير وقوعها كانت في المدينة، والراوي لها أنس وكان بالبصرة, وهي مما تتوافر الهمم والدواعي على نقلها، ومن المعلوم أن أصحاب أنس المعروفين بصحبته وأهل المدينة لم ينقل أحد منهم ذلك، بل المنقول عن أنس وأهل المدينة نقيض ذلك, والناقل ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء.
الوجه السادس: أن معاوية لو كان رجع إلى الجهر في أول الفاتحة والسورة, لكان هذا أيضاً معروفاً من أمره عند أهل الشام الذين صحبوه، ولم ينقل هذا أحد عن معاوية، بل إن الشاميين كلهم: خلفاءهم وعلماءهم كان مذهبهم ترك الجهر بها، بل إن الأوزاعي مذهبه فيها مذهب مالك فلا يقرؤها سراً ولا جهراً, فهذه الوجوه وأمثالها إذا تدبرها العالم قطع بأن حديث معاوية إما باطل لا حقيقة له، وإما مغيرُ عن وجهه, وأن الذي حدث به بلغه من وجه ليس بصحيح, فحصلت الآفة من انقطاع إسناده.
وبهذا يتبين أن حديث معاوية لا يصح، فيكون العمدة على حديث أنس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسر بالبسملة.
وقيل: إن هذا الحديث -حديث معاوية - لو كان تقوم به الحجة لكان شاذاً؛ لأنه خلاف مارواه الناس الثقات الأثبات عن أنس وعن أهل المدينة وأهل الشام، ومن شرط الحديث الثابت ألا يكون شاذاً ولا معللاً، وهذا شاذ معلل إن لم يكن من سوء حفظ بعض رواته.
يعني: هذا الحديث لو صح واستقام سنده يكون شاذاً؛ لمخالفته للأحاديث الصحيحة؛ لأن من شرط الحديث الصحيح ألا يكون شاذاً، وألا يخالف الثقة من هو أوثق منه, وأنس وأهل المدينة مقدمون على حديث معاوية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي هذه الأحاديث والآثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج لهذا القول عما عداها، فأما المعارضات والروايات الغريبة وتطريقها وتعليقها وتضعيفها وتقريرها فله موضع آخر.
وذهب آخرون إلى أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة، وهذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة وعبد الله بن مغفل وطوائف من سلف التابعين والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل].
وهذا هو الأرجح والمعتمد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعند الإمام مالك: أنه لا يقرأ البسملة بالكلية لا جهراً ولا سراً، واحتجوا بما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]).
وبما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون: بـ ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:2])، ولـ مسلم: (لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] في أول قراءة ولا في آخرها)، ونحوه في السنن عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه].
ولكن الذي قال به مالك من أنه لا يقرأ جهراً ولا سراً ضعيف, وأما حديث عائشة: كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله، يفتتح الصلاة بالتكبير، ويجهر بالقراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1]، ولا ينفي هذا أن يقرأها سراً.
وكذلك حديث أنس: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون بـ ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:2]) ولـ مسلم: (لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] في أول قراءة ولا في آخرها) يعني: لا يجهرون؛ ولهذا جاء في الروايات الأخرى: (كانوا يسرون)، وعلى ذلك فيكون هذا القول بأنه لا يقرأ بها لا سراً ولا جهراً ضعيف، وهذه الأدلة التي استدلوا بها ليست واضحة, وإنما فيها نفي الجهر وليس فيها نفي أنهم لا يقرءون بها سراً، ولهذا جاء في الرواية الأخرى: (كانوا يسرون).
ورواية مسلم: (لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1]) أعلها ابن عبد البر بالاضطراب، وأن مسلماً أخرجها مكاتبة عن الأوزاعي حيث إن قتادة كتب للأوزاعي بهذا الحديث.
وهو قوله: (ولا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] في أول قراءة ولا في آخرها)، فطعن فيها ابن عبد البر وقال: بالاضطراب، وابن حجر استدل في البلوغ برواية ابن خزيمة.
وأخرج ابن حجر في بلوغ المرام رواية ابن خزيمة: (أنهم كانوا يسرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1])، ولم يتكلم عليها.
وسند ابن خزيمة: حدثني أحمد بن أبي سريج الرازي قال حدثني سريج بن عبد العزيز عن عمران القصير عن الحسن عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يسرون).
وذكر المزني في التهذيب الكلام في تلاميذ سريج بن عبد العزيز أحمد بن أبي سريج، وقال سويد بن عبد العزيز الدمشقي: متروك، وكذبه غير واحد، واختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بعد ذكر قول ابن حبان: يؤخذ منه ما تابع فيه الثقات، وما خالف يترك, قال: لا ولا كرامة.
لكن هذا يحتاج إلى رواية مسلم، وكتابة قتادة للأوزاعي قال: كتب لي فإذا كانت كتابة قد يحتج بها, لا أدري هل هو منقطع.(7/5)
اختلاف أهل العلم في قراءة البسملة
[ذكر ابن حجر في فتح الباري رواية مسلم وقال: وأخرجه مسلم من طريق الأوزاعي عن قتادة بلفظ: (لم يكونوا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1])، وقد قدح بعضهم في صحته لكون الأوزاعي رواه عن قتادة مكاتبة وفيه نظر، فإن الأوزاعي لم ينفرد به، فقد رواه أبو يعلى عن أحمد الدورقي، والسراج عن يعقوب الدورقي وعبد الله بن أحمد عن أحمد بن عبد الله السلمي ثلاثتهم عن أبي داود الطيالسي عن شعبة بلفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1]، قال شعبة: قلت لـ قتادة: سمعته من أنس، قال نحن سألناه.
وهذا مما يؤيد القول بصحة الحديث.
وأما من قال بأنه منقطع فلإعلال ابن عبد البر؛ لكونها مكاتبة فقط، وهذا لا يقدح في صحة الحديث.
والمقصود أن قول مالك هنا أنه لا يقرأ البسملة في الصلاة لا جهراً ولا سراً، أن هذا ضعيف، وما استدل به لا يدل على ذلك، فقد استدل بحديث عائشة وحديث أنس، هما لا يدلان على أنه لا يقرؤها سراً، وإنما فيه أنه لا يقرؤها جهراً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذه مآخذ الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة وهي قريبة؛ لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر.
ولله الحمد والمنة].
أي: أنهم أجمعوا على أن من أسر بالبسملة أو جهر بها فصلاته صحيحة، لكن الخلاف في الأفضل والسنة.
إذاً في المسألة ثلاثة أقوال: الأول: الإسرار بالبسملة، وهذا أرجحها.
الثاني: الجهر بها.
الثالث: عدم قراءتها بالكلية لا جهراً ولا سراً، وهذا هو قول مالك، وهو أضعف الأقوال.
وأما ما روي عن أبي هريرة أنه جهر بالبسملة فهذا محمول على أنه جهر بها لتعليم الناس، وأنها فطرة، وهذا أحسن ما حمل عليه.(7/6)
تفسير سورة الفاتحة [5]
يشرع ذكر البسملة في بداية كل قول وعمل، حيث اشتملت على ذكر اسم الله الذي لا معبود بحق سواه، واشتملت أيضاً على ذكر بعض صفاته الحسنى، فهو الرحمن الرحيم الذي يفيض بالنعم الجليلة عامها وخاصها على خلقه.(8/1)
تفسير قوله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم)(8/2)
فضل البسملة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل في فضلها.
قال الإمام العالم الحبر العابد أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رحمه الله في تفسيره: حدثنا أبي حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا زيد بن المبارك الصنعاني حدثنا سلام بن وهب الجندي].
سلام هذا بتشديد اللام، والقاعدة أن سلام كله بالتشديد إلا في موضعين فهو بتخفيف اللام: أحدها: محمد بن سلام البيكندي شيخ البخاري، فالأرجح فيه التخفيف، ويجوز فيه التشديد.
الثاني: عبد الله بن سلام الإسرائيلي الصحابي، فهو بالتخفيف كذلك، والباقي كله بالتشديد، والجندي بفتح الجيم والنون منسوب إلى الجند، بلدة في اليمن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبي عن طاوس عن ابن عباس: (أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1]، فقال: هو اسم من أسماء الله، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العينين وبياضهما من القرب)].
وهذا الحديث إما ضعيف جداً أو موضوع، لأجل سلام بن وهب الكندي، وقد رواه ابن أبي حاتم والخطيب البغدادي في تاريخه، والحاكم في المستدرك من طريق زيد بن المبارك به، وقال الذهبي في ترجمة سلام بن وهب: في الميزان أتى بخبر منكر بل كذب، ثم ساق هذا الخبر، فلعل هذا الحديث يكون موضوعاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه عن سليمان بن أحمد عن علي بن المبارك عن زيد بن المبارك به، وقد روى الحافظ ابن مردويه من طريقين عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن مسعر عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عيسى بن مريم عليه السلام أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه)].
أي: المدرسة التي يتعلم فيها أوائل التعليم كالكتابة وغيرها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فقال له المعلم: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: باسم الله، قال له عيسى: وما باسم الله؟ قال المعلم: ما أدري، قال له عيسى: الباء: بهاء الله، والسين: سناؤه، والميم: مملكته، والله: إله الآلهة، والرحمن: رحمان الدنيا والآخرة، والرحيم: رحيم الآخرة)].
وهذا ضعيف جداً؛ ففيه عطية العوفي وهو شيعي مدلس، وفيه كذلك إسماعيل بن عياش إذا روى عن غير الشاميين فهو ضعيف، والأقرب أن هذا الحديث موضوع؛ لأنه منكر، وذلك أن عيسى أدخلته أمه إلى الكتاب وهو في الغالب ابن ست أو سبع سنين فكيف يقول مثل هذا الكلام؟ وروى هذا الحديث الطبري وابن عدي في الكامل بمثل طريق الطبري، وقال ابن عدي: هذا حديث باطل الإسناد لا يرويه غير إسماعيل.
والمعروف بضعفه في هذا الإسناد هو عطية العوفي أيضاً.
وكان الأولى بـ الحافظ ابن كثير رحمه الله ألا يأتي بمثل هذا الحديث، وكذلك حديث سلام بن وهب الجندي، لكنه لما ذكر السند خرج من العهدة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن العلاء الملقب بـ ابن زبريق].
وفي بعض النسخ: الملقب: زبريق بدون ابن، على وزن إبريق، وإبراهيم بن العلاء هو الموجود في الأصل، وهو إبراهيم بن العلاء بن الضحاك بن المهاجر بن عبد الرحمن الزبيدي الحمصي المعروف بـ ابن زبريق بكسر الباء والراء، و (ابن) ساقطة من بعض النسخ، وفي التقريب ذكر (ابن) فيحتمل أنه يلقب بهذا وبهذا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي مليكة عمن حدثة عن ابن مسعود، ومسعر عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، وهذا غريب جداً، وقد يكون صحيحاً إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات، والله أعلم].
فـ ابن كثير رحمه الله حكم عليه أنه من الإسرائيليات، وهذا هو الأقرب.
وهذا السند هو نفس السند السابق، ففيه عطية العوفي وفيه إسماعيل بن عياش.
قال ابن جرير بعد هذا الحديث: وأما الخبر الذي حدثنا به إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء وساق الإسناد والحديث، ثم قال: فأخشى أن يكون غلطاً من المحدث، وأن يكون أراد (ب، س، م) على سبيل ما يعلم المبتدئ من الصبيان في الكتاب حروف أبي جاد، فغلط بذلك فوصله فقال: باسم الله؛ لأنه لا معنى لهذا التأويل إذا تلي {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] على ما يتلوه القارئ في كتاب الله؛ لاستحالة معناه عن المفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها إذا حمل تأويله على ذلك.
وهذا الكلام صحيح فيحمل عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى جويبر عن الضحاك نحوه من قبله].
أي: من قبل الضحاك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى ابن مردويه من حديث يزيد بن خالد عن سليمان بن بريدة، وفي رواية عن عبد الكريم أبي أمية].
هو في الأصل ابن أمية، وفي رواية: أبي أمية كما في التهذيب، وهو في التقريب: عبد الكريم بن أبي المخارق، بضم الميم والخاء المعجمة، أبو أمية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنزلت علي آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود وغيري وهي: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1])].
ورواه ابن أبي حاتم، وقال الحافظ ابن كثير: [هذا حديث غريب وإسناده ضعيف].
وسوف يأتي عند تفسير آية ثلاثين من سورة النمل.
وفي تفسير سورة النمل قال: وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثاً في تفسيره حيث قال: حدثنا أبي قال: حدثنا هارون بن الفضل أبو يعلى الخياط قال: حدثنا أبو يوسف عن سلمة بن صالح عن عبد الكريم أبي أمية عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعلم آية لم تنزل على نبي قبلي بعد سليمان بن داود قلت: يا نبي الله! أي آية؟ قال: سأعلمكها قبل أن أخرج من المسجد، قال: فانتهى إلى الباب فأخرج إحدى قدميه فقلت: نسي، ثم التفت إلي وقال: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30])، قال: هذا حديث غريب وإسناده ضعيف.
فضعف رحمه الله الحديث هنا في سورة النمل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى بإسناده عن عبد الكبير بن المعافى بن عمران عن أبيه عن عمر بن ذر عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: (لما نزل {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1]، هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الرياح، وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله تعالى بعزته وجلاله ألا يسمى اسمه على شيء إلا بارك فيه)].
وفي بعض النسخ: هرب اليم، ولعله تحريف.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1]، فيجعل الله له من كل حرف منها جُنَّة من كل واحد.
وهذا موقوف على ابن مسعود، وفيه عنعنة الأعمش وهو مدلس، وابن مسعود قد يأخذ عن بني إسرائيل وإن كان على قلة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكره ابن عطية والقرطبي، ووجهه ابن عطية ونصره بحديث: (لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاًَ يبتدرونها لقول الرجل: ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)؛ من أجل أنها بضعة وثلاثون حرفاً وغير ذلك].
أي أن توجيه ابن عطية كان من أجل (بضعة)، وهذا يؤيد قوله: فيجعل الله له من كل حرف منها جنة من كل واحد؛ لأن حروف {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] تسعة عشر حرفاً كعدد الزبانية، وكذلك الحديث (لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها) أي يبتدرون كلمة الرجل البالغة بضعة وثلاثين حرفاً، وهذا توجيه بعيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عاصم قال: سمعت أبا تميمة يحدث عن رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عثر بالنب(8/3)
اختلاف أهل العلم في كون الاسم هو المسمى أو غيره
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما مسألة الاسم هل هو المسمى أو غيره ففيها للناس ثلاثة أقوال: أحدها: أن الاسم هو المسمى، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه، واختاره الباقلاني وابن فورك، وقال الرازي -وهو محمد بن عمر المعروف بـ ابن خطيب الري - في مقدمات تفسيره: قالت: الحشوية والكرامية والأشعرية الاسم نفس المسمى وغير نفس التسمية، وقالت المعتزلة: الاسم غير المسمى ونفس التسمية، والمختار عندنا أن الاسم غير المسمى وغير التسمية].
المقصود بالحشوية: أهل السنة، فيسمونهم حشوية، فهؤلاء والكرامية ذهبوا إلى أن الاسم هو نفس المسمى وهو غير التسمية، وهذا هو القول الأول.
القول الثاني: الاسم غير المسمى، وهو نفس التسمية.
القول الثالث: أن الاسم غير المسمى وغير التسمية، وهو ما اختاره الرازي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم نقول: إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات متقطعة وحروف مؤلفة، فالعلم الضروري حاصل أنه غير المسمى، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى، فهذا يكون من باب إيضاح الواضحات وهو عبث، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا كلام الرازي، ثم شرع يستدل على مغايرة الاسم للمسمى بأنه قد يكون الاسم موجوداً والمسمى مفقوداً كلفظة المعدوم].
أي: أن الاسم موجود والمسمى غير موجود، كقولك الجنة بين السماء والأرض مثلاً، فالاسم موجود والمسمى معدوم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبأنه قد يكون للشيء أسماء متعددة كالمترادفة، وقد يكون الاسم واحداً والمسميات متعددة كالمشترك، وذلك دال على تغاير الاسم والمسمى، وأيضاً فالاسم لفظ وهو عرض والمسمى قد يكون ذاتاً ممكنة أو واجبة بذاتها].
وهذا كلام الرازي كذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فلفظ النار والثلج لو كان هو المسمى لوجد اللافظ بذلك حر النار أو برد الثلج ونحو ذلك، ولا يقوله عاقل].
أي: لو كان الاسم هو المسمى لوجد من يقول: النار حر النار بلسانه، ومن قال: الثلج، ويجد برد الثلج بلسانه؛ لأن الاسم هو المسمى، لكن الاسم غير المسمى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن لله تسعة وتسعين اسماً) فهذه أسماء كثيرة والمسمى واحد وهو الله تعالى وأيضاً فقوله: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180] أضافها إليه، كما قال: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74]، ونحو ذلك، فالإضافة تقتضي المغايرة، وقوله تعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] أي: فادعو الله بأسمائه، وذلك دليل على أنها غيره.
واحتج من قال: الاسم هو المسمى بقوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]، والمتبارك: هو الله تعالى].
ما زال هذا الكلام تابع لكلام الرازي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [
و
الجواب
أن الاسم معظم؛ لتعظيم الذات المقدسة، وأيضاً فإذا قال الرجل: زينب طالق -يعني: امرأته- طلقت، ولو كان الاسم غير المسمى لما وقع الطلاق].
وهذه أيضاً حجة من قال: إن الاسم هو المسمى، والأولى: حجة من قال: إن الاسم غير المسمى، ولو كان الاسم هو المسمى لوجد لافظ النار حرها والثلج بردها.
واحتج من قال بأن الاسم هو المسمى، بأن الرجل إذا قال المرأة فلانة طالق لطلقت، فدل على أن الاسم هو المسمى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [
و
الجواب
أن المراد: أن الذات المسماة بهذا الاسم طالق.
قال الرازي: وأما التسمية فإنها جعْل الاسم معيناً لهذه الذات، فهي غير الاسم أيضاًََ، والله أعلم]، وفي بعض النسخ: [وأما التسمية فإنها فعل الاسم معيناً لهذه الذات فهي غير الاسم].
والأقرب: جعل.
وهذا هي الحقيقة، فالبحث واضح لا يحتاج إلى كلام كثير؛ لأنه إن أريد بالاسم اللفظ كأن يقال مثلاً: الله اسم عربي، فالاسم غير المسمى، وإن أريد بالاسم الذات المسماة بهذا الاسم فليس هو المسمى.(8/4)
تفسير سورة الفاتحة [6]
اختلف العلماء هل اسم (الله) مشتق أو جامد، والراجح أنه مشتق، وهو مأخوذ من التأله، وهو التعبد والتنسك.(9/1)
أسماء الله لا حصر لها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الله علم على الرب تبارك وتعالى، يقال: إنه الاسم الأعظم؛ لأنه يوصف بجميع الصفات، كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:22 - 24] فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)، وجاء تعدادها في رواية الترمذي وابن ماجة].
تعداد: بفتح التاء؛ لأن المصادر كلها بالفتح، كتكرار وترداد، ومن الخطأ كسر التاء هنا إلا في مصدرين: تبيان وتلقاء، بكسر التاء، وما عدا ذلك يكون بالفتح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبين الروايتين اختلاف زيادة ونقصان].
الاسم الكريم: الله، علم على الرب سبحانه وتعالى لا يطلق إلا عليه سبحانه وتعالى، وهو أعرف المعارف، وجميع الصفات والأسماء ترجع إليه، و (الله) من التأله والتعبد، أي: هو المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وتخضع له وتذل له، ولا حياة لها ولا نور ولا سعادة إلا بالتأله والتعبد لله عز وجل وإخلاص العبادة له سبحانه وتعالى ففي القلوب فقر ذاتي لا يسده إلا التجاؤها إلى الله وتألهها وتعبدها وإخلاصها له، وهذا الفقر في قلوب جميع الخلائق ولا يسده ولا يزيل الشدة والكرب والمشقة والتعب إلا رجوعها إلى الله وتألهها وتعبدها وخضوعها له، والإله بمعنى: المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وتخضع له وتذل له سبحانه وتعالى، واسم (الله) مشتق على الصحيح، فهو اسم وصفة، فهو اسم على معنى الرب وهو مشتمل على صفة الألوهية، وأسماء الله كثيرة لا حصر لها، وأما حديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، فهي أسماء موصوفة بهذه الصفة، والمعنى: أن لله تسعة وتسعين اسماً موصوفة بأن من أحصاها دخل الجنة، وله أسماء أخرى غير موصوفة بهذا الوصف، كما تقول: عندي مائة فرس أعددتها للجهاد في سبيل الله، أي: وعندي مئات أخرى ما أعددتها للجهاد، بل أعددتها للعمل مثلاً، ويدل على هذا حديث ابن مسعود: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، إذاً: هناك أسماء استأثر الله بها في علم الغيب عنده، فليست أسماؤه محصورة بهذا العدد، وإنما هذه الأسماء التسعة والتسعون موصوفة بأن من أحصاها دخل الجنة، والإحصاء معناه حفظها والعمل بها وسؤال الله بها، والتوسل إليه سبحانه وتعالى بها، وهذه الأسماء التسعة والتسعون ليست معروفة، وإنما أحصاها الله سبحانه وتعالى حتى يتعرفها العباد ويطلبونها من نصوص الكتاب والسنة، كما أخفيت ساعة الجمعة، وكما أخفيت ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان حتى يجتهد العباد في طلبها ومعرفتها، وكذلك هذه الأسماء أخفيت فليست معروفة، وأما الحديث الذي فيه تعدادها فهو ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو مدرج من بعض الرواة، كما قال بهذا أهل العلم.
وإحصاؤها يشمل حفظها والعمل بها، والتخلق بما يمكن التخلق بها، والتوسل إلى الله بها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر الرازي في تفسيره عن بعضهم أن لله خمسة آلاف اسم، ألف في الكتاب والسنة الصحيحة، وألف في التوراة، وألف في الإنجيل، وألف في الزبور، وألف في اللوح المحفوظ].
وهذا ليس عليه دليل، بل الصواب أنها ليست محصورة ولا يعلم عددها إلا هو سبحانه وتعالى كما سبق في الحديث: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فهناك أسماء استأثر الله بها في علم الغيب عنده، فكيف يقال: إنها محصورة بخمسة آلاف اسم!(9/2)
اسم الله لا يسمى به غيره
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو اسم لم يسم به غيره تبارك وتعالى، ولهذا لا يعرف في كلام العرب له اشتقاق من فعل يفعل].
اسم الله علم على الرب سبحانه وتعالى، ولا يسمى به إلا هو سبحانه وتعالى، وكذلك الرحمن.
أسماء الله قسمان: القسم الأول: أسماء لا يسمى بها إلا هو، وأعظمها: الله والرحمن والخلاق والرزاق ومالك الملك النافع الضار، المعطي المانع، فهذه لا يسمى: بها إلا هو.
القسم الثاني: أسماء يسمى بها غيره، مثل: العزيز، قال تعالى {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51]، والملك، قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50]، فيجوز للمخلوق أن يسمى بالملك والحي والسميع والبصير، وهي من أسماء الله، لكن أسماء الله تليق به وأسماء المخلوق تليق به، فأسماء الله كاملة مشتملة على صفات الكمال.(9/3)
اختلاف النحاة في جمود لفظ الجلالة واشتقاقه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد لا اشتقاق له، وقد نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي والخطابي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم، وروى عن الخليل وسيبويه أن الألف واللام فيه لازمة.
قال الخطابي: ألا ترى أنك تقول: يا الله ولا تقول يا الرحمن، فلولا أنها من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام.
وقيل: إنه مشتق].
والصواب أنه مشتق، وكل أسماء الله مشتقة وليست جامدة، فهي مشتملة على معاني وصفات، فالله مشتمل على صفة الإلوهية، والرحمن مشتمل على صفة الرحمة، والعليم مشتمل على صفة العلم، والقدير مشتمل على صفة القدرة، والسميع مشتمل على صفة السمع، والبصير مشتمل على صفة البصر، والحي مشتمل على صفة الحياة، وهكذا فكل أسماء الله مشتق منها صفات، بخلاف الصفة فلا يشتق منها اسم لله، وإنما الاسم يشتمل على الصفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: إنه مشتق، واستدلوا عليه بقول رؤبة بن العجاج: لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي].
أي: من تعبد، وهذا البيت له قصة: وهو أن رجلاً كان له صبوة وله سفه مع النساء الغانيات، ثم تاب ورجع، فجئن إليه وقد تاب ووجدنه يسبح ويستغفر، فتعجبن من تسبيحه: لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي لله در: كلمة يؤتى بها للمدح، والمده أي: المدح، وتمده: تمدح، والمدَّه: أي: الممدوحات.
والشاهد قوله: من تأله: وهو أن اسم الله مشتق من التأله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقد صرح الشاعر بلفظ المصدر وهو التأله من أله يأله إلاهة وتألهاً، كما روي عن ابن عباس أنه قرأ {وَيَذَرَكَ وإلاهتك} [الأعراف:127] قال: عبادتك، أي: أنه كان يعبد ولا يعبد].
وهنا في قصة فرعون يقول الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَإلاِهَتَكَ} [الأعراف:127] أي: وعبادتك؛ لأنه معبود، فقد كانوا يعبدونه، فقال له الملأ: كيف تترك موسى ومن معه يتركونك ويتركون عبادتك، هذا على قراءة - ابن عباس -، وقراءة حفص: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127]، فيكون فرعون له معبود يعبده، وآلهة من دون الله، فهو مشرك، والمعنى: كيف تترك موسى يتركك ويترك معبودك، ولا منافاة بين المعنيين، ففرعون معبود يعبده قومه، وله آلهة يعبدها من دون الله.
وقول الله تعالى: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] الظاهر منه أنهم كانوا يعبدونه ولا ينفي أن يكون له معبود أيضاً وآلهة يعبدها، فيمكن الجمع بين الطرفين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا قال مجاهد وغيره، وقد استدل بعضهم على كونه مشتقاً بقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3]، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]].
أي: المعبود في السماء والأرض هو الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونقل سيبويه عن الخليل أن أصله: إلاه، مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلاً من الهمزة، كما قال سيبويه: مثل الناس أصله أناس، وقيل: أصل الكلمة: لاه، فدخلت الألف واللام للتعظيم، وهذا اختيار سيبويه، قال الشاعر: لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب عني ولا أنت دياني فتخزوني قال القرطبي: بالخاء المعجمة، أي: فتسوسني].
أي أن: أصلها لاه، ودخلت الألف واللام وأدغمت اللام في اللام وفخمتا فصارت الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الكسائي والفراء: أصله: الإله حذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية، كما قال: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف:38] أي: لكن أنا، وقد قرأها كذلك الحسن].
(لكن أنا) حذقت الهمزة والتقت النون والنون، فشددتا فصارت {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف:38].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال القرطبي: ثم قيل: هو مشتق من وله إذا تحير، والوله ذهاب العقل، يقال: رجل واله، وامرأة ولهى ومولوهة، وماء موله: إذا أرسل في الصحراء، فالله تعالى يحير أولو الألباب والفكر في حقائق صفاته، فعلى هذا يكون أصله ولاه، فأبدلت الواو همزة، كما قالوا في وشاح إشاح، ووسادة إسادة.
فإشاح مثل: إله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الرازي: وقيل: إنه مشتق من ألهت إلى فلان أي: سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته؛ لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره، قال الله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا} [الرعد:28 - 29]، قال: وقيل: من لاه يلوه إذا احتجب، وقيل: اشتقاقه من أله الفصيل: أولع بأمه، والمعنى: أن العباد مألوهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال، قال: وقيل: هو مشتق من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به، فألهه أي أجاره، فالمجير لجميع الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه، لقوله تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88]، وهو المنعم، لقوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، وهو المطعم، لقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14]، وهو الموجد، لقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]، وقد اختار الرازي: أنه اسم غير مشتق البتة].
وهذا قول مرجوح، والصواب أنه مشتق كما سبق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء].
وهذا على زعمه، ولا يسلم له أن هذا قول أكثر الأصوليين والفقهاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم أخذ يستدل على ذلك بوجوه منها: أنه لو كان مشتقاً لاشترك في معناه كثيرون، ومنها: أن بقية الأسماء تذكر صفات له، فتقول: الله الرحمن الرحيم الملك القدوس، فدل على أنه ليس بمشتق، قال: فأما قوله تعالى: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ} [إبراهيم:1 - 2] على قراءة الجر فجعل ذلك من باب عطف البيان].
وكل هذا لا يدل على أنه ليس بمشتق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنها: قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وفي الاستدلال بهذه على كون هذا الاسم جامداً غير مشتق نظر، والله أعلم].
لا شك أن فيه نظراً بيناً، والصواب أنه مشتق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحكى الرازي عن بعضهم: أن اسم الله تعالى عبراني لا عربي، ثم ضعفه، وهو حقيق بالتضعيف كما قال].
وهذا القول ليس بشيء وجدير بأن يضعف، والصواب أن (الله) اسم عربي وليس عبرانياً، والعبرانية لغة اليهود.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد حكى الرازي هذا القول ثم قال: واعلم أن الخلائق قسمان: واصلون إلى ساحل بحر المعرفة، ومحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة، فكأنهم قد فقدوا عقولهم وأرواحهم، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور، وفسحة الكبرياء والجلال].
العرصة: هي المكان المتسع في الصحراء، ومنه عرصات القيامة، وهذا كله من كلام وعبارات الصوفية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فتاهوا في ميادين الصمدية، وبادوا في عرصة الفردانية، فثبت أن الخلائق كلهم والهون في معرفته.
وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه، بفتح اللام وكسرها لغتان، وقيل: إنه مشتق من الارتفاع، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع: لاها، وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس: لاهت، وقيل: إنه مشتق من أله الرجل: إذا تعبد، وتأله: إذا تنسك].
وهذا هو الأقرب فهو مشتق من تأله، والتأله: التعبد والتنسك، وتأله: تعبد وتنسك وخضع لله وذل له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقرأ ابن عباس: {وَيَذَرَكَ وإلاهتك} [الأعراف:127]، وأصل ذلك الإله فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة، فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام الزائدة في أولها للتعريف، فأدغمت إحداهما في الأخرى فصارتا في اللفظ لاماً واحدة مشددة، وفخمت تعظيماً، فقيل: الله].(9/4)
تفسير سورة الفاتحة [7]
الرحمن الرحيم من أسماء الله تعالى الحسنى، وهما اسمان مشتقان يدلان على الرحمة، والرحمن اسم خاص بالله تعالى لا يطلق على غيره، وأما الرحيم فهو اسم مشترك يطلق على الله وعلى غيره، وقد اختلف أهل العلم في تفسيرهما والفرق بينهما اختلافاً كثيراً.(10/1)
الرحمن والرحيم اسمان مشتقان من الرحمة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمن أشد مبالغة من رحيم، وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا].
الرحمن والرحيم: اسمان لله عز وجل، وهما مشتقان، ومشتملان على صفة الرحمة، والرحمن خاص بالله لا يطلق إلا عليه، ولهذا لما تسمى مسيلمة بالرحمن لصق به اسم الكذب، فلا يذكر اسم مسيلمة إلا ويقال: مسيلمة الكذاب.
وأما اسم الرحيم فليس خاصاً، بل هو من الأسماء المشتركة، قال الله تعالى عن نبيه {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
وأما اسم الحكم فقد جاء في قصة أبي شريح أنه كان يسمى أبا الحكم: (فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن قومي إذا اختصموا في شيء حكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا، فما لك من الولد؟ قال: شريح ومسلم وعبد الله، قال: فمن أكبرهم؟ قال: شريح قال: فأنت أبو شريح)، فغير النبي صلى الله عليه وسلم كنيته، فيظهر من ذلك أنه لا يجوز أن يطلق اسم الحكم على غير الله، ويحتمل أن هذا من باب كمال التوحيد؛ ولهذا ثبت أن بعض الصحابة كان يسمى بالحكم ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال بعض العلماء: إذا نظر إلى الصفة في هذا الاسم يُغيَّر، وإذا لم ينظر إلى الصفة لا يُغيَّر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي تفسير بعض السلف ما يدل على ذلك كما تقدم في الأثر عن عيسى عليه السلام أنه قال: والرحمن رحمان الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة.
وزعم بعضهم أنه غير مشتق؛ إذ لو كان كذلك لاتصل بذكر المرحوم، وقد قال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43].
وحكى ابن الأنباري في الزاهر عن المبرد أن الرحمن اسم عبراني ليس بعربي، وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن].
هذا قول مرجوح، بل الصواب أنه عربي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى: الرحيم عربي والرحمن عبراني، فلهذا جمع بينهما.
قال أبو إسحاق: وهذا القول مرغوب عنه].
أي: أن هذا ليس بشيء؛ لضعفه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته) قال: وهذا نص في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق].(10/2)
اختلاف العلماء في معنى الرحمن والرحيم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وإنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم بالله وبما وجب له، قال القرطبي: ثم قيل: هما بمعنى واحد كندمان ونديم].
أي: أن الرحمن والرحيم معناهما واحد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قاله أبو عبيد، وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل، نحو قولك: رجل غضبان، للرجل الممتلئ غضباً، وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول، قال أبو علي الفارسي: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين، قال الله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43].
وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، أي: أكثر رحمة.
ثم حكي عن الخطابي وغيره: أنهم استشكلوا هذه الصفة وقالوا: لعله أرفق كما في الحديث: إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله وأنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
وقال ابن المبارك: الرحمن إذا سئل أعطى، والرحيم إذا لم يسأل يغضب، وهكذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه)].
أبو صالح الخوزي: يروي عن أبي هريرة وأبي المليح الفارسي، وهو مختلف فيه، قال ابن معين: ضعيف كما في التهذيب.
والحديث بسنده: حدثنا قتيبة أخبرنا حاتم بن إسماعيل عن أبي المليح عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه)، وقد روى وكيع عن غير واحد عن أبي المليح هذا الحديث، ولا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال في حديث آخر: حدثنا إسحاق بن منصور أخبرنا أبو عاصم عن حميد بن أبي المليح عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
فهذا الحديث قد تشهد لها أصول الشريعة، فلابد من سؤال الله في الصلاة مثلاً: رب اغفر لي، فالمعنى له أصل ولابد للمسلم أن يسأل الله، ولا يمكن أن يظل طوال عمره لا يسأل ربه.
فالرحمن رحمة تشمل المؤمنين والكفار، والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال سبحانه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، فالله تعالى رحم المؤمنين رحمة خاصة، فهداهم ووفقهم للإيمان وتاب عليهم.
والرحمن رحمته عامة تشمل المؤمنين والكفار، فمن رحمته بالكفار أن خلقهم وأوجدهم ورزقهم، ومن رحمته بهم أنه لم يعاجلهم بالعقوبة، فهم يعبدون غيره ويشركون به ومع ذلك يحلم عليهم سبحانه وتعالى ويرحمهم.
واستشكال الخطابي في قول ابن عباس لا وجه له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال بعض الشعراء: الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب.
وقال ابن جرير: حدثنا السري بن يحيى التميمي حدثنا عثمان بن زفر سمعت العرزمي يقول: {الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] قال: الرحمن لجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين، قالوا ولهذا قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:59].
وقال ابن جرير: حدثنا السري بن يحيى التميمي حدثنا عثمان بن زفر سمعت العرزمي].
والعرزمي هو: عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي بمهملتين ثم معجمة الفزاري أبو محمد بن ميسرة الكوفي أحد الأئمة، روى عن أنس وسعيد بن جبير، وعنه شعبة والسفيانان وخلق، وثقه ابن معين والنسائي، وضعفه يحيى في رواية، قال أحمد: ثقة يخطئ، وضعفه شعبة من أجل الحديث الذي رواه عن عطاء عن جابر في الشفعة، وانفرد به عن عطاء، قال الترمذي: وهو ثقة مأمون عند أهل الحديث لا نعلم واحداً تكلم فيه غير شعبة، وقال الهيثم بن عدي: مات سنة خمسة وأربعين ومائة.
إذاً: هو ثقة، وشعبة رحمه الله من المتشددين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [سمعت العزرمي يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، قال: {الرَّحْمَنِ} [الفاتحة:3] لجميع الخلق، {الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] بالمؤمنين، ولهذا قال {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:59]، وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فذكر الاستواء باسمه الرحمن؛ ليعم جميع خلقه برحمته، وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] فخصهم باسمه الرحيم.
قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة؛ لعمومها في الدارين لجميع خلقه، والرحيم خاصة بالمؤمنين].
فالرحمن رحمة عامة للمؤمنين والكفار، وحتى الكفار بعد دخولهم النار يرحمهم الرحمة العامة، فعند دخولهم يلهجون بحمده وأنه سبحانه وتعالى عادل في قضاءه وحكمه فاعترفوا بذلك {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10 - 11]، فـ (الرحمن) رحمته شاملة للمؤمنين والكفار، ولأهل الدنيا والآخرة، و (الرحيم) رحمة خاصة بالمؤمنين.
ومعنى أن الرحمن أشد مبالغة أي: فيه مبالغة في المعنى من بلوغ الشيء نهايته، فقد بلغت الرحمة كمالها ونهايتها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه والرحيم خاصة بالمؤمنين، لكن جاء في الدعاء المأثور (رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما).
واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يسم به غيره كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]].
(رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما) هذا عند الدعاء، لكن إذا كان على صيغة الخبر فالرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، والرحمن خاص بالله لا يسمى به غيره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمان اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به، فلا يقال: إلا مسيلمة الكذاب، فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر، وأهل الوبر من أهل البادية والأعراب].
معنى تجهرم: هاجم الاسم الكريم، ويحتمل أنها: تجهضم.
وهذا من غطرسته وكبريائه وجبروته وجرأته العظيمة.
والحضر من أهل المدر أي: الطين، وهي بيوت الطين التي يسكنها أهل المدن، والبوادي بيوت من خيام، فأصبح معروفاً بالكذب بين البوادي وبين أهل المدن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن؛ لأنه أكد به والمؤكد لا يكون إلا أقوى من المؤكد].
وهذا القول ضعيف.(10/3)
حكم التسمي بأسماء الله عز وجل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [
و
الجواب
أن هذا ليس من باب التأكيد وإنما هو من باب النعت، ولا يلزم فيه ما ذكروه، قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعلى هذا فيكون تقدير اسم الله الذي لم يسم به أحد غيره، ووصفه أولاً بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، [الإسراء: 110].
وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به، ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة.
وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره، حيث قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، كما وصف غيره بذلك من أسمائه، كما قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]].
فوصف المخلوق بأنه سميع بصير، ووصف نفسه بأنه سميع بصير، ولكن ليس السمع كالسمع ولا البصر كالبصر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحاصل: أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره، كاسم الله والرحمن والخالق والرازق ونحو ذلك].
فهذه الأسماء لا يسمى بها إلا الله، وهي: الله والخالق والرازق، ومالك الملك، ومدبر الأمور، والمعطي والمانع، والضار والنافع، وأما السميع والبصير والعزيز والملك والحليم والرءوف فقد يسمى بها غيره.(10/4)
تابع معنى اسمي الله عز وجل: (الرحمن والرحيم)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلهذا بدأ باسم الله ووصفه بالرحمن؛ لأنه أخص وأعرف من الرحيم؛ لأن التسمية أولاً إنما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص.
فإن قيل: فإذا كان الرحمن أشد مبالغة فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد روي عن عطاء الخراساني ما معناه: أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك، فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى.
كذا رواه ابن جرير عن عطاء ووجهه بذلك، والله أعلم.
وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى رد الله عليهم ذلك بقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]؛ ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله عنه الله عنه: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم).
رواه البخاري.
وفي بعض الروايات: (لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة)].
يعنون: مسيلمة.
قال: [وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان:60].
والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم].
كما قال سبحانه: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]، وهذا من عنادهم، وإلا فإنهم يعرفون الرحمة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإنه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية الله تعالى بالرحمن، قال ابن جرير: وقد أنشد بعض الجاهلية الجهال: ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا قضب الرحمن ربى يمينها].
الهجين: الفرس من الخيل غير العربي.
وقوله: (قضب الرحمن) يعني قطع الرحمن، يدعو عليها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سلامة بن جندب الطهوي: عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق].
قوله (يعقد ويطلق) بالبناء للمجهول.
وسلامة بن جندب في بعض النسخ جندل، فتراجع دواوين الشعر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة حدثنا أبو روق عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال: الرحمن الفعلان من الرحمة، هو من كلام العرب، وقال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] الرفيق الرقيق لمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه، وكذلك أسماؤه كلها.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا محمد بن بشار حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن الحسن قال: الرحمن اسم ممنوع].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو الأشهب عن الحسن قال: الرحمن اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، تسمى به تبارك وتعالى].
يعني: لا يستطيعون أن يتسموا به أو ينسبوه ويضيفوه إلى أنفسهم.(10/5)
اختلاف القراء في وصل وقطع البسملة عن الآية بعدها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته حرفاً حرفاً: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:1 - 4])].
تعني: أنه كان يقف على رءوس الآي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقرأ بعضهم كذلك وهم طائفة، ومنهم من وصلها بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وكسرت الميم؛ لالتقاء الساكنين، وهم الجمهور].
يعني: أن الأولى القطع، تقول: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1 - 2]، ومن وصلها قال: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1 - 2]، فلا بأس بالوصل، لكن الوقوف على رءوس الآي هو الأفضل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحكى الكسائي من الكوفيين عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم وصلة الهمزة فيقولون: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمَ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1 - 2]، فنقلوا حركة الهمزة إلى الميم بعد تسكينها، كما قرئ قوله تعالى: {المَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:1 - 2]، قال ابن عطية: ولم ترد هذه قراءة عن أحد فيما علمت].
يعني: بفتح الميم من قوله: (آلم).(10/6)
التفريغ النصي - - للشيخ - صوتيات إسلام ويب function audiosearch() { if (kword.
value.
length Deutsch | Espanol | Francais | English
إسلام ويب | مقالات | فتاوى | استشارات | صوتيات | بنين وبنات | المكتبة
مكتبتك الصوتية
تسجيل مستخدم جديد
تفعيل الاشتراك
استرجاع كلمة السر أو رمز التفعيل
اسم المستخدم
كلمة السر(11/1)
مقدمة تفسير سورة البقرة
سورة البقرة من السور التي وردت بشأنها نصوص كثيرة تبين فضلها ومنزلتها، فهي واقية من مس الشياطين، حاصل بها التشريف في الدنيا والآخرة، وقارئها في ليلته يكتب من القانتين، وقد أعطيها نبينا صلى الله عليه وسلم مكان التوراة، ويكفي في بيان فضلها أنها حوت أعظم آية في القرآن، وآيتين في آخرها تكفيان قارئهما في ليلته.(12/1)
فضائل سورة البقرة(12/2)
البقرة سنام القرآن وذروته
قال المصنف رحمه الله: [سورة البقرة مدنية، وآياتها ست وثمانون ومائتان.
ذكر ما ورد في فضلها: قال الإمام أحمد: حدثنا عارم حدثنا معتمر عن أبيه عن رجل عن أبيه عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً، واستخرجت {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] من تحت العرش فوصلت بها -أو: فوصلت بسورة البقرة-، و (يس) قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له، واقرءوها على موتاكم)، انفرد به أحمد.
وقد رواه أحمد -أيضاً- عن عارم عن عبد الله بن المبارك عن سليمان التيمي عن أبي عثمان - وليس بـ النهدي - عن أبيه عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرءوها على موتاكم) يعني: (يس)، فقد تبين بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى].
قوله: [فقد تبين بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى].
أي: أن السند الأول فيه مبهم، لكن سمي في السند الثاني فزال الإبهام، ومعنى (اقرءوا على موتاكم (يس)) أي: اقرءوا على المحتضرين.
وهذا الحديث في قراءة (يس) على الموتى متصل الإسناد لا بأس به، وليس المراد منه قراءة القرآن بعد الموت؛ فإن قراءة القرآن بعد الموت وعند القبر بدعة، وليست بمشروعة، ولكن المراد هو القراءة على المحتضرين.
قال بعض العلماء: الحكمة من ذلك أنها تخفف على المحتضر نزع الموت.
وأبو عثمان قال عنه في (التقريب): مقبول من الرابعة.
وفي (تهذيب الكمال): قال ابن المديني: لم يرو عنه غير التيمي، وهو إسناد مجهول.
وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود: هو أبو عثمان السلي.
وذكره ابن حبان في كتاب (الثقات).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أخرج هذا الحديث على هذه الصفة في الرواية الثانية أبو داود والنسائي وابن ماجة، وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير -وفيه ضعف- عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي)].
فأعظم سورة في القرآن هي سورة الفاتحة، وأعظم آية هي آية الكرسي.(12/3)
فرار الشيطان من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً؛ فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان) وقال الترمذي: حسن صحيح].
قوله صلى الله عليه وسلم: [(لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)] أي: لا تعطلوها من الصلاة والقراءة فتكون بمنزلة القبور؛ لأن القبور لا يقرأ ولا يصلى فيها، فإذا عطل الإنسان البيت من القراءة والصلاة صار بمنزلة القبر.
وهذا الحديث فيه الحث على الصلاة في البيوت، وقد جاء في الحديث الآخر: (صلوا في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة).
وجاء في فضل آية الكرسي: (من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح)، رواه البخاري في الصحيح.
فإذا قرأ البقرة ففيها آية الكرسي، والشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثني ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه) سنان بن سعد -ويقال بالعكس- وثقه ابن معين، واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره.
وقال أبو عبيد: حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الأحوص عن عبد الله -يعني ابن مسعود - رضي الله عنه قال: (إن الشيطان يفر من البيت يسمع فيه سورة البقرة)، ورواه النسائي في (اليوم والليلة)، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة، ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه].
ابن لهيعة المذكور في السند الأول ضعيف.
وفرار الشيطان من قراءة سورة البقرة جاء ذكر مثله في الأذان، ففي الحديث: (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، حتى لا يسمع الأذان)، وكذلك إذا سمع قراءة القرآن فإنه يفر ثم يرجع.
وللمرء إذا أراد طرد الشيطان بقراءة سورة البقرة أن يقرأها بنفسه، أو أن يستمع إلى قراءتها، لكن الأفضل أن يقرأها بنفسه، لكي يحصل على أجر القراءة.
فإن سأل سائل: هل ينفع استخدام المسجلة في ذلك؟ ف
الجواب
الأصل هو أن يقرأ الإنسان بنفسه بقصد أن يتعبد، لكن إذا لم يتيسر له أن يقرأ وليس هناك قارئ فلا بأس باستخدام جهاز التسجيل.
وحصول الوقاية من الشيطان بقراءة آية الكرسي يكون بقراءتها في اليوم نفسه.
قال رحمه الله تعالى: [وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل حدثنا أبو إسماعيل الترمذي حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال حدثني أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن محمد بن عجلان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يضع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى ويدع سورة البقرة يقرؤها؛ فإن الشيطان يفر من البيت تقرأ فيه سورة البقرة، وإن أصفر البيوت الجوف الصفر من كتاب الله)].
الصفر: هو الخالي، يقال: فلان صفر اليدين أي: خاليهما، ومنه الصفر في العدد، وفي الحديث: (إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً) أي: خاليتين، فالصفر هو الخالي، فقوله: (أصفر البيوت) يعني: أخلاها، أي أنه بيت فقير خال من الخير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا رواه النسائي في (اليوم والليلة) عن محمد بن نصر عن أيوب بن سليمان به.
وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال: (ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط).
وقال: (إن لكل شيء سناماً، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل شيء لباباً، وإن لباب القرآن المفصل)].
قوله صلى الله عليه وسلم: [(ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط)]، هذا كما جاء في الأذان، فإن الشيطان إذا سمع الأذان ولى وله ضراط، وكذلك إذا سمع القرآن ولى وله ضراط، ولا مانع من أن يرجع، كما في حديث فراره من الأذان، ففيه أنه إذا انتهى المؤذن رجع فيوسوس، فإذا سمع الإقامة ولى، ثم يرجع فيوسوس للمرء ليحول بينه وبين صلاته حتى يذكره بالأشياء التي نسيها، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، اذكر كذا، حتى ينصرف من صلاته ولا يدري كم صلى.
قال رحمه الله تعالى: [وروى أيضاً من طريق الشعبي قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة، أربع من أولها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث آيات من آخرها)].
هذا السند ضعيف؛ لأنه منقطع، فـ الشعبي لم يدرك ابن مسعود رضي الله عنه، وفي متنه غرابة، فإنه عد فيه آيتين بعد آية الكرسي، والمعروف هو أربع آيات من أول سورة البقرة وآية الكرسي وآيتان من آخر سورة البقرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي رواية: (لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه، ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق)].
ومن الغرابة كذلك قوله: [(لا يقرأن على مجنون إلا أفاق)].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل شيء سناماً، وإن سنام القرآن البقرة، وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام) >.
رواه أبو القاسم الطبراني وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه وابن مردويه من حديث الأزرق بن علي حدثنا حسان بن إبراهيم حدثنا خالد بن سعيد المدني عن أبي حازم عن سهل به، وعند ابن حبان خالد بن سعيد المديني].
الصحيح أبو حاتم ابن حبان، فالواو زائدة، وابن حبان هو أبو حاتم، وأبو حاتم ابن حبان هو غير أبي حاتم الرازي صاحب الجرح والتعديل.
وذا الحديث فيه أن الشيطان لا يقرب البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ثلاث ليال، والحديث فيه ضعف، فـ خالد بن سعيد متكلم فيه.(12/4)
تقديم النبي صلى الله عليه وسلم حافظ سورة البقرة على غيره في الإمرة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن عطاء مولى أبي أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً وهم ذو عدد، فاستقرأهم، فاستقرأ كل واحد منهم ما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سناً فقال: ما معك يا فلان؟ فقال: معي كذا وكذا وسورة البقرة.
فقال: أمعك سورة البقرة؟! قال: نعم.
قال: اذهب فأنت أميرهم.
فقال رجل من أشرافهم: والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أني خشيت ألا أقوم بها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلموا القرآن واقرءوه؛ فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكاً يفوح ريحه في كل مكان، ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكي على مسك)].
لاشك في أن من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به يكون قد استفاد من هذا المسك في هذا الجراب، ومن قرأه ولم يعمل به فاته هذا الخير الكثير، بل إنه يكون وبالاً عليه إذا لم يعمل به، والعياذ بالله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا لفظ رواية الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن، ثم رواه من حديث الليث عن سعيد عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلاً، فالله أعلم].(12/5)
دنو الملائكة لسماع قراءة أسيد بن حضير سورة البقرة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال البخاري: وقال الليث: حدثني يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: (بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس، فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها، فأشفق أن تصيبه، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا ابن حضير.
قال: قد أشفقت -يا رسول الله- على يحيى وكان منها قريباً، فرفعت رأسي وانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها.
قال: وتدري ما ذاك؟! قال: لا.
قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم).
وهكذا رواه الإمام العالم أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب (فضائل القرآن) عن عبد الله بن صالح ويحيى بن بكير عن الليث به، وقد روي من وجه آخر عن أسيد بن حضير كما تقدم، والله أعلم].
وقد روي -أيضاً- أنه كان يقرأ سورة الكهف، فجالت الفرس، وأنها كانت قريبة من ولده يحيى كما جاء في هذا الحديث.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد وقع نحواً من هذا لـ ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، وذلك فيما رواه أبو عبيد: حدثنا عباد بن عباد عن جرير بن حازم عن عمه جرير بن يزيد أن أشياخ أهل المدينة حدثوه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ألم تر ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح؟! قال: فلعله قرأ سورة البقرة.
قال: فسألت ثابتاً فقال: قرأت سورة البقرة)].
قوله: [تزهر] أي: تضيء وتنير، والحديث ضعيف؛ لإبهام أشياخ أهل المدينة، وهو كذلك مرسل، ولذا قال رحمه الله: [وهذا إسناد جيد، إلا أن فيه إبهاماً، ثم هو مرسل، والله أعلم].
أي أن رجال السند لا بأس بهم، لولا الإرسال والإبهام.(12/6)
حصول البركة بها في الدنيا والتشريف بها في الآخرة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر ما ورد في فضلها مع آل عمران.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم حدثنا بشر بن مهاجر حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (تعلموا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة، قال: ثم سكت ساعة ثم قال: تعلموا سورة البقرة وآل عمران؛ فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك.
فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة.
فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتان لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟! فيقال: بأخذ ولدكما القرآن.
ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها.
فهو في صعود ما دام يقرأ هذاً كان أو ترتيلاً)].
قوله: [(ولا يستطيعها البطلة) البطلة: هم السحرة، وقوله: [(كالرجل الشاحب)] أي: متغير اللون، وقوله: [(أظمأتك في الهواجر)] أي: بالصيام، وهذا هو خلق أهل القرآن الذين يعملون بالقرآن، فهم يصومون في النهار ويصلون في الليل؛ لأنهم يعملون بالقرآن، فهم أسبق الناس إلى الطاعات، والقرآن فيه الدعوة إلى الصيام والصلاة وغيرهما من الطاعات، فلهذا قال: [(أظماتك في الهواجر)] يعني: من كثرة الصيام [(وأسهرت ليلك)] أي: من كثرة القيام.
وقارئ القرآن هنا يشمل الحافظ وغير الحافظ، فالمقصود هو العمل بالقرآن، فالذي يقرأ من المصحف وهو يصلي ويعمل بالقرآن، ويمتثل الأوامر ويجتنب النواهي على خير عظيم، أما الذي يحفظ ولا يعمل فلا ينفعه حفظه، وإن قرأه وعمل به فهو على خير.
ثم إن من يقرأ القرآن خارج الصلاة هو على خير، لكن كونه يجمع بينهما فيصلي ويقرأ ويراوح بين الجبهة والقدمين، ويتضرع إلى الله تعالى في السجود ويدعوه هو الأفضل.
ولا ينبغي للإنسان أن يترك الأفضل، لأن الشيطان يحرص على إضاعة الفضل على ابن آدم؛ وللشيطان في ذلك خطوات، فهو يدعوه أولاً إلى الكفر والشرك، فإن ظفر به حصل بغيته، وإن لم يظفر به دعاه إلى البدعة، فإن لم يظفر به دعاه إلى الكبيرة، فإن لم يظفر به دعاه إلى الصغيرة، فإن لم يظفر به دعاه إلى التوسع في المباحات، فإن لم يظفر به دعاه إلى أن يفعل المفضول ويترك الفاضل، فيقول: اقرأ القرآن ولا تصل، فأنت على خير، أو يدعوه إلى أن يتعبد ويصلي الليل ويصوم النهار دون أن يطلب العلم، فإن فعل هذا فقد فوت عليه الأفضل، فالأفضل هو طلب العلم، فلا ينبغي للإنسان أن يترك الأفضل ويعمل الفاضل.(12/7)
محاجتها وآل عمران عن صاحبهما يوم القيامة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى ابن ماجة من حديث بشير بن المهاجر بعضه، وهذا إسناد حسن على شرط مسلم، فإن بشيراً هذا خرج له مسلم، ووثقه ابن معين، وقال النسائي: ما به بأس.
إلا أن الإمام أحمد قال فيه: هو منكر الحديث، قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تأتي بالعجب.
وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه.
وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به.
وقال ابن عدي: روى ما لا يتابع عليه.
وقال الدارقطني: ليس بالقوي.
قلت: ولكن لبعضه شواهد، فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرءوا القرآن؛ فإنه شافع لأهله يوم القيامة، اقرءوا الزهراوين -البقرة وآل عمران- فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان طير صواف يحاجان عن أهلهما يوم القيامة.
ثم قال: اقرءوا البقرة؛ فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة)].
المعنى أن عمل الإنسان بقراءة البقرة وآل عمران يأتي كأنه غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، ومعروف أن البقرة وآل عمران كلام الله، كما جاء في الحديث الآخر أن الإنسان إذا وضع في قبره جاءه رجل حسن الوجه حسن الصورة طيب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح.
والفاجر يأتيه رجل قبيح الوجه منتن الريح، فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث.
وكذلك عمل الإنسان بالبقرة وآل عمران يأتي فيظل صاحبه يوم القيامة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام ممطور الحبشي عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي به.
الزهراوان: المنيرتان.
والغياية: ما أظلك من فوقك.
والفرق: القطعة من الشيء.
والصواف: المصطفة المتضامة.
والبطلة: السحرة.
ومعنى (لا تستطيعها) أي لا يمكنهم حفظها، وقيل: لا يستطيعون النفوذ في قارئها.
والله أعلم].
أي أن قوله: (لا تستطيعها البطلة) معناه: أن السحرة لا يستطيعون حفظها؛ لأن القرآن منافٍ لما هم عليه من الشرك، فالقرآن توحيد والسحرة مشركون، فلا يستطيعون حفظها وهم على شركهم، أو لا يستطيعون العمل في صاحبها، فسحرهم فيه لا ينفذ.
وقد يقال: وجد من النصارى من حفظوا القرآن وهم على كفرهم!
و
الجواب
أنه ليس المراد -والله أعلم- مجرد الحفظ، بل المراد الحفظ الذي يكون معه العمل، كما جاء عن الصحابة أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا معانيها ويعملوا بها، وهذا يسمى حفظاً.
وهذا مثل ما جاء في الحديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً -مائة إلا واحداً- من أحصاها دخل الجنة) فليس المراد حفظها بالعد فقط، إنما الحفظ الملازم للعمل والذي يتبعه العمل، فالسحرة والكفرة لا يفيدهم حفظ الآيات إذا حفظوها ولم يعملوا بها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن ذلك حديث النواس بن سمعان، قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير قال: سمعت النواس بن سمعان الكلابي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمهم سورة البقرة وآل عمران، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنها فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما).
ورواه مسلم عن إسحاق بن منصور عن يزيد بن عبد ربه به، والترمذي من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي به، وقال: حسن غريب].
قوله صلى الله عليه وسلم: [(تقدمهم سورة البقرة)].
يحتمل أن يكون المعنى: تكون في مقدمهم، مثل قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود:98] أو من: قدم يقدم إذا ورد، كقولهم: فلان قدم البلد.
وعلى المعنى الأول تكونان أولهم ثم يتبعهما أصحابهما.
وقوله: [(بينهما شرق)] أي: بينهما نور.(12/8)
القول في اشتمالها على اسم الله الأعظم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير قال: قال حماد: أحسبه عن أبي منيب عن عمه أن رجلاً قرأ البقرة وآل عمران، فلما قضى صلاته قال له كعب: أقرأت البقرة وآل عمران؟ قال: نعم.
قال: فوالذي نفسي بيده إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب.
قال: فأخبرني به.
قال: لا والله لا أخبرك به، ولو أخبرتك به لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت].
كعب الأحبار هو من أهل الكتاب ممن أسلم في زمن عمر بن الخطاب، وهو ينقل عن بني إسرائيل كثيراً.
والمعروف عند كثير من العلماء أن اسم الله الأعظم قد جاء في ثلاث آيات: في سورة البقرة في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] آية الكرسي، وفي أول سورة آل عمران في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:2] وفي سورة طه في قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111].
وقال آخرون: اسم الله الأعظم المراد به العظيم، وأسماء الله كلها حسنى وكلها عظيمة، فهذا وصف لجميع أسماء الله تعالى.(12/9)
ما ذكر من المنامات في بيان فضلها وآل عمران
قال المؤلف رحمه الله تعالى عن أبي عبيد: [وحدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن سليم بن عامر أنه سمع أبا أمامة رضي الله عنه يقول: إن أخا لكم أري في المنام أن الناس يسلكون في صدع جبل وعر طويل، وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان يهتفان: هل فيكم قارئ يقرأ سورة البقرة؟ وهل فيكم قارئ يقرأ سورة آل عمران؟ قال: فإذا قال الرجل: نعم دنتا منه بأعذاقهما حتى يتعلق بهما فيخطران به الجبل].
معنى: (يخطران) يتجاوزان به الخطر، أي: يتجاوزان به الجبل الوعر.(12/10)
ذكر ما روي في كونها آخر ما بقي من القرآن في صدر قاتل
قال المؤلف رحمه الله تعالى عن أبي عبيد: [وحدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن أبي عمران أنه سمع أم الدرداء تقول: إن رجلاً ممن قرأ القرآن أغار على جار له فقتله، وإنه أقيد به فقتل، فما زال القرآن ينسل منه سورة سورة حتى بقيت البقرة وآل عمران جمعة، ثم إن آل عمران انسلت منه وأقامت البقرة جمعة، فقيل لها: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] قال: فخرجت كأنها السحابة العظيمة.
قال أبو عبيد: أراه يعنى أنهما كانتا معه في قبره يدافعان عنه ويؤنسانه، فكانتا من آخر ما بقي معه من القرآن].
المراد بالجمعة هنا الأسبوع، أي أن القرآن أخذ ينسل فبقيت البقرة وآل عمران أسبوعاً، ثم انسلت آل عمران فبقيت البقرة أسبوعاً ثم انسلت، ومعنى ذلك أن البقرة وآل عمران بقيتا آخر شيء، وهذا يدل على فضلهما.(12/11)
حصول البراءة من النفاق بقراءتها وآل عمران مع إيمان وصدق
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال -أيضاً-: حدثنا أبو مسهر الغساني عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي أن يزيد بن الأسود الجرشي كان يحدث أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم برئ من النفاق حتى يمسي، ومن قرأهما في ليلة برئ من النفاق حتى يصبح.
قال: فكان يقرؤهما كل يوم وليلة سوى جزئه].
هذا محمول على من قرأهما مع إيمان وصدق ورغبة، لا مع نفاق.(12/12)
ذكر ما ورد في أن قارئها وآل عمران في ليلة يكتب من القانتين
قال المؤلف رحمه الله تعالى عن أبي عبيد: [وحدثنا يزيد عن ورقاء بن إياس عن سعيد بن جبير قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان -أو كتب- من القانتين.
فيه انقطاع، ولكن ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله وآله وسلم قرأ بهما في ركعة واحدة].
هذا الحديث فيه انقطاع، فـ سعيد لم يدرك عمر، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بالبقرة وآل عمران والنساء في ركعة واحدة، كما في حديث حذيفة، فكان صلى الله عليه وسلم لا يمر بآية فيها رحمة إلا وقف يسأل، ولا بآية عذاب إلا وقف يتعوذ، ولا بآية تسبيح إلا وقف يسبح، وهذا وقوف عظيم مع التدبر، فمن يستطيع قراءة خمسة أجزاء وربع في ركعة واحدة مع التدبر؟! قال حذيفة: (ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه)، وهذا تحمل عظيم، مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد قالت له عائشة رضي الله عنها: (لم تفعل هذا -يا رسول الله- وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً) وإنما فعل هذا تعبداً لله عز وجل وشكراً لله، ولتتأسى به أمته عليه الصلاة والسلام.
وهذه النصوص فيها فضل هاتين السورتين العظيمتين، وذلك لما اشتملتا عليه من الأحكام العظيمة والأوامر والنواهي والآداب والأعمال وأوصاف وأخلاق المؤمنين، والتحذير من صفات المنافقين والكفرة والفساق.(12/13)
فضائل السبع الطوال(12/14)
ذكر ما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطيها مكان التوراة
قال الحافظ رحمه الله: [ذكر ما ورد في فضل السبع الطوال: قال أبو عبيد: حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي عن محمد بن شعيب عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت السبع الطوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصل) هذا حديث غريب، وسعيد بن أبي بشير فيه لين].
سعيد بن أبي بشير ضعيف، ومحمد بن شعيب هو ابن شابور -بالمعجمة الموحدة- الأموي مولاهم الدمشقي، نزيل بيروت، صدوق صحيح الكتابة، من كبار التاسعة، مات سنة مائتين وله أربع وثمانون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رواه أبو عبيد عن عبد الله بن صالح عن الليث عن سعيد بن أبي هلال قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكره، والله أعلم].
هذا الحديث معضل؛ لأنه سقط فيه أكثر من واحد بعد سعيد بن أبي هلال.(12/15)
ذكر ما روي من أن آخذ السبع حبر
قال رحمه الله تعالى: [ثم قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن حبيب بن هند الأسلمي عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ السبع فهو حبر)].
قوله: [(فهو حبر)] أي: عالم، يقال: (حبر) بكسر الحاء وفتحها.
وهذا -إن صح- محمول على أن المراد بذلك من أخذها وعمل بها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا -أيضاً- غريب، وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي، وروى عنه عمرو بن عمرو وعبد الله بن أبي بكرة، وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحاً، والله أعلم.
وقد رواه الإمام أحمد عن سليمان بن داود وحسين كلاهما عن إسماعيل بن جعفر به، ورواه -أيضاً- عن أبي سعيد عن سليمان بن بلال عن حبيب بن هند عن عروة عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أخذ السبع الأول من القرآن فهو حبر).
قال أحمد: وحدثنا حسين حدثنا ابن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
قال عبد الله بن أحمد: وهذا أرى فيه: (عن أبيه عن الأعرج)، ولكن كذا كان في الكتاب، فلا أدري أغفله أبي، أو كذا هو مرسل.
وروى الترمذي عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سناً لحفظه سورة البقرة، وقال له: اذهب فأنت أميرهم) وصححه الترمذي].(12/16)
ذكر تفسير قوله تعالى (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني) بالسبع الطوال
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم قال أبو عبيد: حدثنا هشيم أنبأنا أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر:87] قال: هي السبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس.
قال: وقال مجاهد: هي السبع الطوال، وهكذا قال مكحول، وعطية بن قيس، وأبو محمد الفارسي، وشداد بن أوس، ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الآية بذلك وفي تعدادها، وإن يونس هي السابعة].
هذا القول ضعيف، وذلك لأمرين: الأمر الأول: أن السبع المثاني هي الفاتحة وليست السبع السور، فقد جاء في شأن الفاتحة قوله صلى الله عليه وسلم: (هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته).
الأمر الثاني: عد يونس وترك التوبة وهي أطول منها، وهي قبلها في ترتيب المصحف.
فالمقصود بالسبع المثاني الفاتحة، فهي سبع آيات تثنى في كل ركعة، وليس المراد السبع الطوال.(12/17)
نسبة سورة البقرة وبيان عدد آياتها وكلماتها وحروفها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف، وهي من أوائل ما نزل بها، لكن قوله تعالى فيه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] الآية يقال: إنها آخر ما نزل من القرآن، ويحتمل أن تكون منها، وكذلك آيات الربا من آخر ما نزل، وكان خالد بن معدان يسمي البقرة فسطاط القرآن].
الفسطاط مثلث الفاء، فيقال: فُسطاط وفَسطاط وفِسطاط.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال بعض العلماء: وهي مشتملة على ألف خبر وألف أمر وألف نهي، وقال العادون: آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات، وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائتان وإحدى وعشرون كلمة، وحروفها خمسة وعشرون ألفاً وخمسمائة حرف، والله أعلم.
قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: نزلت بالمدينة سورة البقرة، وقال: خصيف عن مجاهد عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت بالمدينة سورة البقرة.
وقال الواقدي: حدثني الضحاك بن عثمان عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: نزلت البقرة بالمدينة.
وهكذا قال غير واحد من الأئمة والعلماء والمفسرين، ولا خلاف فيه].
خصيف ضعيف، ولكن المعروف عند العلماء أنها مدنية، ومعنى كونها مدنية أنها نزلت بعد الهجرة، وهذا هو الصواب في تعريف المدني والمكي، فالمكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة ولو نزل في مكة، فقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو جزء من آية المائدة، فهو مدني، وهذا هو الصواب، وهناك أقوال أخرى لأهل العلم في تعريف المدني والمكي، منها أن المكي ما نزل بمكة والمدني ما نزل بالمدينة، وما نزل في الأسفار فلا يصنف، والصواب أن المكي ما نزل قبل الهجرة، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني ولو نزل في مكة أو في الأسفار.(12/18)
بيان صحة قول (سورة البقرة) ونحو ذلك
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن معمر حدثنا الحسن بن علي بن الوليد الفارسي حدثنا خلف بن هشام حدثنا عيسى بن ميمون عن موسى بن أنس بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا: سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، ولا سورة النساء، وكذا القرآن كله، ولكن قولوا: السورة التي يذكر فيها البقرة، والتي يذكر فيها آل عمران، وكذا القرآن كله) هذا حديث غريب لا يصح رفعه، وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة الخواص، وهو ضعيف الرواية لا يحتج به.
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه (أنه رمى الجمرة من بطن الوادي، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة) أخرجاه.
وروى ابن مردويه من حديث شعبة عن عقيل بن طلحة عن عتبة بن مرثد قال: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخراً فقال: يا أصحاب سورة البقرة) وأظن هذا كان يوم حنين يوم ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم: يا أصحاب الشجرة -يعني أهل بيعة الرضوان، وفي رواية: يا أصحاب سورة البقرة- لينشطهم بذلك، فجعلوا يقبلون من كل وجه].
لما قال العباس يوم حنين -وكان جهوري الصوت-: يا أصحاب سورة البقرة، يا أصحاب سورة البقرة؛ جعلوا يعطفون عليه عطف البقر على أولادها قائلين: لبيك، لبيك، رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة جعل الصحابة يفرون لكثافة جيش بني حنيفة، فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون: يا أصحاب سورة البقرة.
حتى فتح الله عليهم، رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين].
الصواب أنه لا بأس بقول (سورة البقرة) كما في حديث ابن مسعود لما رمى الجمرة فقال: (هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة)، وأما حديث أنس السابق فهو ضعيف مخالف للأحاديث الصحيحة التي منها حديث ابن مسعود، وكذلك حديث (تعلموا سورة البقرة)، ومناداة الصحابة في غزوة حنين بلفظ: (يا أصحاب سورة البقرة)، وتناديهم في يوم اليمامة بقولهم: (يا أصحاب سورة البقرة).
والمعروف عن الحجاج بن يوسف أمير العراق أنه كان يتورع ويقول: لا تقولوا سورة البقرة، قولوا: السورة التي تذكر فيها البقرة، والسورة التي تذكر فيها آل عمران.
وهذا عبارة عن تشدد لا وجه له، وهو مخالف للنصوص، والعجب من الحجاج أن يتورع عن قول (سورة البقرة) ولم يتورع عن قتل العدد الكبير من المسلمين وإراقة الدماء، نسأل الله السلامة والعافية.
فالمقصود أن قول (سورة البقرة) لا بأس به.(12/19)
تفسير سورة البقرة الآية [1]
تتنوع في القرآن الكريم أساليب الإعجاز والتحدي؛ للدلالة على كونه من عند الله تعالى ليكون رسالة وتشريعاً، ومن دلائل ذلك الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن الكريم، ومنها أوائل سورة البقرة، وميدان الكلام فيها هو في بيان معناها من جهة، وبيان حكمتها من جهة أخرى.(13/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم)(13/2)
القول باستئثار الله تعالى بعلمها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم: {الم} [البقرة:1].
قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور، فمنهم من قال: هي مما استأثر الله بعلمه.
فردوا علمها إلى الله ولم يفسروها، حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم، واختاره أبو حاتم ابن حبان].
الصحيح (الربيع بن خثيم) بالتصغير وتقديم الثاء على الياء.(13/3)
القول بأن الحروف المقطعة أسماء للسور
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من فسرها، واختلف هؤلاء في معناها، فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنما هي أسماء السور.
قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره: وعليه إطباق الأكثر ونقله عن سيبويه أنه نص عليه، ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة {الم} [السجدة:1] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1]).
وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: (ألم) و (حم) و (المص) و (ص) فواتح افتتح الله بها القرآن.
وكذا قال غيره عن مجاهد، وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال: (الم) اسم من أسماء القرآن.
وهكذا قال قتادة وزيد بن أسلم، ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم من أسماء السور؛ فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن؛ فإنه يبعد أن يكون (المص) اسماً للقرآن كله؛ لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول: قرأت (المص) إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن، والله أعلم.(13/4)
القول بأن (الم) اسم من أسماء الله تعالى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: هي اسم من أسماء الله تعالى، فقال الشعبي: فواتح السور من أسماء الله تعالى.
وكذلك قال سالم بن عبد الله وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، وقال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (الم) اسم من أسماء الله الأعظم.
وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة].
حديث ابن عباس هذا منقطع، والصواب في المسألة القول الأول، وهو أن الله تعالى أعلم بمعناها، فهذه الحروف في أوائل السور لم يأت نص يعتمد عليه أو بأنها من أسماء السور، أو من أسماء الله.
وأما الحكمة من إيرادها فسينقل المؤلف رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية وعن المزي أن الحكمة في الإتيان بها في أوائل السور بيان إعجاز القرآن، وأن القرآن نزل بلغة العرب المكونة من الحروف الهجائية الثمانية والعشرين، ومع ذلك تحدى الله البشر أن يأتوا بمثله وبعشر سور وبسورة فعجزوا.
ولذلك فإن أكثر السور المفتتحة بهذه الحروف يأتي بعدها بيان القرآن وإعجازه، كقوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]، وقوله تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران:1 - 3]، وقوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1]، وقوله تعالى: {المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف:1 - 2].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال: سألت السدي عن (حم) و (طس) و (الم) فقال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي اسم الله الأعظم].
هذا الأثر منقطع، وبندار لقب لـ محمد بن بشار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو النعمان حدثنا شعبة عن إسماعيل السدي عن مرة الهمداني قال: قال عبد الله، فذكر نحوه، وحكى مثله عن علي وابن عباس، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله تعالى.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة أنه قال: (الم) قسم.
ورويا -أيضاً- من حديث شريك بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما: (الم) قال: أنا الله أعلم.
وكذا قال سعيد بن جبير، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (الم) قال: أما (الم) فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: (الم) قال: هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفاً دارت فيها الألسن كلها، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم.
قال عيسى ابن مريم عليه السلام وعجب فقال: أعجب أنهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه، فكيف يكفرون به؟! فالألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، فالألف آلاء الله، واللام لطف الله، والميم مجد الله، الألف به سنة، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون سنة.
هذا لفظ ابن أبي حاتم.(13/5)
توجيه ابن جرير لما قيل في (الم) وتعقب ابن كثير
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونحوه رواه ابن جرير، ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها، وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر، وأن الجمع ممكن، فهي أسماء للسور ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور، فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته، كما افتتح سوراً كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه، قال: ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله وعلى صفة من صفاته وعلى مدة وغير ذلك، كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية؛ لأن الكلمة الواحدة تطلق على معانٍ كثيرة، كلفظة الأمة، فإنها تطلق ويراد بها الدين، كقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22]، وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله، كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، وتطلق ويراد بها الجماعة، كقوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل:36]، وتطلق ويراد بها الحين من الدهر، كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:45] أي: بعد حين على أصح القولين، قال: فكذلك هذا.
هذا حاصل كلامه موجهاً].
هذا كلام ابن جرير رحمه الله، وهو أنه لا مانع من أن تكون هذه الحروف المقطعة من أسماء الله ومن أسماء السور، مثل لفظ (الأمة) يأتي لمعان متعددة، إلا أن هناك فرقاً بين المسألتين، وذلك أن لفظ الأمة لا يدل على هذه المعاني في وقت واحد، بل يدل على واحد منها بحسب السياق، فتأتي في سياق بمعنى الجماعة، وتأتي في سياق بمعنى الدين، وهكذا.
أما هذا التوجيه الذي وجهه ابن جرير فمعناه أن هذه الحروف هي أسماء للسور، وهي في نفس الوقت أسماء لله، وهي في نفس الوقت تفيد المدد والآجال، فالتنظير ليس مماثلاً، كما تعقب الحافظ رحمه الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية، فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا وعلى هذا وعلى هذا معاً، ولفظة (الأمة) وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الإصطلاح إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام، فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول ليس هذا موضع البحث فيها، والله أعلم.
ثم إن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها في سياق الكلام بدلالة الوضع، فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف، والمسألة مختلف فيها، وليس فيها إجماع حتى يحكم به، وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة فإن في السياق ما يدل على ما حذف، بخلاف هذا، كما قال الشاعر: قلنا قفي لنا فقالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف تعني: وقفت].
قوله: [فقالت قاف]، أي: قالت: وقفت.
فاختصر الكلمة واكتفى بذكر الحرف لدلالة ما قبله عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الآخر: ما للظليم عال كيف لا يا ينقد عنه جلده إذا يا فقال ابن جرير: كأنه أراد أن يقول: إذا يفعل كذا وكذا، فاكتفى بالياء من (يفعل).
وقال الآخر: بالخير خيرات وإن شراً فا ولا أريد الشر إلا أن تا يقول: وإن شراً فشرا، ولا أريد الشر إلا أن تشاء، فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما، أي أنه حذف بقية الكلمة واكتفى بالحرف الأول.
ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام والله اعلم].
فحمل الحرف الواحد على معانٍ متعددة مثل (الم) في نفس السياق يحتاج إلى دليل كما ذكرنا، مع أن هذه الأقوال كلها ليس عليها دليل، فالصواب هو القول الأول، وهو أنه لا يعلم معانيها إلا الله عز وجل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال القرطبي: وفي الحديث: (من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة) الحديث، قال سفيان: هو أن يقول في اقتل: (اق)، وقال خصيف عن مجاهد أنه قال: فواتح السور كلها (ق) و (ص) و (حم) و (طسم) و (الر) وغير ذلك هجاء موضوع.
وقال بعض أهل العربية: هي حروف من حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفاً، كما يقول القائل: ابني يكتب في (أب ت ث)، أي: في حروف المعجم الثمانية والعشرين، فيستغنى بذكر بعضها عن مجموعها، حكاه ابن جرير.(13/6)
الحروف المقطعة واشتمالها على أنصاف أجناس الحروف
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفاً، وهي: (أ، ل، م، ص، ر، ك، هـ، ي، ع، ط، س، ح، ق، ن) يجمعها قولك: (نص حكيم قاطع له سر)، وهي نصف الحروف عدداً، والمذكور منها أشرف من المتروك، وبيان ذلك من صناعة التصريف.
قال الزمخشري: وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف، يعني: من المهموسة والمجهورة، ومن الرخوة والشديدة، ومن المطبقة والمفتوحة، ومن المستعلية والمنخفضة، ومن حروف القلقلة، وقد سردها مفصلة ثم قال: فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته].
وهذه المعاني معروفة عند أهل التجويد الذين يقسمون الحروف إلى: مطبقة ومفتوحة، ومستعلية ومستفلة، ومجهورة ومهموسة، ومقلقلة، وحروف القلقلة مجموعة في قولك: (قطب جد)، فتقول: (حميد مجيد) بقلقلة الدال عندما تقف عليها، ولا تقل: (حميد مجيد) بغير قلقلة، بل لابد من قلقلتها، وكذلك قوله تعالى: (لأولي الألباب) أما ما سواها من الأحرف فلا تقلقل، وأما الحروف الخمسة فتقلقل استحباباً.
وفي نسخة مكان أصناف (أنصاف) ومعناها: أن نصف حروف الهجاء أربعة عشر حرفاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى عن الزمخشري: [وهذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله، ومن ههنا لخص بعضهم في هذا المقام كلاماً فقال: لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثاً ولا سدى، ومن قال من الجهلة: إن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية فقد أخطأ خطأً كبيراً].
جاء في نسخة (لحظ) بدل (لخص) ولعلها أقرب، يعني: لحظ هذا الملحظ.
قال: [فتعين أن لها معنى في نفس الأمر، فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به، وإلا وقفنا حيث وقفنا وقلنا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]].
والصواب أن لها معنى، لكن الله أعلم به، فإن صح به الخبر قلنا به، وإن لم يصح فلا، ولهذا لم يأت نص في تفسير هذه الحروف، فنقول: الله أعلم بمعناها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين، وإنما اختلفوا، فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبين، هذا مقام.
المقام الآخر: في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف].
أي: أن المقام الأول في بيان معناها، والصواب أن معناها لا يعلم، بل يوكل إلى الله عز وجل.
والمقام الثاني: في بيان حكمة إيرادها في أوائل السور، والحكمة من إيرادها في أوائل السور -كما ينقل المؤلف رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية والمزي: بيان إعجاز القرآن، وأن القرآن معجز، مع أن القرآن نزل بلغة العرب بالحروف الهجائية الثمانية والعشرين، ومع ذلك عجزوا عن أن يعارضوه أو يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة، ولهذا يأتي بعد الحروف المقطعة الانتصار للقرآن في كل سورة والتنويه به وبيان إعجازه، كما قال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} [إبراهيم:1]، والمعتزلة يقولون: الإنزال لا ينافي الخلق، فبعض الأشياء مخلوقة وهي منزلة، مثل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25] فالحديد منزل وهو مخلوق، ومثله نزول المطر، لكن العلماء بينوا الفرق بين الإنزالين، فقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد:25] الإنزال فيه مطلق، وأما إنزال المطر فهو إنزال مقيد بأنه من السماء، وأما القرآن فهو منزل من عند الله، كما في قوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13]، وقوله تعالى: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام:114]، وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1].
فالحاصل أن المعتزلة يقولون: إن جاء في القرآن أنه منزل فلا ينفي ذلك أنه مخلوق، فهو مخلوق ومنزل، كما أن الحديد مخلوق ومنزل، والمطر مخلوق ومنزل, والأنعام مخلوقة ومنزلة، فهذه شبهة للمعتزلة، لكن أجاب عنها أهل السنة ببيان الفرق بين إنزال القرآن وإنزال هذه الأشياء.(13/7)
حكمة إيراد الحروف المقطعة في أوائل السور
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [المقام الآخر: في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها].
المقصود: أن معناها لا نعلمه، لكن ما الحكمة في إيرادها؟ فهذا مقام غير المقام الأول، فالمقام الأول مقام المعنى، وأسلم الأقوال وأصحها أن الله أعلم بمعناها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقال بعضهم: إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور، حكاه ابن جرير، وهذا ضعيف؛ لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه، وفيما ذكرت فيه البسملة تلاوة وكتابة].
أي أن الفصل معروف في السورة، حيث تنتهي وتبدأ السورة الأخرى بالبسملة، ما عدا سورة براءة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال آخرون: بل ابتدئ بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين؛ إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له تلي عليهم المؤلف منه، حكاه ابن جرير أيضاً، وهو ضعيف أيضاً؛ لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور، لا يكون في بعضها، بل غالبها ليس كذلك، ولو كان كذلك -أيضاً- لانبغى الابتداء بها في أوائل الكلام معهم، سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك، ثم إن هذه السورة والتي تليها -أعني البقرة وآل عمران- مدنيتان ليستا خطاباً للمشركين، فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه.
وقال آخرون: بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية].
الصواب أن الحكمة من إيرادها بيان إعجاز القرآن، وأن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف الهجائية؛ لأنه نزل بلغة العرب المكونة من ثمانية وعشرين حرفاً، ومع ذلك فقد عجز البشر عن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله، وهو من هذه الحروف الهجائية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي بالصريح في أماكن.
قال: وجاء منها على حرف واحد كقوله: (ص، ن، ق)، وحرفين مثل: (حم)، وثلاثة مثل: (الم)، وأربعة مثل: (المر)، و (المص)، وخمسة مثل: (كهيعص، وحم عسق)؛ لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك.
قلت: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن].
هذا من الحافظ تأييد لما نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية وعدد من العلماء، فهو يؤيد كونها لبيان إعجاز القرآن؛ لأن كل سورة افتتحت بهذه الحروف يأتي بعدها الانتصار للقرآن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا كل سورة اقتتحت بالحروف فلابد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]، {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران:1 - 3]، {المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف:1 - 2]، {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم:1]، {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1 - 2]، {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:1 - 2]، {حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى:1 - 3]، وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر، والله أعلم].
وهذا التأييد للترجيح، فإن قيل: قوله تعالى: {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:1 - 3] لم نر فيه انتصاراً للقرآن وبيان إعجازه بعد الحروف المقطعة! قلنا: إن فيه تلويحاً بذكر القرآن، حيث قال: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم:2] يعني: في هذا القرآن.
والنص غير صريح على القرآن، لكن الله تعالى ذكر القصة في هذا القرآن، وهي قصة واقعة ومعروفة، ويتكلم بها الإنسان بأسلوبه، ومع ذلك يأتي القرآن بذكر القصة، والبشر لا يستطيعون أن يأتوا بمثل كلام الله حينما قص علينا هذه القصص.(13/8)
بطلان دعوى دلالة الحروف المقطعة على الآجال والحوادث والفتن
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطاره].
صدق رحمه الله، فما هي علاقة المدد بالحروف حتى يجعل كل حرف يفيد كذا، فالألف كذا، واللام ثلاثين والميم أربعين؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته، وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي: حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: (مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2] فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2] فقال: أنت سمعته؟ قال: نعم.
قال: فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد! ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2]؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى.
فقالوا: جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال: نعم.
قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك.
فقام حيي بن أخطب وأقبل على من كان معه فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟! ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! هل مع هذا غيره؟ فقال: نعم.
قال: ماذاك؟ قال: {المص} [الأعراف:1]، قال: هذا أثقل وأطول: الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه إحدى وثلاثون ومائة هل مع هذا -يا محمد- غيره؟! قال: نعم.
قال: ما ذاك؟ قال: {المر} [الرعد:1]، قال: هذا أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة.
فهل مع هذا -يا محمد- غيره؟ قال: نعم.
قال: ماذا؟ قال: {المر} [الرعد:1]، قال: هذه أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتان.
ثم قال: لقد لبس علينا أمرك -يا محمد- حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً؟! ثم قال: قوموا عنه، ثم قال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون، وإحدى وثلاثون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين.
فقالوا: لقد تشابه علينا أمره.
فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7]).
فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به].
لأنه كذاب، والحديث باطل.
والمذكور في هذا الحديث هو ما كان يحسب به العدد من الحروف، حيث كانوا يجعلون كل حرف مثل رحماً عددياً معيناً، ولهذا يقال في تاريخ وفاة الشافعي: (در)، فالدال أربعة، والراء مائتان، فتكون وفاته في عام مائتين وأربعة.
وذكر العلماء وفاة الأئمة الأربعة بالطريقة الأبجدية، فقالوا: للشافعي (در)، و (رام) لـ ابن حنبل، و (طعق) لـ مالك، و (قان) لـ أبي حنيفة، ومعلوم أن هذه الأحرف تربط بها الوفيات، فإذا حفظت هذا البيت عرفت وفاة الأئمة الأربعة: فنعمان (قان) و (طعق) لمالك وللشافعي (در) و (رام) لابن حنبل ونعمان هو أبو حنيفة، فالقاف في (قان) بمائة، والألف بواحد، والنون بخمسين، فهو توفي سنه مائة وخمسين.
و (طعق) لـ مالك حيث توفي سنة مائة وست وسبعين.
وللشافعي (در) و (رام) لـ ابن حنبل، فهذه تضبط بها الوفيات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحاً أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها].
فمقتضى هذا أن كل الحروف الأربعة عشر تحسب على هذه الطريقة، فكل حرف له مدة، فتزيد المدد فتكون مدداً كثيرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذلك يبلغ منه جملة كثيرة، وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم، والله أعلم].
فأقول: هذا كلام لا وجه له، ورجم بالغيب ليس له مستند إلا هذا الحديث الباطل.
وهناك كتاب لشخص خرافي ذكر فيه أن علامات الساعة الكبرى تبدأ تقريباً عام 1425هـ، وهذا من خرافاته، فإن علم الساعة وعلاماتها غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:187]، ولما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟ قال: أخبرني عن أماراتها).
ومن بطلان هذا القول أن أشراط الساعة الكبرى ما ظهرت بعد.(13/9)
الأسئلة(13/10)
زمن نزول المسيح عليه السلام
السؤال
هل نزول المسيح عليه السلام سيكون عام 2000م كما زعمت اليهود والنصارى؟
الجواب
هذا باطل -والله أعلم-؛ لأن نزول المسيح عليه السلام إنما يكون بعد الدجال وبعد خروج المهدي الذي هو أول علامات الساعة الكبرى، وهو رجل من آل البيت من سلالة فاطمة وعلي رضي الله عنهما، يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في اسمه، وكنيته أبو عبد الله، يملك الأرض، ويبايع له في آخر الزمان في وقت ليس للناس فيه إمام، ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، في وقت تحصل للناس فيه الفتن في الشام، وتحصل حروب طاحنة بين النصارى والمسلمين، ويخرج له جيش من أهل المدينة، يقتل الثلث، ويهزم الثلث، وينتصر الثلث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف أسماءهم، وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم) وظاهره أنهم يقاتلون على الخيل.
وجاء في الحديث أنها تحصل هدنة بين المسلمين والنصارى، فيغدر النصارى ويأتون بجيش عظيم في ثمانين راية، تحت كل راية ثمانون ألفاً، وهذا ثابت في صحيح مسلم، وبعضه في الصحيحين.
ثم تفتح القسطنطينية في زمن المهدي، ويعلق الناس سيوفهم بالزيتون، ثم بعد ذلك يصيح الشيطان أن الدجال قد خرج، وهذه هي العلامة الثانية من علامات الساعة الكبرى.
ثم العلامة الثالثة: نزول عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال، ثم العلامة الرابعة: خروج يأجوج ومأجوج في زمن عيسى، فينحاز الناس إلى جبل الطور، فيوحي الله إلى عيسى أن: حرز عبادي إلى جبل الطور ثم يهلكهم الله في ليلة واحدة، فهذه أربع علامات متوالية ومرتبة: المهدي، ثم الدجال، ثم عيسى، ثم يأجوج ومأجوج، ثم تتبعها بقية الأشراط، والله أعلم بترتيبها، لكن آخرها طلوع الشمس من مغربها وما يسبقها من علامات كخروج الدابة، وهدم الكعبة -والعياذ بالله-، ونزع القرآن من الصدور والمصاحف، والدخان الذي يملأ الأرض، ثم آخرها نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا، وتأتي الريح الطيبة فتقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، ثم تقوم الساعة على الكفرة.
والمهدي وردت فيه أحاديث كثيرة بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها موضوع، لكن وردت فيه أحاديث ثابتة في غير الصحيحين.(13/11)
تفسير سورة البقرة الآية [2]
جعل الله تبارك وتعالى كتابه الكريم في منزلة عالية رفيعة، فقد فصله بحكمته وأنزله بعلمه، لا تشوبه شائبة ريب ولا شك، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه، وجعله مشتملاً على الهداية العظيمة التي ينتفع بها المتقون من عباده.(14/1)
تفسير قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)(14/2)
بيان المراد بقوله تعالى: (ذلك)
قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2].
قال المصنف رحمه الله: [قال ابن جريج: قال ابن عباس: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2] أي: هذا الكتاب.
وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج: أن (ذلك) بمعنى (هذا).
والعرب تعارض بين اسمي الإشارة].
الصواب (تعاوض)، أي: تجعل بعضها مكان بعض، فقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2] بمعنى: هذا الكتاب، فـ (ذلك): اسم إشارة للبعيد، و (هذا) اسم إشارة للقريب، ففسر هذا بهذا، فقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2] أي: هذا الكتاب.
وفي نسخة مكان تعارض (تقارض)، وله وجه، أي: تنيب هذا عن هذا، وهو بمعنى (تعاوض)، فينوب بعضها عن بعض، مثل قول الشاعر: شربنا بماء البحر.
يعني: شربنا من ماء البحر، فالباء بمعنى (من).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيستعملون كلاً منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم، وقد حكاه البخاري عن معمر بن المثنى عن أبي عبيدة].
(عن) هنا زائدة، فـ أبو عبيدة هو معمر بن المثنى، فاسمه: معمر بن المثنى، وكنيته: أبو عبيدة، هو اللغوي المعروف المشهور، حكى عنه هذه المسألة؛ لأنها مسألة تتعلق باللغة، وقد كان إماماً في اللغة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الزمخشري: ذلك إشارة إلى {الم} [البقرة:1] كما قال تعالى: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68]، وقال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:10] وقال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ} [الأنعام:95]، وأمثال ذلك مما أشير به إلى ما تقدم ذكره، والله أعلم.
وقد ذهب بعض المفسرين فيما حكاه القرطبي وغيره أن (ذلك) إشارة للقرآن الذي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بإنزاله عليه، أو التوراة أو الإنجيل أو نحو ذلك في أقوال عشرة، وقد ضعف هذا المذهب كثيرون، والله أعلم.
والكتاب: القرآن، ومن قال: إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل كما حكاه ابن جرير وغيره فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وتكلف ما لا علم به].
النُجعة -بالضم كما في القاموس- على غير القياس، فالقياس أن يقال: النَجعة -بالفتح- مثل ضَربة، وقَتلة، وأَثلة، يقال: ضرب ضربة، قتل قتلة، لكن هذا على خلاف القياس، فالنُجعة سماع.(14/3)
بيان معنى قوله تعالى: (لا ريب فيه)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والريب: الشك، قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود رضي الله عنه وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2]: لا شك فيه.
وقاله أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد، وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافاً].
قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] يعني: هذا القرآن العظيم لا شك فيه ولا مرية فيه أنه منزل من عند الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه حق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد يستعمل الريب في التهمة، قال جميل: بثينة قالت يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب] قولها: (أربتني): معناه: اتهمتني، فقال: كلانا متهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واستعمل أيضاً في الحاجة، كما قال بعضهم: قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أجممنا السيوفا].
يعني: كل حاجة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومعنى الكلام هنا أن هذا الكتاب -وهو القرآن- لا شك فيه أنه نزل من عند الله، كما قال تعالى في السجدة: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1 - 2].
وقال بعضهم: هذا خبر ومعناه النهي، أي: لا ترتابوا فيه.
ومن القراء من يقف على قوله تعالى: ((لا رَيْبَ)) ويبتدئ بقوله تعالى: {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، والوقف على قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] أولى للآية التي ذكرناها].
يعني آية (تنزيل) السجدة؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، فمن القراء من يقف على الكتاب من قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، ويجعل لفظ: (فيه) تابعاً للجملة التي بعده، والأرجح أن معنى قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} أي: لا شك فيه، كما في آية السجدة؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً.
والنفي الوارد في أسماء الله وصفاته يتضمن إثبات ضده من الكمال، فمثلاً: نفي الظلم في قوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] يتضمن كمال العدل، فهو لا يظلم أحداً لكمال عدله.
وقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] لكمال حياته وقيوميته، وقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] لكمال عظمته وأنه أكبر من كل شيء، وهكذا، فكل نفي إنما يتضمن إثبات ضده من الكمال، أما النفي المحض فلا مدح فيه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولأنه يصير قوله تعالى: {هُدًى} [البقرة:2] صفة للقرآن، وذلك أبلغ من كون (فيه هدى).
و (هدى): يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعاً على النعت ومنصوباً على الحال].
المؤلف رحمه الله تعالى رجح ما ذهب إليه بمرجحات منها: أولاً: أن الوقف على قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] قد جاء في آية أخرى، بمعنى: لا شك فيه.
ثانياً: أن (هدىً) وصف للقرآن كله إذا ابتدأ نابه في قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] يعني: هو هدى للمتقين.
وقوله: [(وهدى) يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعاً على النعت ومنصوباً على الحال] معناه أنه نعت للكتاب، أو منصوب على الحال.(14/4)
بيان حقيقة المتقين وسبب اختصاصهم بالهداية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وخصت الهداية للمتقين كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44]، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن؛ لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].
وقد قال السدي عن أبي مالك ووعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] يعني: نوراً للمتقين.
وقال أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] قال: هم المؤمنون الذين يتقون الشرك بي ويعملون بطاعتي.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] قال: الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به.
وقال سفيان الثوري: عن رجل عن الحسن البصري: قوله تعالى: {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] قال: اتقوا محارم الله عليهم وأدوا ما افترض عليهم.
وقال أبو بكر بن عياش: سألني الأعمش عن المتقين فأجبته، فقال لي: سل عنها الكلبي، فسألته فقال: الذين يجتنبون كبائر الإثم، قال: فرجعت إلى الأعمش فقال: يرى أنه كذلك، ولم ينكره.
وقال قتادة: {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]: هم الذين نعتهم الله بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3] الآية والتي بعدها، واختار ابن جرير أن الآية تعم ذلك كله، وهو كما قال].
وكل هذه الأقوال حق، وأصل التقوى: توحيد الله، وإخلاص الدين له، وأداء الفرائض، والامتناع عن المحارم، وإذا ارتكب المرء شيئاً من المحرمات أو قصر في شيء من الواجبات نقصت التقوى وضعفت، فالمؤمن يتقي الشرك، ويتقي الخلود في النار ولو كان عاصياً، ولكن إذا اتقى الشرك والمعاصي، وأدى ما أوجب الله عليه كملت التقوى فدخل الجنة من أول وهلة.
أما إذا اتقى الشرك ولم يتق الكبائر ومات عليها من غير توبة فقد اتقى خلود النار، وحينئذ قد يدخل النار تحت مشيئة الله وقد يعفى عنه.
وأما الهداية فالمراد بها هداية التوفيق والتسديد، خاصة هداية القلوب، أما هداية البيان والإرشاد والدلالة فهي حاصلة لكل البشر كما سيذكره المؤلف رحمه الله، فهداية الدلالة والإرشاد عامة لكل أحد حتى الكفار، وهذه لابد منها في قيام الحجة، فلا تقوم الحجة حتى تحصل هذه الهداية لكل أحد، قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] يعني: دللناهم، فهي هداية دلالة وإرشاد {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] وهي المثبتة للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
أما هداية الإلهام والتوفيق والتسديد فهذه لا يقدر عليها إلا الله، وهذه قد نفاها الله عن نبيه في قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] يعني: لا توفق ولا تلهم، ولا تجعله يقبل الحق ويرضى به، وهذه الآية نزلت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لما مات أبو طالب على الشرك، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايته، فأنزل الله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
أما هداية الدلالة والإرشاد فقد قال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] يعني: ترشد وتدل.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير أقوال السلف في معنى قوله تعالى: ((هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)) وهذا كله حق، فالسلف يفسرون الكلمات يفسرونها ببعض معناها، والمراد الجميع، فمن السلف من قال: هي كذا، ومنهم من قال: هي كذا، ففسرها بعض السلف ببعضها، مثل الذي يقول: أو التقوى: الصلاة، التقوى: الزكاة، ومن عادة السلف أنهم يفسرون الشيء ببعض معناه، والمراد الجميع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى الترمذي وابن ماجه من رواية أبي عقيل عن عبد الله بن يزيد عن ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس فيه حذراً مما به بأس) ثم قال الترمذي: حسن غريب].
قوله: [يدع ما لا بأس به] يعني: يترك ما ليس به بأس، يترك التوسع في المباحات حذراً من الوقوع في المحرمات، ولهذا فالسابقون المقربون يفعلون الواجبات والمستحبات، ويتركون المحرمات والمكروهات.
وهذا الحديث فيه عبد الله بن عقيل، وفي حفظه ضعف، قال الجوزجاني: عبد الله بن يزيد روى عنه ابن عقيل أحاديث منكرة.
لكن المعنى صحيح، وهو أن يترك العبد التوسع في المباحات خشية الوقوع في المكروهات أو في المحرمات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن عمران عن إسحاق بن سليمان - يعني الرازي - عن المغيرة بن مسلم عن ميمون أبي حمزة قال: كنت جالساً عند أبي وائل، فدخل علينا رجل يقال له: أبو عفيف من أصحاب معاذ رضي الله عنه، فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف! ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى، سمعته يقول: (يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فينادي مناد: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر).
قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة].
وهذا الحديث تكلم فيه الشيخ مقبل فقال: أثر معاذ في سنده ميمون أبو حمزة الأعور، قال عبد الله عن أبيه: ضعيف الحديث، وقال مرة: متروك الحديث كما في تهذيب التهذيب.(14/5)
أنواع الهداية وأصل التقوى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويطلق الهدى ويراد به ما يقر في القلب من الإيمان، وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله عز وجل].
وهداية التوفيق والتسديد والإلهام هي أن يقبل المرء الحق ويرضى به، وهذا لا يقدر عليه إلا الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272]، وقال: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف:186]، وقال: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] إلى غير ذلك من الآيات].
ويطلق ويراد به بيان الحق وتوضيحه والدلالة عليه والإرشاد إليه، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
وقال: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7]، وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] على تفسير من قال: المراد بهما الخير والشر وهو الأرجح، والله أعلم.
وأصل التقوى: التوقي مما يكره؛ لأن أصلها (وقوى) من الوقاية، قال النابغة: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد].
والنصيف: الخمار على رأسها.
والشاهد قوله: (واتقتنا)، أي: لما سقط نصيفها جعلت يدها وقاية تسترها عن الرجال.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الآخر: فألقت قناعاً دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم].
الشاهد قوله: (واتقت)، وأن التقوى معناها الوقاية، وهي أن يجعل الإنسان بينه وبين الشيء ساتراً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟! قال: بلى.
قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت.
قال: فذلك التقوى].
هذا هو الطريق الحسي، وذاك الطريق المعنوي، فكما أن الإنسان في الطريق الحسي يتوقى الشوك، فكذلك هنا في الطريق المعنوي -الذي هو الصراط المستقيم- يتوقى الشرك والمعاصي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال: خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى] يعني: لا تحتقر المعاصي؛ فإنها تتجمع حتى تهلك الإنسان، فالجبل أصله الحصى تجمعت حتى صارت جبلاً، فكذلك المعاصي تتجمع حتى تهلك الإنسان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأنشد أبو الدرداء يوماً: يريد المرء أن يؤتى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيراً من زوجة صالحة، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله)].
في هذا الحديث لفظة: (نصحته) والظاهر: (حفظته في نفسها وماله)، وهذا هو الأقرب، والحديث يدل على هذا، قال الشيخ مقبل في تخريجه: رواه ابن ماجه، وفي سنده علي بن يزيد، وهو الألهاني، متروك.
لكن معناه صحيح، فقد جاء ما يدل عليه، كقوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34]، وقد جاء ما يدل على هذا المعنى في أحاديث أخرى.(14/6)
تفسير سورة البقرة الآية [3]
للإيمان أركان وللمؤمنين صفات، ومن ذلك الإيمان بالغيب، المشتمل على الإيمان بالله تعالى وملائكته واليوم الآخر ونحو ذلك، وهذه الصفة التي يتميز بها المؤمنون هي من أعظم ما يمدحون عليه، بل قد تعرض النبي صلى الله عليه وسلم لبيان فضيلة أناس من أمته آمنوا بما جاء به ولم يروه، كما أن من صفات المؤمنين إقامة الصلاة والإنفاق في وجوه الخير المشروعة.(15/1)
تفسير قوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة)(15/2)
معنى الإيمان عند أهل السنة وغيرهم
قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3].
قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو جعفر الرازي عن العلاء بن المسيب بن رافع عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: الإيمان التصديق.
وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: {يُؤْمِنُونَ} [البقرة:3]: يصدقون.
وقال معمر عن الزهري: الإيمان: العمل.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: {يُؤْمِنُونَ} [البقرة:3]: يخشون.
قال ابن جرير: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً واعتقاداً وعملاً، وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل].
الحق كما قال ابن جرير رحمه الله، وهو الإيمان يشمل القول والعمل والاعتقاد.
وأصل الإيمان هو التصديق بالقلب، ثم يتبعه العمل، وخلاصته الخشية لله عز وجل، فالإيمان أصله التصديق، ويدخل فيه قول القلب وهو التصديق، وعمل القلب، وهو النية والإخلاص، وعمل الجوارح، وأقوال اللسان، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، أي: أن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالقلب والجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، كما قال ابن جرير رحمة الله عليه: الإيمان قول واعتقاد وعمل، فلهذا يقال: الإيمان عمل ونية، فعمل القلب: النية والإخلاص والصدق والمحبة والرغبة والرهبة، وعمل الجوارح معلوم، وأقوال اللسان والقلب كل ذلك داخل في مسمى الإيمان، خلافاً للمرجئة القائلين بأن الإيمان هو تصديق القلب، وأما الأعمال فيخرجونها من مسمى الإيمان، وهذا غلط، وقد قال بهذا المرجئة المحضة، وهم الجهمية، وقال به مرجئة الفقهاء، وهم أبو حنيفة وأصحابه من أهل الكوفة، فأهل الكوفة قالوا: الإيمان التصديق، والعمل لا يدخل في مسمى الإيمان، لكنه مطلوب.
وقال أهل السنة والجماعة قاطبة ما عدا مرجئة الفقهاء: الإيمان التصديق والعمل، وكلاهما داخل في مسمى الإيمان، وكلاهما واجب.
وقال الأحناف: العمل واجب آخر، فالإيمان شيء والعمل شيء آخر، وكلاهما واجبان.
وأما المرجئة المحضة وهم الجهمية فيقولون: إذا عرف الإنسان ربه بقلبه كفى.
وهذا من أبطل الباطل، فهم ما قالوا: الإيمان التصديق، وإنما قالوا: الإيمان المعرفة، وعلى هذا ألزمهم أهل السنة والجماعة بأنه يدخل جميع الكفرة المعترفين بهذا في الإيمان، فإبليس عارف بربه، وفرعون عارف بربه، واليهود عارفون بربهم، وأبو طالب عارف بربه، وهؤلاء كفار بالإجماع، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل، والإيمان كلمة جامعة للإيمان بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل.
قلت: أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن والمراد به ذلك، كما قال تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61]، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17].
وكذلك إذا استعمل مقروناً مع الأعمال، كقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227]، فأما إذا استعمل مطلقاً فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً].
أبو عبيد هو القاسم بن سلام الفقيه صاحب كتاب (الأموال)، وأما أبو عبيدة -بالتاء- فهو معمر بن المثنى اللغوي المعروف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص].
وهذا هو الذي عليه عامة أهل السنة، وهو الصواب، وإن كان الإيمان أصله في اللغة التصديق، لكن الإيمان الشرعي لابد فيه من أعمال القلوب والجوارح مع اعتقاد القلب وتصديقه وإقراره واعترافه، وهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة].
الحافظ ابن كثير رحمه الله له شرح على البخاري، وما أدري هل وجد منه شيء أم لا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من فسره بالخشية، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الأنبياء:49].
وقوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33].
والخشية: خلاصة الإيمان والعلم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
وقال بعضهم: يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة، وليسوا كما قال تعالى عن المنافقين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14].
وقال: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1].
فعلى هذا يكون قوله: (بالغيب) حالاً، أي: في حال كونهم غُيَّباً عن الناس].
الخشية هي: خوف مع علم، فهي أبلغ من الخوف، ولهذا قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]؛ لأن الخشية الكاملة تكون للعلماء، وإلا فكل مؤمن يخاف الله عنده أصل الخشية، والخشية الكاملة هي خشية العلماء، وفي مقدمة العلماء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.(15/3)
بيان معنى قوله تعالى: (يؤمنون بالغيب)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد، قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كله، وكذا قال قتادة بن دعامة.
وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو عن سعيد بن جبير - عن ابن عباس: {بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] قال: بما جاء منه.
يعني: من الله تعالى.
وقال سفيان الثوري عن عاصم عن زر قال: الغيب القرآن.
وقال عطاء بن أبي رباح: من آمن بالله فقد آمن بالغيب.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] قال: بغيب الإسلام].
وهذه الألفاظ كلها مرادة، فالغيب: ما لم يشاهده الإنسان، والمؤمن يؤمن بما أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر الغيب، فيؤمن بالله وبالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، وبما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة مما يكون في آخر الزمان، وبما يكون في القيامة من الحشر والنشر والحساب والصراط والميزان والحوض، فكل هذا داخل في الإيمان بالغيب.
وقوله: (بغيب الإسلام) ظاهره أنه ما أخبر به الإسلام من أمور الغيب وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، أو جاء في كتاب الله من أمور الغيب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال زيد بن أسلم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] قال: بالقدر.
فكل هذه متقاربة في معنى واحد].
وكلها حق وأمر مطلوب، ولكن عادة السلف رحمهم الله أنهم يفسرون الكلام ببعض معناه، والمراد به الكل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكل هذه متقاربة في معنى واحد؛ لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جلوساً، فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمانه بغيب، ثم قرأ: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3] إلى قوله: {الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5].
وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن الأعمش به، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وفي معنى هذا الحديث الذي رواه أحمد: حدثنا أبو المغيرة أنبأنا الأوزاعي حدثني أسيد بن عبد الرحمن عن خالد بن دريك عن ابن محيريز قال: قلت لـ أبي جمعة: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: نعم، أحدثك حديثاً جيداً: (تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله! هل أحد خير منا أسلمنا ومعك وجاهدنا معك؟ قال: نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني).
طريق أخرى: قال أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا معاوية بن صالح عن صالح بن جبير قال: (قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس يصلي فيه، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة، فلما انصرف خرجنا نشيعه، فلما أراد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقاً، أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلنا: هات رحمك الله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول الله! هل من قوم أعظم منا أجراً آمنا بالله واتبعناك؟ قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجراً مرتين)].
إن صح هذا الحديث فإن هذه تكون فضيلة خاصة، فهم أفضل من جهة الإيمان بالغيب، وهذا مثل حديث القابض على دينه كالقابض على الجمر، فإن فيه (للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم، فقالوا: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم).
فيكون له أجر خمسين من جهة صبره على الدين وتحمله مع كثرة المنكرات وعدم المعين على ذلك، ولا يدل هذا على أنه أفضل من الصحابة، فهم أفضل الناس بعد الأنبياء، قال عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
فالقاعدة تقول: الفضيلة الخاصة لا تقضي على الفضائل العامة، فهذه فضيلة خاصة في هؤلاء، وفضيلة لمن آمن بالغيب، لكنها لا تقضي على الفضائل العامة، فالصحابة أفضل الناس، فالصحبة لها مزية، وكذلك الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبليغ الدين، والسبق إلى الإيمان، والهجرة، والجهاد، فهذه أعمال عظيمة لا يلحقهم فيها من بعدهم، ولهذا قال فإن بعض السلف قيل له: أيهما أفضل معاوية بن أبي سفيان أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية من جهاده مع رسول الله خير من عمر بن عبد العزيز وعدله.
فالمقصود من هذا أن مزية الصحبة والسبق إلى الهجرة والجهاد لا يلحق الصحابة فيها أحد بعدهم، وإن كان من بعدهم قد يكون له فضيلة ومزية خاصة؛ لكنها لا تقضي على الفضائل العامة، فهذه قاعدة.
وكذلك الفضائل التي تكون للأنبياء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور).
يعني أن هذه منقبة لموسى، أي: هل لم يصعق، أم أنه صعق وأفاق قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه مزية، لكنها لا تدل على أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومثل ما ورد في الحديث الصحيح: (أن الناس يحشرون يوم القيامة حفاة عراة، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم) عليه الصلاة والسلام، فهذه مزية له، لكنها لا تدل على أنه أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه مزية خاصة، والمزايا العامة تكون للفاضل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه من حديث ضمرة بن ربيعة عن مرزوق بن نافع عن صالح بن جبير عن أبي جمعة بنحوه.
وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث].
الوجادة: هي أن يجد إنسان كتاباً فيه مرويات محدث فيرويها عنه، فهل ذلك حجة أم ليس بحجة؟ فلو قال صاحب الكتاب: يروي عني من أخذ هذا الكتاب صار هذا الفعل إجازة، لكن المراد هنا إذا وجد كتاباً فيه مرويات محدث ثم روى عنه، فهل هو حجة أو ليس بحجة؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، وهذا الحديث فيه العمل بالوجادة؛ لأنه لما سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم -إن صح الحديث- عمن هم أعظم منهم إيماناً قال: (قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه).
فقوله: (يأتيهم كتاب بين لوحين) هذه هي الوجادة، يعني: يجدون القرآن والسنة ويؤمنون بهما، فهذا حجة لمن قال بالعمل بالوجادة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث كما قررته في أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك، وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً، وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي: حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي عن المغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الخلق أعجب إليكم إيماناً؟ قالوا: الملائكة، قال: ومالهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟! قالوا: فالنبيون، قال: ومالهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟! قالوا: فنحن، قال: ومالكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن أعجب الخلق إلي إيماناً لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفاً فيها كتاب يؤمنون بما فيها).
قال أبو حاتم الرازي: المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث.
قلت: ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده، وابن مردويه في تفسيره، والحاكم في مستدركه من حديث محمد(15/4)
بيان معنى قوله تعالى: (ويقيمون الصلاة)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3] أي: يقيمون الصلاة بفروضها، وقال الضحاك عن ابن عباس: إقامة الصلاة: إتمام الركوع والسجود، والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها.
وقال قتادة: إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها.
وقال مقاتل بن حيان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا إقامتها].
كل هذه الأقوال حق، فإقامة الصلاة تشمل إتمام الركوع والسجود، وتشمل المحافظة على الطهور، والمحافظة على الوقت، والمحافظة على الخشوع، والإتيان بها في الجماعة، ومتابعة الإمام، والعناية بحضور القلب، والإخلاص، فكل هذا داخل في الإقامة؛ لأن الإقامة معناها: الإتيان بالشيء تاماً بجميع حقوقه، يقال: أقام الشيء، أي: أقام حقوقه.
وكون بعض السلف قال: إقام الصلاة: إتمام الركوع والسجود، وبعضهم قال: المحافظة على الطهور ونحو ذلك؛ إنما هو من تفسير المعنى ببعضه على عادة السلف، وكل تلك الأقوال تشملها الآية، فإقامة الصلاة: أن يقيمها بإخلاص وصدق ورغبة ورهبة، وأن يؤديها في وقتها في جماعة، وأن يحافظ على الركوع والسجود، ويحافظ على الطهارة، ويحافظ على متابعة الإمام، فكل هذا داخل في الإقامة.(15/5)
بيان معنى قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، قال: زكاة أموالهم.
وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، قال: نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة.
وقال جويبر عن الضحاك: كانت النفقات قرباناً يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهن الصدقات هن الناسخات المثبتات، وقال قتادة: ((وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عوارٌ وودائع عندك يا ابن آدم يوشك أن تفارقها].
قوله: [عوارٍ]: جمع عارية، وأصله: عواري، ثم حذفت الياء، أي: أمانة في يدك وعارية لابد من أن تردها، وأنت مؤتمن على هذه الأموال لتؤدي حق الله منها، فتؤدي الزكاة، وتؤدي النفقات الواجبة، وكذلك مؤتمن على كسب هذه الأموال، فهل كسبتها من حلال أم من حرام أم من متشابه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات، فإنه قال: وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين].
وهذا هو الصواب، كما قال ابن جرير، أي أن الآية شاملة في الزكاة وفي الصدقات، كصدقة التطوع، فهم ينفقون مما رزقهم الله من الزكاة فيؤدونها، ويؤدون النفقات الواجبة الشرعية، ويتصدقون أيضاً وينفقون في الأمور الخيرية.
قال رحمه الله تعالى: [فإنه قال: وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين، زكاة كانت ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل أو عيال وغيرهم ممن يجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك؛ لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك، وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه.
قلت: كثيراً ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده والابتهال إليه ودعائه والتوكل عليه، والإنفاق هو من الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3].
ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت).
والأحاديث في هذا كثيرة].
والله سبحانه وتعالى كثيراً ما يقرن بين الصلاة والزكاة، وبين الصلاة والنفقة؛ لأن الصلاة فيها إحسان في عبادة الخالق، والزكاة والنفقة فيها إحسان إلى المخلوق.
فالمؤمن يجمع بين الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله، فلهذا مدحهم الله بذلك وجمع بين الصلاة والزكاة، وذكر وصفهم أنهم يجمعون بين الأمرين: بين الإحسان في عبادة الخالق والإحسان إلى المخلوق.(15/6)
بيان معنى الصلاة واشتقاقها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأصل الصلاة في كلام العرب: الدعاء.
قال الأعشى: لها حارس لا يبرح الدهر بيتها وإن ذبحت صلى عليها وزمزما].
قوله: [صلى عليها] يعني: دعا لها، فالصلاة: الدعاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً: وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم].
الدّن: كأس الخمر، أو إناء الخمر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أنشدهما ابن جرير مستشهداً على ذلك.
وقال الآخر -وهو الأعشى - أيضاً: تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يارب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا].
قوله: [مثل الذي صليت]: يعني دعيت، والشاهد أن الصلاة معاها الدعاء، والأوصاب: الأمراض والأوجاع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول: عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي، وهذا ظاهر، ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة بشروطها المعروفة وصفاتها وأنواعها المشهورة].
فالصلاة هي أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، لها أوقات خاصة وهيئات خاصة، وأركان خاصة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: وأرى أن الصلاة سميت صلاة لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعمله مع ما يسأل ربه من حاجته].
قوله: [الاستنجاح طلبته] أي: لطلب نجاح الحاجة، فالاستجاح: استفعال من النجاح.
أي أن الصلاة مشتملة على دعاء العبادة ودعاء المسألة.
فدعاء العبادة: الركوع والسجود، والقيام والقعود، والتشهد والقراءة.
ودعاء المسألة: كأن يقول المصلي: رب اغفر لي، والدعاء في آخر التشهد دعاء مسألة، فهو مشتمل على دعاء العبادة ودعاء المسألة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: هي مشتقة من الصلوين إذا تحركا في الصلاة عند الركوع والسجود، وهما: عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفان عجب الذنب، ومنه سمي المصلي، وهو التالي للسابق في حلبة الخيل، وفيه نظر.
وقيل: هي مشتقة من الصلي وهو ملازمة للشيء من قوله تعالى: ((لا يَصْلاهَا)) أي: لا يلزمها ويدوم فيها، {إِلَّا الأَشْقَى} [الليل:15]، وقيل: هي مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوم، كما أن المصلي يقوم عوجه بالصلاة، {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر.
والله أعلم].
الصواب أن الصلاة مأخوذة من الدعاء، وهذا هو الأقرب؛ لأن المصلي يدعو دعاء بلسان الحال وبلسان المقال، فدعاؤه بلسان الحال: ركوعه وسجوده، وقيامه وقعوده وتشهده، وبلسان المقال كدعائه بين السجدتين: رب اغفر لي، وفي آخر التشهد.
وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه إن شاء الله تعالى.(15/7)
تفسير سورة البقرة [4 - 5]
من لوازم الإيمان وصفات المؤمنين الإيمان بما أنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم وما أنزل على من سبقه من إخوانه المرسلين، وهذا الإيمان أمر إيجابي حتمي لا يصح لأي مكلف إيمانه بدونه، وجمعه مع سائر لوازم الإيمان سبيل إلى نيل هداية الله تعالى والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.(16/1)
تقسير قوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4] أي: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم ((وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)) أي: بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا].(16/2)
ذكر خلاف المفسرين فيمن أريد بقوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هنا: هل هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، ومن هم؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير.
أحدها: أن الموصوفين أولاً هم الموصوفون ثانياً، وهم كل مؤمن مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم، قاله مجاهد وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة.
والثاني: هما واحد، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات، كما قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى:1 - 5].
وكما قال الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم فعطف الصفات بعضها على بعض والموصوف واحد].
وهو الملك القرم ابن الهمام وليث الكتبية، فلو حذفت الواو لبقي المقصود واحداً، فكلها صفات له.
وقوله: [فعطف الصفات بعضها على بعض، والموصوف واحد].
يعني: قالوا: إن قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة:3 - 4] يراد به موصوف واحد، وهم أهل الكتاب.
والقول الأول: أن المراد به العموم، أي: المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والثالث: أن الموصوفين أولاً مؤمنو العرب، والموصوفين ثانياً بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4]، لمؤمني أهل الكتاب، نقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة رضي الله عنهم، واختاره ابن جرير رحمه الله، ويُستشهَد لما قال بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران:199]].
أي أن ابن جرير اختار أن المراد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة:4] هم أهل الكتاب، واستشهد المؤلف لهذا القول بآية آل عمران.
فهنا ثلاثة أقوال: الأول: أن الموصوفين أولاً المؤمنون من العرب، والموصوفين ثانياً المؤمنون من أهل الكتاب.
والقول الثاني: أن الموصوفين أولاً وثانياً هم أهل الكتاب.
والقول الثالث: أن الموصوفين أولاً وثانياً المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب، والصواب -كما سيأتي- أنه عام، فالموصوفون أولاً وثانياً هم المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويستشهد لما قال بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران:199] الآية.
وبقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص:52 - 54].
وبما ثبت في الصحيحين من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها).
وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة، وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين: كافر ومنافق، فكذلك المؤمنون صنفهم إلى صنفين: عربي وكتابي].
هذا اختاره ابن جرير رحمه الله، والصواب القول الأول، وهو أن الموصوفين أولاً وثانياً هم المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب.(16/3)
اختيار ابن كثير
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد، ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين.
فهذه الآيات الأربع عامات في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي، من إنسي وجني، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والإيقان بالآخرة، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله المؤمنين بذلك، كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] الآية، وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} [العنكبوت:46] الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [النساء:47]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة:68].
وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [النساء:152]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أمر جميع المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه، لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية، وذلك أنهم يؤمنون بما بأيديهم مفصلاً، فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلاً كان لهم على ذلك الأجر مرتين، وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان بما تقدم مجملاً، كما جاء في الصحيح: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدقوهم، ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم)، ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل، وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية فغيرهم يحصل له من التصديق ما يُنيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم، والله أعلم].(16/4)
تفسير قوله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم)
قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ} [البقرة:5] أي: المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنزل إلى الرسول ومن قبله من الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو مستلزمٌ الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات، {عَلَى هُدًى} [البقرة:5] أي: على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: في الدنيا والآخرة].
أي أن هؤلاء هم أهل الهداية في الدنيا، وهم أهل الفلاح في الآخرة، فالذي يوصفون بهذه الصفات: الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من قبله، ويوقنون بالآخرة، والاستعداد لها بالعمل الصالح، وأداء حقوق الله، وحقوق العباد، والوقوف عند حدود الله؛ هؤلاء هم أهل الهداية في الدنيا وهم أهل الفلاح في الآخرة، فقد حصلوا على ما يطلبون، وهو رضا الله وكرامته، والتمتع برؤيته سبحانه وتعالى، وسلموا من غضب الله وسخطه وناره، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ)) أي: على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] أي: الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا].
الذي يطلبونه هو ثواب الله ورضاه وجنته، والذي يرهبونه هو غضب الله وسخطه والنار، فهم أدركوا ما طلبوا وسلموا مما خافوا منه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: أما معنى قوله تعالى: ((أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ)) فإن معنى ذلك: فإنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديده إياهم وتوفيقه لهم، وتأويل قوله تعالى: ((وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أي: المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله من الفوز بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب.
وقد حكى ابن جرير قولاً عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى: ((أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)) الآية، على ما تقدم من الخلاف، وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)) منقطعاً مما قبله، وأن يكون مرفوعاً على الابتداء، وخبره: ((وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)).
واختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب؛ لما رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون من العرب، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4] هم المؤمنون من أهل الكتاب.
ثم جمع الفريقين فقال: ((أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)).
وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة، والإشارة عائدة عليهم، والله أعلم.
وقد نقل عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة رحمهم الله].
الصواب أن الإشارة للجميع وأن الوصف للجميع، فكل من الوصفين المراد به المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب، من الجن ومن الإنس، من السابقين ومن اللاحقين, والإشارة تعود إليهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري، حدثنا أبي، وحدثنا ابن لهيعة، حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم -واسمه سليمان بن عبد الله - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له: (يا رسول الله! إنا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيئس -أو كما قال-، قال: أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2] إلى قوله تعالى: {الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] هؤلاء أهل الجنة، قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة:6] إلى قوله: {عَظِيمٌ} [البقرة:7] هؤلاء أهل النار، قالوا: لسنا هم يا رسول الله، قال: أجل)].
هذا الحديث في سنده ابن لهيعة، وهو ضعيف.
وأبو الهيثم: قيل في حاشية الشعب: في المخطوطة أن اسمه سليمان بن عمرو العفواري، كما في خلاصة التهذيب.
وأما عثمان بن صالح السهمي المصري فقد ذكره الحافظ الذهبي في الميزان، وفي ترجمته أحاديث مكذوبة أدخلت عليه.
وأبو الهيثم في السند هو سليمان بن عمرو وليس هو ابن عبد الله، فينظر هل سمع من عبد الله بن عمرو، فإنهم ما ذكروا في ترجمته من روى عنه من الصحابة إلا أبا سعيد وأبا هريرة، وأبا بصرة الرفاعي، كما في (الجرح والتعديل) لـ ابن أبي حاتم، وفي (تهذيب التهذيب) إلا أنه صحف أبا بصرة إلى أبي نضرة.
فيكون في الحديث انقطاعاً مع ضعف ابن لهيعة أيضاً، لكن المعنى صحيح.(16/5)
تفسير سورة البقرة [6 - 7]
لا ذنب أعظم من الكفر بالله تعالى؛ إذ به يتعرض العبد لرد الحق والإعراض عنه والصد عن سبيله؛ وبذا يجلب على نفسه طبع الله تعالى وختمه على قلبه، فلا ينتفع بهدى، ولا يكف عن ردى، ويورد نفسه كل مهلك، فليحذر العبد من تعاطي أسباب طبع الله على قلبه ولو بما هو دون الكفر.(17/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: غطوا الحق وستروه، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك، سواء عليهم إنذارك وعدمه، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96 - 97].
وقال تعالى في حق المعاندين من أهل الكتاب: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة:145] الآية.
أي: إن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مسعد له، ومن أضله فلا هادي له، {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، وبلغهم الرسالة، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر، ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يهمنك ذلك، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40]، {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود:12].
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول)].
المراد بالذكر الأول: اللوح المحفوظ، والمعنى: أن الكفار ستروا الحق وغطوه وهو توحيد الله عز وجل، فلم يوحدوا الله، ولم يعبدوه، بل عبدوا معه غيره، وهذا الحق هو أعظم الشروط، فحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأن يوحدوه، وأن يخلصوا له العبادة، فهؤلاء الكفار غطوا الحق وستروه، وهذا أصل الكفر، فالكفر معناه: الستر، ومنه سمي الزارع كافراً؛ لأنه يستر الحب ويبذر في الأرض، كما قال سبحانه وتعالى في سورة الفتح: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] فالكفر في اللغة: الستر، والكافر جاحد للحق، جاحد لتوحيد الله عز وجل.
والله تعالى هنا يسلي نبيه، ولهذا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] إذ من كتب الله عليه الشقاوة فلا خير فيه، وكان عليه الصلاة والسلام يحرص أشد الحرص على هدايتهم، حتى إنه كان يضر بنفسه ويكاد يهلك نفسه، قال سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، وقال سبحانه: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، وقال سبحانه: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48]، فالرسول عليه الصلاة والسلام عليه البلاغ، وكذلك جميع الرسل عليهم البلاغ، وكذلك الدعاة والمرشدون والمصلحون عليهم البلاغ، أي: التبليغ والإنذار، وبيدهم هداية الدلالة والإرشاد.
أما التوفيق والإلهام، وكون المرء يقبل الحق ويرضى به ويختاره فهذا إلى الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
وفي هذه الآية دلالة على أن الكفار لا ينتفعون بالإنذار والمواعظ، وهذا هو وصفهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6].
فينبغي للمسلم أن يحذر من صفات الكفار والمنافقين، وأن يتأثر بالمواعظ فينتفع بها ويستفيد منها حتى لا يتشبه بالكفرة، فالكفار لا ينتفعون بالمواعظ، والمؤمنون ينتفعون بالموعظة، قال سبحانه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:6] أي: بما أنزل إليك، وإن قالوا: إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك؟ {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] أي: إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق، وقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا وقد كفروا بما عندهم من علمك؟! وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} [إبراهيم:28 - 29]، والمعنى الذي ذكرناه أولاً، وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة أظهر، ويفسر ببقية الآيات التي في معناها.
والله أعلم.
].
ورواية علي بن أبي طلحة منقطعة؛ لأن علي بن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس، وهذا الحديث في قادة الأحزاب، والأحزاب المراد بهم: الكفار الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتجمعوا وتألبوا عليه عليه الصلاة والسلام وحاصروا المدينة، وسميت هذه الغزوة غزوة الأحزاب لأن الكفار تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتجمعوا وأتوا وحاصروا المدينة، ولكن الله أبطل كيدهم، وسلط عليهم ريحاً وجنوداً لا يراها المؤمنون، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9].
وما نقله المؤلف عن ابن إسحاق بسنده إلى ابن عباس أن المراد: قد كفروا بما عندهم من ذكرك معناه أن الآية في أهل الكتاب السابقين، والصواب أن الآية عامة تشمل مشركي العرب وكفار أهل الكتاب.
والأصل أن يؤخذ بعموم اللفظ، ولا يخصص إلا بدليل، فالآية شاملة للكفرة جميعاً من مشركي العرب، ومن أهل الكتاب ومن غيرهم، وهذا وصفهم، وهو وصف منطبق عليهم، أي أنهم لا ينتفعون بالمواعظ، وكذلك وصفهم بأن الله ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثاً فقال: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري، حدثنا أبي، حدثنا ابن لهيعة، حدثني عبيد الله بن المغيرة، عن أبي الهيثم، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (قيل: يا رسول الله! إنا نقرأ من القرآن فنرجوا، ونقرأ فنكاد أن نيأس، فقال: ألا أخبركم؟ ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] هؤلاء أهل النار، قالوا: لسنا منهم يا رسول الله؟ قال: أجل)].
وهذا الحديث في إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف وإن صرح بالتحديث، لاحتراق كتبه في آخر حياته، إلا أن المعنى صحيح لا شك في أن هؤلاء هم أهل النار، والصحابة ليسوا منهم، والمسلمون -كذلك- ليسوا منهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [البقرة:6]].
أي: مؤكدة لـ (كفروا) في قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا))؛ لأن الكفار لا يؤمنون، ونفى عنهم الإيمان كله، ففي الجملة الأولى أثبت لهم الكفر، وفي الجملة الثانية نفى عنهم الإيمان تأكيداً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: هم كفار في كلا الحالين، فلهذا أكد ذلك بقوله تعالى: ((لا يُؤْمِنُونَ))].
أي: في حالة الإنذار وحالة عدم الإنذار، فهم في كلتا الحالتين كفار، نسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويحتمل أن يكون ((لا يُؤْمِنُونَ)) خبراً؛ لأن تقديره: إن الذين كفروا لا يؤمنون، ويكون قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [البقرة:6] جملة معترضة.
والله أعلم.
].(17/2)
تفسير قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم)
قال الله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال السدي: {خَتَمَ اللَّهُ} [البقرة:7] أي: طبع الله، وقال قتادة في هذه الآية: استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون.
والختم والقفل والران أمور معنوية، وهي حواجز تمنع وصول الخير إليها -نسأل الله السلامة والعافية- عقوبة لهم على صدودهم وإعراضهم عن الحق، وهذا عدل من الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118]، وقال سبحانه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، فلما جاءهم الحق فعرفوه، واتضح لهم فأعرضوا عنه وصدوا عنه؛ عاقبهم الله بزيغ القلب، نسأل الله السلامة والعافية، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، وقال سبحانه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جريج: قال مجاهد: ((خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)) قال: الطبع، ثبتت الذنوب على القلب تحف به من نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع: الختم، قال ابن جريج: الختم: على القلب والسمع].
قوله: [ثبتت الذنوب] الظاهر والصحيح أنه [نبئت أن الذنوب على القلب]، فالظاهر: أنها مأخوذة عن ابن جريج (نبئت).
والمعنى أنها تدور عليه وتحف به من جميع الجوانب، وتكون دائرة كالختم المستدير، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج: وحدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهداً يقول: الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد من ذلك كله].
هناك طبع وران، وكذلك رين، وهو الغطاء اليسير، وكذلك غين، وهو غطاء خفيف يكون مع الغفلة، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله وأتوب إليه في المجلس أكثر من مائة مرة).
فالغين غطاء يسير يكون بسبب الغفلة على القلب، فهنا: غين وران وطبع وقفل وختم، وكل هذه حواجز وموانع بعضها أشد من بعض، فهي حواجز معنوية تمنع عن الخير، وأشدها القفل الذي يقفل على القلوب، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وكذلك الأكنة، قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5].
وقال سبحانه: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين:14] من الران، جاء في الحديث أن الذنوب تجثم على الإنسان حتى تكون كالران على القلب، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الأعمش: أرانا مجاهد بيده فقال: كانوا يرون أن القلب في مثل هذه -يعني: الكف- فإذا أذنب العبد ذنباً ضم منه، وقال بإصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضم، وقال بإصبع أخرى، فإذا أذنب ضم، وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعه كلها، ثم قال: يطبع عليه بطابع].
وجاء في الحديث الآخر: (أن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلق بها قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: كانوا يرون أن ذلك الرين، ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن الأعمش عن مجاهد بنحوه].(17/3)
الرد على المعتزلة في تفسير الختم والطبع
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: وقال بعضهم: إنما معنى قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7].
إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق، كما يقال: إن فلاناً أصم عن هذا الكلام: إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبرًا.
قال: وهذا لا يصح؛ لأن الله تعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم.
قلت: وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير هاهنا وتأول الآية من خمسة أوجه، وكلها ضعيفة جدًا، وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله؛ لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده يتعالى الله عنه في اعتقاده].
هذه هو اعتقادهم؛ لأن المعتزلة يرون أن الله تعالى ما أضل الكافر ولا هدى المؤمن، وإنما المؤمن هو الذي يهدي نفسه والكافر هو الذي يضل نفسه، هكذا يعتقد المعتزلة، ويؤولون قوله تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93] بأن معنى (يهدي): يسميه مهتدياً، و (يضل): يسميه ضالاً، وقالوا: ليس لله نعمة دينية خص بها المؤمن، ولم يضل الكافر، بل هذا اختار الهداية بنفسه وهذا اختار الضلالة بنفسه.
وهذا مبني على مذهبهم في وجوب الأصلح على الله، فلهذا رد ابن جرير هذا القول، والزمخشري أثبته من خمسة وجوه حتى يقرر مذهبه؛ لأنه يتناسب مع اعتزاله، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يحذر من التفاسير المحشوة بالبدع مثل تفسير الزمخشري وغيره، فإنه يجر الإنسان إلى معتقده وهو لا يشعر، ولهذا قال البوصيري: استخرجت من الكشاف اعتزالاً بالمناقيش.
يعني: يؤخذ بالمنقاش الشيء الخفي، ومن ذلك أنه قال في قوله عز وجل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] قال: أي فوز أعظم من الجنة؟! وسكت، ومقصوده من هذا إنكار رؤية الله في الآخرة، وإنكار رؤية المؤمنين لربهم، فقال: ليس هناك شيء أعظم من الجنة، ومقصوده إنكار الرؤية، لكن لا يعلم بهذا إلا الخواص، ولا يعلم بهذا إلا من عنده بصيرة، أما غيره فيفهمه على أنه صحيح، وأي فوز أعظم من الجنة؟! فعلى طالب العلم أن يحذر، ولا ينبغي للمبتدئين أن يقرءوا كتب الزمخشري وغيره، لكن طالب العلم الذي عنده بصيرة يستفيد منه من جهة البلاغة ومن جهة المعاني.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير هاهنا، وتأول الآية من خمسة أوجه، وكلها ضعيفة جداً، وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله؛ لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده يتعالى الله عنه في اعتقاده، ولو فهم قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقاً على تماديهم في الباطل وتركهم الحق، وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح، فلو أحاط علماً بهذا لما قال ما قال، والله أعلم].
قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118] فهم الذين تركوا الحق وأعرضوا عنه وصدوا عنه، ولم يقبلوه بعد وضوحه، لا عن جهل، قال سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت:17] فقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] يعني: بينا لهم طريق الخير وطريق الشر، فاستحبوا العمى على الهدى ولم يقبلوا الحق.(17/4)
وصف الله تعالى نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم، كما قال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155] وذكر حديث تقليب القلوب: (ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك)، وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفاء، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراًً) الحديث.
قال ابن جرير: والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما حدثنا به محمد بن بشار، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]).
هذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة عن الليث بن سعد وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم، ثلاثتهم عن محمد بن عجلان به، وقال الترمذي: حسن صحيح].
هذا الحديث مروي عن قتيبة عن الليث؛ لأن قتيبة يروي عن الليث بن سعد.
قال في الخلاصة: قتيبة بن سعيد الثقفي مولاهم أبو رجاء البغلي -بمعجمة- أحد أئمة الحديث عن مالك والليث وسعيد بن جعفر، وعنه البخاري مسلم وأبو داود والترمذي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال ابن جرير: فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ولا للكفر عنها مخلص].
أي: تكون ممنوعة من وصول الحق إليها، فلا ينفذ إليها الحق ولا يخرج منها الباطل، الكفر لا يخرج، والإيمان لا يدخل، نعوذ بالله، ونسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7] نظير الختم والطبع على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحل رباطه عنها].
ومعلوم أن الختم المعنوي مثل الختم الحسي، كما أن الشيء المختوم عليه حساً والظروف المختوم عليها لا يصل إليها شيء حتى يفض الخاتم، فكذلك الختم المعنوي، وهذا الختم إنما يزول إذا وفق الله العبد بالإيمان والعمل الصالح ومن عليه.(17/5)
بيان موضع الوقف التام من الآية الكريمة
قوله: [واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7] وقوله: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] جملة تامة، فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع، والغشاوة -وهي الغطاء- يكون على البصر، كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7] يقول: فلا يعقلون ولا يسمعون، يقول: وجعل على أبصارهم غشاوة، يقول: على أعينهم فلا يبصرون].
فالغشاوة على الأبصار والختم على القلوب والأسماع، ولهذا قال تعالى: ((ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم)) ثم قال: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7]، ولكي يتضح المعنى ينبغي للقارئ أن تكون مواقفه على المواقف التي يتم بها المعنى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد، حدثنا أبي، حدثني عمي الحسين بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) والغشاوة على أبصارهم.
قال: وحدثنا القاسم، حدثنا الحسين -يعني ابن داود، وهو سنيد - حدثني حجاج -وهو ابن محمد الأعور - حدثني ابن جريج قال: الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، وقال: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23].
قال ابن جرير: ومن نصب غشاوة من قوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره: وجعل على أبصارهم غشاوة، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محل: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7] كقوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:22]، وقول الشاعر: علفتها تبناً وماء بادراً حتى غدت همَّالةً عيناها.
وقال الآخر: ورأيت زوجك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحاً تقديره: وسقيتها ماء بارداً، ومعتقلاً رمحاً].
نسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح.(17/6)
تفسير سورة البقرة [8 - 9]
النفاق بلية عظيمة على صاحبها وعلى مجتمع المسلمين، وحقيقته إبطان الكفر وإظهار الإسلام، ولباس ثياب المخادعة لله وللمؤمنين، وفاعل ذلك إنما يضر نفسه بإيهامها بتلبية مطلبها وتحقيق غرضها، وعاقبة ذلك الخسران المبين، وليست العبرة في هذه القضية بذات الاسم، بل بحقيقة المسمى، وبذا لا يخفى على ذي بصيرة ثياب منافقي هذا العصر.(18/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله)(18/2)
التعريف بالمنافقين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات، ثم عرف حال الكافرين بهاتين الآيتين، شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر].
فذكر المؤمنين في أربع آيات، والكفار ظاهراً وباطناً في آيتين، وأما المنافقون -وهم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر- فذكرهم في ثلاث عشرة آية؛ لشدة خطرهم على الإسلام والمسلمين ولخفائهم.
فهم يظهرون الإسلام، ولكن يبطنون الكفر، وهم يعيشون بين المسلمين، فهم عدو لدود، وأشد من الكافرين ظاهراً وباطناً، ولهذا صار عذابهم أشد، فهم في الدرك الأسفل من النار، نعوذ بالله، والمنافق: هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، مأخوذ من نفق اليربوع، واليربوع دويبة يتخذ جحراً له فتحتان: فتحة معروفة، وفتحة غير معروفة، فإذا رابه ريب دفع ذلك التراب برأسه فخرج من نفقه، فكذلك المنافق له ظاهر وباطن، فظاهره مع المؤمنين وباطنه مع الكفرة، وقد سمي منافقاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك في العصور التي بعده، ثم سمي المنافق زنديقاً، ويطلق الزنديق -أيضاً- على المجاهر بالمعاصي، فصار في بعض القرون يسمى زنديقاً، وهي كلمة فارسية تطلق على المنافق وتطلق على المجاهر بالمعاصي، ويسمى المنافق والزنديق في هذا الزمان (العلماني)، والعلمانيون هم المنافقون، فالأسماء مختلفة، والمعنى واحد، فهم المنافقون الذين يبطنون الكفر، ويظهرون الإسلام، نعوذ بالله.
والله تعالى جلى أوصافهم وذكرها في كثير من الآيات وكثير من السور، في سورة البقرة، وفي سورة النساء، وفي سورة النور وفي سورة التوبة، ولم يزل الله يقول (ومنهم)، (ومنهم) حتى خاف المنافقون أن يسموا بأعيانهم في سورة محمد وفي سورة المنافقون وفي غيرهما من السور، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة، كل منها نفاق].
فوصفهم بالخداع، وبالإفساد في الأرض، وبأنهم ينشرون الفساد في الناس ويسمون ذلك إصلاحاً، ويصفون المؤمنين بالسفه، ويسمون الإيمان سفهاً، وضرب الله لهم مثلاً مائياً ومثلاً نارياً، وستأتي أوصافهم إن شاء الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما أنزل سورة براءة فيهم، وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور تعريفاً لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضًا].(18/3)
بيان حقيقة النفاق
ومادام أن هذه الأسماء تعارف الناس عليها فلابد من بيان أن هذا الاسم يرجع إلى اسم الشرع؛ لأنه إذا حذر القرآن من المنافقين ولم يُعرف أن العلماني هو المنافق ظُن أنه ليس بمنافق، فلا بد من بيان أن هذا الذي وصف بالعلماني هو المنافق الذي ذكره الله في كتابه، وليربط هذا بهذا، فيقال: المنافق هو العلماني وهو الزنديق، وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام؛ لأنه إذا قيل: منافق فقط، والله تعالى حذر من المنافقين في كتابه ولم يذكر العلماني ولا الزنديق لما عرف المنافق، وبعض الناس لا يدري أن العلماني هو المنافق، ولا يدري أن الزنديق هو المنافق، فلا بد من تبيين ذلك، وإن اختلفت الأسماء فالمعنى واحد، فالعلماني هو المنافق، والمنافق هو الذي ذمه الله في كتابه، وبين أنه في الدرك الأسفل من النار، نسأل الله السلامة والعافية.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8 - 9].
قال المصنف رحمه الله: [النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي: وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي، وهو من أكبر الذنوب، كما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى].
فالنفاق العملي معاصٍ، والفرق بينه وبين النفاق الاعتقادي أن النفاق الاعتقادي يكون في القلب، والنفاق العملي يكون في العمل، مثل الكذب في الحديث، والخلف في الوعد، والخيانة في الأمانة، والفجور في الخصومة، كما في الحديث: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان).
والإعراض عن الجهاد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق).
ومن صفات المنافقين -كما جاء في الحديث- النقر في الصلاة، وتأخيرها عن وقتها، وعدم ذكر الله فيها إلا قليلاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تلك صلاة المنافق: يرقب الشمس حتى إذا كادت تغرب بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً).
فهذه الأفعال من أوصافهم، وهذه الأفعال نفاق عملي، وهي معاصٍ، وتجر إلى النفاق الأكبر، ففي حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً؛ ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر).
قال العلماء: إن كل خصلة من هذه الخصال تعتبر بمفردها معصية، وهي من النفاق العملي، لكنها إذا استحكمت وكبرت في الشخص جرته إلى النفاق الأكبر، وحينها لا يكون هذا الشخص إلا منافقاً خالصاً، نسأل الله السلامة والعافية.
والنفاق الأكبر هو النفاق في الاعتقاد، بحيث يكون المرء مؤمناً في الظاهر، وفي الباطن يكذب الله، أو يكذب رسوله، أو يبغض الله ويبغض رسوله، ويحب ظهور الكفرة على المسلمين، أو يكره ظهور الإسلام والمسلمين، وهذا هو النفاق الاعتقادي، نعوذ بالله.(18/4)
سبب ظهور النفاق
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله، وسره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه، وهذا هو المنافقين في السور المدنية؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه من الناس من كان يظهر الكفر مستكرهاً وهو في الباطن مؤمن، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع حلفاء الخزرج، وبنو النضير، وبنو قريظة حلفاء الأوس.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقل من أسلم من اليهود، إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضاً؛ لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر العظمى وأظهر الله كلمته وأعز الإسلام وأهله؛ قال عبد الله بن أبي بن سلول -وكان رأساً في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله- فلما كانت وقعت بدر قال: هذا أمر الله قد توجه.
فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب].
النفاق لم يوجد إلا في المدينة، أما مكة فلم يكن فيها نفاق، ولم يظهر النفاق في المدينة إلا بعد غزوة بدر؛ لأن الكفار في مكة كانوا هم الأقوياء في مكة، فلم تكن هناك حاجة للنفاق بإظهار الإسلام وإبطان الكفر، بل الحال كان هو العكس، وهو أن كثيراً من المؤمنين كانوا يخفون إسلامهم بسبب تعذيب الكفار لهم وإيذائهم.
فالنفاق ووجود المنافقين يدل على قوة المسلمين؛ لأن المنافقين لا يستطيعون إظهار كفرهم، ولهذا لما حدثت وقعة بدر فأعز الله جنده وخذل الكفر وأهله، وقتل من الكفار سبعون وأسر سبعون؛ قال عبد الله بن أبي: هذا أمر قد توجه.
فأظهر الإسلام وأبطن الكفر حتى يحقن دمه وماله؛ لأنه لو أظهر الكفر لقتل، وكان عبد الله بن أبي رئيساً في المدينة في الأوس والخزرج، وكادوا قبيل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة التي يعصب بها الرؤساء والملوك.
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم الأوس والخزرج فاته ذلك، فأظهر الإسلام وأبطن الكفر، وتبعه طوائف من المنافقين، نسأل الله السلامة والعافية.
فوجود المنافقين يدل على قوة المسلمين؛ لأنهم لا يستطيعون إظهار كفرهم، فهم قوم يداهنون ويخادعون، وإذا حصلت لهم فرصة أظهروا كفرهم، وإذا لم تحصل لهم فرصة أخفوا كفرهم وهكذا، وهم يقلون ويكثرون، ويقوون ويضعفون على حسب أحوال مجتمع المسلمين الذي هم فيه، فنسأل الله أن يكفي المسلمين شرهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد نافق؛ لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرهاً، بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة].
المعنى أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق؛ لأنهم هاجروا باختيارهم، وتركوا ديارهم وأموالهم لله تعالى، فالنفاق كان في الأوس والخزرج، ولم يظهر إلا بعد غزوة بدر لما قوي الإسلام والمسلمين.(18/5)
دعوى المنافقين الإيمان وكذبهم في ذلك
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم، وكذا فسرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن وقتادة والسدي.
ولهذا نبه الله سبحانه على صفات المنافقين؛ لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار، أن يظن بأهل الفجور خير، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] أي: يقولون ذلك قولاً ليس وراءه شيء آخر].
يعني: أن إيمانهم إنما كان باللسان، وكان الكفر في القلب، فالله تعالى أثبت لهم الإيمان ونفاه عنهم، فكيف ذلك؟! والجواب أننا نقول: الجهة منفكة، ولا يقال: إن هذا تناقض -تعالى الله-؛ لأن شرط التناقض اتحاد الجهة، وهو أن يرد النفي والإثبات على جهة واحدة، وهذا لا يقع في كلام الله ولا في كلام رسوله، ولا في كلام العقلاء.
لكن إذا كانت الجهة منفكة فلا تناقض، فجهة إثبات الإيمان هي اللسان، وجهة نفي الإيمان هي القلب، فالجهة منفكة.
فالله تعالى يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:8] يعني: بألسنتهم، {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] يعني: بقلوبهم، فأثبت لهم الإيمان بالألسنة ونفى عنهم الإيمان في القلوب، فنسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون:1]].
قوله تعالى: (قالوا نشهد إنك لرسول الله) يعني: بألسنتهم، (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) يعني: بقلوبهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: إنما يقولون ذلك إذا جاءوك فقط، لا في نفس الأمر، ولهذا يؤكدون الشهادة بـ (إن) ولام التأكيد في خبرها، أكدوا أمرهم قالوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:8] وليس الأمر كذلك، كما كذبهم الله في شهادتهم وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]، وبقوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]].
أي أن هنا ثلاثة مؤكدات: وهي (إن)، واللام، والجملة الاسمية في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] وذلك لبيان تحقيق كذبهم وشدة كذبهم، وأنهم كاذبون في الواقع ونفس الأمر.
وقد أثبت لهم الإيمان وأثبت لهم الكفر بعد الإيمان، وذلك لأنه قد يكون عندهم إيمان ضعيف؛ لأن المنافقين يتفاوتون، فبعضهم عنده إيمان ضعيف يأتي ويذهب، ومرةً يخبو ومرةً يوجد، والمقصود أن الله تعالى كفرهم بعد الإيمان.(18/6)
تفسير قوله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:9] أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18]، ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9].
يقول: وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، ومن القراء من قرأ: (وما يخادعون إلا أنفسهم) وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد].
يعني أن غرورهم بقي معهم حتى في موقف القيامة -نسأل الله السلامة والعافية-، وظنوا أن كونهم مع المؤمنين في الدنيا ينفعهم، بحيث يكونون مع المؤمنين يوم القيامة، وقد ثبت في الحديث الصحيح في الصحيحين وغيرهما أن الله تعالى يقول يوم القيامة: (لتتبع كل أمة ما تعبد) فمن كان يعبد الشمس يتبع الشمس، ومن كان يعبد القمر يتبع القمر، وهكذا يتساقطون في النار، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيقول الله تعالى: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه.
إذ قد جعل الله لهم علامة سبحانه وتعالى.
وثبت أنه في القيامة يرونه أربع مرات، وأنه يتجلى لهم في الصورة الأولى، ثم يتجلى لهم في صورة غير الصورة التي يعرفون فينكرونها ويقولون: نعوذ بالله، هذا مكاننا، فإذا جاء ربنا عرفناه.
فيرونه في المرة الأولى، ثم يرونه المرة الثانية فيتجلى لهم في غير الصورة التي يعرفونه فينكرونه، ثم يرونه في المرة الثالثة فيسجدون له، فيذهب المنافقون يريدون أن يسجدوا فيجعل الله ظهر كل منافق طبقاً فلا يستطيع أن يسجد، قال سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42].
وقد أطال الشيخ ابن تيمية رحمه الله في بيان هذا في كتابه العظيم (بيان تلبيس الجهمية)، وهو كتاب عظيم فيه مباحث عظيمة لا توجد في غيره من الكتب.
والمقصود أن المؤمنين يرون ربهم في موقف يوم القيامة أربع مرات، والمنافقون يكونون مع المؤمنين؛ لأنهم كانوا معهم في الدنيا، فيكونون معهم في موقف القيامة، ثم بعد ذلك ينطلقون ومعهم النور، فينطفئ نور المنافقين فيقولون للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: فإن قال قائل: كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعاً وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟ قيل: لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف مخادعاً، فكذلك المنافق سمي مخادعاً لله وللمؤمنين بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية بما يخلص به من القتل والسبي والعذاب العاجل وهو لغير ما أظهره مستبطن، وذلك من فعله، وإن كان خداعاً للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع؛ لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها، وهو موردها حياض عطبها، ومجرعها به كأس عذابها، ومذيقها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به].
أي أن هذا خداع منه لنفسه، فكأنه يعطيها السرور بهذا الخداع، ويطمع أن يكون له يد مع المؤمنين ومع الكفار، وهو في الواقع يجرها إلى الهلاك، فهذا خداع منه لنفسه، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فذلك خديعته نفسه ظناً منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن، كما قال تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] إعلاماً منه لعباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم عليها ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمى من أمرهم مقيمين.
وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا علي بن المبارك فيما كتب إلي: حدثنا زيد بن المبارك حدثنا محمد بن ثور عن ابن جريج في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة:9] قال: يظهرون (لا إله إلا الله) يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك].
وقال سعيد عن قتادة: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ): نعت المنافق عند كثير: خنع الأخلاق، يصدق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله، يصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفؤ السفينة كلما هبت ريح هبت معها].
الخانع: المريب الفاجر، وقد خنع كـ (منع)، والخنعة: الفجرة، والريبة، والمكان الخالي.
وقد يكون الخانع بمعنى: (الوضيع)، من التطامن، وفي الحديث: (أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بملك الأملاك) يعني: أوضع وأحقر، لكن هنا قد يأتي بمعنى آخر يفهم من السياق، أي: المريب الفاجر.
وأخنعته الحاجة: أخضعته وأضرعته، والتخنيع: القطع بالفأس، وأخنع الأسماء عند الله: أوضعها وأحقرها.(18/7)
تفسير سورة البقرة [10 - 12]
حقيقة المنافقين هي الكفر بالله تعالى، والكفر يقتضي قتل صاحبه إن لم يتخل عنه وهو بين ظهراني المسلمين، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك ذلك خشية فرار الناس من الإسلام بحجة قتله أصحابه دون علمهم بحقيقة الحال، ولاشك في أن المنافقين أفسد الناس على الأرض وأكثرهم هزءاً بالإسلام، ولذا لن ينفعهم جريان حكم الإسلام عليهم في الدنيا وترك قتلهم في نجاتهم من عذاب الله تعالى يوم القيامة.(19/1)
تفسير قوله تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً)
قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10].
قال المصنف رحمه الله: [قال السدي: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة في هذه الآية: (في قلوبهم مرض) قال: شك، (فزادهم الله مرضاً) قال: شكاً.
وقال ابن إسحاق: عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: (في قلوبهم مرض) قال: شك.
وكذلك قال مجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة.
وعن عكرمة وطاوس (في قلوبهم مرض) يعني: الرياء.
وقال الضحاك عن ابن عباس: (في قلوبهم مرض) قال: نفاق.
(فزادهم الله مرضاً) قال: نفاقاً، وهذا كالأول.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (في قلوبهم مرض) قال: هذا مرض في الدين وليس مرضاً في الأجساد، وهم المنافقون، والمرض: الشك الذي دخلهم في الإسلام، (فزادهم الله مرضاً) قال: زادهم رجساً].
أي: أن مرضهم كان في الدين، وهو مرض النفاق والشبهة والشك والحيرة، نعوذ بالله.
والمرض يأتي في القرآن بمعنيين: مرض الشهوة، ومرض الشبهة، والمراد هنا مرض الشبهة والشك، أما مرض المعصية فكما في قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] يعني: (شهوة المعصية).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقرأ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:124 - 125]، قال: شراً إلى شرهم، وضلالة إلى ضلالتهم.
وهذا الذي قاله عبد الرحمن رحمه الله حسن، وهو الجزاء من جنس العمل، وكذلك قاله الأولون، وهو نظير قوله تعالى أيضاً: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17].
وقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] وقرئ: (يُكَذِّبِون) وقد كانوا متصفين بهذا وهذا؛ فإنهم كانوا كذبة ويُكَذِّبِون بالغيب يجمعون بين هذا وهذا].
أي: فهم كذبة في أنفسهم، وكانوا يكذبون بالغيب؛ لأنهم لم يؤمنوا، فقلوبهم مكذبة، فهم كذبة في دعواهم الإيمان، وهم مكذبون بالغيب، فجمعوا بين الشرين، نعوذ بالله.(19/2)
بيان سبب ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم، وذكروا أجوبة عن ذلك، منها: ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر رضي الله عنه: (أكره أن يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه)، ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب].
أي أن الناس يفرون من الإسلام؛ لأنهم لا يدرون ولا يعلمون بحال المنافقين، فإذا قتل المنافقون وهم يظهرون الإسلام ويعيشون بين المسلمين قال من لا يعلم بحالهم: محمد يقتل أصحابه! فلذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتلهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يعلمون حكمة قتله لهم، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم، فيقولون: إن محمداً يقتل أصحابه.
قال القرطبي: وهذا قول علمائنا وغيرهم، كما كان يعطي المؤلفة مع علمه بسوء اعتقادهم.
قال ابن عطية: وهي طريقة أصحاب مالك، نص عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وعن ابن الماجشون، ومنها ما قال مالك: إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه].
وهذا قول آخر فيما يتعلق بترك قتل المنافقين، إذ القول الأول هو أنه ترك قتلهم لئلا ينفر الناس من الإسلام، والثاني له تعلق بالحكام والقضاة، وهو أن الحاكم لا يحكم بعلمه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنهم منافقون، ولكن لم يحكم فيهم بعلمه.
ومثال ذلك: إذا كان القاضي في البلد يعلم أنه حصل من فلان كذا وكذا، ثم جاءوا يتخاصمون إليه، وهو يعلم أن هذا الشخص له حق على هذا الشخص وأنكر، ولم يكن عند المدعي بينة، فهل يحكم بعلمه أم لا يحكم بعلمه؟
و
الجواب
لا يحكم بعلمه ولو كان يعلم، فيقول للمدعي: ائت بالبينة.
فإن لم يكن له بينة توجهت اليمين على المدعى عليه، ولا يحكم بعلمه، والمسألة خلافية، وفيها كلام بين أهل العلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال القرطبي: وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإن اختلفوا في سائر الأحكام.
قال: ومنها ما قال الشافعي: إنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم؛ لأن ما يظهرونه يجب ما قبله.
ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل).
ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهراً، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا وكونه كان خليط أهل الإيمان].
وهذا أمر مشترك، وهو أن من أظهر الإسلام فإنه تجرى عليه أحكام الإسلام، فيعامل معاملة المسلمين في الزواج، وفي الصلاة عليه إذا مات وتغسيله ما دام أنه يظهر الإسلام، وإن كان يبطن الكفر، لكن لا ينفعه هذا في الآخرة، ولا يعصمه من النار.
فهنا أقوال ثلاثة في شأن ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين: الأول: خشية حصول التنفير عن الإسلام.
الثاني: أن القاضي لا يحكم بعلمه.
الثالث: أن الأحكام تجرى على الظاهر، وقد أظهروا الإسلام فتجرى عليهم، ولا ينظر إلى معتقدهم، ولهذا جاء في قصة الرجل الذي استاذه النبي صلى الله عليه وسلم في قتل رجل من المنافقين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أليس يصلي؟ قال: بلى ولا صلاة له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم)، وفي اللفظ الآخر: (إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم).
فالأحكام تجرى على الظاهر، والسرائر موكولة إلى الله.
وأما الصلاة على المنافق فقد ورد فيها قول الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة:84].
وقد نزلت هذه الآية بعد أن صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي، ولكن ترك الصلاة عليه هو فيما إذا عرف كفره، لقوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:84] فمن عرف كفره ونفاقه لا يصلى عليه، ومن لم يعلم حاله فإنه يصلى عليه.
ومن هذا أخذ العلماء أنه يصلى على الفاسق؛ لأنه لا تنطبق عليه هذا العلة، فيصلى على الفاسق ويصلى خلفه على الصحيح.
وإنما نهي عن الصلاة على الغال وقاتل نفسه من قبل أعيان الناس تنفيراً للأحياء من فعله، والفاسق إذا لم يوجد غيره، أو كان هو إمام المسلمين، أو كان يترتب على ترك الصلاة خلفه مفسدة فإنه يجوز أن يصلي خلفه.
فإن وجد غيره فهل يصلى خلفه؟ اختلف العلماء في الصلاة خلف الفاسق على قولين: فالحنابلة والمالكية يرون أنه لا تصح الصلاة خلفه، والشافعية والحنفية يرون صحة الصلاة خلفه.
والصواب أن الصلاة خلفه صحيحة، والذين منعوا من الصلاة خلفه قالوا: لأنه يجب إنكار المنكر، ومن إنكار المنكر أن لا يصلى خلفه.
ولكن الصواب الذي عليه المحققون أن تلبس المصلي بعدم الإنكار أمر خارج عن الصلاة.
والقاعدة عند المحققين: أن المنهي عنه إذا كان خارجاً عن الصلاة فإنه لا يؤثر في الصلاة، كما لو صلى في ثوب مغصوب أو صلى في ثوب فيه صورة، أو صلى في أرض مغصوبة، أو توضأ بماء مغصوب، فتصح الصلاة على الصحيح من أقوال العلماء.
وذهب الشافعي وجماعة إلى أن من صلى في ثوب مغصوب، أو صلى في ثوب فيه صورة، أو صلى في أرض مغصوبة لا تصح صلاته، والصواب أنها تصح، فله ثواب الصلاة وعليه إثم الغصب؛ لأن الجهة منفكة، بخلاف ما نهي عنه في الصلاة بخصوصها، فلو صلى في ثوب نجس لا تصح صلاته بالاتفاق؛ لأن الثوب النجس لو لبسه في غير الصلاة صح، بخلاف ثوب الحرير، فلا يجوز لبسه في الصلاة ولا فيها، والمغصوب لا يجوز في الصلاة ولا خارجها.
أما الثوب النجس فإنه منهي عنه بالخصوص، فلا تصح الصلاة به؛ لأن المصلي يجب عليه أن يكون ثوبه طاهراً وبدنه طاهراً والبقعة التي يصلي عليها طاهرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهراً، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا وكونه كان خليط أهل الإيمان {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [الحديد:14] الآية، فهم يخالطونهم في بعض المحشر فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث.
ومنها ما قاله بعضهم أنه إنما لم يقتلهم لأنه كان لا يخاف من شرهم مع وجوده صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يتلو عليهم آيات الله مبينات، فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون].
قال العلماء: من سب النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته يقتل، ولا يعفى عنه، أما في حياته فإنه قد يعفو عن بعض المنافقين وعن بعض من يؤذونه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مالك: المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم.
قلت: وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا؟ أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا؟ أو يتكرر منه ارتداده أم لا؟ أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه؟ على أقوال متعددة موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام].
من العلماء من قال: إن الزنديق لا تقبل توبته في الدنيا، أما في الآخرة فالأمر بينه وبين الله، فالله تعالى يقبل توبة الصادقين، لكن في الدنيا لا بد من أن يقتل.
وقالوا: الزنديق والمنافق والساحر والساخر الذي يسخر من الدين وأهله، ومن تكررت ردته هؤلاء يقتلون في أحكام الدنيا ولا يستتابون، زجراً للناس عن هذا الكفر الغليظ، بخلاف المرتد بغير هذه الأمور.
وقال آخرون من أهل العلم: إنه يستتاب أيضاً ولو كان كفره بالنفاق أو بتكرار الردة.
وهذا محل نظر في التأمل عند الحاكم الشرعي.
وحجة من قال: لا تقبل توبته أن علم الساحر لا ينزع من نفسه ولو ادعى التوبة، فلا بد من أن يقتل، لكن قال آخرون: بل ينظر، فإذا أظهر التوبة علينا أن نتركه حتى يظهر نفاقه مرة أخرى.
وقوله: [على أقوال متعددة موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام]، هو كتاب الحافظ ابن كثير في الأحكام.(19/3)
ذكر الخلاف في علم النبي صلى الله عليه وسلم بأعيان بعض المنافقين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تنبيه: قول من قال: كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقاً في غزوة تبوك، الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك، عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها، فأوحى الله إليه أمرهم، فأطلع على ذلك حذيفة، ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها، والله أعلم].
أي: اتفقوا ودبروا خطة في ظلام الليل على أن يجلبوا على الناقة ليسقط النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما غير هؤلاء فقد قال الله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] الآية.
وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:60 - 61]، ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم، وإنما كان تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم، ولم يدرك على أعيانهم، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30].
وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول].
عبد الله بن أبي بن سلول هو رئيس المنافقين، وهو الذي تولى كبره في حادثة الإفك، كما قال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين، ومع هذا لما مات صلى عليه صلى الله عليه وسلم، وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين، وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال: (إني أكره أن تتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه)، وفي رواية في الصحيح: (إني خيرت فاخترت)، وفي رواية: (لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت)].
ما ذكره في شأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثابت في صحيح البخاري، وذلك أن عبد الله بن أبي لما مات ودلي في حفرته جاء النبي صلى الله عليه وسلم فاستخرجه من حفرته ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه وصلى عليه.
وحين أراد أن يصلي عليه جاء عمر وأخذ بثوبه فقال: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟! وكان رئيس المنافقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما خيرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة:80] وسأزيدها على سبعين)، وكان هذا قبل أن تنزل الآية: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة:84].
وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا تأليفاً للأوس، ومراعاة لابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي، وكان من خيار المؤمنين.
وإنما ألبسه قميصه مكافأة له على إعطائه العباس قميصه؛ لأن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم كان طويلاً، فلما أسر يوم بدر لم يجد له صلى الله عليه وسلم قميصاً يناسبه إلا قميص عبد الله بن أبي فأعطاه قميصه، فكافأه النبي صلى الله عليه وسلم بإلباسه قميصه، ونفث فيه من ريقه لعل الله أن ينفعه بذلك، وصلى عليه وهو لم ينه عليه الصلاة والسلام بعد، ثم نزلت الآية بعد ذلك: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84] فلم يصل على منافق بعد ذلك عليه الصلاة والسلام.(19/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض)
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الطيب الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] قال: هم المنافقون، أما (لا تفسدوا في الأرض) قال: الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية].
هذه الآية في أوصاف المنافقين، وقد سبق الكلام على أن الله سبحانه وتعالى افتتح هذه السورة الكريمة ببيان صفات الطوائف الثلاث، وأن الله تعالى ابتدأها ببيان الطائفة الأولى وهم المؤمنون باطناً وظاهراً، وذكرهم في أربع آيات: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:3 - 5].
فبين سبحانه وتعالى أنهم أهل هداية وأهل فلاح بقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] فهؤلاء حصلت لهم الهداية والفلاح.
ثم ذكر الطائفة الثانية في آيتين، وهم الكفار باطناً وظاهراً، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6].
ثم ذكر الطائفة الثالثة، وهم الكفار باطناً المظهرون للإسلام ظاهراً في ثلاث عشرة آية لشدة خطرهم، ولشدة التباسهم، وجلى الله تعالى صفاتهم في مواطن أخرى كثيرة من القرآن الكريم، ومنها في أثناء السورة في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، وذكرهم -أيضاً- في سورة النساء، وفي سورة التوبة التي تسمى الفاضحة، فقد أكثر تعالى فيها من قوله: (ومنهم) حتى خشوا أن يسموا بأعيانهم، وكذلك في سورة النور، وفي سورة كاملة تسمى سورة المنافقون، وفي سورة محمد، وفي كثير من السور.
فهنا بين الله سبحانه وتعالى أن المنافقين يظهرون الإسلام بألسنتهم، ويخفون الكفر بقلوبهم، وأن في قلوبهم مرض النفاق، ومن أوصافهم -كما في هذه الآية- أنهم يسمون الفساد صلاحاً، فيفسدون في الأرض بالمعاصي والكفر وإشاعة الفساد بين المؤمنين، ويسمون هذا صلاحاً.
وهم موجودون في كثير من الأوقات، وهم في هذا الزمن -أيضاً- موجودون، وقد كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يسمون بالمنافقين، ثم بعد ذلك كانوا يسمون بالزنادقة، وفي هذا الزمن يسمون العالمانيين، فالعالماني هو المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا} [البقرة:11] قال: يعني: لا تعصوا في الأرض.
وكان فسادهم ذلك معصية الله؛ لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة.
وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة، وقال ابن جريج عن مجاهد: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [البقرة:11] قال: إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا قالوا: إنما نحن على الهدى مصلحون.
وقد قال وكيع وعيسى بن يونس وعثمان بن علي عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي عن سلمان الفارسي: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] قال سلمان: لم يجيء أهل هذه الآية بعد.
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عبد الرحمن بن شريك حدثني أبي عن الأعمش عن زيد بن وهب وغيره عن سلمان في هذه الآية قال: ما جاء هؤلاء بعد].
هذا فيه نكارة؛ لأن أهل هذه الآية كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا السند فيه عنعنة الأعمش، وفيه -أيضاً- عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي وهو ضعيف من الثانية.
فهذه الرواية ضعيفة وفيها نكارة، ولا شك في أن المنافقين في زمن النبي من أهل هذه الآية، والآية تشملهم وتشمل من جاء بعدهم إلى يوم القيامة، فكل من اتصف بهذا الوصف هو من أهل هذه الآية، وكل من أفسد في الأرض بالمعاصي ونشر الفساد بين الناس وسماه صلاحاً هو من أهل هذه الآية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد].
هذا تأويل ابن جرير، فلو صح هذا الأثر فإن تأويله هو أن الذين يأتون من بعدهم يكونون أشد ممن سبقهم.(19/5)
صور من إفساد المنافقين في الأرض
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها].
كل ما ذكر هو من صفات المنافقين وهو إقامتهم على الشرك، وشكهم في دين الله، ومظاهرتهم ومعاونتهم أهل التكذيب من مشركي أهل مكة واليهود في المدينة، فإن المنافقين كانوا يظاهرونهم ويعاونونهم على المسلمين، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الذي قاله حسن؛ فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]].
كان المنافقون يتخذون اليهود أولياء، وكانوا يفضلون أهل مكة من المشركين على المؤمنين، ويظاهرونهم ويعاونونهم، وهذا من إفسادهم في الأرض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144] ثم قال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145].
فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل؛ لأنه هو الذي غر المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له ووالى الكافرين على المؤمنين، ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف، ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح ونجح، ولهذا قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] أي: نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء، كما قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] أي: نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.
يقول الله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12] يقول: ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فساداً].
ولهذا صاروا في الدرك الأسفل من النار -نعوذ بالله-؛ لأنهم شاركوا اليهود والوثنين في الكفر، فهم كفار مثلهم، وزادوا في خداع المؤمنين حين أظهروا الإسلام، فصار التباسهم أشد، وصار ضررهم أعظم، فلهذا عاقبهم الله فكانت عقوبتهم أشد، فصاروا في الدرك الأسفل من النار.
وهم يعيشون بين المسلمين، وتجرى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، إلا من أظهر نفاقه، ومن لم يظهر نفاقه فإنه تجري عليه أحكام الشرع، ولن ينفعهم في الآخرة إجراء الأحكام عليهم.(19/6)
تفسير سورة البقرة [13 - 16]
قد يدعى المنافقون إلى الإيمان فيظهرونه ليحقنوا بذلك دماءهم وأموالهم وليجدوا الملجأ الآمن في دولة المسلمين، وفي كوامن أنفسهم الهزء بالله ورسوله والمؤمنين، ولذا كان جزاؤهم من جنس عملهم، حيث تولى الله تعالى إمدادهم في طغيانهم وإملاءً لهم هزءاً بهم في الدنيا، ثم يعاقبهم بجنس عملهم على الصراط يوم القيامة.(20/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس)
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول الله تعالى: وإذا قيل للمنافقين: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة:13] أي: كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار، وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13] يعنون -لعنهم الله- أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، قاله أبو العالية والسدي في تفسيره بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة، وبه يقول الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء؟!].
وهذا أيضاً من أوصافهم، وهو أنهم يسمون الإيمان سفهاً، ومن أوصافهم إظهار الإسلام وإبطان الكفر، ومن صفاتهم الخداع، وكذلك الحقد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والسفهاء جمع سفيه، كما أن الحكماء جمع حكيم، والحلماء جمع حليم، والسفيه هو الجاهل الضعيف الرأي، القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار، ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] قال عامة علماء السلف: هم النساء والصبيان.
وقد تولى الله سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13] فأكد وحصر السفاهة فيهم، {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] يعني: ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى والبعد عن الهدى].
هذا فيه تأكيد، كقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة:12]، لأن الله تعالى أكد ذلك بـ (إن) والجملة الاسمية، وهذان المؤكدان يفيدان الحصر، أي: حصر السفه فيهم، وحصر الفساد فيهم.
و (أل) في قوله: (المفسدون) و (السفهاء) مؤكدة كذلك تدل على المبالغة، وأن الفساد محصور فيهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم، والسفه كذلك.
وهل هناك أعظم سفهاً وفساداً من شخص يظهر الإسلام ويبطن الكفر ويعمل بما يكون سبباً في هلاكه في الدنيا والآخرة، ولا يستفيد في الدنيا شيئاً، فهو في الدنيا معرض للقتل، ومعرض للخزي والعار، وفي الآخرة محقق هلاكه؟! هذا أعظم سفه، نسأل الله السلامة والعافية.
وقوله تعالى: (ولكن لا يعلمون) أي: لا يعلمون أنهم سفهاء، فالعقل كل العقل في الإيمان بالله ورسوله، وفي تخليص الإنسان نفسه من عذاب الله.(20/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)
قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15].
هذا -أيضاً- من أوصافهم، وهو أن لهم وجهاً عند المؤمنين ولهم وجهاً آخر مع أصحابهم، فإذا جاءوا إلى المؤمنين أظهروا الإيمان، وإذا خلا بعضهم إلى بعض أظهروا ما هم عليه من الكفر، فلهم وجهان، ويتلونون بلونين: لون عند المؤمنين ولون عند الكافرين، نسأل الله العافية.
فهم إذا ذهبوا إلى اليهود، أو إلى أصحابهم، أو إلى المشركين أظهروا الكفر، وإذا جاءوا إلى المؤمنين أظهروا الإيمان، وإنما فعلوا ذلك لتسلم نفوسهم، ولتسلم أموالهم؛ لأنهم لو أظهروا الكفر لقتلوا، وسبيت أموالهم، فيظهرون الإسلام حتى تجرى عليهم أحكام الإسلام ويسلموا من القتل.
قال المصنف رحمه الله: [وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا آمنا، وأظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة غروراً منهم للمؤمنين ونفاقاً ومصانعةً وتقية، وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم].
أي أنهم إنما يفعلون ذلك لكي تجرى عليهم أحكام الإسلام، فهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه، فإذا جاهدوا حصل لهم ما حصل للمؤمنين من الغنيمة، فهم لهذا يظهرون الإسلام حتى تسلم نفوسهم وأموالهم، وحتى يشاركوا المسلمين في المغانم والغزوات والسرايا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14] يعني: وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم.
فضمن (خلوا) معنى: (انصرفوا) لتعديته بـ (إلى)؛ ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به.
ومنهم من قال: (إلى) هنا بمعنى: (مع) والأول أحسن، وعليه يدور كلام ابن جرير.
وقال السدي عن أبي مالك: (خلوا) يعني: مضوا، و (شياطينهم) يعني: سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورءوس المشركين والمنافقين.
قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14] يعني: هم رءوسهم من الكفر.
وقال الضحاك عن ابن عباس: (وإذا خلوا إلى أصحابهم) وهم شياطينهم.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14] من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول.
وقال مجاهد: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14]: إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين.
وقال قتادة: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14] قال: إلى رءوسهم وقادتهم في الشرك والشر.
وبنحو ذلك فسره أبو مالك وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس.
قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مردته، ويكون الشيطان من الإنس والجن، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]].
فالشيطان هو كل من تمرد من البشر والدواب والجن، فالكافر شيطان، ومن أسلم من الجن لا يسمى شيطاناً، ولهذا جاء في الحديث: (يقطع صلاة الرجل -إذا لم يكن بين يديه قيد آخرة الرحل- الحمار والكلب الأسود والمرأة)، فقال الراوي لـ أبي ذر: ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (الكلب الأسود شيطان).
فهو شيطان لأنه متمرد خرج عن طبيعته، فكل جنس له شياطينه، وهم المتمردون الخارجون عن طبيعة جنسهم بالأذى، ولهذا قال تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112].
والجن فيهم شياطين، وهم الكفرة، ومن أسلم منهم لا يسمى شيطاناً، والإنس فيهم شياطين، وهم المتمردون من الفسقة وأهل الشر وأهل الكفر والضلال.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي المسند عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن.
فقلت: يا رسول! أوللإنس شياطين؟! قال: نعم)].
الحديث أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى فقال: حدثنا وكيع حدثنا المسعودي أنبأني أبو عمر الدمشقي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست فقال: يا أبا ذر! هل صليت؟ قلت: لا.
قال: قم فصل، قال: فقمت فصليت ثم جلست، فقال: يا أبا ذر! تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن.
قال: قلت: يا رسول الله! وللإنس شياطين؟! قال: نعم)، وذكر الحديث.
والمسعودي ضعيف واختلط، ولكن لا شك في أن من الإنس شياطين، كما في الآية: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:14] قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي: إنا على مثل ما أنتم عليه {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم.
وقال الضحاك عن ابن عباس: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قال الربيع بن أنس وقتادة].(20/3)
تفسير قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى جواباً لهم ومقابلة على صنيعهم: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15].
وقال ابن جرير: أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]، وقوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178].
قال: فهذا وما أشبهه من استهزاء الله -تعالى ذكره- وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ومتأول هذا التأويل].
أي أن قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] معناه: أنه يجازيهم على استهزائهم في مقابل أعمالهم، وهو كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] وهذا من باب الخبر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه، والكفر به.
قال: وقال آخرون: هذا وأمثاله على سبيل الجواب، كقول الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه، قالوا: وكذلك قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54]، وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء، والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم.
وقال آخرون: قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:14 - 15]، وقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، وقوله: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79]، وقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] وما أشبه ذلك إخبار من الله تعالى أنه يجازيهم جزاء الاستهزاء، ويعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة:194]، فالأول ظلم والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما].
وعلى هذا يكون هذا من باب الخبر عن الله، ولا يشتق من هذا صفات لله، ولا يقال: إن من صفات الله: المستهزئ، أو الساخر، أو الماكر، أو الكائد، وإنما هذا من باب المقابلة والإخبار، أي أن الله تعالى يقابلهم ويجازيهم على أعمالهم السيئة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك.
قال: وقال آخرون: إن معنى ذلك أن الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا: إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما نظهر لهم من قولنا لهم: (صدقنا بمحمد -عليه السلام- وما جاء به) مستهزئون، فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا -يعني: من عصمة دمائهم وأموالهم- خلاف الذي لهم عنده في الآخرة، يعني: من العذاب والنكال].(20/4)
إملاء الله تعالى وزيادته للمنافقين في طغيانهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره؛ لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عز وجل بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك، قال: وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس، حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان حدثنا بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] قال: يسخر بهم للنقمة منهم، وقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15] قال السدي: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (يمدهم) يملي لهم، وقال مجاهد: يزيدهم، وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56].
وقال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] قال بعضهم: كلما أحدثوا ذنباً أحدث لهم نعمة، وهي في الحقيقة نقمة، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].
قال ابن جرير: والصواب: نزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].
والطغيان: هو المجاوزة في الشيء، كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11].
وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15]: في كفرهم يترددون.
وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة، وبه يقول أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس ومجاهد وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد: في كفرهم وضلالتهم.
قال ابن جرير: والعمه: الضلال، يقال: عمه فلان يعمه عمهاً وعموهاً: إذا ضل.
قال: وقوله: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15] في ضلالتهم وكفرهم الذي غمرهم دنسه وعلاهم رجسه يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً؛ لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً.
وقال بعضهم: العمى في العين، والعمه في القلب.
وقد يستعمل العمى في القلب أيضاً، قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] وتقول: عمه الرجل، يعمه عموهاً فهو عمه وعامه وجمعه: عُمَّه، وذهبت إبله العمهاء: إذا لم يدر أين ذهبت].(20/5)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى)
قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه وعن ناس من الصحابة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16] قال: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16] أي: الكفر بالإيمان].
معنى (اشتروا) اعتاضوا، أي: أخذوا هذا عوضاً عن هذا، حيث أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، فاعتاضوا عن الهدى بالضلالة، كحال المشتري، فإنه يعتاض عن المبيع بالثمن.
وهؤلاء -والعياذ بالله- اعتاضوا عن الهدى بالضلالة، أي: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: آمنوا ثم كفروا.
وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى، وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]].
والمراد بالهداية هنا هداية الدلالة والإرشاد، فقوله تعالى: (هديناهم) يعني: دللناهم، مثل قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] يعني: بينا له طريق الخير وطريق الشر؛ لأن الهداية نوعان: هداية دلالة وإرشاد، وهداية توفيق وتسديد، فالله تعالى ما سددهم ولا وفقهم، ولكن هداهم هداية الدلالة والإرشاد، أي: أوضح لهم الحق، لكنه خذلهم ولم يوفقهم، فلهذا ضلوا فاستحبوا العمى على الهدى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحاصل قول المفسرين فيما تقدم أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16] أي: بذلوا الهدى ثمناً للضلالة، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر، كما قال تعالى فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون:3] أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى كما يكون حال فريق آخر منهم؛ فإنهم أنواع وأقسام، ولهذا قال تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16]].
المنافقون أقسام: فمنهم من كان مؤمناً ثم ارتد، ومنهم من كان عنده إيمان ضعيف يأتي مرة ويذهب أخرى، ومنهم من عنده شك وتردد وريب، ومنهم من هو كافر ثابت على الكفر، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] أي: ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] أي: راشدين في صنيعهم ذلك.
وقال ابن جرير: حدثنا بشير حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] قد -والله- رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.
وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة بمثله سواء].(20/6)
الأسئلة(20/7)
حكم القول بترك ذكر النفاق في هذا العصر بدعوى ترك ما يؤدي إلى الفرقة
السؤال
هناك من ينفي وجود المنافقين ويقول: إن الحديث عن وجودهم يسبب الفرقة بين الأمة الإسلامية، فما هو قولكم في ذلك؟
الجواب
المنافقون موجودون، والمنافقون عندما يكونون في المجتمع الإسلامي القوي يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام خوفاً على أنفسهم، ولهذا فإنه قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة لم يكن هناك منافقون؛ لأن الكفار كانوا أقوياء يظهرون الكفر، وكذلك بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حصلت غزوة بدر وقتل من صناديد قريش سبعون وأسر سبعون قال عبد الله بن أبي: هذا أمر توجه.
ثم أظهر الإسلام وأبطن الكفر خوفاً على نفسه، فإذا كان المسلمون أقوياء كثيرين أخفوا نفاقهم وصاروا يتسترون.
وإذا كانوا موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهم موجودون الآن وبشدة، وهم العلمانيون الذين ينشرون في الصحف وغيرها الطعن في الإسلام وفي المسلمين، ومنهم الحداثيون الذين يطعنون في الإسلام ويقولون: إنه تراث.
وكذلك الذين يطعنون في علماء السنة وفي كتب أهل السنة، ولهم نوادٍ ومجالس، وهم موجودون الآن، وهذا الكلام من الواقع.
والذي يقول: إن هذا فيه تفريق للأمة؛ فقوله معناه الدعوة إلى الكفر، فهو يريد أن يجمع الناس على الكفر، وهذا يدل على عدم التوحيد والإيمان والإسلام، لأنهم يريدون أن تجتمع الأمة على الكفر، وهذه هي العولمة التي تريد أن يكون العالم قرية واحدة، ومن هذا القبيل الدعوة إلى وحدة الأديان، وإلى التآخي بين الأديان، وقد دعا هؤلاء إلى مؤتمر التآخي بين الأديان الثلاثة: الإسلام واليهودية والنصرانية، ولما اجتمعوا قالوا: إنها كلها أديان سماوية، فينبغي أن يكون في كل بلد وفي كل مطار مسجد وكنيسة ومعبد لليهود تحت سقف واحد، وتطبع التوراة والإنجيل والقرآن باسم واحد، وهذه دعوة إلى الكفر، والعياذ بالله.
وقد كتبت اللجنة الدائمة بياناً في كفر من يدعو إلى هذا.
فإذا قالوا بأن هذا تفريق للأمة، قلنا: هذه العولمة دعوة إلى الكفر، ونحن نريد أن نفرق بين المسلم والكافر، لأن هذا من الولاء والبراء في ديننا.
فإن سأل سائل: هل يوصف المُعيَّن بالنفاق؟ ف
الجواب
لا يوصف إلا من ظهر منه ما يدل على ذلك، فهذا حاطب بن أبي بلتعة لما كتب إلى المشركين كتاباً يخبرهم بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فإنه قد خان الله ورسوله.
فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معذور، ومثل ذلك ما جرى في حادثة الإفك من عبد الله بن أبي لما تكلم في تلك الحادثة، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس على المنبر فقال: (من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً.
فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا بأمرك.
فقام سعد بن عبادة وكان سيد الخزرج فقال: لا تفعل ولا تقدر على ذلك، ولو كان من رهطك لما فعلت.
فقال له أسيد بن حضير: إنك منافق تجادل عن المنافقين.
وجعل النبي يخفضهم على المنبر، قالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية) رواه البخاري.
فقوله: (إنك منافق تجادل عن المنافقين) لأنه ظهر منه هذا الكلام، فصار معذوراً.
فالمقصود أن العلماء أخذوا من هذا أنه إذا وجد من المرء ما يدل على ذلك فرماه شخص بالنفاق فإنه يكون معذوراً، وأما إذا كان بدون دليل ولا سبب فهذا مثلما جاء في الحديث: (إذا قال الرجل لأخيه: (يا كافر) فقد باء بها أحدهما)، فلا يجوز البغي لكن إذا ظهر منه دلالة فرماه أحد بالنفاق فإنه يعذر، وقد لا يكون منافقاً، لكن الذي رماه يكون معذوراً؛ لأنه تكلم بما ظهر له، وأما أن يأتي شخص ويقول للآخر: يا كافر أو يا فاسق بدون سبب فهذا هو الذي عليه الإثم.
والوصف بالنفاق بدون دليل يأخذ أحكام التكفير، فهو يشبه قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) كما تقدم.(20/8)
تفسير سورة البقرة [17 - 20]
يصف الله تعالى حال المنافقين في كتابه الكريم بأبلغ عبارة وأوجز إشارة، ومن ذلك ضربه تعالى الأمثال لبيان حال المنافقين ودرجاتهم، فقد ضرب تعالى مثال صنف من المنافقين عرفوا الهدى ثم تركوه كله بالمستوقد الذي أضاءت ناره فأبصر بها ثم انطفأت ففقد النور وصار يتخبط في الضلال، وضرب مثالاً آخر لمن ساورته الشكوك في الدين منهم بمن يستضيء بنور البرق ثم يفقده فيعود إلى التيه والضلال.(21/1)
تفسير قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً)(21/2)
ذكر المنافقين الكافرين بعد الإسلام
قال الله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:17 - 18].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقال: مثل ومثل ومثيل أيضاً، والجمع أمثال، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنس بها؛ فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياءً لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغي على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم].
إن المنافقين من أخطر أعداء الله على المسلمين، وهم أشد الناس كفراً وضلالاً؛ وذلك لأنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فيلتبس أمرهم على المسلمين، ولهذا جلى الله سبحانه وتعالى صفاتهم في مواضع من كتابه، ومن ذلك هذه السورة الكريمة، فلقد ذكر الله تعالى وصفهم في ثلاث عشرة آية، بينما ذكر المؤمنين باطناً وظاهراً في أربع آيات، والكفار ظاهراً وباطناً في آيتين.
وأما المنافقون فلشدة خطرهم والتباسهم وشدة عداوتهم للإسلام والمسلمين جلى الله صفاتهم، ومن ذلك ما ذكره الله تعالى في هذه الآيات أنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وأنهم يخادعون الله ورسوله، وأنهم يصفون المؤمنين بالسفه، وأنهم لهم وجه مع المؤمنين ووجه مع الكافرين.
والمنافقون أصناف، فهذا الصنف من المنافقين كانوا على الإيمان أولاً ثم كفروا، أي أنهم كانوا مؤمنين أبصروا الهدى ورأوا الحق، ثم عموا عن الحق -والعياذ بالله- وانتكسوا وارتكسوا، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد ضرب الله لهم هذا المثل الناري فقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} يعني: مثل إنسان كان في البرية أوقد ناراً فأضاءت فأبصر ما حوله وصار يرى كل شيء حوله، فهذا فيه تمثيل لهم بأنهم آمنوا، وذلك أنهم آمنوا أولاً وأبصروا الحق، ثم رجعوا بعد ذلك إلى الكفر فانطفأت هذه النار، فصاروا لا يبصرون ما حولهم، فكأنهم صاروا في ظلام دامس، ومع ذلك كل واحد منهم أصم لا يستطيع السمع، وأعمى لا يبصر حتى ولو لم يكن هناك ظلمة، وأبكم لا يتكلم، فكيف تكون حاله؟! فهذه حال المنافقين، نسأل الله السلامة والعافية.
وأما الصنف الثاني من الذين ضرب لهم المثل الناري؛ فهم أناس عندهم إيمان لكنه يخبو أحياناً ويضيء أحياناً، فأحياناً يكون عندهم إيمان وأحياناً يزول بسبب شكوكهم وغيهم.
وقوله: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى)) يعني: اعتاضوا الضلالة بالهدى، والباء تدخل على المتروك، أي أنهم تركوا الهدى وأخذوا الضلالة، فهم رغبوا في الضلالة كما يرغب المشتري في السلعة، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي، ثم قال: والتشبيه ههنا في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نوراً، ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك، فوقعوا في حيرة عظيمة، فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل ههنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]، والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ثم سلبوه وطبع على قلوبهم.
ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية ههنا، وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3]، فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاءوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي: في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة، قال: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:19] أي: كدوران الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5].
وقال بعضهم: تقدير الكلام: مثل قصتهم كقصة الذي استوقد ناراً وقال بعضهم: المستوقد واحد لجماعة معه، وقال آخرون: (الذي) ههنا بمعنى (الذين) كما قال الشاعر: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد].
قوله: (وإن الذي)، أي: وإن الذين، فتأتي (الذي) بمعنى (الذين).
وابن جرير رحمه الله شيخ المفسرين، وله اليد الطولى في التفسير، ولكن قد يكون له بعض الآراء المرجوحة، والحافظ ابن كثير رحمه الله لخص تفسيره وأتى بتحقيقات جيدة، فهو يتعقب ابن جرير ويخالفه أحياناً في الترجيح، ومن المعلوم أن ابن جرير له اليد الطولى وله السبق، وهو كما قال ابن مالك لما سبقه ابن معط في تأليف ألفية في علم النحو: وهو بسبق حائز تفضيلاً مستوجب ثنائي الجميلا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:17 - 18]، وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النظام.
وقوله تعالى: ((ذهب الله بنورهم)) أي: ذهب عنهم بما ينفعهم، وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم، وهو الإحراق والدخان.
((وتركهم في ظلمات)) هو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق.
((لا يبصرون)): لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها، وهم مع ذلك (صم) لا يسمعون خيراً، (بكم) لا يتكلمون بما ينفعهم، (عمي) في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]].
وقع في الآية أسلوب بلاغي معروف في اللغة يسمى الالتفات، أي: يلتفت من الغيبة إلى الخطاب، أو يلتفت من الخطاب إلى الغيبة، ونحو ذلك.
قوله: ((صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)) المقصود به الصمم والبكم والعمى المعنوي، فهم لا يرون الحق، ولا يتكلمون بالحق، ولا يسمعون الحق، وإن كانت أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم سليمة، وخاصة في أمور دنياهم، فهم في أمور دنياهم يتكلمون، وليس الواحد منهم أخرس، وكذلك يسمعون كلام الدنيا وأمورها، وكذلك -أيضاً- يبصرون أمور دنياهم، لكنهم لا يبصرون الحق، ولا يقبلونه، ولا يتكلمون به.(21/3)
ذكر من ذهب إلى تفسير الآية بالكافرين بعد الإسلام
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه: قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة رضي الله عنهم في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة:17] زعم أن ناساً دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله من قذىً أو أذىً فأبصره حتى عرف ما يتقي منه، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، والخير والشر، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر.
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية قال: أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به، وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدىً ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك].
رواية العوفي عن ابن عباس منقطعة، وكذلك رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: ((فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ)) أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى.
وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى: ((مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)) قال: هذا مثل المنافق يبصر أحياناً ويعرف أحياناً، ثم يدركه عمى القلب.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو قول عطاء الخراساني.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: ((مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)) إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً، ثم كفروا، (فذهب الله بنورهم) أي: فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار، (فتركهم في ظلمات لا يبصرون).
وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)) قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون، ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز، كما سلب صاحب النار ضوءه].
معنى ذلك أن المنافق إذا أخفى نفاقه فإنها تجرى عليه أحكام الإسلام، فيزوج، ويرث من أقاربه، ويورث، ويصلى عليه، وتتبع جنازته، وتجرى عليه سائر أحكام الإسلام، لكنه في الآخرة في أسفل النار.
وأما إذا أظهر نفاقه فإنه يقتل ويعامل معاملة المرتد، ولهذا لما مات عبد الله بن أبي رئيس المنافقين ودُلِّي في حفرته جاءه النبي صلى الله عليه وسلم واستخرجه، ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه، فلما أراد أن يصلي عليه أخذ عمر بثوبه وقال: أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا؟! فقال: (أخر عني يا عمر! فلما أكثر عليه قال: إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها).
وهذا قبل أن ينهى، ثم نزلت الآية بعد ذلك: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، ففعل عليه الصلاة والسلام هذا قبل أن ينهى عن الصلاة عليهم، لأنه كان يرجو أن ينفعه ذلك، وفعل ذلك أيضاً مراعاة للأوس، ومراعاة لابنه عبد الله، فإنه كان يتألفهم عليه صلى الله عليه وسلم، ثم نهي بعد ذلك عن الصلاة على المنافقين، فمن علم نفاقه فلا يُصلى عليه، ومن لم يعلم نفاقه صلى عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17]؛ فإنما ضوء النار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص بلا إله إلا الله أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة].
المنافقون طبقات: فمنهم من استحكم الكفر والنفاق في قلبه، فليس عنده شيء من الإيمان، ومنهم من عنده شيء يسير يضيئ أحياناً ويخبو أحياناً، فإذا كثرت الشكوك والريب انطفأ هذا النور، وإذا خفت شكوكه ظهر شيء منه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الضحاك: ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)): أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ((مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ)) هي لا إله إلا الله أضاءت لهم، فأكلوا بها وشربوا، وآمنوا في الدنيا، وأنكحوا النساء وحقنوا دماءهم، حتى إذا ماتوا ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ))].
أي أنهم لما قالوا: (لا إله إلا الله) دخلوا في الإسلام، فأكلوا بها وشربوا، أي: بقوا أحياء، وسلمت دماؤهم وأموالهم؛ لأنهم لو لم يقولوها لقتلوا، وبها تزوجوا النساء، ولكنهم كانوا يناقضون هذه الكلمة بالشك والريب والكفر، فلا تنفعهم في الآخرة، فكانوا في الدرك الأسفل من النار، عياذاً بالله تعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية: إن المعنى: أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكح بها المسلمين وغازاهم بها، ووارثهم بها وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت سلبها المنافق؛ لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)].
أي: غزى وجاهد معهم في سبيل الله، فالمنافقون كانوا يغزون ويجاهدون مع المؤمنين، وقد انخذل عبد الله بن أبي يوم أحد بثلث الجيش، وكانوا -أيضاً- يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فالإسلام يُجري الأحكام على الظواهر، وأما البواطن فمردها إلى الله.(21/4)
بيان معنى قوله تعالى: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)) يقول: في عذاب إذا ماتوا.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ)) أي: يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق.
وقال السدي في تفسيره بسنده: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ)) فكانت الظلمة نفاقهم.
وقال الحسن البصري: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)) فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السوء، فلا يجد له عملاً من خير عمل به يصدق به قول لا إله إلا الله].(21/5)
تفسير قوله تعالى: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)) قال السدي بسنده: ((صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)) فهم خرس عمي.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ((صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)) يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه، وكذا قال أبو العالية وقتادة بن دعامة].
أي أن صممهم معنوي وليس بحسي، فهذه أسماعهم سليمة، وأبصارهم سليمة، وألسنتهم سليمة، ولكنهم صم عن سماع الحق، وبكم لا يتكلمون بالحق، وعمي لا يرون الحق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)) قال ابن عباس: أي لا يرجعون إلى هدى، وكذا قال الربيع بن أنس.
وقال السدي بسنده: ((صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)) إلى الإسلام، وقال قتادة: ((فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)) أي: لا يتوبون ولا هم يذكرون].(21/6)
تفسير قوله تعالى: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق)
قال الله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:19 - 20].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين].
الضرب: هو النوع، أي: فهذا مثل ضربه الله تعالى لنوع آخر من المنافقين، فالمنافقون أقسام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم ((كصيب))، والصيب: المطر، قاله ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني والسدي والربيع بن أنس.
وقال الضحاك: هو السحاب، والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال الظلمات، وهي الشكوك والكفر].
الأقرب أنه المطر؛ لحديث عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: اللهم صيباً نافعاً).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(ورعد)، وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع، كما قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4]].
وذلك لأن قلوبهم مريضة، فهم يخافون أن يطلع المؤمنون على نفاقهم فيعاملونهم معاملة الكفار، فإذا سمعوا شيئاً ظنوا أنهم قد كشفوا وعرف حالهم، نسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:56]].
فمن صفات المنافقين الاعتذار بالحلف والأيمان الكاذبة، وقد فعلوا ذلك كما في غزوة تبوك وفي غيرها؛ ولهذا قال تعالى فيهم: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:56] أي أنهم يخافون أشد الخوف، ويهلعون أشد الهلع.
وقد ذكر الله في سورة الأحزاب كيفية الهلع بقوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:18 - 19]، والمراد بالخوف هنا الجهاد، قال تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب:19] أي: يريدون أن يقاسموا المسلمين في الغنيمة، فإذا جاء صوت فزعوا منه؛ لأنهم ليس لديهم إيمان يدفعهم إلى الجهاد والشهادة، قال تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب:19] أي: الغنيمة، {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:19].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:56 - 57]].
أي: وهم مسرعون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والبرق: هو ما يلمح في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، ولهذا قال: ((يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ)) أي: ولا يجدي عنهم حذرهم شيئاً؛ لأن الله محيط بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:18 - 20].
والصواعق: جمع صاعقة، وهي نار تنزل من السماء وقت الرعد الشديد، وحكى الخليل بن أحمد عن بعضهم: صاعقة، وحكى بعضهم: صاعقة وصعقة وساطعة، ونقل عن الحسن البصري أنه قرأ ((من الصواقع حذر الموت)) بتقديم القاف، وأنشدوا لـ أبي النجم: يحكون بالمصقولة القواطع تشقق البرق عن الصواقع قال النحاس: وهي لغة بني تميم وبعض بني ربيعة.
وكذلك قال القرطبي في تفسيره].
أي أنها لغة، واللغة المشهورة: صواعق.(21/7)
تفسير قوله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة:20] أي: لشدته وقوته في نفسه، وضعف بصائرهم، وعدم ثباتها للإيمان.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة:20] يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين.
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ)) أي: لشدة ضوء الحق، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20] أي: كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعرض لهم الشكوك فأظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ)) يقول: كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر، كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} [الحج:11] الآية].
أي: إذا انتصر المسلمون وأصابوا من الغنائم اطمأنوا وفرحوا، وقاسموا المسلمين الغنائم، وإذا أصابهم نكبة أو هزيمة ارتدوا والعياذ بالله؛ لما في قلبهم من الشكوك، قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20] أي: يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم في قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر ((قاموا)) أي: متحيرين.
وهكذا قال أبو العالية، والحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي بسنده عن الصحابة، وهو أصح وأظهر، والله أعلم].(21/8)
كينونة نور الآخرة على قدر نور الدنيا
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ، وأكثر من ذلك وأقل من ذلك].
أي أن نورهم في يوم القيامة يكون على حسب نور الإيمان في الدنيا، كما قال سبحانه: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8]، وقال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12]، فمن كان قوي الإيمان حركه هذا الإيمان صاحبه إلى العمل الصالح والاستجابة والانقياد لأوامر الله وترك نواهيه، فيكون نوره قوياً يضيء له فراسخ، ومن ضعف إيمانه في هذه الدنيا ضعف نوره يوم القيامة حتى يكون كنور المنافقين الذين لهم نور يخبو ثم ينطفئ، نعوذ بالله.
وبعضهم من أول مرة ينطفئ نوره، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13]، وذلك أنهم لما كانوا مع المؤمنين في الدنيا وكانوا يشاركونهم في العبادات كانوا معهم في الآخرة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح الطويل أن الله عز وجل يقول يوم القيامة: (نتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن الله.
فيقال: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، ويدعى النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن مريم، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة، ولا ولد، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها؛ فيتجلى الله لهم، فيسجد المؤمنون، ويريد المنافقون أن يسجدوا فلا يستطيعون السجود، ويكون ظهر كل واحد منهم طبقاً واحداً، كما قال سبحانه: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42])، ثم بعد ذلك يجوزون الصراط وكل واحد معه نور، فينطفئ نور المنافقين، ويضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب، نسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء له أخرى، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخلّص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13]].
قوله تعالى: ((انظرونا)) ليس المراد به النظر، بل المراد الانتظار، أي: انتظرونا حتى نقتبس من نوركم، فقيل لهم: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال في حق المؤمنين: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الحديد:12]، وقال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8] ذكر الحديث الوارد في ذلك: قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: ((يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)): ذُكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين فصنعاء، ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه)].
أي: منهم من يكون نوره طويلاً إلى عدن أبين، ومنهم من يكون أقل، ومنهم من نوره دون ذلك، لكن هذا الأثر عن قتادة مقطوع، وفيه -أيضاً- إبهام، فلا يعتمد عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن داور القطان عن قتادة بنحوه.
وهذا كما قال المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يرى نوره كالنخلة، ومنهم من يرى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نوراً على إبهامه، يطفأ مرة ويتقد مرة].
وهكذا رواه ابن جرير عن ابن مثنى عن ابن إدريس عن أبيه عن المنهال.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن إدريس، سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)) قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، فمنهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا عتبة بن اليقظان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون: ((رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا)).
وقال الضحاك بن مزاحم: يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نوراً، فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا، فقالوا: ((رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا))].(21/9)
أقسام الناس في الإيمان والعمل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا تقرر هذا صار الناس أقساماً: مؤمنون خُلَّص، وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول البقرة، وكفار خُلَّص، وهم الموصوفون بالآيتين بعدها، ومنافقون، وهم قسمان: خُلَّص، وهم المضروب لهم المثل الناري، ومنافقون يترددون، تارة يظهر لهم لمع من الإيمان وتارة يخبو، وهم أصحاب المثل المائي، وهم أخف حالاً من الذين قبلهم].
قسم الله تعالى في أول سورة البقرة الناس أقساماً: القسم الأول: المؤمنون باطناً وظاهراً، وهم الذين قال فيهم: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] والقسم الثاني: الكفار ظاهراً وباطناً، وهم الذين قال فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7].
والقسم الثالث: المؤمنون ظاهراً الكفار باطناً، وهم المنافقون الذين قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:8] إلى آخر الآية.
وقسم هؤلاء إلى قسمين: قسم كفرهم غليظ، وهم المنافقون الخلَّص، وهم الذين ضرب لهم المثل الناري، وقسم آخر يظهر لهم النور تارة، ويخبو أخرى، نسأل الله العافية، وهم الذين ضرب لهم المثل المائي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دري، وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان، واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط، كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله، ثم ضرب مثل العُبَّاد من الكفار الذين يعتقدون أنهم على شيء وليسوا على شيء -وهم أصحاب الجهل المركب- في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39] ثم ضرب مثل الكفار الجهال الجهل البسيط، وهم الذين قال الله فيهم: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
].
الجهال الذين لا يعلمون الحق جهلهم بسيط، وأما العبَّاد من الكفار فجهلهم مركب؛ لأنهم لا يعلمون ويظنون أنهم على حق، حيث فهموا الأمور فهماً معكوساً، فعبّاد اليهود والنصارى يتعبدون على جهل وغي، وهم يحسبون أنهم على الحق.
فالجاهل جهلاً بسيطاً هو الذي لا يعلم، والجاهل جهلاً مركباً هو الذي يتصور الشيء على خلاف ما هو عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقسم الكفار هنا إلى قسمين: داعية ومقلد، كما ذكرهما في أول سورة الحج: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3]، وقال بعده: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8] وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وفي آخرها، وفي سورة الإنسان إلى قسمين: سابقون، وهم المقربون، وأصحاب يمين، وهم الأبرار.
فتلخص من مجموع هذه الآيات الكريمات أن المؤمنين صنفان: مقربون وأبرار، وأن الكافرين صنفان: دعاة ومقلدون، وأن المنافقين صنفان: منافق خالص، ومنافق فيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)].
المعروف عند أهل العلم أن الحديث إنما هو في النفاق العملي، لكن قال العلماء: إن هذه الخصال الأربع إذا استحكمت في الإنسان وكملت جرته إلى النفاق الأكبر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان، وشعبة من نفاق إما عملي لهذا الحديث، أو اعتقادي كما دلت عليه الآية، كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض العلماء كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله].
وهناك صنف ثالث من المؤمنين ذكره الله في سورة فاطر، وهم الظالمون لأنفسهم، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهم مؤمنون موحدون لم يقعوا في الشرك لكن وقعوا في المعاصي، وذلك إما لأنهم قصروا في بعض الواجبات، أو ارتكبوا بعض المحرمات، وهؤلاء على خطر، فمنهم من يغفر الله له ويعفو عنه لتوحيده وإيمانه، ويدخل الجنة من أول وهلة، ومنهم من يشفع فيه، ومنهم من يعذب في النار، ومنهم من يعذب في القبر، ومنهم من يعذب بأهوال وشدائد يوم القيامة، لكن في النهاية مآلهم إلى الجنة والسلامة، فهم إذاً ثلاثة أصناف: سابقون مقربون، ومقتصدون، وظالمون لأنفسهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية -يعني: شيبان - عن ليث عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه)، وهذا إسناد جيد حسن].
قلت: كيف يقول الحافظ ابن كثير: سنده جيد، وفيه الليث بن أبي سليم وهو ضعيف؟! فلعله يعني أن له شواهد.
وقال الشيخ أبو عبد الرحمن مقبل الوادعي: الحديث في سنده ليث، وهو: ابن أبي سليم كما جاء مصرحاً به في (المعجم الصغير) للطبراني، وهو مختلط، وفي السند أيضاً انقطاع؛ فإن أبا البختري -وهو: سعيد بن فيروز - لم يسمع من أبي سعيد الخدري كما في (تهذيب التهذيب)، فعلم بهذا ضعف الحديث.(21/10)
مناسبة ذكر القدرة في الآية الكريمة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ)) قال: لما تركوا من الحق بعد معرفته، ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير.
وقال ابن جرير: إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع؛ لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير، ومعنى ((قدير)) قادر، كما أن معنى (عليم) عالم].
ومناسبة ختم هذه الآية ببيان قدرته على كل شيء أن هؤلاء المنافقين ما استعملوا أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم فيما ينفعهم، بل استعملوها فيما يضرهم، وقد حذرهم الله من ذلك وخوفهم وأخبرهم بأنه قادر على أن يسلب أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم الحسية، كما سلب أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم المعنوية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذهب ابن جرير الطبري ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين، وتكون (أو) في قوله تعالى: ((أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ)) بمعنى الواو، كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24]].
يعني: آثماً وكفوراً، وقوله: (أو كصيب) أي: وكصيب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أو تكون للتخيير، أي: اضرب لهم مثلاً بهذا وإن شئت بهذا.
قال القرطبي: (أو) للتساوي، مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين، على ما وجهه الزمخشري أن كلاً منهما مساوٍ للآخر في إباحة الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله: سواء ضربت لهم مثلاً بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم.
قلت: وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة: (ومنهم) (ومنهم) (ومنهم)، يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال، فجعْل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم -والله أعلم- كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39] إلى أن قال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} [النور:40]، فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين، والله أعلم بالصواب.
الأقرب ما ذكره المؤلف رحمه الله واختاره، وهو أنهم صنفان، وأن المثل الأول للكفار وللمنافقين الخلَّص، والمثل الثاني: للذين عندهم شك وريب، ويتفاوت عذابهم على حسب تفاوت الكفر.(21/11)
تفسير سورة البقرة [21 - 22]
نعم الله تعالى على الناس بالخلق والإيجاد وإسباغ الخير والفضل عليهم كثيرة، ولازم هذا أن يعبده الناس ولا يشركوا به، وأن يوحدوه في إلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وهذا المعنى قد أرشد الله تعالى عباده إليه، مبيناً لهم استحقاقه تعالى له بخلقهم وإيجادهم وتسخير الكون لهم، وما بثه تعالى من الآيات التي لا تحصى في الكون دليل على أنه الخالق الموجد المستحق للعبادة دوه سواه.(22/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشاً، أي: مهداً كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات، ((وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)) وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32]، وأنزل لهم من السماء ماء -والمراد به السحاب هاهنا- في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد، رزقاً لهم ولأنعامهم، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن.
ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64]، ومضمونه أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)].
أول أمر في القرآن الكريم هو هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21]، وفي الآيات السابقة بيان أوصاف المؤمنين، وأوصاف الكفار ظاهراً وباطناً، وأوصاف المنافقين، ثم بعد ذلك وجه الله سبحانه وتعالى الأمر إلى عباده المؤمنين بأن يعبدوه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أي: وحدوه وأخلصوا له العبادة، وبيَّن سبحانه وتعالى أنه مستحق للعبادة؛ لما له من النعم العظيمة، فقد أوجد الخلق من العدم، وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة.
وقوله هنا: (اعبدوا ربكم) فيه توحيد العبادة، وقد استدل عليه بتوحيد الربوبية، فتوحيد الربوبية دليل على توحيد الإلهية، فالذي خلقكم وأوجدكم من العدم ورباكم بنعمه وأسبغ عليكم نعمه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه؛ لأنه المنعم والمتفضل والخالق، ويستحق العبادة لما له من الأسماء الحسنى والصفات العظيمة، فهو سبحانه وتعالى الحميد الرازق الرزاق المدبر الخالق المحيي المميت، ولأنه سبحانه وتعالى هو الذي أوجد الخلق من العدم، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.
وكثيراً ما يدلل سبحانه وتعالى على استحقاقه للعبادة بتوحيد الربوبية كما في هاتين الآيتين.
وفي سورة النمل دلل سبحانه وتعالى في آيات متعددة على استحقاقه للعبادة بتوحيد الربوبية، قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النمل:59 - 60].
ثم قال: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا} [النمل:61] الآية، وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] الآية، وفي كل آية يقول: ((أإله مع الله))، وقال: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:63 - 64].
وفي هذه الآية قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] أي: كما أنكم -أيها المشركون- تقرون بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر، وهو الذي أنزل من السماء ماءً، وهو المنعم على عباده، فتقرون بهذا كله ولا تنكرونه، فأفردوه بالعبادة، فلماذا تشركون معه غيره؟! ولماذا لا تفردونه بالعبادة؟! فائدة: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات واحد؛ لأن فيهما إثبات حقيقة ذات الرب وأسمائه وصفاته، وهو التوحيد العلمي الخبري، وأما توحيد الإلهية فتوحيد ثانٍ، وهذا هو الأصل كما قال هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (التدمرية) وغيره، لكن لما كثر الاشتباه في الأسماء والصفات فأنكرت المعطلة الأسماء والصفات، فصل العلماء توحيد الأسماء والصفات عن توحيد الربوبية وجعلوه قسماً مستقلاً، وإلا فهما شيء واحد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) الحديث.
وكذا حديث معاذ: (أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) الحديث].
في حديث معاذ: (أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ فقال معاذ: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذبهم).
ففي حديث معاذ بيان للحقين: الحق الأول: حق الله، وهو حق إيجاب وإلزام، وليس للإنسان فيه خيرة، بل هو عبد لله مخلوق لعبادة الله، وأما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك فهو حق تفضل وإكرام منه سبحانه وتعالى، وهذا هو الحق الثاني، وقد أوجبه سبحانه على نفسه ولم يوجبه عليه أحد؛ لأنه ليس فوقه أحد سبحانه وتعالى، فأوجبه على نفسه من نفسه ولم يوجبه عليه أحد، كما كتب على نفسه الرحمة، وكما حرم على نفسه الظلم، فحرم على نفسه من نفسه، وكتب على نفسه الرحمة تفضلاً منه وإحساناً، كما قال القائل: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع(22/2)
التنديد الأصغر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث الآخر: (لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شاء فلان)].
هذا من التنديد الأصغر، وسيأتي أن التنديد نوعان: تنديد أكبر، وهو مخرج من الملة، وتنديد أصغر، وهو ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر، مثل: (ما شاء الله وشئت)، ولولا الله وأنت، كما سيأتي عن ابن عباس في تفسير الآية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال حماد بن سلمة: حدثنا عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لأمها قال: (رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت: من أنتم؟ فقالوا: نحن اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، قال: ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: هل أخبرت بها أحداً؟ قلت: نعم، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده)].
هذه الرؤيا أقرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها) جاء في بعض الروايات أنه كان يمنعه الحياء، وإنما منعه الحياء لأن الله لم يأمره بنهيهم عنها، ولو أمره الله بنهيهم عنها لما منعه الحياء، فكان هذا الأمر جائزاً في أول الإسلام، فكانوا يقولون: (ما شاء الله وشئت) في أول الهجرة، وكانوا يحلفون بآبائهم، ثم جاء النهي بعد ذلك عن الحلف بغير الله، والنهي عن قول (ما شاء الله وشئت)، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم ولا بالأنداد، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).
وقد كانت هذه الرؤيا سبباً في التشريع، وفيها أن اليهود والنصارى فهموا أن قوله المسلمين: (ما شاء الله وشاء محمد) من الشرك الأصغر، ولم يفهموا ولم يفقهوا ما هم عليه من الشرك الأكبر، فاليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، وهذا شرك أكبر وكفر وردة عن الإسلام، فأنكروا على المسلمين قولهم: ما شاء الله وشاء محمد، ولم ينظروا إلى ما هم فيه من الشرك الأكبر، وهذا يدل على أن الخاسر والخائب لا ينظر إلى عيبه وإنما ينظر إلى عيوب الآخرين.
وهذا من الأحاديث التي نقلها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في (كتاب التوحيد) في باب: (ما شاء الله وشئت).
وليس في الحديث السابق تأخير البيان عن وقت الحاجة، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يؤمر بأن ينهاهم، فقد كان هذا الأمر جائزاً في أول الإسلام، وكانت هذه الرؤيا سبباً في تشريع النهي عن قول (ما شاء الله وشئت)، فكانوا في الأول الأمر يقولون: ما شاء الله وشئت، وكانوا يحلفون بآبائهم، ثم استقرت الشريعة ونهي عن الحلف بغير الله، ونهي عن قول: ما شاء الله وشئت.
وفي الحديث دليل على أنه يجوز للإنسان أن يقول: (ما شاء الله ثم شئت)، فهناك فرق بين (الواو) و (ثم)؛ فالواو تفيد التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، أما (ثم) فإنها تفيد الترتيب والتراخي، والمعنى أن مشيئة الله أولاً ثم تأتي مشيئة المخلوق متراخية بعد مشيئة الله، أما الواو فإنها تفيد التشريك ولا تفيد الترتيب، فلهذا نهي عنها.
إذاً: فهناك ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يقول: ما شاء الله وشئت، وهذا شرك أصغر.
والحالة الثانية: أن يقول: ما شاء الله ثم شئت، وهذه جائزة.
والحالة الثالثة: أن يقول: ما شاء الله وحده، وهذه أفضل الحالات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة به، وأخرجه ابن ماجة من وجه آخر عن عبد الملك بن عمير به بنحوه.
وقال سفيان بن سعيد الثوري عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟ قل: ما شاء الله وحده)، رواه ابن مردويه، وأخرجه النسائي، وابن ماجة من حديث عيسى بن يونس عن الأجلح به.
وهذا كله صيانة، وحماية لجناب التوحيد، والله أعلم].
قوله: (ما شاء الله وحده) هذا هو الأكمل، وقوله: (أجعلتني لله نداً)، التنديد نوعان: تنديد أكبر، وتنديد أصغر، وهو كما جاء فيه الحديث: ما شاء الله وشئت، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر.(22/3)
عموم الأمر بعبادة الله تعالى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)) للفريقين جميعاً من الكفار والمنافقين، أي: وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم].
لا شك في أن هذا الأمر للفريقين: للمؤمنين والكفار، فكل واحد من الجن والإنس من المؤمنين والكفار مأمور بهذا الأمر: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)) أي: وحدوه وأخلصوا له العبادة، فليس لهم الخيرة في هذا.
وقد انقسم الناس إلى فريقين: فمنهم من أطاع الله، وهم الموحدون، ومنهم من أشرك بالله، وهم الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم، وهذا حاصل في أهل الأرض، وأما أهل السماء فهم كما قال الله {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبه عن ابن عباس: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر].
قوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) من الخطابات العامة التي تشمل كل أحد، والله تعالى يوجه الخطاب تارة بقوله: (يا أيها الذين آمنوا) كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]، وأحياناً بقوله: (يا أيها الناس)، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] كما في هذه الآية، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:33]، وهذا عام للمؤمنين وللكفار، وللذكور والإناث.
فكل واحد مأمور بأن يعبد الله ويوحده، وكل واحد مأمور بأن يتقي الله ويستقيم على طاعته، حتى ينقذ نفسه من النار.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوماً فقال: (يا أيها الناس!) وكانت أم سلمة لها ماشطة تمشطها، فقالت: كفي عني، وأرادت أن تسمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت الماشطة: إنه يقول: (يا أيها الناس، فقالت: أنا من الناس).
فقوله: (يا أيها الناس) يشمل الذكور والإناث، والمؤمنين والكفار من الثقلين.
والخطاب في قوله: (يا أيها الذين آمنوا) وجه إلى المؤمنين؛ لأنهم هم الذين يقومون بالأوامر والنواهي، وهم الذين ينقادون، وهم الذين ينتفعون، فلذلك وجه الخطاب إليهم، ويوجه خطاب في موضع آخر إلى الناس جميعاً.(22/4)
النهي عن الشرك بالله، وأمثلة الأصغر منه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبه عن ابن عباس: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه، وهكذا قال قتادة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا أبي عمرو حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: ((فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا)) قال: الأنداد هو الشرك، وهو أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك].
قوله: [حدثني أبي عمرو] هو والد أحمد بن عمرو، وقوله: [حدثنا أبي الضحاك بن عمرو] هو والد عمرو.
وهذا فيه دليل على أن هذا من التنديد الأصغر، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر، وذلك كالحلف بغير الله، مثل: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، وكقول الرجل: لولا كلبة هذا لأتى اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، فيضاف الشيء إلى السبب، وإن كان المسبب هو الله تعالى، والصواب أن يقول: لولا الله ثم هذا السبب.
وأما ما جاء في الحديث: (لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) فيحتمل أن بعض الرواة رواه بالمعنى، ويحتمل أن هذا كان أولاً قبل النهي عنه، كما كانوا في أول الأمر يحلفون بآبائهم، ثم نهوا عن الحلف بغير الله، وكما كان قبل النهي عن قول: ما شاء الله وشئت.
يقول ابن القيم في الميمية عن الصحابة: لولاهمو ما كان في الأرض مسكين ولولاهمو كادت تميد بأهلها وهكذا.
وقد نقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن إسناد الشيء إلى الأسباب هو كقولهم: كانت الريح طيبة والملاح حاذقاً، وغير هذا مما هو جار على ألسنة الكثير، نقل ذلك في كتاب التوحيد في قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83] ومثل قول بعضهم: السيارة جديدة، والسائق جيد إذا وصلوا -مثلاً- بسرعة، وكل هذا من الإضافة إلى السبب، والذي ينبغي هو أن يذكر المسبب، وهو الله، وهو المنعم سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما شاء وشئت.
فقال: أجعلتني لله ندا؟!)، وفي الحديث الآخر: (نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون تقولون: ما شاء الله وشاء فلان).
قال أبو العالية: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22] أي: عدلاء شركاء].
كل هذا -كما سبق- من التنديد الأصغر لا يخرج من الملة، وإنما هو وسيلة إلى الشرك الأكبر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد.
وقال مجاهد: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل].(22/5)
ذكر حديث الخمس الكلمات
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف -وكان يعد من البدلاء-].
يعني: من العلماء الذين يخلف بعضهم بعضاً، كما قال شيخ الإسلام في الوصية: (وفيهم الأبدال)، يعني: العلماء الذين يخلف بعضهم بعضاً، كلما ذهب عالم خلفه عالم، وهذا من خصائص هذه الأمة، فالعلماء في هذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل، فإنهم كانوا كلما هلك نبي خلفه نبي، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- هو آخر الأنبياء ليس بعده نبي، لكن الله جعل العلماء ورثة الأنبياء يخلفون الأنبياء، ويقومون مقام أنبياء بني إسرائيل، فهم يخلف بعضهم بعضاً.
قال: [قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء.
حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري -رضي الله عنه- أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطئ بها)].
وكان يحيى وعيسى ابني خالة، وكلاهما نبيان.
قال: [(فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهم وإما أن أبلغهن، فقال: يا أخي! إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي)].
وهذا من ورعه وتقواه عليه الصلاة والسلام، وإذا كان الذي يبطئ بالتبليغ يخشى عليه من العذاب والخسف، فكيف بمن يترك أوامر الله عن علم وعن بصيرة ويرتكب النواهي؟! وإذا كان الذي يبطئ في التبليغ يخشى عليه من العذاب والخسف لأنه تأخر في التبليغ، فكيف بمن كتم العلم؟! وكيف بمن ارتكب المحظور وترك الأوامر؟! لا شك في أن العقوبة أشد.
قال: [قال: (فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن، أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)].
وأصل الدين وأساس الملة توحيد الله وإخلاص العبادة لله، وهذا هو الأمر الذي خلق العباد من أجله، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، هذا هو الأمر الأول، وهو أهمها وأعظمها، وهو عبادة الله وإخلاص الدين له، وهو الأمر الذي جاءت به الرسل، ودعوا إليه أممهم.
قال: [(أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بورق أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟!)].
وهذا مثل المشرك، فإنه عبد سوء، فالمثال له كإنسان اشترى هذا العبد من خالص ماله بورق -أي: فضة- أو ذهب، وقال له: اعمل، فصار يعمل ويعطي الأجرة غير سيده، وكلنا لا يحب هذا، فهذا عبد سوء، وهو مثل المشرك بالله تعالى، فالله خلقك وأوجدك، وأنعم عليك بالنعم ورباك بنعمه، ثم تعبد غيره! قال: [(وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وآمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، وآمركم بالصيام؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)].
يقال: خُلوف، وخَلوف.
قال: (وآمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، وقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه، وآمركم بذكر الله كثيراً، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصينا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله)].
هذه أمور عظيمة: عبادة الله، والصلاة، والصيام، والصدقة، وذكر الله.
[قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع)].
الجماعة هي جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله.
والهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام باقية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، وأما الهجرة من مكة إلى المدينة فقد انتهت بعد فتح مكة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية).
فيجب لزوم جماعة المسلمين في معتقداتهم، وفي عباداتهم، وأوطانهم، والسمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله، وهذا هو قيد هذا الأمر، ومثله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فهو مقيد بقوله: (إنما الطاعة في المعروف) وقوله: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وفي الحديث الآخر: (على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)، والنصوص يقيد بعضها بعضاً، فالسمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله وفي الأمور المباحة، أما المعاصي فلا يطاع فيها أحد، وليس معنى ذلك الخروج، ولا يلزم منه الخروج، وإنما لا يطاع في المعصية، فالسيد إذا أمر عبده بالمعصية لا يطيعه، والوالد إذا أمر ابنه بالمعصية لا يطيعه، والزوجة إذا أمرها زوجها بالمعصية لا تطيعه، لكن لا يتمردون عليهم، وإنما لا يطيعونهم في المعاصي.
فإن قيل: هل ما زالت الهجرة على سبيل الإيجاب؟ ف
الجواب
نعم إذا كان لا يستطيع إظهار دينه في بلد الشرك، فيجب عليه أن يهاجر إذا استطاع، والله تعالى توعد من بقي بين أظهر الكفار بوعيد شديد فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]، واستثنى الله العاجز، فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:98 - 99]، وهذه الآية نزلت في جماعة في مكة كانوا يخفون إسلامهم ولا يستطيعون الهجرة، وأخرجهم الكفار معهم يوم بدر، حتى قتل بعضهم، فقال الصحابة: قتلنا بعض إخواننا، فأنزل الله فيهم هذه الآية، فالذي لا يستطيع الهجرة معذور، أما الذي يستطيع فليس له أن يبقى، حتى إن المرأة لها أن تهاجر ولو لم يكن معها محرم؛ لأن الهجرة مقدمة على المحرم، لأنها تخشى على دينها.
وإذا كان المرء لا يستطيع أن يظهر دينه وليس عليه خطر، أو كان داعية يسلم على يديه الخلق، فهذا مستثنى، وإظهار الدين ليس بالصلاة والصيام فقط، بل بأن يصلي ويرد الشبه التي ترد عليه، ويبين محاسن الإسلام، ويبين ما هم عليه من الباطل إذا اقتضى الحال.
وقوله: [(فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام)].
هذا دليل على أن الخروج على جماعة المسلمين وعلى ولاة الأمور من الكبائر، وفي الحديث الآخر: (فإنه من خرج من الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية).
وقوله: [(خلع رقبة الإسلام من عنقه)] هو من باب الوعيد عند أهل العلم، ويدل على أن ذلك من الكبائر، لا أنه يخرج من الملة.
[قال: (ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم)].
هذا وعيد شديد، فمن دعا بدعوى الجاهلية إلى قومية أو إلى عصبية أو إلى قبيلته أو نحو ذلك فهو من جثي جهنم، وفي الحديث الآخر (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهني أبيه ولا تكنوا) يعني: كما قال بعض الصحابة في الحديبية لـ عروة بن مسعود امصص بظر اللات، ولما حصل بعض الكلام بين بعض المهاجرين والأنصار فقال المهاجرون: يا للمهاجرين، وقال الأنصار: يا للأنصار؛ قال النبي: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة)، مع أن هذه أسماء إسلامية، فكيف بمن دعا إلى القبيلة الفلانية؟! فإذا قال: يا بني فلان فقد دعا إلى عصبية، ودعا إلى حرب، ولا شك في أن هذا يوجد النزاع والخلاف، ثم يوجد القتال والفرقة، وأشد من هذا من يدعو إلى القومية العربية، أو يدعو إلى الاشتراكية وما أشبه ذلك من الدعوات الكفرية، فهذه أعظم وأعظم، والمقصود أن الدعاء بدعوى الجاهلية من كبائر الذنوب، حتى ولو كانت أسماء إسلامية، فكيف إذا كانت أسماء كفرية.
وقد يقال: هل الجماعات تدخل في هذه التفرقة والعصبية؟
و
الجواب
نعم، إذا كان فيها تفرقة، أو كان بينهم نزاع فدعا هذا إلى جماعته، ودعا ذاك إلى جماعته، وصاروا يتنازعون، أما إذا كانت الجماعات كلها تعمل في سبيل الحق، وكان هذا التقسيم من باب تنظيم العمل فلا بأس، أما إذا كان بينهم نزاع وشقاق، وكان بينهم شحناء وبغضاء، فالواجب عليهم أن يتحاكموا إلى كتاب الله وسنة نبيه، وأن يجتمعوا ولا يتفرقوا، وينظر في كون الحق مع من، ثم الرجوع إلى كتاب الله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فيرجعون إلى العلماء ليبينوا لهم هذا، ولا يتنازعون، بل ينظر فيمن هو على الحق، فهذه الجماعة ينظر في منهجها هل هي موافقة للحق(22/6)
دلالة الآية الكريمة على توحيد الربوبية والإلهية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل بها كثير من المفسرين كـ الرازي وغيره على وجود الصانع تعالى، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى].
دالة بطريق الأولى لأن من عبد الله فلا بد من أن يقر بربوبيته وإلهيته؛ لأن توحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية، أما توحيد الربوبية فهو مستلزم لتوحيد الإلهية، فمن أقر بربوبية الله وأنه الخالق الرازق يلزمه أن يعبد الله، فما دمت تقر أنه هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت المتصف بالصفات العظيمة فإنه يلزمك أن تعبده وتصرف له العبادة، أما من وحد الله وأخلص له العبادة ففي ضمن ذلك إقراره بالربوبية، وهذه الآيات فيها الأمر بتوحيد الله وعبادته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهي دالة على ذلك بطريق الأولى؛ فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة؛ علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب وقد سئل: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان الله! إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير؛ فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير].
بلى والله، وهذه من الأدلة الحسية، والعقول التي ركبها الله في الخلق كذلك تدلهم على خالقهم سبحانه وتعالى، وهذه من الأدلة الحسية المشاهدة، كما لفت الرب سبحانه وتعالى النظر إليها.(22/7)
استدلال الإمام مالك على توحيد الربوبية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات والأصوات والنغمات].
ولا شك في أن هذا من الأدلة على وجود الله وقدرته، فكم لغة الآن في البلد الواحد؟! ففي الهند مئات اللغات، وكل أهل قرية فيها قد لا يعرفون اللغة الأخرى، بل في البلد الواحد تجد لغات ولهجات متعددة، وكذلك اختلاف النغمات، واختلاف الأشكال والصور، وذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم (مفتاح دار السعادة) ذلك، وقال: إنك تجد سرب القطا مشتبهاً لا تفرق بين هذا وهذا، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل فروقاً بين الآدميين، وذكر من الحكم والأسرار أنه لولا أن الله سبحانه جعل هذه الفروق لحصلت مفاسد عظيمة، فكيف يعرف هذا من هذا؟ وكيف يعرف الإنسان أباه من أمه؟! وكيف يعرف الإنسان زوجته؟! وكيف يعرف الإنسان أولاده إذا كان فيهم اشتباه، بحيث لا يعرف هذا من هذا، لكن لا بد من أن يكون هناك فرق، فهذا من حِكَمه، لا شك في أن ما ذكره الإمام مالك للرشيد من اختلاف اللغات والأصوات واختلاف الصور من الأدلة الواضحة على وجود الرب وقدرته ووحدانيته واستحقاقه للعبادة.(22/8)
استدلال الإمام أبي حنيفة على توحيد الربوبية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى فقال لهم: دعوني؛ فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها، وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد، فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: ويحكم! هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي، وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق، وأسلموا على يديه].
هذه القصة مشهورة عن أبي حنيفة ذكرها شارح الطحاوية وغيره، وأنه قال لهم: أخبروني عن سفينة في نهر دجلة تمشي وحدها من دون ملاح، وتقف وتفرغ, وتحمل البضاعة والأمتعة، ثم ترجع إلى الجهة الأخرى وتفرغ، وهكذا، فقالوا: هذا لا يقوله عاقل، فقال لهم: كذلك العالم العلوي والسفلي هل يدبر نفسه؟! والسماء من الذي أمسكها؟ وهل يمكن أن تقف من دون خالق؟! لماذا لا تسقط؟! والأرض من الذي أرساها؟! والبحار من الذي أوجدها؟ والنجوم من الذي أمسكها حتى لا تسقط؟! وهل العالم العلوي والسفلي يمشي من دون مدبر؟! {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] فبهتوا وانقطعوا وانتهت المناظرة، وهذه مسألة مشهورة أيضاً عن غيره، قيل: إنها مذكورة عن غير الإمام أبي حنيفة.(22/9)
استدلال الإمام الشافعي على توحيد الربوبية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد، تأكله الدود فيخرج منه الابريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعراً وروثاً، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك، وهو شيء واحد].
الظباء هي الغزلان، يخرج منها المسك، والمسك أحسن أنواع الطيب، تكون ورماً في الغزال مثل الكرة، تسقط ثم تسمى بعرة المسك، وإذا شقت طلع منها المسك، وهو جزء من دمها، ولهذا يقول الشاعر: فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال يقول: أنت من الناس، لكنك تفوقهم، كالمسك، فهو شيء من دم الغزال وفاقه، فلا يستغرب كونك من الناس وأنت فوقهم، كما لا يستغرب أن الغزال يخرج منه شيء من دمه يفوق الدم وهو المسك.(22/10)
استدلال الإمام أحمد على توحيد الربوبية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال: ههنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره، فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة].
ولا شك في أن هذا من العبر ومن الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله ووحدانيته واستحقاقه للعبادة، والأدلة على هذا كثيرة لا تحصى، والعالم العلوي والسفلي مليء بالآيات والعبر.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد(22/11)
التأمل في الملكوت ودلالته على الخالق جل جلاله
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد: تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك وقال ابن المعتز: فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وقال آخرون: من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة، ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها، كما قال تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:27 - 28]، وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع، وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة، والنبات المختلف الطعوم والأراييج والأشكال والألوان، مع اتحاد طبيعة التربة والماء؛ استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة، وحكمته ورحمته بخلقه، ولطفه بهم، وإحسانه إليهم، وبره بهم، لا إله غيره ولا رب سواه، عليه توكلت وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً].(22/12)
الأسئلة
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشاً، أي: مهداً كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات، ((وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)) وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32]، وأنزل لهم من السماء ماء -والمراد به السحاب هاهنا- في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد، رزقاً لهم ولأنعامهم، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن.
ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64]، ومضمونه أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)].
أول أمر في القرآن الكريم هو هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21]، وفي الآيات السابقة بيان أوصاف المؤمنين، وأوصاف الكفار ظاهراً وباطناً، وأوصاف المنافقين، ثم بعد ذلك وجه الله سبحانه وتعالى الأمر إلى عباده المؤمنين بأن يعبدوه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أي: وحدوه وأخلصوا له العبادة، وبيَّن سبحانه وتعالى أنه مستحق للعبادة؛ لما له من النعم العظيمة، فقد أوجد الخلق من العدم، وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة.
وقوله هنا: (اعبدوا ربكم) فيه توحيد العبادة، وقد استدل عليه بتوحيد الربوبية، فتوحيد الربوبية دليل على توحيد الإلهية، فالذي خلقكم وأوجدكم من العدم ورباكم بنعمه وأسبغ عليكم نعمه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه؛ لأنه المنعم والمتفضل والخالق، ويستحق العبادة لما له من الأسماء الحسنى والصفات العظيمة، فهو سبحانه وتعالى الحميد الرازق الرزاق المدبر الخالق المحيي المميت، ولأنه سبحانه وتعالى هو الذي أوجد الخلق من العدم، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.
وكثيراً ما يدلل سبحانه وتعالى على استحقاقه للعبادة بتوحيد الربوبية كما في هاتين الآيتين.
وفي سورة النمل دلل سبحانه وتعالى في آيات متعددة على استحقاقه للعبادة بتوحيد الربوبية، قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النمل:59 - 60].
ثم قال: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا} [النمل:61] الآية، وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] الآية، وفي كل آية يقول: ((أإله مع الله))، وقال: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:63 - 64].
وفي هذه الآية قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] أي: كما أنكم -أيها المشركون- تقرون بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر، وهو الذي أنزل من السماء ماءً، وهو المنعم على عباده، فتقرون بهذا كله ولا تنكرونه، فأفردوه بالعبادة، فلماذا تشركون معه غيره؟! ولماذا لا تفردونه بالعبادة؟! فائدة: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات واحد؛ لأن فيهما إثبات حقيقة ذات الرب وأسمائه وصفاته، وهو التوحيد العلمي الخبري، وأما توحيد الإلهية فتوحيد ثانٍ، وهذا هو الأصل كما قال هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (التدمرية) وغيره، لكن لما كثر الاشتباه في الأسماء والصفات فأنكرت المعطلة الأسماء والصفات، فصل العلماء توحيد الأسماء والصفات عن توحيد الربوبية وجعلوه قسماً مستقلاً، وإلا فهما شيء واحد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) الحديث.
وكذا حديث معاذ: (أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) الحديث].
في حديث معاذ: (أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ فقال معاذ: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذبهم).
ففي حديث معاذ بيان للحقين: الحق الأول: حق الله، وهو حق إيجاب وإلزام، وليس للإنسان فيه خيرة، بل هو عبد لله مخلوق لعبادة الله، وأما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك فهو حق تفضل وإكرام منه سبحانه وتعالى، وهذا هو الحق الثاني، وقد أوجبه سبحانه على نفسه ولم يوجبه عليه أحد؛ لأنه ليس فوقه أحد سبحانه وتعالى، فأوجبه على نفسه من نفسه ولم يوجبه عليه أحد، كما كتب على نفسه الرحمة، وكما حرم على نفسه الظلم، فحرم على نفسه من نفسه، وكتب على نفسه الرحمة تفضلاً منه وإحساناً، كما قال القائل: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع(22/13)
حكم الدولة الحاكمة بغير ما أنزل الله
السؤال
هل الدولة التي تحكم بغير ما أنزل الله كافرة؟
الجواب
هذا فيه كلام لأهل العلم، فبعض أئمة الدعوة يرى أن العبرة بالحكومة، وأنه إذا كانت الحكومة كافرة تسمى البلاد بلاد كفر، هذا إذا كانت لا تحكم شرع الله، وبعضهم يرى أن العبرة بالمسلمين وبالشعب، والشعب أكثر الناس.(22/14)
حكم الهجرة من بلاد المعاصي والبدع
السؤال
ما حكم الانتقال من بلاد أهل البدع مثل الروافض إلى بلاد السنة؟
الجواب
هذا مستحب عند أهل العلم، فالهجرة من بلد تكثر فيه المعاصي مستحبة، وذلك إذا لم يستطع تغييرها ولم يكن له تأثير، أما إذا كان له تأثير في تغييرها فطيب بقاؤه فيها، مثل أن يكون داعية، حتى في بلاد الكفار، فإذا كان داعية يسلم على يديه خلق كثير، فهذا شيء طيب، أما إذا خشي على نفسه فالهجرة من بلاد الكفار واجبة، والهجرة من بلد تكثر فيه المعاصي مستحبة.(22/15)
تفسير سورة البقرة [23 - 24]
القرآن كلام الله تعالى المعجز في لفظه ومعناه، وقد جعله الله تعالى آية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأثبت ذلك بتحدي المشركين -في زمن الفصاحة والبلاغة- أن يأتوا بمثله، بل بسورة منه، وقد عجز البشر عن ذلك إلى زماننا هذا، وهذا الإعجاز كائن في صغار سوره وكبارها، وإذا كان المرء عاجزاً عن معارضة كلام الله تعالى فعليه أن يقي نفسه شر العناد، فعاقبة ذلك نار وقودها الناس والحجارة.(23/1)
تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله)
قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23 - 24].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطباً للكافرين: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] يعني محمداً صلى الله عليه وسلم فأتوا بسورة من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله، فعارضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله، فإنكم لا تستطيعون ذلك].
هذا في بيان مناسبة هذه الآية للتي قبلها؛ لأن الآية الأولى في إثبات وحدانيته وإلهيته واستحقاقه للعبادة، وهذه الآيات في إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآية فيها التحدي لقريش والعرب وهم الفصحاء والبلغاء الذين بلغوا شأواً بعيداً، تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور فعجزوا، ثم تحداهم في هذه الآية أن يأتوا بسورة فعجزوا، فدل على أن ذلك من عند الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس: (شهداءكم): أعوانكم، وقال السدي عن أبي مالك: شركاءكم.
أي: قوماً آخرين يساعدونكم على ذلك، أي: استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم.
وقال مجاهد: (وادعوا شهداءكم) قال: ناس يشهدون به، يعني: حكام الفصحاء، وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49]، وقال في سورة سبحان: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، وقال في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13]، وقال في سورة يونس: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:37 - 38]، وكل هذه الآيات مكية، ثم تحداهم بذلك -أيضاً- في المدينة، فقال في هذه الاية: (وإن كنتم في ريب) أي: شك (مما نزلنا على عبدنا) يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، (فأتوا بسورة من مثله)].
وفي هذه وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعبودية، وأخص أوصافه العبودية والرسالة عليه الصلاة والسلام؛ فإن الله تعالى وصفه بالعبودية في المقامات العظيمة، فوصفه بذلك في مقام التحدي، كما في هذه الآية، وفي مقام الإسراء، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1]، وفي مقام الدعوة، فقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19].
فأشرف مقامات العبد العبودية، وأشرف مقامات الأنبياء العبودية والرسالة، والإنسان كلما حقق العبودية كان أقرب إلى الله عز وجل، وإذا ضعف في تحقيق العبودية بعد من الله عز وجل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [[{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] يعني: من مثل القرآن، قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير الطبري والزمخشري والرازي، ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري وأكثر المحققين، ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين، سواء في ذلك أميهم وكتابيهم، وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم، وبدليل قوله تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] وقوله: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88].
وقال بعضهم: من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: من رجل أمي مثله والصحيح: الأول؛ لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك؛ ولهذا قال تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) ولن لنفي التأبيد في المستقبل، أي: ولن تفعلوا ذلك أبداً].(23/2)
بيان ما تفيده (لن)
(لن) تأتي لنفي التأبيد في بعض المواضع، وفي بعضها لا تفيد التأبيد، وقد استدل المعتزلة على نفي رؤية الله بـ (لن) في قول الله تعالى لموسى لما قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، قال الله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، قال المعتزلة: (لن) هنا لنفي التأبيد في المستقبل، والمعنى: أن الله لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة.
ورد عليهم أهل السنة بأن هذا باطل، فـ (لن) هنا ليست لنفي التأبيد، والدليل على أنها ليست لنفي التأبيد أن الله تعالى أخبر أن اليهود لن يتمنوا الموت في الدنيا فقال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95] ثم أخبر أنهم تمنوه في الآخرة فقال: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، فدل على أنها لا تفيد دوام النفي في الآخرة، حتى ولو أكدت بالتأبيد، كما قال تعالى: (ولن يتمنوه أبداً) فأكد (لن) بالتأبيد، ومع ذلك تمنوه في الآخرة، فالقول بأنها للتأبيد دائماً قول ضعيف، ولهذا يقول ابن مالك في الألفية: ومن رأى النفي بلن مؤبداً فقوله اردد وسواه فاعضدا يعني: هذا قول ضعيف، وهو قول من رأى أن النفي بـ (لن) أنه يفيد التأبيد، فليست للتأبيد؛ لأنها لو كانت للتأبيد لما حدد الفعل بعدها، في مثل قول الله تعالى عن إخوة يوسف: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80] فبقوله: (حتى) دل على أنه مؤقت، لكن الظاهر أنها قد تفيد التأبيد في بعض المواضع، كما في هذه الآية، وذلك بحسب القرائن والأدلة، وفي هذه الآية هي للتأبيد ولا شك {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] أي: لا يستطيعون هذا أبداً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولن لنفي التأبيد في المستقبل، أي: ولن تفعلوا ذلك أبداً، وهذه -أيضاً- معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً مقدماً غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين].
يعني الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه بوحي من الله.(23/3)
القرآن الكريم كلام الله المعجز
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك وقع الأمر، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن؛ وأنى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين، ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه، أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحاذى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواءً بسواء، وأمر بكل خير ونهى عن كل شر، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] أي: صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدىً ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: إن أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئاً إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي الدقيق، أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيه بيتاً أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد، وسائرها هذر لا طائل تحته].
الشيء الهذر: ما لا قيمة له، مثل الإنسان حينما يهذر، أي: يتكلم بشيء لا يفيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلاً وإجمالاً ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حلا وعلا].
ولا شك في ذلك، فمثلاً: قصة ثمود قوم صالح ذكرها الله في مواضع مختصرة، كما في سورة: (والشمس وضحاها)، حيث قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:11 - 15]، فما أحلى سياق هذه القصة وما أبلغ وجازتها، وفي سور أخرى بسطها الله، وكذلك قصة موسى مع فرعون وقومه بسطها الله في مواضع، واختصرها في مواضع، كقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:15 - 16] فهي هنا مختصرة، وبسطها في مواضع أخرى، وهذا واضح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لا يخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات].
كما قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان].
قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويشوق إلى دار السلام].
كما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:25].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، وقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71]، وقال في الترهيب: {أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء:68]، {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17]، وقال في الزجر: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40]، وقال في الوعظ: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207]، إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا) فارعها سمعك؛ فإنها خير يؤمر به، أو شر ينهى عنه، ولهذا قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]، الآية، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال، وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم بشرت به، وحذرت وأنذرت، ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا، ورغبت في الأخرى، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم، ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الايات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) لفظ مسلم].
يعني بذلك المعجزة العظيمة، وإلا فقد آتاه الله معجزات كثيرة، لكن أعظمها هذا القرآن، وإلا فقد آتاه الله معجزات كثيرة، منها نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام، وغير ذلك من الآيات الكثيرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما كان الذي أوتيته وحياً) أي: الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه، بخلاف غيره من الكتب الإلهية، فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء، والله أعلم، وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به مالا يدخل تحت الحصر، ولله الحمد والمنة، وذلك مثل التوراة والإنجيل، فليسا بمعجزين في لفظهما مثل القرآن.(23/4)
تقرير وجه الإعجاز القرآني
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصرفة].
الصَرفة والصِرفة معناها أن الله صرفهم عن معارضة القرآن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقال: إن كان هذا القرآن معجزاً في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته فقد حصل المدعى، وهو المطلوب].
يعني تحديهم في الإتيان بمثل القرآن، فقد حصلت الدعوى، وهو أنهم لا يستطيعون أن يعارضوه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له كان ذلك دليلاً على أنه من عند الله؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك].
وهذا معنى الصرف، يعني أنه صرفهم مع قدرتهم، لكن هذا ليس بصحيح، فالصواب أنه كان عندهم قدرة، لكن ما استطاعوا، لم يجدوا مساغاً ولم يجدوا طريقاً للمعارضة، ولم يجدوا فيه خللاً، ولم يجدوا فيه نقصاً حتى يعارضوه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية -لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا- إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق، وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار، كالعصر، و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]].
وقد يقال هنا: ما وجه بطلان أقوال مسيلمة؟
و
الجواب
قول مسيلمة واضح بطلانه لكل أحد، حتى عند أتباعه، فإنهم قالوا له: نعلم أنك كذاب.(23/5)
بيان معنى قوله تعالى: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]، أما الوقود -بفتح الواو- فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، كما قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15]، وقال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:98 - 99]، والمراد بالحجارة هاهنا: هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة، وهي أشد الأحجار حراً إذا حميت أجارنا الله منها].
الوقود ما توقد به النار، نسأل الله السلامة والعافية، والله تعالى أخبرنا أن وقود نار جهنم الناس والحجارة، ولم يبين لنا ما هي هذه الحجارة، هل هي حجارة الكبريت أو غيرها؟ وهذا يحتاج إلى دليل، والمؤلف رحمه الله ذكر آثاراً، لكن ليس فيها حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما قوله: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15]، فالقاسطون: هم الظالمون، من (قَسَطَ) فهو قاسط، من الثلاثي، أما (المقسطون) فهي من (أقسط) من الرباعي، فهم العادلون، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين)، وفرق بين القاسط والمقسط، فالقاسط هو الظالم، يقال: قسط فهو قاسط، وأما (أقسط) فمتعدٍ بالهمزة، يقال: أقسط فهو مقسط، وهو العادل، والفرق بينهما أن هذا ثلاثي وهذا متعد.
وفيه أن أهل النار يلقون في النار هم ومعبوداتهم من دون الله، كما قال سبحانه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، فما عبد من دون الله يلقى في النار مع عابديه زيادة في تعذيبهم، فمن عبد الشمس يلقى في النار معها، وكذلك القمر، وكذلك الحجارة التي تعبد، إلا الأنبياء والصالحين فمن عبد من دون الله وهو لم يرض، فليس كذلك، ولهذا قال سبحانه بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الملك بن ميسرة الزراد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24] قال: هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين.
رواه ابن جرير -وهذا لفظه- وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه وقال على شرط الشيخين].
ويحتمل أنه أخذه عن بني إسرائيل، وإن كان أخذ ابن مسعود رضي الله عنه عن بني إسرائيل قليلاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: (اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) أما الحجارة فهي من كبريت أسود يعذبون به مع النار.
وقال مجاهد: حجارة من كبريت أنتن من الجيفة، وقال أبو جعفر محمد بن علي: حجارة من كبريت.
وقال ابن جريج: حجارة من كبريت أسود في النار، وقال لي عمرو بن دينار: أصلب من هذه الحجارة وأعظم].
ولا شك في أنها عظيمة تليق بعظم جنهم، نسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: المراد بها: حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] الآية، حكاه القرطبي والرازي، ورجحه على الأول].
لا شك في أن الحجارة التي تعبد من دون الله تكون في جهنم، كما قال الله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، لكن الحجارة التي هي وقود النار غير الحجارة التي تعبد من دون الله، فالحجارة التي تعبد من دون الله تجعل في جهنم مع عابديها زيادة في تعذيبهم، والحجارة الأخرى هي حجارة من وقود جهنم، نعوذ بالله، ونسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول، قال: لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمستنكر، فجعلها هذه الحجارة أولى].
يعني الحجارة المعبودة من دون الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الذي قاله ليس بقوي، وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها، ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك، ثم أخذ النار بهذه الحجارة أيضاً مشاهد، وهذا الجص يكون أحجاراً فيعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك، وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها، وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها وشدة ضرامتها وقوة لهبها، كما قال تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]].
ولا شك في أن الحجارة حجارة من وقود جهنم، وهي غير الحجارة المعبودة من دون الله، فالحجارة المعبودة من دون الله تلقى في النار مع من عبدها، كما تلقى الشمس والقمر وجميع المعبودات، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، لكن الأنبياء والصالحين ممن عبد من دون الله وهو يرفض مسنثنون، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها، قال: ليكون ذلك أشد عذاباً لأهلها، قال: وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مؤذٍ في النار)، وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف، ثم قال القرطبي: وقد فسر بمعنيين: أحدهما: أن كل من آذى الناس دخل النار، والآخر: أن كل ما يؤذي في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك].
وعلى كل إذا كان الحديث غير محفوظ فلا حاجة للمعنيين، فالحديث ليس بصحيح، ولو كان محفوظاً فإنه يبحث عن تأويله، أما إذا كان ليس بصحيح وغير محفوظ فلا حاجة إلى تأويله.
وقد ذكر الزمخشري والخطابي في ترجمة عثمان الأشج المعروف بـ ابن أبي الدنيا وابن عساكر في تاريخ دمشق: ذكر أنه سمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قال الخطيب: وعثمان عندي ليس بشيء، قال ابن حجر في اللسان: عثمان بن الخطاب أبو عمرو البلوي المغربي أبو الدنيا الأشج، ويقال: ابن أبي الدنيا، وقال: كذاب طرقي -يعني: من الطرقية الصوفية- حدث بعد الثلاثمائة وادعى السماع من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وعلى كل حال فـ الأشج المعمر كذاب من باب رتن الدجال.
فالحديث موضوع مكذوب، وإذا كان موضوعاً فلا حاجة إلى الاشتغال بتأويله، فقد قال رحمه الله: وله معنيان، إذاً: هذا التعليق من الحافظ، وعلى هذا فلا لوم على القرطبي لأنه ظن أن له أصلاً، فلذلك ذكر في تأويله معنيين.(23/6)
بيان معنى قوله تعالى: (أعدت للكافرين)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] الأظهر أن الضمير في (أعدت) عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة، ويحتمل عوده إلى الحجارة، كما قال ابن مسعود، ولا منافاة بين القولين في المعنى؛ لأنهما متلازمان، و (أعدت) أي: رصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله، كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: (أعدت للكافرين) أي: لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر.
وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن؛ لقوله تعالى: (أعدت) أي: أرصدت وهيئت، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، منها: (تحاجت الجنة والنار) ومنها: (استأذنت النار ربها فقالت: رب! أكل بعضي بعضاً.
فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف)، وحديث ابن مسعود: (سمعنا وجبة فقلنا: ما هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها وهو عند مسلم)].
كل هذه الأدلة تدل على أن النار موجودة الآن، خلافاً للمعتزلة أهل البدع القائلين بأنها معدومة الآن، فالمعتزلة يقولون: إن الجنة والنار معدومتان، ولا تخلقان إلا يوم القيامة، ويقولون: إن خلقهما الآن عبث، والعبث محال على الله.
هكذا فهموا بعقولهم السخيفة يقولون: وجود الجنة والنار عبث، والعبث محال على الله، وإنما يخلقهما الله يوم القيامة، وهذا من أبطل الباطل، فالنصوص واضحة -كما ذكر المؤلف- أنهما مخلوقتان الآن، ثم من قال: إنهما معطلتان؟! ليستا معطلتين، فالجنة فيها الحور وفيها الولدان وفيها أرواح المؤمنين وأرواح الشهداء، قال رسول الله صلى الله علي وسلم: (ويفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها) والنار ليست معطلة، ففيها أرواح الكفرة تعذب في النار، ويفتح للكافر باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، نعوذ بالله.
ثم إن هناك أمراً أخر، وهو إعداد الجنة وإعداد النار، فإن إعداد الجنة للمؤمنين أسبق إلى النعيم، ويكون حادياً لهم، وإعداد النار للكفار أيضاً فيه زجر لهم وردع لهم، وفرق بين ما دلت عليه النصوص من أن النار معدة للكفار، والجنة مهيئة، وبين ما إذا قيل: إنهما تخلقان يوم القيامة ولا يكون الزجر والردع والتشويق مثلما إذا كانتا معدتين الآن ومهيأتين، لكن المعتزلة من أجهل الناس، ضرب الله على عقولهم، ويضربون بالنصوص عرض الحائط، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى].
حديث الإسراء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (دخلت الجنة ليلة الإسراء) فرأى كذا وكذا، واطلع على النار ورأى فيها الزناة يعذبون، ورأى فيها المرابي يعذب، ورأى فيها جماعة من العصاة، وهذا عذاب في البرزخ، وكذلك في الكسوف مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط، وتقدم الصفوف وأراد أن يأخذ عنقوداً دلي له، وتأخر فتأخرت الصفوف، وقال: إن النار مثلت له، وكل هذا يدل على أنهما موجودتان ومخلوقتان الآن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا، ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس].(23/7)
تنبيه ينبغي الوقوف عليه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تنبيه ينبغي الوقوف عليه.
قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] وقوله في سورة يونس: {بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38] يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أم قصيرة؛ لأنها نكرة في سياق الشرط، فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه].
هذه مسألة أصولية، وهي أن النكرة في سياق النفي أو الشرط تعم، ومن ذلك حديث: (لا تدع صورة إلا طمستها)، فـ (صورة) نكرة في سياق النهي تعم، وهذا هو قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله عنه، فتشمل أي صورة مجسمة أو غير مجسمة، لها ظل أو ليس لها ظل، فتوغرافية كانت أو باليد أو بالرسم في الجدار أو في الورق، هذا هو مقتضى القاعدة الأصولية، ثم الطمس إنما يكون في الشيء الذي يكون في الورق، وفيه رد على من قال: إنها لا تحرم إلا الصورة التي لها ظل، وهي المجسمة، وكذلك قوله تعالى هنا: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] أي: سورة طويلة أو قصيرة، وفيه الرد على من قال: إنه لا يتحدى إلا بالسورة الطويلة، فهذه من فوائد المباحث الأصولية والقواعد الأصولية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، وهذا لا أعلم فيه نزاعاً بين الناس سلفاً وخلفاً، وقد قال الرازي في تفسيره: فإن قيل: قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] يتناول سورة الكوثر، وسورة العصر، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن، فإن قلتم: إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدار البشر كان مكابرة، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين، قلنا: فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني، وقلنا: إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن كذلك كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزاً، فعلى التقديرين يحصل المعجز.
هذا لفظه بحروفه، والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة، قال الشافعي رحمه الله: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]].
وفي لفظ أنه قال: لو ما أنزل الله على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم يعني: هذه السورة فيها بيان صفات الرابحين وصفات الخاسرين، حيث قال تعالى: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1] قسم من الله، {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] والإنسان اللام فيه للجنس، أي: جنس الإنسان في خسر، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] و (الذين آمنوا) يعني: الذين وحدوا الله، وأخلصوا له العبادة، (وعملوا الصالحات) أدوا الواجبات وانتهوا عن المحرمات، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3] أوصى بعضهم بعضاً بالحق والمعروف والخير.
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [البلد:17] شملت الخير كله، فالتوحيد وعمل الصالحات يشتملان جميع أصول الدين وفروعه، فهي شاملة، ولهذا قال الشافعي: لوما أنزل الله على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم، وقامت بها الحجة عليهم.
والرازي يقول: القصار يمكن الإتيان بمثلها.
كما في تفسيره مفاتيح الغيب، وهذا ليس بصحيح، فـ الرازي له أغلاط وله أخطاء، حتى قال بعضهم: إن كتابه مفاتيح الغيب في التفسير فيه كل شيء إلا التفسير، ففيه الطب، وفيه الفلك، وفيه الفلسفة، وفيه الجغرافيا، والزراعة، والتجارة، وكل شيء فيه إلا التفسير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روينا عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل علي مثلها.
فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب].
وكان هذا قبل أن يسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وقد ادعى النبوة مسيلمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتبعه بنو حنيفة وافتتنوا به فتنة عظيمة، حتى إن الصحابة رضوان الله عليهم قاتلوهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فوقفوا مع مسيلمة وقفة شديدة، حتى قتل مجموعة كبيرة من القراء، وخاف الصحابة من ذهاب القراء، وجمع أبو بكر رضي الله عنه القرآن، ثم بعد ذلك هزمه الله وقتله الله على يد الصحابة رضوان الله عليهم، وأسلم بنو حنيفة.(23/8)
تفسير سورة البقرة [25 - 27]
يخبر الله تعالى عباده المؤمنين بما أعد لهم من نعيم مقيم، فلهم في الجنة ما تشتهي أنفسهم، ولا يمكن للإنسان أن يتخيل ما يعطاه المؤمن في الجنة لأنه لا تشابه بين ما خلق الله في الدنيا وما خلق في الآخرة من النعيم إلا بالأسماء فقط، وكل ذلك أعده الله لمن آمن به ولم يخرج عن طاعته وينقض عهده.(24/1)
تفسير قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات)
قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله، الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء، كما سنبسطه في موضعه].
مثاني: يعني تثنى فيه القصص والأخبار، وتذكر فيه صفة أهل الجنة، ثم بعدها صفة أهل النار، ويذكر فيه حال السعداء وحال الأشقياء، وتثنى فيه قصة موسى عليه السلام، وقصة إبراهيم، كذلك قصة ثمود قوم صالح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه، وحاصله: ذكر الشيء ومقابله، وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه إن شاء الله].
ذكر الشيء ومقابله كالسعداء يقابلهم الأشقياء، والمؤمنون يقابلهم الكفار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:25] فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار، أي: من تحت أشجارها وغرفها، وقد جاء في الحديث: (أن أنهارها تجري في غير أخدود) وجاء في الكوثر: (أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف)، ولا منافاة بينهما، فطينها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر، نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم.
وقال ابن أبي حاتم: قرأ عليَّ الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا أبو ثوبان عن عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنهار الجنة تفجر من تحت تلال -أو من تحت جبال-المسك)، وقال أيضاً: حدثنا أبو سعيد حدثنا وكيع عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال: قال عبد الله: أنهار الجنة تفجر من جبل مسك].
والمسك أحسن أنواع الطيب، وأنهار الجنة تفجر من تحت جبال المسك، نسأل الله من فضله، ثم أيضاً مسك الآخرة ليس كمسك الدنيا، فالمسك في الدنيا الآن من أحسن أنواع الطيب؛ ولهذا فإن المسك يؤخذ أصلاً من دم الغزال، من ورمة تخرج في الغزال تسقط وتؤخذ ثم تشق، وتسمى الفأرة مثل الكرة يخرج منها المسك، ولهذا يقول الشاعر يمدح بعض الخلفاء: فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال تخرج ورمة في الغزال مثل الكرة، ثم تسقط أو تؤخذ، فإذا فتحت في وسطها المسك.
قال ابن أبي حاتم: قرئ على الربيع بن سليمان قال في الحاشية: هو أبو محمد الربيع بن سليمان المرادي، قال ابن أبي حاتم: سمعناه منه وهو صدوق ثقة.
إذاً: يحتمل أنه قرئ عليه وهو يسمع، ويكون من القراءة؛ لأن القراءة على الشيخ أو السماع من الشيخ نوعان: نوع يقرأ التلميذ والشيخ يسمع، وأحياناً يقرأ الشيخ والتلميذ يكتب، أو يقرأ وهو يسمع ويكون مع غيره، كما يقول الإمام مسلم: حدثنا، يعني: مع غيره، ومحتمل أنه قرأ هو عليه، وعلى هذا يكون من شيوخه، ويحتمل أنه قرأ عليه أحد أقرانه وهو يسمع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25]، قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قالوا: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25]) قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة، فلما نظروا إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، وهكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ونصره ابن جرير.
وقال عكرمة: (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) قال: معناه: مثل الذي كان بالأمس، وكذا قال الربيع بن أنس وقال مجاهد: يقولون ما أشبهه به، قال ابن جرير: وقال آخرون: بل تأويل ذلك: هذا الذي رزقنا من قبل ثمار الجنة من قبل هذا؛ لشدة مشابهة بعضه بعضاً لقوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25] قال سنيد بن داود: حدثنا شيخ من أهل المصيصة عن الأوزاعي].
المصيصة بالتشديد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: يؤتى أحدهم بالصحفة من الشيء فيأكل منها].
والصحفة هي الإناء الذي يوضع فيه الشيء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم يؤتى بأخرى فيقول: هذا الذي أتينا به من قبل، فتقول الملائكة: كل، فاللون واحد، والطعم مختلف].
وسنيد بن داود بن السجزي: اسمه حسين، وهو ضعيف مع إمامته ومعرفته، لكونه كان يلقن الحجاج بن محمد وسنيد يحتمل أين يكون لقباً.
وخبره فيه جهالة؛ لأنه حدث عن شيخ من أهل المصيصة مجهول ومبهم، إذاً: فالخبر ضعيف لكنه يتقوى بالآثار الأخرى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عامر بن يساف عن يحيى بن أبي كثير قال: عشب الجنة الزعفران، وكثبانها المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها ثم يؤتون بمثلها، فيقول لهم أهل الجنة: هذا الذي أتيتمونا آنفاً به، فتقول لهم الولدان: كلوا، فاللون واحد، والطعم مختلف.
وهو قول الله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25].
وقال أبو جعفر الرازي: عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25] قال: يشبه بعضه بعضاً ويختلف في الطعم.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك.
وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة، في قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25] يعني: في اللون والمرأى، وليس يشتبه في الطعم.
وهذا اختيار ابن جرير].
وهذا هو الأقرب، فهم يؤتون بأنواع الفواكه والأطعمة، وتتشابه في اللون وتختلف في الطعم واللذة والرائحة، قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل أي: في الجنة.
أما القول بأن قوله تعالى: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25] يعني: في الدنيا فهو قول مرجوح، فأهل الجنة يؤتون مثلاً بالفواكه والأطعمة اليوم، ثم يؤتون بها غداً، فيقولون: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25]، أي: بالأمس، وذلك أن التشابه موجود في اللون، ولكن الطعم واللذة والرائحة مختلف.
نسأل الله الكريم من فضله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عكرمة {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25] قال: يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب.
وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس: لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء].
فإن في الجنة نخيلاً، وفي الدنيا نخيلاً، وفي الجنة أعناباً وفي الدنيا أعناباً، لكنها تختلف عن بعضها، فنخيل الجنة ليست من الحطب ولا من الخشب، بل من الذهب، وكذلك اللون والطعم والرائحة فإنه مختلف، فقوله: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا في الأسماء، أي: لا يتفقان إلا في الأسماء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي رواية: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، ورواه ابن جرير من رواية الثوري وابن أبي حاتم من رواية الثوري وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش به، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25]] قال: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا: التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان، قالوا في الجنة: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25] في الدنيا، {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25]، يعرفونه وليس هو مثله في الطعم].
إذاًَ: ففي معنى الآية قولان لأهل العلم: القول الأول: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25] أي: في الدنيا.
والقول الثاني: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25] أي: في الجنة قبل أمس، وهذا اختيار ابن جرير وهو الأقرب، فالتشابه في اللون، أما الطعم واللذة والرائحة فمختلفة، أما ما في الدنيا فيشبهه في الاسم فقط،(24/2)
أقوال أهل العلم في معنى (أزواج مطهرة)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة:25] قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: مطهرة من القذر والأذى.
وقال مجاهد: من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد.
وقال قتادة: مطهرة من الأذى والمأثم.
وفي رواية عنه: لا حيض ولا كلف].
والكلف هو: مرض يكون في الوجه كالصفرة وغيرها، ويحتمل أنها لا كلاف، أي: لا مشقة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك.
وقال ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: المطهرة: التي لا تحيض، قال: وكذلك خلقت حواء عليها السلام، فلما عصت قال الله تعالى: إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة.
وهذا غريب].
لأنها أكلت من الشجرة، أما نساء أهل الجنة فلا شك أنها مطهرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني جعفر بن محمد بن حرب وأحمد بن محمد الخوري].
في لسان الميزان خوري، وفي الميزان جوري، فيحتمل أن له نسبتين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قالا: حدثنا محمد بن عبيد الكندي حدثنا عبد الرزاق بن عمر البزيعي حدثنا عبد الله بن المبارك عن شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة:25]، قال: (من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق) هذا حديث غريب.
وقد رواه الحاكم في مستدركه عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن علي بن عفان عن محمد بن عبيد به، وقال: صحيح على شرط الشيخين.
وهذا الذي ادعاه فيه نظر؛ فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي قال فيه أبو حاتم بن حبان البستي: لا يجوز الاحتجاج به.
قلت: والأظهر أن هذا من كلام قتادة كما تقدم، والله أعلم].
قول الحاكم إنه صحيح على شرط الشيخين فيه نظر، فـ الحاكم رحمه الله كان متساهلاً، فقد ألف المستدرك على الصحيحين وله فيه أوهام كثيرة، فقد يقول: هذا على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهو موجود في الصحيحين، وأحياناً يقول: على شرط الشيخين، وليس على شرط الشيخين.
ولذلك قيل: إنه رحمه الله كتب المستدرك مسودة، وأراد أن ينقحه ويغيره فاخترمته المنية، ولهذا حصل فيه أغلاط كثيرة.
أما البزيعي فقد جاء في التقريب أنه عبد الرزاق بن عمر البزيعي بموحدة مفتوحة وزاي، صدوق من العاشرة.
وهنا قال فيه أبو حاتم بن حبان البستي: لا يجوز الاحتجاج به، فاختلفت فيه أقوال الأئمة، واختار الحافظ أنه صدوق، وقد يكون حاله أقل من هذا؛ لأن الحافظ رحمه الله في التقريب قد لا يوافق في حكمه على بعض الرجال.
والصواب أن معنى مطهرة أي: مطهرة من البول والغائط والحيض والنفاس.(24/3)
اختلاف أهل العلم في حصول الولد في الجنة
اختلف أهل العلم: هل تكون الولادة في الجنة أو لا تكون؟ على قولين ذكرهما العلامة ابن القيم في الكافية الشافية، فمن العلماء من قال: إنه يكون في الجنة ولادة؛ لما جاء في بعض الأحاديث: أن المؤمن إذا اشتهى الولد كان حمله وفطامه وشبابه في ساعة.
وقال آخرون: ليس في الجنة ولد، والأقرب أنه ليس هناك حمل ولا ولادة في الجنة وهو ظاهر الأدلة كما ذكر ابن القيم.
إن نساء الجنة مطهرة من البول والغائط والحيض والنفاس والنخاع إلى آخره، ولو قيل: بأن الجنة فيها ولد فلا يلزم منه الحيض والنفاس فالله تعالى على كل شيء قدير، وقد جاء في بعض الآثار أن الحمل والولادة يكون في ساعة واحدة، وفي قصة الرجل الذي اشتهى الزرع فكان نباته وحصاده في ساعة واحدة أو في لحظات، ولكن أهل الجنة عندهم أولادهم الذين كانوا في الدنيا، وعندهم من الولدان ومن الحور ما يغنيهم.
يقول تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ} [الزخرف:71]؟ قد لا يشتهون فعندهم ما يكفيهم، كما قال بعض السلف، وقال بعضهم في قوله صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر لم يشربه في الآخرة): إنه إذا دخلها لا يشربها ولا يشتهيها، والأقرب أن هذا من باب الوعيد، ومن تاب تاب الله عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] هذا هو تمام السعادة، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع، فلا آخر له ولا انقضاء، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام، والله المسئول أن يحشرنا في زمرتهم، إنه جواد كريم، بر رحيم].
إن الدنيا ليس فيها خلود، ولهذا قال بعض السلف: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتمسوا نعيماً لا موت فيه.
والجنة ليس فيها موت، ولا نوم -لأن النوم أخو الموت- ولا مرض، ولا هموم ولا غموم ولا شيخوخة ولا هرم، بل صحة دائمة وشباب دائم، وسرور دائم.
نسأل الله الكريم من فضله.
إن شيخ الإسلام يرى أن النار لا تفنى، ولكن ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح ذكر أقوالاً لبعض السلف أنها تفنى وكلها ضعيفة، وحملها بعض أهل العلم -على فرض صحتها- على الطبقة التي فيها العصاة فإنها هي التي تفنى، أما طبقة الكفرة فلا تفنى، وذكر في ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل أقوالاً وأطال فيها الكلام وكأنه يميل إلى أنها تفنى، وله قول آخر على أنها تبقى، ويحتمل أن له في المسألة قولان وأنه رجع عن أحد القولين.
أما شيخ الإسلام فقد صرح بأبديتها.
وقد كتب أحد الإخوان رسالة نوقشت ونفى نفياً قاطعاً هذا القول عن الشيخين، لكن ابن القيم كما تقدم قد نقل نقولاً وأيدها بتأييدات تدل على أنه يختار القول بفناء النار، وله مباحث أخرى تدل على أنه لا يختاره، ويحمل على أنهما قولان له كما تقدم، وأنه رجع عن أحد القولين، وهذا هو الأقرب.(24/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة)
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:26 - 27].
قال المصنف رحمه الله: [قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين -يعني قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17]، وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:19] الآيات الثلاث- قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27].
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، وقال سعيد عن قتادة: أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئاً مما قل أو كثر، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]].
وفي هذه الآية إثبات صفة الحياء لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته، وكذلك في قول الله تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53] قالت أم سليم للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نعم.
إذا رأت الماء) وفي الحديث الذي رواه البخاري في قصة الثلاثة الذين أتوا وهو يحدث الناس، قال: (أما أحدهما: فآوى فآواه الله، وأما الثاني: فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث: فأعرض، فأعرض الله عنه).
فالحياء ثابت لله كما يليق بجلاله وعظمته، {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53] ولا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة، ولا يستحي من الحق سبحانه وتعالى؛ ولهذا أدب الله المؤمنين بأنهم إذا جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم وانتهوا من الطعام أن ينتشروا؛ لأن ذلك يؤذي النبي وهو يستحي، والله لا يستحي من الحق.
نزلت هذه الآية في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بـ زينب كما في البخاري وأنه أشبعهم عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم خبزاً ولحماً، وأنهم دخلوا وأكلوا، ولما انتهوا جلس جماعة يتحدثون، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يستريح فوجدهم يتحدثون، فذهب إلى بيت عائشة وتبعه أنس ولم ينتبهوا له، ثم رجع فوجدهم، ثم لما جاء في المرة الثانية قاموا، فأنزل الله هذه الآية: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53] ففيه إثبات الحياء لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته.(24/5)
أقوال أهل العلم في قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية وليست كذلك، وعبارة رواية سعيد عن قتادة أقرب والله أعلم.
وروى ابن جرير عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة.
وقال ابن أبي حاتم: روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا أن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنت ماتت، وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن إذا امتلئوا من الدنيا رياً أخذهم الله عند ذلك، ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] هكذا رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية بنحوه، فالله أعلم.
فهذا اختلافهم في سبب النزول، وقد اختار ابن جرير ما حكاه السدي؛ لأنه أمس بالسورة، وهو مناسب، ومعنى الآية: أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي، أي: لا يستنكف، وقيل: لا يخشى أن يضرب مثلاً ما].
مثلاً ما يعني: أي مثل، وما: نكرة ويحتمل أنها وصف لمثل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: لا يخشى أن يضرب مثلاً ما، أي: أي مثل كان بأي شيء كان صغيراً كان أو كبيراً، و (ما): هاهنا للتقليل وتكون {بَعُوضَةً} [البقرة:26] منصوبة على البدل، كما تقول: لأضربن ضربًا ما، فيصدق بأدنى شيء، أو تكون (ما) نكرة موصوفة ببعوضة، واختار ابن جرير أن (ما) موصولة، و {بَعُوضَةً} معربة بإعرابها].
وهذا الذي اختاره ابن جرير مرجوح، فليست بموصولة، والصواب أنها نكرة، فلو قلت: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً الذي بعوضة، فلا يستقيم الكلام، فقوله: (مثلاً ما بعوضة) الصحيح فيه أن بعوضة بدل من (ما) أو وصف لـ (ما).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وذلك سائغ في كلام العرب أنهم يعربون صلة (ما) و (من) بإعرابهما؛ لأنهما يكونان معرفة تارة، ونكرة أخرى، كما قال حسان بن ثابت: يكفى بنا فضلاً على من غيرنا حب النبي محمد إيانا].
الشاهد: أنه جعل غيرنا صلة لمن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: ويجوز أن تكون {بَعُوضَةً} منصوبة بحذف الجار، وتقدير الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة إلى ما فوقها، وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء.
وقرأ الضحاك وإبراهيم بن عبلة: بعوضة بالرفع، قال ابن جني: وتكون صلة لـ (ما) وحذف العائد، كما في قوله: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام:154] أي: على الذي هو أحسن وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً].
ابن جني هذا نحوي معروف له كتاب الخصائص.
وقد أطال الحافظ ابن كثير رحمه الله في الإعراب إطالة ليس لها لزوم.(24/6)
أقوال أهل العلم في قوله تعالى: (فما فوقها)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] فيه قولان: أحدهما: فما دونها في الصغر والحقارة، كما إذا وصف رجل باللؤم والشح فيقول السامع: نعم، وهو فوق ذلك، يعني فيما وصفت.
وهذا قول الكسائي وأبي عبيد قاله الرازي وأكثر المحققين، وفي الحديث: (لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
والثاني: ((فَمَا فَوْقَهَا)) لما هو أكبر منها؛ لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة.
وهذا قول قتادة بن دعامة واختيار ابن جرير، فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة).
فأخبر أنه لا يستصغر شيئًا يضرب به مثلاً ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، كما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها، كما ضرب المثال بالذباب والعنكبوت في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:24 - 27]، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:75] الآية، ثم قال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل:76] الآية، كما قال: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم:28] الآية.
وقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر:29] الآية].
فكل هذه الأمثال ضربها الله في القرآن، وذلك لأن الأمثال فيها فوائد عظيمة ينتقل الإنسان بها من الحس إلى الأمر المعنوي.(24/7)
انقسام الناس تجاه الأمثال التي ضربها الله في القرآن
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وفي القرآن أمثال كثيرة.
قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي؛ لأن الله قال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
وقال مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها.
وقال قتادة: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:26] أي: يعلمون أنه كلام الرحمن، وأنه من عند الله.
وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك.
وقال أبو العالية: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:26] يعني: هذا المثل: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة:26] كما قال في سورة المدثر: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]].
وهذا السؤال فيه اعتراض على الله سبحانه.
نسأل الله العافية.
فلما قالوا: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة:26]، أنكر الله عليهم، فالواجب على المسلم الإيمان والتسليم، وأن يقول: سمعنا وأطعنا وليس له أن يعترض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قال هاهنا: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] قال السدي في تفسيره: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26].
يعني به: المنافقين، {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26]، يعني به: المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم؛ لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم، وأنه لما ضرب له موافق فذلك إضلال الله إياهم به.
{وَيَهْدِي بِهِ} [البقرة:26] يعني: بالمثل، كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانًا إلى إيمانهم، لتصديقهم بما قد علموه حقاً يقيناً أنه موافق لما ضربه الله له مثلاً وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] قال: هم المنافقون.
وقال أبو العالية: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] قال: هم أهل النفاق.
وكذا قال الربيع بن أنس.
وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] قال: يقول: يعرفه الكافرون فيكفرون به.
وقال قتادة: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] فسقوا، فأضلهم الله على فسقهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي عن إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن سعد {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26] يعني: الخوارج.
وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد قال: سألت أبي فقلت: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:27] إلى آخر الآية، فقال: هم الحرورية.
وهذا الإسناد وإن صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فهو تفسير على المعنى، لا أن الآية أريد منها التنصيص على الخوارج الذين خرجوا على علي بالنهروان، فإن أولئك لم يكونوا حال نزول الآية، وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل؛ لأنهم سموا بالخوارج لخروجهم عن طاعة الإمام والقيام بشرائع الإسلام].
هذه الآية الكريمة: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] عامة لكل من انطبق عليه هذا الوصف، والفاسق يشمل الكافر والعاصي، والفاسق: من الفسق وهو الخروج عن طاعة الله عز وجل.(24/8)
أنواع الفسق
الفسق ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: فسق أكبر: وهو فسق الكفر، كما في هذه الآية فإنه يشمل الكفار، والحرورية وهم الخوارج، وسموا بالحرورية لأنهم سكنوا في بلدة تسمى: حروراء في العراق، فنسبوا إليها، والمعنى ما ثبت عن سعد بن أبي وقاص أن الخوارج يشملهم هذا الوصف، وإلا فإنهم ما وجدوا إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وهكذا فأهل الإيمان يزدادون إيماناً بما أنزل الله من الآيات والحجج، وبما ضرب الله من الأمثال، أما الفاسقون والخارجون عن طاعة الله فإنهم يزدادون ضلالاً والعياذ بالله، كما قال الله تعالى عن اليهود والنصارى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة:64] فما أنزل الله من الهدى والوحي يزداد به أهل الإيمان إيماناً، وأما أهل الكفر فيزدادون به كفراً إلى كفرهم، فالقرآن الذي هو هدى وشفاء ونور لا يزداد به الكفرة إلا كفراً وطغياناً، قال سبحانه: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125] نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله أن يهدي قلوبنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والفاسق في اللغة: هو الخارج عن الطاعة أيضًا.
وتقول العرب: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرتها؛ ولهذا يقال للفأرة: فويسقة؛ لخروجها عن جحرها للفساد.
وثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور)، فالفاسق يشمل الكافر والعاصي].
وسميت هذه فواسق لأنها خرجت على غيرها وعن طبيعتها بالأذى، فهي مؤذية.
ومادة الفاء والسين والقاف تدل على الخروج، وفسقت الرطبة: خرجت من قشرتها، وسميت الفارة فويسقة: لأنها خرجت من جحرها وخرجت عن طبيعتها وذلك بالأذى فتفسد وتخرب، وكذلك جميع هذه الخمس كلها فواسق، ولهذا جاز قتلها في الحل والحرم، فالغراب فاسق لأنه يأكل سنبل الزرع، وينقض الدبرة التي على ظهر البعير، فكلما بدأ الجرح يندمل نقره فعاد من جديد، وهذا من فسقه، والعقرب معروف أنها تلدغ، والحية كذلك، والكلب العقور يعقر الناس، وكذلك الحدأة فإنها تخطف الأشياء وتأخذ ما تراه من الأحمر كاللحم وغيره، فكل هذه فواسق، وسميت فواسق لخروجها عن غيرها بالأذى، وكل ما هو فاسق يلحق بها، مثل السام ويسمى: ظافور فهو كذلك فاسق لما فيه من مادة السم وغيرها، فيقتل أيضاً، وكل مؤذٍ فاسق، فليحق به جميع المؤذيات من الفواسق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن فسق الكافر أشد وأفحش].
لأن فسق الكافر فسوق كفر، والقسم الثاني: فسق أصغر وهو فسق المعصية: فالعاصي فسقه فسق معاصي مع وصف الإيمان؛ لخروجه عن الطاعة وارتكابه لبعض المعاصي، أما الكافر ففسقه كامل، أي: فسق كفر والعياذ بالله، وهو أشد وأفحش.(24/9)
ذكر اختلاف المفسرين في معنى العهد الذي وصف الفاسقون بنقضه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمراد به من الآية الفاسق الكافر والله أعلم، بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27]، وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين كما قال تعالى في سورة الرعد: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:19 - 21] الآيات، إلى أن قال: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25]، وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه، فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.
وقال آخرون: بل هي في كفار أهل الكتاب، والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه: هو ما أخذ الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك: هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته، وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلا.
وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وهو قول مقاتل بن حيان].
وهذا هو القول الثالث.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية: جميع أهل الكفر والشرك والنفاق، وعهده إلى جميعهم في توحيده: ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه: ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا: ونقضهم ذلك: تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق، وروي عن مقاتل بن حيان أيضاً نحو هذا، وهو حسن، وإليه مال الزمخشري فإنه قال: فإن قلت: فما المراد بعهد الله؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد، كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم، وهو معنى قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة:40].
وقال آخرون: العهد الذي ذكره تعالى: هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] الآيتين].
وهذا هو القول الرابع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونقضهم ذلك: تركهم الوفاء به.
وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضاً، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره].
والراجح هو القول الأول.
وهو أن المراد وصية الله وعهده إلى جميع عباده من المؤمنين والكفار، عهد إليهم أن يستجيبوا لأمره، وأن يتبعوا الرسل، وأن ينقادوا لشرعه وأوامره ونواهيه.
والقول الثاني: أنه في أهل الكتاب.
والثالث: أنه في جميع الكفار.
والرابع: أنه الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم حين أخرجهم من صلب أبيهم آدم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:27] إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27] قال: هي ست خصال من المنافقين، إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا.
وكذا قال الربيع بن أنس أيضًا.
وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:27] قال: هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه].
وهذا هو القول الخامس أي: شرك المنافقين.
فالأقول كلها إذاً قيل: إنها في أهل الكتاب، وقيل في جميع الكفار، وقيل: في المنافقين.
وقيل: إن المراد به الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم وهو أشمل، وقيل: إنها وصية الله إلى جميع الناس.(24/10)
أقوال أهل العلم في قوله تعالى (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27] قيل: المراد به: صلة الأرحام والقرابات كما فسره قتادة، كقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] ورجحه ابن جرير، وقيل: المراد أعم من ذلك، فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه].
وهذا هو الصواب، وهو أنه عام يشمل صلة الأرحام وغيرها من كل ما أمر الله به أن يوصل، ومما أمر الله أن يؤتى به، فدخل في ذلك صلة الأرحام وغيرها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مقاتل بن حيان في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27] قال: في الآخرة، وهذا كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25]، وقال الضحاك عن ابن عباس: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل: خاسر، فإنما يعني به: الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به: الذنب].
والخسران: يكون خسران كامل: وهو خسران الكفار، وخسران ناقص: وهو خسران المؤمن العاصي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27] الخاسرون: جمع خاسر: وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته، يقال منه: خسر الرجل يخسر خسراً وخسراناً وخساراً، كما قال جرير بن عطية: إن سليطاً في الخسار إنه أولاد قوم خلقوا أقنة].
وسليط قبيلة من القبائل، والأقنة: جمع قن: وهو العبد إذا ملكه أبوه.
فالعبد يسمى قن، ومنه الحديث: (أن العبد قن ما بقي عليه درهم) أي: لا يزال عبداً حتى ولو اشترى نفسه من سيد فهو لا يزال عبد ما بقي عليه درهم، فإذا خلص نفسه خرج من العبودية وصار حراً، وقن جمعها: أقنه.
والمعنى: أنهم خلقوا أرقاء وعبيد.
وفي القاموس المحيط: السليط: الزيت، وكل دهن عصر من حب، والفصيح مدح للذكر ذم للأنثى، والحديد من كل شيء، واسم وأبو قبيلة والسلطان: الحجة وقدرة الملك، وتضم لامه والوالي مؤنث لأنه جمع سليط للدهن كأن به يضيء الملك أو لأنه بمعنى الحجة، وقد يذكر ذهاباً إلى معنى الرجل.(24/11)
تفسير سورة البقرة [28 - 29]
يستنكر الله سبحانه على من يعصيه ويكفر به ويدعوه إلى النظر في خلق نفسه كيف أن الله أماته ثم يحييه ثم يميته ثم يحييه، ثم يدعوه إلى التفكر في قدرة الله سبحانه في خلق السماوات والأرض، فإذا نظر الإنسان في الآيات الدالة على قدرة الله في الآفاق والأنفس دعاه ذلك إلى أن يخاف من ربه ولا يعصيه ويعبده ولا يشرك به.(25/1)
تفسير قول الله تعالى: (كيف تكفرون بالله وقد كنتم أمواتاً فأحياكم)
قال الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى محتجاً على وجوده وقدرته وأنه الخالق المتصرف في عباده: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة:28] أي: كيف تجحدون وجوده، أو تعبدون معه غيره، {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة:28] أي: وقد كنتم عدماً فأخرجكم إلى الوجود، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:36] وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، والآيات في هذا كثيرة.
وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} [غافر:11] قال: هي التي في البقرة: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28]، وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة:28]: أمواتاً في أصلاب آبائكم لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم يحييكم حين يبعثكم.
قال: وهي مثل قوله تعالى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11] قال: كنتم ترابًا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة].
وقوله: (مَيتة) بفتح الميم، أما مِيتة بالكسر فتكون للهيئة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: كنتم تراباً قبل أن يخلقكم فهذه مَيتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى.
فهذه ميتتان وحياتان، فهو كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28]].
قوله: هذه حياة الأحسن فيها: هذه إحياءة، والمعنى متقارب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا روي عن السدي بسنده عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة وعن أبي العالية والحسن ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نحو ذلك.
وقال الثوري عن السدي عن أبي صالح: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] قال: يحييكم في القبر ثم يميتكم.
وقال ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: خلقهم في ظهر آدم ثم أخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، وذلك كقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} [غافر:11]، وهذا غريب والذي قبله].
القول بأنه أماتهم في القبر ثم أحياهم، أو أنه أماتهم بعد أن أخرجهم من ظهر آدم، ثم أحياهم: هذان القولان غريبان، والصواب القول الأول، وهو أن المراد: كانوا عدماً حينما كانوا تراباً، وذلك أنهم كانوا عدماً في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم أحياهم الله بأن نفخ فيهم الروح في بطون أمهاتهم، ثم يميتهم الميتة التي كتبها الله على كل إنسان بقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، ثم يحييهم يوم القيامة فهذه ميتتان وحياتان: الميتة الأولى: حينما كان الناس عدماً، أي: كانوا تراباً، ويدخل في هذا كونهم أمواتاً في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، هذه الميتة الأولى، ثم أحياهم حينما أرسل الله الملك إلى كل جنين في بطن أمه فينفخ فيه الروح وهذه الحياة الأولى، وتستمر إلى وفاته، وهذه هي الموتة التي كتب الله عليه وهي الموتة الثانية، ثم يحيون يوم القيامة، فهذه ميتتان وحياتان، وهذا القول هو الصواب، وهو المراد من قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11].
أما القول بأن الله أحياهم في عالم الزرع، ثم أماتهم ثم أحياهم في أرحام أمهاتهم، أو القول بأنه أحياهم في القبر فهذا قول ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا غريب والذي قبله، والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس وأولئك الجماعة من التابعين وهو كقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الجاثية:26] الآية، كما قال تعالى في الأصنام: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:21] الآية.
أي: أن الأرض كانت ميتة ثم أحياها الله، فالأرض ميتة والأصنام كذلك أموات.(25/2)
اختلاف أهل العلم في قول الله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم)
هذه الآية فيها قولان مشهوران، أطال فيها الحافظ ابن كثير رحمه الله، ونقلهما شارح الطحاوية: القول الأول: أن الله أخرج ذرية آدم أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم، وأنطقهم فشهدوا ثم أعادهم، ولكن كل إنسان لا يذكر ذلك إلا إذا جاءت الرسل وذكرته بذلك، والحجة إنما تقوم عليهم بالرسل، وهذا يدل عليه أحاديث كثيرة بعضها فيه ضعف، وقد سردها شارح الطحاوية، وفيها: أن الله استخرج ذرية آدم أمثال الذر، وأنطقهم وأشهدهم فشهدوا ثم أعادهم، ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: (أن الله تعالى يقول للكافر يوم القيامة: لو كان لك مثل الأرض أكنت مفتدياً؟ قال: نعم.
فيقول: قد أخذت عليك في ظهر آدم أدنى من ذلك: ألا تشرك بي فأبيت إلا أن تشرك به شيئاً) وهذا من أقوى الأدلة، ومنها حديث رواه الإمام أحمد في مسنده: (أن الله تعالى استخرج ذرية آدم، وقال: هذه ذريتك، فرأى فيهم رجلاً له نور، فقال: من هذا؟ قال: هذا من ذريتك يقال: إنه داود، فقال: يا رب كم عمره؟ قال: ستون، قال: يا رب أعطه من عمري أربعين، فأعطاه أربعين، فلما تمت المدة جاء ملك الموت إلى آدم فقال: أما بقي من عمري أربعين، قال: إنك أعطيتها ابنك داود، فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم وجحدت ذريته).
وهناك أدلة كثيرة في هذا.
والقول الثاني: أن الإخراج معنوي، وأن المراد ما ركزه الله في عقول بني آدم من معرفتهم لربهم، وأن كل من بلغ ورأى هذه المخلوقات العظيمة وهذه الآيات استدل بها على قدرة الله ووحدانيته، وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] قال: المراد: من كل واحد عندما يخرج من بطن أمه ويبلغ.
ورجح بعض أهل العلم هذا القول، وقالوا: إن الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172] قال فيها: (من ظهورهم) ولم يقل من ظهره (وأشهدهم).
وعلى كل حال فالأحاديث في ذلك كثيرة، ويمكن الجمع بين ذلك بأن الله تعالى استخرج ذرية آدم أمثال الذر، وأن الله أيضاً ركز في عقول كل بني آدم معرفته والإقرار به سبحانه وتعالى، وهذه الأحاديث صريحة في هذا.
فالقول الثاني: قالوا: إنه أرجح، ولكن أصحاب القول الأول هابوا مخالفة الأحاديث لكثرتها.
وظاهر الأدلة: أن الاستخراج حسي، ولا يمنع هذا من أن كل من بلغ عرف ربه، وكل من ميز وجعل الله فيه فهماً وعقلاً فأنه يستدل بالآيات والمخلوقات العظيمة على قدرة الله ووحدانيته واستحقاقه للعبادة.(25/3)
تفسير قول الله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً)
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] قال المصنف رحمه الله: [لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ذكر دليلاً آخر مما يشاهدونه من خلق السموات والأرض].
مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الآية الأولى ذكر الله فيها دليلاً من أنفسهم، يقول تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة:28] فكل واحد يرى هذا من نفسه، بعد ذلك ذكر سبحانه دليلاً آخراً مما يشاهدونه في الآثار وفي السموات والأرض فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ} [البقرة:29] وهذا فيه دليل على قوة الله ووحدانيته واستحقاقه للعبادة، فأنت تشاهد نفسك الآن فقد كنت ميتاً فأحياك الله ثم يميتك ثم يحييك يوم القيامة.
إذاً: فالدليل الثاني على وحدانية الله هو الآية الأفقية: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29].(25/4)
بيان معنى الاستواء في الآية وكيفية خلق السماوات والأرض
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:29] أي: قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا مضمن معنى القصد والإقبال؛ لأنه عدي بـ (إلى) {فَسَوَّاهُنَّ} [البقرة:29] أي: فخلق السماء سبعاً، والسماء هاهنا اسم جنس، فلهذا قال: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29]].
أي: لا منافاة فالاستواء معناه: العلو والارتفاع وهو مضمن معنى القصد، والمعنى: أنه سبحانه علا وارتفع وقصد إلى خلق السموات والأرض، بخلاف الاستواء الذي عدي بـ (على) فإن معناه: العلو والارتفاع والاعتدال، كقوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:13] ومعنى استوى على العرش: أي: علا وارتفع وصعد واستقر، والاستواء يليق بجلاله عز وجل وجل وعظمته، ومعناه: العلو والارتفاع، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] عديت بـ (إلى) فصارت مضمنة معنى القصد، فيكون معنى استوى: علا وارتفع وقصد إلى خلق السموات والأرض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] أي: وعلمه محيط بجميع ما خلق، كما قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14] وتفصيل هذه الآية في سورة (حم) السجدة، وهو قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:9 - 12]].
وهذه السورة لها اسمان: تسمى: السجدة، وتسمى: فصلت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاً، ثم خلق السماوات سبعًا، وهذا شأن البناء: أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك].
فالله سبحانه خلق الأرض أولاً، ثم خلق السماء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد صرح المفسرون بذلك، كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله.
فأما قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:27 - 33] فقد قيل: إن (ثم) هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر لا لعطف الفعل على الفعل كما قال الشاعر: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده إن الدحي كان بعد خلق الأرض، قال تعالى: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:27 - 30] أي: بعد خلق الأرض، فخلق الله الأرض أولاً، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، فالدحي كان بعد خلق السموات والأرض.
وقول ابن كثير: إن (ثم) هاهنا إنما هي للعطف، المقصود بها: (ثم) التي في سورة البقرة في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:29]، أما الآية التي في سورة النازعات فليس فيها (ثم)، وكذلك آية فصلت فهي واضحة صريحة في أن خلق الأرض كان أولاً: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:9 - 11]، {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:29] و (ثم): للترتيب والتراخي، وليس في هذه الآية إشكال.
هذا الاستواء كان بعد خلق الأرض، والأشكال الوارد هنا: هو أن خلق الأرض كان أولاً، ثم بعد ذلك خلق السماء، ولكن آية النازعات ظاهرها أن السماء خلقت أولاً، ثم خلقت الأرض فلهذا أجاب ابن كثير رحمه الله عن هذا الإشكال، أما الآية التي في سورة البقرة فلا يوجد فيها إشكال، بل الإشكال في آية النازعات، وقوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30] أي: بعد خلق السماء.
إذاً: فمفهوم الآية: أن الأرض خلقت أولاً، ثم خلقت السماء، ثم دحا الله الأرض، فالدحي هو الذي تأخر، وقد تقدم خلق الأرض قبل خلق السماء، ولذلك قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30]، والدحي فسره بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:31 - 32] فالدحي: إخراج الماء والنبات.
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت:10]، بينته آية النازعات.
والمقصود بقوله: عطف الخبر على الخبر أي: ليس المراد به الترتيب، وهذا ليس له محمل إلا أن يقال: إما إنه وهم من الحافظ رحمه الله، أو يقال: إنه أراد آية فصلت وأن مراده عطف الخبر على الخبر في قوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} [فصلت:9] ثم قال: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا} [فصلت:10] وقوله: (وجعل) الواو فيها للعطف، إلى أن قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:11] أي: أن (ثم) للعطف، حيث عطف خلق السماء على قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت:10]؛ لأنه ذكر خلق الأرض، ثم ذكر الدحي بالواو، ثم ذكر خلق السماء بـ (ثم)، والترتيب هو: أنه خلق الأرض أولاً، ثم خلق السماء، ثم الدحي، والجواب عن هذه الآيات التي في سورة فصلت: هو قوله: إن (ثم) للعطف، من عطف الخبر على الخبر ليس من عطف الفعل على الفعل، وليس المراد منها ترتيب الأفعال، أي: أنه أخبر أولاً عن خلق الأرض، ثم أخبر ثانياً عن دحي الأرض، ثم أخبر ثالثاً عن خلق السماء، فهو مجرد عطف خبر على خبر وليس فعل على فعل، بدليل آية النازعات فإن فيها الترتيب، وهو أن الدحي كان بعد خلق السماء، ولهذا قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30]، فيمكن أن يحمل على هذا، وإن كان الظاهر أن مراده آيات النازعات، ولكن ليس فيها ثم، والواو في: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30] ليست بمعنى ثم، بل هي بعدية وصريحة في أنها بمعنى (بعد)، (والأرض بعد ذلك) يعني: بعد خلق السماء، فالإشارة إلى خلق السماء.
أما قول الشاعر: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده.
ففيه بيان أن سيادة الأب والجد قبل الابن، ومع ذلك عطف سيادة الأب على سيادة الابن، وعطف سيادة الجد على سيادة الأب، فالسابق هو الجد، ثم يليه الأب، ثم يليه الابن، لكن الشاعر أتى بسيادة الابن، ثم سيادة الأب، ثم سيادة الجد، وأتى بـ (ثم) التي تدل على الترتيب والتراخي، ولكن لا يمكن أن تكون سيادة الأب بعد الابن، فدل على أن المراد بـ (ثم) مجرد عطف الخبر على الخبر وليس عطف الفعل على الفعل.
فكذلك هاهنا في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:11] ليس المراد بها الترتيب، وإنما المراد بها مجرد عطف خبر على خبر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: إن الدحي كان قبل خلق السموات والأرض، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً غير ما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء فسما عليه، فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضاً واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والإثنين، فخلق الأرض على حوت، والحوت هو الذي ذكره الله في القرآن: {ن وَالْقَلَمِ} [القلم:1]].
أي: أن الحوت اسمه النون المذكور في قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان لي(25/5)
تقدم خلق الأرض على خلق السماء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آية السجدة: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:9 - 12].
فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعًا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة: أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض].
وهذا إجماع من أهل العلم على أن الله تعالى خلق الأرض أولاً، ثم خلق السماء، وأما ما روي عن قتادة بشأن أن السماء خلقت أولاً فلا يعول عليه، وهذا كالإجماع من أهل العلم، وهو صريح الآية، حيث إن الله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء ثم دحى الأرض بعد ذلك.(25/6)
دليل من يقول بتقدم خلق السماء على الأرض والرد عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن قتادة: أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:27 - 32].
قالوا: فذكر خلق السماء قبل الأرض.
وفي صحيح البخاري: أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا].
ما سرده القرطبي له وجه؛ لأنه أشكل عليه أن الله تعالى ذكر خلق السماء في آية النازعات قبل الأرض.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد حررنا ذلك في تفسير سورة النازعات، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:30 - 32]، ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية، دحى بعد ذلك الأرض، فأخرجت ما كان مودعًا فيها من المياه، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير -أيضًا- من رواية ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر، يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل)].
فعلى هذا تكون الأيام السبعة كلها في خلق الأرض، وهذا حديث باطل، وإن رواه الإمام مسلم فهو من وهم الرواة، وهو أيضاً من كلام كعب الأحبار، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إذ وهم أيوب بن خالد فرفعه، وأما أبو هريرة فرواه عن كعب، وكعب يأخذ عن بني إسرائيل، وهذا مناقض للآيات، فيوم السبت ليس فيه خلق، وإنما خلقت المخلوقات يوم الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، بنص القرآن كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق:38]، أولها الأحد وآخرها الجمعة، ثم قال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، وقال في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [السجدة:4]، فالخلق في ستة أيام، أولها الأحد وآخرها الجمعة، والله قادر على خلقها في الأحد، فهو حكيم سبحانه وتعالى، والمراد بالأيام في الآية: الأيام هذه على الصحيح، خلافاً لقول بعض أهل العلم أنها الأيام التي عند الله، كألف سنة مما تعدون؛ لأن الله خاطبنا بما نعلم.
سبق أن الحافظ رحمه الله ذكر في أول التفسير أن أخبار بني إسرائيل على ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما جاء شرعنا بإبطاله فهو باطل ومنه هذا.
والثاني: ما جاء شرعنا بموافقته، فهذا ثابت، والثالث: ما سكت عنه شرعنا، وهذا هو الذي لا يصدق ولا يكذب.
والمقصود أن هذا الحديث وإن كان في صحيح مسلم، فهو وهم من أيوب بن خالد، إذ رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار لا عن رسول الله، كما ذكر ذلك المحققون والأئمة كـ البخاري وعلي بن المديني والحافظ ابن كثير وغيرهم من المحققين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعاً، وقد حرر ذلك البيهقي].(25/7)
تفسير سورة البقرة الآية [30]
الله تعالى هو أحكم الحاكمين، خلق الإنسان في هذه الأرض واستخلفه فيها لينظر كيف يصنع، ولتظهر آثار رحمة الله وعظمته وقدرته في خلق عباده وامتحانهم بما يحصل بينهم من تنازع وافتتان في هذه الدنيا.
وقد أوجب الله على أهل الأرض بعد أن رضوا بالإسلام ديناً أن يكون لهم خليفة واحد يحكم بينهم بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج عن هذا الخليفة وإن فسق وعصى وظلم إلا أن يأتي كفراً بواحاً فيجوز حينئذ الخروج عليه عند الاستطاعة.(26/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
قال المصنف رحمه الله: [يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} [البقرة:30]، أي: واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة، واقصص على قومك ذلك.
وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية وهو أبو عبيدة أنه زعم أن "إذ" هاهنا زائدة، وأن تقدير الكلام: وقال ربك.
ورده ابن جرير.
قال القرطبي: وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج: هذا اجتراء من أبي عبيدة].
أبو عبيدة مع أنه لغوي ومعروف عند أهل اللغة إلا أنهم خطأوه في هذا، والصواب أن المعنى: واذكر، فإذ هنا ليست زائدة، وإنما هي معروفة، ومعناها معروف في اللغة العربية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، أي: قوماً يخلف بعضهم بعضا قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} [الأنعام:165]، وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، وقال {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60]، وقال {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم:59].
وقرئ في الشاذ: (إني جاعل في الأرض خليقة) حكاها الزمخشري وغيره.
ونقل القرطبي عن زيد بن علي، وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام، فقط].
والقراءة السابقة إذا كان معناها صحيح، فتحمل على أنها تفسير، مثلما جاء في مصحف عبد الله بن مسعود في كفارة اليمين صوم ثلاثة أيام متتابعات، فقوله: متتابعات يحمل على أنها تفسير، ومثله ما جاء في مصحف عائشة حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى صلاة العصر يحمل على أنه تفسير، ولا يثبت على أنه قراءة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام، فقط كما يقوله طائفة من المفسرين، وعزاه القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل، وفي ذلك نظر، بل الخلاف في ذلك كثير، حكاه الرازي في تفسيره وغيره.
والظاهر أنه لم يرد آدم عيناً؛ إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30]، فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم، ويردعهم عن المحارم والمآثم، قاله القرطبي.
أو أنهم قاسوهم على من سبق، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك.
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه].
سؤال الملائكة عن حكمه، وليس اعتراضاً على الله، فهم عليهم الصلاة والسلام لا يعترضون على الله، كما قال الله، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27].
فإن الله لما أخبرهم أنه سيكون خليفة في الأرض، قالوا: يا ربنا! ما الحكمة في خلق هذا الخليفة؟ فهل سيكون منهم فساد، أو سفك للدماء؟، إن كانوا كذلك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقاً، قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها، فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] الآية، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا! ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي لك كما سيأتي، أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا
السؤال
{ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، والعباد، والزهاد، والأولياء، والأبرار، والمقربون، والعلماء العاملون، والخاشعون، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم.
وقد ثبت في الصحيح: أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون.
وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام: (يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل).
فقولهم: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، وقيل: معنى قوله تعالى جواباً لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، أن لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، وقيل: إنه جواب لقولهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، فقال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، أي: من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به.
وقيل: بل تضمن قولهم: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] طلباً منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم، فقال الله تعالى لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم.
ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة، والله أعلم].
وعلى كل حال، فالسؤال عن استكشاف الحكمة، وليس اعتراضاً على الله، وظاهر الآية، {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، يعني: من الحكمة في وجود هذا الخليفة، وأنه سيحصل منهم الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون، والعلماء، والعاملون، إلى غير ذلك من حكمته سبحانه وتعالى في خلق بني آدم.(26/2)
أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه: قال ابن جرير: حدثني القاسم بن الحسن قال: حدثني الحجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن وأبي بكر، عن الحسن وقتادة، قالوا: قال الله للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، قال لهم: إني فاعل.
وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك.
وقال السدي: استشار الملائكة في خلق آدم.
رواه ابن أبي حاتم].
هذه الاستشارة لا محل لها هنا، ولا وجه لها، لكن يحمل على أن المراد أخبرهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروي عن قتادة نحوه، وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل].
هذه الآثار فيها تساهل؛ لأن المستشير هو الذي لا يعرف وجه الحكمة من الشيء، أما الله تعالى فهو لا يخفى عليه شيء، بل هو عليم بكل شيء، ولهذا قال: وإني أعلم ما لا تعلمون.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن، والله أعلم.
{فِي الأَرْضِ} [البقرة:30]، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دحيت الأرض من مكة، وأول من طاف بالبيت الملائكة، فقال الله: إني جاعل في الأرض خليفة، يعني مكة)، وهذا مرسل، وفي سنده ضعف، وفيه مدرج، وهو أن المراد بالأرض مكة، والله أعلم].
هذا الحديث حديث مرسل؛ لأن عبد الرحمن بن سابط تابعي فهو مرسل.
وضعيف؛ لأن فيه عطاء بن السائب وقد اختلط، وفيه مدرج وهو قولهم: إنها مكة، فقوله: دحيت الأرض من مكة خاصة، والآية عامة وليست خاصة بمكة، فقول الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ} [البقرة:30]، عام في محل الأرض، وليس خاصاً بمكة، ولا يصح أن تكون الملائكة طافت بالبيت؛ لأن الكعبة بناها إبراهيم الخليل، أما الآثار التي فيها أن الملائكة طافت فكلها آثار لم تثبت.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك.
{خَلِيفَةً} [البقرة:30]، قال السدي في تفسيره: عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: إن الله تعالى قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
قالوا: ربنا! وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً.
قال ابن جرير: فكان تأويل الآية على هذا: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً مني، يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه، وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه].
وهذا ضعيف وليس بشيء؛ لأن الخليفة إنما يكون للغائب، والله تعالى سائد حاضر ليس بغائب، فالذي يغيب هو الذي ينيب من يخلفه في تدبير مملكته؛ لأنه لا يعلم تدبير الأمور، ولا يعلم أحوال العباد، فالملك إذا غاب أناب من ينوب عنه في تدبير المملكة، وتدبير الملك؛ لأنه لا يعلم أحوالها، أما الله تعالى فهو شاهد حاضر ليس بغائب، ولا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، وعليه فالصواب أن معنى خليفة أي: جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن، فيخلف بعضهم بعضاً، وليس المراد أن آدم خليفة عن الله؛ لأن الله حاضر وشاهد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه.
قال ابن جرير: وإنما معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرناً].
وهذا هو الصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: والخليفة الفعلية من قولك، خلف فلان فلاناً في هذا الأمر: إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14]، ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة؛ لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلفاً.
قال: وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، يقول: ساكناً وعامراً يسكنها ويعمرها خلفاً ليس منكم.
قال ابن جرير: وحدثنا أبو كريب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا.
قال: فبعث الله إليهم إبليس، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال.
ثم خلق آدم وأسكنه إياها، فلذلك قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30]، قال: يعنون به بني آدم].
وهذا ضعيف ومرسل عن عبد الرحمن بن سابط، وعطاء بن السائب اختلط تابعي يرسل، وهذا الأثر عن ابن عباس ضعيف، حتى ولو صح أخذه عن بني إسرائيل، فهذا من أخبار بني إسرائيل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرحمن: قال الله للملائكة: إني أريد أن أخلق في الأرض خلقاً وأجعل فيها خليفة، وليس لله عز وجل خلق إلا الملائكة والأرض وليس فيها خلق، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها؟! وقد تقدم ما رواه السدي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن الله أعلم الملائكة بما تفعله ذرية آدم، فقالت الملائكة ذلك.
وتقدم آنفا ما رواه الضحاك عن ابن عباس: أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت الملائكة ذلك، فقاسوا هؤلاء بأولئك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فبعث الله جنداً من الملائكة فضربوهم، حتى ألحقوا بجزائر البحور، فقال الله للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30]، {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]].
عبد الله بن عمرو يأخذ عن بني إسرائيل؛ لأنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما، وهذه منها والله أعلم، ثم التحديد بألفي سنة يحتاج إلى دليل من الكتاب، أو خبر ثابت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فكل هذه من أخبار بني إسرائيل، لا تصدق ولا تكذب.
والجن قيل: إنهم من ذرية إبليس وعلى هذا قول الشاعر: واسأل أبا الجن اللعين فقل له أتعرف الخلاق أم أنت ذا نكران وقيل غير ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، إلى قوله: {مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33].
قال: خلق الله الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة؛ فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ببغيهم، وكان الفساد في الأرض، فمن ثم قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30] كما أفسدت الجن وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ كما سفكوا.
قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا مبارك بن فضالة، حدثنا الحسن، قال: قال الله للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، قال لهم: إني فاعل، فآمنوا بربهم، فعلمهم علماً وطوى عنهم علماًَ علمه ولم يعلموه].
هذا الحديث مرسل عن الحسن، ومراسيل الحسن البصري ضعيفة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: قال الله للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، قال لهم: إني فاعل، فآمنوا بربهم، فعلمهم علماً وطوى عنهم علماًَ علمه ولم يعلموه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30]، {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
قال الحسن: إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي علمهم.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة(26/3)
بيان معنى قوله تعالى: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [((وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ))، فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة.
قال: وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم عليه السلام، قالت الملائكة: ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا، فابتلوا بخلق آدم، وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] وقوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، قال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: قال: التسبيح: التسبيح، والتقديس: الصلاة.
وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، قال: يقولون: نصلي لك.
وقال مجاهد: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، قال: نعظمك ونكبرك.
وقال الضحاك: التقديس: التطهير.
وقال محمد بن إسحاق: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، قال: لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه.
وقال ابن جرير: التقديس: هو التعظيم والتطهير، ومنه قولهم: سبوح قدوس، يعني بقولهم: سبوح، تنزيه له، وبقولهم: قدوس، طهارة وتعظيم له].
ومنه بيت المقدس، فالبيت المقدس أي: المطهر، والتقديس: هو التطهير، فكأنهم يقولون: إنا نسبح بأن نذكرك، وننزهك عما لا يليق بك.
ومنه الدعاء لرجل بقولك: قدس الله روحه، فإنه لا بأس فيه، فهو بمعنى طهر الله روحه، وتطهير الروح يكون بالمغفرة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك قيل للأرض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة].
والأرض لا توصف أنها مقدسة إلا بدليل؛ فمثلاً بيت المقدس جاء ما يدل على أنه مقدس.
أما البشر فلا يقال فلان مقدس، لأنه لا يدرى هل غفرت ذنوبه أم لا، وقد يفضي هذا إلى الغلو.
فإن قيل: وهل يجوز أن يقال: فعلان مبارك؟ قلنا: إن كان بمعنى أن فيه البركة فإذا كان له آثار طيبة وآثار حسنة تدل على ذلك فلا بأس، كقول أسيد بن حضير لـ عائشة لما نزلت آية التيمم: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك قيل للأرض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة، فمعنى قول الملائكة إذاً: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة:30] ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك {وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس، وما أضاف إليك أهل الكفر بك.
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده.
وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحاًَ في السماوات العلا: سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى.
{قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، قال قتادة: فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة، وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
](26/4)
وجوب نصب الخليفة في الأرض
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما يختلفون فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمة].
استدل بعض العلماء بهذه الآية على أنه يجب على أمة الإسلام أن ينصبوا خليفة لهم، يفصل بين النزاع، وهي مسألة خلافية بين أهل العلم، هل يجب نصب الخليفة، أو يستحب؟ منهم من قال: يجب، ومنهم من قال: يستحب نصب الخليفة، وظاهر الأدلة أنه واجب، فلا يجوز ترك الناس فوضى كما قال الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا لا بد من نصب الخليفة؛ لأن تركهم هكذا يؤدي إلى الفساد والفوضى، حتى في أيام الجاهلية فقد كان لكل قبيلة وعشيرة رئيس يرجعون إليه؛ ليفض ما بينهم من النزاع.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب].
أي: أن إقامة الحدود واجبة، وإنصاف المظلوم من الظالم واجب، وإيصال الحقوق إلى أهلها واجب، وهذا لا يمكن إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا تتم هذه الأمور إلا بالإمام، وهذه الأمور واجبة، فيجب نصب الخليفة.(26/5)
ما تنال به الإمامة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بـ عمر بن الخطاب، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته، أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور].
وهذا الكلام فيما تكتب فيه الإمامة، فقال بعضهم بالنص، وذلك كخلافة أبي بكر، وخلافة الصديق اختلف العلماء في ثبوتها، فمنهم من قال: أنها تثبت بالنص، ومنهم قال: ثبتت باختيار الناس له وانتخابه.
والذين قالوا: إنه بالنص اختلفوا، فمنهم من قال: بالنص الجلي، ومنهم من بالنص الخفي، والصوب أنها ثبتت بالاختيار والانتخاب من الصحابة، وأهل الحل والعقد.
ويدل على ذلك أمور: الأمر الأول: أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أسرع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة، واختاروا خليفة منهم هو سعد بن عبادة، وأسرع المهاجرون وأراد عمر رضي الله عنه أن يتكلم، وزور في نفسه كلاماً فأسكته أبو بكر وتكلم هو وقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، إن الناس لا يدينون إلا لهذا الحي من قريش، وقد رضيت لكم أحد أمرين، فبايعوا عمر أو أبا عبيدة، قال عمر: بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله، فبايعه، ثم تتابع الناس فبايعوه.
فلو كان هناك نص لذكره عمر في هذا المقام الحرج في الاختلاف، وذكره الصديق، ولم يعلل بالسيادة والوزارة فدل ذلك على أنه ليس هناك نص.
والأمر الثاني هو أن عمر رضي الله عنه لما طعن قال له للناس: استخلف، فقال: إن استخلف، فقد استخلف من هو خير مني، يعني: أبا بكر، وإلا استخلف فلم يستخلف الذي هو خير مني يعني: رسول الله، قال هذا في جمع من الصحابة، ولم ينكروا عليه، ولو كان هناك نص لأنكروا ذلك، مما يدل على أن الصواب هو أن الصحابة اختاروا أبا بكر لأدلة أرشدتهم إلى ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر في مرض موته في الصلاة، ففهم الصحابة أنه هو الخليفة، وأنه هو الأحق بالخلافة، قال: (مروا أبو بكر فليصل بالناس)، وكذلك الأدلة التي تدل على فضائله.
والإمامة تثبت بواحدة من الأمور الثلاثة: الأمر الأول: الانتخاب والاختيار، كما ثبتت الخلافة لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، إذ ثبتت له الخلافة باختيار أهل الحل والعقد، وإذا كان الاختيار للمسلمين فإنهم يختاروا من توفرت فيه الشروط، ومنها: أن يكون قرشياً، فالإمامة تكون في قريش إذا وجد منهم من يقيم الدين، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال هذا الأمر في قريش)، وفي لفظ: (ما أقاموا الدين)، وفي لفظ: (بقي منهم اثنان)، فدل على أن الخلافة تكون في قريش، إذا وجد منهم من يقيم الدين، فإن لم يوجد منهم من يقيم الدين، يختار من غيره بهذا الخير، وذلك إذا كان الاختيار والانتخاب للمسلمين ولأهل الحل والعقد.
والأمر الثاني: تكون الخلافة بولاية العهد من الخليفة السابق، كما استخلف الصديق رضي الله عنه، عمر، وعهد بالخلافة إلى عمر فثبتت له الخلافة.
والأمر الثالث: بالقوة والغلبة، فإذا غلب الناس بالقوة ثبتت له الخلافة، فإن جاء آخر ينازعه وقد اجتمعوا على الأول قتل الثاني، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من جاءكم وأمركم جميع فاقتلوه كائناً من كان)؛ لأن الثاني أراد أن يفرق الأمة، فإذا غلب أحد الناس بالقوة ثبتت له الخلافة، ولو لم يكن من قريش، ويدل على ذلك حديث إسحاق بن أبي بر: (أمرني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف - وفي لفظ - ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة).
وجميع الولايات الآن ومن قبلها خلافة بني أمية، وبني العباس كلها كانت بالقوة والغلبة.
ولم تكن الخلافة بالاختيار والانتخاب إلا في اثنين من الخلفاء الراشدين فقط، وهم: الصديق، وعثمان، حيث ثبتت له الخلافة باختيار المسلمين وانتخابهم، إذ جعل عمر الشورى بين ستة، ثم في النهاية أجمعوا على اختيار عثمان رضي الله عنه.
أما علي رضي الله عنه فثبتت له الخلافة باختيار أغلب أهل الحل والعقد، ونازعه في هذا معاوية وأهل الشام فلم يبايعوه؛ لا لأنهم لا يرون أنه ليس أهلاً للخلافة، أو لأن معاوية يطلب الخلافة لنفسه، بل لأنهم يطالبون بدم عثمان فقط.
وعلي رضي الله عنه لا يمانعهم، ولكنه كان يقول: لا يمكن الآن أن نقتص من قتلة عثمان؛ لأن الوقت وقت فتنة، ولا يعرف أحد بعينه، وهناك من تنتصر له قبيلته، فإذا هدأت الأمور أمكن أن نأخذ بدمه، لكن معاوية وأهل الشام قالوا: إذا ترك القتلة فسيستشري الفساد، ويزيد شرهم وفسادهم، ولأنهم سوف يتعدون إلى غيره فيقتلون آخرين، وعلي رضي الله عنه يرى أنه هو الخليفة إذ بايعه أكثر أهل الحل والعقد، وأنه يجب على معاوية وأهل الشام أن يطيعوه، وأنهم ليسوا من المؤلفة قلوبهم، فرأى أن الواجب إخضاعهم، فنشأ النزاع.
وأكثر الصحابة انضموا إلى علي رضي الله عنه، وعلموا أنه محق، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9]، فأهل الشام ومعاوية بغاة، لكن لا يعلمون أنهم بغاة، ويدل على أنهم بغاة قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار: (ويح عمار، تقتله الفئة الباغية)، فقتله أهل الشام، لكنهم مجتهدون ولا يعلمون أنهم بغاة.
وأشكل هذا الأمر على بعض الصحابة كـ أبي بكرة وأسامة بن زيد وسلمة بن الأكوع وغيرهم وخافوا من الأدلة التي فيها القتال في الفتنة، واستدلوا بالنصوص التي فيها أن الإنسان يجتنب الفتنة، وأنه إذا كان قائماً فليقعد وإذا كان قاعداً فليضطجع فاعتزلوا الفريقين، والصواب مع علي رضي الله عنه.
وترك ابن عمر فما بايع أبداً حتى انتهى الخلاف، وبويع لـ معاوية رضي الله عنه، واجتمع الناس عليه، فبايعوا وأمر أولاده أن يبايعوه، فسمي العام عام الجماعة.
فـ علي ومن معه مجتهدون ومصيبون لهم أجران، ومعاوية وأهل الشام مجتهدون ومخطئون، فلهم أجر في الاجتهاد وفاتهم أجر الصواب، رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً، فهم ما بين مجتهد مصيب له أجران، ومخطئ له أجر.
والمقصود أن الخلافة ثبتت في الصديق بالاختيار والانتخاب على القول المختار.
وقال بعض العلماء: ثبتت بالنص الجلي، وقال آخرون: ثبتت بالنص الخفي، والذين استدلوا بالنص عموماً، قالوا: إن من النص قول النبي صلى الله عليه وسلم (ائتوني بدواة أكتب لكم كتاباً حتى لا تضلوا، فلما اختلفوا قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر).
هذا إخبار عن المستقبل، يعني يأبى الله قضاءً وقدراً والمسلمون اختياراً وانتخاباً إلا أبا بكر، وكذلك الرؤيا المنامية التي فيها (أن النبي صلى الله عليه وسلم وزن بـ أبي بكر فرجح، ثم وزن أبو بكر بـ عمر فرجح، ثم وزن عمر بـ عثمان فرجح)، وكذلك الرؤيا المنامية الأخرى التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت أني أنزع بدلو وفيه: فجاء أبو بكر فنزع نزعاً ضعيفاً، ثم استحالت غرباً فنزعها عمر بن الخطاب) فقالوا: هذه خلافة النبوة رتبها النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأدلة كلها ليست صريحة وليست نصاً، وإنما هي مبشرات وكشف للمستقبل، وإرشاد للمسلمين أن يختاروا أبا بكر.
وليس المراد بأهل الحل والعقد أهل هذه الانتخابات التي تسمعون في هذه الأيام فهذه الأصوات كلها باطلة، فالسفهاء والأطفال والنساء، ليس لهم شيء، وإنما أهل الحل والعقد هم رؤساء القبائل والعشائر وأهل الفضل، وأولو العقول، الذين إذا بايعوا نابوا عن غيرهم، أما هذه الانتخابات والأصوات فكلها جاهلية، ثم أيضاً يدخلها الرشوة، والإجبار على الأصوات، فكلها باطلة، وليس فيها تحكيم للشريعة من الأساس.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بـ عمر بن الخطاب، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته، أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور، وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع، والله أعلم].
قوله: (أو بمبايعة أحد منهم له)، هذا قول من الأقوال، ولا يكفي مبايعة واحد، بل لا بد من مبايعة أهل الحل والقعد كلهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف.
وقد نص عليه الشافعي.
وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلاف، فمنهم من قال: لا يشترط، وقيل: بلى ويكفي شاهدان.
وقال الجبائي: يجب أربعة وعاقد ومعقود له، كما(26/6)
شروط الخليفة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويجب أن يكون ذكراً، حراً، بالغاً، عاقلاً، مسلماً، عدلاً، مجتهداً، بصيراً، سليم الأعضاء، خبيراً بالحروب والآراء، قرشياً على الصحيح].
تشترط إذا كانت الخلافة عن طريق الاختيار والانتخاب، ولم تتوفر هذه الشروط إلا بـ الصديق، وعثمان، وعمر، وعلي أما غير هؤلاء فلم تتوفر فيهم.
أما عن طريق الاستخلاف أو البيعة فتصح الخلافة مع عدم وجود بعض هذه الشروط.
فالمرأة لا يجوز اختيارها؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولو أمرهم امرأة).
والخلفاء الذين استخلفوا وهم مماليك، ثبتت لهم الخلافة.
وهناك أشخاص لا تثبت لهم الولاية بحال من الأحوال وهم: المرأة، والكافر، والمجنون، والصغير الذي لم يبلغ.
أما غير هؤلاء فتثبت لهم الخلافة إن كانت عن طريق الاستخلاف أو البيعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافاً للغلاة الروافض].
وبعضهم اشترط أن يكون من قريش ومن بني هاشم، وبعضهم قال: أيضاً من بني هاشم ومن ولد علي، وقال بعضهم: من ولد العباس، وكل هذه شروط، ضيقه، أما اشتراط المعصوم فهذا أصل لدى الروافض، ويستدلون على ذلك بأدلة فيها ذكر العدد ويقولون: المقصود بهم الأئمة الاثني عشر وهذا باطل؛ إذ ليس هناك معصوم، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.(26/7)
شروط وجوب الخروج على الإمام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام: (إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان)].
ولا يجب الخروج على ولي الأمر إلا بشروط: الشرط الأول: أن يقع منه الكفر، وهذا الكفر موصوف بثلاثة أوصاف: كفر بواح صريح، واضح لا لبس فيه عندكم فيه من الله برهان.
والثاني: وجود البديل المسلم.
والثالث: القدرة.
فإذا وجدت هذه الشروط وجب الخروج، أما أن يزال كافر ويؤتى بدله بكافر، فلن يحصل المقصود، وكذلك القدرة، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فإن لم يستطيعوا يصبروا ولو كانت الدولة كافرة، فسييسر الله الخروج.
أما ما يحصل من الانقلابات العسكرية، فيذهب عسكري ويأتي عسكري، وتذهب دولة كافرة وتأتي دولة كافرة، فلم يحصل المقصود.
أما إذا فقدت بعض الشروط فلا يجب الخروج؛ وذلك لأن الخروج على ولي الأمر يترتب عليه مفاسد عظيمة منها: إراقة الدماء، واختلال الأمن، واختلال أحوال الناس، واختلال الاقتصاد والزراعة والتجارة والتعليم، ويتربص الأعداء بهم الدوائر، ونظراً لانشغالهم يتدخل الأعداء باسم حل المشكلات، إلى غير ذلك من المفاسد التي تتريب على الخروج على ولي الأمر، أما الفسق والمعصية فهذه مسألة خاصة به، وتكون النصيحة مبذولة من قبل العلماء فيما يليق بولاة الأمور، فإن حصلت الإزالة فالحمد لله، وإن لم تزل فلا يضرنا؛ لأن الصبر على جور الولاة يترتب عليه تكفير السيئات، ورفع الدرجات، فهو من جنس المصائب.
ولأن هذا فيه ردع للناس وزجر ليتوبوا إلى الله؛ لأن الولاة ما سلطوا على الرعية إلا بسبب فساد أعمالهم، والله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، فإذا أراد الناس أن يتخلصوا من ظلم الجائر، فعليهم أن يتوبوا إلى الله، ويصلحوا أعمالهم، حتى يصلح الله لهم ولاته، فكما تكونوا يولى عليكم، بل قال تعالى لأفضل الناس وهم الصحابة ومعهم نبيهم عليه الصلاة والسلام لما حصل لهم ما حصل في غزوة أحد قال الله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فإذا كان الصحابة وهم خير الناس ومعهم نبيهم خير الناس أفضل الخلق يقال لهم: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فكيف بمن سواهم؟! فإن قيل: هناك من المشايخ من يجوز الخروج على ولاة الأمر هذه الأيام، قلنا: قد بين الله لنا ماذا نعمل عند وجود الخلاف فقال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10]، فإذا تنازع الناس في المسألة وجب عليهم ردها إلى الكتاب والسنة، وإذا رددنا ما نحن فيه من مسألة إلى الكتاب والسنة وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إلا أن ترو كفراً بواحاً، عندكم فيه من الله برهان)، فهذا نص صريح في أنه لا يجوز الخروج إلا إذا كفروا كفراً صريحاً.
وكذلك أيضاً حديث عوف ابن مالك الأشجعي، في صحيح مسلم حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيار أئمتكم - يعني ولاتكم - الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا يا رسول الله! أفلا نناجزهم بالسيف قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، وهذا احتج به العلماء على كفر تارك الصلاة؛ لأنهم إذا لم يقيموا الصلاة فهم كفار يجوز الخروج عليهم، ولا يكفر إلا إذا فعل كفراً بواحاً، فدل على أن ترك الصلاة كفر بواح.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة)، رواه مسلم في الصحيح بهذا اللفظ وهو صريح، وهناك أدلة كثيرة تدل على مثل هذا.(26/8)
ذكر خلاف العلماء في نصب إمامين في وقت واحد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهل له أن يعزل نفسه؟ فيه خلاف، وقد عزل الحسن بن علي نفسه وسلم الأمر إلى معاوية، لكن هذا لعذر، وقد مدح على ذلك.
فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام: (من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان)، وهذا قول الجمهور، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، منهم إمام الحرمين.
وقالت الكرامية: يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة] قول الكرامية باطل، فإن الإمام هو علي فقط، أما معاوية فلم ينصب نفسه إماماً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قالوا: وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمام؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما، وتردد إمام الحرمين في ذلك، قلت: وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق، والفاطميين بمصر، والأمويين بالمغرب.
ولنقرر هذا كله في موضع آخر من كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى].
الأصل أنه لا يكون إلا إمام مسلم واحد.
ويروى عن هارون الرشيد أنه رأى سحابة، فقال لها: أمطري حيث شئت، فسيأتيني خراجك.
فكل الأرض يملكها الخليفة، لكن إذا لم يمكن هذا، وصار الاجتماع على واحد يؤدي إلى الفرقة والاختلاف والحروب والتناحر جاز أن يكون كل خليفة في إقليمه، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وعليه يجب طاعة كل خليفة في مملكته، كما هو الآن موجود في العصر الحاضر، وما هو موجود في العصر الحاضر الآن لا نضير له في المستقبل، إذ أصبحت هناك دويلات كثيرة، فهذا للضرورة لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، ومثلما ذكر الحافظ ابن كثير، إذ كان في زمن واحد خلفاء بني العباس في الشرق، والأندلس في الغرب، والفاطميين بمصر وهذا لتباعد الأقطار، فيكون كل خليفة في مملكته وقطرة، وتجب طاعته.(26/9)
تفسير سورة البقرة [31 - 33]
الله عز وجل يفعل ما يشاء، فلا يسأل عما يفعل، والخلق يسألون عن أفعالهم، ولذلك أعلم سبحانه الملائكة أنه يعلم ما يبدون وما يكتمون، وأراهم فضل آدم عليهم بتعليمه الأسماء كلها، فعلموا أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأن كل أفعاله خير وحكمة.(27/1)
تفسير قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها)
قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:31 - 33].
قال المصنف رحمه الله: [هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة، بما اختصه به من علم أسماء كل شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك، لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن ذلك فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون؛ ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم، فقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31].
هذه الآية الكريمة فيها دليل على فضل وشرف العلم، وأن العلم عظيم، ولهذا شرف آدم عليه الصلاة والسلام على الملائكة لما علمه أسماء كل شيء.
وهذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] فيها دليل على فضل شرف العلم، وأن العلم له شرف عظيم، ولهذا شرف آدم عليه الصلاة والسلام على الملائكة لما علمه الله أسماء كل شيء، فالعلم فضله عظيم، وشرفه جسيم, فآدم عليه الصلاة والسلام فضله الله وشرفه على الملائكة, وهم ملائكة يسبحون بحمده ويقدسونه، كما قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] فلما اختصه الله تعالى بالعلم الذي لم يؤته الملائكة, شرف عليهم وفضل، حتى إن الحيوانات المعلمة تفضل على غيرها, فالكلب المعلم له مزية على غيره, فيجوز اقتناء الكلب المعلم, والكلب غير المعلم لا يجوز اقتناؤه للصيد، فالمعلم يصطاد به، فشرف على سائر الكلاب بالعلم، فكيف بالآدمي! وهذا مما يدعو المسلم إلى أن يحرص على طلب العلم، والعلماء ورثه الأنبياء.
والمراد بالعلم الذي وردت النصوص بفضله وشرفه هو علم الشريعة، وعلم الحلال والحرام, وفقه النصوص, وفقه الأسماء والصفات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال السدي عمن حدثه عن ابن عباس: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] قال: علمه أسماء ولده إنساناً إنساناً والدواب, فقيل: هذا الحمار, هذا الجمل , هذا الفرس.
وقال الضحاك عن ابن عباس: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس، إنسان ودابة, وسماء وأرض, وسهل وبحر, وخيل وحمار, وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عاصم بن كليب عن سعيد بن معبد عن ابن عباس: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال: علمه اسم الصحفة والقدر، قال: نعم, حتى الفسوة والفسية].
قوله: (حتى الفسوة والفسيّة)؛ لأنه مكبر ومصغر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: ((وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا)) قال: علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شيء.
وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف: أنه علمه أسماء كل شيء.
وقال الربيع في رواية عنه: أسماء الملائكة, وقال حميد الشامي: أسماء النجوم, وقال عبد الرحمن بن زيد: علمه أسماء ذريته كلهم, واختار ابن جرير: أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية؛ لأنه قال: (ثم عرضهم) , وهذا عبارة عما يعقل, وهذا الذي رجح به ليس بلازم].
والصواب أن المراد العموم، فالله علمه أسماء كل شيء, من الملائكة، والآدميين، والذوات، والصفات والأفعال، قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] وكل من صيغ العموم, فتشمل أسماء الذوات والصفات والأفعال، أما تخصيصها بأسماء الملائكة أو بأسماء الذرية، فهذا تخصيص بغير مخصص.
قال المؤلف رحمه الله: [وهذا الذي رجح به ليس بلازم؛ فأنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم، ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب, كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور:45].
وقد قرأ عبد الله بن مسعود: (ثم عرضهن)، وقرأ أبي بن كعب: (ثم عرضها) أي: المسميات, والصحيح: أنه علمه أسماء الأشياء كلها، ذواتها وصفاتها وأفعالها.
كما قال ابن عباس: حتى الفسوة والفسية، يعني: أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر، ولهذا قال البخاري في تفسير هذا الآية في كتاب تفسيره من صحيحه: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال.
وقال لي فريسة: حدثني يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس, خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا, فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي، ائتوا نوحاً؛ فأنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض, فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر سؤاله ربه ما ليس به علم فيستحي، فيقول: ائتوا خليل الرحمن, فيأتونه فيقول: لست هناكم، فيقول: ائتوا موسى عبداً كلمه الله وأعطاه التوراة، فيقول: لست هناكم، ويذكر قتل النفس بغير نفس فيستحي من ربه، فيقول: ائتوا عيسى عبد الله ورسوله, وكلمة الله وروحه, فيأتونه فيقول: لست هناكم، ائتوا محمداً عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)].
الشيخ: إذا كان هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستحون من ربهم حينما فعلوا أشياء قد تكون خلاف الأولى, مثل إبراهيم عليه الصلاة والسلام يعتذر فيستحي من ربه أنه كذب في ثلاث كذبات يجادل بهن عن دين الله, وموسى عليه السلام قتل نفساً قبل النبوة, وعيسى ما ذكر ذنباً, ونوح لما سأل ربه ما ليس له بعلم، وهو نجاة ابنه، فإذا كان هؤلاء الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام يستحون من الله, ونحن الآن الكثير منا يبارز الله بالعظائم، ولا يستحي من الناس ولا من الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله, فالواجب تقوى الله عز وجل، والاقتداء بهؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام في الاستحياء من الله, وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) أي: أن الذي لا يستحي من الله ولا يستحي من الناس يفعل ما يشاء, وثبت أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة يوماً: (استحوا من الله الحق حق الحياء, قالوا: يا رسول الله! إنا لنستحي من الله, قال عليه الصلاة والسلام: إن من استحى من الله فإنه يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ويترك زينة الدنيا، ويذكر الموت والبلى) أو كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في بعض ألفاظ الحديث أن عيسى عليه السلام قال: الناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله.
ولكن هذا ليس بذنب؛ لأنه لم يرض بذلك، ومع ذلك فإنه اعتذر عليه الصلاة والسلام.
قال المؤلف رحمه الله: [(فيقول لست هناكم ائتوا محمداً عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله ثم يقال: ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع)].
الشيخ: هذا الإذن هو معنى قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، فمحمد عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن وأفضل الخلق على الإطلاق، لا يشفع حتى يؤذن له فيسجد ويفتح الله عليه بمحامد يلهمه في ذلك الموقف، ويظل ساجداً حتى يأتيه الإذن من الله فيقول الله له سبحانه وتعالى: (يا محمد أرفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع) وهذا يشبه قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255].
ثم الذين يشفع فيهم لا بد أن يأذن الله فيهم، فيحد الله له حداً بالوصف فيخرجهم من النار، فالشفاعة لا بد فيها من شرطين، حتى أفضل الخلق رسول الله لا يشفع إلا إذا تحقق هذان الشرطان: إذن الله للشافع أن يشفع, ورضاه عن المشفوع له.
أما الشفاعة العظمى فهي عامة لأهل الموقف جميعاً، وتكون لفصل القضاء, ولجميع أهل الموقف، مؤمنهم وكافرهم حتى يفصل بينهم، وهي المقام المحمود.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه، فإذا رأيت ربي مثله، ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة)].
قوله: (فإذا رأيت ربي مثله) يعني: وقعت له ساجداً حتى يقال: (يا محمد، ارفع راسك وسل تعط) ففي كل مرة من المرات يسجد حتى يأتيه الإذن عليه الصلاة والسلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فإذا(27/2)
ذكر معنى قوله تعالى: (ثم عرضهم على الملائكة)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات؛ ولهذا قال: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} [البقرة:31] يعني: المسميات، كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31].
وقال السدي في تفسيره: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] ثم عرض الخلق على الملائكة.
وقال ابن جريج عن مجاهد: ثم عرض أصحاب الأسماء على الملائكة، وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك بن فضالة عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا: علمه اسم كل شيء، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه أمة أمة، وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله تعالى: {إ?نْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31] إني لم أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.
وقال الضحاك عن ابن عباس: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31] إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة.
وقال السدي: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: ((إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)) أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء.
وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله، ومعنى ذلك: فقال أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيها الملائكة القائلون: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] من غيرنا أم منا فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ((إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)) في قيلكم: إني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني وذريته، وأفسدوا وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري].
في نسخة: (عصاني ذريته) بدون واو.
فالمؤلف نقله عن ابن جرير فيحتمل أن الواو سقطت من ابن جرير، لكن لها وجه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين].(27/3)
تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا)
قال الله تعالى: [{قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئاً إلا ما علمهم الله تعالى؛ ولهذا قالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] أي: العليم بكل شيء، الحكيم في خلقك وأمرك، وفي تعليمك من تشاء، ومنعك من تشاء، لك الحكمة في ذلك والعدل التام.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس: (سبحان الله) قال: تنزيه الله نفسه عن السوء، ثم قال عمر لـ علي وأصحابه عنده: لا إله إلا الله قد عرفناها فما سبحان الله؟ فقال له علي: كلمة أحبها الله لنفسه ورضيها وأحب أن تقال.
قال: وحدثنا أبي حدثنا فضيل بن النضر بن عدي، قال: سأل رجل ميمون بن مهران عن سبحان الله قال: اسم يعظم الله به ويحاشى به من السوء].
يعني: عن كلمة سبحان الله، أو عن قول: سبحان الله.
ولهذا يشرع للمسلم في الأسفار إذا هبط وادياً أن يسبح الله, وإذا علا مرتفعاً أن يكبر, وهذا مناسب؛ لأن الله أكبر من كل شيء، وأكبر من كل كبير، وإذا هبط ينزه الله عن النقص وعن السهول.(27/4)
تفسير قوله تعالى: (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] قال زيد بن أسلم قال: أنت جبرائيل، أنت ميكائيل، أنت إسرافيل حتى عدد الأسماء كلها حتى بلغ الغراب، وقال مجاهد في قول الله: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِم} [البقرة:33] قال: اسم الحمامة والغراب واسم كل شيء.
وروي عن سعيد بن جبير والحسن وقتادة نحو ذلك، فلما ظهر فضل آدم عليه السلام على الملائكة عليهم السلام في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء قال الله تعالى للملائكة: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33].
أي: ألم أتقدم إليكم أني أعلم الغيب الظاهر والخفي، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]، وكما قال إخباراً عن الهدهد أنه قال لسليمان: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل:25] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:26].
وقيل في قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] غير ما ذكرناه، فروى الضحاك عن ابن عباس: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33]، قال: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار.
وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قال قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] الآية فهذا الذي أبدوا.
{وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر، وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك والثوري، واختار ذلك ابن جرير، وقال أبو العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة هو قولهم: لم يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] فكان الذي أبدوا هو قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] وكان الذي كتموا بينهم هو قولهم: لن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه وأكرم، فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قصة الملائكة وآدم فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمته فكذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني، قال وقد سبق من الله: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119].
قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه، فقال: فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل، وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك قول ابن عباس وهو: أن معنى قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} [البقرة:33] وأعلم مع علمي غيب السموات والأرض، وما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم، فلا يخفى علي أي شيء،، سواء عندي سرائركم وعلانيتكم].
هذا هو الصواب وهو أنه عام: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] أي: ما يبديه الملائكة وما يخفونه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والذي أظهروه بألسنتهم قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30] والذي كانوا يكتمون ما كان منطوياً عليه إبليس من الخلاف على الله في أوامره والتكبر عن طاعته، قال: وصح ذلك كما تقول العرب: قتل الجيش وهزموا، وإنما قتل الواحد أو البعض وهزم الواحد أو البعض، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات:4] ذكر أن الذي نادى إنما كان واحداً من بني تميم.
قال: وكذلك قوله: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33]].(27/5)
تفسير سورة البقرة الآية [34]
لقد فضل الله سبحانه وتعالى الإنسان على جميع خلقه، فأسجد له ملائكته وحمله في البر والبحر، ولذلك فإن الله سيدخله النار إن هو كفر وأشرك به غيره؛ لأنه لم يقابل تلك النعم وذلك التفضيل بما يرضي الله سبحانه.(28/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].
قال المصنف رحمه الله: [وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، وقد دل على ذلك أحاديث أيضاً كثيرة، منها: حديث الشفاعة المتقدم، وحديث موسى عليه السلام: (رب أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فلما اجتمع به قال: أنت آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته) وقال وذكر الحديث كما سيأتي إن شاء الله.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم: الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة].
أي: أن هناك طائفة من الملائكة يسمون الجن, خلقوا من نار السموم، والملائكة خلقوا من نور, والجن الذين هم أحد الثقلين: الجن والإنس، ومنهم إبليس، هم غير الجن الذين هم طائفة من الملائكة، فتكون كلمة الجن كلمة مشتركة بين طائفة من الملائكة، والجن الذين هم أحد الثقلين في الأرض.
قال المؤلف رحمه: [وكان اسمه الحارث، وكان خازناً من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي].
أي: هذا الحي من الملائكة فإنهم خلقوا من نار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون فيه طرفها إذا ألهبت، قال: وخلق الإنسان من طين].
فعلى هذا يكون الجن خلقوا من مارج من اللهب وهو لسان النار، وأما طائفة من الملائكة فخلقوا من نار السموم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضاً، قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، وهم هذا الحي الذي يقال لهم الجن، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه، فقال: قد صنعت شيئاً لم يصنعه أحد، قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه، فقال الله تعالى للملائكة الذين كانوا معه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] فقالت الملائكة مجيبين له: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بعثتنا عليهم لذلك، فقال الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] يقول: إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره، قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب، واللازب اللازج الطيب من حمإ مسنون منتن].
والأقرب أن يكون الصلب؛ لأن هذا بمعنى اللازب، وهو موجود في ابن جرير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما كان حمأً مسنوناً بعد التراب فخلق منه آدم بيده، قال: فمكث أربعين ليلة جسداً ملقى، وكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوت فهو قول الله تعالى: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14] يقول: كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت، قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئاً كالصلصلة، ولشيء ما خلقت، ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك قال: فلما نفخ الله فيه من روحه أتت النفخة من قبل رأسه فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحماً ودماً، فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله تعالى: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11] قال: ضجراً لا صبر له على سراء ولا ضراء، قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] بإلهام الله، فقال الله له: يرحمك الله يا آدم، قال: ثم قال تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة:34] فسجدوا كلهم أجمعون {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة:34] لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار، فقال: لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سناً وأقوى خلقاً.
{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] يقول: إن النار أقوى من الطين قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله، أي: آيسه من الخير كله، وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة لمعصيته، ثم علم آدم الأسماء كلها].
هذا كله من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: قال: [ثم علم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها، ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة، يعني: الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} [البقرة:31] أي: يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة، قال: فلما علم الملائكة موجدة الله عليهم].
قوله: (موجدة الله) يعني: غضب الله عليهم، وهذا من أخبار بني إسرائيل.
وعند ابن جرير: (فلما علم الملائكة مؤاخذة الله).
ومؤاخذة بمعنى: موجدة، وسبق أن الملائكة إنما سألوا عن الحكمة وهذا لا يوجب الغضب، يعني: إن الله ما غضب عليهم أو آخذهم لأنهم سألوا عن الحكمة، فلم سألوا اعتراضاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: فلما علم الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [البقرة:32] تنزيهاً لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، تبنا إليك {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32] تبرياً منهم من علم الغيب إلا ما علمتنا كما علمت آدم، فقال: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:33] يقول: أخبرهم بأسمائهم، {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:33]، قال: ((أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ)) أيها الملائكة خاصة {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:33] ولا يعلم غيري {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} [البقرة:33] يقول: ما تظهرون {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار، وهذا سياق غريب وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها].
هذا كلام صحيح، فالرواية من أخبار بني إسرائيل؛ لأن ابن عباس يأخذ عن بني إسرائيل.
وظاهر الآية العموم، فقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34]، عام، والتخصيص يحتاج إلى دليل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الإسناد إلى ابن عباس يرويه به تفسير مشهور.
وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس على ملك السماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن وإنما سموا الجن؛ لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازناً، فوقع في صدره وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة].
عند ابن جرير: فوقع في صدره كبر أو كبره.(28/2)
أصل نسبة إبليس وموقفه من آدم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه فقال الله للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] فقالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً، قالوا: ربنا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] يعني من شأن إبليس فبعث الله جبريل للأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ، وقال: يا رب! إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فصعد به فبل التراب حتى عاد طيناً لازباً، واللازب: هو الذي يلتزق بعضه ببعض، ثم قال للملائكة: {إِنِّيْ خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29] فخلقه الله بيده؛ لئلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه بخلقه بشراً، فكان جسداً من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، فكان أشدهم فزعاً منه إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة، فذلك حين يقول: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14].
ويقول: لأمر ما خلقت، ودخل من فيه فخرج من دبره، وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة: قل: الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال له الله: يرحمك ربك، فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل الروح إلى جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول الله تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37].
فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين، أبى واستكبر وكان من الكافرين، قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟ قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين، قال الله له: اخرج منها فما يكون لك، يعني: ما ينبغي لك، ((أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)) والصغار: هو الذل.
قال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، ثم عرض الخلق على الملائكة فقال: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31] أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32].
قال الله: {يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] قال: قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30] فهذا الذي أبدوا، (وأعلم ما تكتمون) يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر، فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي ويقع في إسرائيليات كثيرة].
هذا من الإسرائيليات، ولو استكفى ببعضها لكان أولى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة، والله أعلم].
هذا هو الصواب فهو من الإسرائيليات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه أشياء ويقول: على شرط البخاري].
لأن الحاكم رحمه الله متساهل، فيرى مثل هذا ويقول: على شرط الشيخين، وذلك من تساهله، ويقال: إن الحاكم رحمه الله لما جمع المستدرك أراد أن ينقحه فاحتضرته المنية قبل أن يسوده وينقحه فوقع فيه ما وقع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم، بأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه كان قد تشبه بهم، وتوسم بأفعالهم، فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفة الأمر، وسنبسط المسألة إن شاء الله تعالى عند قوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50]، ولهذا قال محمد بن إسحاق عن خلاد عن عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً، وأكثرهم علماً، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جناً.
وفي رواية عن خلاد عن عطاء عن طاوس أو مجاهد عن ابن عباس أو غيره بنحوه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد -يعني: ابن العوام - عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان إبليس اسمه عزازيل، وكان من أشرف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة، ثم أبلس بعد، وقال سنيد: عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازناً على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض، وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس سواء، وقال صالح مولى التوأمة عن ابن عباس: إن من الملائكة قبيلاً يقال لهم: الجن، وكان إبليس منهم، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فعصى فمسخه الله شيطاناً رجيماً، رواه ابن جرير، وقال قتادة عن سعيد بن المسيب: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عدي بن أبي عدي عن عوف عن الحسن قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس وهذا إسناد صحيح عن الحسن، وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم سواء، وقال شهر بن حوشب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء رواه ابن جرير].
كل هذه من أخبار بني إسرائيل، فـ ابن عباس يروي كثيراً عن بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سنيد بن داود: حدثنا هشيم أنبأنا عبد الرحمن بن يحيى عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل عن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيراً، وكان مع الملائكة يتعبد معهم، فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا فأبى إبليس؛ فلذلك قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف:50].
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن سنان القزاز حدثنا أبو عاصم عن شريك عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس قال: إن الله خلق خلقاً فقال: اسجدوا لآدم، فقالوا: لا نفعل، فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم، ثم خلق خلقاً آخر فقال: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص:71] اسجدوا لآدم، قال: فأبوا، فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم، ثم خلق هؤلاء فقال: اسجدوا لآدم، قالوا: نعم، وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم، وهذا غريب ولا يكاد يصح إسناده؛ فإن فيه رجلاً مبهما ومثله لا يحتج به، والله أعلم].
كلها من أخبار بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة حدثنا صالح بن حيان حدثنا عبد الله بن بريدة: قوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] من الذين أبوا فأحرقتهم النار.
وقال أبو جعفر رضي الله عنه عن الربيع عن أبي العالية: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] يعني: من العاصين، وقال السدي: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] الذين لم يخلقهم الله يومئذ يكونون بعد.
وقال محمد بن كعب القرظي: ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة، وعمل بعمل الملائكة فصيره الله إلى ما أبدى عليه خلقه على الكفر، قال الله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]].(28/3)
حقيقة السجود لآدم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن يسجد له ملائكته، وقال بعض الناس: كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام كما قال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100] وقد كان هذا مشروعاً في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا].
كان في شريعة يعقوب ويوسف تجوز التحية، ولهذا لما قدم يعقوب عليه الصلاة والسلام وأبناؤه من فلسطين إلى مصر على يوسف رفعهم على العرش وخروا له سجداً سجود تحية لا سجود عبادة، وكان هذا تأويلاً للرؤيا؛ لأنه لما رأى وهو صغير: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] قال بعد مدة طويلة: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100] وذلك حين سجدوا له، وكان هذا جائزاً في شريعة من سبقنا، أما في شريعتنا التي هي أكمل الشرائع فلا يجوز لغير الله سجود لا تحية ولا سجود إكرام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال معاذ: (قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك، فقال: لو كنت آمراً بشراً أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها) ورجحه الرازي.
وقال بعضهم: بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78]].
وهذا غلط؛ لأنه مخالف للنص، قال الله تعالى: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] فالسجود لآدم، لكنه عبادة لله, فالله تعالى أمرهم أن يسجدوا لآدم تعبداً له سبحانه, وإذا أمر الله بأمر وجب امتثال أمره.
ومن ذلك أمر الله أن نقبل الحجر الأسود تعبداً له, وأن نطوف بالبيت تعبداً له لا للكعبة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال بعضهم: بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] وفي هذا التنظير نظر، والأظهر أن القول الأول أولى، والسجدة لآدم إكراماً وإعظاماً واحتراماً وسلاماً، وهي طاعة لله عز وجل؛ لأنها امتثال لأمره تعالى، وقد قواه الرازي في تفيسره وضعف ما عداه من القولين الآخرين، وهما كونه جعل قبلة؛ إذ لا يظهر فيه شرف، والآخر أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض، وهو ضعيف كما قال].
الصواب: أن هذا سجود صحيح وحقيقي، وهو سجود إكرام لآدم، وعبادة لله عز وجل؛ لأنه الآمر بذلك.(28/4)
أحوال الناس مع خوارق العادات
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة في قوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه الله من الكرامة وقال: أنا ناري، وهذا طيني، وكان بدء الذنوب الكبر، استكبر عدو الله أن يسجد لآدم عليه السلام.
قلت: وقد ثبت في الصحيح: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر) وقد كان في قلب إبليس من الكبر والكفر والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس، قال بعض المعربين: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] أي: وصار من الكافرين؛ بسبب امتناعه كما قال: {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] وقال: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] وقال الشاعر بتيهاء فقر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها].
قوله: بتيهاء، يعني: بمكان تيه كصحراء يتيه فيها الإنسان.
والمَطِي يعني: الإبل.
وقوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، يعني: أنه صار من الكافرين المستكبرين، وقول الشاعر: (قد كانت) يعني: قد صارت، وهذا هو وجه الاستشهاد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: قد صارت.
وقال ابن فورك: تقديره وقد كان في علم الله من الكافرين، ورجحه القرطبي وذكر ههنا مسألة فقال: قال علماؤنا: من أظهر الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالاً على ولايته خلافاً لبعض الصوفية والرافضة، هذا لفظه، ثم استدل على ما قال بأنا لا نقطع بهذا الذي جرى الخارق على يديه أن يوافي الله بالإيمان، وهو لا يقطع لنفسه بذلك، يعني: والولي الذي يقطع له بذلك الأمر.
قلت: وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير الولي، بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضاً بما ثبت عن ابن صياد أنه قال: هو الدخ، حين خبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10]].
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن صياد ذات مرة: خبأت لك خبيئة، وابن الصياد رجل من اليهود، كان يظن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الدجال، وقال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنقه, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا بد أن يظهره الله، فإن كان هو فأنا كافيكم، وإن كان غير الدجال فلا خير لك في قتله، ثم بعد ذلك تبين للنبي أنه ليس الدجال الأكبر، بل هو دجال من الدجاجلة, أما الدجال الأكبر فيخرج في آخر الزمان كما بين للنبي صلى الله عليه وسلم.
فالنبي قال له: خبأت لك خبيئة -ينظر ماذا عنده- فقال: هو الدخ.
فقال النبي: اخسأ عدو الله فلن تعدو قدرك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبما كان يصدر عنه أنه كان يملأ الطريق إذا غضب حتى ضربه عبد الله بن عمر، وبما ثبتت به الأحاديث عن الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب، وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة].
الخوارق قد يجليها الله على يد الأنبياء وعلى يد الأولياء الصالحين ببركة اتباعهم الأنبياء, وقد يجليها الله على يد المشعوذين والسحرة, وآخرهم الدجال الذي يخرج في آخر الزمان, إذ له خوارق عظيمة، منها: أنه يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت, ويشق رجلاً نصفين فيستوي قائماً، ولن يسلطه الله على غيره, فكل هذه خوارق، وهي لا تدل على الكرامة أبداً، بل إن كان هذا الشخص مستقيماً على طاعة الله فهذه كرامة حصلت له ببركة اتباعه النبي, كمثل ما حصل لـ أسيد بن خضير وعباد البشر , حيث خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما، فلما افترقا أضاء لكل واحد منهم حتى وصل إلى بيته, وكما حصل لـ عمر رضي الله عنه, حيث كان يخطب على المنبر فدعا: يا سارية! الجبل الجبل، وكان جيشه في العرق، وكما حصل للعلاء بن الحضرمي حيث عبر هو وجيشه نهر دجلة والفرات على أقدامه والخيل, لكن بعد أن نظر إليهم وطاف بهم خلف العدو، في الليل ركعاً وسجداً يبكون ويتضرعون, وفي النهار مجاهدين في سبيل الله, أما الشخص الذي تجري على يده الخوارق وهو وهو منحرف فهذه شعوذة، فقد يطير الشخص في الهواء كما يستخدم الشياطين بعض السحرة, كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله, وتوقفه بعرفة في يوم عرفة، ثم يرجع في نفس اليوم, وظن أنه قد حج وهو لم يحرم ولم يأت بشيء من المناسك, وقد تغوص به الشياطين في البحر، فالشياطين تعمل مثل هذه الأشياء.
فالخوارق إذاً قد تجري على يد الأنبياء، فتكون من المعجزات، وقد تجري على يد الصالحين فتكون من الكرامات، وقد تجري على يد المشعوذين والسحرة فتكون من الشعوذة والحالات الشيطانية, فالعبرة في استقامة الشخص وتمسكه بدينه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: قلت للشافعي: كان الليث بن سعد يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، ويطير في الهواء، فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة.
فقال الشافعي: قصر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة.
وقد حكى الرازي وغيره قولين للعلماء: هل المأمور بالسجود لآدم خاص بملائكة الأرض أو عام في ملائكة السموات والأرض؟ وقد رجح كلاً من القولين طائفة، وظاهر الآية الكريمة العموم: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر:30] فهذه أربعة أوجه مقوية للعموم، والله أعلم].(28/5)
تفسير سورة البقرة [35 - 39]
أسكن الله تعالى آدم وزوجه الجنة، ثم حصل منهما المخالفة لأمره، ثم استغفرا الله تعالى وتابا إليه، فتاب الله عليهما، وأهبطهما من الجنة إلى الأرض مع إبليس.(29/1)
تفسير قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة)
قال الله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:35 - 36].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى إخباراً عما أكرم به آدم بعد أن أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس، وأنه أباح له الجنة يسكن منها حيث شاء، ويأكل منها ما شاء رغداً، أي: هنيئاً واسعاً طيباً, وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث محمد بن عيسى الدامغاني، حدثنا سلمة بن الفضيل عن ميكائيل عن ليث عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه, قال: قلت: (يا رسول الله! أرأيت آدم أنبياً كان؟ قال: نعم، نبياً رسولاً يكلمه الله قبيلاً) يعني: عياناً].
يقول سبحانه: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] فيها ابتلاء الله تعالى لآدم وزوجه حواء، حيث أدخلهم الجنة، وأباح لهما أن يأكلا مما فيها إلا شجرة واحدة استثناها سبحانه وتعالى، ونهاهما عن أكلها؛ لحكمة بالغة يعلمها سبحانه وتعالى، ومن الحكم العظيمة المترتبة على ذلك أن آدم وزوجه حواء سيأكلان من هذه الشجرة ثم يخرجان من الجنة, ثم يتوب الله عليهما, ثم يخرج من ذريتهما عباداً صالحين وأنبياء ومرسلين, ومطيعين وعصاه, فله حكمة بالغة سبحانه وتعالى.
أما هذا الحديث فهو حديث ضعيف، ولكن لا شك أن آدم نبياً مكلماً ورسولاً إلى ذريته.(29/2)
بيان مكان الجنة التي دخلها آدم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35]، وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم أهي في السماء أم في الأرض؟ والأكثرون على الأول، وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض، وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى].
الراجح القول الأول بأنها في السماء, أما القول بأنها في الأرض فيقولون بأنها بستان.(29/3)
بيان كيفية خلق حواء
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة، وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق حيث قال: لما فرغ الله من معاتبة إبليس أقبل على آدم وقد علمه الأسماء كلها، فقال: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:33] إلى قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]، قال: ثم ألقيت السِّنَة على آدم فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم عن ابن عباس وغيره، ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحماً وآدم نائم لم يهب من نومه، حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء، فسواها امرأة ليسكن إليها].
البلاغ عن ابن عباس منقطع، وهذه القصة من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم.
فنحن نعلم أن الله تعالى خلق حواء من آدم، كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، وأما هذا التفصيل من أنه وقع عليه النعاس وأنه لم يهب من نومه حتى خلق الله له حواء، فهو من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما كشف عنه السنة وهب من نومه رآها إلى جنبه، فقال -فيما يزعمون والله أعلم-: لحمي ودمي وزوجتي فسكن إليها، فلما زوجه الله وجعل له سكناً من نفسه قال له قبلاً: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35]].
لأن من يفعل المعاصي فهو ظالم لنفسه؛ فالمعاصي كلها ظلم, وأعظمها الشرك بالله عز وجل، ثم ظلم العباد فيما بينهم في الدماء أو الأموال أو الأعراض، ثم ظلم الإنسان لنفسه فيما بينه وبين الله, والأكل من الشجرة ظلم من آدم وحواء لأنفسهما فيما بينهما وبين الله، ولهذا قال تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35]؛ لأن من خالف أمر الله فقد تعدى وظلم، والله نهاهما عن أكل الشجرة، وقال لهما: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا} [البقرة:35] إن أكلتم منها {مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] لتعديكما ما حده الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقال: إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة، كما قال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبو صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحيشاً ليس له زوج يسكن إليه، فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها: ما أنت؟ قالت: امرأة.
قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي.
قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: إنها خلقت من شيء حي.
قال الله: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة:35]].(29/4)
بيان الشجرة التي نهي عنها آدم وحواء
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما قوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35] فهو اختبار من الله تعالى وامتحان لآدم، وقد اختلف في هذه الشجرة ما هي، فقال السدي عمن حدثه عن ابن عباس: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي الكرم، وكذا قال سعيد بن جبير والسدي والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس، وقال السدي أيضاً في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35]: هي الكرم، وتزعم يهود أنها الحنطة.
وقال ابن جرير وابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن اسماعيل بن سمرة الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني، حدثنا النضر أبو عمر الخراز عن عكرمة عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي السنبلة.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هي السنبلة.
وقال محمد بن إسحاق عن رجل من أهل العلم عن حجاج عن مجاهد عن ابن عباس قال: هي البر.
وقال ابن جرير: وحدثني المثنى بن إبراهيم حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا القاسم حدثني رجل من بني تميم: أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم والشجرة التي تاب عندها آدم، فكتب إليه أبو الجلد سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة.
وكذلك فسره الحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبو مالك ومحارب بن دثار وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل اليمن عن وهب بن منبه أنه كان يقول: هي البر، ولكن الحبة منها في الجنة ككلى البقر، وألين من الزبد، وأحلى من العسل.
وقال سفيان الثوري عن حصين عن أبي مالك {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35] قال: النخلة.
وقال ابن جرير عن مجاهد {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35] قال: التينة.
وبه قال قتادة وابن جريج.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: كانت الشجرة من أكل منها أحدث، ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث.
وقال عبد الرزاق: حدثنا عمر بن عبد الرحمن بن مهران سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة ونهاه عن أكل الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته.
فهذه أقوال ستة في تفسير هذه الشجرة].
وكل هذه الأقوال لا دليل عليها، بل كلها تخمين, والله أعلم بهذه الشجرة، وليس في تعيينها فائدة, إذ لو كان في تعيينها فائدة لعينها الله سبحانه وتعالى, ولكن الله سبحانه وتعالى نهاهم عن الشجرة المعينة التي عينها لهما، فأكلا منها، وسواء كانت هي التينة، أو النخلة، أو البر أو غيرها, فليس هناك دليل صحيح يثبت هذه الشجرة، ولا يترتب على ذكرها فائدة, ولا على جهلها مضرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: والصواب في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين؛ لأن الله لم يضع لعباده دليلاً على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة، وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به، والله أعلم.
وكذلك رجح الإبهام الرازي في تفسيره وغيره، وهو الصواب.
].
وهذا كلام جميل وهو الحق، حيث إن شجرة معينة عينها الله لهما ولم يخبرنا بها, وإذا علمنا فلا ينفعنا هذا, وإذا جهلنا فلا يضرنا, لكن العبرة في أن الله نهاهم عن الشجرة فعصيا وأكلا منها, فأخرج من الجنة، والعبرة أيضاً: أن من عصى الله تركت المعاصي عليه آثارها, فالمعاصي لها شؤم وآثار, والله تعالى أخرج آدم وحواء بالمعصية من الجنة, فالمعاصي والذنوب لها آثار, ولها شؤم, هذه هي العبرة, أما أن تكون شجرة التين، أو النخلة، أو العنب، فمعرفة ذلك لا ينفع، والجهل به لا يضر.(29/5)
تفسير قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة:36] يصح أن يكون الضمير في قوله: (عنها) عائداً إلى الجنة، فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم بن بهدلة وهو ابن أبي النجود: (فأزالهما) أي: فنحاهما].
وجاء في بعض الأقوال: إنها شجرة الخلد، وكان يأكل منها الملائكة فيخلدون, وهذا ليس بصحيح؛ فالملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون, وإنما هم عباد مكرمون {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورين وهو الشجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة: (فأزلهما) أي: من قبل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة:36] أي: بسببها، كما قال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] أي: يصرف بسببه من هو مأفوك، ولهذا قال تعالى {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة:36] أي: من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة.
{وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36] أي: قرار وأرزاق وآجال (إلى حين) أي: إلى وقت ومقدار معين، ثم تقوم القيامة.
وقد ذكر المفسرون من السلف كـ السدي بأسانيده، وأبي العالية ووهب بن منبه وغيرهم هاهنا أخباراً إسرائيلية عن قصة الحية وإبليس، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته، وسنبسط ذلك إن شاء الله في سورة الأعراف، فهناك القصة أبسط منها هاهنا، والله الموفق.
وقد قال ابن أبي حاتم هاهنا: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة، فأخذت شعره شجرة فنازعها، فناداه الرحمن: يا آدم! مني تفر! فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب! لا ولكن استحياء)].
وهذا الحديث ضعيف، ففيه عنعنة قتادة وهو مدلس، وفيه انقطاع بين الحسن وبين أبي بن كعب، فهو ضعيف، لكن المعنى صحيح، فإن الله أخبر: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22]، فيدل على شؤم المعاصي؛ لأنهما لما عصيا الله سقط اللباس وبدت عوراتهما, وجعلا يأخذان من ورق الشجرة يستران عورتهما، فهو يدل على أن المعاصي تكشف الإنسان.
وقوله: (فأزلهما) قرأها حمزة: (فأزالهما) وقراءة حفص القراءة المشهورة، وقراءة باقي القراء: (فأزلهما الشيطان).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القرشي سنة أربع وخمسين ومائتين، حدثنا سليمان بن منصور بن عمار حدثنا علي بن عاصم عن سعيد عن قتادة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما ذاق آدم من الشجرة فر هارباً فتعلقت شجرة بشعره، فنودي: يا آدم! أفراراً مني؟ قال: بل حياء منك، قال: يا آدم! اخرج من جواري فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني، ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقاً ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين).
هذا حديث غريب وفيه انقطاع بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب رضي الله عنهما].
قوله: معضل، يعني: سقط من السند اثنان، إذ بين قتادة وبين كعب اثنان، وهو أشد من المنقطع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الحاكم حدثنا أبو بكر بن بالويه عن محمد بن أحمد].
وفي نسخة ابن باكويه وهو خطأ، والصواب أنه محمد بن أحمد بن بالويه شيخ الحاكم.(29/6)
ذكر مهبط آدم وحواء
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن محمد بن أحمد بن النضر عن معاوية بن عمرو عن زايدة عن عمار بن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أسكن آدم الجنة إلى ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس.
ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
].
المقصود من هذا عن ابن عباس أنه وقت ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهذا ليس عليه دليل، وإن صح فهو من أخبار بني إسرائيل، ويحتمل أنه لا يصح سنداً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا روح عن هشام عن الحسن قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار، تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا].
وهذا كذلك لا دليل عليه، وهو موقوف على الحسن.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال: خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة، فأخرج آدم معه غصناً من شجر الجنة على رأسه تاج من شجر الجنة، وهو الإكليل من ورق الجنة.
وقال السدي: قال الله تعالى: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38] فهبطوا ونزل آدم بهم، ونزل معه الحجر الأسود وقبضة من ورق الجنة، فبثه في الهند فنبتت شجرة الطيب.
فإنما أصل ما يجاء به من الطيب من الهند من قبضة الورق الذي هبط بها آدم، وإنما قبضها آدم أسفاً على الجنة حين أخرج منها.
وقال عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أهبط آدم بدحنا أرض الهند].
عطاء بن السائب اختلط في آخره، والأثر ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أهبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال لها: دحنا بين مكة والطائف.
وعن الحسن البصري قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدستميان من البصرة على أميال] أي: أن هناك مسافة بعيدة بين آدم وحواء، فآدم في الهند وحواء في جدة، وهذه مسافة عظيمة.
وكل هذه الآثار من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأهبطت الحية بأصفهان.
رواه ابن أبي حاتم.
وقال محمد بن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث حدثنا محمد بن سعيد بن سابق حدثنا عمر بن أبي قيس عن الزبير بن عدي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أهبط آدم بالصفا، وحواء بالمروة].
هناك خلاف بين القولين، فالأول: آدم في الهند وحواء بجدة، والثاني: في الصفا والمروة، فليس بينهما مسافة، وكل هذا تخمين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال رجاء بن سلمة: هبط آدم عليه السلام يداه على ركبته مطأطئاً رأسه، وأهبط إبليس مشبكاً بين أصابعه رافعاً رأسه إلى السماء.
وقال عبد الرزاق: قال معمر: أخبرني عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى قال: إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شيء، وزوده من ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير.
وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها) رواه مسلم والنسائي].
هذا ثابت في الصحيح.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الرازي: اعلم أن في هذه الآية تهديداً عظيماً عن كل المعاصي من وجوه: الأول: أن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي.
قال الشاعر: يا ناظراً يرنو بعيني راقد ومشاهداً للأمس غير مشاهد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان ونيل فوز العابد أنسيت ربك حين أخرج آدم منها إلى الدنيا بذنب واحد].
هذا كلام طيب للرازي، والرازي في كتابه مفاتيح الغيب كما قال بعضهم: فيه كل شيء إلا التفسير، ومع هذا فالكلام جيد، حيث إن الله تعالى أخرج آدم من الجنة بزلة صغيرة ليحذر العاصي، ويخبره بأن المعاصي لها شؤم ولها آثار عظيمة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن القيم: ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم].
يقصد بالعدو وإبليس، ونحن سبي العدو، فهل ترى نرجع إلى أوطاننا وهي: الجنة.(29/7)
كيف وصل إبليس إلى الجنة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الرازي عن فتح الموصلي: أنه قال: كنا قوماً من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها، فإن قيل: فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء، فكيف تمكن إبليس من دخول الجنة وقد طرد من هنالك طرداً قدرياً، والقدري لا يخالف ولا يمانع؟ ف
الجواب
أن هذا بعينه استدل به من يقول: إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء كما قد قصصنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية، وأجاب الجمهور بأجوبة: أحدها: أنه منع من دخول الجنة مكرماً، فأما على وجه السرقة والإهانة فلا يمتنع.
ولهذا قال بعضهم كما جاء في التوراة: إنه دخل في فم الحية إلى الجنة، وقد قال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة، وقال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهم وهو في الأرض وهما في السماء.
ذكره الزمخشري وغيره.
وقد أورد القرطبي ها هنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك، فأجاد وأفاد].(29/8)
تفسير قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه)
قال الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37].
قال المصنف رحمه الله: [قيل: إن هذه الكلمات مفسرة لقوله تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وروي هذا عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب القرظي وخالد بن معدان وعطاء الخرساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال أبو إسحاق السبيعي: عن جل من بني تميم، قال: أتيت ابن عباس فسألته ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال: علم شأن الحج].
هذا ضعيف؛ لأن فيه أبا إسحاق السبيعي وهو مدلس، أيضاً فيه رجل مبهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال سفيان الثوري عن عبد العزيز بن رفيع: أخبرني من سمع عبيد بن عمير، وفي رواية قال: أخبرني مجاهد عن عبيد بن عمير أنه قال: قال آدم: يا رب! خطيئتي التي أخطأت شيء كتبته علي قبل أن تخلقني أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك، قال: فكما كتبته علي فاغفر لي، قال: فذلك قوله تعال: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37].
وقال السدي عمن حدثه عن ابن عباس: (فتلقى آدم من ربه كلمات) قال: قال آدم عليه السلام: يا رب! ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى، ونفختَ فيّ من روحك؟ قيل له: بلى، وعطستُ فقلتَ: يرحمك الله، وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له: بلى، وكتبتَ علي أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى، قال: أرأيت إن تبتُ هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم].
هذا أيضاً ضعيف؛ لأن فيه مبهماً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهكذا رواه العوفي وسعيد بن جبير وسعيد بن معبد عن ابن عباس بنحوه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن جبير عن ابن عباس، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهكذا فسره السدي وعطية العوفي.
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثاً شبيهاً بهذا فقال: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب، حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال آدم عليه السلام: أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم.
فذلك قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة:37])].
هذا الحديث ضعيف؛ لأنه منقطع بين الحسن وأبي بن كعب، وكذلك أيضاً فيه قتادة، وهو مدلس وقد عنعن، والصواب أن الكلمات هي ما أخبر الله بها: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
فهذه هي الكلمات، أما هذه الآثار فضعيفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وفيه انقطاع].
أي: انقطاع بين الحسن وبين أبي بن كعب، وفيه عنعنة قتادة أيضاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة قال: أرأيت يا رب إن تبت وأصلحت؟ قال الله: إذاً أدخلك الجنة، فهي الكلمات.
ومن الكلمات أيضاً {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان يقول في قول الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] قال: الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فرحمني إنك خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] أي: إنه يتوب على من تاب إليه وأناب كقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة:104]، وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ} [النساء:110] الآية، وقوله: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [الفرقان:71] وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب ويتوب على من يتوب، وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده لا إله إلا هو التواب الرحيم].
قال: ذكرنا في المسند الكبير من طريق سليمان بن سليم عن ابن بريدة وهو سليمان عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما أهبط الله آدم إلى الأرض طاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما عندي فاغفر ذنوبي، أسألك إيماناً يباشر قلبي، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي، قال: فأوحى الله إليه: إنك قد دعوتني بدعاء أستجيب لك فيه ولمن يدعوني به، وفرجت همه من غمومه، ونزعت فقره من بين عينيه، وأجرت له من وراء كل تاجر، وأتته الدنيا وهي كارهة، وإن لم يردها)، رواه الطبري في المعجم الكبير.
الأقرب أنه ضعيف لا يصح؛ لأن الأحاديث التي فيها طواف آدم في الكعبة ضعيفة؛ لأن الكعبة إنما بناها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأما قبل ذلك فالله أعلم، إلا أن يقال: إنه طاف بالربوة، وكانت ربوة وأرضاً مرتفعة، ثم أيضاً لم يكن هناك مقام صلى خلفه فالمقام مقام إبراهيم، وإبراهيم من ذريته وهو بعده بدهور، فكيف يصلي خلف المقام والمقام مقام إبراهيم؟ ثم إن هذا الدعاء: (أسألك إيماناً يباشر قلبي) الحديث يوجد في كتيبات، ويقرؤها بعض الذين يطوفون، والأقرب أن هذا الدعاء لا يصح.(29/9)
تفسير قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً)
قال الله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:38 - 39].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى مخبراً عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة، والمراد الذرية، إنه سينزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرسل، كما قال أبو العالية: الهدى: الأنبياء والرسل والبينات والبيان.
وقال مقاتل بن حيان: الهدى: محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن: الهدى: القرآن.
وهذان القولان صحيحان، وقول أبي العالية أعم].
الهدى عام في القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، فالقرآن هدى، والرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله بالهدى.
قال: [{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} [طه:123] أي: من أقبل على ما أنزلت به الكتب، وأرسلت به الرسل {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة:38] أي: فيما يستقبلونه من أمر الآخرة {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] على ما فاتهم من أمور الدنيا، كما قال في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123]، قال ابن عباس: فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] كما قال هاهنا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39] أي: مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص.
وقد أورد ابن جرير هاهنا حديثاً ساقه من طريقين عن أبي سلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد واسمه: سعد بن مالك بن سنان الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذي هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة) وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة به].
والمراد بأهلها يعني: الكفرة -نعوذ بالله- فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن قوم أصابتهم النار بذنوبهم، وهم عصاة الموحدين، فيموتون فيها إماتة ثم يأذن الله بالشفاعة، وأما الذين هم أهلها فهم الكفرة وهؤلاء لا يموتون فيها ولا يحيون، كما أخبر الله تعالى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:13].
وعصاة الموحدين يموتون فيها إماتة خاصة، حيث يصيرون فيها فحماً ثم يلقون على نهر الحياة فينبتون ويحيون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكر هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول، وزعم بعضهم: أنه تأكيد وتكرير، كما يقال: قم قم، وقال آخرون: بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض، والصحيح الأول، والله أعلم].
يعني: الصحيح أنه ذكر الإهباط الثاني لتعلق ما بعده بمعنى مختلف عن المعنى الأول.(29/10)
تفسير سورة البقرة [40 - 43]
يذكر الله تعالى أحفاد بني إسرائيل بما أنعم به على أجدادهم، ويحثهم بأن يوفوا بعهده من الإيمان بالرسول الأمي، واتباع هذا الدين، وأن يرهبوه ويخافوه وحده سبحانه.
وكذلك يحذرهم من أن يشتروا بآياته ثمناً قليلاً، ويستبدلوا الدنيا بالآخرة، وألا يلبسوا الحق الذي عرفوه بالباطل، فإن عاقبة ذلك وخيمة في الدنيا والآخرة.(30/1)
تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم)
قال الله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى آمراً بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ومهيجاً لهم بذكر أبيهم إسرائيل وهو نبي الله يعقوب عليه السلام، وتقديره: يا بني العبد الصالح المطيع لله! كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق، كما تقول: يا ابن الكريم! افعل كذا، يا ابن الشجاع! بارز الأبطال، يا ابن العالم! اطلب العلم ونحو ذلك، ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي، حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب قال: حدثني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟ قالوا: اللهم نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد)].
وقال الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن إسرائيل كقولك عبد الله].
هذه الآية يخاطب الله تعالى فيها بني إسرائيل فيقول: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40]، وقد أنعم الله بهذه النعمة على آبائهم، فالنعمة على الآباء نعمة على الأحفاد، فهو تذكير لهم بما أنعم به على آبائهم، وتهيج وحث لهم على أن يعملوا بطاعة الله عز وجل، وإسرائيل هو نبي الله يعقوب حفيد إبراهيم عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام رزق ابنين نبيين كريمين أحدهما: إسماعيل، وهو الابن الأول من هاجر التي أهداها له ملك مصر، فكانت سرّيّة تسراها فأتت بإسماعيل، وإسماعيل هو الأب الثاني، وهو أبو العرب، ومن ذريته نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ثم أنجبت زوجته سارة وهي بنت عمه، وكانت لا تنجب، ثم أنجبت إسحاق بعد مدة ما يقارب اثنتي عشرة سنة بعد إسماعيل، وأنجب إسحاق يعقوب، ويعقوب هو إسرائيل، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من ذرية يعقوب بن إسحاق، وآخرهم عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، فإسرائيل هو يعقوب.
والناس الآن يقولون دولة إسرائيل ويسبونها ويشتمونها، والصواب أن تسمى دولة اليهود لا دولة إسرائيل، ولا ينبغي أن يسب إسرائيل عليه الصلاة والسلام ولو كان الإنسان لا يقصد النبي الكريم بل يقصد الدولة، فلا ينبغي أن تسمى بهذا الاسم، بل يقال: دولة اليهود قبحها الله، وأما أن يقال: إسرائيل ويشتم إسرائيل فهذا لا يجوز؛ لما فيه من الموافقة لاسم إسرائيل نبي الله عليه الصلاة والسلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {ذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40] قال مجاهد: نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سوى ذلك: أن فجر لهم الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، ونجاهم من عبودية آل فرعون].
هذا حصل لآبائهم وأجدادهم، والخطاب لليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فيذكرهم بنعمته سبحانه وتعالى على آبائهم وأجدادهم؛ لأن النعمة على الآباء والأجداد نعمة على الأحفاد، وتذكيراً لهم بأن يشكروا نعمة الله التي أنعم بها على آبائهم وأجدادهم فيكونوا أول المتبعين لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأول المؤمنين به والمنقادين لشرعه ودينه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب.
قلت: وهذا كقول موسى عليه السلام لهم: {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:20] يعني: في زمانهم].
والمراد بقوله: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:20] يعني: من عالمين زمانهم، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف:140] أي: فضلهم على عالمي زمانهم؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم، والمراد على عالمين زمانهم في وقتهم فهم أفضل الناس، وأما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فهذه الأمة أفضل منهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40] أي: بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم من فرعون وقومه، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة:40] قال: بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم، أنجز لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم؛ بذنوبكم التي كانت من إحداثكم، وقال الحسن البصري: هو قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المائدة:12] الآية.
وقال آخرون: هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبياً عظيماً يطيعه جميع الشعوب، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، فمن اتبعه غفر الله له ذنبه، وأدخله الجنة، وجعل له أجرين، وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو العالية: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة:40] قال: عهده إلى عباده دين الإسلام وأن يتبعوه، وقال الضحاك عن ابن عباس: أوف بعهدكم، قال: أرض عنكم، وأدخلكم الجنة، وكذا قال السدي والضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس].
هذه المعاني كلهاحق، وكلها جزء من المعنى، وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة:40] يعني: دين الإسلام، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه والانقياد لشرعة؛ وقوله تعالى: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة:40] أي: أرض عنكم، وأدخلكم الجنة.(30/2)
بيان معنى قوله تعالى: (وإياي فارهبون)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] أي: فاخشون.
قاله أبو العالية والسدي والربيع بن أنس وقتادة، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي: أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والاتعاظ بالقرآن وزواجره، وامتثال أوامره، وتصديق أخباره، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم].
جمع له سبحانه بين الترغيب والترهيب، وهكذا ينبغي للمؤمن أن يكون راجياً خائفاً، فيجمع بين الرجاء والخوف، كما قال الله سبحانه وتعالى عن أنبيائه ورسله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، وقال سبحانه: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} [السجدة:16]، فالمشروع للمؤمن الواجب عليه أن يجمع بين الرجاء والخوف في سيره إلى الله، وفي عبادته لربه عز وجل، فلا يقنط من رحمة الله فيغلب جانب الخوف، ولا يغلب جانب الرجاء فيأمن مكر الله؛ لأنه إذا غلب جانب الرجاء أمن مكر الله واسترسل في المعاصي، وإذا غلب جانب الخوف قنط ويئس وتشاءم وأساء الظن بالله.
وفيه دليل على أن الرهبة إنما هي عبادة لا تكون إلا لله عز وجل، والرهبة هي الخوف، والخوف الذي هو العبادة خاص لله، ولهذا قال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} يعني: ارهبوني، ولا ترهبوا غيري، فالرهبة وخوف العبادة لا يكون إلا لله، فمن صرفه لغير الله فقد أشرك، وأما الخوف الطبيعي كالخوف من السبع أو من عدو معه سلاح أو من البرد فيلبس ليستدفئ أيام الشتاء، فهذا خوف طبيعي، فالخوف من العدو الذي أسبابه ظاهرة كما قال الله تعالى عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] لا بأس به، وأما خوف السر كالذي يخاف من الميت في سره، أو يخاف من غائب ليس معه أسباب فهذا شرك، فخوف العبادة هو خوف السر كالذي يخشى من الميت أن يضره بسره لا بشيء ظاهر، ويخشى منه أن يسلط عليه عدوه، أو يحرمه دخول الجنة، أو يقطع رزقه بسره لا بشيء ظاهر، فهذا خوف العبادة، وخوف العبادة صرفه لغير الله.(30/3)
تفسير قوله تعالى: (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم)
قال الله تعالى: [ولهذا قال: {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يعني به القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي، بشيراً ونذيراً، وسراجاً منيراً، مشتملاً على الحق من الله تعالى، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، قال أبو العالية رحمه الله في قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} يقول: يا معشر أهل الكتاب! آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم، يقول: لأنهم يجدون محمداً صلى الله عليه وسلم مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل.
وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك.
وقوله: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة:41] قال بعض المعربين: أول فريق كافر به أو نحو ذلك.
قال ابن عباس: ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم].
لأنهم أهل كتاب أنزل الله عليهم التورة، فهم أهل كتاب وليسوا كالجهلة من كفار قريش، فإنهم عباد أوثان ليس عندهم شيء من العلم، وأما هؤلاء فعندهم علم التوراة، ولهذا فكفار قريش في الجاهلية يأتون إلى اليهود ويسألونهم ويقولون: أنتم أهل العلم، فليس من يعلم كمن لا يعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو العالية: يقول: ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه، وكذا قال الحسن والسدي والربيع بن أنس، واختار ابن جرير أن الضمير في قوله به عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله: ((بِمَا أَنزَلْتُ))، وكلا القولين صحيح؛ لأنهما متلازمان].
قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة:41] أي: بالقرآن أو بمحمد فهما متلازمان، فمن كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد، ومن كفر بمحمد فقد كفر بالقرآن، فهما متلازمان وكل منهما حق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكلا القولين صحيح؛ لأنهما متلازمان؛ لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن، وأما قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة:41] فيعني به: أول من كفر به من بني إسرائيل؛ لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم].(30/4)
بيان معنى قوله تعالى: (ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41] يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها؛ فإنها قليلة فانية، كما قال عبد الله بن المبارك: أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن هارون بن يزيد قال: سئل الحسن يعني البصري عن قوله تعالى: (ثمنا قليلاً) قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها].
قوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي} [البقرة:41] يعني: تعتاضوا، والمراد بالشراء الاعتياض، يعني: تأخذون هذا بدلاً من هذا، كما أن المشتري يأخذ السلعة ويعطي الثمن، فهؤلاء يأخذون الدنيا ويعطون دينهم، فيبيعون الدين بالدنيا، وسماها ثمناً قليلاً؛ لأن الدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ ولهذا في الحديث: (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، فالدنيا كلها ثمن قليل مهما أعطي الشخص من المناصب والرئاسات والأموال فهي كلها ثمن قليل، والمعنى لا تعتاضوا عن الإيمان بالله ورسوله وطلب ما عند الله في الدار الآخرة من الثواب في الدنيا مهما أعطيتم من الدنيا، فمهما حصل لكم من الدنيا فكلها ثمن قليل وشيء قليل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41] إن آياته كتابه الذي أنزله إليهم، وإن الثمن القليل الدنيا وشهواتها.
وقال السدي: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41] يقول: لا تأخذوا طمعاً قليلاً، ولا تكتموا اسم الله، فذلك الطمع هو الثمن، وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41] يقول: لا تأخذوا عليه أجراً، قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم! علِّم مجاناً كما علمت مجاناً، وقيل معناه: لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان واللبس؛ لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب.
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة)].
الحديث المعروف: (لم يرح عرف الجنة) وكأن المؤلف رواه بالمعنى، فعرف الجنة هو ريحها.
وهذا يشكل على بعض الإخوة الذي يدرسون في الجامعات في تخصص شرعي، بقصد الدنيا فقط، فإن في هذا الحديث وعيد شديد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح عرف الجنة) فهذا وعيد شديد يدل على أن هذا من الكبائر؛ وذلك لأنه قصد بتعلمه للعلم الذي هو من أجل الطاعات وأفضل القربات الدنيا، والله تعالى يقول في كتابه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، وأيضاً هذه الآية كذلك شاملة لمن تعلم العلم في هذه الدنيا، فالواجب على طالب العلم أن يخلص عمله لله، وأن يجاهد نفسه حتى تكون نيته لله، وإنما يكون ما يأتيه من المال أو من المكافأت وسيلة تعينه على طلب العلم وعلى تعلم العلم والتعليم، ولا يكون قصده الدنيا فقط، وأما إذا لم يكن تعلمه إلا لأجل الدنيا فهو من أهل الوعيد، كأن يكون ما تعلم إلا لأجل وظيفة، أو لأجل المال الذي يحصل له، أو لأجل الشهادة، فهذا عليه الوعيد الشديد، لكن الإنسان يجاهد نفسه حتى تصلح نيته، وإن كانت النية من أصعب الأمور كما قال بعض السلف، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، وقال: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت:6]، قال بعض السلف: تعلمنا لأجل الدنيا فأبى العلم إلا أن يكون لله، فالإنسان يتوب مما سلف، ويجاهد نفسه حتى تصلح نيته وتستقيم، ويضرع إلى الله عز وجل أن يوفقه للإخلاص والصدق.(30/5)
حكم أخذ الأجرة على التعليم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما تعليم العلم بالأجرة فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله، فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب فهو كما لم يتعين عليه، وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء، كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)].
هذا التفصيل الذي ذكره المؤلف رحمه الله غير ظاهر، والمعروف عند أهل العلم أنه يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلم؛ لأنه عمل، وهذا بخلاف أخذ الأجرة على تلاوة القرآن، فتلاوة القرآن لا يجوز أخذ الأجرة عليها، ومثل ذلك من يقرأ القرآن للميت ويأخذ أجره على أخذ تلاوة القرآن فقط، فحتى ولو لم يقرأ للميت فلا يجوز؛ لأن أخذ الأجرة على العبادات ممنوع، لا تلاوة القرآن، ولا تعلم العلم، ولا على الآذان، ولا على الإمامة أو القضاء، وإنما يؤخذ له من بيت المال كمرتبات، أو يؤخذ معونة من دون شرط من المتبرعين فلا بأس بذلك، وأما أن يستأجر شخصاً ليقرأ سورة البقرة فيعطي كذا، أو يعلم فيعطى كذا أجرة، أو يستأجر لأن يصلي كل يوم بكذا أو كل شهر بكذا، أو يؤم الناس بكذا فلا يصح، ولهذا سئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يقول: أصلي وأصوم رمضان بكذا وكذا درهم، فقال: اسأل الله العافية، ومن يصلي خلف هذا، وإنما يؤخذ له من بيت المال؛ لأن بيت المال فيه كفالة هؤلاء، أو معونات تعطى كتبرع، وأما الاستئجار فلا، وقال بعض العلماء: إذا تعطل ولم يجد أحداً يعطيه أو تعطل المسجد ولم يوجد مؤذن جاز أن يستأجرونه للضرورة، وإلا فإن العبادات لا يؤخذ عليها أجرة مطلقاً، ولهذا من حج ليأخذ أجرة فإنه ممنوع، أما من حج بقصد إعانة أخيه وقصد الاستفادة ورؤية المشاعر فلا بأس، ولهذا فرق شيخ الإسلام رحمه الله بين من حج ليأخذ ومن أخذ ليحج، فأما من حج ليأخذ فهذا داخل في قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، فهذا أخذ أجرة على العبادة، فهو كمن صلى أو أذن أو قرأ القرآن لأجل الدراهم، وأما من أخذ ليحج فهذا لا بأس به، وهو كمن أخذ المال ليتوصل به إلى الحج وله رغبه فيه ولكن لا يستطيع؛ ولهذا قالوا: إذا حج ليأخذ فإن عليه أن يرد الباقي على الصحيح إلا إذا سمح له، وأما المشارطات كأن يشارط على ألا يحج إلا بكذا، فلا يصلح، والقاعدة في هذا أن جميع العبادات لا يؤخذ عليها أجرة.
فالمقصود: أن التعليم لا بأس بأخذ الأجر عليه؛ للأحاديث، كحديث البخاري: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، وأما تفصيل المؤلف فهو واهٍ.
والمقصود بكل ما سبق العلوم الشرعية ومما يبتغى به وجه الله، وأما العلوم الدنيوية وإن كانت مستحبة أو فروض كفاية فهذه قد يتعلم الإنسان الزراعة أو الصناعة أو الصيدلة أو الهندسة أو النجارة أو الخرازة لأجل أن يتكسب فلا بأس بذلك، فهذه الحرف إذا حسنت نية الإنسان فيها أُجر عليها، لكن ليست كتعلم العلم الشرعي، ومثل من يتعلم ليكون بناء، أو دهاناً أو مبلطاً، أو كهربائياً، أو سباكاً، أو يتعلم الطب والهندسة والصيدلة، فكل هذه أعمال دنيوية لا بأس بها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، وقوله في قصة المخطوبة (زوجتكها بما معك من القرآن)، فأما حديث عبادة بن الصامت أنه علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من القرآن فأهدى له قوساً، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله، فتركه)، رواه أبو داود.
وروي مثله عن أبي بن كعب مرفوعاً، فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم أبو عمر بن عبد البر على أنه لما علمه لله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس، فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ وحديث سهل في المخطوبة، والله أعلم].
حديث عبادة: أنه علم رجلاً من أهل الصفة فأهدى له قوساً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله) هو عند أهل العلم ضعيف، ولكن لو صح فهو محمول على أنه تبرع، فنهاه النبي أن يفسد أجره.
وهنا أبو داود ذكر سندين لحديث عبادة، حيث قال: كتاب الإجارة: بسم الله الرحمن الرحيم، باب في كسب المعلم.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع وحميد بن عبد الرحمن الرواسي عن مغيرة بن زياد عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة بن الصامت قال: (علمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوساً، فقلت ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله عز وجل، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتيته فقلت: يا رسول الله! رجل أهدى إلي قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله، قال: إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبله))].
فيه الأسود بن ثعلبة ذكر أنه مجهول.
السند الثاني: قال: حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا: حدثنا بقية) حدثني بشر بن عبد الله بن يسار، قال عمرو: وحدثني عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت نحو هذا الخبر، والأول أتم، فقلت: ما ترى فيها يارسول الله؟ فقال: (جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها)].
فيحتاج إلى مراجعة رجال السند الثاني، لكن لو صح فيحمل على ما سبق جمعاً بين النصوص.
وهذا الحديث في ابن ماجة بالأسناد الأول الذي فيه الأسود بن ثعلبة، ثم ذكر حديث أبي، فقال: حدثنا سهل بن أبي سهل، حدثنا يحيى بن سعيد عن ثور بن يزيد، حدثنا عبد الرحمن بن سلم عن عطية الكلاعي عن أبي بن كعب قال: (علمت رجلاً القرآن فأهدى إلي قوساً، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخذتها أخذت قوساً من نار فرددتها).
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجة، وقال البويصيري: هذا إسناد مضطرب، قاله الذهبي في ترجمة عبد الرحمن بن سلم.
وفي التقريب قال عن عبد الرحمن: مجهول شامي من السادسة.
والغالب أن الأحاديث التي ينفرد بها ابن ماجة فيها ضعف، لكن السند الثاني هو الذي يحتمل أنه صحيح.(30/6)
بيان معنى قوله تعالى: (وإياي فاتقون)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41] قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عمر الدوري حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عاصم الأحول عن أبي العالية عن طلق بن حبيب قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله، رجاء رحمة الله، على نور من الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله.
ومعنى قوله: ((وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)) أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق، وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه].(30/7)
تفسير قوله تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل)
قال الله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:42 - 43].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى ناهياً لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل وتمويهه به وكتمانهم الحق، وإظهارهم الباطل: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]، فنهاهم عن الشيئين معاً، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به؛ ولهذا قال الضحاك عن ابن عباس: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:42] لا تخلطوا الحق بالباطل، والصدق بالكذب.
وقال أبو العالية: ((وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ)) يقول: ولا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ويروى عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس نحوه، وقال قتادة: ((وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ)) ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله.
وروي عن الحسن البصري نحو ذلك.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42] أي: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي، وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.
وروي عن أبي العالية نحو ذلك.
وقال مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة:42] يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم.
قلت: وتكتموا يحتمل أن يكون مجزوماً، ويحتمل أن يكون منصوباً، أي: لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، قال الزمخشري: وفي مصحف ابن مسعود: (وتكتمون الحق) أي: في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون الحق حال كتمانه أيضاً، ومعناه: وأنتم تعلمون الحق، ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق؛ لتروجوه عليهم، والبيان: الإيضاح، وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل].
فهما شيئان: الشيء الأول: لبس الحق بالباطل، مثل لبسهم اليهودية والنصرانية بالإسلام، وادعاؤهم أن اليهودية دين حق، فهذا من لبس الحق بالباطل، والثاني: الكتمان، حيث يكتمون ما عندهم من العلم بأن محمداً رسول الله حقاً، وأن الشريعة نفس الشرائع السابقة، فهذا من كتمانهم الحق، فنهوا عن هذا، فهم نهوا عن لبس الحق بالباطل، وعن كتمان الحق، قال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]، فهم يعلمون أنهم يلبسون الحق ويكتمون الحق عن علم، نسأل الله السلامة والعافية.(30/8)
تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)
قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43].
قال المصنف رحمه الله: [قال مقاتل: قوله تعالى لأهل الكتاب: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
((وَآتُوا الزَّكَاةَ)) أمرهم أن يؤتوا الزكاة، أي: يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: كونوا معهم ومنهم.
وقال علي بن طلحة عن ابن عباس: يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص، وقال وكيع عن أبي جناب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: وآتوا الزكاة قال: ما يوجب الزكاة؟ قال: مائتان فصاعداً.
وقال مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله تعالى: ((وَآتُوا الزَّكَاةَ)) قال: فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن أبي حيان التيمي عن الحارث العكلي في قوله تعالى: ((وَآتُوا الزَّكَاةَ)) قال: صدقة الفطر.
وقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] أي: وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة، وأبسط ذلك في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله تعالى، وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد].
هذه الآية فيها وجوب صلاة الجماعة، وذلك في قوله تعالى: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)) فهذا أمر بإقامة الصلاة، ثم قال: ((وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)) يعني: أقيموها مع المصلين والأمر للوجوب، فقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] يعني: أقيموا الصلاة وأدوها في الجماعة مع الراكعين المصلين، فإذا جمعت بين الأمرين دل على الوجوب، فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] أي: أقيموها مع الراكعين.
وقد يقول قائل: أنا أصلي مع جماعة في البيت فأكون قد ركعت مع الراكعين، فهذه الآية هل هي نص واضح في وجوب صلاة الجماعة؟ نقول: هي تدل على صلاة الجماعة عموماً، والنصوص الأخرى تدل على أنه لا بد من أدائها في المسجد، ومن ذلك حديث ذكره البخاري أن النبي قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أنطلق إلى رجال لا يشهدون الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم) فهذا فيه وجوب الجماعة في المسجد على الرجال، ومعلوم أن الغالب في كل بيت وجود اثنين أو ثلاثة، فلو صلى الناس في البيوت لتعطلت المساجد، ولكن النصوص فيها أنه: (من سمع النداء ثم لم يجب فلا صلاة له إلا من عذر)، والأعمى سأل النبي أن يصلي في بيته وقد يكون عنده أولاده فيصلي معهم فلم يرخص له، والذين أمر أن يحرق عليهم بيوتهم بالنار قد يقولون إنهم يصلون في بيوتهم ومع ذلك ما عذرهم، إلى غير ذلك من الأحاديث، فالآية هذه عامة في وجوب الجماعة والنصوص الأخرى دلت على أنه لا بد من أدائها في المسجد.(30/9)
تفسير سورة البقرة [44]
يعيّر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل ويبتكهم على كونهم يأمرون الناس بالبر والخير وينصحون الناس في ذلك، وهم أنفسهم مقصرون في ذلك، وهذا الفعل ليس بصحيح، بل ينبغي للإنسان أن يبادر إلى الخير الذي يأمر الناس به؛ حتى لا ينجو الناس وهو من الهالكين.(31/1)
تفسير قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)
قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب وأنتم تأمرون الناس بالبر -وهو جماع الخير- أن تنسوا أنفسكم فلا تأمرونها بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله، أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم، وهذا كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44] قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون، فعيرهم الله عز وجل].
فعيرهم، يعني: عابهم وذمهم، وهذا ليس خاصاً ببني إسرائيل، بل هو عام لبني إسرائيل ولهذه الأمة، ولهذا قال بعضهم: مضى القوم ولم يعن به سواكم، أي: أن المراد هذه الأمة؛ لأن بني إسرائيل قد مضوا، والله تعالى إنما ذكر هذا ليحذرنا من أن نفعل مثل فعلهم، فيصيبنا ما أصابهم.
فالواجب على الإنسان إذا أمر بالمعروف أن يكون أول المؤتمرين به، وإذا نهى عن منكر أن يكون أول المنتهين عنه، ولا شك أنه قبيح بالإنسان أن يأمر الناس بالخير ويتخلف عنه، ولكن كما سيأتي أن الإنسان عليه واجبات: الأول: واجب العمل، والثاني: واجب الدعوة.
فيعمل بالواجب ويدعو الناس إليه، وإذا قصر في واحد منهما لم يسقط الآخر، فإذا كان الإنسان مقصر في الامتثال فلا يدعوه هذا التقصير إلى ألا يدعو غيره، بل يدعو ولو كان مقصراً، لكنه عيب منه، فهذا مما يعاب به الإنسان ويذم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قال السدي، وقال ابن جريج: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة:44]: أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أخبر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44] أي: تتركون أنفسكم.
{وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] أي: تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم، أي: وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
وقال الضحاك عن ابن عباس: في هذه الآية يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وتنسون أنفسكم.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني علي بن الحسن قال: حدثنا أسلم الحرمي قال: حدثنا مخلد بن الحسين عن أيوب السختياني عن أبي قلابة في قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً].
يعني: يحاسب نفسه حتى تستقيم على طاعة الله.
قال: [وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية: هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل وسألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق، فقال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، والغرض: أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الأخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف، وذهب بعضهم إلى أن من ارتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف].
هذا ضعيف بلا شك، فالإنسان عليه واجبان: واجب امتثال الأمر، والواجب الثاني أن يدعو الناس إليه، وعليه واجبان في المنهيات: ترك المحرم، ونهي غيره عنه، فإذا ضعف عن واحد منهما فلا يسقط الآخر، فإذا لم يعمل وجب عليه أن يدعو الناس وإن كان مذموماً، لكنه ترك أحد الواجبين وبقي عليه واجب آخر؛ ولهذا يقال: على أهل الكئوس -يعني: الذين يشربون الخمر- أن ينهى بعضهم بعضاً وهم يشربون الخمر، فكونه الآن لا يترك الخمر قبيح، لكن كونه ينهى غيره فهذا مطلوب، إذ هذا واجب آخر، وإن كان هذا قبيح بالإنسان، حيث ينهى عن الشيء ثم يفعله ويأمر بالشيء ولا يفعله.
ولهذا قال الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية، فإنه لا حجة لهم فيها، والصحيح: أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه.
قال مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، قال مالك: وصدق، من ذا الذي ليس فيه شيء؟ قلت: لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية؛ لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم؛ ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك، كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي العمري قالا: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا علي بن سليمان الكلبي، حدثنا الأعمش عن أبي تميمة الهجيمي عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)، هذا حديث غريب من هذا الوجه.
حديث آخر: قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا وكيع، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد وهو ابن جدعان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قال: قلت: من هؤلاء؟ قالوا: خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون؟!).
ورواه عبد بن حميد في مسنده وتفسيره عن الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة به، ورواه ابن مردويه في تفسيره من حديث يونس بن محمد المؤدب والحجاج بن منهال كلاهما عن حماد بن سلمة به، وكذا رواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة به].
كل هذه الأحاديث تدور على علي بن جدعان وهو ضعيف، فيكون الحديث ضعيفاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا إسحاق بن إبراهيم التستري ببلح - التسرتي نسبة إلى تستر وهي بلدة في الشرق- حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا عمر بن قيس عن علي بن زيد عن ثمامة عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم)].
علي بن زيد هو علي بن زيد بن جدعان المذكور في السند الأول.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأخرجه ابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم وابن مردويه أيضاً من حديث هشام الدستوائي عن المغيرة -يعني ابن حبيب ختن مالك بن دينار - عن مالك بن دينار عن ثمامة عن أنس بن مالك قال: (لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم تقرض شفاههم، فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم أفلا يعقلون؟!)].
قوله: (ختن) يعني: صهره زوج ابنته.
وهذه الأحاديث قد يقال: إنها يشد بعضها بعضاً، فالسند هذا يشد السند الآخر إذا لم يكن فيه ضعيف شديد.(31/2)
نصيحة الحكام سراً، وحكم الخروج عليهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال: قيل لـ أسامة وأنا رديفه: ألا تكلم عثمان؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً أحب أن أكون أول من افتتحه].
يعني: قيل أسامة: ألا تكلم عثمان؟ يعني: في بعض المسائل، فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، أكلمه فيما بيني وبينه ولا أفتح شراً على الناس، وهذا دليل على أنه ينبغي مناصحة ولاة الأمور في السر ولا تكون في العلن، حيث يخاطب ولاة الأمور بما يليق بهم، فلا يتكلم الإنسان في المنابر ويقول: فعل كذا وفعل كذا وفعل كذا؛ لأن هذا يسبب الشر والفتنة، ولما تكلم الثوار الذين ثاروا على عثمان وهم سفهاء من البصرة ومن الكوفة ومن مصر وتكلموا من على المنابر وأشاعوا العيوب، وقالوا: عثمان فعل كذا، وفعل كذا، وقرب أقرباءه، وأخذ الزكاة على الخيل، وأتم الصلاة في السفر، وجعلوا ينشرونها، ثم جاءوا وأحاطوا ببيته وقتلوه، فهذا يسبب الفتنة، لكن النصيحة تكون سراً، حيث يناصح ولاة الأمور بما يليق بهم، ويخاطبون بما يليق بهم فيما بينهم، فإن امتثلوا فالحمد لله، وإن لم يمتثلوا فقد أدى الإنسان ما عليه، ولا يجوز الخروج على ولاة الأمور، لحديث عوف بن مالك الأشجعي في صحيح مسلم: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم -يعني: تدعون لهم ويدعون لكم-، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة)، رواه مسلم في صحيحه.
فقال: (فليكره ما يأتي) أي: اكره المعصية ولا تنزعن يداً من طاعة، والنصيحة مبذولة من العلماء ومن يستطيع الكلام مع ولاة الأمور بما يليق بهم، وأما الخروج ومنابذتهم وقتالهم وتأليب الناس عليهم فهذا ممنوع إلا في حالة واحدة، وهي كما جاء في الحديث: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)، فذكر شروطاً هي: الأول: أن يصدر من ولي الأمر كفر، والثاني: أن يكون الكفر بواحاً يعني: صريحاً لا لبس فيه.
الثالث: (عندكم من الله فيه برهان)، وأيضاً الشرط الأخير هو: القدرة ووجود البديل، فإن كان الإنسان لا يستطيع فعليه أن يصبر على الولاية ولو كانت كافرة، فإذا استطاع أن يزيل الكافر ويأتي بدله بكافر فما حصل المطلوب، وذلك مثل الانقلابات العسكرية، حيث تزال حكومة عسكرية كافرة ويأتي بدلها بحكومة عسكرية كافرة، وأما إذا كفر كفراً صريحاً واضحاً لا لبس فيه، والناس عندهم قدرة ووجد البديل وهي حكومة مسلمه فيخرج، وإلا فلا.
وأما العاصي فلا يجوز الخروج عليه، وإنما تكره المعاصي وتبذل النصيحة لولاة الأمور بسرية وبالطريقة المناسبة، وأما الخروج على ولاة الأمور فهذا يسبب الفوضى، والاضطراب، وإراقة الدماء، وانقسام الناس، واختلال الأمن، والزراعة، والمعيشة، والاقتصاد، والتعليم، وتتربص الأعداء بهم الدوائر، وتتدخل الدول الكافرة، إلى غير ذلك من المفاسد، فلا يجوز الخروج على ولاة الأمور كما قرر ذلك أهل السنة في عقائدهم كـ الطحاوي وغيره، حيث قال: ولا تنزع يداً من طاعة، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة.
وهذا معروف عند أهل العلم، وقرر هذا أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية والمجدد الإمام محمد عبد الوهاب وأئمة الدعوة وغيرهم، وأما الدعوة إلى الخروج بالمعاصي فهذه طريقة الخوارج.
ومثل المعاصي المنكرات فإنها تبين وتنكر، فيبين ويقال: الربا حرام ولا يجوز التعامل به، وتبرج النساء حرام، ويرد على أهل الباطل الذين يكتبون باطلهم في الصحف.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً أحب أن أكون أول من افتتحه، والله! لا أقول لرجل إنك خير الناس وإن كان علي أميراً بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان! ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه)، ورواه البخاري ومسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به نحوه.
وقال أحمد حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء)].(31/3)
معنى لفظة: (الأميين)
قوله: (يعافي الأميين) يعني: الذين لا يعلمون ولا يكتبون ولا يقرءون، وسموا أميين نسبة إلى الأمهات؛ لأن الغالب أن الأم لا تعلم ولا تقرأ ولا تكتب، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة:2]، والرسول نبي أمي منسوب إلى أمه؛ لأن الأم لا تقرأ ولا تكتب في الغالب، ومعنى الحديث: إن الله يعافي الأميين الذين لا يعلمون ما لا يعافي الذين يعلمون، فالأمي الذي لا يعلم جاهل، والجاهل ليس كالعالم، فإثم العالم أعظم من إثم الجاهل، فالجاهل قد يكون معذوراً.(31/4)
بيان معنى حديث: (كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه)
وقوله: (كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
لاشك أنه يكون في ترك الأمور الواجبة كالصلاة، وفعْل الأمور المحرمة، فالأمور الواجبة يجب على الإنسان أن يلتزم بها والمحرمة يجب أن يبتعد عنها، فإذا أمر غيره بالأمور الواجبة ولم يمتثل صار مذموماً، وإذا نهى غيره عن المنهيات ولم ينته صار مذموماً، وأما النوافل فأمرها سهل إذا أمر بها ولم يأتها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ورد في بعض الآثار: أنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة، ليس من يعلم.
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أناسا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون: بم دخلتم النار؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم، فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل)، ورواه ابن جرير الطبري عن أحمد بن يحيى الخباز الرملي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الزاهري عبد الله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره.
وقال الضحاك عن ابن عباس: أنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أبلغت ذلك؟ قال: أرجو، قال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل، قال: وما هن؟ قال: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44]، أحكمت هذه؟ قال: لا، قال: فالحرف الثاني؟ قال: قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، أحكمت هذه؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث؟ قال: قول العبد الصالح شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ} [هود:88]، أحكمت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فابدأ بنفسك.
رواه ابن مردويه في تفسيره.
وقال الطبراني: حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا زيد بن الحارث حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن المسيب بن رافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه)، إسناده فيه ضعف].
العوام ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، وقوله إخباراً عن شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]].
وإبراهيم النخعي من التابعين، وهو من أهل الكوفة.
وفي نسخة أخرى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما أحسن ما قال سلم بن عمرو: ما أقبح التزهيد من واعظٍ يزهِّد الناس ولا يزهدُ لو كان في تزهيده صادقاً أضحى وأمسى بيته المسجد إن رفض الناس فما باله يستمنح الناس ويسترفد والرزق مقسوم على من ترى يسعى له الأبيض والأسود وقال بعضهم: جلس أبو عثمان الحيري الزاهد على مجلس التذكير فأطال السكوت، ثم أنشأ يقول: وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي والطبيب مريض قال: فضج الناس بالبكاء.
وقال أبو العتاهية الشاعر: وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وريح الخطايا من ثيابك تسطع وقال أبو الأسود الدؤلي: لا تنه عن خلق وتأت مثله عار عليك إذا فعلت عظيم فابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد بن زيد البصري العابد الواعظ قال: دعوت الله أن يريني رفيقي في الجنة، فقيل له في المنام: هي امرأة في الكوفة يقال لها: ميمونة السوداء، فقصدت الكوفة لأراها فقيل لي: هي ترعى غنماً في وادٍ هناك، فجئت إليها فإذا هي قائمة تصلي والغنم ترعى حولها وبينهن الذئاب لا ينفرن منهن، ولا يسطو الذئاب عليهن، فلما سلمت قالت: يا ابن زيد ليس الموعد هنا إنما الموعد ثمَّ، فسألتها عن شأن الذئاب والغنم، فقالت: إني أصلحت ما بيني وبين سيدي فأصلح ما بين الذئاب والغنم].
المراد (بسيدي) الله سبحانه وتعالى.
[فقلت لها: عظيني فقالت: يا عجباً من واعظ يوعظ، ثم قالت: يا ابن زيد! إنك إن وضعتَ موازين القسط على جوارحك لخبرتك بمفهوم مكنون ما فيها، يا ابن زيد! إنه بلغني: ما من عبد أعطي من الدنيا شيئاً فابتغى إليه إلا سلبه الله حب الخلوة، وبدله بعد القرب البعد، وبعد الأنس الوحشة، ثم أنشأت تقول: يا واعظاً قام باحتساب يزجر قوماً عن الذنوب تنهى ولما تستقيم حقاً هذا من المنكر العجيب تنهى عن الغي والتمادي وأنت في النهي كالمريب لو كنت أصلحت قبل هذا عيبك أو تبت من قريب كان لما قلت يا حبيب موضع صدق من القلوب القصة فيها نكارة من جهة أنه ذهب إليها وهي ترعى في الغنم، وهذه خلوة في البر].(31/5)
تفسير سورة البقرة [45 - 50]
في هذه الآيات يأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يستعينوا بالصبر والصلاة في جميع شئونهم؛ فإن في ذلك الفرج والخير في الدنيا والآخرة.
كما يأمرهم بأن يحذروا يوماً لا ينفع والد ولده، ولا ولد هو مجزي عن والده شيئاً، وأن يستعدوا لذلك اليوم بالعمل الصالح.(32/1)
تفسير قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة)
قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى آمراً عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة بالاستعانة بالصبر والصلاة، كما قال مقاتل بن حيان في تفسير هذه الآية: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة.
فأما الصبر فقيل: إنه الصيام، نص عليه مجاهد، قال القرطبي وغيره: ولهذا يسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث.
وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن جري بن كليب عن رجل من بني سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصوم نصف الصبر)].
وقد أخرجه الترمذي وفيه مجهول وهو قوله: عن رجل من بني سليم، وكذا ابن ماجة من طريق أخرى، وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو متفق على تضعيفه.
وقد يقال: إنه يجبر أحدهما الآخر، هذا إذا كان موسى بن عبيدة لم يشتد ضعفه، فإنه يجبر أحدهما الآخر، وموسى بن عبيدة ليس بمتهم فيجبر غيره، وأما إذا كان متهماً بالكذب فإنه لا يجبر غيره، فإذا كان أحد الطريقين يجبر الآخر فإن الحديث يكون حسناً لغيره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: المراد بالصبر: الكف عن المعاصي؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها فعل الصلاة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن حمزة بن إسماعيل حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن وأحسن منه الصبر عن محارم الله.
قال: وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر، وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة عن مالك بن دينار عن سعيد بن جبير قال: الصبر اعتراف العبد لله بما أصيب فيه، واحتسابه عند الله، ورجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر].
والمعنى: أنه يجزع بقلبه وهو يتجلد بجوارحه، فقلبه غير صابر ويرى في الظاهر أنه متجلد.
فإذا جاهد نفسه على ذلك فهذا طيب؛ لأنه يمنع جوارحه مما يغضب الله، فيحبس النفس عن التشكي، وعن الجزع وعن التسخط وعما يغضب الله.(32/2)
أنواع الصبر
وهذه الآية هو قول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] عامة، أي: استعينوا بالصبر في كل شيء: في أداء الفرائض، وفي الانتهاء عن المحارم، وفي عدم التسخط من قضاء الله وقدره؛ لأن الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وهو أن يصبر الإنسان حتى يؤدي الفرائض والواجبات، والثاني: صبر عن محارم الله، وهو أن يحبس نفسه حتى يترك ما حرم الله عليه طاعة لله، وتعظيماً لأمره ونهيه، وخوفاً ورجاءً.
والنوع الثالث: صبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يجزع ولا يتسخط، ولا يتشكى، فلا يجزع بنفسه، ولا يتشكى بلسانه، ولا يفعل بجوارحه ما يغضب الله، والصبر هو: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، والجوارح عما يغضب الله، فلا يلطم خداً، ولا ينتف شعراً، ولا يتكلم بكلام لا يليق، ومن لم يصبر فلا إيمان له، ولهذا جاء عن بعض السلف: أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
وكان علي رضي الله عنه ينادي: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له.
فلا بد من الصبر، فإن الذي لا يصبر لا يستطيع أن يقوم بما أوجب الله عليه، ولا يستطيع أن يترك ما حرم الله عليه إلا بالاستعانة بالله ثم الصبر.
قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، والصلاة كذلك تخفف الآلام والمشاق، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول لـ بلال: (أرحنا يا بلال! بالصلاة).(32/3)
صفات الخاشعين
قال الله عن الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} يعني: شاقة وصعبة، {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} الذين خشعت قلوبهم وجوارحهم وانقادت لأوامر الله وعظموا الله وعظموا أمره ونهيه؛ فإنها ليست شاقة عليهم.
قال تعالى: ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ)) أي: يتيقنون، ((وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ))، فتيقنهم بلقاء الله ورجوعهم إليه يهون عليهم المشاق والمصاعب والمتاعب، فيجعل الصلاة قرة عين لهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو العالية في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} قال: على مرضاة الله، واعلموا أنها من طاعة الله، وأما قوله: ((وَالصَّلاةِ)) فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر، كما قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]،الآية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة، قال: حذيفة يعني ابن اليمان رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى).
ورواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي، وقد رواه ابن جرير من حديث ابن جريج عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة عن عبد العزيز بن اليمان عن حذيفة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة).
ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة، ويقال: أخي حذيفة مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن عمار: قال محمد بن عبد الله الدؤلي: قال عبد العزيز: قال حذيفة: (رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى)، حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع علياً رضي الله عنه يقول: (لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح)].
هذا سند جيد، وأبا إسحاق قد صرح بالسماع، والصحيح أن عبد العزيز بن اليمان ابن أخي حذيفة بن اليمان.(32/4)
الصلاة شفاء
قال المؤلف رحمه الله: [قال ابن جرير: وروي عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه مر بـ أبي هريرة وهو منبطح على بطنه فقال له: أشكم درد؟ ومعناه: أيوجعك بطنك؟ قال: نعم، قال: قم فصل فإن الصلاة شفاء)].
(أشكم درد) هذه المقولة بالفارسية.
والحديث ضعيف؛ لأن في سنده ضعيفين وهما: ذواد بن علبة وليث بن أبي سليم، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تكلم بالفارسية.
قال المؤلف رحمه الله: [قال ابن جرير: وقد حدثنا محمد بن الفضل ويعقوب بن إبراهيم قالا: حدثنا ابن علية حدثنا عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]].
ومعنى قوله: "أطال الجلوس" يعني: في التشهد، فالتشهد محل دعاء.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: ((وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)) قال: إنهما معونتان على رحمة الله.
والضمير في قوله: (إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) عائد إلى الصلاة، نص عليه مجاهد، واختاره ابن جرير، ويحتمل أن يكون عائداً على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك، كقوله تعالى في قصة قارون: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، وقال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35] أي: وما يلقى هذه الوصية (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا) أي: يؤتاها ويلهمها إلا {ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، وعلى كل تقدير فقوله تعالى: ((وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ)) أي: مشقة ثقيلة، ((إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ))].(32/5)
ذكر الأقوال الواردة في معنى قوله تعالى: (إلا على الخاشعين)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المصدقين بما أنزل الله، وقال مجاهد: المؤمنين حقاً، وقال أبو العالية: (إلا على الخاشعين): الخائفين، وقال مقاتل بن حيان: (إلا على الخاشعين) يعني به: المتواضعين، وقال الضحاك: (وإنها لكبيرة) قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطوته، المصدقين بوعده ووعيده، وهذا يشبه ما جاء في الحديث: (لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه).
وقال ابن جرير: معنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب! بحبس أنفسكم على طاعة الله، وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من رضا الله، العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين، أي: المتواضعين المستكينين لطاعته، المتذللين من مخافته.
هكذا قال، والظاهر أن الآية وإن كانت خطاباً في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم].
فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فما كان تحذيراً لبني إسرائيل فهو تحذير لهذه الأمة، كما قال بعض السلف: مضى القوم ولم يعن به سواكم.
فبنو إسرائيل قد مضوا، والمعني هو هذه الأمة.(32/6)
تفسير قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم)
قال الله تعالى: [وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي: إن الصلاة أو الوصاية لثقيلة (إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) أي: يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة معروضون عليه، (وأنهم إليه راجعون) أي أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات.
فأما قوله: {يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة:46]، قال ابن جرير رحمه الله: العرب قد تسمي اليقين ظنا والشك ظناً نظير تسميتهم الظلمة سدفة، والضياء سدفة، والمغيث صارخاً والمستغيث صارخاً].
هذه من الأضداد، وهي الألفاظ التي تطلق على الشيء وضده، كتسمية الصحراء مفازة وهي مهلكة، ولكن سميت مفازة تفاؤلاً بالسلامة، وكما سمى اللديغ سليماً تفاؤلاً له بالسلامة، وهكذا فالظن المراد به اليقين، ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ)) يعني: يتيقنون؛ لأن من شك في ملاقاة الله فقد كفر وليس المراد هذا، وإنما المراد اليقين، ويأتي في كثير من المواضع الظن بمعنى اليقين.
قال المؤلف رحمه الله: [وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده، كما قال دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهمُ في الفارسي المسرد] ومعناه تيقنوا بألفي مدجج، وهذا تهديد لهم، سراتهم يعني: أسراهم, فليس المراد شكوا، بل المراد: تيقنوا، فأطلق الظن وأراد به اليقين، وكذلك في الآية المراد بالظن اليقين.
قال المؤلف رحمه الله: [يعني بذلك: تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم.
وقال عمير بن طارق: فإن يعبروا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيباً مرجّما يعني: وأجعل مني اليقين غيباً مرجماً، قال: والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصر.
وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية، ومنه قول الله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:53]].
أي: أنهم لما رأوها وهم قد عملوا أعمالهم الخبيثة تيقنوا أنهم واردون عليها وملاقوها.
قال المؤلف رحمه الله: [ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان عن جابر عن مجاهد: كل ظن في القرآن يقين، أي: ظننت وظنوا.
وحدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا أبو داود الجبري عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كل ظن في القرآن فهو علم.
وهذا سند صحيح].
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] يعني: تيقنت: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة:21 - 22].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ)) قال: الظن هنا يقين، قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والسدي والربيع بن أنس وقتادة نحو قول أبي العالية، وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ)): علموا أنهم ملاقوا ربهم، كقوله: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] يقول: علمت، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
قلت: وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: (ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى، فيقول الله تعالى: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول الله تعالى: اليوم أنساك كما نسيتني)].
فقوله: (أظننت أنك ملاقي؟) أي: أتيقنت أنك ملاقي؟ وهذا هو الشاهد.
وقوله: (اليوم أنساك كما نسيتني) المراد بالنسيان الأول تركه في النار والإعراض عنه، والنسيان الثاني المراد به ترك أوامر الله وارتكاب نواهيه، وهذا مثل قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] يعني: نسوا أوامره ونواهيه، (فنسيهم) يعني: عاملهم معاملة المنسي، فأعرض عنهم، وتركهم في النار ولم يبالِ بهم.
قال المؤلف رحمه الله: [وسيأتي مبسوطاً عند قوله تعالى {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] إن شاء الله تعالى].(32/7)
تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)
قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47].
قال المؤلف رحمه الله: [يذكرهم تعالى بسالف نعمه على آبائهم وأسلافهم وما كان فضلهم به من إرسال الرسل منهم، وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:20] قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47]، قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان].
فالمراد بالعالمين عالم زمانهم؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، فالمراد: على عالم زمانهم، هذا هو الصحيح؛ لأن بني إسرائيل أفضل الناس في زمانهم، فقد أرسل الله منهم رسلاً، وأنزل عليهم كتباً، فهم أفضل الناس، ثم جاءت هذه الأمة فكانت أفضل منهم.
قال المؤلف رحمه الله: [فإن لكل زمان عالماً، وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك، ويجب الحمل على هذا؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم؛ لقوله تعالى خطابا لهذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران:110].
وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حيدة القشيري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)، والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
وقيل: المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس ولا يلزم تفضيلهم مطلقاً، حكاه الرازي وفيه نظر، وقيل: إنهم فضلوا على سائر الأمم؛ لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم، حكاه القرطبي في تفسيره وفيه نظر؛ لأن العالمين عام يشمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم، ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة صلوات الله وسلامه عليه].(32/8)
تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً)
قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48].
قال المؤلف رحمه الله: [لما ذكرهم تعالى بنعمه أولاً عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة، فقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا} [البقرة:48] يعني: يوم القيامة {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة:48] أي: لا يغني أحد عن أحد، كما قال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وقال: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:33]، فهذا أبلغ المقامات: أن كلاً من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً، وقوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:48] يعني: من الكافرين كما قال: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وكما قال عن أهل النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101].
وقوله تعالى: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:48] أي: لا يقبل منها فداء، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران:91]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:36]، وقال تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام:70]، وقال: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ} [الحديد:15] الآية، فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب، ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهباً، كما قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254]، وقال: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم:31].
قال سنيد: حدثني حجاج حدثني ابن جريج قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:48] قال: بدل، والبدل: الفدية، وقال السدي: أما عدل فيعدلها من العدل يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:123]، يعني: فداء.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه في حديث طويل قال: والصرف والعدل: التطوع والفريضة].
وهذا من باب الوعيد نسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله: [وكذا قال الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة عن عمير بن هانئ، وهذا القول غريب هاهنا، والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية.
وقد ورد حديث يقويه وهو ما قال ابن جرير: حدثني نجيح بن إبراهيم حدثنا علي بن حكيم حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن عليه الثناء قال: قيل: يا رسول الله! ما العدل؟ قال: (العدل الفدية)].
السند فيه مجهول، والصواب القول الأول: أن المراد بالعدل الفداء، وهو مأخوذ من المفاداة، أي: مهما افتدى ولو بملء الأرض ذهباً ما قبل منه إذا كان كافراً وأعماله سيئة، {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:123]، فليس هناك إلا الأعمال الصالحة أو الأعمال السيئة، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، فالذي عمله سيء لا يفيده شيء لو فدى نفسه بملء الأرض ذهباً، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:36 - 37].
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48] أي: ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه، ولا يقبل منهم فداء، هذا كله من جانب التلطف، ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم، كما قال: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق:10] أي: أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة، ولا ينقذ أحداً من عذابه منقذ، ولا يخلص منه أحد، ولا يجير منه أحد، كما قال تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88]، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26]، وقال: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:25 - 26]، وقال: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} [الأحقاف:28] الآية.
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:25]: مالكم اليوم لا تمانعون منا؟! هيهات ليس ذلك لكم اليوم].
فقوله: لا تمانعون يعني: لا تستطيعون أن تدافعوا عن أنفسكم، أو تردوا عنكم العذاب وتمتنعوا منه.
قال المؤلف رحمه الله: [قال ابن جرير: وتأويل قوله: {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48] يعني: أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية، بطلت هنالك المحاباة، واضمحلت الرشى والشفاعات].
الرُّشى جمع رشوة، ولا وجود للرشوة في الآخرة، فالرشوة موجودة في الدنيا، فبعضهم يدفعون رشوة ويسلمون من العقوبة ومن العذاب، لكن في الآخرة لا وجود لها إطلاقاً.
فالرشى بالضم جمع رشوة، وهي المال الذي يدفعه الإنسان ليفتدي به، أو يتزلف به حتى يحصل على شيء أو يدفع عنه شيء، والرشى بالكسر الحبل الذي يدلى به في البئر، والرشى بالفتح ولد الغزال.
قال المؤلف رحمه الله: [وارتفع من القوم التناصر والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها، وذلك نظير قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26]].(32/9)
تفسير قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب)
قال الله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:49 - 50].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، أي: خلصتكم منهم وأنقذتْكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام وقد كانوا يسومونكم، أي: يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب، وذلك أن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته؛ رأى ناراً خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، ويقال بعد تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة، وهكذا جاء في حديث الفتون كما سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى].
هذه الآية وما بعدها يمتن الله سبحانه وتعالى بها على بني إسرائيل، ويعدد عليهم نعمه، حيث أنجاهم من آل فرعون، وقد كان فرعون يسومهم سوء العذاب: فيذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ثم ذكر نعمته بأن فرق بهم البحر، وأنجاهم وأغرق آل فرعون، وجعل يعدد سبحانه وتعالى نعمه المتتابعة.
والخطاب لبني إسرائيل، وهذا إنما حصل لآبائهم وأجدادهم، ولكن النعمة على الأجداد نعمة على الأحفاد، فهو سبحانه وتعالى يخاطب بني إسرائيل أهل الكتاب الذين في المدينة في زمن النبوة، وهم ما رأوا هذا ولا حصل لهم، ولكن حصل هذا لآبائهم وأجدادهم؛ ولأن الأحفاد إذا أقروا الأجداد على ما هم عليه فحكم الأحفاد حكم الأجداد؛ لأن الراضي كالفاعل، والامتنان على الآباء والأجداد امتنان على الأحفاد والأولاد، {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة:49] فالنجاة إنما كانت لآبائهم وأجدادهم عندما كانوا مع موسى عليه الصلاة والسلام، هو خطاب لليهود في المدينة وقت نزول الوحي: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} [البقرة:49] يعني: نجينا آباءكم، {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [البقرة:50]، يعني: فرقنا بآبائكم وأجدادكم مع موسى.
وحديث الفتون حديث طويل رواه ابن عباس وأخرجه النسائي بطوله، وأكثره مأخوذ من بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله: [فعند ذلك أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها].
فأخذوا يستعملونهم في الخدمة والعمل والكنس والطبخ، وما أشبه ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقوم بها إلا هم، ولما أمر فرعون بقتل بني إسرائيل قال له أناس: إن فعلت ذلك فسوف تنتهي اليد العاملة ولا يبقى من يعمل ومن يقوم بهذه الأشغال، فعند ذلك رأى رأياً آخر وهو أن يقتل الذكور سنة ويبقيهم سنة؛ حتى تبقى اليد العاملة ولا ينقطع الذكور وتقل الكثرة التي يخاف منها؛ لأنه إذا تركهم خشي منهم، وإذا قتلهم كل سنة انتهوا وانتهت اليد العاملة.
واختلف في المراد بالآل: فقيل يطلق على الرجل من باب التعظيم، فيقال: آل فلان، ولا يضاف إلى البلدان على المشهور، وجوز بعضهم ذلك كأن يقال: أهل المدينة، فحكى أبو عبيد: أهل مكة، أهل الله، وهكذا يضاف إلى موطن الرجل على المشهور، قال عبد المطلب: وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك وقال غيره: أنا الفارس الحامي حقيقة والدي وآلي كما تحمي حقيقة آلك وقيل المراد بالآل أزواجه وذريته، وقيل: نسبه وعشيرته، وقيل: أتباعه على دينه، وهذا هو الأرجح أتباعه على دينه، ويدخل فيه جميع المؤمنين من أزواجه وذريته وبني هاشم، وآل الرجل يدخل فيهم هو دخولاً أولياً، فآل إبراهيم يدخل فيهم إبراهيم دخولاً أولياً، وآل فرعون يدخل فيهم فرعون دخولاً أولياً، فهو أولهم، وأتباعه تبع له.
قال المؤلف رحمه الله: [وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [إبراهيم:6]].
أي: هنا جعل تذبيح الأبناء جزء من العذاب.
قال المؤلف رحمه الله: [وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص إن شاء الله تعالى به الثقة والمعونة والتأييد.
ومعنى يسومونكم: يولونكم، قاله أبو عبيدة، كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها، قال عمرو بن كلثوم: إذا ما الملك سام الناس خسفاً أبينا أن نقر الخسف فينا] فهذا عمرو بن كلثوم يمدح قومه وأنهم لا يستجيبون ولا يقبلون الخسف وإن قبله غيرهم، ويقول: إذا أهانت الملوك الناس فقومي لا يقبلون الإهانة.
قال المؤلف رحمه الله: [وقيل معناه: يديمون عذابكم، كما يقال: سائمة الغنم من إدامتها الرعي، نقله القرطبي، وإنما قال هاهنا: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [إبراهيم:6] ليكون ذلك تفسيراً للنعمة عليهم في قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [إبراهيم:6]].
فمعنى (يسومونكم) أي: يؤذونكم أو يديمون العذاب عليكم، (ويذبحون أبناءكم) يعني: يقتلون الأبناء، (ويستحيون نساءكم)، يعني: يبقونهن أحياء فلا يقتلونهن، لأن النساء أو الإناث لا يخشى منهن؛ لضعفهن، وعدم تحملهن، وعدم حملهن السلاح في الغالب.
قال المؤلف رحمه الله: [ثم فسره بهذا لقوله هاهنا: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40]، وأما في سورة إبراهيم فلما قال: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم:5] أي: بأياديه ونعمه عليهم، فناسب أن يقول هناك: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [إبراهيم:6]، فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل].
لما ذكر النعم جعل الذبح داخلاً في سوم العذاب، وهناك لما أراد التعداد وذكرهم بأيام الله -أي: بنعمه- قال: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [إبراهيم:6]، فعطف بعضها على بعض تعداداً للنعم، وهنا جعلها شيئاً واحداً فجعل الذبح جزءاً من العذاب.
قال المؤلف رحمه الله: [وفرعون علم على كل من ملك مصر كافراً من العماليق وغيرهم، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافراً، وكسرى لمن ملك الفرس، وتُبَّع لمن ملك اليمن كافراً، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك الهند].
وهذا فيه نظر؛ لأن بطليموس هو من ملك اليونان، فالبطالسة هم ملوك اليونان وأحدهم: بطليموس.
قال المؤلف رحمه الله: [ويقال: كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام الوليد بن مصعب بن الريان، وقيل: مصعب بن الريان، فكان من سلالة عمليق بن الأود بن إرم بن سام بن نوح وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من إصطخر، وأياً ما كان فعليه لعنة الله.
وقوله تعالى: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49]، قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم، أي: نعمة عظيمة عليكم في ذلك، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله تعالى: {بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49] قال: نعمة].
يطلق البلاء على النعمة وعلى المحنة، فبلاء عظيم، يعني: نعمة عليكم أو مصيبة.
ويطلق بطليموس على حكماء اليونان، والحكيم قد يكون ملكاً وقد لا يكون.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال مجاهد {بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49] قال: نعمة من ربكم عظيمة وكذا قال أبو العالية وأبو مالك والسدي وغيرهم.
وأصل البلاء الاختبار، وقد يكون بالخير والشر، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، وقال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:168]، قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاء، وفي الخير أبليه إبلاء وبلاء، قال زهير بن أبي سلمى: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو].
أبلاه يعني: في الشر، ويبلو يعني: في الخير.
قال المؤلف رحمه الله: [قال: فجمع بين اللغتين؛ لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده وقيل: المراد بقوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ} [البقرة:49] إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء، قال القرطبي: وهذا قول الجمهور، ولفظه بعد ما حكى القول الأول ثم قال: وقال الجمهور: الإشارة إلى الذبح ونحوه، والبلاء هاهنا في الشر، والمعنى: وفي الذبح مكروه وامتحان].(32/10)
تفسير قوله تعالى: (وإذ فرقنا بكم البحر)
قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50]، معناه: وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام خرج فرعون في طلبكم، ففرقنا بكم البحر كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلاً كما سيأتي في موضعه، ومن أبسطها ما في سورة الشعراء إن شاء الله.
((فَأَنْجَيْنَاكُمْ)) أي: خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم، وأغرقناهم وأنتم تنظرون؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم، وأبلغ في إهانة عدوكم.
قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أبي إسحاق الهمداني عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50] قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون فقال: لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة، قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا، فدعا بشاة فذبحت ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط، فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط].
فهذا يدل على أن فرعون كان ملكاً جباراً ظالماً كافراً، فإذا أمر ينفذ أمره؛ لأنه يخشى شره، ولهذا قال: لا أفرغ من أكل الكبد حتى يجتمع إلي ستمائة ألف فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط: من الجنود والجيوش العظيمة.
قال المؤلف رحمه الله: [فلما أتى موسى البحر قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمر ربك؟ قال: أمامك يشير إلى البحر، فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغمر فذهب به الغمر ثم رجع فقال: أين أمر ربك يا موسى؟ فوالله ما كذبت ولا كُذبت].
يعني: ما كذبت أنت، ولا كُذِبت يعني: كذب أمر الله لك.
قال المؤلف رحمه الله: [فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم -يقول: مثل الجبل-، ثم سار موسى ومن معه، واتبعهم فرعون في طريقهم حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم، فلذلك قال: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50]، وكذلك قال غير واحد من السلف كما سيأتي بيانه في موضعه، وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء، كما قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال: ما هذا اليوم الذي تصومون؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجىَّ الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصومه)، وروى هذا الحديث البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق عن أيوب السختياني به نحو ما تقدم.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو الربيع حدثنا سلام يعني ابن سليم عن زيد العمي عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء)، وهذا ضعيف من هذا الوجه؛ فإن زيداً العمي فيه ضعف، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه].
هذا السند لا يصح لأن فيه ضعيفين.
لكن جاء في الصحيحين أنه قال: (يوم صالح نجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى، قال النبي: فنحن أحق بموسى منكم)، ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على قولهم.(32/11)
تفسير سورة البقرة [51 - 56]
واعد الله تعالى نبيه موسى عليه السلام، فقام بنو إسرائيل بعبادة العجل، وذلك من جهلهم وعنادهم وعدم التزامهم بأحكام أنبيائهم، ثم عفا الله تعالى عنهم بعد ذلك، وآتى موسى الكتاب والفرقان لعلهم يهتدون.
ثم حصل بعد ذلك عناد من بني إسرائيل لأنبيائهم فأرسل الله عليهم الصيحة فأخذتهم، ثم أحياهم بعد ذلك لعلهم يشكرون.(33/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة)
قال تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:51 - 53]].
هذه من النعم التي يعددها الله تعالى عليهم، يعني واذكروا إذ واعدتم موسى أربعين ليلة، ثم عبدتم العجل، ثم الله عفا الله عنكم وتاب عليكم، مع أنهم وقعوا في الشرك.
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة وكانت أربعين يوما، وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142]، قيل إنها: ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر وقوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [البقرة:53] يعني: التوراة {وَالْفُرْقَانَ} [البقرة:53] وهو: ما يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلالة (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)].
أما بالنسبة لتحديد السنة التي أنزلت فيها التوراة فهذا يحتاج إلى دليل، والمهم أنه بعد هلاك فرعون وجنوده وإنجاء بني إسرائيل أنزل الله التوراة على موسى، كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} [القصص:43].
قال المؤلف رحمه الله: [وكان ذلك أيضا بعد خروجهم من البحر كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف ولقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:43]، وقيل: الواو زائدة والمعنى ولقد آتينا موسى الكتاب الفرقان وهذا غريب].
فكلمة الفرقان هي وصف للكتاب -إذا قيل: إن الواو زائدة- أي: آتى موسى الكتاب الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل.
قال المؤلف رحمه الله: [وقيل عطف عليه وإن كان المعنى واحداً، كما في قول الشاعر: وقدمت الأديم لراقشيه فألفى قولها كذبا وميناً].
لراهشيه بالهاء وهذا هو المعروف.
الشاهد هو قوله: (كذباً وميناً)، فعطف مين على الكذب، والمين هو: الكذب والكذب هو: المين، فيريد أن يستشهد به في عطف الفرقان على الكتاب وهما شيء واحد، وهذا من باب اختلاف اللفظ والمعنى واحد، فإذا اختلف اللفظ عطف أحدهما على الآخر وإن كان المعنى واحداً، كما تقول: قام ووقف، جلس وقعد، والجلوس هو القعود، والقعود هو الجلوس، فعطف أحدهما على الآخر تأكيداً.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال الآخر: ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد] الشاهد هو: (النأي والبعد)، فعطف البعد على النأي وهما بمعنى واحد، فالنأي هو البعد والبعد هو النأي، كذلك الكتاب هو الفرقان والفرقان هو الكتاب.
قال المؤلف رحمه الله: [فالكذب هو المين، والنأي هو البعد، وقال عنترة: حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم فعطف الإقفار على الإقواء وهو هو].(33/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54].
قال المصنف رحمه الله: [هذه صفة توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة:54]، فقال: ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع، حتى قال تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} [الأعراف:149]، الآية.
قال: فذلك حين يقول موسى: {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة:54].
وقال أبو العالية وسعيد بن جبير والربيع بن أنس {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة:54] أي: إلى خالقكم.
قلت: وفي قوله هاهنا {إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة:54] تنبيه على عظم جرمهم، أي: فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره.
وقد روى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث يزيد بن هارون عن الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فقال الله تعالى: (إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله على ذنوبهم، فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به، فغفر الله للقاتل والمقتول)، وهذا قطعة من حديث الفتون، وسيأتي في سورة طه بكماله إن شاء الله].
وذلك أن ذنبهم عظيم وهو: الشرك، حيث عبدوا العجل فجعل الله توبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً نسأل الله العافية، وهذه أخبار عن بني إسرائيل لكن الآية واضحة في هذا، ويروى عن ابن عباس وغيره أنهم جاءتهم ظلمة فكانوا فيها وأخذوا السيوف فجعل يقتل بعضهم بعضاً حتى انجلت، فإذا بالقتلى يبلغون سبعين ألفاً، فتاب الله عليهم، والله أعلم بالكيفية، والواضح في هذا أن الله تاب عليهم، وأنه جعل من توبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54]، فجعل توبتهم من عبادة العجل والشرك أن يقتل بعضهم بعضاً، وأما الكيفية والعدد فلا يهمان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن الهيثم حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال أبو سعيد: عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال موسى لقومه: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54] قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم، قال: واحتبى الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقى كانت له توبة.
قال ابن جريج: أخبرني القاسم بن أبي بزة: أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهداً يقولان في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] قالا: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضاً، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد، حتى ألوى موسى بثوبه فطرحوا ما بأيديهم، فكشف عن سبعين ألف قتيل، وأن الله أوحى إلى موسى أن حسبي فقد اكتفيت، فذلك حين ألوى موسى بثوبه.
وروي عن علي رضي الله عنه نحو ذلك.
وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضاً، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فسقطت الشفار من أيديهم، فأمسك عنهم القتل، فجعل لحيهم توبة وللمقتول شهادة.
وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة حندس فقتل بعضهم بعضاً، ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك.
وقال السدي في قوله: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] قال: فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قتل من الفريقين شهيداً، حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قتل منهم سبعون ألفاً، وحتى دعا موسى وهارون: ربنا أهلكت بني إسرائيل، ربنا البقية البقية، فأمرهم أن يلقوا السلاح، وتاب عليهم، فكان من قتل من الفريقين شهيداً، ومن بقي مكفراً عنه، فذلك قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54].
وقال الزهري: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى، فاضطربوا بالسيوف وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافع يديه، حتى إذا فتر أتاه بعضهم وقالوا: يا نبي الله! ادع الله لنا، وأخذوا بعضديه يسندون يديه، فلم يزل أمرهم على ذلك، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم بعضهم عن بعض، فألقوا السلاح، وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم، فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: ما يحزنك؟ أما من قتل منهم فحي عندي يرزقون، وأما من بقي فقد قبلت توبته، فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل.
رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه.
وقال ابن إسحاق: لما رجع موسى إلى قومه وأحرق العجل وذرَّه في اليم خرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة ثم بعثوا، فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم، قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله، فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده، فجلسوا بالأفنية، وأصلت عليهم القوم السيوف، فجعلوا يقتلونهم، فهش موسى، فبكى إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم، فتاب الله عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما رجع موسى إلى قومه وكانوا سبعين رجلاً قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه، فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم، فقالوا: يا موسى! ما من توبة؟ قال: بلى، {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:54] الآية، فاخترطوا السيوف والجرزة والخناجر والسكاكين].
الجرزة بالضم عمود من حديد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وبعث عليهم ضبابة، قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي ويقتل بعضهم بعضاً، قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لا يدري، قال: ويتنادون فيها: رحم الله عبداً صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه، قال: فقتلاهم شهداء، وتيب على أحيائهم، ثم قرأ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54]].(33/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55 - 56].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق، إذ سألتم رؤيتي جهرة عِياناً مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم، كما قال ابن جريج: قال ابن عباس في هذه الآية: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] قال: علانية، وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن أبي الحويرث عن ابن عباس: أنه قال في قول الله تعالى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] أي: علانية.
وقال قتادة والربيع بن أنس: {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] أي: عياناً.
وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه، قال: فسمعوا كلاماً فقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، قال: فسمعوا صوتاً فصعقوا، يقول: ماتوا.
وقال مروان بن الحكم فيما خطب به على منبر مكة: الصاعقة صيحة من السماء.
وقال السدي في قوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} [البقرة:55] نار.
وقال عروة بن رويم في قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:55] قال: صعق بعضهم وبعض ينظرون، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء.
وقال السدي: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} [البقرة:55] فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ قال: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف:155]، فأوحى الله إلى موسى: أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجلاً رجلاً ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون، قال: فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56].
وقال الربيع بن أنس: كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم، وكذا قال قتادة.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل وذره في اليم، اختار موسى منهم سبعين رجلاً الخيّرَ فالخيّرَ، وقال: انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أُمروا به، وخرجوا للقاء الله، قالوا: يا موسى! اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فماتوا جميعاً، وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} [الأعراف:155] قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا؟ أي: إن هذا لهم هلاك، واخترت منهم سبعين رجلاً الخيّر فالخيّر، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد، فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156]، فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل، ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم، هذا سياق محمد بن إسحاق].(33/4)
صور من عنت بني إسرائيل تجاه نبي الله موسى عليه السلام
هذا تعنت من بني إسرائيل في سؤالهم موسى أن يريهم الله جهرة، وقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، فهذا من عتوهم وتعنتهم، فإنه لا يمكن لحي أن يرى الله في الدنيا، ولهذا لما سأل موسى الكليم ربه: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] قال الله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] يعني: لن تستطيع أن تتحمل الرؤية في الدنيا، ولهذا قال الله: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143]، لما تجلى الله للجبل تدكدك ولم يثبت لرؤية الله، وهو من الحجارة الصم! فكيف يستطيع البشر أن يثبتوا لرؤية الله؟! لا يستطيعون، لكن في يوم القيامة ينشئ الله المؤمنين تنشئة قوية يتحملون فيها رؤية الله عز وجل، فتبدل الصفات، وتكون أبصارهم قوية، وأجسامهم قوية تتحمل الرؤية، وأما في هذه الدنيا فلا يستطيع أحد أن يرى الله، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا).
وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر: (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل رأيت ربك؟ قال: رأيت نوراً)، وفي اللفظ الآخر: (نور أنى أراه) يعني: النور حجاب يمنعني من رؤيته، وفي الحديث الآخر في حديث أبي موسى كما في صحيح مسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور -وفي لفظ: النار-، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وهذا عام يشمل جميع الخلق.
فالصواب أن الله تعالى لن يراه أحد في الدنيا حتى نبينا صلى الله عليه وسلم، وذهب بعض الصحابة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، والصواب الذي عليه الجمهور والذي تدل عليه النصوص أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وإنما سمع كلامه ولم يره، ويدل على هذا قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51]، فالله تعالى كلم نبيه صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب، وكلم موسى كذلك، فهو محجوب عن الرؤية في الدنيا، ولا يستطيع أحد أن يراه، وإنما الرؤية نعيم خاص بأهل الجنة.
وبنو إسرائيل لهم تعنتات على أنبيائهم وعلى نبيهم موسى عليه السلام، وهذا من تعنتاتهم، فهم لما سألوا الرؤية عاقبهم الله بالصاعقة، وهي رجفة أصابتهم فماتوا، ثم أحياهم الله؛ ليستكملوا بقية آجالهم، فموسى عليه الصلاة والسلام ناجى وسأل وتضرع إلى ربه أن يحييهم فأحياهم، كما قال الله تعالى في سورة الأعراف: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف:155] أي: أصابتهم الصاعقة فماتوا، {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف:155]، فلم يزل يتضرع لربه حتى أحياهم الله، وامتن الله تعالى عليهم بذلك، كما في هذه الآية الكريمة: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55 - 56] يعني: اذكروا نعمتي عليكم حيث سألتم موسى رؤية الله جهرة فأخذتكم الصاعقة، ثم بعثتكم من بعد موتكم، فهذه امتن الله بها عليهم، وهذا لم يحصل لليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما حصل لآبائهم وأجدادهم، لكن النعمة على الآباء والأجداد نعمة على الأحفاد والأولاد، {إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} [البقرة:55 - 56] أي: اذكروا نعمة الله حين عاقبكم بالصاعقة والرجفة لما سألتم شيئاً ممنوعاً على أهل الدنيا، ثم امتن الله عليكم فأحياكم واستكملتم آجالكم.
وقال تعالى في سورة النساء: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:153].(33/5)
ذكر أقوال العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج
إن رؤية الله تعالى في الآخرة حق، ولا يلزم من هذا التشبيه، وكل يرى ربه على حسب اعتقاده، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس اعتقاداً وأصحهم علماً وعملاً رأى ربه في أحسن صورة، كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي في أحسن صورة، فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا أدري، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله، فعلمت، فقلت: يا رب! في الكفارات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)، فهذا حديث اختصام الملأ الأعلى، وقد أفرده بعض العلماء بالشرح ومنهم: الحافظ ابن رجب فقد شرح هذا الحديث في مؤلف مستقل.
فقوله: (رأيت ربي في أحسن صورة) هذا في المنام، أما في اليقظة فلم ير ربه، وإنما كلمه الله من وراء حجاب، وفرض عليه الصلوات الخمس من وراء حجاب، وهو صلى الله عليه وسلم داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وهو من خلقه، ولا يتحمل، وداخل في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51]، فهذا هو الصواب.
قال بعض الصحابة وبعض العلماء: إنه رآه بعين رأسه، والصواب أنه رآه بعين قلبه ولم يره بعين رأسه، وهذا هو الجمع الصحيح بين الآثار والنصوص، وما جاء من النصوص ومن الآثار ومن أقوال الصحابة والسلف على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، فيحمل على أنه رآه بعين قلبه، وما جاء من النصوص والآثار أنه لم يره، فيحمل على أنه لم يره بعين رأسه.
وجاء عن عائشة أنها أنكرت ذلك لما سألها مسروق: (هل رأى محمد ربه؟ قالت: لقد قف شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب).
وزعم ابن عباس: (أنه رأى ربه)، ورواية عن الإمام أحمد، لكن ما جاء عن ابن عباس وعن الإمام أحمد مطلق ويقيد برؤية الفؤاد، فيحمل المطلق على المقيد.
وذهب بعض العلماء إلى أنه رآه بعين رأسه، وقالوا: إن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن التكليم لموسى، والرؤية لمحمد، والخلة لإبراهيم، وهو ما ذهب إلى هذا القاضي عياض والنووي في شرح صحيح مسلم، وأبو إسماعيل الهروي وجماعة، لكن هذا القول مرجوح، والصواب أن نبينا صلى الله عليه وسلم شارك موسى في التكليم وشارك إبراهيم في الخلة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل، وتاب الله عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمرهم الله به، أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، وواعدهم موسى، فاختار موسى سبعين رجلاً على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، وساق البقية، وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، والمراد السبعون المختارون منهم، ولم يحك كثير من المفسرين سواه، وقد أغرب الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين: أنهم بعد إحيائهم قالوا: يا موسى! إنك لا تطلب من الله شيئاً إلا أعطاك، فادعه أن يجعلنا أنبياء، فدعا بذلك فأجاب الله دعوته.
وهذا غريب جداً؛ إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون، وقد غلط أهل الكتاب أيضاً في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل، فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمنع منه، فكيف يناله هؤلاء السبعون؟].
لا شك أن القول بأنهم رأوا ربهم غلط، وقولهم: إنهم أنبياء هذا من أشد الأغلاط التي نقلها الرازي رحمه الله.(33/6)
القول الثاني للمفسرين في طلب بني إسرائيل رؤية الله وتكليمه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [القول الثاني في الآية: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: قال لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم ففعلوا فتاب الله عليهم، فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب الله فيه أمركم الذي أمركم به، ونهيكم الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا ويقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى؟! وقرأ قول الله: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم فماتوا أجمعون.
قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56]، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، فقال: أي شيء أصابكم؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم أحيينا، قال: خذوا كتاب الله، قالوا: لا، فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم، وهذا السياق يدل على أنهم كُلفوا بعدما أحيوا، وقد حكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم؛ لمعاينتهم الأمر جهرة، حتى صاروا مضطرين إلى التصديق.
والثاني: أنهم مكلفون؛ لئلا يخلو عاقل من تكليف].
الصواب: أنهم مكلفون، وهذا الصعق والموت شيء عارض، فهو ليس الموتة التي سيموتون والتي كتبت عليهم، وإنما هذا الموت بالصاعقة والرجف عقوبة ولا تمنع من التكليف، فالتكليف مستمر، فهم لما أحيوا استمر التكليف عليهم إلى موتهم، حتى يأتي كل واحد أجله الذي قدره الله له.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال القرطبي: وهذا هو الصحيح؛ لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم؛ لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أموراً عظاماً من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلفون، وهذا واضح.
والله أعلم].
صدق القرطبي رحمه الله، وهو كلام جيد.(33/7)
تفسير سورة البقرة [57]
لقد منّ الله تعالى على بني إسرائيل بمنن كثيرة، منها أنه أنزل عليهم المن والسلوى وهم في زمن التيه، فأعطاهم طعاماً وشراباً، فكان الواجب عليهم أن يشكروه، وأن يتقربوا إليه حتى يزيدهم من فضله، لكنهم كانوا أهل عناد واستكبار وعصيان، فلم يقوموا بحق ذلك وغيره، فطبع الله على قلوبهم وأفئدتهم فهم لا يفقهون.(34/1)
تفسير قوله تعالى: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى)
قال الله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57].
قال المصنف رحمه الله: [لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم].
يعني: مناسبة الآية لما قبلها أنه سبحانه وتعالى بيَّن نعمه عليهم في دفع النقم، بحيث إن الله أماتهم ثم أحياهم، فقد عوقبوا بالصعق، وعوقبوا بالتيه في صحراء سيناء بين مصر وفلسطين، فلما عوقبوا بالتيه أنعم الله عليهم بنعم عظيمة وهم في شدة الحر في صحراء ليس فيها شيء، فكانت السحاب تأتيهم وتظللهم، فهذه من نعم الله عليهم، وكذلك كان ينزل عليهم المن والسلوى كما سيأتي، والمن شيء يشبه العسل، والسلوى طائر، وكذلك أيضاً كان موسى يحمل الحجر، فإذا ضربه بعصاه انفجر منه اثنا عشر عيناً، فكل قبيلة لها عين؛ حتى لا يختصموا، فهذه نعم عظيمة في التيه، وهم معاقبون بالتيه بسبب امتناعهم ورفضهم عن فتح بيت المقدس، ومع ذلك أنعم الله عليهم بهذه النعم في التيه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} وهو جمع غمامة؛ سمي بذلك لأنه يغم السماء، أي: يواريها ويسترها، وهو السحاب الأبيض، ظُللوا به في التيه ليقيهم حر الشمس، كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفتون، قال: (ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام).
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر والربيع بن أنس وأبي مجلز والضحاك والسدي نحو قول ابن عباس.
وقال الحسن وقتادة: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} كان هذا في البرية، ظلل عليهم الغمام من الشمس.
وقال ابن جرير: قال آخرون: وهو غمام أبرد من هذا وأطيب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: ((وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ)) قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، ولم يكن إلا لهم.
وهكذا رواه ابن جرير عن المثنى بن إبراهيم عن أبي حذيفة، وكذا رواه الثوري وغيره عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وكأنه يريد والله أعلم أنه ليس من زي هذا السحاب، بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظراً، كما قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ((وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ)) قال: غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله فيه، في قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210].
وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر، قال ابن عباس: وكان معهم في التيه].
ظاهر الآية أن الغمام المذكور هو السحاب المعروف، هذا هو ظاهر الآية وهو الأصل؛ لأن الله تعالى خاطب العرب بما يعرفون، فقوله: ((وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ))، وهو السحاب المعروف، وهذا السحاب إذا كان في شدة الشمس وفي شدة الحر فهو نعمة عظيمة، فيظلل ويقي من الشمس ووهجها وشدة حرارتها.(34/2)
أقوال المفسرين في حقيقة المن
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: ((وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ)) اختلفت عبارات المفسرين في المن ما هو: فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان المن ينزل عليهم على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا.
وقال مجاهد: المن: صمغة.
وقال عكرمة: المن: شيء أنزله الله عليهم مثل الطل، شبه الرُّب الغليظ.
وقال السدي قالوا: يا موسى! كيف لنا بما هاهنا أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن، فكان يسقط على شجرة الزنجبيل، وقال قتادة: كان المن ينزل عليهم في محلهم سقوط الثلج، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق، حتى إذا كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته، ولا يطلبه لشيء، وهذا كله في البرية.
وقال الربيع بن أنس: المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه.
وقال وهب بن منبه وسئل عن المن، فقال: خبز رقاق مثل الذرة أو مثل النقي.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني أحمد بن إسحاق البزار حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا إسرائيل عن جابر الجعفي عن عامر وهو الشعبي، قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءاً من المن.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه العسل.
ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت حيث قال: فرأى الله أنهم بمضيع لا بذي مزرع ولا مثمورا فسناها عليهمُ غاديات ويرى مزنهم خلايا وخورا عسلاً ناطفاً وماء فراتاً وحليباً ذا بهجة مزموراً].
يعني: أن المن كان ينزل من السماء كالطل على شجر أو حجر، ويحلو ويعقد عسلاً، ويجف جفاف الصمغ كالشيرخشت والترنجبين.
والمعروف أن المن هو ما وقع على شجر البلوط، وهو معتدل نافع للسعال الرطب والصدر والرئة.
وقد جاء في الحديث الصحيح: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) يعني: المن شيء ينزل ويشبه العسل، ويستعملونه للأكل والحلوى، فهو نعمة امتن الله بها عليهم، وهو مأكول يشبه العسل، ويستعمل مع غيره ويستفاد منه، وأما اللحم فأنزل الله عليهم السلوى وهو طائر، فالله أعطاهم نوعاً من الطعام ونوعاً من اللحوم، فالسلوى طائر، والمن طعام، وكان المن يغنيهم عن الطعام، فهو يشبه العسل، فهو طعام وحلوى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالناطف هو السائل، والحليب المزمور الصافي منه، والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن، فمنهم من فسره بالطعام، ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر والله أعلم أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد].
يعني: أن المن طعام وشراب كان يأتي عليهم وليس لهم فيه تعب، فكان ينزل عليهم من السماء، كما أن السلوى طائر ليس لهم فيه يد، وهذا من منة الله تعالى عليهم، فيأتيهم طعام لذيذ وشراب وحلوى، ويأتيهم أيضاً من اللحوم وهو هذا الطائر السلوى من غير كد ولا تعب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاماً وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شراباً طيباً، وإن ركب مع غيره صار نوعاً آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده، والدليل على ذلك قول البخاري: حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)].
يعني: المن هو طعام وشراب لذيذ امتن الله به عليهم، وكان يكفيهم عن الطعام والشراب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك وهو ابن عمير به، وأخرجه الجماعة في كتبهم إلا أبا داود من طرق عن عبد الملك وهو ابن عمير به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه البخاري ومسلم من رواية الحكم عن الحسن العرني عن عمرو بن حريث به، وقال الترمذي: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غيلان قالا: حدثنا سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم، والكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، تفرد بإخراجه الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن محمد بن عمرو، وإلا من حديث سعيد بن عامر عنه.
وفي الباب عن سعيد بن زيد وأبي سعيد وجابر كذا قال.
وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من طريق آخر عن أبي هريرة، فقال: حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري حدثنا أسلم بن سهل حدثنا القاسم بن عيسى حدثنا طلحة بن عبد الرحمن عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وطلحة بن عبد الرحمن هذا السلمي الواسطي يكنى بـ أبي محمد، وقيل: أبو سليمان المؤدب، قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي: روي عن قتادة أشياء لا يتابع عليها].
أول الحديث ثابت في البخاري كما سبق: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، وإن كان هذا الطريق فيه كلام.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة: (أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جدري الأرض، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم)].
هذا الحديث ضعيف منقطع؛ لأن شهر بن حوشب لم يسمع من أبي هريرة، وقوله: (الكمأة جدري الأرض) هذا الذي استنكر منه، وأما: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) فهو ثابت في البخاري.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الحديث قد رواه النسائي عن محمد بن بشار به، وعنه عن غندر عن شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة به، وعن محمد بن بشار عن عبد الأعلى عن خالد الحذاء، عن شهر بن حوشب، بقصة الكمأة فقط.
وروى النسائي أيضاً وابن ماجة من حديث محمد بن بشار عن أبي عبد الصمد بن عبد العزيز بن عبد الصمد عن مطر الوراق عن شهر: بقصة العجوة عند النسائي، وبالقصتين عند ابن ماجة، وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة، فإنه لم يسمع منه، بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه عن علي بن الحسين الدرهمي عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي هريرة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة، وبعضهم يقول: جدري الأرض، فقال: الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)].
يعني: صار عبد الرحمن بن غنم بين شهر وأبي هريرة، فدل على أن شهراً لم يسمع من أبي هريرة، وشهر بن حوشب فيه كلام، فالرواية الأولى منقطعة، وشهر منهم من وثقه ومنهم من ضعفه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر، كما قال الإمام أحمد: حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم).
وقال النسائي في الوليمة أيضاً: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين(34/3)
كيفية استعمال الكمأة لعلاج العين
فإن قيل: كيف يكون ماء الكمأة شفاء للعين كما في الحديث: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)؟ نقول: لابد أن يراجع أهل الخبرة وأهل التجارب؛ لأن بعض الناس قد يستعمل الكمأة في غير ما يستعمل في التجارب فتضره، فقد يضع الكمأة في العين فتضر العين وقد تعمى، لكن هناك طريقة عند أهل التجارب، فأظن أنهم يحمونها على النار ويأخذون شيئاً من ماء الكمأة على العين.
إذاً فتستعمل على حسب التجارب وعلى حسب معرفة أهل الخبرة.(34/4)
أقوال المفسرين في حقيقة السلوى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: السلوى طائر يشبه بالسمانى، كانوا يأكلون منه.
وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: السلوى طائر يشبه السمانى.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عبد الصمد بن الوارث حدثنا قرة بن خالد عن جهضم عن ابن عباس قال: السلوى هو السمانى، وكذا قال مجاهد والشعبي والضحاك والحسن وعكرمة والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى.
وعن عكرمة: أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور أو نحو ذلك.
وقال قتادة: السلوى كان من طير أقرب إلى الحمرة، تحشرها عليهم الريح الجنوب، وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه.
وقال وهب بن منبه: السلوى طير سمين مثل الحمامة، كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت، وفي رواية عن وهب قال: سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام لحماً، فقال الله: لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض، فأرسل عليهم ريحاً فأذرت عند مساكنهم السلوى -وهو السمانى- مثل ميل في ميل قيد رمح في السماء، فخبئوا للغد، فنتن اللحم، وخنز الخبز.
وقال السدي: لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام: كيف لنا بما هاهنا أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن، فكان ينزل على شجر الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الشراب فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام، فقالوا: هذا الظل فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما يطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57].
وقوله: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60]].
الحاصل أن الله سبحانه وتعالى امتن على بني إسرائيل في التيه بنعم عظيمة، ذكّر الله بها أحفادهم وأولادهم الموجودين في المدينة في زمن نزول الوحي، فقال تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57]، فهذه من نعم الله عليهم، وهم معاقبون في التيه لما امتنعوا من فتح بيت المقدس، وقال لهم موسى: احملوا عليهم حملة واحدة فقد وعدني الله بالنصر، {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21]، قاتلوا هؤلاء الكفرة العماليق، فأبوا ورفضوا وامتنعوا، وقالوا لنبيهم قولاً سيئاً قالوا: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، فعاقبهم الله بالتيه، قال الله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26]، والتيه هي الصحراء التي بين فلسطين وبين مصر، كانوا يسيرون فيها ولا يهتدون إلى البلد، فقد حرمها الله عليهم تحريماً قدرياً، {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة:26]، والتحريم يكون شرعياً ويكون قدرياً، فالتحريم القدري، مثل قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]، فتحريم المراضع على موسى تحريم قدري، وأما التحريم الشرعي فمثل قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، فهذا تحريم شرعي.
فحرم الله عليهم دخول البلد أربعين سنة يتيهون في الأرض، ومع ذلك لما صاروا في التيه أنعم الله عليهم بهذه النعم، ولكنهم قوم عتاة عصاة، فأنعم الله عليهم بالمن وهو ينزل عليهم كالزنجبيل، وهو إذا جعل مع غيره صار شراباً وصار فاكهة، والسلوى هو طائر يشبه السمانى، وهذا كالإجماع عند المفسرين، أو قول جماهير المفسرين؛ لأن هناك من يرى أنه غير اللحم، والصواب: أن السلوى طائر، وأن الزنجبيل غذاء.
وجعل الله الغمام مظللاً عليهم من حر الشمس، وهذه من نعمه عليهم، وكانوا يحملون معهم حجراً فيضربه موسى بعصاه فتنفجر منه اثنا عشر عيناً، لكل قبيلة ولكل سبط عين، حتى لا يتنازعوا، فهذه من نعم الله عليهم، ولهذا قال: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60].
ومع ذلك حصل منهم ما حصل من العتو والعناد، ولما انتهت الأربعون السنة وسار بأحفادهم يوشع بن نون الذي كان نبياً، وهو فتى موسى، فدخلوا بيت المقدس وقاتلوا العماليق، وكاد أن يتم الفتح قرب غروب الشمس من يوم الجمعة ليلة السبت، ويوم السبت هو يوم عيدهم، فحبس الله الشمس ليوشع بن نون فقال: (اللهم إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبسها عليهم، ووقفت حتى تم الفتح قبل أن يدخل يوم السبت)، وهذا الحديث ثابت في الصحيح، فلم تحبس الشمس لأحد إلا ليوشع بن نون، وهذه يلغز بها مسألة فقهية: من الذي حبست له الشمس؟ فلم تحبس الشمس لأحد إلا ليوشع بن نون، وجاء في أحاديث ضعيفة لا تصح أنها حبست لـ علي رضي الله عنه، لكنها لا تصح.
فدخلوا بيت المقدس، ومع ذلك لما دخلوا بيت المقدس قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] كما سيأتي، فغيروا بالقول وبالفعل، فدخلوا على أستاهم يزحفون على أدبارهم، {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] يعني: حط يا الله عنا ذنوبنا واغفر لنا، فغيروا وقالوا: حنطة، فزادوا فيها نوناً، فهذا من تغييرهم بالقول وبالفعل، ولهذا قال: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا} [البقرة:59] يعني: عذاباً {مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59]، فهذا من عتوهم وتمردهم وعنادهم لأنبيائهم، نسأل الله السلامة والعافية.
وأما أصحاب نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فإنهم خير أصحاب الأنبياء؛ فإنهم صبروا رضي الله عنهم، وجاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك في ساعة العسرة، وكانوا في شدة عظيمة، وجوع شديد، ومفازة عظيمة، وأصابهم جهد من قلة الطعام، ولم يتعنتوا كما تعنت بنو إسرائيل، بل قالوا: (يا رسول الله! لو جمعنا ما عندنا من الطعام فدعوت لنا، فجمعوا ما عندهم من الطعام، فدعا وبرك، وبارك الله فيه وملئوا كل وعاء)، وكذلك لما قل الماء أتي النبي صلى الله عليه وسلم بماء قليل فوضع أصابعه فيه فنبع الماء من بين أصابعه، فتوضئوا واغتسلوا وملئوا كل وعاء رضي الله عنهم وأرضاهم.
وفي يوم بدر قالوا لنبيهم: (لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وأمامك ومن خلفك، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروي عن وهب بن منبه وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي.
وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: خلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن].
قوله: (لا تخرق ولا تدرن) يعني: لا تتقطع ولا تتدنس، والدرن هو الدنس، وهذا من أخبار بني إسرائيل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج: فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت، فلا يصبح فاسداً.
قال ابن عطية: السلوى طير بإجماع المفسرين، وقد غلط الهذلي في قوله: إنه العسل].
يعني: قول الأكثر؛ لأن هناك اختلافاً كما سيأتي؛ فالمقصود بالإجماع قول الأكثرين، والصواب أن السلوى طائر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأنشد في ذلك مستشهداً: وقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما أشورها].
في القرطبي: إذا ما نشورها.
أنشد الهذلي هذا البيت على أن السلوى طعام وليس طائراً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: فظن أن السلوى عسل.
قال القرطبي: دعوى الإجماع لا تصح؛ لأن المؤرج بن عمرو السدوسي أحد علماء اللغة والتفسير قال: إنه العسل، واستدل ببيت الهذلي هذا، وذكر أنه كذلك في لغة كنانة؛ لأنه يسلى به، ومنه عين سلوان.
وقال الجوهري: السلوى العسل، واستشهد ببيت الهذلي أيضاً، والسلوانة بالضم خرزة كانوا يقول(34/5)
فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحاب الأنبياء قبلهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57] أمر إباحة وإرشاد وامتنان.
وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57] أي: أمرناهم بالأكل مما رزقناهم، وأن يعبدوا كما قال: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} [سبأ:15]، فخالفوا وكفروا، فظلموا أنفسهم، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات، والمعجزات القاطعات، وخوارق العادات.
ومن هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم، مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة، ولا إيجاد أمر، مع أن ذلك كان سهلاً على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم، فجمعوا ما معهم، فجاء قَدْرَ مَبرك الشاة، فدعا الله فيه وأمرهم فملئوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة، فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملئوا أسقيتهم، ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر، فهذا هو الأكمل في اتباع الشيء مع قدر الله مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم].
كذلك في غزوة الحديبية كانت هناك بئر فنزحوها فنضبت فلم يبق شيء، فشكا الناس العطش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء قليل فيه شيء قليل، فوضع أصابع يده وفرجها فنبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام، فشربوا وتوضئوا واغتسلوا، وملئوا كل وعاء.(34/6)
تفسير سورة البقرة [58 - 60]
أنعم الله على بني إسرائيل بنعم كثيرة، فأغرق فرعون وهم ينظرون، وتاب عليهم من عبادتهم العجل، وكان من توبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً، ثم أمر موسى البقية الباقية منهم بدخول الأرض المقدسة، وأخبرهم أن الله وعدهم بفتحها إذا هم حملوا عليهم، فرفضوا وامتنعوا، وبدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل، فعاقبهم الله بالتيه، ولما هلك الجيل الذي تربى على الجزع والخوف والهلع في التيه، جاء جيل النصر والتمكين، فدخل بهم يوشع عليه السلام بيت المقدس، وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلك هؤلاء، فيصيبهم ما أصابها من الرجس والعذاب.(35/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:58 - 59].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى لائماً لهم على نكولهم عن الجهاد، ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن قتالهم].
وهي بيت المقدس كما قال الله على لسان نبيه موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وضعفوا واستحسروا، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس كما نص على ذلك السدي والربيع بن أنس وقتادة وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد، وقد قال الله تعالى حاكياً عن موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا} [المائدة:21] الآيات.
وقال آخرون: هي أريحا، ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد، وهذا بعيد؛ لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لأريحا، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر، حكاه الرازي في تفسيره، والصحيح الأول أنها بيت المقدس، وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام].
ويوشع بن نون هو فتى موسى الذي صحبه في رحلته إلى الخضر، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ} [الكهف:60] وقد صار نبياً بعد ذلك، وقاد بني إسرائيل للجهاد، ففتح بهم بيت المقدس، وهو الذي حبست له الشمس، أما موسى فمعلوم أنه مات في التيه مع بني إسرائيل.
وأما الأربعون السنة التي حرم الله عليهم فيها دخول بيت المقدس، فقد قال الله عز وجل: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة:26] تحريماً قدرياً، فلما تمت المدة وجاء جيل جديد، استطاع أن يفتح بيت المقدس، أما الجيل الأول الذي تربى على الجزع والهلع، وانخلعت قلوبهم من فرعون، فرفضوا ونكلوا حيث قالوا: لا يمكن أن ندخلها أبداً {َاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] يقولون ذلك لنبيهم! نسأل الله السلامة والعافية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفتحها الله عليهم عشية جمعة، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلاً حتى أمكن الفتح].
وخبر حبس الشمس ل يوشع بن نون ثابت في الصحيحين عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(35/2)
أمر الله لبني إسرائيل بالسجود عند دخول الأرض المقدسة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب باب البلد: {سُجَّدًا} [الأعراف:161]، أي: شكراً لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر، ورد بلدهم عليهم، وإنقاذهم من التيه والضلال، قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس: أنه كان يقول في قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف:161] أي: ركعاً، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} قال: ركعاً من باب صغير.
رواه الحاكم من حديث سفيان به، ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان وهو الثوري به، وزاد: فدخلوا من قبل أستاههم].
أي: أدبارهم، والدبر يقال له: است، وهي المقعدة، وهذا من عتوهم وعنادهم، إذ أمروا أن يدخلوا الباب سجداً فدخلوا يزحفون على أدبارهم، فكان كل واحد منهم يزحف على مقعدته والعياذ بالله! وهذا من التغيير بالفعل والتغيير بالقول، قال الله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [الأعراف:161] يعني: حط يا الله عنا ذنوبنا واغفر لنا! فقالوا: حنطة، فغيروا بالقول والفعل، والجهمية في: (استوى) زادوا لاماً فقالوا: (استولى) ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: إن لام الجهمية مثل نون اليهود، فاليهود زادوا نوناً في حطة فقالوا: حنطة، والجهمية زادوا لاماً في استوى فقالوا: معنى {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3] استولى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الحسن البصري: أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم واستبعده الرازي، وحكي عن بعضهم أن المراد هاهنا بالسجود: الخضوع لتعذر حمله على حقيقته].
والصواب الأول، وهو أن المراد بالسجود: الركوع، وليس المراد السجود على الجباه أو الخضوع؛ لأمرين: الأول: أن السجود يأتي في اللغة بمعنى الركوع.
الثاني: أنه لا يمكن دخولهم على جباههم، والركوع في اللغة يسمى سجوداً، ومنه سجدت الأشجار أي: مالت، فالميل يسمى سجوداً.
والمعنى: ادخلوا الباب ركعاً وأنتم خاضعون لله بالقول والفعل تعظيماً لله عز وجل، واسألوا الله المغفرة، وحط الخطايا، وقولوا حطة، فغيروا بالقول والفعل، فعاقبهم الله تعالى حيث قال: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59] وفي الآية أن عملهم هذا فسق وعصيان لله ولرسوله، فبعد أن منّ الله عليهم وفتح عليهم، أمرهم أن يشكروه فيدخلون راكعين خاضعين شاكرين له على ما تم لهم من الفتح والنصر، وعلى استرداد بلدهم عليهم، وعلى نصرهم على العماليق الكفار، فغيروا بالقول وبالفعل، ودخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا: حنطة، نعوذ بالله! قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال خصيف: قال عكرمة: قال ابن عباس: كان الباب قبل القبلة، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك: هو باب الحطة من باب إيليا ببيت المقدس، وحكى الرازي عن بعضهم: أنه عنى بالباب جهة من جهات القبلة، وقال خصيف: قال عكرمة: قال ابن عباس: فدخلوا على شق، وقال السدي: عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قيل لهم: ادخلوا الباب سجداً، فدخلوا مقنعي رءوسهم، أي: رافعي رءوسهم خلاف ما أمروا].(35/3)
بيان معنى قوله تعالى: (وقولوا حطة) وذكر أقوال السلف في الآية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} قال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((وَقُولُوا حِطَّةٌ))، قال: مغفرة واستغفروا، وروي عن عطاء والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه.
وقال الضحاك عن ابن عباس: ((وَقُولُوا حِطَّةٌ)) قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم، وقال عكرمة: قولوا: لا إله إلا الله، وقال الأوزاعي: كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه فسأله عن قوله تعالى: ((وَقُولُوا حِطَّةٌ)) فكتب إليه أن أقروا بالذنب، وقال الحسن وقتادة أي: احطط عنا خطايانا.
{نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58] وقال: هذا جواب الأمر، أي: إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات.
وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها، والشكر على النعمة عندها، والمبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3].
فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر، وفسره ابن عباس بأنه نعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها، وأقره على ذلك عمر رضي الله عنه، ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ونعى إليه روحه الكريمة أيضاً].
هو كما قال، فالأمران مراد: نعي إليه روحه الكريمة وأخبر بقرب أجله عليه السلام، وهي أمر بكثرة الذكر والاستغفار عند تقدم السن.
والمقصود من هذه الآية تحذير هذه الأمة من أن تسلك مسلك بني إسرائيل فتعصي نبيها عليه الصلاة والسلام بالقول أو بالفعل؛ فيصيبها ما أصاب بني إسرائيل من الرجس والعذاب، فلذا قال سبحانه: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:59] وليس كما قال بعض المفسرين: مضى القوم ولم يعن به سواهم، فإن كانوا قد مضوا، فالمقصود نحن الآن، فهو تحذير لنا من أن نسلك مسلكهم فيصيبنا ما أصابهم.(35/4)
الشكر على النصر دأب نبينا صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع جداً عند النصر، كما روى أنه كان يوم الفتح فتح مكة داخلاً إليها من الثنية العليا وأنه لخاضع لربه حتى إن عثنونه ليمس مورك رحله شكراً لله على ذلك، ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثمان ركعات وذلك ضحى، فقال بعضهم: هذه صلاة الضحى، وقال آخرون: بل هي صلاة الفتح، فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلداً أن يصلي فيها ثمان ركعات عند أول دخوله كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى، صلى فيه ثمان ركعات، والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم، وقيل: يصليها كلها بتسليم واحد، والله أعلم].
والصواب أنه يسلم من كل ركعتين، وهذه يصدق عليها أنها صلاة الضحى وصلاة النصر، فصلاة الضحى ثابتة ويسن المداومة عليها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا الدرداء وأبا هريرة بالمحافظة عليها.
وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يصبح على كل سلامى من الناس صدقة) -وهي المفاصل- ثم قال: (ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى).(35/5)
تفسير قوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم)
قال الله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:59].
قال المصنف رحمه الله تعالى: قال البخاري: حدثني محمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقالوا: حبة في شعرة).
ورواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الرحمن به موقوفاً، وعن محمد بن عبيد بن محمد عن ابن المبارك ببعضه مسنداً في قوله تعالى: ((حِطَّةٌ)) قال: فبدلوا وقالوا: حبة.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله لبني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة:58] فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم فقالوا حبة في شعرة)، وهذا حديث صحيح رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ومسلم عن محمد بن رافع والترمذي عن عبد الرحمن بن حميد كلهم عن عبد الرزاق به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال محمد بن إسحاق: كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة، وعمن لا أتهم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخلوا الباب -الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجداً- يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حنطة في شعيرة).
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح وحدثنا سليمان بن سليمان بن داود حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله لبني إسرائيل: {َادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة:58]).
ثم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن مسافر حدثنا ابن أبي فديك عن هشام بمثله، هكذا رواه منفرداً به في كتاب الحروف مختصراً].
أي: تبديل حرف بحرف، حطة حنطة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا أحمد بن محمد بن المنذر القزاز حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل أجزنا في ثنية يقال لها ذات الحنظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل: {َادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة:58]).
وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن البراء: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة:142] قال اليهود: قيل لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة:58] قال: ركعاً، {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] أي: مغفرة، فدخلوا على أستاههم وجعلوا يقولون: حنطة حمراء فيها شعيرة، فذلك قول الله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:59]].
في نسخة: حبة في شعرة، وهو الأقرب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الثوري عن السدي عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن ابن مسعود: ((وَقُولُوا حِطَّةٌ))، فقالوا: حنطة، حبة حمراء فيها شعيرة، فأنزل الله: ((فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ)).
وقال أسباط عن السدي عن مرة عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا: هطا سمعاتا أزبة مزبا، فهي بالعربية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء]، واللفظ باللغة العبرية، وهي لغة اليهود.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فذلك قوله تعالى: ((فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ)).
وقال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا)) قال: ركعاً من باب صغير، فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا: حنطة، فذلك قوله تعالى: ((فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ)).
وهكذا روي عن عطاء ومجاهد وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن رافع.
وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل، فأمروا أن يدخلوا سجداً، فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رءوسهم، وأمروا أن يقولوا حطة، أي: احطط عنا ذنوبنا وخطايانا، فاستهزءوا فقالوا: حنطة في شعيرة، وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة؛ ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وهو خروجهم عن طاعته، ولهذا قال: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59] وقال الضحاك: عن ابن عباس: كل شيء في كتاب الله من الرجز، يعني به العذاب، وهكذا روي عن مجاهد وأبي مالك والسدي والحسن وقتادة أنه العذاب، وقال أبو العالية: الرجز الغضب، وقال الشعبي: الرجز إما الطاعون وإما البرد، وقال سعيد بن جبير: هو الطاعون.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن إبراهيم بن سعد يعني ابن أبي وقاص عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت رضي الله عنهم، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم).
وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به، وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت: (إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها) الحديث].
والرجز هو العذاب، والطاعون نوع من العذاب، لكنه رحمة للمؤمنين وشهادة لكل مسلم كما في الحديث: (الطاعون شهادة للمسلم).
وفي الحديث الآخر: (الشهداء خمسة، وذكر: المطعون والمبطون والحريق وصاحب الهدم).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: أخبرني يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن يونس عن الزهري قال أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا الوجع والسقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم).
وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين من حديث الزهري ومن حديث مالك عن محمد بن المنكدر وسالم بن أبي النضر عن عامر بن سعد بنحوه].
ولفظ البخاري: (الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم).
ولفظ مسلم: (الطاعون رجس أو عذاب).
وفي لفظ: (الطاعون آية الرجز، ابتلى الله عز وجل به ناساً من عباده).
وفي لفظ آخر: (إن هذا الوجع أو السقم رجس عذب به بعض الأمم قبلكم، ثم بقي بعد في الأرض، فيذهب المرة ويأتي الأخرى)].
وذكر الحافظ في الفتح نزول الرجس على بني إسرائيل، فمن أحب أن يستزيد فعليه به، وهي موجودة في باب: ما يذكر في الطاعون.
قال ابن حجر في الفتح: والتنصيص على بني إسرائيل أخص، فإن كان ذلك المراد فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام، فقد أخرج الطبري من طريق سليمان التيمي أحد صغار التابعين، عن سيار أن رجلاً كان يقال له بلعام، وكان مجاب الدعوة، وأن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام، فأتاه قومه فقالوا: ادع الله عليهم، فقال: حتى أؤامر ربي، فمنع، والمعرو(35/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه)
قال الله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى عليه السلام حين استسقاني لكم وتيسيري لكم الماء وإخراجه لكم من حجر معكم وتفجيري الماء لكم منه من اثنتي عشرة عيناً لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد، واعبدوا الذي سخر لكم ذلك: ((وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها.
وقد بسطه المفسرون في كلامهم كما قال ابن عباس رضي الله عنه: وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وأمر موسى عليه السلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية منه ثلاث عيون، وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها لا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول، وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وهو حديث الفتون الطويل.
وقال عطية العوفي: وجعل لهم حجراً مثل رأس الثور يحمل على ثور، فإذا نزلوا منزلاً وضعوه فضربه موسى عليه السلام بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، فإذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء.
وقال عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه: كان لبني إسرائيل حجر، فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا.
وقال قتادة: كان حجراً طورياً من الطور يحملونه معهم، حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه.
وقال الزمخشري: وقيل: كان من الرخام، وكان ذراعاً في ذراع.
وقيل: مثل رأس الإنسان.
وقيل: كان من الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى، وله شعبتان تتقدان في الظلمة، وكان يحمل على حمار.
قال: وقيل أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا.
وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل، فقال له جبريل: ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته.
قال الزمخشري: ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد، أي: اضرب الشيء الذي يقال له الحجر.
وعن الحسن: لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه، قال: وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة، فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر، ثم يضربه فييبس.
فقالوا: إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا، فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم يقرون، والله أعلم].
يَكْلَم الحجر، أي: يضربها، أو يجعل فيها كلم، والكلم: الجوف.
وفي هذه الآيات الكريمة يذكر الله تعالى بني إسرائيل بنعمه عليهم، ويخاطب اليهود الذين كانوا في المدينة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أحفاد اليهود السابقين الذين كانوا مع موسى، لأن النعمة على الأجداد نعمة على الأحفاد؛ ولهذا قال تعالى: ((وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ)) أي: اذكروا نعمتي عليكم في إخراج الماء من الحجر حينما استسقى موسى، وتلك النعم وقعت عندما كانوا في التيه، وهي صحراء سيناء التي بين مصر وفلسطين.
ومعلوم أن بني إسرائيل قد أنعم الله عليهم بنعم كثيرة، ولكنهم قوم عتاة، ومن تلك النعم: أن الله تعالى أغرق فرعون عدوهم وهم ينظرون، فلما ساروا مع موسى ومروا بقوم يعبدون صنماً قالوا: {يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، فبعد أن رأوا بأعينهم تلك المعجزة، وعلموا أن الله هو ربهم، وأنه المستحق للعبادة، مروا على قوم يعبدون صنماً فقالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]، ولما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه أربعين ليلة، وقد استخلف أخاه هارون وكان نبياً، صور لهم السامري العجل فعبدوه من دون الله، ثم بعد ذلك سأل موسى ربه أن يتوب عليهم فتاب الله عليهم، وكان من توبتهم أن قتل بعضهم بعضاً، ولما بقي البقية منهم بعد توبتهم أمرهم موسى عليه السلام أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي بيت المقدس، فيفتحوها، وأن يقاتلوا العماليق وهم قوم كفار، وأخبرهم موسى عليه السلام أن الله وعدهم بفتحها إذا هم حملوا عليهم، فرفضوا وامتنعوا، وقالوا: لا يمكن، فقال لهم: إن الله وعدني بالنصر إذا حملتم عليهم، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، قالوا: لا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة:22] {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24]، فعاقبهم الله بالتيه، قال الله: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26]، فظلوا أربعين سنة لا يهتدون إلى بلدهم، حتى مات كل هذا الجيل كله في التيه -في الصحراء- ومات معهم نبيهم موسى عليه السلام، ثم لما نشأ أحفادهم وأبناؤهم سار بهم يوشع بن نون فتى موسى -وكان نبياً بعد ذلك- وفتح بهم بيت المقدس، ولما عاقبهم الله بالتيه في الصحراء، وكانت أرضاً قاحلة ليس فيها أنهار ولا عيون ولا آبار، أنعم الله عليهم بنعم كثيرة، منها: أن الله أنزل عليهم المن والسلوى، كالعسل ينزل عليهم كل يوم، غذاء وحلوى وفاكهة، والسلوى طائر يقال له السمانى يأكلون منه، فقالوا: قد أكلنا فأين الشراب؟ فأمر الله موسى أن يضرب الحجر بعصاه فتنفجر إثنا عشر عيناً على عدد الأسباط، فكل قبيلة كان لها عين حتى لا يتنازعوا ولا يحترشوا، والله أعلم بهذا الحجر، أما القول: بأن هذا الحجر طوله كذا وعرضه كذا، وأنه نزل من الجنة، وأنه من الطور، أو أن له عينان تتقدان، فكل هذا من أخبار بني إسرائيل والله أعلم بذلك، وإنما العبرة بالإيمان بأن موسى يضرب حجراً، فينفجر اثني عشر عيناً، لكل سبط من أسباط بني إسرائيل عين حتى لا يتنازعوا ولا يختلفوا؛ ولهذا قال الله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60]، وأيضاً من نعمه سبحانه عليهم في هذه الصحراء الحارة: أنه كان يأتيهم الغمام مثل السحاب، ويظلل عليهم حتى يزول الحر في الشدة، ولكن مع عظم هذه النعم إلا أنهم كانوا قوماً عتاة.
وبهذا يتميز أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم صبروا في غزوة تبوك على الشدة والجهد والجوع الذي أصابهم، ولم يتعنتوا ولم يطلبوا ما طلب بنو إسرائيل من موسى، ولذلك لما قل عليهم الطعام سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله وأن يبارك فيه، فجمعوا ما عندهم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، فبارك الله في هذا الطعام وملئوا كل إناء، وكذلك لما قل عليهم الماء أمرهم بأن يأتوا بإناء فيه ضحضاح من ماء، فبسط يده في الإناء وفرج أصابعه، فنبع الماء من بين أصابعه فملئوا كل وعاء.
فامتاز أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بفضلهم وعلمهم وصبرهم وتحملهم وتقديرهم واحترامهم وتعزيرهم وتوقيرهم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فنسأل الله أن يوفقنا للسير على منهاجهم والتأدب بالآداب الشرعية، وتعظيم السنة والعمل بها واتباعها وملازمتها، إنه على كل شيء قدير.
ويوشع كان فتى موسى عليهما السلام، وكان معه لما ذهب إلى الخضر، وهو الذي فتح بيت المقدس بعد وفاة موسى، وهو الذي حبست له الشمس يوم الجمعة ليلة السبت الذي هو يوم عيدهم، وخشي أن تغرب الشمس قبل أن يتم الفتح فدعا الله، وقال: اللهم احبسها علينا، وقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبسها الله ووقفت حتى تم الفتح قبل غروب الشمس، ولم تحبس الشمس لأحد إلا لـ يوشع بن نون، وهذا ثابت في الصحيح.
قال المصنف رحمه الله: [وقال يحيى بن النضر: قلت لـ جويبر: كيف علم كل أناس مشربهم؟ قال: كان موسى يضع الحجر ويقوم من كل سبط رجل ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً فينضح من كل عين على رجل فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين.
وقال الضحاك: قال ابن عباس: لما كان بنو اسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهاراً.
وقال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس: قال ذلك في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتا عشرة عيناً من ماء لكل سبط منهم عين يشربون منها، وقال مجاهد نحو قول ابن عباس.
وهذه القصة شبيهة بالقصة التي في سورة الأعراف، ولكن تلك مكية، فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب؛ لأن الله تعالى يقص على رسوله صلى الله عليه وسلم ما فعل بهم.
وأما في هذه السورة -وهي البقرة- فهي مدنية، فلهذا كان الخطاب فيها متوجهاً إليهم، وأخبر هناك بقوله: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [الأعراف:160] وهو أول الانفجار، وأخبر ههنا بما آل إليه الحال آخراً وهو الانفجار، فناسب ذكر الانفجار هاهنا وذاك هناك والله أعلم].
نزلت سورة الأعرف في مكة قبل أن يهاجر النبي إلى المدينة، وفيها أخبر الله تعالى نبيه عن حال بني إسرائيل بضمير الغيبة: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [الأعراف:160]، وهنا قال: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة:60]، وه(35/7)
تفسير سورة البقرة [61 - 62]
عُرف بنو إسرائيل بتعنتاتهم مع أنبيائهم، ومن تعنتاتهم: سؤالهم موسى عليه السلام أن يدعو ربه أن يخرج لهم من الأرض البقل والقثاء والفوم والبصل والعدس، فأخبرهم نبيهم موسى عليه السلام بأن يهبطوا أي مصر من الأمصار، وسيجدون هذه الأمور التي طلبوها، فرفضوا وامتنعوا، فضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، واستحقوا غضب الله عليهم، وكل هذا وغيره بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم أنبيائه، ثم بين الله تعالى حال من خالف أوامره وارتكب نواهيه، ونبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة.(36/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاماً طيبا نافعاً هنيئاً سهلاً، واذكروا دبركم وضجركم مما رزقناكم، وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم].
ومنه قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء:2]، والمراد بذلك استبدال الأطعمة، فالباء إنما تدخل على المتروك، فهم قد استبدلوا الشيء الطيب وأخذوا بدله الأطعمة الرديئة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الحسن البصري: فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه.
وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقول وفوم، فقالوا: {يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة:61] وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى؛ لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم، فهو مأكل واحد].
قوله: دبركم، أي: توليكم، وهذا من دنو همتهم، فإن الله تعالى أنزل عليهم المن، وهو يشبه العسل، ويكون طعاماً، وإذا ركب مع غيره صار حلوى وفاكهة، والسلوى طائر لحمه من ألذ اللحوم، ومع ذلك يقولون: يا موسى! نريد البصل والكراث والثوم، لن نصبر على طعام واحد، أفي كل يوم من وسلوى؟ نريد تبديلاً وتغييراً {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا} [البقرة:61] وشجر البقل معروف، ولعل البقالة تنسب إليه، فمما يباع فيها الكراث والبصل والثوم والقثاء -هو الخيار- وما أشبهه، والفوم هو الثوم أو غيره، فقال لهم موسى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] أي: أتختارون الرديء وتتركون الجيد؟! وهل يقاس الآن الثوم والبصل والكراث بالمن والسلوى؟! ولهذا قال لهم موسى: أن هذه الأمور التي طلبتموها دنيئة لا تستحق أن أسأل ربي، فلو دخلتم أي بلد من البلدان لوجدتموها {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61] فأي بلد ستدخلونها ستجدون الكراث والثوم والبصل، وهذا يدل على دنو همتهم وتعنتهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة، وأما الفوم، فقد اختلف السلف في معناها، فوقع في قراءة ابن مسعود: (وثومِها) بالثاء، وكذا فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم عنه، بالثوم.
وكذا الربيع بن أنس وسعيد بن جبير، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصري عن يونس، عن الحسن في قوله: {وَفُومِهَا} [البقرة:61] قال: قال ابن عباس: الثوم، قال: وفي اللغة القديمة: فوموا لنا بمعنى اختبزوا؟! قال ابن جرير: فإن كان ذلك صحيحاً، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في عاثور شر وعافور شر، وأثافي وأثاثي، ومغافير ومغاثير].
وهنا فوم وثوم، فالحروف ينوب بعضها عن بعض، فيقال: فوم، ويقال: ثوم، ويقال: أثافي وأثاثي، وعلى هذا القول فالفوم معناه الثوم، وهذا هو أحد الأقوال.
قال المصنف رحمه الله: [وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء، والثاء فاء لتقارب مخرجيهما.
والله أعلم.
وقال آخرون: الفوم الحنطة، وهو البر الذي يعمل منه الخبز.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنبأنا ابن وهب قراءة حدثني نافع بن أبي نعيم أن ابن عباس رضي الله عنهما: سئل عن قول الله: ((وَفُومِهَا)) ما فومها؟ قال: الحنطة.
قال ابن عباس: أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح، وهو يقول: قد كنت أغني الناس شخصاً واحداً ورد المدينة عن زراعة فوم].
وهنا ذكر القول الثاني في الفوم: وهو الحنطة، أي: أنه البر بأنواعه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثنا علي بن الحسن، حدثنا مسلم الجهني، حدثنا عيسى بن يونس عن رشدين بن كريب].
وفي بعض النسخ: رشيد، والصواب أنه: رشدين بن كريب بن أبي مسلم الهاشمي مولاهم أبو كريب المدني ضعيف من السادسة كما في التقريب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله تعالى: ((وَفُومِهَا)) قال: الفوم الحنطة بلسان بني هاشم، وكذا قال علي بن أبي طلحة والضحاك وعكرمة عن ابن عباس: أن الفوم الحنطة.
وقال سفيان الثوري عن ابن جريج عن مجاهد وعطاء: ((وَفُومِهَا)) قالا: وخبزها.
وقال هشيم عن يونس عن الحسين وحصين عن أبي مالك: ((وَفُومِهَا)) قال: الحنطة، وهو قول عكرمة والسدي والحسن البصري وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.
فالله أعلم.
وقال الجوهري: الفوم: الحنطة.
وقال ابن دريد: الفوم: السنبلة.
وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة: أن الفوم كل حب يختبز.
قال: وقال بعضهم: هو الحمص، لغة شامية، ومنه يقال لبائعه: فامي، مغير عن فومي.
قال البخاري: وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم].
بمعنى: أنه منقلب عن فام، وأصله فوم، فقلبت الواو ألفاً فصار: فامي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61].
فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة، مع ما هم فيه من العيش الرغيد، والطعام الهنيء الطيب النافع].
وهذا من ضمن تعنتاتهم، فلقد كان لهم تعنتات كثيرة على أنبيائهم، والله سبحانه وتعالى يغدق عليهم وينعم عليهم ولا يعاجلهم بالعقوبة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: ((اهْبِطُوا مِصْرًا)) هكذا هو منون مصروف، مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية، وهو قراءة الجمهور بالصرف.
وقال ابن جرير: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك لإجماع المصاحف على ذلك.
وقال ابن عباس: ((اهْبِطُوا مِصْرًا)) قال: مصراً من الأمصار، رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان عن عكرمة عنه قال: وروي عن السدي وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك.
وقال ابن جرير: وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود: اهبطوا مصر من غير إجراء، يعني من غير صرف].
يريد بـ (مصر) الدولة المعروفة، والقراءة المعتبرة كما تقدم مصراً: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61] والمراد بـ (مصراً) أي بلدٍ من البلدان، أو مصراً من الأمصار، أي: اهبطوا أي بلدٍ من البلدان، ولا يمكن أن يكون المراد الدولة المعروفة؛ لأنهم خرجوا منها ولا يريدون الرجوع إليها، وإنما المراد: اهبطوا أي بلد من البلدان، أو اهبطوا مصراً من الأمصار تجدون هذه التي طلبتم: البقول، والكراث، والثوم.
وعند ذلك ليسوا بحاجة إلى أن يقولوا: ((ادْعُ لَنَا رَبَّكَ)) والمعنى: ليس ما طلبتم هو بالأمر المهم حتى أسأل ربي أن يعطيكم ذلك؛ لأن مثل هذه ستجدونها في أي بلد من البلدان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم روى عن أبي العالية والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك: بمصر فرعون].
وهذا على قراءة من قرأها بدون تنوين، لكنها قراءة غير معتمدة، والمعتمد ما جاء في مصاحف الأئمة العثمانية التي أجمع عليها الصحابة: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61] بالتنوين، فلا تثبت قراءة: (اهبطوا مصر).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والربيع وعن الأعمش أيضاً.
قال ابن جرير: ويحتمل أن يكون المراد: مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضاً.
ويكون ذلك من باب الإتباع لكتابة المصحف كما في قوله تعالى: {قَوَارِيرَاً * قَوَارِيرَ} [الإنسان:15 - 16] ثم توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار؟].
وهذا الاحتمال ضعيف، والأقرب القول الأول، وهو أن المراد: أي مصر من الأمصار.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الذي قاله فيه نظر، والحق أن المراد: مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره].
وهذا هو الحق والصواب كما قال الحافظ رحمه الله تعالى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والمعنى على ذلك؛ لأن موسى عليه السلام يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع د(36/2)
تفسير قوله تعالى: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة)
قال الله تعالى: [قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة:61].
قال المصنف رحمه الله تعالى: ((وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ)) أي: وضعت عليهم وألزموا بها شرعاً وقدراً، أي: لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون.
قال الضحاك: عن ابن عباس: ((وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ)) قال: هم أصحاب النيالات، يعني: الجزية].
والسبب في أنهم عوقبوا بهذا: هو عصيانهم وعتوهم وعنادهم، ومخالفتهم لأنبيائهم.
والقبيل: هو العريف، أو رئيس اليهود الذي يأخذ الجزية من اليهود ويدفعها إلى المسلمين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن، وقتادة في قوله تعالى: ((وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ)) قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وقال الضحاك: ((وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ))، قال: الذل وقال الحسن: أذلهم الله فلا منعة لهم، وجعلهم تحت أقدام المسلمين، ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية].
قوله: تجبي منهم، أي: تؤخذ منهم الجزية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي: المسكنة: الفاقة، وقال عطية العوفي: الخراج، وقال الضحاك: الجزية.
وقوله تعالى: ((وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)) قال الضحاك: استحقوا الغضب من الله، وقال الربيع بن أنس: فحدث عليهم غضب من الله، وقال سعيد بن جبير: ((وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)) يقول: استوجبوا سخطاً.
وقال ابن جرير: يعني بقوله: ((وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)) انصرفوا ورجعوا، ولا يقال: باء إلا موصولاً إما بخير وإما بشر، يقال من: باء فلان بذنبه يبوء به بوءاً وبواء، ومنه قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة:29] يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني.
فمعنى الكلام: إذا رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم من الله سخط.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة:61].
يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة، وإحلال الغضب بهم من الذلة بسبب استكبارهم عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع، وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كفر أعظم من هذا، إنهم كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياء الله بغير الحق؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)].
وبذلك فإنهم قد جمعوا الشرور كلها والعياذ بالله؛ فكفروا بالله، وقتلوا أنبياء الله، وتجاوزوا الحدود، وقد توعدهم الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:22]، وهذا من أعظم الذنوب وأعظم الكفر، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد وهم المصنف في قوله: في الحديث المتفق على صحته، وإنما أخرجه مسلم فحسب، وإن كان المصنف الحافظ ابن كثير له عناية بالسنة، لكن الوهم لا يسلم منه أحد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا إسماعيل عن ابن عون عن عمرو بن سعيد عن حميد بن عبد الرحمن قال: قال ابن مسعود: (كنت لا أحجب عن النجوى، ولا عن كذا ولا عن كذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي، فأدركته من آخر حديثه وهو يقول: يا رسول الله! قد قسم لي من الجمال ما ترى، فما أحب أن أحداً من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما، أليس ذلك هو البغي؟ فقال: لا ليس ذلك من البغي، ولكن البغي من بطر، أو قال: سفه الحق وغمط الناس).
يعني: رد الحق، وانتقاص الناس، والازدراء بهم، والتعاظم عليهم].
قوله: غمط الناس، أي: احتقارهم، ولذلك عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: يا رسول الله! أرأيت الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، أذلك من الكبر؟ قال: لا، الكبر بطر الحق وغمط الناس)، أي: رد الحق، ودفعه، وعدم قبوله، وغمط الناس أي: احتقارهم وازدراءهم، والتعاظم عليهم والترفع عليهم.
أما كون الإنسان تكون ثيابه جميلة ونعله جميلة، وهو يقبل الحق ولا يرده، ولا يحتقر الناس فلا يضره ذاك.
وقد يفهم من الحديث الذي ذكره المصنف وعزاه إلى مسند الإمام أحمد: أن الرجل لا يحب أن يكون أحد أفضل منه في ثيابه وغيره، فإذا لم يكن من باب الترفع، وإنما من محبة الجمال، فلا يكره أن يساويه غيره، ولا يكون أحداً أعلى منه، فهذا لا بأس به.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله، وقتلهم أنبياءه، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد، وكساهم ذلاً في الدنيا موصولاً بذل الآخرة جزاء وفاقاً.
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار].
الظاهر أن سنده لا بأس به، لولا عنعنة الأعمش، أما إبراهيم فالظاهر أنه إبراهيم النخعي، لكن في متنه غرابة، فكونه يجتمع ثلاثمائة نبي في وقت واحد، فيقتلونهم من أول النهار ثم يفتحون البقلات من آخر النهار، وكأنهم لم يفعلوا شيئاً، ففيه غرابة، ويحتمل أن هذا مما أخذه ابن مسعود من أخبار بني إسرائيل، وإن كان السند لا بأس به إلى ابن مسعود، لكن ابن مسعود قد يأخذ عن بني إسرائيل، فمما أخذه عن بني إسرائيل: القول باجتماع ثلاثمائة نبي في وقت واحد، وهذا بعيد، وقد عرف اجتماع نبيين أو ثلاثة في وقت واحد، كيحيى وزكريا وعيسى، ومثلهم داود وسليمان، وكذا إبراهيم ولوط، لكن القول باجتماع ثلاثمائة نبي بعيد، والأقرب أن هذا مما أخذه ابن مسعود رضي الله عنه من أخبار بني إسرائيل، وإن كان السند لا بأس به إلى ابن مسعود.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبان، حدثنا عاصم، عن أبي وائل عن عبد الله يعني ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبياً وإمام ضلالة وممثل من الممثلين)].
وهذا الحديث فيه وعيد شديد، إذ أن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة من قتل نبياً والعياذ بالله، لأنه قد ارتكب جريمة عظيمة، إذ الأنبياء هم أفضل خلق الله، وهم الدعاة إلى الله والمبلغون عنه، ففي قتله لهم دليل على شدة عداوته وكفره، وكذلك من قتله نبي، فما كان النبي ليقتله إلا لشدة إيذائه، وكذلك إمام ضلالة، أي: الإمام الذي يدعو إلى الضلالة، ويشمل الأمراء والعلماء.
قوله: وممثل من الممثلين.
المراد: مصور من المصورين، وليس المراد الممثل المعروف عصرياً، أي: الذي يحاكي غيره، فهؤلاء الثلاثة أعظم الناس عذاباً، وقد جاء في حديث آخر: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة هم المصورون)، وقال عليه السلام: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم)، وعن إمام الضلالة جاء في حديث ثوبان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خافهم على أمته، فقال: وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)، وهم الأمراء والعلماء، ذكر الحديث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد، في باب: ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، قال: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) وإمام الضلالة: الذي يدعو إلى ضلالة.
فهؤلاء الثلاثة من أشد الناس عذاباً: من قتل نبياً أو قتله نبي؛ وإمام ضلالة؛ وممثل وهو المصور، وهنا ننبه أن الذي يحاكي أفعال الناس آثم؛ لأن هذا من التزوير، وذاك تغيير خلق الله.
وجاء في مسند أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وروح قالا: حدثنا عوف عن خلاس عن أبي هريرة: (اشتد غضب الله عز وجل على رجل قتله نبي، وقال روح: قتله رسول الله، واشتد غضب الله عز وجل على رجل تسمى بملك الأملاك، لا ملك إلا لله عز وجل).
وفي الحديث الآخر: (إن أخنع اسم رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله(36/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62].
قال المصنف رحمه الله تعالى: لما بين تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه، وانتهك المحارم وما أحل بهم من النكال، نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة، كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
قال أبن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمر بن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:62] الآية).
وقال السدي: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [البقرة:62] الآية، نزلت في أصحاب سلمان الفارسي: (بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنك ستبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان! هم من أهل النار.
فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الآية)، فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى، فلما جاء كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكاً، وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمناً مقبولاً منه، حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكاً].
فهذه الآية الكريمة عامة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من آمن وعمل صالحاً فهو ناجي من أي أمة من الأمم فهو ناج، سواء نزلت هذه الآية في سلمان أو في غيره: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]، فكل من آمن وعمل صالحاً ووحد الله، واتبع النبي الذي أرسل إليه في زمانه فهو من الناجين، ومن لم يؤمن بالله وخالف النبي الذي بعث في زمانه إليه فهو هالك، وكل إنسان مطالب في كل وقت بالتوحيد والإيمان بالله واتباع النبي الذي أرسل إليه، حتى يأتي النبي الذي بعده، فإذا جاء النبي الذي بعده ولم يؤمن به كان هالكاً، فالناس مأمورون بالإيمان والتوحيد واتباع نوح في زمانه عليه الصلاة والسلام، حتى بعث الله هوداً، فصار الناس مطالبين بالتوحيد والإيمان بالله واتباع هود عليه الصلاة والسلام، حتى جاء صالح، وهكذا في زمن إبراهيم، وفي زمن موسى، وفي زمن عيسى، حتى بعث نبينا صلى الله عليه وسلم، فكانت بعثته عليه السلام عامة للثقلين الجن والإنس العرب والعجم، فمن لم يؤمن بالله ويتبع محمداً عليه الصلاة والسلام فهو من الهالكين، وهو من أهل النار، قال عليه السلام: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا، قلت: وهذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:62] الآية، قال: فأنزل الله بعد ذلك: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملاً إلا ما كان موافقاً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن بعثه بما بعثه به].
والإسلام هو دين الله في الأرض والسماء، وهو دين الأنبياء جميعاً، ولهذا قال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] في أي مكان وفي أي زمان، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، والإسلام هو توحيد الله والإيمان به، وتعظيم الأوامر والنواهي، وطاعة كل نبي في زمانه، فالإسلام في زمن آدم توحيد الله، وطاعة آدم فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن نوح توحيد الله وطاعة نوح فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن إبراهيم توحيد الله وطاعة إبراهيم فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن موسى توحيد الله وطاعة موسى فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن عيسى توحيد الله والإيمان به وطاعة عيسى فيما جاء به من الشريعة، والإسلام بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم توحيد الله واتباع محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الشريعة الخاتمة، فالإسلام بمعناه العام دين الأنبياء جميعاً وبمعناه الخاص ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الشريعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة فاليهود أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة؛ كقول موسى عليه السلام: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156] أي: تبنا، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض، وقيل: لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب، وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوارة فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على إلى يهود أكبر أولاد يعقوب، وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون أي: يتحركون عند قراءة التوراة، فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل إتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، وسموا كذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم أنصار أيضاً، كما قال عيسى عليه السلام: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران:52].
وقيل إنهم إنما سموا بذلك؛ لأجل أنهم نزلوا أرضاً يقال لها: ناصرة، قاله قتادة وابن جريج، وروي عن ابن عباس أيضاً، والله أعلم.
والنصارى جمع نصران، كنشاوى جمع نشوان، وسكارى جمع سكران، ويقال للمرأة: نصرانه، وقال الشاعر: نصرانة لم تُختَّفِ فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للنبيين، ورسولاً إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً، وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم، وشدة إيقانهم؛ ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية.
وأما الصابئون فقد اختلف فيهم، فقال سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى، ليس لهم دين].
هذا الإسناد فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا رواه ابن أبي نجيح عنه، وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك.
وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، والسدي وأبو الشعثاء جابر بن زيد، والضحاك وإسحاق بن راهويه: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور، ولهذا قال أبي حنيفة وإسحاق: لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم، وقال هشيم عن مطرف: كنا عند الحكم بن عتيبة، فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين: إنهم كالمجوس، فقال الحكم: ألم أخبركم بذلك؟ وقال عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن عبد الكريم: سمعت الحسن يذكر الصابئين فقال: هم قوم يعبدون الملائكة.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن قال: أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة، ويصلون الخمس، قال: ف(36/4)
تفسير سورة البقرة [63 - 66]
أخذ الله العهود والمواثيق من بني إسرائيل ليؤمنن به وليتبعن رسله، لكن لما عرف به بنو إسرائيل من العتو والعناد، فقد رفع الله فوقهم الجبل كأنه ظلة، وذلك عند أخذه الميثاق منهم، ثم أخبر تعالى أنهم بعد الميثاق المؤكد العظيم تولوا ونقضوه، ولولا فضل الله وتوبته عليهم، وإرسال النبيين والمرسلين إليهم، لكانوا من الخاسرين في الدنيا والآخرة.
كما أخبر سبحانه عن أهل القرية، وما حل بها من البأس، ومسخهم إلى قردة وخنازير، بسبب مخالفة أمره عز وجل، وفي هذا إشارة وتحذير لهذه الأمة من أن تسلك مسلك هؤلاء فيصيبها ما أصابهم من العذاب.(37/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور)
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة:63 - 64] قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له، وإتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق، رفع الجبل فوق رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه، ويأخذوه بقوة وحزم وامتثال، كما قال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف:171] فالطور هو الجبل، كما فسره به في الأعراف].
كلام المؤلف هذا صحيح؛ لأن الآيات تفسر بعضها بعضاً، فبنو إسرائيل عندهم عتو وعناد، فرفع الجبل فوق رؤسهم وأمروا بالسجود، فاضطروا إلى أن يسجدوا على شق والنظر من الشق الآخر؛ لئلا يسقط عليهم الجبل، فرحمهم الله.(37/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم توليتم من بعد ذلك)
قال الله تعالى تعالى: {((ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة:64].
قال المصنف رحمه الله تعالى: ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [البقرة:64] أي: بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم {لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة:64] بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة].
هذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، والواجب.
على كل إنسان أن يمتثل أمر الله عز وجل، وأن ينتهي عن نواهيه، وأن يعمل بما جاء في كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ حتى يكون من المتقين والناجين يوم القيامة.(37/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:65 - 66] قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: ((وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ)) [البقرة:65] يا معشر اليهود! ما أحل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره، إذ كان مشروعًا لهم، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة، نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك، مسخهم الله إلى صورة القردة، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة.
فكذلك أعمال هؤلاء وحيلهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم].
نسأل الله السلامة والعافية، فهذه حيلة تحيلوا بها على أمر الله، حيث حرم الله عليهم السبت ابتلاء وامتحاناً، وأباح لهم اصطياد الحوت في ستة أيام، من الأحد إلى الجمعة، وحرم صيد الحوت يوماً واحداً، ومن ابتلاء الله لهم أن الحيتان لا تأتي إلا يوم السبت، فتحيلوا ونصبوا الشباك يوم الجمعة، فتصيد الحوت يوم السبت، فيتركونها، ويأخذونها يوم الأحد، وقالوا: ما صدنا يوم السبت، وهذه حيلة من الحيل، ولهذا عاقبهم الله بهذه العقوبة الشديدة، حيث مسخهم قردة وخنازير، فجوزوا من جنس العمل، حيث أن عملهم في الظاهر سليم، لكن في الباطن حيلة، وكذلك مسخوا قردة تشبه الإنسان، لكنها في الواقع والحقيقة ليست كالإنسان، نسأل الله السلامة والعافية.(37/4)
تفسير قوله تعالى: (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها)
قال الله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:66] قال المصنف رحمه الله تعالى: قال بعضهم: الضمير في (فجعلناها) عائد على القردة، وقيل على الحيتان، وقيل على العقوبة، وقيل على القرية؛ حكاها ابن جرير، والصحيح أن الضمير عائد على القرية، أي: فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم (نكالاً)، أي: عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة، كما قال الله عن فرعون: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات:25].
وقوله تعالى: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة:66] أي: من القرى، قال ابن عباس: يعني: جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27]، ومنه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] الآية، على أحد الأقوال في المكان، كما قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: لما بين يديها من القرى، وما خلفها من القرى، وكذا قال سعيد بن جبير: لما بين يديها وما خلفها، قال: من بحضرتها من الناس يومئذ.
وروي عن إسماعيل بن أبي خالد وقتادة وعطية العوفي {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} [البقرة:66] قال: ما قبلها من الماضين في شأن السبت، وقال أبو العالية والربيع وعطية: وما خلفها لما بقي بعدهم من الناس بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم، وكان هؤلاء يقولون: المراد لما بين يديها وما خلفها في الزمان.
وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس، أن تكون أهل تلك القرية عبرة لهم، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الآية به، وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم؟ وهذا لعل أحداً من الناس لا يقوله بعد تصوره، فتعين أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان، وهو ما حولها من القرى، كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير، والله أعلم.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة:66] أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد والسدي والفراء وابن عطية: لما بين يديها من ذنوب القوم، وما خلفها لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب، وحكى الرازي ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بما بين يديها وما خلفها، من تقدمها من القرى بما عندهم من العلم بخبرها بالكتب المتقدمة ومن بعدها.
والثاني: المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم.
والثالث: أنه تعالى جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده، وهو قول الحسن.
قلت: وأرجح الأقوال المراد بما بين يديها وما خلفها: من بحضرتها من القرى يبلغهم خبرها وما حل بها، كما قال تعالى:: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف:27] الآية.
وقال تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد:31] الآية.
وقال تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:44] فجعلهم عبرة ونكالاً لمن في زمانهم، وموعظة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال: ((وموعظة للمتقين))].
هذا هو الأرجح، وهو أنه جعل هذه القرية عبرة وعظة للقرى التي أمامها والتي خلفها في زمانها، وموعظة لمن يأتي بعدها من الأمم؛ فهي عظة وعبرة للحاضرين وللذين يأتون بعد ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:66] قال محمد بن إسحاق: عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:66] الذين من بعدهم إلى يوم القيامة.
وقال الحسن وقتادة {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:66] بعدهم فيتقون نقمة الله ويحذرونها.
وقال السدي وعطية العوفي {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:66] قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قلت: المراد بالموعظة هاهنا الزاجر، أي: جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله، وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم؛ لئلا يصيبهم ما أصابهم، كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) وهذا إسناد جيد، وأحمد بن محمد بن مسلم هذا، وثقة الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي، وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح، والله أعلم].
لا شك أن هذه الآية فيها العظة والعبرة، وفيها التحذير من الحيل، وأن من تحيل يخشى عليه العقوبة العاجلة، وبعض الناس يتحيلون على الربا، ومن التحيل على الربا: قلب الدين على المعسر، كأن يكون لإنسان دين على شخص، فإذا حل الدين قال له: أعطني ديني.
فيقول الآخر: ليس عندي.
فيقول له: أبيعك شيء آخر، كأن أبيعك سيارة تقدر بثلاثين ألف، لكن بأربعين مؤجلة، فإذا باع السيارة منه، قال له: بعها الآن علي وأوفني الدين الأول، فيبيعه ويوفه الدين الأول، ويبقى عليه الدين الثاني مضاعف، فهذه حيلة، وهي من قلب الدين على المعسر، إذ أن البائع لا يستطيع أن يزيد الدين صراحة، فعمد إلى الحيلة، فباع له سيارة بيعاً صورياً ويبيعها في الحال، ويوفيه عن الدين الأول، ويبقى عليه الدين الثاني مع الزيادة، نسأل الله السلامة والعافية.(37/5)
تفسير سورة البقرة [67 - 71]
يذكر الله تعالى بني إسرائيل بنعمه عليهم في خرق العادة لهم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها، وإحياء الله المقتول، ونصه على من قتله منهم، كما بين سبحانه وتعالى تعنت هؤلاء القوم مع أنبيائهم في سؤالهم عن البقرة وأوصافها، وما ذلك إلا لخبث نفوس هؤلاء الناس، وفي هذا إشارة وتحذير لهذه الأمة من التشدد والتعنت والخوض في مسائل وأمور لا ينبني عليها أي عمل يرضي الله عز وجل.(38/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: واذكروا يا بني إسرائيل! نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها، وإحياء الله المقتول، ونصه على من قتله منهم.(38/2)
بسط قصة بقرة بني إسرائيل
ذكر بسط القصة: قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلاً؛ فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا، وركب بعضهم على بعض فقال ذوو الرأي منهم والنهى].
قوله: (والنهى)، أي: العقل، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:54].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال ذوو الرأي منهم والنهى: علام يقتل بعضكم بعضاً، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا فشدد عليهم؛ حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً؛ فذبحوها، فضربوه ببعضها فقام، فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا -لابن أخيه- ثم مال ميتاً، فلم يعط من ماله شيئاً فلم يورث قاتل بعد].
هذا الحديث سنده جيد إلى عبيدة السلماني، لكنه أخذه من أخبار بني إسرائيل، فقد أخذ عدداً من أخبار بني إسرائيل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن جرير من حديث أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة بنحو من ذلك، والله أعلم.
ورواه عبد بن حميد في تفسيره: أنبأنا يزيد بن هارون به، ورواه آدم بن أبي إياس في تفسيره عن أبي جعفر هو الرازي عن هشام بن حسان به.
وقال آدم بن أبي إياس في تفسره: أنبأنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنياً، ولم يكن له ولد، وكان له قريب وكان وارثه؛ فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى موسى عليه الصلاة والسلام فقال: إن قريبي قتل وأني إلى أمر عظيم].
قوله: وإني على أمر عظيم، يعني: أتى علي أمر عظيم من خبر قتله، بمعنى: أصابني هم وأصابتني شدة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإني لا أجد أحداً يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله! قال: فنادى موسى في الناس فقال: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا يبينه لنا، فلم يكن عندهم علم، فأقبل القاتل على موسى عليه الصلاة والسلام فقال له: أنت نبي الله، فسل لنا ربك أن يبين لنا، فسأل ربه فأوحى الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] فعجبوا من ذلك فقالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ} [البقرة:67 - 68] يعني: لا هرمة، {وَلا بِكْرٌ} [البقرة:68] يعني: ولا صغيرة، {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] أي: نصف بين البكر والهرمة، {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] أي صاف لونها {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] أي: تعجب الناظرين، {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} [البقرة:70 - 71] أي: لم يذللها العمل، {تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:71] يعني: وليست بذلول تثير الأرض {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:71] يعني: ولا تعمل في الحرث، {مُسَلَّمَةٌ} [البقرة:71] يعني: مسلمة من العيوب، {لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] يقول: لا بياض فيها، {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] قال: ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكن شددوا على أنفسهم؛ فشدد الله عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] لما هدوا إليها أبداً].
هذا السؤال من تعنتات بني إسرائيل، ومخالفتهم لأنبيائهم عليهم الصلاة والسلام، ولو أنهم أخذوا أي بقرة لأجزأت، لكنهم تعنتوا فقالوا: لا ندري البقرة، أصغيرة أو كبيرة؟ فلما أخبروا بأنها وسط، قالوا: لا ندري ما اللون؟ هل هذه البقرة صفراء، أم سوداء، أم حمراء؟ فلما أخبروا باللون، قالوا: لا ندري، هل تعمل أم لا تعمل؟ فالبقر تشابه علينا، ونريد وصفاً واضحاً، فبين الله لهم أنها لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث، أي: لا تعمل، مسلمة، ولا شية فيها، أي: ليس فيها لون آخر.
فكلما سألوا ضُيق عليهم الأمر، وأُعطوا أوصافاً تضيق الدائرة، ولو أنهم أخذوا أي بقرة لأجزأت، ولكنهم تعنتوا وشددوا، فشدد الله عليهم.
ومن فوائد هذه القصة: أن فيها تحذيراً لهذه الأمة من التشدد والتعنت، قال عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) فكثرة المسائل أي: التعنت، سبب للهلاك، ولذلك قال الله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71]، أي: مع كل هذه الأوصاف والتعنتات ما كادوا ليفعلوا، لولا أنهم استثنوا ووفقهم الله ما كادوا يفعلون.
فكثرة الأسئلة التي يراد منها التعنت، وإيقاع المسئول في العنت والحرج، كل هذا منهي عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) فينبغي للمسلم أن يحذر من التعنت والتشدد في المسائل، وكثرة الأسئلة عن أمور لم تقع بعد، أو التي فيها إشكال، وإنما الواجب على المسلم أن يسأل أسئلة واقعة، أو أسئلة تمس الحاجة إليها، ويكون قصده الفائدة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز، وعندها يتامى وهي القيمة عليهم، فلما علمت أنه لا يزكو لهم غيرها؛ أضعفت عليهم الثمن، فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألت أضعاف ثمنها، فقال موسى: إن الله قد خفف عليكم فشددتم على أنفسكم، فأعطوها رضاها وحكمها، ففعلوا واشتروها فذبحوها، فأمرهم موسى عليه الصلاة والسلام أن يأخذوا عظماً منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتا كما كان، فأخذ قاتله وهو الذي كان أتى موسى عليه الصلاة والسلام فشكا إليه، فقتله الله على أسوأ عمله.
وقال محمد بن جرير: حدثني محمد بن سعد، حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله في شأن البقرة، وذلك أن شيخاً من بني إسرائيل على عهد موسى عليه الصلاة والسلام كان مكثراً من المال، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشيخ لا ولد له، وكان بنو أخيه ورثته، فقالوا: ليت عمنا قد مات فورثنا ماله، وإنه لما تطاول عليهم ألا يموت عمهم أتاهم الشيطان فقال لهم: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله، وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته؟ قوله: (وتغرموا أهل المدينة)، يعني: تغرمونهم الدية، أي: يقتلونه ويضعونه على باب المدينة ويدعونه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وذلك أنهما كانتا مدينتين كانوا في إحداهما، وكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين قيس ما بين القتيل والقريتين، فأيتهما كانت أقرب إليه غرمت الدية.
وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم؛ عمدوا إليه فقتلوه، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها، فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشيخ فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم، فوالله لتغرمن لنا دية عمنا، قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا، ولا علمنا قاتلاً، ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا، وإنهم عمدوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فلما أتوه قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولاً على باب مدينتهم، وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه، ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا.
وإن جبرائيل جاء بأمر السميع العليم إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فقال: قل لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] فتضربوه ببعضها.
وقال السدي: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثراً من المال، فكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج، فخطب إليه ابن أخيه ابنته؛ فأبى أن يزوجه، فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته، فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل، فقال يا عم! انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلي أن أصيب منها؛ فإنهم إذا رأوك معي أعطوني، فخرج العم مع الف(38/3)
تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي)
قال الله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:68 - 71].
قال المصنف رحمه الله: [أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم، ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عليهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم، كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد.
ولكنهم شددوا فشدد عليهم فقالوا: [{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:68] أي: ما هذه البقرة وأي شيء صفتها؟ قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا هشام بن علي، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد عليهم -إسناد صحيح- وقد رواه غير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا قال عبيدة والسدي ومجاهد وعكرمة وأبو العالية وغير واحد، وقال ابن جريج: قال لي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة لكفتهم، قال ابن جريج: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا شدد الله عليهم، وأيم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد).
قال: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [البقرة:68] أي: لا كبيرة هرمة، ولا صغيرة لم يلحقها الفحل، كما قاله أبو العالية والسدي ومجاهد وعكرمة وعطية العوفي وعطاء الخراساني ووهب بن منبه والضحاك والحسن وقتادة، وقاله ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً، وقال الضحاك عن ابن عباس: عوان بين ذلك يقول: نصف بين الكبير والصغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر، وأحسن ما تكون، وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وعطاء الخراساني والضحاك نحو ذلك.
وقال السدي: العوان: النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها، وقال هشيم، عن جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن في البقرة: كانت بقرة وحشية].
وهذا باطل، وليس بشيء.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما: من لبس نعلاً صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها، وذلك قوله تعالى: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69]، وكذا قال مجاهد ووهب بن منبه: كانت صفراء.
وعن ابن عمر: كانت صفراء الظلف.
وعن سعيد بن جبير: كانت صفراء القرن والظلف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا نصر بن علي، حدثنا نوح بن قيس، أنبأنا أبو رجاء، عن الحسن في قوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] قال: سوداء شديدة السواد، وهذا غريب، والصحيح الأول، ولهذا أكد صفرتها بأنه {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69].
وقال عطية العوفي: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] تكاد تسود من صفرتها، وقال سعيد بن جبير: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] قال: صافية اللون.
وروي عن أبي العالية والربيع بن أنس والسدي والحسن وقتادة نحوه.
وقال شريك عن معمر عن ابن عمر {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] قال: صاف.
وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض، وقال السدي: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] أي: تعجب الناظرين، وكذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس، وقال وهب بن منبه: إذا نظرت إلى جلدها تخيلت أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.
وفي التوراة أنها كانت حمراء، فلعل هذا خطأ في التعريب، أو كما قال الأول: إنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد، والله أعلم].
الظاهر من الآية أنها صفراء شديدة الصفرة، وأن الصفرة تسر، لكن كلام ابن جريج في تفسير الآية فيه نظر، ولا شك أن الصفرة تفرح.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70] أي: لكثرتها، فميز لنا هذه البقرة وصفها وحلها لنا، وإنا إن شاء الله إذا بينتها لنا لمهتدون إليها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي، حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود الحداد، حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي بن أخي منصور بن زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن بني إسرائيل قالوا: وإنا إن شاء الله لمهتدون لما أعطوا، ولكن استثنوا).
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر، عن سرور بن المغيرة، عن زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن بني إسرائيل قالوا: وإنا إن شاء الله لمهتدون ما أعطوا أبداً، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم) وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله على السدي والله أعلم].(38/4)
تفسير قوله تعالى: (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:71] أي: إنها ليست مذللة بالحراثة، ولا معدة للسقي في الساقية، بل هي مكرمة حسنة، مسلمة صحيحة لا عيب فيها، {لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] أي: ليس فيها لون غير لونها.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {مُسَلَّمَةٌ} [البقرة:71] يقول: لا عيب فيها، وكذا قال أبو العالية والربيع، وقال مجاهد: مسلمة من الشية، وقال عطاء الخراساني: مسلمة القوائم، والخلق لا شية فيها.
قال مجاهد: لا بياض ولا سواد، وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة: ليس فيها بياض، وقال عطاء الخراساني: {لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] قال: لونها واحد بهيم.
وروي عن عطية العوفي ووهب بن منبه وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك.
وقال السدي: لا شية فيها من بياض ولا سواد ولا حمرة، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} [البقرة:71] ليست بمذللة بالعمل، ثم استأنف فقال: {تُثِيرُ الأَرْضَ} [البقرة:71] أي: يعمل عليها بالحراثة؛ لكنها لا تسقي الحرث، وهذا ضعيف؛ لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل؛ بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث، كذا قرره القرطبي وغيره] الصواب أن معنى قوله: {لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:71] أي: ليست مذللة بالعمل، وقوله: {تُثِيرُ الأَرْضَ} [البقرة:71] تفسير لقوله: {ذَلُولٌ} [البقرة:71]، والذلول: هي التي تثير الأرض؛ ولكن ليست تعمل عاملة، وليست سامية، لأن البقر تستعمل في الحرث، وتستعمل في استخراج الماء، فليست سامية يستخرج على ظهرها الماء، وليست مذللة للعمل، وإنما مكرمة، لا شية فيها، أي: ليس فيها لون آخر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [{قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71] قال قتادة: الآن بينت لنا، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: وقيل ذلك والله قد جاءهم الحق {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71]] يعني: جاءهم الحق قبل ذلك، وجاءهم الحق فيما سبق، وجاءهم الحق فيما طلبوا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنما: كادوا ألا يفعلوا، ولم يكن ذلك الذي أرادوا؛ لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها، يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والأجوبة والإيضاح، ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت؛ فلهذا ما كادوا يذبحونها] قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] أي: ما كادوا يمتثلون.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس: فذبحوها وما كادوا يفعلون لكثرة ثمنها، وفي هذا نظر؛ لأن كثرة الثمن لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال عبيدة ومجاهد ووهب بن منبه وأبو العالية وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنهم اشتروها بمال كثير، وفيه اختلاف، ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة، أخبرني محمد بن سوقة، عن عكرمة قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير، وهذا إسناد جيد عن عكرمة، والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضاً.
وقال ابن جرير: وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه، ولم يسنده عن أحد، ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك؛ لغلاء ثمنها وللفضيحة، وفي هذا نظر، بل الصواب والله أعلم ما تقدم من رواية الضحاك عن ابن عباس على ما وجهناه، وبالله التوفيق].
يعني: في تعنتاتهم، ولا مانع أن تكون للأمور كلها؛ لغلاء الثمن، وللتعنتات، لكن الأصل أنه لتعنتهم؛ ولأجل ضعف إيمانهم، ولأجل ما جبلوا عليه من الاعتراض على أنبيائهم ما كادوا يفعلون.(38/5)
الاستدلال بذكر صفات البقرةعلى صحة السلم في الحيوان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [مسألة: استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت، أو تم تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان، كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور من العلماء سلفاً وخلفاً، بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها) وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ، وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث.
وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون: لا يصح السلم في الحيوان؛ لأنه لا تنضبط أحواله، وحكي مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم].
الصواب في هذه المسألة أنه يجوز السلم في الحيوان، والسلم هو: تقديم الثمن وتأجيل المثمن، أو تعجيل الثمن وتأخير المثمن.
مثال ذلك: تسلم إنساناً خمسين ألفاً أو مائة ألف حاضر، وذلك في سيارة موصوفة بالذمة بعد سنة، صفتها كذا وكذا، وموديلها كذا وكذا، فتوصف كاملاً، كذلك الحيوان، تسلم كذا في حيوان، إبل أو بقر أو غنم، صفته كذا وكذا.
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يسلمون في الثمار السنة والسنتين، فقال عليه الصلاة والسلام: (من أسلم في شيء، فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) فإذا كان المسلم فيه ثمر أو تمر أو حبوب فلا بد من تعريفه وتقييده بالأوصاف، كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم، والتمر معروف، وثمنه كذا وكذا.
كذلك إذا أسلم في سيارة، أو أسلم في حيوان فلا بأس، فالثمن يعجل والمثمن يؤجل ويقيد بالأوصاف.(38/6)
تفسير سورة البقرة [72 - 74]
وجد قتيل في بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، فاختصم القوم فيه، فأمرهم الله تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام بأن يذبحوا بقرة، ويضربوا بعضها به، فأحياه الله بعد موته وعلم القاتل، ثم وبخ الله اليهود بسبب قسوة قلوبهم، رغم ما شاهدوه من آيات الله وإحياء الموتى أمام أعينهم.(39/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قتلتم نفساً فادارأتم فيها)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:72 - 73].
قال المصنف رحمه الله: [قال البخاري: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] اختلفتم، وهكذا قال مجاهد: فيما رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي حذيفة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: في قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72]، اختلفتم، وقال عطاء الخرساني والضحاك اختصمتم فيها.
وقال ابن جريج: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72]، قال بعضهم: أنتم قتلتموه، وقال آخرون: بل أنتم قتلتموه، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
{وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72].
قال مجاهد: ما تغيبون.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرة بن أسلم البصري حدثنا محمد بن الطفيل العبدي حدثنا صدقة بن رستم، سمعت المسيب بن رافع يقول: ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك في كلام الله {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:72 - 73] هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة].
وهذه القصة فيها بيان قدرة الله العظيمة، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وفيها دليل على البعث، كما قال سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73]، فكما أن إحياء الأرض بعد موتها دليل على البعث، فكذلك هذه القصة، وهي قصة من خمس قصص في سورة البقرة، ذكر الله فيهن الإحياء بعد الموت، وهذه القصص هي: هذه أحياهم الله تعالى بعد موتهم، هذه القصص هي: الأولى: هذه القصة التي هي قصة قتيل بني إسرائيل، فقد ضربوه ببضعة من البقرة التي أمروا بذبحها فأحياه الله.
والثانية: إحياء بني إسرائيل لما قالوا لموسى: أرنا الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فماتوا، ثم بعثهم الله.
والثالثة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] والرابعة: قصة عزير والخامسة: طيور إبراهيم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73]، هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة، فالمعجزة حاصلة به، وخرق العادة به كائن، وقد كان معيناً في نفس الأمر، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا، ولكنه أبهمه ولم يجيء من طريق صحيح عن معصوم بيانه، فنحن نبهمه كما أبهمه الله].
وهذا هو الصواب، فهذا البعض مبهم، ولو كان فيه فائدة لبينه الله لنا، فالله أعلم ما هي هذه القطعة، وهل هي من الرقبة أو من الفخذ أو من غيرهما؟ وإنما المهم أنهم أخذوا قطعة معينة، وضربوه ببعضها فأحياه الله، فقالوا له: من قتلك؟ فقال: قتلني فلان، ثم عاد ميتاً، وأما تعيين بعضهم لهذه البضعة بأنها من الرقبة أو من الفخذ، فكل هذا لا دليل عليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عفان بن مسلم حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له، وكانت بقرة تعجبه، قال: فجعلوا يعطونه بها فيأبى، حتى أعطوه ملء مسكها دنانير].
والمسك -بفتح الميم-: الجلد، وأما المسك -بكسر الميم- فهو الطيب.
وهذا مما يختلف فيه المعنى باختلاف الشكل، فالحركة الواحدة تغير فيه المعنى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: فجعلوا يعطونه بها فيأبى، حتى أعطوه ملء مسكها دنانير، فذبحوها، فضربوه -يعني: القتيل- بعضو منها، فقام تشخب أوداجه دماً، فقالوا له: من قتلك؟ قال: قتلني فلان.
وكذا قال الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنه ضرب ببعضها.
وفي رواية عن ابن عباس: أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر قال: قال أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة: ضربوا القتيل ببعض لحمها.
قال معمر: قال قتادة: ضربوه بلحم فخذها فعاش فقال: قتلني فلان.
وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا النضر بن عربي عن عكرمة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73] فضرب بفخذها، فقام فقال: قتلني فلان.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وقتادة وعكرمة نحو ذلك.
وقال السدي: فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه فقال: قتلني ابن أخي.
وقال أبو العالية: أمرهم موسى عليه السلام].
إذا مر اسم النبي صلى الله عليه وسلم، فالأفضل الصلاة عليه صلاة كاملة، لا أن نكتفي بالسلام فقط؛ وذلك للتبرك بالصلاة عليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو العالية: أمرهم موسى عليه السلام، أن يأخذوا عظماً من عظامها فيضربوا به القتيل ففعلوا، فرجع إليه روحه فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتاً كما كان.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فضربوه ببعض آرابها.
وقيل: بلسانها.
وقيل: بعجب ذنبها].
وكل هذا كما سبق ليس عليه دليل، إذ أنها كلها من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم بصدقها أو كذبها.
والمقصود: أنهم ضربوه بقطعة منها فأحياه الله، فأخبر بمن قتله، وانقطع النزاع الذي بينهم بعد أن عرفوا من قتله، ثم عاد ميتاً، وتعيين هذا البعض ليس عليه دليل، ولا فائدة فيه، ولو كان في علمه فائدة لعينه الله لنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73] أي: فضربوه فحيي.
ونبه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل، جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد، وفاصلاً ما كان بينهم من الخصومة والعناد].
قوله: فاصلاً، أي: ليفصل بينهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة:56]، وهذه القصة، وقصة: {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:243]، وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة.
ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميماً، كما قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة أخبرني يعلى بن عطاء قال: سمعت وكيع بن عدس يحدث عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه].
ووكيع بن عدس يقال له: وكيع بن حدس بالحاء، وفيه بعض الضعف.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يحدث عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه، قال: (قلت: يا رسول الله! كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أما مررت بواد ممحل ثم مررت به خضراً؟ قال: بلى، قال: كذلك النشور، أو قال: كذلك يحيي الله الموتى).
وشاهد هذا قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:34 - 35].
مسألة: استدل لمذهب الإمام مالك في كون قول الجريح: فلان قتلني لوثاً بهذه القصة؛ لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله، فقال: فلان قتلني، فكان ذلك مقبولاً منه؛ لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق، ولا يتهم والحالة هذه ورجحوا ذلك؛ لحديث أنس: (أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها فرضخ رأسها بين حجرين، فقيل: من فعل بك هذا أفلان؟ أفلان؟ حتى ذكروا اليهودي فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فلم يزل به حتى اعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين).
وعند مالك إذا كان لوثاً حلف أولياء القتيل قسامة، وخالف الجمهور في ذلك، ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثاً].
واللوث: هو البينة أو القرينة التي ترجح أن القتل فيهم، فإذا وجدت القرينة، كأن يوجد قتيل في حي من الأحياء، أو في بلد من البلدان، وكانت هناك قرينة ترجح أنهم قتلوه، كأن يكون بينه وبينهم عداوة، فيسمى هذا لوثاً، فيحلف أولياء القتيل خمسين يميناً على شخص معين، ثم يسعى إليه فيقتلونه قسامة، ويكون هذا قاطعاً للنزاع.
ومما ورد في هذا: أن ابن سهل وجد قتيلاً في خي(39/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة)
قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى توبيخاً لبني إسرائيل وتقريعاً لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى، وإحيائه الموتى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:74]، كله {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} [البقرة:74]، التي لا تلين أبداً.
ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم، فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس: لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط، فقيل له: من قتلك؟ قال: بنو أخي قتلوني ثم قبض، فقال بنو أخيه حين قبضه الله: والله ما قتلناه، فكذبوا بالحق بعد أن رأوه، فقال الله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:74]، يعني: أبناء أخي الشيخ، {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]، فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة، بعدما شاهدوه من الآيات والمعجزات، فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها، أو أشد قسوة من الحجارة، فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء وإن لم يكن جارياً، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله، وفيه إدراك لذلك بحسبه، كما قال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44].
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: إنه كان يقول: كل حجر يتفجر منه الماء أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل لمن خشية الله، نزل بذلك القرآن.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74].
أي: وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق.
{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].
وقال أبو علي الجياني في تفسيره: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، هو سقوط البرد من السحاب، قال القاضي الباقلاني: وهذا تأويل بعيد، وتبعه في استبعاده الرازي، وهو كما قال].
وقد يكون المقصود: قال أبو علي الجبائي في تفسيره، وهو من المعتزلة، كما في النسخة الأخرى.
قال المصنف رحمه الله: [فإن هذا خروج عن اللفظ بلا دليل، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا الحسن بن هشام الثقفي حدثني يحيى بن أبي طالب، يعني: ويحيى بن يعقوب: في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} [البقرة:74]، قال: كثرة البكاء.
{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} [البقرة:74]، قال: قليل البكاء.
{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، قال: بكاء القلب من غير دموع العين.
وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز، وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة، كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: {يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف:77].
قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة: ولا حاجة إلى هذا، فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة، كما في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب:72]، وقال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء:44] الآية، وقال: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} [النحل:48] الآية].
وهذا هو الصواب، أنه خشوع حقيقي وليس مجازاً؛ لأن الله تعالى قادر على كل شيء، وكما دلت عليه هذه الآيات: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21].
وفي الحديث: (إني لأعلم حجراً كان يسلم علي بمكة).
وسمع تسبيح الطعام بين يديه، وسمع حنين الجذع، وقد كان جبل أحد يحب النبي وهو يحيه.
فالله قادر على أن يجعل فيها إحساساً بالشعور.
قال المصنف رحمه الله: [{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر:21] الآية، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21] الآية.
وفي الصحيح: (هذا جبل يحبنا ونحبه).
وكحنين الجذع المتواتر خبره.
وفي صحيح مسلم: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن).
وفي صفة الحجر الأسود: (إنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة)، وغير ذلك مما في معناه].
وهذا فيه بعض الضعف، لكن جاء ما يشهد له.
وهذه الأمور تسمى جمادات؛ لأنه ليس فيها روح، فالذي ليس فيه روح يسمى جماداً، بخلاف الذي فيه روح من الحشرات والدواب والطيور، فإنها لا تسمى جماداً.
قال المصنف رحمه الله: [وحكى القرطبي قولاً: أنها للتخيير، أي: مثلاً لهذا وهذا وهذا، مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين].
أي: أن (أو) فى قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] قيل: إنها للتخيير، مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين.
يعني: إما أنها كالحجارة أو أنها أشد من الحجارة، وقيل: إنها للإضراب أو للتحقيق، أي: إن لم تكن كالحجارة فهي أشد، أو إن لم تكن أشد من الحجارة فهي لا تقل عنها، مثل قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، يعني: بل يزيدون، أو أنهم إن لم يزيدوا فلا ينقصون، وقيل: إنها للإبهام بالنسبة للمخاطب، والأقرب: أنها للتحقيق، وأن التحقيق أن قلوبهم كالحجارة أو أشد من الحجارة.
أما القول بأنها للتخير أو للإبهام أو للمخاطب فضعيف.
قال المؤلف رحمه الله: [وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولاً آخر: أنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب].
وأما الله سبحانه وتعالى فهو يعلم الشيء على حقيقته.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كقول القائل: أكلت خبزاً أو تمراً، وهو يعلم أيهما أكل].
أي: يريد أن يبهمها بالنسبة للمخاطب، وأما هو فيعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال آخر: إنها بمعنى قول القائل: كل حلواً أو حامضاً، أي: لا يخرج عن واحد منهما، أي: وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين.
والله أعلم.
تنبيه: اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] بعد الإجماع على استحالة كونها للشك، فقال بعضهم: (أو) ههنا بمعنى الواو، تقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة، كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24]، {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات:6]، وكما قال النابغة الذبياني: قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد].
تريد الحمام ونصفه، أي: ليت لنا هذا الحمام ونصف هذا الحمام.
وكذلك قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] يعني: وأشد قسوة.
قال: [تريد نصفه، قاله ابن جرير.
وقال جرير بن عطية: نال الخلافة أو كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر].
قال ابن جرير: يعني: نال الخلافة؟ وكانت له قدراً.
وقال آخرون: أو ههنا بمعنى: بل، فتقديره: فهي كالحجارة بل أشد قسوة.
وكقوله: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [(39/3)
تفسير سورة البقرة [75 - 79]
لقد بين الله تعالى طمع المؤمنين في إيمان الفرق الضالة من اليهود الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه، وبيان ما هم عليه من تحريف لكتب الله تعالى، والنفاق والإندساس بين صفوف المسلمين، ونسوا أن الله يعلم سرهم وجهرهم، ويعلم كفرهم وتكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقد بين تعالى أن من أهل الكتاب أناساً لا يعلمون من الكتاب (التوراة) إلا تلاوة مجردة، ولا يفقهون المعاني، كما بين وجود صنف آخر من اليهود، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل.(40/1)
تفسير قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه)
قال الله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:75 - 77].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [{أَفَتَطْمَعُونَ} [البقرة:75] أيها المؤمنون (أن يؤمنوا لكم)، أن ينقاد لكم بالطاعة هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه، ثم قست قلوبهم من بعد ذلك، {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة:75] أي: يتأولونه على غير تأويله، {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة:75] أي: فهموه على الجلية، ومع هذا يخالفونه على بصيرة، (وهم يعلمون) أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله.
وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13] قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [البقرة:75].
وليس قوله: ليسمعون التوراة كلهم قد سمعها، ولكن هم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها.
وقال محمد بن إسحاق: فيما حدثني بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى: يا موسى! قد حيل بيننا وبين رؤية ربنا تعالى فأسمعنا كلامه حين يكلمك، فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى، فقال: نعم، مرهم فليتطهروا وليطهروا ثيابهم ويصوموا، ففعلوا، ثم خرج بهم حتى أتوا الطور، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى أن يسجدوا، فوقعوا سجوداً وكلمه ربه، فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم حتى عقلوا منه ما سمعوا، ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل، فلما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به، وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا، خلافاً لما قال الله عز وجل لهم، فهم الذين عنى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال السدي: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة:75] قال: هي التوراة حرفوها.
وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق، وإن كان قد اختاره ابن جرير لظاهر السياق.
فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه، كما سمعه الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام].
وهو كما قال المؤلف رحمه الله من أن قول السدي أعم، وأثر ابن عباس محمول على أنه كان عن بني إسرائيل، وأثر ابن إسحاق منقطع.
والصواب: أن القول بأنهم سمعوا كلام الله يحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل.
واليهود يحرفون الحق، وقد حرفوا التوراة، وحرفوا كتب الله، كما جاء عن ابن عباس أنه قال: تسألون أهل الكتاب عن كتبهم وعندكم كتاب الله.
وفي هذه الآيات تحذير لهذه الأمة من أن تسلك ما سلكه اليهود، فيصيبهم ما أصابهم من تحريف كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وتأويله على غير تأويله، كما فعل كثير من المبتدعة الذين حرفوا كلام الله، وأولوا النصوص وجحدوا صفات الله عز وجل.
وقد قال العلماء: إن اللام التي زادها الجهمية مثل النون التي زادها اليهود، فعندما قال الله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] قال اليهود: حنطة، وعندما قال الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قال الجهمية: استولى.
والواجب على كل مسلم أن يتدبر كتاب الله ويعمل به وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يحذر من التحريف والتأويل الباطلين، وأن يفهم نصوص كلام الله وكلام رسوله، ويفسرها بالنصوص الأخرى وبالأحاديث، فيفسر كلام الله بكلامه، ثم بكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ويفهم النصوص على ما فهمها السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم، ويحذر من تحريفات وتأويلات أهل البدع حتى لا يسلك مسلك اليهود.
قال المصنف رحمه الله: [وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] أي: مبلغاً إليه.
ولهذا قال قتادة في قوله: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75] قال: هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعدما عقلوه ووعوه.
وقال مجاهد: الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم.
وقال أبو العالية: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فحرفوه عن مواضعه].
يعني: قصدوا ذلك.
قال: [وقال السدي: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75]، أي: أنهم أذنبوا.
وقال ابن وهب: قال ابن زيد في قوله: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة:75] قال: التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حراماً والحرام فيها حلالاً، والحق فيها باطلاً والباطل فيها حقاً، إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب فهو فيه محق، وإذا جاءهم أحد يسألهم شيئاً ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق، فقال الله لهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]].(40/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)
قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [البقرة:76] الآية، قال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير وعن ابن عباس {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:76] أي: أن صاحبكم رسول الله ولكنه إليكم خاصة، {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [البقرة:76] قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم، فأنزل الله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [البقرة:76] أي: تقرون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا، اجحدوه ولا تقروا به، يقول الله تعالى: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:77].
وقال الضحاك عن ابن عباس: يعني: المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا.
وقال السدي: هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا.
وكذا قال الربيع بن أنس وقتادة وغير واحد من السلف والخلف.
حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فيما رواه ابن وهب عنه، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: (لا يدخلن عليكم قصبة المدينة إلا مؤمن) فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق: اذهبوا فقولوا: آمنا واكفروا إذا رجعتم إلينا، فكانوا يأتون المدينة بالبكر ويرجعون إليهم بعد العصر].
قوله: بالبكر، يعني: أول النهار، جمع بكرة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقرأ قول الله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون؛ ليعلموا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر، فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم قطع ذلك عنهم، فلم يكونوا يدخلون، وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون، فيقولون: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون: بلى، فإذا رجعوا إلى قومهم، يعني: الرؤساء، فقالوا: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76]، الآية.
وقال أبو العالية: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76] يعني: بما أنزل عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [البقرة:76] قال: كانوا يقولون: سيكون نبي فخلا بعضهم إلى بعض، فقالوا: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76]، قول آخر في المراد بالفتح: قال ابن جريج: حدثني القاسم بن أبي برزة عن مجاهد في قوله تعالى: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76]، قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم، فقال: يا إخوان القردة والخنازير! ويا عبدة الطاغوت! فقالوا: من أخبر بهذا الأمر محمداً؟ ما خرج هذا القول إلا منكم)، {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76]، بما حكم الله للفتح ليكون لهم حجة عليكم.
قال ابن جريج عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم علياً فآذوا محمداً صلى الله عليه وسلم].
الصواب: القاسم بن أبي بزة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال السدي: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76]، من العذاب، {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [البقرة:76]، هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76] من العذاب، ليقولوا: نحن أحب إلى الله منكم وأكرم على الله منكم.
وقال عطاء الخراساني: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76] يعني: بما قضى لكم وعليكم].
والأقرب هو القول الأول، وأن معنى الفتح هو: قول اليهود للمؤمنين: أنه في كتابهم: إن الله سيبعث نبياً، وسيكون مهاجره من مكة إلى المدينة، وأنه موجود في كتابهم، ولم يكن اليهود يخبرون به المسلمين، وأنه سيبعث نبي، وأن مهاجره المدينة، وأنه أنزل في كتابهم.
قال المصنف رحمه الله: [وقال الحسن البصري: هؤلاء اليهود كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم؛ ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم].(40/3)
تفسير قوله تعالى: (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون)
قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:77]، قال أبو العالية: يعني: ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به وهم يجدونه مكتوباً عندهم، وكذا قال قتادة.
وقال الحسن: {إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} [البقرة:77]، قال: كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخلا بعضهم إلى بعض، تناهوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما فتح الله عليهم مما في كتابهم؛ خشية أن يحاجهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما في كتابهم عند ربهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:77] يعني: حين قالوا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: آمنا.
كذا قال أبو العالية والربيع وقتادة.(40/4)
تفسير قوله تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني)
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:78 - 79].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} [البقرة:78] أي: ومن أهل الكتاب، قاله مجاهد والأميون جمع أمي، وهو: الرجل الذي لا يحسن الكتابة.
قاله أبو العالية والربيع وقتادة وإبراهيم النخعي وغير واحد؛ وهو ظاهر في قوله تعالى: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:78] أي: لا يدرون ما فيه.
ولهذا في صفات النبي صلى الله عليه وسلم: أنه الأمي؛ لأنه لم يكن يحسن الكتابة، كما قال تعالى {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]].
والأمي هو: المنسوب إلى أمه؛ لأن الغالب في عادة العرب أن الأم لا تقرأ ولا تكتب.
قال المصنف رحمه الله: [وقال عليه الصلاة السلام: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا) الحديث، أي: لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب].
وهذا هو معنى كوننا أمة أمية، أي: أننا لا نحتاج إلى كتابة للعبادات ومواقيتها، لا في الصلاة ولا في الصيام ولا في الحج، وفي رواية حفص: هكذا وهكذا وهكذا، وقبض إحدى أصابعه، يعني: يكون الشهر مرة ثلاثين، ومرة تسعة وعشرين، فنحن لا نحتاج إلى كتابة مواقيت الصلوات الخمس لأن علاماتها ظاهرة، مثل استواء الشمس وغروبها، ومصير ظل الشيء مثليه، ومغيب الشفق وطلوع الفجر.
وكذلك أيضاً الصيام على الهلال، وكذلك الحج، فلا يحتاج المسلمون في معرفة مواقيت العبادات إلى كتابة ولا إلى حساب.
هذا هو معنى أننا أمة أميه.
قال المصنف رحمه الله: [وقال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة:2]، وقال ابن جرير: نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتاب دون أبيه].
لأن الأم أولى من الأب في عدم الكتابة، فهي لا تقرأ.
وهذا وصف أغلبي للعرب، وإلا فهناك فيهم من يكتب ويقرأ، ولكن الأغلب فيهم عدم القراءة والكتابة.
والصحابة رضي الله عنهم كانوا كذلك، فكان منهم من يكتب، ومنهم من لا يكتب.
وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه -وهو من أحفظ الصحابة-: إلا أن عبد الله بن عمرو كان يكتب.
وكان يدرس الحديث في أول الليل، ولهذا أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يوتر قبل أن ينام.
قال المصنف رحمه الله: [قال: وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قول خلاف هذا، وهو ما حدثنا به أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد عن بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} [البقرة:78].
قال الأميون: قوم لم يصدقوا رسولاً أرسله الله، ولا كتاباً أنزله الله، فكتبوا كتاباً بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هذا من عند الله، وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ثم سماهم أميين؛ لجحودهم كتب الله ورسله.
ثم قال ابن جرير: وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم؛ وذلك أن الأمي عند العرب الذي لا يكتب].
وصدق ابن جرير رحمه الله في ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم في صحة هذا عن ابن عباس بهذا الإسناد نظر، والله أعلم].
وهو ضعيف، لأن فيه علتان: الأولى: بشر بن عمارة.
والثانية: أنه منقطع؛ لأن الضحاك لم يسمع من ابن عباس، فهو لا يصح.
والصواب: أن الأمي هو الذي لا يحسن القراءة والكتابة.
وأبو روق عطية بن الحارث -بفتح الراء وسكون الواو بعد قاف- هو الهمداني الكوفي، صاحب التفسير، صدوق من الخامسة.
قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: إلا أماني: الأحاديث.
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] يقول: إلا قولاً يقولون بأفواههم كذباً.
وقال مجاهد: إلا كذباً.
وقال سنيد: عن حجاج عن ابن جريج عن مجاهد: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] قال: أناس من اليهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئاً، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله، ويقولون هو من الكتاب، أماني يتمنونها.
وعن الحسن البصري نحوه.
وقال أبو العالية والربيع وقتادة: إلا أماني يتمنون على الله ما ليس لهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (إلا أماني) قال: تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب وليسوا منهم.
قال ابن جرير: والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس.
وقال مجاهد: إن الأميين الذين وصفهم الله تعالى أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله تعالى على موسى شيئاً، ولكنهم يتخرصون الكذب، ويتخرصون الأباطيل كذباً وزوراً.
والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه، ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما تغنيت ولا تمنيت، يعني: ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب.
وقيل المراد بقوله: (إلا أماني) بالتشديد والتخفيف أيضاً، أي: إلا تلاوة، فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج:52]-أي: تلا-، {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] الآية].
وهذا هو الصواب.
فالصواب أن التمني هو التلاوة المجردة، قال تعالى: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيّ} [البقرة:78] أي: إلا تلاوة مجردة، ولا يفقهون المعاني.
وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج:52] أي: إذا قرأ، {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] وهي القراءة، والتمني: القراءة المجردة.
والله تعالى أخبر أن هؤلاء الطائفة من اليهود أميون لا يفقهون ولا يفهمون إلا مجرد التلاوة.
قال المصنف رحمه الله: [وقال كعب بن مالك الشاعر: تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر.
يعني: عثمان، تمنى، يعني: قرأ كتاب الله أول الليل، وفي آخره لاقى الحمام، أي: الموت، فقتله الثوار وهو يتلو كتاب الله.
قال المصنف رحمه الله: [وقال آخر: تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الكتاب على رسل، يعني: قرأ كتاب الله قراءة تجاوب بحسن صوته، على رسل: على مهل وتؤدة، كقراءة داود، فقد كان داود عليه الصلاة والسلام حسن الصوت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي موسى الأشعري: لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود.
والمراد بالمزمار: الصوت الحسن.
قال المصنف رحمه الله: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78]، أي: ولا يدرون ما فيه، وهم يجدون نبوتك بالظن.
وقال مجاهد: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] يكذبون.
وقال قتادة وأبو العالية والربيع: يظنون بالله الظنون بغير الحق].(40/5)
تفسير قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله)
قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:79] الآية.
هؤلاء صنف آخر من اليهود، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل].
واليهود أصناف كما ذكر الله، فصنف: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة:75].
والصنف الثاني: المنافقون، قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا} [البقرة:14]، والصنف الثالث: الأميون، قال تعالى: {أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، وهذا الصنف الرابع: أهل الزور والبهتان، الذين: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة:79].
قال المصنف رحمه الله: [والويل: الهلاك والدمار، وهي: كلمة مشهورة في اللغة.
وقال سفيان الثوري عن زياد بن فياض سمعت أبا عياض يقول: ويل صديد في أصل جهنم، وقال عطاء بن يسار: الويل واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره).
ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن حميد عن الحسن بن موسى عن أبي لهيعة عن دارج به].
وهو ضعيف؛ لأن ابن لهيعة ضعيف، وأيضاً دراج عن أبي الهيثم ضعيف.
ولا يصح تفسير الويل بأنه واد في جهنم.
والصواب: أنه كلمة وعيد، والمراد به شدة العذاب والهلع.
وهذه الأصناف لا تجتمع في واحد؛ لأن فيها الأميون الذين لا يعلمون الكتاب إلا مجرد التلاوة، وفيها طائفة يحرفون الكلام عن قصده، وهم يعلمون.
قال المصنف رحمه الله: [وقال: هذا الحديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة، قلت: لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى، ولكن الآفة ممن بعده.
وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوعاً منكر، والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى حدثنا إبراهيم بن عبد السلام حدثنا صالح القشيري حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة العدوي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] قال: (الويل جبل في النار)، وهو الذي أنزل في اليهود؛ لأنهم حرفوا التوراة، زادوا فيها ما أحبوا ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة، ولذلك غضب الله عليهم فرفع بعض التوراة، فقال تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]، وهذا غريب أيضاً جداً.
وعن ابن عباس: الويل: المشقة من العذاب.
وقال الخليل بن أحمد: الويل: شدة الشر.
وقال سيبويه: ويل لمن وقع في الهلكة، وويح لمن أشرف عليها.
وقال الأصمعي: الويل تفجع والويح ترحم.
وقال غيره: الويل: الحزن.
وقال الخليل: وفي معنى ويل: ويح وويش وويه وويك وويب، ومنهم من فرق بينها.
وقال بعض النحاة: إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة؛ لأن فيها معنى الدعاء.
ومنهم من جوز نصبها بمعنى: ألزمهم ويلاً.
قلت: لكن لم يقرأ بذلك أحد.
وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة:79]، قال: هم أحبار اليهود.
وكذا قال سعيد عن قتادة: هم اليهود.
وقال سفيان الثوري: عن عبد الرحمن بن علقمة سألت ابن عباس رضي الله عنه عن قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة:79] قال: نزلت في المشركين وأهل الكتاب.
وقال السدي: كان ناس من اليهود كتبوا كتاباً من عندهم يبيعونه من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله فيأخذوا به ثمناً قليلاً.
وقال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أنه قال: يا معشر المسلمين! كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرءونه غضاً لم يشب].
والصواب: محضاًً، كما رواه البخاري في صحيحه، و (محضاً لم يشب) يعني: خالصاً لم يصب بغيره.
وروي بلفظ: (أقرب الكتب عهداً بالله) كما قال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2] يعني: عندكم كتاب الله آخر الكتب نزولاً من عنده، ثم تسألون أهل الكتاب، وهذا إنكار من ابن عباس.
وقال في آخره: (فلا والله ما رأينا أحداً منهم يسألكم عما في الكتاب، فكيف تسألونهم أنتم؟) وعندكم كتاب الله محض لم يشب، ولم يختلط بغيره، وإنما هو محفوظ.
قال المصنف رحمه الله: [وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا به ثمناً قليلاً، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟! ولا والله ما رأينا منهم أحداً قط سألكم عن الذي أنزل عليكم، رواه البخاري من طرق عن الزهري.
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: الثمن القليل: الدنيا بحذافيرها].
فالدنيا كلها مهما عظمت ثمن قليل، ولو أعطوا الدنيا كلها من أولها إلى آخرها فذلك ثمن قليل لا تساوي شيئاً.
وفي الحديث: (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] أي: فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء، وويل لهم مما أكلوا به من السحت.
كما قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَوَيْلٌ لَهُمْ} [البقرة:79] يقول: فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] يقول: مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم].(40/6)
تفسير سورة البقرة [80 - 83]
يدعي اليهود أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، فرد الله عليهم بأن الأمر ليس كما تمنوا ولا كما يشتهون، بل من أحسن فله الحسنى، ومن أساء فله الخزي في الدنيا والآخرة.
كما ذكر الله تعالى بني إسرائيل بما أمرهم من الأوامر، وأخذه ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصداً وعمداً، وهم يذكرونه ويعرفونه.(41/1)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة)
قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:80].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى إخباراً عن اليهود في ما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} [البقرة:80] أي: بذلك، فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده، ولكن هذا ما جرى ولا كان، ولهذا أتى بأم التي بمعنى بل، أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.
قال محمد بن إسحاق بن سيف: عن سليمان عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن اليهود كانوا يقولون: إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوماً في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة، فأنزل الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] إلى قوله: {خَالِدُونَ} [البقرة:81].
ثم رواه عن محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
وقال العوفي: عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80]: اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة، زاد غيره: وهي مدة عبادتهم العجل، وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة.
وقال الضحاك: وقال ابن عباس: زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم التي هي نابتة في أصل الجحيم.
وقال أعداء الله: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم، فتذهب جهنم وتهلك، فذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80].
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] يعني: الأيام التي عبدنا فيها العجل.
وقال عكرمة: (خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها قوم آخرون يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم: بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد فأنزل الله عز وجل: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] الآية).
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن جعفر حدثنا محمد بن محمد بن صخر حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ حدثنا ليث بن سعد حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبوكم؟ قالوا فلان: قال: كذبتم، بل أبوكم فلان، فقالوا: صدقت وبررت، ثم قال لهم: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم! وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسئوا، والله لا نخلفكم فيها أبدا، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم! قال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ فقالوا: نعم، قال: فما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك) رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي من حديث الليث بن سعد بنحوه].
فهذه الآية الكريمة فيها بيان الأماني التي يتمناها اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وأنهم قالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] وهذه الأيام المشهور أنها الأيام التي عبدوا فيها العجل، وقيل غير ذلك.
وفي هذا الحديث الصحيح الثابت أنهم قالوا: نمكث فيها يسيراً ثم تخلفونا، فهم ادعوا هذه الدعوى، وهذا من باب الأماني، والأماني التي ليس عليها دليل لا يعول عليها وهي باطلة، ولهذا أنكر الله عليهم ذلك، فقال: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} [البقرة:80].
فاليهود الذين ماتوا على الكفر خالدون مخلدون فيها نسأل الله العافية، وكل من مات على الكفر فهو مخلد في النار لا يخرج منها أبد الآباد، وأما دعوى اليهود أنهم يمكثون فيها يسيراً، أو مدة أربعين يوماً، أو مدة سبعة أيام، فكل هذا من الأماني الباطلة التي قال الله في نظيرها لما قالوا: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111] فرد الله عليهم: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
فالواجب على المسلم ألا يدعي دعوى إلا بدليل، وينبغي للمسلم أن يبتعد عن الأماني الباطلة، وأن يكون جاداً في العمل، فيتوب إلى الله عز وجل ويعمل الأعمال الصالحة، ويترك التعلق بالأماني الباطلة، والتعلق بما عليه الآباء والأجداد، ولن ينفع الإنسان إلا عمله، ولهذا قال النبي عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) والأنساب والأحساب والأموال والجاه والسلطان والأماني كلها لا تنفع الإنسان، وما ينفع الإنسان إلا ما قدم من عمل صالح.(41/2)
تفسير قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته)
قال الله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81 - 82].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون، بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة، بل جميع أعماله سيئات فهذا من أهل النار.
((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))، أي: آمنوا بالله ورسوله، وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:123 - 124].
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً))، أي: عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط به كفره، فماله من حسنة، وفي رواية عن ابن عباس قال: الشرك، قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي وائل وأبي العالية ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه.
وقال الحسن أيضاً والسدي: السيئة الكبيرة من الكبائر.
وقال ابن جريج عن مجاهد: ((وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) قال: بقلبه.
وقال أبو هريرة وأبو وائل وعطاء والحسن: ((وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) قال: أحاط به شركه.
وقال الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خيثم: ((وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) قال: الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب.
وعن السدي وأبي رزين نحوه.
وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما وقتادة والربيع بن أنس: ((وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) الموجبة الكبيرة، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى.
والله أعلم].
المراد بالسيئة في الآية: سيئة الشرك، وهي قوله تعالى: ((بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) فمن أحاطت به خطيئته فلم يبق له حسنة التوحيد بسيئة الشرك، خلد في النار، وإلا فالسيئة التي دون الشرك تحت مشيئة الله، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا سليمان بن داود حدثنا عمرو بن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلاً كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً، وأججوا ناراً فأنضجوا ما قذفوا فيها)].
محقرات الذنوب هي: ما يحقرها الإنسان من المعاصي والذنوب، وتكون في نفسه من الصغائر، فالصغائر تجتمع مع بعضها البعض حتى تهلك الإنسان، كما في هذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم: وهو أن قوماً كانوا في البرية وأرادوا أن يطبخوا طعاماً، وليس عندهم حطب، فهذا جاء بعود وهذا جاء بعود، فاجتمع شيء من ذلك، فأججوا ناراً وأنضجوا به طعامهم، وكذلك السيئات فإنها تجتمع على الإنسان حتى تهلكه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:82] أي: من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له].
الصواب أن الجنة والنار باقيتان دائمتان لا تفنيان، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وأما ما يروى عن بعض السلف أن النار تفنى، فهذا محمول عند بعض أهل العلم على نار العصاة، وهذا أحسن ما يحمل عليه، ثم إن الآثار في هذا كلها مطعون فيها لا تثبت.
وليس بصحيح ما ينسب إلى شيخ الإسلام وابن القيم أن النار تفنى، وليس أيضاً بصريح، فـ ابن القيم في شفاء العليل أطال في نقل هذا القول واستدل له، وله قول آخر يخالفه، ويحمل على أن له قولين في المسألة، وأنه رجع عن أحدهما.(41/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله)
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة:83].
قال المصنف رحمه الله: [يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر، وأخذه ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصداً وعمداً وهم يعرفونه، ويذكرونه، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها؛ وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له، ثم بعده حق المخلوقين، وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين، كما قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، وقال تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] إلى أن قال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء:26].
وفي الصحيحين عن ابن مسعود، رضي الله عنهما: (قلت: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك، ثم أدناك، ثم أدناك)].
أي: بر أمك ثم أباك، وأباك: مفعول لفعل محذوف.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة:83].
قال الزمخشري: خبر بمعنى الطلب وهو آكد، وقيل: كان أصله: (ألا تعبدوا إلى الله) كما قرأها من قرأها من السلف، فحذفت أن فارتفع، وحكي عن أُبي وابن مسعود أنهما قرآها: (لا تعبدوا إلا الله).
ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبويه.
قال: واختاره الكسائي والفراء].
وهذا هو العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل وعلى هذه الأمة؛ وهو توحيد الله والإخلاص له وصرف الدين له، وهذا آكد الحقوق، فكل إنسان كتب عليه هذا العهد والميثاق أن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، وأن يبر والديه، وأن يحسن إلى اليتامى والمساكين، كما قال الله تعالى في آية الحقوق العشرة: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36] فأعظمها وآكدها حق الله عز وجل، وقد أخذه الله على الثقلين الجن والإنس، وخلقهم لهذا الأمر العظيم، وأرسل الرسل وأنزل الكتب من أجله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
ثم يأتي بعد حق الله عز وجل حق الوالدين؛ لأنهما السبب في وجود الإنسان، وحقهما آكد الحقوق بعد حق الله عز وجل، ثم الإحسان إلى الأقارب، ثم إلى الأيتام، ثم إلى المساكين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [{وَالْيَتَامَى} [النساء:36] وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء، {وَالْمَسَاكِينِ} [النساء:36] الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء التي أمرنا الله تعالى بها صريحاً في قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] الآية.
وقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] أي: كلموهم طيباً، ولينوا لهم جانباً، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم ويعفو ويصفح، ويقول للناس حسناً كما قال الله، وهو كل خلق حسن رضيه الله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا أبو عامر الخزاز عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق)، وأخرجه مسلم في صحيحه والترمذي وصححه من حديث أبي عامر الخزاز، واسمه صالح بن رستم به].
وفي لفظ: (ولو أن تلق أخاك بوجه طلق)، وفي لفظ: (ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)، فمنطلق أو طلق أو طليق بمعنى واحد، أي: منبسط، والمعنى: يلقى أخاه منبسط الوجه، فهذا من المعروف.
وقد جاء في الأثر الآخر: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، وفي الحديث الآخر: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسناً بعدما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي، ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة، فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]].
فالصلاة عبادة بدنية، والزكاة عبادة مالية، ففيها الإحسان إلى خلق الله، وهما واجبتان؛ لأن الله عينهما ونص عليهما.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله، أي: تركوه وراء ظهورهم وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به إلا القليل منهم، وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36] فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها، ولله الحمد والمنة].
فسيئة الكفر هي سيئة الشرك، فالمشرك هو الذي عبد مع الله غيره، والكافر هو الذي جحد توحيد الله وجحد حقه وعبد الشيطان، فالمشرك كافر والكافر مشرك، وإذا كان الشرك أكبر فإنه يخرج من الملة، وكذا النفاق الأكبر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره: قال حدثنا أبي حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا عبد الله بن يوسف يعني التنيسي حدثنا خالد بن صبيح عن حميد بن عقبة عن أسد بن وداعة: أنه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهودياً ولا نصرانياً إلا سلم عليه، فقيل له: ما شأنك تسلم على اليهودي والنصراني؟ فقال: إن الله تعالى يقول: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] وهو السلام.
قال: وروي عن عطاء الخراساني نحوه].
عبد الله بن يوسف التنيسي ينسب إلى بلدة التنيس بمصر.
أما الحديث السابق فإن صح عنه صلى الله عليه وسلم فهو محمول على أنه لم يبلغه النص في المنع من ابتداء أهل الكتاب بالسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه).
ورجاله ثقات، إلا حميد بن عقبة، وأسد بن وداعة صحابي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قلت: وقد ثبت في السنة أنهم لا يبدءون بالسلام.
والله أعلم].(41/4)
تفسير سورة البقرة [84 - 90]
لقد أخذ الله تعالى الميثاق على اليهود ألا يسفكوا دماءهم، وألا يقتلوا بعضهم، وألا يخرجوهم من ديارهم، فنقضوا العهد والميثاق، فقتلوا أنفسهم، وأخرجوا فريقاً منهم من ديارهم، وآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، فعاقبهم الله تعالى بالخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، وما الله بغافل عما يعملون.(42/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم)
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:84 - 86].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تبارك وتعالى منكراً على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عباد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم، قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر؛ وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة].
قوله: استفكوا، يعني: طلبوا فك الأسارى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85].
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة:84] أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه، كما قال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة:54]؛ وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)].
قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] مثل قوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] يعني: لا يقتل بعضكم بعضاً، ولا يعب بعضكم على بعض؛ لأن المؤمنين كالجسد الواحد، وكالنفس الواحدة، وكل مسلم يتألم بألم أخيه، ويسره ما يسر أخاه، ويحزنه ما يحزنه.
وكذلك بنو إسرائيل كالنفس الواحدة، فلا يقتل بعضهم بعضاًَ، وأقروا بذلك، فعملوا ببعض الكتاب ولم يعملوا بالبعض الآخر، فهم آذوهم عملاً بالكتاب، وقاتلوهم مخالفة لكتابهم، وعاب الله عليهم وأنكر عليهم، فهم يعملون ببعض الكتاب ولا يعملون بالبعض الآخر: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85].
قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة:84]، أي: ثم أقررتم بمعرفة هذا النفاق وصحته، وأنتم تشهدون به].(42/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم)
قال الله تعالى: [{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:85] الآية.
قال المصنف رحمه الله: قال محمد بن إسحاق بن يسار حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:85] الآية.
قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير، وقريظة وهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس].
الأقرب للصواب أن قريظة مع الأوس، وقينقاع وبني النضير مع الخزرج كما سبق.
قال المصنف رحمه الله: [يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة، يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثاً ولا قيامة ولا كتاباً ولا حلالاً ولا حراماًَ، فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة وأخذ به بعضهم من بعض].
أي: أن الله حرم عليهم في التوراة أن يقتل بعضهم بعضاً، وأن يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأمرهم بالفداء من وجد فيهم أسيراً، فعملوا ببعض الكتاب، وهو مفاداة الأسرى بعد أن تضع الحرب أوزارها، وكفروا بالبعض الآخر، فلم يعملوا بما فيه من النهي عن القتل والإخراج، فقتل بعضهم بعضاً، ونهب أمواله وأخرجه من داره، ثم إذا وضعت الحرب فاداه عملاً بالكتاب، فعمل ببعض الكتاب وكفر بالبعض، وفيه دليل على أن من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه فهو كافر بالجميع ولا يفيد عمله بالبعض، ولهذا قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].
ومن كفر بكتاب من كتب الله فقد كفر بالجميع، ويجب على كل إنسان أن يؤمن بكتب الله جميعاً، فمن آمن ببعض كتب الله وكفر بالبعض الآخر فهو كافر، كما أن من عمل ببعض الكتاب ولم يعمل بالبعض الآخر فهو كافر أيضاً، وكذلك من آمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم فهو كافر بالجميع؛ لأن الرسل متضامنون، والمتقدم بشر بالمتأخر، والمتأخر صدق المتقدم، كما قال الله عن عيسى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6].
ولهذا أخبر الله عن الأمم الكافرة التي كذبت نبيها أنها كافرة بجميع الرسل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141]، {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [الحجر:80] فهم كذبوا نبياً واحداً، لكن تكذيبهم لهذا النبي تكذيب لجميع الأنبياء والمرسلين، وليس قبل نوح رسول، فهو أول رسول، ومع ذلك أخبر الله عن قومه أنهم كذبوا المرسلين، فالرسل جاءوا بعد نوح، والمراد جنس المرسلين، فتوعدهم الله بالنار، وبين أن هذا كفر بالجميع نعوذ بالله، وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلك اليهود والنصارى فيصيبها ما أصابهم، وأن تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض.
فالواجب على كل إنسان أن يؤمن بجميع رسل الله وكتبه، وأن يؤمن بالرسول عليه الصلاة والسلام وبكتابه القرآن، ولا يجعل القرآن عضين فيؤمن ببعضه ويكفر ببعضه، قال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] أي: أجزاء، يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه، ومن كفر ببعض الكتاب فقد كفر بالجميع.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم.
يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، أي: تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم، وفي حكم التوراة ألا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا].
الأوس والخزرج كانوا أهل أوثان، وكان اليهود يظاهرون أهل الأوثان على قتالهم وإخراجهم من ديارهم، فكانوا يعاونون الأوس والخزرج عليهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة].
لأن المفاداة إنما هي في الأسرى فقط، أما القتلى والإخراج من الديار فهذا ليس فيه مفاداة؛ لأن الله تعالى عاب عليهم كونهم يقتلونهم ويسفكون دماءهم، ونفي المفاداة في سفك الدم فلا دية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أسباط عن السدي: كانت قريظة حلفاء الأوس، وكان النضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب بينهم، فتقاتلا بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفائهم، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبونهم، فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن تُستذل حلفاؤنا، فذلك حين عيرهم الله تبارك وتعالى، فقال تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:85] الآية.
وقال أسباط عن السدي عن الشعبي: نزلت هذه الآية في قيس بن الخطيم: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:85] الآية.
وقال أسباط عن السدي، عن عبد خير].
عبد خير معروف يروي عن علي.
قال المصنف رحمه الله: [قال: غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي بلنجر فحاصرنا أهلها، ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا، واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة، فلما مر برأس الجالوت نزل به، فقال له عبد الله: يا رأس الجالوت! هل لك في عجوز هاهنا من أهل دينك تشتريها مني؟ قال: نعم، قال: أخذتها بسبعمائة درهم، قال: فإني أربحك سبعمائة أخرى، قال: فإني قد حلفت ألا أنقصها من أربعة آلاف، قال: لا حاجة لي فيها، قال: والله لتشترينها مني أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه، قال: ادن مني، فدنا منه، فقرأ في أذنه مما في التوراة: إنك لا تجد مملوكاً من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقه: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} [البقرة:85] قال: أنت عبد الله بن سلام؟ قال: نعم، قال: فجاء بأربعة آلاف، فأخذ عبد الله ألفين ورد عليه ألفين].
سلمان ثبت، ويقال أن له صحبة، وكأنه فيه خلاف في الصحبة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره: حدثنا أبو جعفر يعني الرازي، قال حدثنا الربيع بن أنس، أخبرنا أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليها العرض، فقال عبد الله: أما إنه مكتوب عندكم في كتابك أن تفاديهن كلهن والذي أرشدت إليه الآية الكريمة، وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره، وغير ذلك من شئونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:85]، أي: بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85]، جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].(42/3)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:86].
قال المصنف رحمه الله: [{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [البقرة:86]، أي: استحبوها على الآخرة واختاروها: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} [البقرة:86] أي: لا يفتر عنهم ساعة واحدة، {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:86] أي: وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه].
ولا شك في هذا؛ لأنهم قوم بهت، وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تفعل فعل اليهود فيصيبهم ما أصابهم من خزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.
نسأل الله العافية.(42/4)
تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]].
والأحفاد على سيرة الأجداد، واليهود الموجودون في فلسطين الآن هم على آثار آبائهم وأجدادهم، فلا يرجى منهم خير، واليهود قوم بهت، ولم يسلم منهم إلا القلة منذ عهود طويلة، بخلاف النصارى فإنه يسلم منهم الآن المئات والآلاف في المراكز الإسلامية، لكن ما سمعنا أن يهودياً أسلم، فاليهود قوم بهت خبثاء، ولم يسلم منهم إلا القلة، مثل عبد الله بن سلام رضي الله عنه.
وقد جاء في حديث فيما معناه: (لو أسلم عشرة لأسلم أو لتبعهم الكثير)، فاليهود عندهم حسد وعناد وعتو وجبروت وقسوة في القلوب، نعوذ بالله، والنصارى أرق منهم وأقرب إلى قبول الحق، ولهذا فإنه يسلم الآن المئات في المراكز الإسلامية وفي مكاتب الدعوة، وفي الشركات والمؤسسات وغيرها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:89].
قال: وكانوا يقولون: إنه سيأتي نبي: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89].
وقال مجاهد: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، قال: هم اليهود.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب قال حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل عن سلمة بن سلامة بن وقش وكان من أهل بدر قال: كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل قال: فخرج علينا يوماً من بيته قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيهم سناً على بردة مضطجعاً فيها بفناء أصلي، فذكر البعث والقيامة والحساب، والميزان، والجنة والنار، قال ذلك بأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون بعثاً كائناً بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائناً؛ أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ فقال: نعم، والذي يحلف به، لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غداً، قالوا له: ويحك، وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إلي وأنا من أحدثهم سناً فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا فآمنا به، وكفر به بغياً وحسداً، فقلنا: ويلك يا فلان ألست بالذي قلت لنا؟ قال: بلى وليس به.
تفرد به أحمد.
وحكى القرطبي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن يهود خيبر اقتتلوا في زمان الجاهلية مع غطفان، فهزمتهم غطفان، فدعا اليهود عند ذلك فقالوا: اللهم إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا بإخراجه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، قال فنصروا عليهم، قال: وكذلك كانوا يصنعون يدعون الله فينصرون على أعدائهم ومن نازلهم.
قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [البقرة:89] أي: من الحق وصفة النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به فلعنة الله على الكافرين.(42/5)
تفسير قوله تعالى: (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله)
قال الله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:90].
قال المصنف رحمه الله: قال مجاهد: ((بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ)) يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه.
قوله: شروا الحق، بمعنى: باعوه، مثل قوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف:20] أي: باعوه بثمن بخس، والمراد بالشراء الاعتياض.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال السدي: ((بِئْسَمَا اشْتَرَوْا)) يقول: باعوا به أنفسهم، يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم عن تصديقه وموازرته ونصرته، وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية بأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، ولا حسد أعظم من هذا.
قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة وسعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة:90] أي: أن الله جعله من غيرهم، {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة:90]].
قال ابن عباس في الغضب على الغضب: فغضب فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب عليهم بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم.
قلت: ومعنى: باءوا: استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب.
وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، وعن عكرمة وقتادة مثله.
قال السدي: أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العجل، وأما الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس مثله].
ولا منافاة بين هذه الأقوال، فالله غضب عليهم بتركهم العمل بالتوراة، ثم بكفرهم بعيسى، ثم بعبادتهم العجل، ثم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا منافاة بين هذه الأقوال، فكلها حق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:90]: لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ومنشأ ذلك التكبر قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60])) [الأعراف:206]، أي: صاغرين حقيرين ذليلين راغمين.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى حدثنا ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس، تعلوه نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار)].
ابن عجلان فيه كلام، فقد حصل له اختلاف في حديث أبي هريرة، والحديث صحيح، ولا شك أن المتكبرين الذين يتكبرون عن الإيمان بالله وبرسوله أن أنهم لهم الصغار والإهانة وعذاب النار.(42/6)
تفسير سورة البقرة [91 - 96]
تشير هذه الآيات إلى محاججة اليهود بأن يؤمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وردهم بقولهم: يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوارة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك، فرد الله عليهم: إن كنتم صادقين في دعواكم هذه فلم قتلتم أنبياء الله وأنتم تعلمون صدقهم.
وفي الآيات أيضاً يعدد سبحانه وتعالى خطأهم ومخالفتهم للميثاق، وعتوهم وإعراضهم عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه.
ثم احتج الله لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهرانيه، إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضاركم فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله تعالى.(43/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه)
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:91 - 92].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ)) أي: لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب ((آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ)) على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه ((قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا)) أي: يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك ((وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ)) يعني: بما بعده ((وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ)) أي: وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (الحق مصدقاً لما معهم) منصوباً على الحال، أي: في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل، فالحجة قائمة عليهم بذلك، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، ثم قال تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:91] أي: إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي، كما قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87].
وقال السدي في هذه الآية: يعيرهم الله تبارك وتعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:91].
وقال أبو جعفر بن جرير: قل يا محمد! ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم آمنوا بما أنزل الله، قالوا نؤمن بما أنزل علينا لم تقتلون -إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله- أنبياء الله يا معشر اليهود! وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم؛ وذلك من الله تكذيب لهم في قوله: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة:91] وتعيير لهم].(43/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم موسى بالبينات)
قال المصنف رحمه الله: [{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [البقرة:92].
أي: بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله، والآيات البينات: هي الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، وفرق البحر، وتظليلهم بالغمام، والمن والسلوى، والحجر، وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} [البقرة:51] أي: معبوداً من دون الله في زمان موسى وأيامه.
وقوله {مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة:51] أي: من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148]، {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51] أي: وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:149]].
بالنسبة لآية الحجر عندما ضربه موسى بعصاه.
اتخذ بني إسرائيل العجل من الحلي، أي: من ذهب آل فرعون، فصنع السامري من هذا الحلي عجلاً له خوار، يعني: له صوت حين تدخل الريح من فمه وتخرج من دبره، وأمرهم أن يسجدوا له، فعبدوه من دون الله، وقد كانوا عقلاء لكن الله أعمى بصائرهم، وكان بينهم نبيهم هارون، لكنهم استضعفوه وكادوا يقتلونه، ولما نهاهم عن ذلك قالوا: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91].
ولما رجع موسى ووجدهم يعبدون العجل غضب غضباً شديداً، فقال هارون عليه السلام: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150].
وكيف يصلح للذي لا يتكلم ولا يرد الجواب، ولا يأخذ ولا يعطي، ولا يهدي سبيلاً أن يكون إلهاً؟! ثم بعد ذلك لما جاءهم موسى وأنكر عليهم، وحرق العجل وهم ينظرون، سقط من أيديهم وعلموا أنهم قد ضلوا: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:149].(43/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور)
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:93].
قال المصنف رحمه الله: [يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم، ومخالفتهم للميثاق، وعتوهم وإعراضهم عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه، ولهذا قالوا: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة:93].
وقد تقدم تفسير ذلك: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93].
قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93] قال: أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم، وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن خالد بن محمد الثقفي عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حبك الشيء يعمي ويصم)، ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بقية عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به].
وهذا الحديث بسنديه ضعيف، فالسند الأول فيه أبو بكر بن أبي مريم، والثاني فيه أيضاً أبو بكر بن أبي مريم، وفيه أيضاً بقية بن وليد، وهو مدلس وقد عنعن، ولكن المعنى صحيح.
ومعنى حبك الشيء يعمي ويصم، أي: يعمي عن نظر الحق، ويصم عن سماعه ويبكم عن التكلم به، وفي الغالب أنه إذا ضعف الإيمان فإن حب الإنسان للشيء يعميه عن الحق، فلا يراه واضحاً، ويصمه فلا يسمعه، ويبكمه فلا يتكلم به.
وهؤلاء -والعياذ بالله- أشربوا في قلوبهم حب العجل، فهم رأوا السامري وقد أخذ الذهب الذي جاءوا به من مصر فعجنه بيده وجعله على صورة عجل، ثم عبده من دون الله وقال لهم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88]، ثم تابعوه وعبدوا العجل من دون الله، فإذا عميت البصائر فلا حيلة، وإلا كيف يكونون عقلاء وهم يشاهدون عجلاً مصنوعاً من ذهب أتوا به معهم، ثم يعبدونه إلهاً؟! فحبك الشيء يعمي ويصم، ولهذا قال تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93] يعني: حب العجل على تقدير حذف المضاف، وهذا أسلوب عربي معروف، فالقرآن نزل بلغة العرب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال السدي: أخذ موسى عليه الصلاة والسلام العجل فذبحه بالمبرد، ثم ذراه في البحر، ثم لم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء، ثم قال لهم موسى: اشربوا منه، فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب، فذلك حين يقول الله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمارة بن عمير وأبي عبد الرحمن السلمي].
ظاهر سند هذا الحديث أنه لا بأس به، لكن هذه الأخبار من أخبار بني إسرائيل، فلا تصدق ولا تكذب، ولا شك أن موسى عليه السلام حرق العجل وذراه في البحر، وهذا ما نص الله عليه في كتابه، قال تعالى: {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه:97].
عمارة بن عمير لم يسمع من علي، لكنه مقرون بـ أبي عبد الرحمن السلمي وهو عبد الله بن حبيب وقد سمع من علي، والحديث رجاله رجال الصحيح، لكن أبا إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث، وهذا والذي قبله من كلام السدي لا يعتمد عليهما؛ لاحتمال أن القصة من قصص بني إسرائيل.
وعلى كل حال فالسند لا بأس به، لكن هذا من أخبار بني إسرائيل.
قال: [عن علي رضي الله عنه قال: عمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد، فبرده بها وهو على شاطئ نهر، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب.
وقال سعيد بن جبير: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93] قال: لما أحرق العجل برد ثم نسف، فحسوا الماء حتى عانت وجوههم كالزعفران.
وحكى القرطبي عن كتاب القشيري: أنه ما شرب أحد منه ممن عبد العجل إلا جن.
ثم قال القرطبي: وهذا شيء غير ما هاهنا؛ لأن المقصود من هذا السياق أنه ظهر على شفاههم وجوههم، والمذكور هاهنا أنهم أشربوا في قلوبهم العجل، يعني: في حال عبادتهم له، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة: تغلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير تغلغل حيث لم يبلغ شراب ولا حزن ولم يبلغ سرور تكاد إذا ذكرت العهد منها أطير لو أن إنساناً يطير وقوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:93].
أي: بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمور عليكم، إذ كفرتم بخاتم الرسل، وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة من نقضكم المواثيق وكفركم بآيات الله وعبادتكم العجل من دون الله].
المقصود من هذا تحذير هذه الأمة من أن تسلك مسلك بني إسرائيل فيصيبهم ما أصابهم، فالله تعالى أخذ عليهم الميثاق أن يعملوا بالتوراة ويتابعوا موسى عليه الصلاة والسلام، ورفع فوقهم جبل الطور حتى يقبلوا فقبلوا ثم خالفوا؛ لعتوهم وعنادهم، والله تعالى قص علينا أخطاءهم لنحذرها؛ لأن أفعال اليهود أفعال شنيعة وأفعال قبيحة؛ فقد خالفوا الرسل، وقتلوا الأنبياء، وخالفوا أوامر الله، فالواجب على الأمة الإسلامية أن تسابق إلى الخيرات وأن تعمل الصالحات، وواجب على كل مسلم أن يؤمن بالله ورسوله وباليوم الآخر، وأن يحكم الكتاب والسنة، وأن يعمل بكتاب ربه وسنة نبيه، وألا يتشبه باليهود ومن سلك سبيلهم في مخالفة الأنبياء ومخالفة الأوامر والعناد.(43/4)
تفسير قوله تعالى: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت)
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:94 - 96].
قال المصنف رحمه الله: [قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:94]، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:95] أي: بعلمهم بما عندهم من العلم، بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات].
يعني: لا يتمنوه بسبب ما عندهم من العلم بأنهم على الباطل، وهم يعلمون أنهم على الباطل فلا يتمنون الموت؛ لأنهم إذا تمنوا الموت ضاعت عليهم الدنيا، وهم يعلمون أنهم هالكون في الآخرة، فهم مريدون الدنيا الآن؛ لأنها هي التي لهم الآن، فإذا تمنوا الموت خسروا الدنيا مع الآخرة، فلم يتمنوا الموت.
وكذلك المباهلة وهي الدعاء بالموت على الكاذب منا أو منكم، والمباهلة تعجل بالعقوبة على الكاذب، ولهذا امتنع نصارى نجران لما باهلهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يعلمون أنهم على الباطل، وهؤلاء اليهود امتنعوا كذلك.
وابن عباس طلب المباهلة في بعض المسائل الخلافية.
أيضاً كذلك ورد عن عمر وبلال في مسائل المباهلة، وأن عمر قال: اللهم اكفني بلالاً وذويه، كأنه إما مباهلة أو قريب من المباهلة، وابن عباس كان أيضاً يقول: من يباهلني في بعض المسائل الخلافية، إذا اشتد النزاع بينه وبين خصمه، وتأكد أنه على الحق، وأن خصمه على الباطل، لكن الواجب في المسائل الخلافية الرجوع إلى الكتاب والسنة، والمسلمون يرجعون إلى الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]، ولكن قد يتعصب بعض الناس وقد يشتد النزاع، وقد يكون الفريق الآخر مبتدع.
والمباهلة كانت معروفة في الجاهلية، وأنهم ماتوا عن آخرهم ولم يبق منهم أحد، وما دار عليهم الحول إلا ولم يبق منهم عين تطرف، لأنهم باهلوا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الضحاك عن ابن عباس: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [البقرة:94] فسلوا الموت، وقال عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة قوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:94].
قال: قال ابن عباس: لو تمنى يهود الموت لماتوا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا عثام: سمعت الأعمش قال: لا أظنه إلا عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه، وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال ابن جرير في تفسيره: وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً)، حدثنا بذلك أبو كريب حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي حدثنا فرات عن عبد الكريم به].
وهذا ثابت عن ابن عباس قد قاله في المباهلة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار حدثنا سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قال: قول الله: ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم.
قلت: أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم تمنوا الموت أتراهم كانوا ميتين؟ قال: لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت، وما كانوا ليتمنوه، وقد قال الله ما سمعت: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:95]، وهذا غريب عن الحسن].
هذا غريب وضعيف عن الحسن، والصواب الأول، وهو ما ثبت عن ابن عباس، أن هذا كان في المباهلة، وأنهم لو تمنوا الموت لماتوا.
وقد تكلم بعضهم على سند الحسن البصري بسبب الانقطاع.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين، وهو الدعاء على أي الفريقين، أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة].
وقد وقعت المباهلة أيضاً مع نصارى نجران، وهي المذكورة في قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] والمباهلة: هي الدعاء بالهلاك على أي من الفريقين إن كان كاذباً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ونقله ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى.
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:6 - 8].
فهم عليهم لعائن الله تعالى لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين، فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون؛ لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا علم كذبهم، وهذا كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة، وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61].
فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف، فعند ذلك جنحوا للسلم، وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فضربها عليهم وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أميناً، ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم:75] أي: من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه، ومد له واستدرجه كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى].
إن رسول الله لما أراد أن يبعث معهم أميناً حق أمين، استشرف الناس لها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أميناً، وهذا من مناقبه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما من فسر الآية على معنى: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6]، أي: في دعواكم فتمنوا الآن الموت، ولم يتعرض هؤلاء للمباهلة كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم، ومال إليه ابن جرير بعدما قارب القول الأول، فإنه قال: القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ} [البقرة:94] الآية، فهذه الآية مما احتج الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم؛ وذلك أن الله تعالى أمر نبيه أن يدعوهم إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إ(43/5)
تفسير سورة البقرة [97 - 101]
يبين الله تعالى في هذه الآيات الكريمات عداوة اليهود لأمين الوحي جبريل عليه السلام، وحبهم لميكائيل عليه السلام، فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحداً منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضاً، وأشارت الآيات أيضاً إلى أن الله أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم آيات بينات تدل على نبوته، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود، كما بينت الآيات ما عليه اليهود من نقض للعهود والمواثيق، وتكذيبهم لرسل الله أجمعين.(44/1)
تفسير قول الله تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله فإن الله عدو للكافرين)(44/2)
سبب نزول قوله تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل فإن الله عدو للكافرين)
قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97 - 98].
قال المصنف رحمه الله: [قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك، فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته.
ذكر من قال ذلك].
وهذه عادة ابن جرير، فيذكر القول ثم يقول: ذكر من قال ذلك، ثم يسرد الأقوال.
قبح الله اليهود، فرقوا بين الملائكة كلهم، جبرائيل وميكائيل وسائر الملائكة، مع أن الملائكة كلهم أتوا بالخير، وكلهم معظمون لأمر الله، وكلهم يأتمرون بأمر الله، كما قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وقال: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26 - 27]، ولكن من خبث اليهود والعياذ بالله، فرقوا بين جبريل، فقالوا: جبريل عدونا، وميكائيل ولينا.
وقالوا: جبريل ينزل بالعذاب وبالهلاك، وميكائيل ينزل بالقطر وبالنبات وبالخير، هكذا يزعمون! قبحهم الله.
قال المصنف رحمه الله: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم].
والعِصابة -بكسر العين- يعني: الجماعة من الناس، أما العُصابة -بالضم- فهي اللفافة التي على الرأس.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقالوا: (يا أبا القاسم! حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة، وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم عن شيء فعرفتموه لتتابعنني على الإسلام، فقالوا: ذلك لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا عما شئتم.
قالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن: أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل، وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة، ومن وليه من الملائكة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعنني، فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق، فقال: نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى)].
قوله: (نشدتكم بالذي أنزل التوراة)، هذا ليس قسماً، وإنما هو سؤال لهم بما يعظمونه، كأن تقول مثلاً: أسألك بالرحم، يعني: بحق الرحم، أو أسألك بحق أبيك، أو بحق أخيك، فأنت تسأل مخلوقاً بشيء هو يعظمه، وليس هذا قسماً، وإنما هو سؤال المخلوق بشيء يعظمه، ولا بأس بذلك، ومنه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]، على قراءة الجر: (والأرحام)، يعني: أنهم كانوا يتساءلون بالأرحام، ويقول بعضهم لبعض: أسألك بحقي عليك إلى آخره، أو أسألك بالرحم الذي بيني وبينك، أو أسألك بحق أبيك أو بحق أخيك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [(هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه منه فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من مرضه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه: لحوم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها، فقالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد عليهم)].
قال هذا؛ لأنهم صدقوه، ووافقوه بقولهم: اللهم نعم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [(وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض، وأن ماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله عز وجل، وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكراً بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله عز وجل؟ قالوا: اللهم نعم، قال اللهم اشهد، وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم، قال: اللهم اشهد، قالوا: أنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة؟).
وهذا من خبثهم، فإنهم لما وافقوه على هذه الأشياء وصدقوه اضطراراً، فما الحيلة لهم الآن إلا أن يقولوا: نسألك من هو وليك من الملائكة وهذه ستفصل بيننا وبينك، فلما قال: إن وليه جبريل، قالوا: لا نتبعك؛ لأن جبريل هذا عدونا، فلو كان وليك ميكائيل لتابعناك، وهذا من خبثهم نسأل الله العافية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [(فعندها نجامعك أو نفارقك)].
ومعنى: (نجامعك) يعني: نجتمع معك ونوافقك، أو نخالفك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [(قال: فإن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه، قالوا: فعندها نفارقك، ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك، قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:97] {لوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102]، فعندها باءوا بغضب على غضب.
وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي النضر هاشم بن القاسم، وعبد الرحمن بن حميد في تفسيره عن أحمد بن يونس كلاهما عن عبد الحميد بن بهرام به.
ورواه أحمد أيضاً عن الحسين بن محمد المروزي عن عبد الحميد بنحوه].
عبد الرحمن بن حميد صاحب التفسير المذكور في السند هو يقال له: عبد الرحمن بن حميد ويقال له: عبد بن حميد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد، حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي عن بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: أقبلت اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم! أخبرنا عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: والله على ما نقول وكيل، قال: هاتوا، قالوا: فأخبرنا عن علامة النبي؟ قال: تنام عيناه ولا ينام قلبه، قالوا: أخبرنا كيف تؤنَث المرأة؟ وكيف تذكر؟)].
قولهم: (كيف تؤنَث المرأة وكيف تذكر؟) يعني: كيف يكون الولد أنثى، وكيف يكون الولد ذكراً في بطنها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [(يلتقي الماءان، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت، قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: كان يشتكي عِرْق النساء)].
وعِرْق النساء: هو مرض يقال له: عِرْق النساء.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [(فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان كذا، قال أحمد: قال بعضهم: يعني: الإبل -فحرم لحومها- قالوا: صدقت، قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيديه، أو في يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله تعالى، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: صوته، قالوا: صدقت، قالوا: إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأيته بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: جبريل عليه الصلاة السلام، قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان، فأنزل الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:97] إلى آخر الآية).
ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد به، وقال الترمذي: حسن غريب.
وقال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج: أخبرني القاسم بن أبي بزة: (أن يهوداً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي، قال: جبريل، قالوا: فإنه عدو لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال، فنزلت: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} الآية).
قال ابن جرير: قال مجاهد: قالت اليهود: (يا محمد! ما نزل جبريل إلا بشدة وحرب وقتال، فإنه لنا عدو، فنزل: ((قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ)) الآية).
قال البخاري: وقوله تعالى: ((قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ)) [البقرة:97]، قال عكرمة: جبر وميك وإسراف: عبد إيل: الله].
أي: أن كلمة (جبرائيل) مكونة من كلمتين، جبر، ومعناها: عبد، وإيل، ومعناها: الله، وكلمة (ميكائيل) مكونة من كلمتين: ميك، معناها: عبد، وإيل، ومعناها: الله، وكلمة (إسرافيل) أيضاً مكونة من كلمتين ومعناها: عبد، وإيل، ومعناها: الله، وقيل بل العكس؛ لأن الكلمات الأعجمية قد يقدم فيها المضاف إليه على المضاف.(44/3)
قصة إسلام عبد الله بن سلام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [(سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف)].
ومعنى يحترف -بالحاء- أي: يشتغل في أرضه، وهذا أول إسلامه عندما سمع بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلمة: يحترف مأخوذة من الحرفة.
وتحتمل هذه الكلمة وجهاً آخ وهو: يخترف -بالخاء- أي: يجني الثمر، وهو من الخراف، يعني: جني الثمر، ومنه الخريف؛ لأن جني الثمار يكون في وقت الخريف.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [(فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهذه جبرائيل آنفاً)].
قال: أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم.
نعم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [(قال: جبريل؟ قال: نعم، قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة:97]، وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت)].
وهنا بادر بالتوبة رضي الله عنه، أي: عبد الله بن سلام الإسرائيلي، وهو مشهود له بالجنة، واليهود قوم بهت، فما أسلم منهم إلا القلة، وعبد الله بن سلام كان سيداً فيهم، فلما أسلم أنكروا فضله، ففي وقت واحد سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: هو خيرنا وابن خيرنا، فلما خرج وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، قالوا: شرنا وابن شرنا في الحال، وهذا من خبثهم قبحهم الله.
وقد جاء في الحديث: أنه لو أسلم عشرة لتبعهم اليهود، لأن اليهود قوم بهت، وعندهم خبث وعتو وعناد، بخلاف النصارى فإنهم أقرب منهم وألين قلوباً، ولهذا يسلم الآن في مكاتب الدعوة الآلاف من النصارى، وما سمعنا يهودياً أسلم، فنعوذ بالله من اليهود ومن أفعالهم.
(وقوله زيادة كبد الحوت) بيانه: أن الكبد فيه قطعة صغيرة زائدة، وهذه الزيادة التي في كبد الحوت هي طعام أهل الجنة، وهذا يعني أن الحوت كبير؛ لأن هذه الزيادة في كبد الحوت تكفي أهل الجنة، وهي أول طعامهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [(وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟)].
وكان عبد الله بن سلام قد اختفى عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى يسألهم عنه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [(قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: أرأيتم إن أسلم، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: هو شرنا وابن شرنا وانتقصوه)].
فمن بهتهم أنهم أثنوا عليه في الحال، ثم انتقصوه في الحال.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (فقال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله!) -انفرد به البخاري من هذا الوجه، وقد أخرجاه من وجه آخر عن أنس بنحوه].
أي: إن هذا الحديث ثابت في الصحيح.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي صحيح مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب من هذا السياق، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى].(44/4)
الخلاف في معنى: (جبر) و (ميك) و (إسرا) و (إيل)
وحكاية البخاري كما تقدم عن عكرمة هو المشهور أن إيل هو الله، وقد رواه سفيان الثوري عن خَصِِيف أو خُصَيف عن عكرمة، ورواه عبد بن حميد عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة، ورواه ابن جرير عن الحسين بن يزيد الطحان عن إسحاق بن منصور عن قيس بن عاصم عن عكرمة أنه قال: إن جبريل اسمه عبد الله، وميكائيل اسمه عبد الله، إيل: الله.
ورواه يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس مثله سواء.
وكذا قال غير واحد من السلف كما سيأتي قريباً.
ومن الناس من يقول: إيل عبارة عن عبد، والكلمة الأخرى هي اسم الله].
سبق وأن قلنا إن فيها قولين: القول الأول: جبر: عبد، ومعنى: إيل: الله، والقول الثاني: العكس، أي: أن إيل معناها: عبد، وجبر، معناها: الله، وهذه كلمة أعجمية، والعجم قد يقدمون المضاف إليه على المضاف، خلافاً للعرب، فهم يقدمون المضاف على المضاف إليه، نحو: عبد الله، فعبد مضاف، والله الاسم الشريف مضاف إليه، لكن الأعاجم بالعكس، وهذا ستجدونه الآن في لهجة بعض الأعاجم، فتجدون الباكستاني يقول ثاني واحد، فيقدم الثاني على الواحد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [لأن كلمة إيل لا تتغير في الجميع، فوزانه عبد الله عبد الرحمن عبد الملك عبد القدوس عبد السلام عبد الكافي عبد الجليل، فعبد موجودة في هذا كله].
يعني: أن جبرائيل ونحوه يوازن هذه الأسماء في اللغة العربية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [واختلفت الأسماء المضاف إليها، وكذلك جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ونحو ذلك، وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف.
والله أعلم].(44/5)
سبب الشبه في الولد وذكر الفرق بين رواية: (سبق ماء الرجل) ورواية: (علا ماء الرجل)
وسؤال هؤلاء للرسول عن ذكورية المرء أو أنوثيته، وقوله لهم: إن ذلك سببه سبق للماء أو علوه، وكذلك يكون الشبه، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة كان المولود ذكراً وأشبه أباه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل كان المولود أنثى وأشبه أمه، فيكون الشبه وتحديد الجنس بناءً على الماء السابق.
وقد جاء في بعض الأحاديث: (إذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الشبه له، وفي بعضها: إذا سبق).
وبعضهم فرق بين السبق وبين العلو فقال: إذا علا كان الشبه له، وإذا سبق كان الولد ذكراً أو أنثى؛ أي: أن العلو هو الذي يحدد الشبه، وأن السبق يحدد الجنس.(44/6)
مناظرة عمر بن الخطاب لليهود
قال المصنف رحمه الله تعالى: [(ثم قال ابن جرير وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم (ذكر من قال ذلك) حدثني محمد بن المثنى حدثني ربعي بن علية عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: نزل عمر الروحاء فرأى رجالاً يتبدرون أحجاراً يصلون إليها فقالك ما بال هؤلاء؟ قالوا: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى هاهنا قال: فكره ذلك وقال: إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد صلاها، ثم ارتحل فتركه، ثم أنشأ يحدثهم، فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم)].
قوله: يوم مدارسهم، أي: اليوم الذي يجتمعون فيه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأعجب من التوراة كيف تصدق القرآن، ومن القرآن كيف يصدق التوراة، فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب! ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك، قلت: ولم ذلك؟ قالوا: لأنك تغشانا وتأتينا، فقلت: إني آتيكم فأعجب من القرآن كيف يصدق التوراة، ومن التوراة كيف تصدق القرآن، قالوا: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا ابن الخطاب، ذاك صاحبكم فالحق به.
قال: فقلت لهم: عند ذلك نشدتكم بالله الذي لا إله إلا هو، وما استرعاكم من حقه وما استودعكم من كتابه، هل تعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا، فقال لهم عالمهم وكبيرهم: إنه قد غلظ عليكم فأجيبوه، قالوا: فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت، قال: أما إذا نشدتنا بما نشدتنا].
يجوز ضبطها بإذا أو إذ نشدتنا، ولكن إذا أحسن فيضبط بها، بمعنى: حين أنشدتنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإنا نعلم أنه رسول الله، قلت: ويحكم إذاً هلكتم، قالوا: إنا لم نهلك، قلت: كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ولا تتبعونه ولا تصدقونه؟ قالوا: إن لنا عدواً من الملائكة وسلماً من الملائكة، وإنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة، قلت: ومن عدوكم ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل وسلمنا ميكائيل، قالوا: إن جبرائيل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو ذلك، وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة والتخفيف ونحو هذا، قال: قلت: وما منزلتهما من ربهما عز وجل؟ قالوا: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، قال: فقلت: فو الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما، وسلم لمن سالمهما، وما ينبغي لجبرائيل أن يسالم عدو ميكائيل وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبرائيل، قال: ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من خوخة لبني فلان، فقال: (يا ابن الخطاب! ألا أقرئك آيات نزلن قبل، فقرأ علي: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:97]، حتى قرأ الآيات، قال: قلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك، وأنا أسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر)].
منقطع، وإن كان اليهود لا شك في خبثهم، وقد تقدم ما ذكره المؤلف رحمه الله عند سبب النزول.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن مجالد أنبأنا عامر].
وعامر هو عامر الشعبي، ومجالد ضعيف، والشعبي أيضاً لم يدرك عمر، فيكون هذا أيضاً منقطع وفيه ضعف.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود فقال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمداً في كتبكم؟ قالوا: نعم، قال: فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولاً إلا جعل له من الملائكة كفلاً، وإن جبرائيل كِفْل محمد، وهو الذي يأتيه وهو عدونا من الملائكة، وميكائيل سلمنا لو كان ميكائيل الذي يأتيه أسلمنا.
قال: فإني أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما منزلتهما عند الله تعالى؟ قالوا: جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، قال عمر: وإني أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله، وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبرائيل وما كان جبرائيل ليسالم عدو ميكائيل، فبينما هو عندهم إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا صاحبك يا ابن الخطاب! فقام إليه عمر فأتاه، وقد أنزل الله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98].
وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر؛ فإنه لم يدرك زمانه.
والله أعلم].
نقول أيضاً: وفي السند الأخير مجالد، وهو ضعيف.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جبير: حدثنا بشير حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود فلما انصرف رحبوا به].
لعلها فلما أبصروه؛ لأن الترحيب يكون عند الدخول لا عند الانصراف، فلما أبصروه رحبوا به.
وقوله: قال ابن جبير، لعله ابن جرير، والحديث الأول يدل على أن جبريل هو ملك الوحي، أو هو الموكل بالوحي، وهذا هو الظاهر، وربما أتى غيره، لكن المعروف أن جبريل هو ملك الوحي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال لهم عمر: أما والله ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم، ولكن جئت لأسمع منكم، فسألهم وسألوه، فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم: جبرائيل، فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمداً على سرنا، وإذا جاء جاء بالحرب والسنة].
يعني: جاء بالجدب والقحط.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل، وكان إذا جاء جاء بالخصب والسلم، فقال لهم عمر: هل تعرفون جبرائيل وتنكرون محمداً صلى الله عليه وسلم؟].
والخصب يعني: المطر والخير، وهو ضد القحط والجدب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم، فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:97] الآيات] وما جاء في بعض النسخ قال ابن جرير: حدثنا بشر، ولكن عندنا بشير، ولكن إذا جاء في مشايخ ابن جرير هذا الاسم فهو بشر بن معاوية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: حدثنا المثنى حدثنا آدم حدثنا أبو جعفر حدثنا قتادة قال: بلغنا أن عمر أقبل إلى اليهود يوماً فذكر نحوه، وهذا في تفسير آدم، وهو أيضاً منقطع].
وانقطاعه هنا؛ لأن قتادة رواه بلاغاً، فيكون منقطعاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك رواه أسباط عن السدي عن عمر مثل هذا أو نحوه، وهو منقطع أيضاً].
ومكان الانقطاع هو: عن السدي عن عمر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبن حاتم: حدثنا محمد بن عمار حدثنا عبد الرحمن يعني الدستلي].
لعله الدشتكي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو جعفر عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن يهودياً لقي عمر بن الخطاب فقال: إن جبرائيل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا، فقال عمر: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]، قال: فنزلت على لسان عمر رضي الله عنه.
ورواه عبد بن حميد عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن أبي جعفر هو الرازي].
وأبو جعفر الرازي كذلك فيه ضعف، وعبد الرحمن بن أبي ليلى في سماعه من عمر نظر، لكن مجموع هذه الآثار يشد بعضها بعضاً، فهي مع الآثار التي ذكرها المؤلف تدل على أن لهذا أصلاً، وأن سبب نزول هذه الآية هو قول اليهود قبحهم الله: إن جبريل عدو لنا، فأنزل الله هذه الآية: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97 - 98].
وميكال يقال له: ميكال وميكائيل، وكله سواء، واليهود قبحهم الله قوم بهت وخبث، وهذا من خبثهم وضلالهم، واستكبارهم عن عبادة الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو وفقوا للخير لآمنوا واتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وسلموا لله ولرسول صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثني هشيم أخبرنا حصين بن عبد الرحمن عن ابن أبي ليلى في قوله تعالى: ((مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ)) قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل ك(44/7)
الإيمان برسولٍ يستلزم الإيمان بالرسل كلهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما تفسير الآية: فقوله تعالى: ((قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ)) فإنه نزل على قلبك بإذن الله، أي: من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين، الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل الله ملكي، ومن عادى رسولاً فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء:150] الآيتين، فحكم عليهم بالكفر المحقق، إذا آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم.
وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدو لله؛ لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه، وإنما ينزل بأمر ربه، كما قال: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64] الآية، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:192 - 194]].
فظهر من ذلك أن الرسل يؤمن بعضهم ببعض عليهم الصلاة والسلام، فالمتقدم يبشر بالمتأخر، والمتأخر يصدق بالمتقدم، كما قال الله تعالى عن عيسى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، فمن كفر برسول فقد كفر بجميع الرسل، ولهذا قال سبحانه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، وهو أول رسول بعثه الله إلى الأرض، فجعلهم مكذبين للرسل وقال سبحانه: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] وقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141] وقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:160] وقال أيضاً: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176]، وكذلك الرسل من الملائكة عليهم الصلاة والسلام، من كذب برسول منهم فقد كذب بالجميع، وجبريل وميكائيل وإسرافيل هم أفضل الملائكة، وهم الموكلون بما فيه الحياة، فجبريل موكل بالوحي، والوحي فيه حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر، والقطر فيه حياة أبدان الآدميين والحيوانات، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور، وفيه إعادة الأرواح إلى أبدانها.
وأفضلهم جبريل عليه الصلاة والسلام، وهو ملك الوحي، ولما كان هؤلاء الملائكة الثلاثة موكلين بما فيه الحياة، توسل النبي صلى الله عليه وسلم بربوبية الله لهؤلاء الملائكة الثلاثة في حديث الاستفتاح في صلاة الليل، فقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل استفتح بهذا الاستفتاح: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
فمن كذب برسول ملكي أو رسول بشري فهو كافر بالجميع، نسأل الله السلامة والعافية.(44/8)
انتصار الله لأوليائه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب).
ولهذا غضب الله لجبرائيل على من عاداه، فقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة:97]، أي: من الكتب المتقدمة، {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:97] أي: هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة، وليس ذلك إلا للمؤمنين كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] الآية، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] الآية].(44/9)
أعمال جبريل وميكائيل وإسرافيل
قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98].
قال المصنف رحمه الله: يقول تعالى: من عاداني وملائكتي ورسلي، ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، ((وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ))، وهذا من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل؛ ثم خصصا بالذكر، لأن السياق في الانتصار لجبرائيل، وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ؛ لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم، وميكائيل وليهم، فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحداً منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضاً؛ ولأنه أيضاً ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان].
يعني: ميكائيل، وهذا ما ذكره المؤلف، والمعروف أن جبرائيل هو السفير بين الله وبين أنبيائه ورسله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر].
والمعروف أن الذي قرن برسول الله ابتداءً هو جبريل، والمؤلف هنا كأنه يريد أن يقول: إن ميكائيل قرن برسول الله في أول الأمر، وهذا يحتاج إلى دليل؛ لأن المعلوم أن جبريل هو الذي نزل في أول البعثة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته، وميكائيل موكل بالنبات والقطر، هذاك بالهدى وهذا بالرزق، كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
وقد تقدم ما حكاه البخاري.
ورواه ابن جرير عن عكرمة وغيره أنه قال: جبر وميك وإسراف: عبيد وإيل: الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن إسماعيل بن أبي رجاء عن عمير مولى ابن عباس رضي الله عنهما عن ابن عباس قال: إنما كان قوله جبرائيل كقوله: عبد الله وعبد الرحمن، وقيل جبر: عبد، وإيل: الله.
وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن علي بن الحسين قال: أتدرون ما اسم جبرائيل من أسمائكم؟ قلنا: لا، قال: اسمه عبد الله، وكل اسم مرجعه إلى إيل فهو إلى الله عز وجل.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد والضحاك ويحيى بن يعمر نحو ذلك، ثم قال: حدثني أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثني عبد العزيز بن عمير قال: اسم جبرائيل في الملائكة خادم الله.
قال فحدثت به أبا سليمان الداراني فانتفض، وقال: لِهذا الحديث أحب إلى من كل شيء في دفتر كان بين يديه، وفي جبرائيل وميكال لغات وقراءات تذكر في كتب اللغة والقراءات].
والدفتر الذي بين يديه فيه كتب الحديث، وقال هذا عن هذا القول؛ والسياق يقتضي أن تكون الجملة: (وكتبه في دفتر بين يديه).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولم نطول كتابنا هذا بسرد ذلك، إلا أن يدور فهم المعنى عليه، أو يرجع الحكم في ذلك إليه، وبالله الثقة وهو المستعان].(44/10)
من لطائف إقامة الظاهر مقام المضمر
قال المصنف رحمه الله: وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]، فيه إيقاع المظهر مكان المضمر، حيث لم يقل: فإنه عدو، بل قال: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98].
وكان الأصل أن يقول: فإنه عدو لهم بعد قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]، ولكنه قال: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]؛ لبيان هذا الحكم وإيضاحه ولأهميته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شيء سَبَق الموت ذا الغنى والفقيرا].
فهنا كرر كلمة الموت، وكان الأصل أن يقول: لا أرى الموت يسبقه شيء.
وقوله: (سبق الموت) جاء في نسخة أخرى: نغص الموت ذا الغني والفقير؛ لأن كلمة السبق لا مناسبة للترهيب فيها، فإنا نقول: نغص أحسن، والشاهد هنا أنه كرر كلمة الموت، وكان الأصل أن يقول: لا أرى الموت يسبقه شيء، فجعل هنا الظاهر مكان المضمر، مثل قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] وكان الأصل فإنه عدو لهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الآخر: ليت الغراب غداة ينعب دائباً كان الغراب مقطع الأوداج].
كرر كلمة: (الغراب) هنا، وكان الأصل أن نقول: كان هو الأصل مقطع الأوداج.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما أظهر الله هذا الاسم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى ولياً لله فقد عادى الله، ومن عادى الله فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة، كما تقدم الحديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة)].
وقوله: ((فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ)) ولم يقل: فإن الله عدو لهم؛ لتقرير هذا الحكم وبيانه وإيضاحه، أظهر الله الاسم الشريف هنا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث الآخر: (إني لأثأر لأوليائي كمن يثأر الليث الحَرِبُ)].
والحرِبْ، على وزن لَعِب، والليث: هو الأسد، والحرب يعني: الغضبان، فمعناه: إني لأنتصر لأوليائي كما ينتصر الأسد الغضبان.
وقال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث الصحيح: (من كنت خصمه خصمته)].
ذكر هذا الحديث وقال: إنه صحيح، وهذا له أصل، فقد رواه ابن ماجة.(44/11)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات كأنهم لا يعلمون)(44/12)
إقامة الله الحجة على أهل الكتاب
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:99 - 101].
قال المصنف رحمه الله: [قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: ((وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)) الآية، أي: أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود، ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم، وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة، فأطلع الله في كتابه الذي أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يدعها إلى هلاكه الحسد والبغي].
قوله: (ولم يدعها إلى هلاكه) الصواب: ولم يدعه، فالضمير يعود إلى الهلاك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصف من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيئاً منه عن آدمي، كما قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما، ((وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ))، يقول: فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية، وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتاباً، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه، يقول الله تعالى لهم في ذلك عبرة وبيان عليهم حجة لو كانوا يعلمون].
ولا شك أن هذا الأمر واضح، وذلك أنه جاءهم نبي كريم لا يعرف القراءة ولا الكتابة، فيأتيهم بأخبارهم وما يسرونه بينهم، وما يوافق ما في التوراة عندهم، وهم يعلمون، يرونه ويعرفونه عليه الصلاة والسلام، أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك يأتيهم بهذا القرآن العظيم البليغ الصحيح الذي بهر عقولهم، وأتاهم بالأخبار الماضية والمستقبلة، وبما يوافق ما في كتبهم، ومع ذلك حملهم الحسد والكبر والبغي على الكفر نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال ابن صوريا القطويني لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك، فأنزل الله في ذلك من قوله: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة:99]).
وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم: والله ما عهد إلينا في محمد وما أخذ علينا ميثاقاً، فأنزل الله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100]].(44/13)
نقض اليهود للعهود
إن اليهود قوم بهت والعياذ بالله، يكتمون الحق وهم يعلمون، وهذا فيه تحذير لهذه الأمة ولعلمائها على وجه الخصوص أن يكتموا الحق، فيصيبهم ما أصاب أولئك، فقص الله نبأهم، وما حصل منهم من الاستكبار والاستنكاف عن قبول الحق والبغي والحسد؛ تحذيراً لهذه الأمة من هذه الأوصاف الخبيثة الذميمة، حتى لا يصيبهم ما أصابهم.
فالواجب على كل مسلم أن يبين الحق ويظهره، ولاسيما العلماء، فيجب عليهم أن يظهروا الحق ويبينوه للناس، ولا يكتمونه، كذلك فالواجب على كل إنسان أن يقبل الحق ممن جاء به أياً كان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الحسن البصري في قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100] قال: نعم، ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم وينقضون غداً.
وقال السدي: لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة: نبذه فريق منهم، أي: نقضه فريق منهم.
وقال ابن جرير: أصل النبذ الطرح والإلقاء، ومنه سمي اللقيط منبوذاً، ومنه سمي النبيذ، وهو: التمر والزبيب إذا طرحا في الماء قال أبو الأسود الدؤلي: نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلاً أخلقت من نعالكما قلت: فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها، ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157] الآية، وقال هاهنا: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:101] الآية، أي: طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم -مما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم- وراء ظهورهم، أي: تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها، وأقبلوا على تعلم السحر وأتباعه].
قوله: (وأقبلوا على تعلم السحر وأتباعه).
لعل الصواب واتباعه، كما قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} [البقرة:102].(44/14)
إيذاء اليهود لرسول الله بالسحر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا أرادوا كيداً برسول الله صلى الله عليه وسلم وسحروه في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر أروان].
البئر هو بئر ذي أروان، وهذا الساحر الذي سحره هو لبيد بن الأعصم اليهودي قبحه الله، فقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة، والمشط: هو البقية من الشيء الذي يمشط به الشعر.
وقوله: في جف طلعة ذكر، يعني: في وسط غلاف وعاء النخل الذي يكون فيه اللقاح، والذكر يعني: الفحال، وقد أخذ الغلاف الذي يأكل فيه، وجعل فيه مشطاً ومشاطة، وجعلها تحت راعوفة، أي: تحت صخرة في بئر ذي أروان؛ لئلا يستطيع أحد إخراجه، وهذا من خبثه، وبئر ذي أروان بئر معروف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم باستخرج السحر من هذا البئر.
ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها لرسول الله: (لماذا لم تدفن البئر؟ قال: أما أنا فقد عفاني الله وخشيت أن أثير على المسلمين شراً)، وهذا ثبت في الحديث الصحيح.
وقوله: (مشاقة) بالقاف، يعني: البقية، وقد جاء أنه في مشط ومشاطة -بالطاء- والمعنى واحد، يعني: بقية الشعر الذي يبقى على المشط، أو المشاطة، والمشط نفسه هو المشاطة والبقية.
وسيذكر المؤلف رحمه الله أنواعاً من الطرق، يأتي بها المؤلف ويطول فيها في مبحث يتكلم فيه على آية السحر، وذكر في هذا المبحث جميع ما يتعلق بالسحر.(44/15)
توبة الساحر
فإن قيل: هل تقبل توبة الساحر؟
الجواب
نعم، إن للساحر توبة، وكل أحد تقبل منه التوبة، فمن جاء بالتوبة بشروطها قبل الموت تاب الله عليه، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية نزلت في التائبين، ومحل قبولها إذا كانت فيما بينه وبين الله، أما إن كان الأمر يتعلق بالمخلوقين فلا، واختلف أهل العلم: هل يستتاب الساحر أو لا يستتاب؟ وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان الذي تولى ذلك منهم رجل يقال له: لبيد بن الأعصم لعنه الله وقبحه، فأطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وشفاه منه وأنقذه، كما ثبت ذلك مبسوطاً في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما سيأتي بيانه.
قال السدي: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:101]، قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة، فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن، فذلك قوله {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:101].
وقال قتادة في قوله: ((كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ)) قال: إن القوم كانوا يعلمون، لكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به.(44/16)
تفسير سورة البقرة [102 - 103]
حفلت سورة البقرة بأخبار عن الأولين كثيرة فيها العظة والعبرة، ومن جملة تلك الأخبار ما تلته الشياطين على ملك سليمان عليه السلام؛ إذ رمته بالسحر، وتلقف ذلك منهم اليهود فأكفروا نبي الله عليه السلام، حتى برأه الله تعالى فيما أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الأخبار نبأ هاروت وماروت، وقد أجمله القرآن الكريم، ولا يسعنا تجاه هذا النبأ إلا الإيمان به على مراد الله تعالى.(45/1)
تفسير قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)
قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102 - 103].
قال المصنف رحمه الله: [وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} [البقرة:102] الآية: وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئات من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما أرجع الله إلى سليمان ملكه، وقام الناس على الدين كما كان، وإن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان عليه الصلاة والسلام حدثان ذلك فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان].
قوله: [حِدثان ذلك]: بكسر الحاء يعني: إثر ذلك، وعقب ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخفاه عنا، فأخذوا به فجعلوه ديناً، فأنزل الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:101] الآية، واتبعوا الشهوات التي كانت تتلوا الشياطين، وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان، أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها قال: فأكفره جهال الناس وسبوه، ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:102].
وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلمة بن جنادة السوائي حدثنا أبو معاوية].
قوله: [سلمة بن جنادة] لعله سلم، بدون هاء، وهو ثقة وربما خالف.
قال: [حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئاً من نسائه أعطى الجرادة -وهي امرأة- خاتمه، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان عليه السلام بالذي ابتلاه به؛ أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال: هاتي خاتمي، فأخذه ولبسه، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس.
قال: فجاءها سليمان فقال لها: هاتي خاتمي، فقالت: كذبت؛ لست سليمان.
قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به، قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتباً فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها وقرءوها على الناس، وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، قال: فبرئ الناس من سليمان وكفروه حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:102].
ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن حصين بن عبد الرحمن عن عمران -وهو ابن الحارث - قال: بينما نحن عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ جاء رجل فقال له: من أين جئت؟ قال: من العراق.
قال ومن أيِّه؟ قال: من الكوفة.
قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن علياً خارج إليهم، ففزع ثم قال: ما تقول لا أبا لك؟ لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، أما إني سأحدثكم عن ذلك: إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها، فإذا جرب منه صدق كذب معها سبعين كذبة، قال: فتشربها قلوب الناس، قال: فأطلع الله عليها سليمان عليه السلام فدفنها تحت كرسيه، فلما توفي سليمان عليه السلام قام شيطان الطريق فقال: هل أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز له مثله؟ تحت الكرسي.
فأخرجوه، فقال: هذا سحر، فتناسخها الأمم حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق، فأنزل الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:102]، الآية).
] هذا السند ضعيف؛ لأن فيه ابن حميد، ولا يعول عليه.
وهذه الآثار كلها ضعيفة؛ لأنها من رواية العوفي عن ابن عباس وهي منقطعة، وابن حميد هذا ضعيف، قال البخاري: (فيه نظر)، والبخاري إذا قال في رجل: فيه نظر فهو ضعيف.
والأسانيد الأخرى فيها عنعنة الأعمش، وابن عباس رضي الله عنه ممن يروي عن بني إسرائيل، فهذه الآثار كلها ضعيفة، لكن مجموعها يدل على أن لهذه الأخبار أصلاً، ومعنى الآية واضح، وهو أن الشياطين كذبوا وافتروا على سليمان عليه الصلاة والسلام وادعوا أنه ساحر، فأبطل الله ذلك وبرأ نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام من ذلك، وهذا واضح من الآية، أما هذه الآثار فهي ضعيفة، فلا يعول عليها.
وقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا}، أي: الناس {مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]، فالشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر، وقد افتروا على سليمان وكذبوا عليه بعد وفاته، وقالوا: إنه يعلم الناس السحر، وانطلى هذا على كثير من الناس، فبرأ الله تعالى نبيه سليمان مما ألصقت به الشياطين وافترته وكذبته عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الحاكم في مستدركه عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبد السلام عن إسحق بن إبراهيم عن جرير به.
وقال السدي في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:102]، أي: على عهد سليمان، قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا، فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشى ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه.
فلما مات سليمان، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد ذلك خلف؛ تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفراً من بني إسرائيل فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً؟] يعني: لا ينفد [قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته، فقالوا له: فادن، فقال: لا ولكنني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر، ثم طار وذهب، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها، فذلك حين يقول الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:102].
وقال الربيع بن أنس: إن اليهود سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم زماناً عن أمور من التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه فيخصمهم، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا، وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به فأنزل الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]، وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت كرسي مجلس سليمان، وكان عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وقد أدحض الله حجتهم.
وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَات(45/2)
تفسير قوله تعالى: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، اختلف الناس في هذا المقام: فذهب بعضهم إلى أن (ما) نافية، أعني التي في قوله: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102] قال القرطبي: ما نافية ومعطوف على قوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:102]].
يعني أن فيها أقوالاً: القول الأول: أن (ما) نافية، فقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102] يعني: وما أنزل الله على الملكين شيئاً، ولم ينزل الله على الملكين السحر.
والقول الثاني -كما سيأتي- أن (ما) موصولة بمعنى الذي، والتقدير: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان والذي أنزل على الملكين.
فعلى القول الأول يكون المعنى: أن الله نفى أنه أنزل على الملكين السحر، وأما على القول الثاني فتكون (ما) موصولة، وتكون تابعة، فيكون المعنى: اتبع الناس ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان واتبعوا ما أنزل على الملكين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102]، وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل، فأكذبهم الله وجعل قوله: {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:102] بدلاً من الشياطين.
قال: وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء:11]، أو لكونهما لهما أتباع، أو ذكرا من بينهم لتمردهما، فتقدير الكلام عنده: يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، ثم قال: وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح، ولا يلتفت إلى ما سواه].
هذا قول القرطبي، وهذا قول ضعيف، والصواب هو القول الثاني، وهو أن (ما) موصولة، وهو قول أكثر المفسرين، فالآية فيها قولان مشهوران: أحدهما: أن (ما) نافية، والثاني: أن (ما) موصولة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} الآية، يقول: لم ينزل الله السحر.
وبإسناده عن الربيع بن أنس في قوله: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} قال: ما أنزل الله عليهما السحر.
قال ابن جرير: فتأويل الآية على هذا: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} من السحر، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا؛ يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت].
يعني أن الله نفى أنه أنزل على الملكين السحر على هذا القول، فقوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102] أي: وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين السحر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيكون قوله: (ببابل هاروت وماروت) من المؤخر الذي معناه المقدم.
قال: فإن قال لنا قائل: كيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:102] من السحر، وما كفر سليمان، وما أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فيكون معنياً بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام؛ لأن سحرة اليهود -فيما ذكر- كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك، وأخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما: هاروت، واسم الآخر: ماروت، فيكون (هاروت وماروت) على هذا التأويل ترجمة عن الناس ورداً عليهم.
هذا لفظة بحروفه].
يعني أن المراد بالناس هاروت وماروت، والمراد بالملكين جبريل وميكائيل، وتكون الآية نافية، والمعنى: وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين -يعني: جبريل وميكائيل- السحر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال ابن أبي حاتم: حدثت عن عبيد الله بن موسى أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عطية: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102] قال: ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر].
وهذا ضعيف منقطع؛ لأن ابن أبي حاتم قال: (حدثت)، وفضيل بن مرزوق ضعيف، وعطية العوفي أيضاً شيعي مدلس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي حاتم: وأخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا يعلى -يعني ابن أسد - أخبرنا بكر -يعني: ابن مصعب - أخبرنا الحسن بن أبي جعفر أن عبد الرحمن بن أبزي كان يقرؤها: (وما أنزل على المَلِكَين داود وسليمان)، وقال أبو العالية: لم ينزل عليهما السحر، يقول: علما بالإيمان والكفر، فالسحر من الكفر، فهما ينهيان عنه أشد النهي.
رواه ابن أبي حاتم.
ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول، وأن (ما) بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك، وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختباراً لعباده وامتحاناً بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك؛ لأنهما امتثلا ما أمرا به، وهذا الذي سلكه غريب جداً].
ولا شك في أن هذا غريب جداً؛ لأن فيه أن الله أذن لهما أن يعلما الناس السحر، وهذا لا يليق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن، كما زعمه ابن حزم.
وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقرؤها: (وما أنزل على الملكين) ويقول: هما علجان من أهل بابل.
ووجّه أصحاب هذا القول الإنزال بمعنى الخلق لا بمعنى الإيحاء في قوله تعالى {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102]، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6]، {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر:13]، وفي الحديث: (ما أنزل الله داءً إلا أنزل له دواءً) وكما يقال: أنزل الله الخير والشر.
وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والحسن البصري أنهم قرءوا: (وما أنزل على الملِكين) بكسر اللام، قال ابن أبزى: وهما: داود وسليمان.
قال القرطبي: فعلى هذا تكون (ما) نافية أيضاً، وذهب آخرون إلى الوقف على قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]، و (ما) نافية.
قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وسأله رجل عن قول الله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:102]، فقال: الرجلان يعلمان الناس ما أنزل عليهما؟ ويعلمان الناس ما لم ينزل عليهما.
فقال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت.
ثم روى عن يونس عن أنس بن عياض عن بعض أصحابه أن القاسم قال في هذه القصة: لا أبالي أي ذلك كان؛ إني آمنت به.
وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أُنزلا إلى الأرض فكان من أمرهما ما كان.
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده رحمه الله كما سنورده إن شاء الله، وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا، فيكون تخصيصاً لهما، فلا تعارض حينئذٍ كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق.
وفي قول: إنه كان من الملائكة، لقوله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [البقرة:34]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، مع أن شأن هاروت وماروت على ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله تعالى، وقد حكاه القرطبي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي].(45/3)
ذكر الأحاديث الواردة في شأن هاروت وماروت
ذكر الحديث الوارد في ذلك -إن صح سنده ورفعه-وبيان الكلام عليه: قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده: أخبرنا يحيى بن بكير حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم! قال الله تعالى للملائكة: هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان.
قالوا: ربنا! هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر، فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت: لا -والله- حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك، فقالا: والله لا نشرك بالله شيئاً أبداً.
فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت: لا -والله- حتى تقتلا هذا الصبي.
فقالا: لا -والله- لا نقتله أبداً، فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله، فسألاها نفسها فقالت: لا -والله- حتى تشربا هذا الخمر، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي، فلما أفاقا قالت المرأة: والله ما تركتما شيئاً أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا).
هذا الحديث فيه موسى بن جبير مجهول الحال، فلا يصح، لكن لو صح فإنه يدل على خبث الخمر، والعياذ بالله، فهي أم الخبائث؛ لأنها إذا شربها الإنسان غاب عقله، فيقع في الزنا ويقع في القتل ويقع في الشرك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن الحسن بن سفيان عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن بكير به، وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين، إلا موسى بن جبير هذا، وهو الأنصاري السلمي مولاهم].
قوله: [السلمي] نسبة إلى بني سلمة، [مولاهم] يعني أنه نسب إلى بني سلمة بالولاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلا موسى بن جبير هذا، وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء، روى عن ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ونافع وعبد الله بن كعب بن مالك، وروى عنه ابنه عبد السلام وبكر بن مضر وزهير بن محمد وسعيد بن سلمة وعبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث ويحيى بن أيوب، وروى له أبو داود وابن ماجة، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ولم يحك فيه شيئاً من هذا، فهو مستور الحال، وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي له متابع من وجه آخر عن نافع، كما قال ابن مردويه: حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا هشام بن علي بن هشام حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة حدثنا موسى بن سرجس عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره بطوله.
وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: حدثنا القاسم أخبرنا الحسين -وهو سنيد بن داود صاحب التفسير- أخبرنا الفرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع! انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا مرتين أو ثلاثاً، ثم قلت: قد طلعت، قال: لا مرحباً بها ولا أهلاً، قلت: سبحان الله! نجم مسخر سامع مطيع؟! قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الملائكة قالت: يا رب! كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم.
قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك.
قال: فاختاروا ملكين منكم، قال: فلم يألوا جهداً أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت) وهذان -أيضاً- غريبان جداً].
وهذا فيه الفرج بن فضالة، وهو ضعيف، وهذه الأخبار كلها ضعيفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار لا عن النبي صلى الله عليه وسلم].
يعني أن الأقرب أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكعب الأحبار هو من بني إسرائيل، أسلم في زمن عمر رضي الله عنه، وكان ينقل عن بني إسرائيل الغث والسمين، والصحيح والباطل، فالأقرب أن هذا الخبر من رواية كعب الأحبار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلاً وليس بيني وبينكم رسول، إنزلا لا تشركا بي شيئاً ولا تزنيا ولا تشربا الخمر، قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه.
رواه ابن جرير من طريقين عن عبد الرزاق به.
ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عصام عن مؤمل عن سفيان الثوري به.
ورواه ابن جرير أيضاً: حدثني المثنى أخبرنا المعلى -وهو ابن أسد - أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار فذكره.
فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين، وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع.
فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل.
والله أعلم].
المؤلف رجح أن الحديث إنما هو عن ابن عمر عن كعب الأحبار، وهو من رواية سالم عن أبيه، وهي أصح من رواية نافع عن ابن عمر المرفوعة، فالرواية الأولى عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، والرواية الثانية عن سالماً عن ابن عمر عن كعب الأحبار، وهذا أثبت؛ لأن سالم أثبت في أبيه من مولاه نافع، فرجح الحافظ رحمه الله أنها من أخبار بني إسرائيل، وهذا هو الأقرب، وعلى هذا فلا تثبت قصة في إنزال الملكين وقصة الزهرة.(45/4)
ذكر الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين في شأن هاروت وماروت
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
قال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا الحجاج أخبرنا حماد عن خالد الحذاء عن عمير بن سعيد قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: كانت الزهرة امرأة جملية من أهل فارس، وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به أحد يعرج به إلى السماء، فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء، فمسخت كوكباً.
وهذا الإسناد رجاله ثقات، وهو غريب جداً].
وهذا الحديث أو الأثر الموقوف على علي رضي الله عنه -وإن كان رجال إسناده ثقات- مأخوذ عن بني إسرائيل، فهو مما أخذ من بني إسرائيل، فلا يعتمد عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا معاوية عن أبي خالد عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال: هما ملكان من ملائكة السماء، يعني: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102].
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بسنده عن مغيث عن مولاه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي مرفوعاً، وهذا لا يثبت من هذا الوجه].
يعني أنه إما موقوف، وإما أنه أخذه عن بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه من طريقين آخرين عن جابر عن أبي الطفيل عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الزهرة، فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت)، وهذا أيضاً لا يصح، وهو منكر جداً، والله أعلم].
والأمر كما قال الحافظ، فهذا لا يصح، بل هو منكر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثني المثنى بن إبراهيم أخبرنا الحجاج بن منهال حدثنا حماد عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا جميعاً: لما كثر بنو آدم وعصوا دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال: ربنا لا تمهلهم.
فأوحى الله إلى الملائكة: إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، وأنزلت الشهوة والشيطان في قلوبهم، ولو نزلتم لفعلتم أيضاً، قال: فحدثوا أنفسهم أن: لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم.
فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت، قال: فوقعا بالخطيئة، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]، فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي أخبرنا عبيد الله -يعني ابن عمرو - عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو ويونس بن خباب عن مجاهد قال: كنت نازلاً على عبد الله بن عمر في سفر، فلما كان ذات ليلة قال لغلامه: انظر هل طلعت الحمراء؟ لا مرحباً بها ولا أهلاً ولا حياها الله؛ هي صاحبة الملكين، قالت الملائكة: يا رب! كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض؟! قال: إني ابتليتهم، فلعل إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون، قالوا: لا، قال: فاختاروا من خياركم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما: إني مهبطكما إلى الأرض وعاهد إليكما ألا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا، فأهبطا إلى الأرض وألقي عليهما الشهوة، وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة فتعرضت لهما فراوداها عن نفسها فقالت: إني على دين لا يصح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله، قالا: وما دينك؟ قالت: المجوسية، قالا: الشرك هذا شيء لا نقر به.
فمكثت عنهما ما شاء الله تعالى، ثم تعرضت لهما فراوداها عن نفسها، فقالت: ما شئتما، غير أن لي زوجاً وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح، فإن أقررتما لي بديني وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت، فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان، ثم صعدا بها إلى السماء، فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين، فإذا كان يوم الجمعة أجيب، فقالا: لو أتينا فلاناً فسألناه فطلب لنا التوبة، فأتياه فقال: رحمكما الله! كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء؟! قالا: إنا قد ابتلينا، قال: ائتياني يوم الجمعة.
فأتياه فقال: ما أجبت فيكما بشيء، ائتياني في الجمعة الثانية، فأتياه فقال: اختارا فقد خيرتماك إن اخترتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله، فقال أحدهما: إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل، وقال الآخر: ويحك إني قد اطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن؛ إن عذاباً يفنى ليس كعذاب يبقى.
فقال: إننا يوم القيامة على حكم الله، فأخاف أن يعذبنا، قال: لا، إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة ألا يجمعهما علينا، قال: فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار عاليهما سافلهما.
وهذ إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر، وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن صالح عن نافع عنه رفعه.
وهذا أثبت وأصح إسناداً، ثم هو -والله أعلم- من رواية ابن عمر عن كعب كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه].
الإسناد صحيح إلى ابن عمر، لكن ابن عمر أخذ عن كعب الأحبار، وكعب يروي عن بني إسرائيل الغث والسمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (إن الزهرة نزلت في صورة امرأة، حسناء) وكذا في المروي عن علي فيه غرابة جداً].
لا شك في أنه غريب جداً، ولا يستحيل أن تنزل في صورة امرأة؛ فإن الله على كل شيء قدير، لكن هذا فيه نظر؛ لأن إثباته يحتاج إلى دليل صحيح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا عصام بن رواد أخبرنا آدم أخبرنا أبو جعفر حدثنا الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما وقع الناس من بعد آدم عليه السلام فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله قالت الملائكة في السماء: يا رب! هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك قد وقعوا فميا وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل المال الحرام والزنا والسرقة وشرب الخمر، فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل: إنهم في غيب، فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا من أفضلكم ملكين آمرهما وأنهاهما، فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئاً، ونهيا عن قتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر، فلبثا في الأرض زماناً يحكمان بين الناس بالحق، وذلك في زمن إدريس عليه السلام، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب، وإنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها، فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها، فسألاها عن دينها فأخرجت لهما صنماً فقالت: هذا أعبده.
فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا، فذهبا فعبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ففعلت مثل ذلك، فذهبا ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم قالت لهما: اختارا أحد الخلال الثلاث: إما ان تعبدا هذا الصنم، وإما أن تقتلا هذه النفس، وإما أن تشربا هذه الخمر، فقالا: كل هذا لا ينبغي، وأهون هذا شرب الخمر، فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا المرأة، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه، فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا، وحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه فعجبوا كل العجب، وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فنزل في ذلك: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5]، فقيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فقالا: أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل فهما يعذبان.
وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولاً عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبد السلام عن إسحاق بن راهويه عن حكام بن سلم الرازي -وكان ثقة- عن أبي جعفر الرازي به.
ثم قال: صحيح الإسناد لم يخرجاه، فهذا أقرب ما روي في شأن الزهرة، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا مسلم أخبرنا القاسم بن الفضل الحدائي(45/5)
ذكر خبر صاحبة دومة الجندل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه، قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى: أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابن أبي الزناد حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك] أي: بعد وفاته بقليل [تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به.
قالت عائشة رضي الله عنها لـ عروة: يا ابن أختي! فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها، فكانت تبكي حتى إني لأرحمها، وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت، كان لي زوج فغاب عني، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن شي حتى وقفنا ببابل وإذا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ قلت: نتعلم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري فارجعي، فأبيت وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما فقالا: أفعلت؟ فقلت: نعم، فقالا: هل رأيت شيئاً؟ فقلت: لم أر شيئاً، فقالا: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأرببت وأبيت].
أي: بقيت في المكان وأبيت الرجوع.
قالت: [فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت فاقشعررت وخفت، ثم رجعت إليهما وقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: لم أر شيئاً، فقالا: كذبت، لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك، فأرببت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى التنور فبولي فيه، فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارساً مقنعاً بحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: رأيت فارساً مقنعاً خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه، فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي، فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئاً وما قالا لي شيئاً، فقالت: بلى، لم تريدي شيئاً إلا كان، خذي هذا القمح فابذري، فبذرت وقلت: اطلعي، فأطلعت، وقلت: احقلي فأحقلت].
أي: أنها بذرت فطلع النبات ثم صار سنبلاً في الحال.
قالت: [ثم قلت: افركي فأفركت].
أي: أن الحب خرج من السنبل.
قالت: [ثم قلت: أيبسي فأيبست].
أي أن الحب يبس في الحال بعد أن كان السنبل حباً رطباً.
قالت: [ثم قلت: اطحني فأطحنت].
أي أن الحب طحن في الحال.
قالت: [ثم قلت: اخبزي فأخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئاً إلا كان سُقِط في يدي وندمت -والله! يا أم المؤمنين- ما فعلت شيئاً ولا أفعله أبداً.
ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان به مطولاً كما تقدم، وزاد بعد قولها: (ولا أفعله أبداً) فسألت أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهم يومئذ متوافرون- فما دروا ما يقولون لها، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه، إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده: لو كان أبواك حيين أو أحدهما -قال هشام:- فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان.
قال ابن أبي الزناد: وكان هشام يقول: إنهم كانوا من أهل الورع والخشية من الله، ثم يقول هشام: لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم، فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها].
النوكى: الحمقى، جمع أحمق، والحديث ليس فيه أنها فعلت السحر، إنما فيه أنها بذرت وحقلت وطحنت وخبزت في الحال، فيحتمل أن هذا من كذب المرأة أو من كذب العجوز، وليس فيه أنها تقربت للشيطان، إنما فيه أنها بالت على التنور فقط.
وقوله: [فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان]، لا أدري ما المقصود به؛ فليس فيه أنها أخذت شيئاً فتضمنه.
وقولها: [فأرببت] أي: دنوت منه، وأربت: أقمت في المكان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد استدل بهذا الأمر من ذهب إلى أن الساحر له تمكن في قلب الأعيان؛ لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال، وقال آخرون: بل ليس له قدرة إلا على التخييل، كما قال تعالى {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]].
الصواب أن السحر منه ما هو حقيقة ومنه ما هو خيال، فهو يقتل ويمرض ويفرق بين المرء وزوجه، ولا يقلب الأعيان، وسيأتي أن بعض أهل البدع يقول: إن الساحر يقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً، والحجر ذهباً والذهب حجراً، وهذا ليس بصحيح، ويقولون: إنه إذا تكلم بالكلمة السحرية قلب الله له الشيء إلى ما يريد.
فالصواب أن له حقيقة، فهو يمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه، أما مسألة قلب الأعيان فهي مسألة أخرى، فإنه لا يقدر على قلب الأعيان أحد، وإنما يقدر الساحر على التخييل، كأن يكرِّه الزوج إلى امرأته فتراه بصورة قبيحة حتى تفارقه، والعكس، فيجمع ويفرق، ويسمى هذا العطف والصرف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق لا بابل ديناوند كما قاله السدي وغيره.
] جاء في معجم البلدان: قيل بابل العراق، وقيل: بابل دنباوند.
وقال أيضاً في دنباوند: جبل من نواحي الري.
وبلاد الري هي في جهة إيران وأفغانستان اليوم.(45/6)
حكم الصلاة في أرض العذاب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا أحمد بن صالح حدثني ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير، فجاء المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: (إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي بأرض المقبرة، ونهاني أن أصلي ببابل؛ فإنها ملعونة)].
هذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه ابن لهيعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو داود: أخبرنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن علياً مر ببابل؛ وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: (إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة)، حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعنى حديث سليمان بن داود قال: فلما (خرج) مكان (برز)، وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود؛ لأنه رواه وسكت عليه، ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى منازلهم إلا أن يكونوا باكين].
المراد بالصلاة الصلاة المعروفة، فلا يصلى فيها؛ لأنه يحرم الصلاة في أرض العذاب مثل الصلاة في الأرض المغصوبة، وهل تصح الصلاة لو صلى مع الإثم أو لا تصح؟ فيه خلاف بين أهل العلم، والصلاة في الأرض المغصوبة لا تجوز وحرام، ولكن اختلف العلماء في صحتها، فالحنابلة يرون أنها لا تصح، وغيرهم يرى أنها تصح مع الإثم، وهو الأقرب، ومثلها الصلاة في الثوب المغصوب أو الثوب الحرير.
فإن قيل: إنه منهي عنها لذات المكان، ولشيء يتعلق بالصلاة، فنقول: النهي ليس لشيء يتعلق بالصلاة، وإنما النهي يتعلق بالأرض ذاتها؛ لأنها أرض العذاب.
والحديث عند أبي داود حسن مع أنه فيه ابن لهيعة، لأن ابن وهب رواه عنه وعن آخر، وهو: يحيى بن أزهر، وأبو داود روى الحديث وفتش عنه، فهو حسن عنده.
قال الفقهاء: لا تجوز الصلاة في أرض بابل؛ لأنها مكان عذاب، ولكن هل يؤخذ من هذه الآثار أن بابل هي مكان عذاب للملكين؟ لم يثبت ذلك، لكن إذا ثبت الحديث فإنه يكفي، وإذا صح الحديث في أن بابل أرض عذاب، فهل هي أرض عذاب للملكين أو غيرهما؟ هذا يحتاج إلى تأمل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أصحاب الهيئة: وبعد ما بين بابل -وهي من إقليم العراق- عن البحر المحيط الغربي -ويقال له: أوقيانوس- سبعون درجة، ويسمون هذا طولاً، وأما عرضهما -وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب وهو المسامت لخط الاستواء- اثنان وثلاثون درجة، والله أعلم].(45/7)
تفسير سورة البقرة [102 - 103]-[1]
السحر يحوي شيئاً كثيراً من أعمال الكفر بالله تعالى والشرك به، كما أن فيه مضاراً بالخلق في أبدانهم وفي أموالهم، فمنه ما يقتل ويمرض ويفرق بين المرء وزوجه، ومنه ما يخيل به على الناس وتؤكل به أموالهم، والأول منه سبيله الصلة بالشياطين، ولا شك في كفر فاعله، وحكمه القتل كفراً لا حداً، وهو بذلك مرتكب لما يهلك به نفسه، ولا يضر به أحداً من الخلق إلا بمشيئة الله تعالى، وما له في الآخرة من خلاق.(46/1)
تفسير قوله تعالى: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي، وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر.
وذلك أنهما عَلِما الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر، قال: فإذا أبى عليهما أمراه يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه، فإذا علمه خرج منه النور فنظر إليه ساطعاً في السماء، فيقول: يا حسرتاه يا ويله ماذا صنع؟ وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر.
رواه ابن أبي حاتم.
وقال قتادة: كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة -أي: بلاء ابتلينا به- فلا تكفر.
وقال السدي: إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه، وقالا له: لا تكفر إنما نحن فتنة، فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه، فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء، وذلك الإيمان، وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء، وذلك غضب الله، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر، فذلك قول الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، الآية].
احتج جمهور العلماء على كفر الساحر بقوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، أي: فلا تكفر بتعلم السحر، ودلت الآية على أن تعلم السحر وتعليمه كفر، والمراد به السحر الذي يتصل صاحبه بالشياطين، فإنه لا بد فيه من أن يفعل الكفر؛ لأن هناك عقداً بين الشيطان والساحر، ومقتضى هذا العقد أن يكفر الساحر -والعياذ بالله- بأن يتقرب للشيطان بشيء من العبادة التي هي من خصائص الله، أو يطلب منه أن يمزق المصحف، أو يبول عليه، أو يلطخه بالنجاسة، أو يتكلم بكلمة الكفر، نسأل الله السلامة والعافية، فإذا كفر الساحر علمه الشيطان السحر، واستجاب لمطالبه، فيأتيه بالأخبار المغيبة عن البلد، وإذا أمره أن يلطم شخصاً لطمه، أو يقتله قتله، وما أشبه ذلك، وهذا من الابتلاء، والله تعالى أنزل الملكين وأمرهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فله الحكمة البالغة، فهو يبتلي المؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين، والأخيار بالأشرار والأشرار بالأخيار، فله الحكمة البالغة فيما أراده سبحانه وتعالى من الابتلاء والامتحان ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.
ومن الحكم ظهور قدرة الله سبحانه وتعالى على وقوع المتضادات، فالساحر الكافر يقابله المؤمن المطيع، والكافر يقابله المؤمن، والعاصي يقابله المطيع، والليل يقابله النهار، والحر يقابله البرد، والعدو يقابله الصديق، والحرارة تقابلها البرودة، والرطوبة تقابلها اليبوسة، والملاسة تقابلها الخشونة، وغير ذلك من المتقابلات، وذات إبليس التي هي مصدر كل شر وبلاء يقابلها ذوات الأنبياء والملائكة والصالحين، فله الحكمة البالغة سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6].
والله تعالى أعذر وأنذر، وبعث الرسل إلى الناس لتوحيد الله وليحذروهم أسباب سخط الله، ولرد فطرتهم إلى الحنيفية، ولكن الشياطين اجتالتهم وصرفتهم عن دينهم مع أن الله آتاهم الأسماع والأبصار والأفئدة.
وله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة في ابتلائه وامتحانه، وفي تقديره الإيمان والكفر والطاعة والمعصية والخير والشر، فهو سبحانه وتعالى -كما قال- {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، لكمال حكمته وعلمه وقدرته سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سعيد عن حجاج عن ابن جريج في هذه الآية: لا يجترىء على السحر إلا كافر].
هناك نوع آخر من السحر لا يتصل صاحبه بالشرك، وهو سحر الأدوية والتدخينات، وهذا لا يتصل صاحبه بالشياطين، لكنه يضر بالناس في أبدانهم وأموالهم، فيدعي المعرفة ويسلب أموال الناس بالباطل، كما يفعل بعض الناس ممن لا علم عنده، ولا يتصل بالشياطين، ولكنه يأكل أموال الناس بالباطل، فيفتح محلاً، ويقول: إنه يعالج الناس، وكل من أتاه يعطيه علاجاً، فيعطيه شيئاً يدهن به وآخر يشربه وآخر يستنشقه، وقد يضر بأجسام الناس، وهذا إذا استحل أكل أموال الناس بالباطل، واستحل إيذاءهم وضررهم كفر، وإن لم يستحله ففعله محرم وكبيرة، وإذا رفع إلى ولي الأمر فإنه يستتيبه، فإن تاب وإلا عزره بما يراه رادعاً، وقد يصل التعزير إلى القتل بحسب نظر الحاكم الشرعي، هذا إذا كان صاحبه لا يتصل بالشياطين، أما السحر الذي يتصل صاحبه بالشياطين فهذا حده القتل، وحد الساحر ضربه بالسيف.
قال بعض العلماء: إنه يقتل حداً، والصواب أنه يقتل كفراً، لهذه الآية: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، يعني: فلا تكفر بتعلم السحر، ويدل على ذلك غير هذه الآية كذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار، ومنه قول الشاعر وقد فتن الناس في دينهم وخلى ابن عفان شراً طويلاً].
أي: لما توفي أمير المؤمنين عثمان بن عفان حصل شر بموته وقتله رضي الله عنه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام حيث قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف:155]، أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانك {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:155]، وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر].
وهم الأئمة الثلاثة مالك وأبو حنيفة وأحمد، أما الشافعي -رحمه الله- فإنه فصّل وقال: إذا تعلم السحر قيل له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر كفر، وإن وصف ما لا يوجب الكفر فإن استحله كفر، وإن لم يستحله فقد ارتكب محرماً وكبيرة، وهذا التفصيل من الشافعي رحمه الله لأنه أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر، والجمهور لم يدخلوا السحر في المسمى اللغوي، فلا حاجة إلى التفصيل؛ لأن الجمهور يقولون: إن الساحر كافر مطلقاً، وأما سحر الأدوية والتدخينات فلا يسمى سحراً شرعاً، ولكنه سحر من جهة اللغة، مثل النميمة تسمى سحراً لغة، وكذا القول البليغ، ومنه سمي السحَر سحَراً؛ لأنه يقع في آخر الليل.
وأما الشافعي فإنه لما أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر احتاج إلى التفصيل.
والمقصود أن ما كان سحراً من جهة اللغة وليس فيه اتصال بالشياطين لا يكفر صاحبه إلا إذا استحله، أما إذا كان الساحر يتصل بالشياطين فإنه يكفر، وعلى هذا فليس هناك خلاف بين الجمهور وبين الشافعي رحمه الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر، واستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن عبد الله قال: (من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، وهذا إسناد صحيح، وله شواهد أخر].
قال الحافظ: هذا إسناد صحيح، وفيه عنعنة الأعمش، ولكن الأئمة لا يعتبرون تدليسه، ولأن مثل هذا لا يقال بالرأي، وله شواهد من الأحاديث المرفوعة، فله حكم الرفع، وتؤيده الأحاديث الصحيحة، ومنها حديث حفصة الذي رواه الإمام مسلم: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، وفي رواية عند الإمام أحمد: (فصدقه)، فلهذا قال الحافظ: هذا إسناد صحيح.(46/2)
تفسير قوله تعالى: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، أي: فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر وما يتصرفون به من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف، وهذا من صنيع الشياطين، كما رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن طلحة بن نافع].
أبو سفيان هو طلحة بن نافع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس)].
يضع الشيطان عرشه على الماء تشبهاً بالله؛ لأن الله تعالى عرشه على الماء، فالشيطان من خبثه يفعل ذلك ثم يبعث سراياه، فقبحه الله وأخزاه.
قال: [(إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، ويجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا -والله- ما صنعت شيئا! ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله.
قال: فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول: نعم أنت)].
قوله: [(نعم أنت)]، يحتمل أن (نعم) بفتح النون والعين، ويحتمل أنها (نِعْم أنت)، فتكون فعلاً، والمقصود بالمدح محذوف وتقديره: نِعْم الرجل أنت، أو نِعْم الشخص أنت، ولابد من أن يكون معرفة.
والجن يسمون رجالاً، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]، فلهذا يقول الشيطان لبعض جنده: نعم الرجل أنت.
فإن قيل: كيف نعرف بالدليل أن الله تعالى عرشه على الماء؟ قلنا: إنه قد أخبرنا بذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]، ويقال: إنه في السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، وفوق ذلك العرش، والله تعالى مستوٍ عليه استواءً يليق بجلاله وعظمته.
والسنة المطهرة تبين لنا ذلك أيضاَ، كما جاء في حديث عبد الله بن عوف: (إن الله كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلُق أو نحو ذلك، أو عقد، أو بغضة، أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة].
الساحر حينما يفرق بين المرء وزوجه يخيِّل إلى الرجل أن امرأته في صورة قبيحة كريهة مشوهة فينفر منها، ويخيل إلى المرأة أن زوجها بصورة قبيحة حتى تنفر منه، فتحصل الفرقة وهذا هو سحر التفريق، وهو الصرف.
والجمع يكون بضد ذلك، بأن يحسنها في عينه حتى تكون من أجمل الناس، ولو كانت دميمة الخلق، والحال كذلك بالنسبة للرجل، وهذا هو العطف.
فالتفريق هو الصرف، والجمع هو العطف، وهما من أنواع السحر، قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمرء عبارة عن الرجل وتأنيثه امرأة، ويثنى كل منهما ولا يجمعان، والله اعلم].
يقال: امرأة وامرأتان، والمرء والمرءان، ولا يجمعان.(46/3)
تفسير قوله تعالى: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، قال سفيان الثوري: إلا بقضاء الله.
وقال محمد بن إسحاق: إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد].
المراد بالإذن في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] الإذن الكوني القدري، والإذن يكون كونياً ويكون شرعياً، فالشرعي يستفاد من قول الله تعالى في سورة الحشر: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5]، أي: فبإذن الله الشرعي، والآية نزلت حينما حاصر المسلمون بني النضير، وقطع بعضهم النخيل إغاظة للعدو، ورأى بعضهم أن يتركه؛ لأنه مال سيئول إلى المسلمين وسيبقى لهم، فالله تعالى بين أنه من قطع نخيل بني النضير بقصد الإغاظة فهو على صواب، ومن أبقاه لأنه مال سيئول إلى المسلمين فهو على صواب، فصوب الله كلا الفريقين فقال تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} أي: نخلة {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5]، أي: فبإذن الله الشرعي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الحسن البصري: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، قال: نعم، من شاء الله سلطهم عليه ومن لم يشأ الله لم يسلط، ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله كما قال الله تعالى].
وفي نسخة: (ولا يستطيعون ضر أحد إلا بإذن الله).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي رواية عن الحسن أنه قال: لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه].
هذا ليس بجيد، فإن السحر لا يضر إلا إذا أذن الله كوناً وقدراً، وقد يدخل فيه ولا يضره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ} [البقرة:102]، أي: يضرهم في دينهم، وليس له نفع يوازي ضرره {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102]، أي: ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن فعل فعلهم ذلك أنه ما له في الآخرة من خلاق].
قوله: [(استبدلوا بالسحر)] بالباء؛ لأن الباء تدخل على المتروك، مثل قوله: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء:2]، فالمتروك هو الذي تدخل عليه الباء.
والأصل هو أن يقول: (استبدلوا السحر بمتابعة الرسول)؛ لأن متابعة الرسول هي المتروك والسحر هو المأخوذ، فتركوا متابعة الرسول وأخذوا بدله السحر، فاستبدلوا السحر بمتابعة الرسول.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس ومجاهد والسدي: من نصيب، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ما له في الآخرة من جهة عند الله، وقال عبد الرزاق وقال الحسن: ليس له دين، وقال سعيد عن قتادة: {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102]، قال: ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة].
الخلاق والنصيب والدين والحظ بمعنى واحد، وأما الجهة فليست واضحة.(46/4)
حكم الساحر وحده
قال الله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102 - 103].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ولبئس البديل ما استبدلوا به من السحر عوضاً عن الإيمان ومتابعة الرسول لو كان لهم علم بما وعظوا به، {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ}، أي: ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم لكان مثوبة الله على ذلك خيراً لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، وقد استدل بقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [البقرة:103] من ذهب إلى تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف].
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [البقرة:103]، يدلَّ على أن السحر كفر وليس بإيمان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: بل لا يكفر، ولكن حده ضرب عنقه؛ لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل قالا: أخبرنا سفيان -هو ابن عيينة - عن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة يقول: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن: اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر، وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضا، وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها فأمرت بها فقتلت، قال الإمام أحمد بن حنبل: صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الساحر].
وهذا لا يدل على أنه قتله ليس بكفر، بل قتله كفر على الصحيح، وقال بعضهم: إنه لا يكفر به، ولكن حده القتل كقتل القاتل ورجم الزاني، ويكون مؤمناً، والصواب أنه كافر، وأن قتله كفراً لا حداً.
وقال بعضهم: إنه لا يقتل وإنما يسجن حتى يموت، وذهب إلى هذا الإمام أبو حنيفة، والصواب أنه كافر، وأنه يقتل، وأن قتله كفراً لا حداً، وهذا هو قول الجمهور.
وعلى هذا القول فالساحر لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين في مقابرهم؛ لأنه كافر، وأما سحر الأدوية والتدخينات فهذا إذا لم يستحله صاحبه وقتل فقتله يكون حداً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الأزدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حد الساحر ضربه بالسيف)، ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه].
هذا الحديث روي بلفظ: (ضربه)، وروي بلفظ (ضربة بالسيف).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإسماعيل بن مسلم يضعف في الحديث، والصحيح عن الحسن عن جندب موقوفاً، قلت: قد رواه الطبراني من وجه آخر عن الحسن عن جندب مرفوعاً، والله أعلم].
والترمذي ضعَّف إسماعيل المذكور، وعليه فيكون الحديث موقوفاً، ورواية الطبراني تدل على أنه مرفوع، والموقوف يؤيده المرفوع، فهذا الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، وظاهر كلام الحافظ أن رواية الطبراني لا بأس بسندها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله! يحيي الموتى! ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه وذهب يلعب لَعِبه ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر، وقال: إن كان صادقاً فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:3]، فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك، فسجنه ثم أطلقه، والله أعلم.
وقال الإمام أبو بكر الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد حدثني أبو إسحاق عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجل يلعب، فجاء جندب مشتملاً على سيفه فقتله، قال: أراه كان ساحراً].
معنى (أَراه) بالفتح: أعلم أنه ساحر، أما (أُراه) بضم الهمزة فمعناها (أظنه)، فـ جندب رضي الله عنه قتله لأنه يعلم أنه ساحر، وبعد تحققه من ذلك، ولم يقتله بالظن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحمل الشافعي رحمه الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركاً، والله أعلم].
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يرى أن السحر الذي ليس فيه شرك لا يقتل صاحبه، وإنما يعزر، إلا إذا استحله، وهو يقصد بذلك سحر الأدوية، فهو قد أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر.(46/5)
تفسير سورة البقرة [102 - 103]-[2]
السحر علم قبيح ضار، ومتعلمه لأي غرض مذموم، فضلاً عن أن يقال باستحباب تعلمه أو وجوبه، ومن المقرر عند أهل السنة أن السحر منه ما هو حقيقة ومنه ما هو خيال، وقد تعرض العلماء لبيان أقسام هذين النوعين، فذكروا منها سحر الأوهام، وسحر الشعوذة وسحر الاستعانة بالجن وغير ذلك.(47/1)
تابع تفسير قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فصل): حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر، قال: وربما كفروا من اعتقد وجوده].
قول المعتزلة هذا ذكره الرازي في كتابه: (مفاتيح الغيب)، وقد قال بعض العلماء: إنه ذكر فيه كل شيء إلا التفسير، ومما ذكر فيه الطب والهندسة والكيمياء وكثير من العلوم، وقد نقل عنه الحافظ ابن كثير رحمه الله.
وقد أنكر المعتزلة السحر حتى لا يشتبه النبي بالساحر، وحتى تسلم النبوة بزعمهم؛ لأنهم يرون أن السحر لو حصلت منه الخوارق لالتبس النبي بالساحر.
فإن قيل: وما مذهب الرازي؟ قلنا: هو أشعري، ومن متأخري الأشاعرة، ثم صار جهمياً، ومتأخروا الأشاعرة صاروا جهمية، فهم يقولون: إن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه.
وقد كفر ابن تيمية الرازي، ثم ذكر أنه تاب وترحم عليه، وله وصية في آخر حياته، وله كتاب آخر اسمه (السر المكتوم في مخاطبة النجوم).
وقد نقل عنه الحافظ أنه أوجب تعلم السحر، وعنده أن العلم شريف بذاته، ودليله قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، والسحر علم، فيجب تعلمه، حتى لا يكون هناك علم مفقود.
وما ذكره الرازي قول باطل، فإنه لا يجوز تعلم الكفر، وقد ذكر الله تعالى أن السحر كفر، قال تعالى عن الملكين: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، ولكن الرازي تاب عن هذا القول في آخر حياته، وله وصية معروفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء، ويقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً، إلا أنهم قالوا: إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعيّنة].
يمكن للساحر أن يطير في الهواء ويغوص في البحار، أما أن يقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً فليس بصحيح، ونسبة هذا القول إلى أهل السنة باطل.
والساحر يستطيع التخييل فقط، فهو قد يخيل أن الإنسان حمار والحمار إنسان، ولكنه لا يقلب الإنسان حماراً حقيقياً، وهذا ما فعله سحرة فرعون، كما قال الله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، فكانوا يأتون بالعصي والحبال، ويجعلون فيها الزئبق فتتلوى وتضطرب بحرارة الشمس، وصارت كأنها حيات، فخيلوا على الناس بذلك.
فكذلك الساحر يخيل الإنسان في صورة غير صورته التي يرى فيها، ولكنه لا يقلب الإنسان حماراً، أو الحمار إنساناً، ولا الحجر ذهباً أو الذهب حجراً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا، خلافاً للفلاسفة والمنجمين والصابئة، ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى بقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، ومن الأخبار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحر، وأن السحر عمل فيه].
معنى قوله: [عمل فيه] أي: أثر فيه، وتأثير السحر إنما كان في جسمه وفي أمور الدنيا، ولم يؤثر في عقله ولا في تبليغه صلى الله عليه وسلم، وقد كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لم يفعله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبقصة تلك المرأة مع عائشة رضي الله عنها، وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر، قال: وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثير، ثم قال بعد هذا: (المسألة الخامسة) في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور، اتفق المحققون على ذلك].
هذا كلام باطل، والمحققون لا يقولون بهذا، والله تعالى قبح السحر وأخبر أنه كفر، وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: هل للسحر حقيقة وخيال؟ قلنا: نعم، له حقيقة وله خيال، فحقيقته أن يؤثر بالقتل والمرض والشلل وغير ذلك، وخياله كأن يقلب صورة الإنسان حماراً والحمار إنساناً، ولكنه لا يغير الحقائق، قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لأن العلم لذاته شريف].
العلم النافع لذاته شريف، أما علم السحر فعلم قبيح، ولا شرف له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لعموم قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]].
المراد بالمدح الذين يعلمون العلم النافع، لا الذين يعلمون العلم السيئ الضار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة].
وهذا باطل أيضاً، وهو عكس قول المعتزلة الذين يقولون: إنه لا يوجد سحر ولا خوارق؛ لئلا يشتبه الساحر بالنبي، ومن أثبت السحر كفر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والعلم بكون المعجز معجزاً واجب، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب؛ فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً، وما يكون واجباً فكيف يكون حراماً وقبيحاً؟! هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة، وهذا الكلام فيه نظر من وجوه].
ينتقد الحافظ على الرازي فيما ذكره من وجوب تعلم السحر، ويرد عليه بما يأتي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أحدها قوله: (العلم بالسحر ليس بقبيح) إن عنى به ليس بقبيح عقلاً فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا].
إن أراد أنه ليس بقبيح عقلاً فهو باطل، وإن أراد أنه ليس بقبيح شرعاً فهو باطل أيضاً، فهو قبيح عقلاً وشرعاً، وأصحابه لا يوافقونه على أنه ليس بقبيح عقلاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعاً؛ ففي هذه الآية الكريمة تبشيع لتعلم السحر، وفي الصحيح: (من أتى عرافاً أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد)، وفي السنن: (من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر)، وقوله: (ولا محظور اتفق المحققون على ذلك) كيف لا يكون محظوراً مع ما ذكرناه من الآية والحديث؟! واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم، وأين نصوصهم على ذلك؟! ثم إدخاله علم السحر في عموم قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] فيه نظر؛ لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي، ولم قلت: إن هذا منه؟ إثم ترقيه إلى وجوب تعلمه؛ لأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ضعيف، بل فاسد؛ لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلاً، ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز، ويفرقون بينه وبين غيره، ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه، والله أعلم].
قوله: [ولم قلت: إن هذا منه؟] أي: علم السحر، والحافظ ابن كثير أجاد وأفاد في الرد على الرازي.(47/2)
أنواع السحر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قد ذكر أبو عبد الله الرازي أن أنواع السحر ثمانية: (الأول): سحر الكلدانيين والكشدانيين الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة، وهي السيارة، وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم].
الصحيح: (المتحيزة) لا المتحيرة؛ لأن المتحيرة معناها: الواقفة الساكنة، والكواكب السيارة ماشية، والمعنى أنها متحيزة في جهة عن الكواكب الأخرى.(47/3)
سحر الكلدانيين والكشدانيين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأنها تأتي بالخير والشر، وهم الذين بعث الله إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم مبطلاً لمقالتهم وراداً لمذهبهم، وقد استقصى في كتاب (السر المكتوم في مخاطبة الشمس والنجوم) المنسوب إليه، كما ذكر القاضي ابن خلكان وغيره].
والكتاب المذكور والمسمى (بالسر المكتوم في مخاطبة الشمس والنجوم) للرازي نسبه إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر أن فيه كفراً، ولكنه تاب منه، وقد ترحم ابن تيمية عليه، وله وصية في آخر حياته، وهي موجودة الآن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقال: إنه تاب منه، وقيل: بل صنفه على وجه إظهار الفضيلة لا على سبيل الاعتقاد، وهذا هو المظنون به].
أي: فضيلة السحر وعلمه، والذي ينبغي أن يكون إظهار الفضيلة للعلم الشرعي، ولعل مقصوده: إظهار الباطل ليتضح الحق، ومن باب: عرفت الشر لا للشر، والفضيلة لا تكون إلا للإيمان، ومن منّ الله عليه بالإيمان تظهر فضيلته على من خاطب النجوم.(47/4)
سحر الأوهام
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلا أنه ذكر فيه طريقهم في مخاطبة كل من هذه الكواكب السبعة، وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه وما يتمسكون به.
قال: (والنوع الثاني): سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، ثم استدل على أن الوهم له تأثير بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدوداً على نهر أو نحوه].
إذا وجد جذع على الأرض فإن الإنسان يمشي عليه ولا يتوهم؛ لأنه إذا سقط سقط على الأرض، أما إذا كان هناك جسر موضوع على نهر فيتوهم أنه سيسقط، فيسقط لأجل قوة الوهم، وهذا هو سحر الوهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وكما أجمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر].
نهي الأطباء المرعوف من النظر إلى الشيء الأحمر لئلا يتوهم فيخرج منه الدم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمصروع إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران، وما ذلك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام.
قال: وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق، وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين).
قال: فإذا عرفت هذا فنقول: النفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جداً فتستغني في هذه الأفاعيل عن الاستعانة بالآلات والأدوات، وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات، وتحقيقه أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السموات صارت كأنها روح من الأرواح السماوية، فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم، وإذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات البدنية؛ فحينئذ لا يكون لها تأثير البتة إلا في هذا البدن، ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء، والانقطاع عن الناس والرياء مراءاة الناس.
قلت: وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال، وهو على قسمين: تارة تكون حالاً صحيحة شرعية، يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويترك ما نهى الله تعالى عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه الأمة].
وإنما يعينهم الله بسبب التقوى، فيعمل الواحد منهم أعمالاً يعجز عنها مئات الناس وهو شخص واحد؛ لتوفيق الله وإعانته له بسبب تقواه وامتثاله أمر الله، وقد توجد عند شخصٍ أحوال شيطانية، فتعينه الشياطين بسبب تركه ما أمره الله به، واقترافه ما حرم الله عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يسمى هذا سحراً في الشرع، وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتصرف بها في ذلك، فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة، ولا يدل إعطاء الله إياهم هذه الأحوال على محبته لهم، كما أن الدجال له من الخوارق للعادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة مع أنه مذموم شرعاً لعنه الله، وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وبسط هذا يطول جداً، وليس هذا موضعه].
الدجال كافر، ومع ذلك يمكنه الله من إظهار الخوارق، فيأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويمر بالخربة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ويقطع الرجل نصفين ثم يقول له: قم، فيستوي قائماً، فمع كفره يعطيه الله الخوارق لحكمة بالغة.(47/5)
سحر الاستعانة بالجن
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: والنوع الثالث من السحر: الاستعانة بالأرواح الأرضية، وهم الجن، خلافاً للفلاسفة والمعتزلة، وهم على قسمين: مؤمنون، وكفار وهم الشياطين، قال: واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية؛ لما بينها من المناسبة والقرب].
أي أنَّ اتصال النفوس البشرية بالجن أقرب من اتصالها بالملائكة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقي والدخن والتجريد، وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير].
الدخن والرقى والتجريد أشياء يعملها الساحر، ثم ينادي بأسماء الجن والشياطين فيجتمعون له ويحضرون؛ فإذا لم يستطع تفريقهم قتلوه.
وهناك كتب سحر منتشرة ككتاب (شمس المعارف)، وبعض الناس يأخذ هذا الكتاب ويقرؤه، وينادي الجن بأسمائهم فيحضرون عنده، فإذا لم يستطع تفريقهم قتلوه، فينبغي للإنسان أن يحذر من قراءته وأمثاله، ولا يسلك طريق السحر؛ لأن فيها إشراكاً بالله ودعاء لغيره، ولا يحضر الجن إلا بعد هذا.
والرقى التي يقرؤها الساحر لإحضار الجن تسمى عزائم وعمل السّخير؛ فالجن يسخرون له ويخدمونه بسبب الرقى والتعاويذ، ولكنه قبل ذلك يشرك بالله.(47/6)
سحر الشعوذة والتخييل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: النوع الرابع من السحر: التخيلات والأخذ بالعيون والشعبذة، ومبناه على أن البصر قد يخطىء ويشتغل بالشيء المعين دون غيره، ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه، حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديث ونحوه عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة، وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه؛ فيتعجبون منه جداً].
كل ما يفعله المشعبذ هو أنه يصرف الخواطر، وهذا هو سحر التخييل، ويسميه بعض العامة (قمرة)، ومنه سحر سحرة فرعون، فإنهم جعلوا في العصي والحبال زئبقاً، فصارت تتلوى وكأنها حيات، وخيلوا على الناس، ومنها الألعاب البهلوانية التي يفعلها بعض الناس، كمن يجر السيارة بشعر لحيته، أو يضرب بطنه ويخرج الدم، أو يدخل من فم البعير ويخرج من دبره، وهو كذاب يخيل أنه يدخل من فم البعير وهو يمشي حوله، أو يخيل أنه يضرب بطنه وهو لا يضرب بطنه، وحتى الذي يقول: إنه يقطع شخصاً نصفين وهو في صندوق كاذب، وقد تبين أنهم يصورون الصورة التي تعرض هذا في وقت آخر، ويضعون شخصاً في جهة وآخر في جهة أخرى، ثم يعرضونها والساحر يضرب الصندوق وكأنه قطعه نصفين، وهذا كله من سحر التخييل.
والسحر نوعان: سحر تخييل، وسحر حقيقة، ويقول أبو حنيفة رحمه الله: لا يكون السحر إلا خيالاً، والصواب أن له حقيقة وله خيالاً، فسحر الحقيقة يؤثر في البدن بأن يقتل أو يمرض أو يفرق بين المرء وزوجه، قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4]، وسحر الخيال إنما هو تخييل على العيون فقط، قال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف:116]، مثل الذي يخيل للناس أنه يقطع الشخص نصفين، فيتراءى للعيون غير الحقائق، والساحر الذي يتصل بالشياطين كافر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون لكل ما يفعله.
قال: وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعاً من أنواع الخلل أشد كان العمل أحسن، مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جداً أو مظلم، فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها والحالة هذه.
قلت: وقد قال بعض المفسرين: إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب الشعبذة، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، وقال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، قالوا: ولم تكن تسعى في نفس الأمر، والله أعلم].
الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى أطال النفس وبسط في شرحه لهذه الآية.(47/7)
تفسير سورة البقرة [102 - 103]-[3]
السحر منه ما هو حقيقة ومنه ما هو خيال، وهو على أنواع، فمنه ما يتعلق بالتركيبات الهندسية، وأصل ذلك الخفة، ومنه ما يتعلق بالأدوية، ومنه غير ذلك، وفاعله مرتكب لمنكر عظيم يصل به إلى الكفر إن اتصل بالشياطين وعبادة غير الله تعالى، وللفقهاء جمل من الأقوال فيما يتصل بحكم تعلم السحر، وتوبة الساحر، وقتله، ونحو ذلك.(48/1)
تابع أنواع السحر(48/2)
سحر التراكيب الهندسية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(النوع الخامس من السحر): الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية، كفارس على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد، ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى يصورونها ضاحكة وباكية.
إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل.
قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل].
ما ذكره الرازي في القرن السادس الهجري أصبح الآن شيئاً مألوفاً، وأسبابه معروفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: يعني ما قاله بعض المفسرين: إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقاً فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق، فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها].
كانت العصي تتلوى بسبب الزئبق مع الشمس ومع التخييل، كما قال الله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، ولهذا قال بعض العلماء: إنه من سحر التخييل، وأنكر بعضهم حقيقة السحر، وقال: إن السحر كله تخييل، واستدل بهذه الآية، والصواب أن السحر منه ما هو تخييل ومنه ما هو حقيقة، قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4]، فلولا أن للسحر حقيقة لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من شر النفاثات في العقد.
فالسحر له حقيقة وتأثير في البدن بالمرض والقتل والتفريق بين المرء وزوجه، فالساحر يصور الرجل أمام زوجته بصورة قبيحة حتى تكرهه وتطلب الفراق، ويصور المرأة أمام زوجها بصورة قبيحة ذميمة حتى يكرهها ويفارقها، وهذا من السحر، كما قال سبحانه وتعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، والعكس كذلك، قد يحسنها في وجهه أو يحسنه في وجهها، وهذان هما الصرف والعطف، فالصرف: أن يصرف المرأة عن زوجها، أو يصرف الرجل عن زوجته، والعطف: أن يحبب كل واحد منهما إلى الآخر، وهما من أنواع السحر.
والخلاصة أن السحر نوعان: حقيقة وخيال، خلافاً لـ أبي حنيفة رحمه الله الذي قال: إن السحر لا يكون إلا خيالاً، وخلافاً للمعتزلة الذين أنكروا وجود السحر، وكل هذا باطل، والصواب أن السحر واقع وموجود.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الرازي: ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات، ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالآلات الخفيفة].
هذا واقع، ويسمونه الآن الألعاب البهلوانية، ومن هذا النوع: أن يظهر إنسان أنه يجر السيارة بشعرة من لحيته، أو يخيل لبعض الناس أنه يضرب بطنه بالسكين ويخرج منه دم، أو يخرج من فمه سكاكين أو مناديل، وكل هذا من السحر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وهذا -في الحقيقة- لا ينبغي أن يعد من السحر؛ لأن لها أسباباً معلومة يقينية من اطلع عليها قدر عليها].
ما نراه الآن هو أشياء خفية يعملونها قد تكون من باب الخيال، أو من باب خفة اليد، فهي غريبة عند من لم يعلمها، ومن تعود عليها صارت عنده مألوفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار، كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد المقدس، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام منهم].
قوله: [تروج على الطغام]، أي: العامة، فالنصارى يوهمون العامة أن هذا من أنوار المسيح أو من أنوار مريم، وهي أشياء يعلمها خاصتهم، فهم يدخلون النار من طريق لا يعلمه عامة الناس، فيتعجب الناس ويقولون: من أين جاءت النار؟! ومن أين جاء القنديل؟! فيغرون الناس بعبادة المسيح.
وكذلك الأشياء التي هي من خفة اليد، فإنها ليست من السحر، ولكنها أشياء خفية لا يعلمها عامة الناس، ولا يعلمون كيفيتها، فتروج عليهم، فإذا كان المقصود منها الترويج للباطل ونشره، فلا شك في أنها حرام، كما أن عمل النصارى في الترويج على عامتهم محرم؛ لأنهم يغرون الناس بعبادة المسيح وعبادة مريم.
وكذلك ما يسمى الآن بالسيرك، وما يفعل في بعض الاحتفالات، كأن تمر سيارة على بطن شخص، فهذا ينظر فيه، والأقرب أنه من باب الخيال.
فإن قيل: قد يكون لهم تعامل مع الجن؟ قلنا: يختلفون، فقد يكون عمل بعضهم من باب خفة اليد، أو من باب التخييل، فينظر إلى أعمالهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الخواص فهم معترفون بذلك، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم].
هكذا يتأول النصارى أنهم يجمعون العوام على دينهم، حتى يوهمونهم أن هذا من أنوار المسيح ومن أنوار مريم، ويدخلون النار إلى الكنيسة من طريق آخر، ولا يعلم بهذا عامة الناس، وهذا من باطلهم ومن ترويجهم لدينهم ومن الشرك والباطل.
نعوذ بالله من هذا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيرون ذلك سائغاً لهم، وفيهم شبهة على الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية].
الأقرب إلى صحة المعنى أن الجملة هكذا: وفيهم شبه بالجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب، فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)].
هذا الحديث من الأحاديث المتواترة، وقد بالغ بعضهم فقال: إن الحديث يقول: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ونحن إنما نكذب له لا عليه! وهؤلاء هم متعبدة الكرامية الذين يتأولون في وضعهم الحديث أنه لترغيب الناس في الدين، فهم إذا رأوا الناس انصرفوا عن صلاة الفريضة مثلاً وضعوا أحاديث لترغيب الناس فيها، وإذا رأوا الناس انصرفوا عن صيام رمضان وضعوا أحاديث للترغيب، ويتأولون أنهم يحثون الناس على الدين، وهذا فيه شبه بالنصارى الذي يتأولون جمع شمل النصارى، ويلبسون عليهم حتى يجمعوهم على دينهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (حدثوا عني ولا تكذبوا علي؛ فإنه من يكذب علي يلج النار)، ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان، وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور ترق له، فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح باباً من ناحيته فيدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضاً، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئاً كثيراً، فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه].
هذه حيلة من الراهب ليفتن النصارى، ويوهمهم أنها من الكرامات، وأنه على حق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ففتنهم بذلك، وأوهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة].(48/3)
سحر الأدوية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الرازي: النوع السادس من السحر: الاستعانة بخواص الأدوية، يعني في هذا الأطعمة والدهانات، قال: واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص، فإن تأثير المغناطيس مشاهد، (قلت): يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص مدعياً أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من الأعمال].
يقصد بمن يدعي الفقر: الصوفية، ويسمون الفقراء، ويسمى الصوفي فقيراً، ويسمى السالك، ويعني بكلامه: ما يفعله بعض الصوفية من الحيل على الناس، ثم يدعي أن هذا حال له، وأنه تسلم له حاله ولا يعارض، ولو عمل منكراً، وهذا من دعاوى الصوفية الباطلة.
قال المؤلف وقوله: [من مخالطة النيران ومسك الحيات، إلى غير ذلك من المحالات].
هذا أيضاً من حيلهم، فبعضهم يدهن جسمه بدهن ضد النار، ثم يدخل النار أمام العامة ولا يصيبه شيء، فيقول الناس: هذا من الكرامات، وبعضهم يخدر الحيات بمخدر، ثم يأخذها ويمسكها ويمسك أسنانها ويعمل بها ما يشاء، فيظن بعض العامة أن هذا من الكرامات، وإنما هو من الحيل، وقد يكون من أعمال الشعوذة وبينه وبين الجن عهد.(48/4)
سحر تعليق القلب
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: النوع السابع من السحر: التعليق للقلب، وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور، فإذا اتفق أن يكون السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق، وتعلق قلبه بذلك، وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة، فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة، فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء.
قلت: هذا النمط يقال له: التنبلة، وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم، وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه، فإذا كان النبيل حاذقاً في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره].
الفراسة: حدة النظر والتأمل، قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] أي: للمتفرسين، وفي الحديث: (اتقوا المؤمن فإنه ينظر بنور الله)، وهو حديث ضعيف، ضعفه الشيخ ناصر الدين الألباني، وله شواهد.
والفراسة أنواع: فراسة إيمانية، وفراسة رياضية صوفية، فالفراسة الإيمانية: نور يقذفه الله في قلب العبد المؤمن، وهي محمودة، ولا تكون إلا للمؤمنين الصالحين.
والثاني: فراسة رياضية صوفية، وهي التي يذكرها الأطباء والصوفية، ومن ذلك أن يروض نفسه ويقلل الطعام والنوم، ويقلل من مخالطة الناس، وقد يعصب عينيه، فيحصل له في ذلك أنوار شيطانية، وهذا مثل الذي ينظم أكله لكي يصح بدنه، وهو مثل ما يفعله بعض الناس ويسمونه (اترجيم)، فهو يقلل الطعام والشراب، وهذه مشتركة بين المؤمن والكافر، فقد تكون محمودة، وقد تكون مذمومة.
وهناك فراسة تسمى فراسة خلقية، وهي الاستدلال بالخَلقْ على الخُلقُ، وهذه -أيضاً- مشتركة بين المؤمن والكافر، وهي غير محمودة، فيستدلون -مثلاً- بطول الرقبة على الغباوة، وبالقصر على الحماقة، وبسعة الصدر على سعة الخلق، وبكلل النظر على جمود العينين، وهذه قد يصيبون فيها وقد يخطئون، فالفراسة الإيمانية خاصة بالمؤمنين، وهي نور يقذفه الله في قلب العبد المؤمن.(48/5)
سحر النميمة والبيان
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [النوع الثامن من السحر: السعي بالنميمة والتقريب].
سميت النميمة سحراً لما لها من تأثير في الخفاء، فأصل السحر في اللغة: عبارة عما خفي ولطف سببه، والنميمة لها تأثير في الخفاء، وهي داخلة في السحر من جهة اللغة؛ لأن السحر عبارة عما خفي ولطف سببه، ومنه البيان والفصاحة والبلاغة، فإنها تؤثر في الناس حتى تقنعهم، فصاحبها قد يقلب الحق باطلاً، وقد يقلب الباطل حقاً بسبب فصاحته وبلاغته وقوة تأثيره، وقدرة تصرفه بأنواع الكلام، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً).
وسمي السَّحَر سحراً لأنه يقع خفياً آخر الليل، وهذا من جهة اللغة، فيدخل في السحر لغةً: النميمة والبيان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [النوع الثامن من السحر: السعي بالنميمة والتقريب من وجوه خفيفة لطيفة؛ وذلك شائع في الناس].
لعل الصواب (خفية)، فهي قد تخفى، فإنه يأتي إلى هذا ويكلمه ويقول: إن هذا يتكلم فيك، ثم يأتي إلى الآخر ويكلمه خفية، فالمقام يقتضي أن المراد أنها (خفية) لا (خفيفة)؛ لأن المقام ليس في ذكر الخفة والثقل، وإنما المراد ذكر الخفاء، ويؤيده قوله: لطيفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: النميمة على قسمين: تارة تكون على وجه التحريش بين الناس، وتفريق قلوب المؤمنين، فهذا حرام متفق عليه، فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث: (ليس بالكذاب من ينم خيراً)، أو تكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة؛ فهذا أمر مطلوب، كما جاء في الحديث: (الحرب خدعة)، وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبني قريظة، جاء إلى هؤلاء فينمى إليهم عن هؤلاء كلاماً، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئاً آخر، ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت، وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة، وبالله المستعان].
تسمية هذا النوع نميمة فيه نظر، إلا من جهة أنه عمل خيراً في الخفاء، ويستدلون بالحديث، والمعروف أن النوع الأول هو الذي يسمى نميمة، وأما هذا النوع فهو إصلاح وخير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال الرازي: فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه، قلت: وإنما أدخل كثيراً من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها؛ لأن السحر في اللغة: عبارة عما لطف وخفي سببه، ولهذا جاء في الحديث: (إن من البيان لسحراً)، وسمي السَّحور لكونه يقع خفياً آخر الليل].
سمي السحور -وهو أكلة السحر- لأنه يؤكل في آخر الليل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والسحر: الرئة]، ذكر في القاموس أنها ساكنة، ثم قال: وهي بالتحريك والضم.
[وهي محل الغذاء، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه].
قوله: [محل الغذاء] فيه نظر، وإنما هي لتصفية الدم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال أبو جهل يوم بدر لـ عتبة: انتفخ سحره، أي: انتفخت رئته من الخوف، وقالت عائشة رضي الله عنها: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري)].
أي: متكئاً على صدرها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف:116] أي: أخفوا عنهم عملهم، والله أعلم].(48/6)
حقيقة السحر عند أهل السنة
وقال أبو عبد الله القرطبي: وعندنا أن السحر حق وله حقيقة، يخلق الله عنده ما يشاء].
قوله: [حق] أي: موجود وثابت، وليس المراد بالحق هنا ضد الباطل، بل هو باطل ومنكر، فقوله: (الحق) أي: له وجود وثبات، خلافاً لمن قال: إنه خيال، كـ أبي حنيفة والمعتزلة، فهم يقولون: ليس له حقيقة، وعندنا له حقيقة وليس تخييلاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [خلافاً للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية حيث قالوا: إنه تمويه وتخييل].
وقال بذلك أبو حنيفة أيضاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة، والشعوذي: البريد لخفة سيره.
قال ابن فارس: وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية.
قال القرطبي: ومنه ما يكون كلاماً يحفظ ورقىً من أسماء الله تعالى، وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك].
وكل هذا يكون في السحر، فهو عزائم ورقى وعقد وأدوية وأدخنة تؤثر في القلوب والأبدان، فتمرض وتقتل وتفرق بين المرء وزوجه.(48/7)
بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحراً) يحتمل أن يكون مدحاً كما تقوله طائفة، ويحتمل أن يكون ذماً للبلاغة، قال: وهذا أصح، قال: لأنها تصوب الباطل حتى توهم السامع أنه حق، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له) الحديث.
فصل: وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله في كتابه: (الإشراف على مذاهب الأشراف) باباً في السحر، فقال: أجمعوا على أن السحر له حقيقة، إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا حقيقة له عنده].
انضم أبو حنيفة مع المعتزلة ومع أبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية، فهم يرون أنه لا حقيقة له، وقد نص الجصاص في كتابه: (الأحكام) -وهو من الحنفية- على أنه خيال ليس له حقيقة، والصواب الذي عليه الجماهير أن منه حقيقة ومنه خيالاً.(48/8)
حكم تعلم السحر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله: فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكفر بذلك، ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر، ومن تعلمه معتقداً جوازه أو أنه ينفعه كفر].
هذا القول الثاني ضعيف، والصواب أنه يكفر بمجرد تعلم السحر؛ لقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] أي: كفروا بتعليم الناس، وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] أي: فلا تكفر بتعلم السحر، وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة:103]، فدل على أن السحر ضد الإيمان والتقوى، فإن تعلم السحر أو علمه كفر، فهذا هو الصواب إذا كان السحر يتصل صاحبه بالشياطين وعبادتها وعبادة الكواكب والتقرب إليها، وأما إذا كان سحره لا يتصل بالشياطين ولا بعبادتها، وإنما هو من باب أن يتعلم السحر ليأكل أموال الناس بالباطل؛ فهذا إذا استحل أكل أموال الناس بالباطل وإيذاءهم فقد كفر، وإن لم يستحلها فقد ارتكب محرماً وكبيرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر، وقال الشافعي رحمه الله: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك؟ فإن وصف ما يوجب الكفر -مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها- فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر] أي: إن استحل أكل أموال الناس بالباطل وإيذاءهم فقد كفر، وإن كان لا يستحل ذلك لكن غلبه الهوى وطاعة الشيطان وحب المال فيكون مرتكباً لكبيرة، وهذا التفصيل من الشافعي رحمه الله لأنه أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر، فلذلك فصل هذا التفصيل فقال: السحر قد يكون صاحبه متصلاً بالشياطين وقد لا يتصل، فإن اتصل بالشياطين كفر، وإلا فلا يكفر.
وأما الجمهور فلم يدخلوا السحر اللغوي في مسماه، ولهذا قالوا: الساحر يكفر مطلقاً، وعلى هذا فلا يكون هناك منافاةً بين قول الشافعي وبين الجمهور، فكل من الفريقين متفق على أن الساحر إذا اتصل بالشياطين فإنه يكفر، وأما إذا لم يتصل فـ الشافعي يسميه سحراً، والجمهور لا يسمونه سحراً، فلهذا فصل الشافعي، ولم يفصل الجمهور.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد: نعم، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا، فأما إن قتل بسحره إنساناً فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك، أو يقر بذلك في حق شخص معين، وإذا قتل فإنه يقتل حداً عندهم، إلا الشافعي فإنه قال: يقتل -والحالة هذه- قصاصاً].
هذه المسألة فيها اختلاف: هل يقتل الساحر أم لا يقتل؟ فقال أبو حنيفة وجماعة: يحبس حتى يموت ولا يقتل، والجمهور على أنه يقتل، ثم اختلف القائلون بقتله في صفة قتله، أي: هل قتله كفراً أو حداً؟ والأكثر على أنه يقتل كفراً، وهذا هو الصواب، وقال آخرون: يقتل حداً، والصواب أنه يقتل كفراً؛ لحديث جندب الصحيح: (حد الساحر ضربه بالسيف)، ولأن عمر رضي الله عنه كتب إلى عماله أن: اقتلوا كل ساحر وساحرة، ولأن حفصة رضي الله عنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت.(48/9)
أقوال الأئمة في توبة الساحر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم: لا تقبل، وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: تقبل].
هذه المسألة فيها خلاف، وهي: هل تقبل توبة الساحر؟ فالمحققون على أنها لا تقبل، وكذلك -أيضاً- الزنديق، ومن سب الله، أو الرسول، أو سب الدين، أو استهزأ بالله وبرسوله وبكتابه، فلا تقبل توبته في الدنيا؛ زجراً له ولأمثاله عن هذا الكفر الغليظ، قالوا: فلو ادعى التوبة لا نقبل توبته، بل لا بد من قتله في الدنيا، وأما في الآخرة فأمره إلى الله، فإن كان صادقاً فالله يحب الصادقين، وإن كان كاذباً فله حكم الكاذبين.
وقال آخرون من أهل العلم: يستتاب، فإن تاب -ولو كان ساحراً- فإنه يترك، والصواب أنه إن سلم نفسه قبل أن يقبض عليه فإنه تقبل توبته؛ لأن هذا دليل على أنه تاب، وأما إذا قبض عليه ثم ادعى التوبة فلا تقبل، ويكون حكمه حكم المحاربين، كما قال الله تعالى في المحاربين: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:34].(48/10)
أقوال الأئمة في ساحر أهل الكتاب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم، وقال مالك وأحمد والشافعي: لا يقتل؛ لقصة لبيد بن الأعصم].
والصواب أن ساحر أهل الكتاب لا يقتل؛ لأنه على الكفر قبل سحره، فأهل الكتاب يعبدون المسيح وعزيراً، ويعملون السحر، فهم على الكفر قبل ذلك، فلا يقتل إذا سحر، ولأن النبي منع من قتل لبيد بن الأعصم تركاً للفتنة وتحصيلاً للمصلحة، ولعدم تأثير السحر على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما قيل له: لماذا لم تدفن البئر؟ فقال: (أما أنا فقد شفاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً)، فالصواب أنه لا يقتل؛ لأنه من أهل الكتاب، فهو كافر قبل ذلك، بخلاف من كان مسلماً ثم سحر، فإنه يقتل.
قال الحافظ في (فتح الباري): وقال القرطبي: لا حجة لمالك من هذه القصة؛ لأن ترك قتل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله الفتنة، أو لئلا ينفر الناس عن الدخول في الإسلام، وهو مثل ما راعاه النبي صلى الله عليه وسلم من منع قتل المنافقين، حيث قال: (حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)].
هذا ليس بجيد؛ لأن هناك فرقاً، فالمنافقون ينتسبون إلى الإسلام ويظهرون الإسلام، فلو قتلوا لتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، وأما هذا فمعروف أنه كافر من أهل الكتاب.(48/11)
أقوال الأئمة في الساحرة المسلمة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [واختلفوا في المسلمة الساحرة، فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس، وقال الثلاثة: حكمها حكم الرجل، والله أعلم].
الصواب أن حكم المرأة كحكم الرجل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي قال: قرأ على أبي عبد الله -يعني أحمد بن حنبل - عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري قال: يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها].
هذا ليس بصحيح؛ لأن الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم هو لبيد، وهو من اليهود، وأما اليهودية فهي التي وضعت له السم في الذراع، وعمر بن هارون هذا ضعيف، فلا يصح سنده.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد يعفو ولا ينتصر لنفسه، وكذلك -أيضاً- قد يعفو عمن سبه، وأما بعد وفاته فمن سبه فلا بد من قتله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله أنه قال في الذمي: يقتل إن قتل بسحره، وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر: إحداهما: أنه يستتاب، فإن أسلم وإلا قتل، والثانية: أنه يقتل وإن أسلم، وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفراً كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم؛ لقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُر} [البقرة:102]، لكن قال مالك: إذا ظهر عليه لم تقبل توبته؛ لأنه كالزنديق].
يعني: إذا قبض عليه قبل أن يسلم نفسه.
[فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائباً قبلناه] وهذا هو الأقرب، فهو كالمحارب، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33]، ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:34].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قتل بسحره قتل، قال الشافعي: فإن قال: لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية].
يحمل هذا على أنه قال: أنا لم أتعمد القتل، وإنما أعالج علاجاً، فله وجه من هذه الجهة، وهذا يكون قتله خطأ، لكن هذا سحر من جهة اللغة، فهو أدوية، وليس سحراً يتصل بالشياطين، وأما الذي يتصل بالشياطين فإنه يقتل صاحبه وليس هناك إشكال.(48/12)
حكم النشرة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مسألة: وهل يسأل الساحر حلاً لسحره؟ فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري، وقال عامر الشعبي: لا بأس بالنشرة، وكره ذلك الحسن البصري].
والنشرة: هي حل السحر عن المسحور، قيل لـ سعيد بن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه، فظاهر هذا أنه لا بأس بحل السحر عن المسحور؛ لأنه سئل: رجل به طب -أي: سحر- أو يؤخذ عن امرأته -أي: يحبس عن امرأته، أي: لا يصل إليها- أيحل عنه أو ينشر؟ فقال: لا بأس به، أي: لا بأس بحل السحر، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (يا رسول الله! هلا تنشرت؟ فقال: أما الله فقد شفاني، وخشيت أن أفتح على الناس شراً) هذا مثال للنشرة الجائزة، وقد فات الحافظ رحمه الله حديث أحمد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة؟ فقال هي من عمل الشيطان)، والحديث سنده جيد.
وحمل ابن القيم والإمام محمد بن عبد الوهاب كلام ابن المسيب: (لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه) على النشرة الجائزة، فقد ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد (باب ما جاء في النشرة) وقسم النشرة إلى قسمين: نشرة محرمة، وهي من عمل الشيطان، وهي حل السحر بسحر مثله، ونشرة جائزة، وهي حل السحر برقى وأدعية وتعاويذ شرعية، وهذا مباح، فيحمل كلام ابن المسيب على النشرة الجائزة، ويحمل كلام الحسن: (لا يحل السحر إلا الساحر)، وحديث أحمد سئل عن النشرة قال: (هي من عمل الشيطان) على النشرة المحرمة، وهي حل السحر بسحر مثله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحكى القرطبي عن وهب أنه قال: يؤخذ سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين، ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي، ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات، ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به].
هذا مثال النشرة الجائزة، وهذا لا بأس به، وقد ذكره -أيضاً- الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرح كتاب التوحيد، واعترض عليه محمد حامد الفقي وقال: إن هذا لا أصل له، والصواب أنه ليس فيه محذور شرعاً، فإنه يقرأ آيات من القرآن، فلا وجه لاعتراض الشيخ حامد الفقي رحمه الله.
فإن قيل: ما المقصود بقول عائشة: (هلا تنشرت؟) قيل: معناه: هلا حللت السحر، فقال: (أما أنا فشفاني الله).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته].
أي: يحبس عن امرأته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في إذهاب ذلك، وهما المعوذتان، وفي الحديث: (لم يتعوذ متعوذ بمثلهما)، وكذلك قراءة آية الكرسي، فإنها مطردة للشيطان].
كل هذا من النشرة الجائزة.(48/13)
تفسير سورة البقرة [104 - 108]
حوت سورة البقرة جملة عظيمة من الأحكام الشرعية والآداب الربانية، فقد أدب الله تعالى الرعيل الأول من المؤمنين بترك مشابهة الكافرين في كل أمر، ومن ذلك خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ (راعنا)، وأدبهم تعالى بترك سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما لم يقع وعما فيه تضييق على المسلمين في مسكوت عنه ونحو ذلك، مبيناً مع ذلك أنه تعالى على كل شيء قدير، وهو المتصرف في الكون، وله الحكمة البالغة في إقرار الأحكام ونسخها، رعاية لمصالح عباده.(49/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا)(49/2)
النهي عن التشبه بالكفار
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:104 - 105]].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [نهى الله عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وأفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص، عليهم لعائن الله، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولوا: راعنا، ويورون بالرعونة، كما قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:46]].
الرعونة: ضعف العقل، فاليهود قبحهم الله يقولون: راعنا، أي: اسمع وانتبه لنا، وهم يقصدون الرعونة، وهي ضعف العقل، فالله تعالى نهى المؤمنين عن هذه الكلمة المؤلمة حتى لا يشابهوا اليهود، فقال: (لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا)؛ لأن (راعنا) فيها إيهام، وأما (انظرنا) فليس فيها إيهام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون: السام عليكم، والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ: (وعليكم)، فإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104].
وقال الإمام أحمد: أخبرنا أبو النضر قال: أخبرنا عبد الرحمن بن ثابت قال: أخبرنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)].
والحديث فيه عبد الرحمن بن ثابت بن الدرغام الموصلي، وهو ضعيف، قال ابن حجر رحمه الله: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العنسي الدمشقي تغير في آخر عمره.
وهذا الحديث ثابت، فله شواهد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن أبي النضر هاشم قال: أخبرنا ابن قاسم به: (من تشبه بقوم فهو منهم)] قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأقل أحوال هذا الحديث أنه يفيد التحريم، وإلا فظاهره يفيد الكفر، فلا يجوز للمسلمين التشبه بالكفار في أقوالهم أو أفعالهم أو لباسهم أو أعيادهم أو تقاليدهم، ومن ذلك مشابهتهم في قولهم: (راعنا)، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن التشبه بهم فيما هو خاص بهم.
وأما عادة الكافرين فإنه إذا فعلها المسلمون كلهم فذلك ممكن، وأما إذا فعلها بعض الأفراد ممنوع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي قال: أخبرنا نعيم بن حماد قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا مسعر عن ابن معن وعون -أو أحدهما- أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: اعهد إلي، فقال: إذا سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فارعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه.
وقال الأعمش عن خيثمة قال: ما تقرءون في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا) فإنه في التوراة: (يا أيها المساكين)].
(ما) في قوله: (ما تقرءون) بمعنى: الذي، أي: الذي تقرءونه في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا) هو في التوراة: (يا أيها المساكين).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير -أو عكرمة - عن ابن عباس رضي الله عنهما: (راعنا) أي: أرعنا سمعك، وقال الضحاك عن ابن عباس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة:104] قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أرعنا سمعك، وإنما (راعنا) كقولك: أعطنا.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية وأبي مالك والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة نحو ذلك، وقال مجاهد: (لا تقولوا راعنا): لا تقولوا خلافاً، وفي رواية: لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك.
وقال عطاء: (لا تقولوا راعنا) كانت لغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها، وقال الحسن: (لا تقولوا راعنا) قال: الراعن من القول السخري منه، نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعوهم إليه من الإسلام، وكذا روي عن ابن جريج أنه قال مثله.
وقال أبو صخر: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين فيقول: أرعنا سمعك، فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له).
وقال السدي: كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع، وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا، فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع غير صاغر، وهي كالتي في سورة النساء، فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا: راعنا، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بنحو من هذا.
قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم: (راعنا)؛ لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقولوا للعنب: الكرم، ولكن قولوا: الحبلة، ولا تقولوا: عبدي، ولكن قولوا: فتاي)، وما أشبه ذلك.
وقوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105] يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين؛ ليقطع المودة بينهم وبينهم، ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105]].
هذا فيه بيان شدة عداوة أهل الكتاب والمشركين للمؤمنين، وأنهم يودون قطع المدد من السماء عن المؤمنين، وقطع أسباب الخير والرحمة.(49/3)
تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها)
قال الله تعالى: [قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:106 - 107].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (ما ننسخ من آية): ما نبدل من آية، وقال ابن جريج عن مجاهد: (ما ننسخ من آية) أي: ما نمحو من آية، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: (ما ننسخ من آية) قال: نثبت خطها ونبدل حكمها، حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك، وقال الضحاك: (ما ننسخ من آية): ما ننسك، وقال عطاء: أما (ما ننسخ) فما نترك من القرآن، وقال ابن أبي حاتم يعني: ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقال السدي: (ما ننسخ من آية) نسخها: قبضها، وقال ابن أبي حاتم يعني: قبضها ورفعها، مثل قوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) وقوله: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً).
وقال ابن جرير: (ما ننسخ من آية): ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن يحول الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.
وأصل النسخ: من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها، وسواء نسخ حكمها أو خطها؛ إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة].
هذه الآية الكريمة فيها إطلاق النسخ، وأن الله سبحانه وتعالى ينسخ ما يشاء من الآيات لحكمة بالغة، وبين سبحانه وتعالى أنه إذا نسخها أتى بخير منها، وله الحكمة البالغة، وهو سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عباده، واليهود ينكرون النسخ ويقولون: إنه يلزم منه البداء على الله، وهو أن يظهر لله الشيء بعد أن كان خفياً، ولذلك أنكروا النسخ، وهذا من جهلهم وضلالهم، فالنسخ فيه حكم ومصالح للعباد، والله تعالى عليم بمصالح عباده، ولهذا قال سبحانه: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:106 - 107].(49/4)
تعريف النسخ وأقسامه
النسخ في اللغة: يطلق على الإزالة، ويطلق على النقل، يقال: نسخت الشمس الظل: إذا أزالته، ويقال: نسخ ما في الكتاب: إذا نقل ما فيه، والنسخ موجود في القرآن، وموجود في السنة المطهرة، وقد تنسخ الآية لفظاً ويبقى حكمها، كما نسخت: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) فنسخ لفظها وبقي حكمها، والمراد بالشيخ: المتزوج إذا زنا، فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد والرجم).
وقد ينسخ الحكم ويبقى اللفظ، كنسخ آية تربص المرأة المتوفى عنها زوجها حولاً كاملاً بآية التربص أربعة أشهر وعشرة أيام، فنسخ حكمها ولفظها باق، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة:240] نسخ حكمها بآية: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234].
وقد يكون النسخ إلى بدل، كما في هاتين الآيتين، وكما في آية المصابرة، فقد نسخ الله تعالى مصابرة المسلم الواحد لعشرة إلى حكم أخف، بأن يصابر الواحد اثنين، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال:65] فكان المسلم يجب عليه أن يقف أمام عشرة أولاً، ثم خفف الله ذلك، فنزلت بعدها: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال:66].
فقد يكون النسخ إلى ما هو أخف كما في هاتين الآيتين، وقد يكون النسخ إلى ما هو أثقل، وقد يكون النسخ إلى مماثل، كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
وقد يكون النسخ إلى غير بدل، كنسخ الصدقة عند مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة:12] ثم نسخت إلى غير بدل، والله تعالى له الحكمة البالغة.
وقد ينسخ الحكم قبل التمكن من العمل به، فقد فرض الله الصلاة خمسين صلاة على نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج، ثم نسخها الله إلى خمس صلوات قبل تمكن العباد من الفعل فضلاً وإحساناً، فله الحكمة البالغة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء.
ولخص بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر، فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه، والنسخ لا إلى بدله، وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه].
وقد يقال: ما حرم الله على بني إسرائيل الطيبات إلا بسبب تعنتهم، فنسخ الله الحل إلى التحريم، مثل قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِه} [آل عمران:93]، فقد كان حرم على نفسه لحم الإبل، وقوله فيمن صدوا عن سبيل الله: {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء:160]، وكذلك حرم الله عليهم الشحوم بسبب تعنتهم، فنسخ الله الحل إلى التحريم فقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الطبراني: أخبرنا أبو سنبل عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد أخبرنا أبي أخبرنا العباس بن الفضل عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها مما نسخ وأنسي، فالهوا عنها)].
قوله: (فالهوا عنها) أي: تشاغلوا عنها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكان الزهري يقرؤها: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106] بضم النون الخفيفة، سليمان بن الأرقم ضعيف].
أي أن السند ضعيف؛ لأجل سليمان بن الأرقم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد روى أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن نصر بن داود عن أبي عبيد الله عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أمامة بن سهل بن حنيف مثله مرفوعا، ذكره القرطبي.
وقوله تعالى: (أو ننسها) قرئ على وجهين: (ننسأها) و (ننسها)، فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه: نؤخرها، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ما ننسخ من آية أو ننسها) يقول: ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها، وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود: (أو ننسأها): نثبت خطها ونبدل حكمها.
وقال عبيد بن عمير ومجاهد وعطاء: (أو ننسأها): نؤخرها ونرجئها، وقال عطية العوفي: (أو ننسأها): نؤخرها فلا ننسخها، وقال السدي مثله أيضا، وكذا الربيع بن أنس، وقال الضحاك: (ما ننسخ من آية أو ننسأها) يعني: الناسخ والمنسوخ، وقال أبو العالية: (ما ننسخ من آية أو ننسأها): نؤخرها عندنا.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي أخبرنا خلف أخبرنا الخفاف عن إسماعيل -يعني: ابن أسلم - عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خطبنا عمر رضي الله عنه فقال: يقول الله عز وجل: ((ما ننسخ من آية أو ننسأها)) أي: نؤخرها.
وأما على قراءة (أو ننسها) فقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) قال: كان الله عز وجل ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء.
وقال ابن جرير: أخبرنا سواد بن عبد الله أخبرنا خالد بن الحارث أخبرنا عوف عن الحسن أنه قال في قوله: (أو ننسها) قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا ابن نفيل أخبرنا محمد بن الزبير الحراني عن الحجاج -يعني: الجزري -عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنزل الله عز وجل: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106].
وقال ابن أبي حاتم: قال لي أبو جعفر بن نفيل: ليس هو الحجاج بن أرطاة، هو شيخ لنا جزري].
وقال عبيد بن عمير: (أو ننسها): نرفعها من عندكم.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم أخبرنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ: (ما ننسخ من آية أو تنسها)، قال: قلت له: فإن سعيد بن المسيب يقرأ: (أو ننساها)، قال: فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب، ولا على آل المسيب، قال: قال الله جل ثناؤه: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6]، {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]، وكذا رواه عبد الرزاق عن هشيم، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي، عن آدم عن شعبة عن يعلى بن عطاء به، وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن محمد بن كعب وقتادة وعكرمة نحو قول سعيد.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله عنه: علي(49/5)
بيان معنى قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:106 - 107]، يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء].
هذا مبني على الحكمة البالغة، فهو يوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويحيي من يشاء، ويميت من يشاء، لما له من الحكمة البالغة، والله سبحانه وتعالى يفعل لحكمة، ويخلق لحكمة، ويأمر لحكمة، وينهى لحكمة، وهو الحكيم الخبير سبحانه وتعالى، {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [يوسف:6]، وهذا خلاف لأهل البدع من الأشاعرة وغيرهم الذين أنكروا الحكمة، وقالوا: إنه يفعل لمجرد المشيئة، فالجبرية من الأشاعرة يقولون: لا توجد حكمة، فهو يفعل لمجرد الإرادة فقط، وقالوا: إن المشيئة لله تخبط خبط عشواء، فهي تجمع بين المختلفات وتفرق بين المتماثلات، فلا توجد حكمة، بل يفعل بالإرادة، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا من أبطل الباطل، فالله تعالى أفعاله مبنية على الحكمة، وأوامره مبنية على الحكمة، وخلقه مبني على الحكمة، فهو يخلق لحكمة، ويؤمر لحكمة، وينهى لحكمة.
قال ابن جرير الطبري: وأولى القراءات في قوله: (أو ننسها) بالصواب من قرأ (أو ننسها) بمعنى (نتركها)؛ لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدل حكماً أو غيره، أو لم يبدله ولم يغيره فهو آتيه بخير منه أو بمثله، فالذي هو أولى بالآية -إذا كان ذلك معناها- أن يكون إذا قدم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعضد ذلك بالخبر عما هو صانع إذ هو لم يبدل ذلك ولم يغير، فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: (ما ننسخ من آية) قوله: أو نترك نسخها؛ إذ كان ذلك المعروف لجعله كلام الناس، مع أن ذلك إذا قرء كذلك بالمعنى الذي وصفت فهو يشتمل على معنى الإنشاء الذي هو بمعنى الترك، ومعنى النساء الذي هو بمعنى التأخير].
قراءة حفص: (أو ننسها)؛ فيها معنى (ننسيها) وفيها معنى النسيئة، أي: (نؤخرها) فتشمل الأمرين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره، واتباع رسله في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا، وفي هذا المقام رد عظيم، وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم -لعنهم الله- في دعوى استحالة النسخ إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً، وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكاً].(49/6)
قول اليهود في النسخ
أنكر اليهود -قبحهم الله- النسخ وقالوا: إنه غير ممكن؛ لأنه يلزم منه نسبة الجهل إلى الله تعالى، وأن الله كان جاهلاً ثم علم، وإلا فلماذا ينسخ؟! فاعترضوا على الله، وقالوا: لا ينسخ إلا الجاهل الذي لا يعلم، وأما العالم فلا يحتاج إلى النسخ، بل يشرع من أول الأمر ولا ينسخ؛ لأنه عالم بالعواقب، فقالوا: يلزم منه البداء على الله، وهذا من جهلهم وضلالهم وإنكارهم لآيات الله، فالله تعالى ينسخ لحكمة، وهو يعلم بأحوال عباده.
فالشرائع من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم تختلف، فقد كان في شريعة آدم أن الأخ يتزوج أخته، لكن من البطن الآخر، فكانت حواء تأتي بذكر وأنثى في كل حمل، فهذان الذكر والأنثى اللذان يكونان في بطن واحد أخوان يحرم عليهما أن يتزوج أحدهما الآخر، لكن يجوز له أن يتزوج من بطن آخر؛ حتى يكثر الناس، ثم حرم الله الزواج بالأخت، وفي شريعة يعقوب عليه الصلاة والسلام كان يجوز الجمع بين الأختين، وفي شريعة التوراة: يجب على القاتل القصاص، وفي شريعة الإنجيل تجب الدية، ولهذا جاء في شريعة الإنجيل: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، وفي شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم -التي هي أكمل الشرائع- يخير أولياء القتيل بين القصاص وبين العفو إلى الدية وبين العفو مجاناً، فأحوال الناس تختلف من عصر إلى عصر، فالله تعالى يشرع لعباده ما يناسب حالهم ثم ينسخ ذلك؛ لما يعلمه من المصلحة لهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: فتأويل الآية: ألم تعلم -يا محمد- أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذ أشاء، وأقر فيهما ما أشاء.
ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطاباً من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة السلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة، فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
قلت: الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛ لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حل بعضها، وكان نكاح الأختين مباحاً لإسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم رفع عنهم القتل؛ كيلا يستأصلهم القتل، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه، وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية فلا يصرف الدلالة في المعنى؛ إذ هو المقصود، وكما في كتبهم مشهوراً من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه فإنه يفيد وجوب متابعته عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته، وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مغياة إلى بعثته عليه الصلاة والسلام، فلا يسمى ذلك نسخاً لقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187]].
قوله: [مغياة]، أي: غايتها ونهايتها أن يعمل بها إلى بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقيل: إنها مطلقة، وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب متابعته متعين؛ لأنه جاء بكتاب هو آخر الكتب عهداً بالله تبارك وتعالى، ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ رداً على اليهود -عليهم لعنة الله- حيث قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:106 - 107]، فكما أن له الملك بلا منازع، فكذلك له الحكم بما يشاء: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54].
وقرر في سورة آل عمران التي نزل صدرها خطاباً مع أهل الكتاب وقوع النسخ في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِه} [آل عمران:93] الآية، كما سيأتي تفسيره].
وهذا مثال للنسخ إلى الأثقل.(49/7)
إنكار أبي مسلم الأصبهاني للنسخ، والرد عليه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وكلهم قالوا بوقوعه، وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن، وقوله ضعيف مردود مرذول، وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ، فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول، لم يجب عن ذلك بكلام مقبول، وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس، لم يجب بشيء، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك، والله أعلم.(49/8)
تفسير قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)
قال الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة:108].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة:101] أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه، فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة، ولهذا جاء في الصحيح: (إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته) ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، ثم أنزل الله حكم الملاعنة، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)، وفي صحيح مسلم: (ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه).
وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج، فقال رجل: (أكل عام يا رسول الله؟! فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: لا، ولو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم) الحديث، ولهذا قال أنس بن مالك: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع].
الأسئلة التي نهي عنها هي الأسئلة عن الأمور التي لم تقع، فتحرم من أجل المسألة، أو أن يسأل عن أشياء فيها تعنت، أو فيها تفصيلات ليست مطلوبة وقد كان الناس في عافية منها، مثل سؤال هذا الرجل عندما قال: أكلَّ عام يا رسول الله؟ وهذا تفصيل مسكوت عنه.
ومثلما سأل بنو إسرائيل موسى في قصة البقرة، فإنهم تعنتوا وشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، وذلك لأنهم سألوا عن البقرة: ما هي؟ ثم سألوا عن لونها، ثم قالوا: (إن البقر تشابه علينا).
وفي كل مرة تذكر لهم أوصاف ويشدد عليهم.
أما إذا سأل الإنسان عن شيء يحتاج إليه في دينه -مثل الصلاة، أو الزكاة أو الصوم أو الحج- ولم يكن السؤال عن شيء لم يقع، ولا سأل عن تفاصيل غير مشروعة، ولا سأل سؤال إعنات المسئول من أجل إيقاعه في العنت والعجز، وإنما سأل للاسترشاد في شيء مشروع؛ فهذا لا بأس به.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: أخبرنا أبو كريب أخبرنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب].
كان الصحابة عندهم هيبة عظيمة من النبي صلى الله عليه وسلم، أما الأعراب فهم بعيدون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم جفاء، ولا يبالون بما يقولون، فكانوا يسألون والصحابة يستفيدون، فكان الصحابة يتمنون أن يأتي البدوي يسأل وهم يسمعون جواب النبي صلى الله عليه وسلم له فيستفيدون منه.
ولما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المواقف: (سلوني سلوني) فهابوه، أرسل الله جبرائيل فجاء في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، فسأل عن الإسلام، ثم سأل عن الإيمان، ثم سأل عن الإحسان، ثم سأل عن الساعة وعن أماراتها، والصحابة يسمعون، فكان هذا الحديث حديثاً عظيماً في بيان الإسلام والإيمان والإحسان، بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن الدين مبني على ثلاث مراتب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال البزار: أخبرنا محمد بن المثنى أخبرنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة:219]، و: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة:217]، و: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة:220]، يعني هذا وأشباهه].
وقوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة:108] أي: بل تريدون، أو هي على بابها في الاستفهام، وهو إنكاري، وهو يعم المؤمنين والكافرين؛ فإنه عليه الصلاة والسلام رسول الله إلى الجميع، كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:153] قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد: (يا محمد! ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك، فأنزل الله من قولهم: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة:108])].
معنى قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} أي: اختار الكفر على الإيمان، وليس المراد أنه ينتقل، بل المراد أنه يتبدل بما لا يعتاض عنه، فاختار الكفر بدل الإيمان، وهذا واقع المشركين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) قال: (قال رجل: يا رسول الله! لو كانت كفارتنا ككفارات بني إسرائيل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا نبغيها -ثلاثاً-، ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة، فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110])، وقال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن)، وقال: (من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك)، فأنزل الله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة:108] وقال مجاهد: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) أي: يريهم الله جهرة، قال: سألت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً قال: نعم، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل، فأبوا ورجعوا.
وعن السدي وقتادة نحو هذا، والله أعلم.
والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء على وجه التعنت والاقتراح، كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتاً وتكذيباً وعناداً، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَان} [البقرة:108] أي: من يشتر الكفر بالإيمان {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة:108]، أي: فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال، وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم:28 - 29]، وقال أبو العالية: يتبدلوا الشدة بالرخاء].
(يشتري) بمعنى: (يعتاض)، أي: يأخذ هذا عوضاً عن هذا، كما يأخذ المشتري السلعة، ويأخذ البائع الثمن، وسؤال قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجعل لهم الصفا ذهباً من قبيل التعنت والاقتراح.(49/9)
تفسير سورة البقرة [109 - 114]
لا يزال الكافرون على مر الأزمان يضمرون العداوة للمسلمين ويريدون أن ينالوا منهم، ولا يريدون لهم الخير.
وقد أمر المسلمون في بداية الأمر بالعفو عنهم، ثم لما قووا أمرهم الله بقتال الكفار حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وقد أخبر الله سبحانه أنه لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ومن ذلك ما حصل من مشركي مكة حينما صدوا النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه عن المسجد الحرام، لكن الله وعد المسلمين بأنه سيظهرهم عليهم حتى إنهم لن يدخلوا بلاد الإسلام إلا خائفين أذلاء صاغرين.(50/1)
تفسير قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً)
قال الله تعالى: [وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:109 - 110].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يحذر الله تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو أو الاحتمال حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه.
كما قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسداً إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا فأنزل الله فيهما: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم) الآية.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري في قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب) قال: هو كعب بن الأشرف اليهودي.
وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبي، حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أنزل الله: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم) إلى قوله: (فاعفوا واصفحوا)، وقال الضحاك عن ابن عباس: إن رسولاً أمياً يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم ولكنهم جحدوا ذلك كفراً وحسداً وبغياً.
وكذلك قال الله تعالى: {كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] يقول: من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئاً، ولكن الحسد حملهم على الجحود فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة، وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل الله عليهم وما أنزل من قبلهم بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم.
وقال الربيع بن أنس: (من عند أنفسهم) من قبل أنفسهم، وقال أبو العالية: (من بعد ما تبين لهم الحق) من بعد ما تبين أن محمداً رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به حسداً وبغياً إذ كان من غيرهم، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس والسدي.
وقوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109] مثل قوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره): نسخ ذلك قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فنسخ هذا عفوه عن المشركين، وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي: إنها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك أيضا قوله تعالى: (حتى يأتي الله بأمره)].
في هذه الآية الكريمة بيان فضل الله تعالى وإحسانه إلى عباده المؤمنين حيث أخبرهم بعداوة أعدائهم من اليهود والنصارى وسائر المشركين، وأنهم لا يودون الخير للمسلمين، وإنما يودون أن يعودوا كفاراً مثلهم فيدخلون معهم النار نسأل الله العافية؛ ولهذا قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109] لا عن جهل بل عن بصيرة: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] هذا هو حال الكفرة من اليهود والنصارى والمشركين فهم لا يودون الخير للمسلمين وإنما يودون أن يكونوا مثلهم، ولا يرضون عنهم حتى يساووهم في الكفر؛ ولهذا قال سبحانه في الآية الأخرى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وقال سبحانه في هذه الآية: ((وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ)) أي: من قبل أنفسهم ((مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)) فاليهود والنصارى أنزل الله عليهم الكتب، أنزل الله على موسى التوراة، وأنزل على عيسى الإنجيل، فقرأ اليهود والنصارى التوراة والإنجيل فعرفوا نبي هذه الأمة، وعرفوا أن المسلمين على الحق ولكن لوجود البغي والحسد في أنفسهم صاروا يكيدون على الإسلام وأهله.
فالله تعالى أخبر عباده بعداوة اليهود والنصارى للإسلام والمسلمين، يقول الله تعالى عنهم في آية أخرى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] أي: تكونون مثلهم، والكفرة يودون قطع أسباب المدد والخير عن المسلمين، وذلك من شدة حسدهم كما قال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105].
وهذا يفيد الحذر، وأنه ينبغي للمسلم أن يحذر من أعداء الله، ومن كيدهم ومخططاتهم ودسائسهم، ولا سيما في هذا العصر الذي جلب فيه الكفرة على المسلمين الغزو الفكري، حيث وجدت الفضائيات وشبكات الإنترنت التي تهدد الأسرة في عقر دارها، ينشرون عقائدهم، ويدعون الناس إلى أديانهم، وإلى أخلاقهم الخبيثة، كالتفسخ، والعري، والتشكيك في الإسلام وفي أهله وفي أصوله.
فهذا من البلاء والمصائب التي نزلت على الأمة الإسلامية فعظمت الفتنة والتبس الأمر على كثير من الناس، والنتيجة أنك ترى كثيراً من الناس يجتمع عنده الشبهات والشهوات.
فالشبهات تأتي بسبب الفتن التي تلقى في الصحف والمجلات، والإذاعات، والفضائيات، والشبكات، وكل هذه تنشر الفساد والعري والتفسخ.
والشهوات تأتي بسبب انفتاح الدنيا على الناس، ووجود المال بين أيديهم ولا حول ولا قوة إلا بالله، والمعصوم من عصمه الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد رضي الله عنه أخبره قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى.
قال الله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109])].
هذه الآية فيها الأمر بالعفو والصفح حتى يتقوى المسلمون ويأذن الله لهم بالجهاد، فلما تقوى المسلمون شرع الله لهم الجهاد.
ففي مكة كان المسلمون قلة، ثم لما هاجروا إلى المدينة وتقووا وصارت لهم دولة وبلد أذن الله لهم بالجهاد، ففي أول الأمر قال تعالى: ((فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا))، وقوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف:89] {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106] {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقوي المسلمون أنزل الله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] والقتال في هذه الآية لم يكن عزيمة وإنما رخصة.
ثم أذن الله في قتال من قاتل، والكف عمن لم يقاتل: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191] ثم بعد ذلك جاء الأمر بالجهاد عام بدءاً وهجوماً ودفاعاً لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد} [التوبة:5] وقوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36].
فالجهاد شرع على مراحل: في بداية الأمر كان النبي مأموراً بالصفح والإعراض عنهم، ثم جاءت الرخصة في القتال، ثم أذن في القتال دفاعاً فقط، ثم شرع الجهاد بدءاً وهجوماً ودفاعاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(وكان رسول الله صل(50/2)
تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة إن الله بما تعملون بصير)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:110] يحثهم تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52]؛ ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:110] يعني: أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل ولا يضيع لديه سواء كان خيراً أو شراً، فإنه سيجازي كل عامل بعمله.
وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)): هذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين أنهم مهما فعلوا من خير أو شر، سراً وعلانية فهو به بصير، لا يخفى عليه منه شيء فيجزيهم بالإحسان خيراً وبالإساءة مثلها، وهذا الكلام وإن كان قد خرج مخرج الخبر فإن فيه وعداً ووعيداً، وأمراً وزجراً؛ وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مذخوراً لهم عنده حتى يثيبهم عليه كما قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّه} [البقرة:110] وليحذروا معصيته، قال: وأما قوله: (بصير) فإنه مبصر صرف إلى بصير كما صرف مبدع إلى بديع ومؤلم إلى أليم، والله أعلم].
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:110]: هذا خبر بأن من عمل خيراً فسيجده عند الله والله بصير بعمله، فالخبر هنا بمعنى الأمر والامتثال والنهي، والمعنى: امتثلوا الأوامر واجتنبوا النواهي فإن الله مجازيكم على أعمالكم؛ لأنه بصير بأعمالكم خبير بها، لا تخفى عليه أعمالكم، ولا أقوالكم، ولا نياتكم وسوف يجازي كلاً بعمله كما قال في آية أخرى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، وقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]، وقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبو زرعة أخبرنا ابن بكير حدثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يقرأ هذه الآية: (سميع بصير) يقول: (بكل شيء بصير))].
هذا الحديث في سنده ابن لهيعة وفيه ضعف، فالحديث لا يصح.(50/3)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلامن كان هوداً أو نصارى)
قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة:111 - 113].
قال المؤلف رحمه الله: [يبين الله تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه؛ حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة، أنهم قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك، وكما تقدم من دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة ثم ينتقلون إلى الجنة، ورد عليهم تعالى في ذلك، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة ولا بينة فقال: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111]، وقال أبو العالية: أماني يمنوها على الله بغير حق، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس].
فالأماني إذا لم يكن عليها دليل تكون باطلة، كمن يتمنى شيئاً وهو لا يعمل له.
واليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا اليهود، والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا النصارى، وهذا تمنٍ؛ ولهذا قال الله لهم: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة:111] أي: هاتوا الدليل، وفي الآية الأخرى أخبر الله عن اليهود بقوله: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] وهي الأيام التي عبدوا فيها العجل فأكذبهم الله، وفي الآية الأخرى ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه فأكذبهم الله، فهذه دعاوى، وكل دعوى لا دليل عليها ولا برهان فهي باطلة، فلا بد من الدليل، وإذا كنتم أبناء الله وأحباؤه فاعملوا ما يقربكم إلى الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال تعالى: (قل) أي: يا محمد! (هاتوا برهانكم) قال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس: حجتكم، وقال قتادة: بينتكم على ذلك، (إن كنتم صادقين) أي: فيما تدعونه].(50/4)
تفسير قوله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن)
قال المؤرلف رحمه الله تعالى: [ثم قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة:112] أي: من أخلص العمل لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران:20] الآية، وقال أبو العالية والربيع: (بلى من أسلم وجهه لله).
يقول من أخلص لله، وقال سعيد بن جبير: (بلى من أسلم): أخلص، (وجهه): قال: دينه، (وهو محسن) أي: اتبع فيه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن للعمل المتقبل شرطين: أحدهما: أن يكون خالصاً لله وحده.
والآخر: أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، فمتى كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يتقبل؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم من حديث عائشة عنه عليه الصلاة والسلام، فعمل الرهبان ومن شابههم وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله فإنه لا يتقبل منهم حتى يكون ذلك متابعاً للرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39]، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:2 - 5].
وروي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي.
وأما إن كان العمل موافقاً للشريعة في الصورة الظاهرة ولكن لم يخلص عامله القصد لله تعالى؛ فهو أيضاً مردود على فاعله، وهذا حال المرائين والمنافقين كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4 - 7]؛ ولهذا قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وقال في هذه الآية الكريمة: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة:112]، وقوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112]، ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور، وآمنهم مما يخافونه من المحذور (فلا خوف عليهم) فيما يستقبلونه (ولا هم يحزنون) على ما مضى مما يتركونه كما قال سعيد بن جبير: (فلا خوف عليهم) يعني: في الآخرة (ولا هم يحزنون) يعني: لا يحزنون للموت].
هذان الشرطان لا بد منهما في قبول العمل: الأول: أن يكون العمل موافقاً للشرع، والثاني: أن يكون خالصاً لله.
قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة:112] هذه الآية فيها إخلاص العمل لله، فأسلم وجهه لله: أي: أخلص العمل لله، فلابد لكل عمل يعمله الإنسان من هذين الشرطين.
(وهو محسن) أي: صار عمله حسناً، والعمل الحسن هو: الموافق للشرع، قال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110] وقال سبحانه في الآية الأخرى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:22].(50/5)
تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء)
قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:113] [أي: أن اليهود يعلمون أن التوراة حق من عند الله، وأن من عمل بها في زمن موسى عليه الصلاة والسلام حتى جاء عيسى عليه الصلاة والسلام فهو على الحق، وكذلك النصارى يعلمون أن الله أنزل الإنجيل على عيسى، وأن من آمن بعيسى حتى جاء محمد عليه الصلاة والسلام فهو على الحق.
واليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ذمهم الله على هذه المقالة].(50/6)
بيان معنى قوله تعالى: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:113]، بين بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا به من القول، وهذا من باب الإيماء والإشارة، وقد اختلف فيمن عني بقوله تعالى: (الذين لا يعلمون) فقال الربيع بن أنس وقتادة ((كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) قالا: وقالت النصارى مثل قول اليهود وقيلهم، وقال ابن جريج: قلت لـ عطاء من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل.
وقال السدي ((كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) فهم العرب، قالوا: ليس محمد على شيء، واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع، ليس ثم دليل قاطع يعين واحداً من هذه الأقوال والحمل على الجميع أولى والله أعلم.
وقوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة:113] أي: أنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد، ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17]، وكما قال تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:26]].
فالله سبحانه وتعالى سوف يجمعهم يوم القيامة ويحكم بينهم بحكمه العدل سبحانه وتعالى، ويجازيهم على أعمالهم، وحينئذ يزول الباطل والبهرج، ويظهر الحق وتظهر مخبئات الصدور، ويميز الله الخبيث من الطيب، ويعلم اليهود الذين ماتوا على الكفر أنهم على الباطل، وكذلك النصارى، وأنه ليس على الحق إلا من آمن بالله ورسله واتبع أنبياءه.(50/7)
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)(50/8)
أقوال المفسرين في المراد بالذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها
يقول الله عز وجل: [{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها على قولين: أحدهما: ما رواه العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)) قال: هم النصارى، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: ((وَسَعَى فِي خَرَابِهَا)) قال: هو بختنصر وأصحابه خرب بيت المقدس وأعانه على ذلك النصارى.
وقال سعيد عن قتادة: قال: أولئك أعداء الله النصارى حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس، وقال السدي: كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه وأمر أن تطرح فيه الجيف، وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا، وروى نحوه عن الحسن البصري.
القول الثاني: ما رواه ابن جرير قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم وقال لهم: (ما كان أحد يصد عن هذا البيت وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده) فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق.
وفي قوله: (وسعى في خرابها) قال: إذ قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة، وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة:114] ثم اختار ابن جرير القول الأول واحتج بأن قريشاً لم تسع في خراب الكعبة، وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس.
قلت: والذي يظهر والله أعلم القول الثاني كما قاله ابن زيد.
وروي عن ابن عباس: لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس كان دينهم أقوم من دين اليهود].
قوله: (لأن النصارى إذا منعت اليهود) الأحسن أن يقال: (لأن النصارى إذ منعت) فـ (إذ) ظرف بمعنى حين، والتقدير: لأن النصارى حين منعوا اليهود قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكانوا أقرب منهم، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولاً إذ ذاك؛ لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم؛ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.
وأيضاً فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وأما اعتماده على أن قريشاً لم تسع في خراب الكعبة فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم كما قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال:34] وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:17 - 18] وقال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25] فقال تعالى: ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ)) فإذا كان من هو كذلك مطروداً منها مصدوداً عنها فأي خراب لها أعظم من ذلك؟! وليس المراد من عمارتها زخرفتها، وإقامة صورتها فقط إنما عمارتها بذكر الله فيها، وإقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس والشرك].
ذكر ابن كثير رحمه الله، المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها على قولين لأهل العلم: القول الأول: أن المراد بهم نصارى الروم حينما أعانوا بختنصر على تخريب بيت المقدس، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله، والمراد بالخراب: الخراب الحسي، خراب بيت المقدس.
والقول الثاني: أن المراد بهم كفار قريش الذين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين عن المسجد الحرام، وعن ذكر الله، ومنعوا المسلمين من العمرة، والمراد بالخراب: الخراب المعنوي وهذا هو الذي اختاره الحافظ ابن كثير.
وهذا هو الأصح؛ لأن الخراب الحقيقي هو الخراب المعنوي؛ والعمارة الحقيقية للمساجد إنما تكون بذكر الله وإقامة الصلاة فيها، وتعلم العلم وتعليمه وغير ذلك مما فيه قوام المسلمين.
وكان المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه هو المنطلق الذي تنطلق منه الجيوش، وكانوا يتشاورون فيه، ويتعلمون العلم، ويذكرون فيه اسم الله.
أما العمارة الحسية، فهذه لا بأس بها، ولو لم يجد الناس مسجداً للصلاة، فإنهم يصلون على الأرض، ويجعلون حاجزاً أو سترة.
فالخراب المعنوي ليس بسيطاً، فهو الخراب الحقيقي للمساجد المتمثل بتعطيلها عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهذا من الصد عن ذكر الله.
وقد علل الحافظ ابن كثير لهذا القول بتعليلين: أولاً: أن الخراب المعنوي أشد من الخراب الحسي، والخراب المعنوي هو الخراب الحقيقي، وأما الخراب الحسي فهو تبع له، فإذا خرب المسجد أو هدم فإنه يبنى مرة أخرى، لكن الخراب المعنوي مصيبة.
وثانياً: سياق الآية يقتضي هذا وهو أن الله تعالى ذم اليهود والنصارى لقولهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] ثم جاء الذم لكفار قريش بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [البقرة:114] فترتيب السياق يقتضي ذم اليهود والنصارى ثم ذم المشركين.
أما إذا كانت الآية بمعنى الخراب الحسي يكون معنى الآية تابعاً لذم اليهود والنصارى، والقاعدة: أن التأسيس مقدم على التأكيد، أي: تأسيس معنىً جديد، فتكون الآية قد أضافت معنىً جديداً غير المعنى السابق في الآية السابقة.
فعلى القول الأول الذي اختاره ابن جرير تكون الآية فيها ذم للنصارى كالآية التي قبلها وليس هناك معنىً جديداً، أما على القول الثاني فإن فيها معنىً جديداً وهو ذم الكفار والمشركين لصدهم المؤمنين عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:114] هذا خبر معناه الطلب].
هذا الخبر مثل ما قاله عليه الصلاة والسلام: (ليس المسكين الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، وإنما المسكين الذي لا يجد غناً يغنيه، ولا يقوم فيسأل الناس، ولا يسأل له فيتصدق عليه) المسكين: هو الذي يسأل الناس، فهذا يعطيه تمرة وهذا يعطيه لقمة، لكن أشد منه مسكنة هو الذي لا يقوم فيسأل الناس وليس عليه علامة الفقر، ولا يسأل له فيتصدق عليه، فيمتنع من السؤال لأجل الحياء.
والمراد من لفظة: (المساجد) هو كل مسجد إلى يوم القيامة؛ لأن النص عام ورد بصيغة الجمع، وتخصيصها ببعض المساجد وبعض الأشخاص ضعيف.
ومنع المساجد من ذكر الله في كل زمان لا شك أنه داخل في معنى هذه الآية.(50/9)
بيان معنى قوله تعالى: (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:114] هذا خبر معناه الطلب، أي: لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية؛ ولهذا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القادم في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: (ألا لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته) وهذا إذا كان تصديقاً وعملاً].
(إذا) زائدة تحذف، فتكون العبارة هكذا: (وهذا كان تصديقاً) لكن إذا حذفت، يستقيم المعنى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا كان تصديقاً وعملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]].
هذه الآية خبر بمعنى الأمر، والمعنى: إذا قدرتم عليهم فلا تمكنوهم من دخولها إلا خائفين، وحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال بعضهم: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها، والمعنى: ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وغيرهم.
وقيل: إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم، وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان، وأن يجلى اليهود والنصارى منها ولله الحمد والمنة، وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام].
قوله: (وما ذاك إلاتشريف) الصواب أن يقول: وما ذاك إلا لتشريف أكناف المسجد الحرام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو الخزي لهم في الدنيا؛ لأن الجزاء من جنس العمل فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام صدوا عنه، وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114] على ما انتهكوا من حرمة البيت، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، ودعاء غير الله عنده والطواف به عرياً، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله، وأما من فسر بيت المقدس فقال كعب الأحبار].
الصواب أن يقول: وأما من فسره ببيت المقدس، وهذا هو القول الأول الذي اختاره ابن جرير وقد فسره بتخريب بيت المقدس كما فعل بختنصر، وهذا القول ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما من فسر بيت المقدس فقال كعب الأحبار: إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:114] الآية فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفاً.
وقال السدي: فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها، وقال قتادة: لا يدخلون المساجد إلا مسارقة.
قلت: وهذا لا ينفي أن يكون داخلاً في معنى عموم الآية فإن النصارى لما ظلموا بيت المقدس بامتهان الصخرة التي كانت تصلي إليها اليهود عوقبوا شرعاً وقدراً بالذلة فيه إلا في أحيان من الدهر أشحن بهم بيت المقدس.
وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضاً أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم، والله أعلم.
وفسر هؤلاء الخزي في الدنيا: بخروج المهدي عند السدي وعكرمة ووائل بن داود، وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون، والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد: أخبرنا الهيثم بن خارجة، أخبرنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس قال: سمعت أبي يحدث عن بسر بن أرطأة].
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: (اللهم! أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة) وهذا حديث حسن، وليس في شيء من الكتب الستة، وليس لصحابيه وهو بشر بن أرطأة حديث سواه، وسوى حديث: (لا تقطع الأيدي في الغزو)].
وبسر قال عنه أبو داود: ثقة، وقال ابن عمار ثقة، وقال محمد بن سعيد والعجلي والبزار وابن حبان بأنه ثقة.(50/10)
تفسير سورة البقرة الآية [115]
يشرع للمسافر أن يصلي النافلة حيث توجهت به راحلته، كما يشرع لمن حضر القتال ودهمه العدو وقت المسايفة أن يصلي الفرض، ومن التبس عليه أمر القبلة فلم يدر إلى أين يتوجه فليتحر وليجتهد ثم ليصل، وإذا تبين خطؤه بعد ذلك فلا إعادة عليه، وهذا كله تيسيراً من الله لعباده ودفعاً للمشقة والحرج عنهم.(51/1)
تفسير قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله)
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا -والله أعلم- فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه، فلما قدم المدينة وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد؛ ولهذا يقول تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} [البقرة:115] قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ: أخبرنا حجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس قال: أول ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر لنا -والله أعلم- شأن القبلة، قال الله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:150].
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، وكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [البقرة:144] إلى قوله: (فولوا وجوهكم شطره) فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142] فأنزل الله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب} [البقرة:142] وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} [البقرة:115] وقال عكرمة عن ابن عباس: ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه)) قال: قبلة الله أينما توجهت شرقاً أو غرباً].
هذه الآية الكريمة وهي قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] ذكر فيها الحافظ أقوالاً للعلماء وهي ما يأتي: القول الأول: إنها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حينما فاته التوجه إلى الكعبة، فقد كان في مكة قبل الهجرة، يستقبل بيت المقدس، والكعبة بين يديه، يستقبلهما جميعاً، فلما هاجر إلى المدينة فاته ذلك فكأنه حصل في نفسه بعض الشيء فأنزل الله هذه الآية تسلية له ولأصحابه، والمعنى: أينما تتوجهوا فالله تعالى هو الذي أمركم، وهذه طاعته.
والقول الثاني: أن هذه الآية نزلت قبل أن يوجه إلى الكعبة، فحينما هاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام كان يتوجه إلى أي جهة كانت، فبين الله تعالى أن الجهات كلها له وهي ملك لله عز وجل، وأن أي جهة توجه إليها بإذن الله وبأمره فذاك طاعة الله؛ ولهذا أنزل الله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} [البقرة:115]-وهذه الآية فيما إثبات صفة الوجه لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته- فأنتم حينما تتوجهون إلى أي جهة بإذن الله وطاعته فذاك امتثال لأمر الله، ثم وجه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك إلى الكعبة.
والقول الثالث: أن هذه الآية أنزلت في صلاة النافلة، وأن المسلم إذا كان يصلي على راحلته في السفر فإنه يتوجه إلى أي جهة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته وهو مسافر إلى جهة سيره، إلى الشرق، أو إلى الغرب، أو إلى الشمال، أو إلى الجنوب؛ ولهذا قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} ومعنى فثم وجه الله، أي: فثم جهة الله.
فإذا صليتم على الرواحل أو على المركوب إلى أي جهة وأنتم مسافرون، فذاك وجه الله وقبلته.
القول الرابع: أن هذه الآية نزلت في قوم في الصحراء عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة، منهم من صلى إلى الشرق اجتهاداً، ومنهم من صلى إلى الجهة الأخرى، فلما أصبحوا وجدوا أنهم صلوا إلى غير القبلة فأنزل الله هذه الآية: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه}.
فالإنسان إذا كان في الصحراء وشك في القبلة فيجب عليه أن يجتهد لها عن طريق العلامات التي يعرفها ويصلي على حسب اجتهاده، فإن تبين بعد ذلك أنه صلى إلى غير القبلة فصلاته صحيحة.
القول الخامس: أن هذه الآية نزلت في النجاشي رحمه الله؛ وذلك أنه لما أسلم كان يتجه إلى بيت المقدس، ثم نسخ الله التوجه إلى الكعبة، وهو لم يعلم، واستمر على توجهه إلى بيت المقدس فأنزل الله هذه الآية: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} [البقرة:115].
القول السادس: أن هذه الآية نزلت في الدعاء، وأن المسلم إذا دعا ربه ورفع يديه إلى أي جهة فثم وجه الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: (فأينما تولوا فثم وجه الله): حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها: الكعبة.
وقال ابن أبي حاتم بعد رواية الأثر المتقدم عن ابن عباس في نسخ القبلة عن عطاء عنه، وروي عن أبي العالية والحسن وعطاء الخراساني وعكرمة وقتادة والسدي وزيد بن أسلم نحو ذلك.
وقال ابن جرير: وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة].
وهذا هو القول الثاني.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما أنزلها ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب؛ لأنهم لا يوجهون وجوههم وجهاً من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية].
لأن في ذلك طاعة الله وامتثال أمره، وقد كان الصحابة قبل أن يوجهوا إلى الكعبة يتوجهون إلى جهات متعددة، فإذا توجهوا إلى أي جهة وقد أذن الله له فذاك طاعة الله وامتثال أمره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لأن له تعالى المشارق والمغارب، وأنه لا يخلو منه مكان].
في هذه الآية أن الله تعالى مالك الجهات كلها فهو مالك المشارق والمغارب.
قال بعض العلماء في هذه الآية: إنها من آيات الصفات التي فيها إثبات الوجه لله، ومن العلماء من قال: ليس فيها إثبات الصفة.
وعلى كل حال فمن قال: إن هذه الآية فيها إثبات الوجه لله، ضم إلى ذلك أدلة أخرى، أما وحدها بمفردها فقد لا تدل؛ ولهذا قال بعضهم في معنى قوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} [البقرة:115] فثم جهة الله وقبلته، فليست هذه الآية من آيات الصفات.
ومن قال: إنها من آيات الصفات ضم إليها غيرها من الأدلة فأثبت الوجه لله عز وجل.
والوجه ثابت لله في نصوص أخرى صريحة منها قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27].
ولا يلزم من قول الذين قالوا: جهة الله أنها بمعنى: إثبات صفة الوجه؛ لأن الآية ليست صريحة في إثبات الوجه.
والوجه ثابت لله تعالى في أدلة كثيرة صريحة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأنه لا يخلو منه مكان كما قال تعالى: {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجه إلى المسجد الحرام هكذا قال].
هذا القول قاله ابن جرير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي قوله: وأنه تعالى لا يخلو منه مكان إن أراد علمه تعالى فصحيح فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً].
هذا صحيح كما ذكر الحافظ، فإن كلمة ابن جرير موهمة أنه تعالى في كل مكان، فإن أراد أن علمه في كل مكان فصحيح، أما ذاته سبحانه وتعالى فهو فوق العرش، ولكن ينبغي أن يحمل كلام ابن جرير على هذا؛ لأنه من أهل السنة والجماعة، ولا يمكن أن يحمل كلامه على أن ذاته تعالى في كل مكان، فإن هذا قول الحلولية وهو كفر، وابن جرير رحمه الله من أئمة أهل السنة والجماعة فلا يمكن أن يحمل كلامه إلا على معتقدات أهل السنة والجماعة التي دلت عليها النصوص.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذناً من الله أن يصلي المتطوع حيث توجه من شرق أو غرب].
وهذا هو القول الثالث.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حيث توجه من شرق أو غرب في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة وشدة الخوف].
والمسايفة تعني: القتال بالسيف، فإذا كان المؤمنون في حالة جهادهم يقاتلون العدو فإنهم يصلون إلى الجهة التي فيها العدو، فإذا كان العدو في جهة الشرق صلوا إلى جهة الشرق، وإذا كان العدو في جهة الشمال صلوا إلى جهة الشمال وبذلك يسقط استقبال القبلة، وكذلك في المسايفة: وهي القتال بالسيوف وقرب المسلمون من عدوهم، ففي هذه الحالة ما يمكن استقبال القبلة.
كما في البخاري في صلاة الخوف أنهم إذا اشتد الخوف ص(51/2)