تفسير قوله تعالى: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه)
قال تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة:19].
يعني: أن علامة الفوز والنجاح يومئذٍ هي أن يعطى الإنسان كتابه بيمينه، وهذا ما فسرته كثير من الآيات والأحاديث، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
إن الآيات التي ورد فيها أمر هذا الكتاب الذي يعطاه كل إنسان هو كتاب حقيقي؛ وذلك لقوله تبارك وتعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، وقوله تبارك وتعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، وقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ} [الإسراء:13 - 14].
لا شك أن هذا في جانب ما ورد من الأحاديث في وصف هذا الكتاب كله يدفع ويبطل تأويل الكتابين باليُمن والشؤم، يقول بعض المؤولين: ((من أوتي كتابه بيمينه)) هذا كناية عن اليمن، ومن أوتي كتابه بشماله هذا كناية عن الشؤم.
وهذا التأويل تحريف لكلام الله عز وجل؛ لأن الكتاب المذكور في النصوص هو كتاب حقيقي، فلماذا يؤولون النصوص مع كونها واضحة.
قوله: {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} يعني: تعالوا أو خذوا اقرءوا كتابيه.
قوله: ((كتابية)) الهاء هنا هاء السكت، وليست ضمير غيبة.
قوله تعالى: ((هاؤم)) يعني: تعالوا أو هلموا أو خذوا، وقيل: هي كلمة لإجابة الداعي عند النشاط والفرح.(180/9)
تفسير قوله تعالى: (إني ظننت أني ملاق حسابيه)
قال تبارك وتعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20].
قوله: ((إِنِّي ظَنَنتُ)) أي: علمت أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ.
قوله تعالى هنا: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ معروف أن الظن واسطة بين الشك وبين العلم، وقد يأتي الظن بمعنى العلم إذا وجدت قرائن، وذلك مثل قوله تبارك وتعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:53] قوله: ((فظنوا)) أي: علموا وتيقنوا، بقرينة قوله تعالى: {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:53].
كذلك هنا في قوله: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فهي أيضاً بمعنى العلم؛ لأن العقائد لا يصلح فيها الظن.
إذاً: قوله إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ يعني: كنت أؤمن بالبعث والنشور والحساب والجزاء ولست ممن كان ينكر البعث والنشور، فظننت أني ملاق حسابيه، وأني سأُجازى يوم الحساب، فلذلك أعددت له عدة.
إذاً: العقائد لا تقوم على الظن، وإنما تقوم على اليقين والعلم، فمن ثم ففي الكلام على العقائد لا يمكن أن يكون الظن بمعنى الشك، وإنما الظن بمعنى العلم، أي: علمت وأيقنت أني ملاق حسابيه.
ودل القرآن أيضاً على أن الظن قد يكون بمعنى العلم؛ وذلك بمفهوم قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، هذا هو المنطوق، أما المفهوم فهو أن البعض الآخر حق وليس إثماً، وهو ما كان حقاً، وقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] فوصف المؤمنين بأنهم يؤمنون بلقاء الله وبالبعث وبالنشور وبالحساب والجزاء، فما دام الموضوع هنا متعلقاً بالعقيدة فلا يمكن فيها إلا اليقين وليس الظن، ويكون الظن هنا بمعنى العلم.
قوله: ((إِنِّي ظَنَنتُ)) أي: علمت.
قوله: ((أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ)) أي: ملاقٍ جزائي يوم القيامة فأعددت له عدته، من الإيمان والعمل الصالح؛ لأن الإيمان بالبعث والنشور ركن من أركان الإيمان، ويثاب الإنسان على التصديق به، لكن لا يكفي فقط في النجاة من العذاب، فلابد مع الإيمان بالبعث والنشور أن تعد العدة للقاء الله، وأن تعد للسؤال جواباً، فمن ثم نقول في تفسير قوله: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ إني علمت أني ملاق جزائي يوم القيامة، فأعددت له عدته من الإيمان والعمل الصالح.(180/10)
تفسير قوله تعالى: (فهو في عيشة راضية في الأيام الخالية)
قال تبارك وتعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:21 - 24].
قوله: ((عيشة راضية)) يعني: ذات رضاً ملتبسة به، فيكون بمعنى عيشة مرضية، كقوله تبارك وتعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] بمعنى مدفوق، يعني: أتى اسم الفاعل مراداً به اسم المفعول، كذلك هنا (عيشة راضية) يعني: عيشة مرضية، أو عيشة ذات رضاً، كما تقول: لابنٌ وتامرٌ، يعني: صاحب لبن، وصاحب تمر.
أو قوله: (في عيشة راضية) أي: في عيشة راض صاحبها، فأسند الرضا إليها، وجعلها كأنها نفسها راضية.
قوله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:22 - 23].
قوله: ((قطوفها)) تقول: (قِطف) بكسر القاف، وهو ما يقطف من ثمرها.
قوله: ((دانية)) أي: قريبة سهلة التناول.
قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} [الحاقة:24] أي: يقال لهم: كلوا واشربوا.
قوله: ((هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)) أي: الماضية في الحياة الدنيا.
وناقشنا مراراً الرد على الملاحدة والمشركين والكفار من النصارى المستشرقين والمنصرين الذين يطعنون في الإسلام وقلنا: إن الإسلام يعد المؤمنين بمتاع حسي في الجنة، فالجنة تشمل كل أنواع النعيم الحسي والنفسي والروحي، يقول تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] أي: ورؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة هي أعظم نعيم الجنة على الإطلاق، بحيث إنه إذا كشفت الحجب ورأوا ربهم سبحانه وتعالى ونظروا إليه يتلهون عن كل ما عدا ذلك من النعيم، وهذا نعيم معنوي وليس نعيماً حسياً، فالإنسان جسم وروح، جسد ونفس، فاقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى وفضله على المؤمنين أن ينعم أرواحهم وينعم أيضاً أجسادهم، وهذا ليس فيه أي معرة، وإنما حرم النصارى أنفسهم من هذا كله بسبب آثار رهبانيتهم التي ابتدعوها، وحرموا بسببها ما أحل الله من الطيبات، ونظروا إلى النعم الحسية على أنها نجس، حتى إنهم نفروا من الزواج ومن أطايب الطعام والشراب ونحو ذلك، فهذه رهبانيتهم المشئومة مخالفة لقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف:32] يشتركون فيها مع غيرهم {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] فقط لمن آمن.
وهناك كثير من الأدلة التي تدل على إبطال ما يزعمونه، ومن ذلك أنهم يعتقدون أن آدم وحواء كانا في الجنة، وأنهما أكلا من الشجرة، وهذا يدل على أن الجنة فيها أشجار وفيها ثمار تؤكل، وهذا مما نحتج به عليهم، وإن كانت عقيدتهم في قصة آدم وحواء دخلها شيء من التحريف كما هي في سجيتهم.(180/11)
تفسير قوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه بشماله هلك عني سلطانيه)
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25 - 29].
قال تبارك وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ} [الحاقة:25] أي: الكافر سيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، كما أوضحته الآية الأخرى، فعندما يلاقي العذاب ويؤتى كتابه بشماله يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25 - 26] يعني: أي شيء حسابي.
قوله تعالى: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27] قال ابن جرير: يعني: يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت هي الفراغ من كل ما بعدها، ولم يكن بعدها حياة ولا بعث ولا نشور.
قوله: ((يَا لَيْتَهَا)) الهاء تعود على الموتة التي ماتها في الدنيا كما يعتقد كثير من الكفار أنه لا حساب ولا بعث ولا نشور ولا حياة أخرى، وإنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع، والإنسان ينتهي بمجرد أن يموت، وهذا مخالف للحقيقة، وفي ذلك يقول بعض الشعراء: فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حيّ ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيِّ والقاضية بمعنى القضاء وهو الفراغ.
قوله: ((يَا لَيْتَهَا)) يحتمل أن المعنى يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت هي الفراغ من كل ما بعدها، ولم يكن بعدها حياة ولا بعث، أو: ((يا ليتها)) يعني: يا ليتني قبل أن آخذ كتابي وقبل أن أعذب أموت موتاً يقضي عليّ وتخرج روحي فلا تعود أبداً.
قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:28] يعني: ما دفع عني من عذاب الله شيئاً.
و (ما) هنا قيل: إنها استفهامية، وقيل: إنها نافية، فأما على القول بأن (ما) استفهامية فيكون المعنى: ما الذي أغنى عني المال الذي كنت أملكه في الدنيا؟ يعني: أي شيء أغنى عني؟
و
الجواب
لا شيء.
أو تكون (مَا) نافية فيكون المعنى: لم يغن عني ماليه، وهذا كقوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] وقوله تبارك وتعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2].
قوله تعالى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:29] أي: لم تبق لي حجة أحتج بها، فهذا المال والجاه والملك والتسلط على الناس لم يغن عني شيئاً.(180/12)
تفسير قوله تعالى: (خذوه فغلوه فاسلكوه)
قال تبارك وتعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32].
قال تبارك وتعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة: 30] يعني: يقال لخزنة النار: خذوه بالقهر والشدة.
قوله: ((فغلوه)) يعني: ضموا يده إلى عنقه؛ لأنه عندما ملكته هذا المال وهذا السلطان وهذه النعم التي أنعمت بها عليه في الدنيا لم يشكرني على ذلك، فجزاؤه أن يفعل به هكذا.
قوله تعالى: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:31] أي: أدخلوه ليصلى فيها؛ لأنه لم يشكر شيئاً من النعم، فأذيقوه شدائد النقم.
قوله تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ} [الحاقة:32] أي: حلقة منتظمة بأخرى، وهي سلسلة متتابعة الحلقات متصلة.
قوله: {ذَرْعُهَا} أي: مقدارها {سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}، أي: أدخلوه فيها بحيث يكون فيما بين حلقها موثقاً لا يقدر على حركة.
قال بعض المفسرين: إن السبعين هنا عبارة عن الكثرة غير المحصورة، وليست هي العدد المعين، كما قيل أيضاً في قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] والله تعالى أعلم.
ثم أيضاً نحن لا ندري ما مقياس هذا الذارع؟ هل هو بذارع الملك أو بذارع غيره، الله أعلم، فهذا مما يوكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى.
قال بعض المفسرين: إن هذه السلسة كالسيخ تدخل من فمه وتخرج من مؤخرته، والله تعالى أعلم بذلك.(180/13)
تفسير قوله تعالى: (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين)
{إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة:33 - 34].
علل الله عز وجل استحقاقهم للعذاب على طريقة الاستئناف حيث قال تبارك وتعالى: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:33] أي: المستحق للعظمة وحده سبحانه وتعالى، بل كان هذا الكافر يشرك معه الجماد المهين.
قوله تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي: كان لا يحض على إطعام المسكين، بل كان يبخل حتى بالتحريض على إطعام المسكين فضلاً عن أن يبذل هو بنفسه، ولذلك لم يقل: ولا يطعم المسكين، وإنما قال: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}.
فهذا وصفه في غاية الشح؛ لأن الحض لن يكلفه سوى كلمات قليلة، يحض بها الآخرين على أن يطعموا المسكين، لكن بخل بالكلمات لشدة بخله فضلاً عن أن ينفق من ماله، فهو أبعد وأبعد عن ذلك.
قوله: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} معناه: أنه يعذب على عدم الحض والتحريض على إطعام المسكين.
وهذا الآية فيها دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وأن الكافر كما يعذب على الأصول يعذب أيضاً على الفروع، فهو مطالب بالصيام ومطالب بالصلاة وبتحريم شرب الخمر وغيرها مما حرمه الله سبحانه وتعالى، لكن هل تصح منه الصلاة؟ لا تصح منه الصلاة إذا صلى؛ لأنه لا يعرف الله، فكيف ينوي التقرب إلى الله بالعبادة، لكن حتى تصح صلاته لابد أولاً أن يسلم ويدخل في الإسلام ثم يصلي بعد ذلك، ومع ذلك هو مخاطب بفروع الشريعة كما بينا، والدليل على ذلك آيات كثيرة، منها: قوله تعالى هنا: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7] على تفسير الزكاة بأنها زكاة الأموال المعروفة.
وكما أن الإيمان يزيد بالطاعة، والمؤمن يثاب على إيمانه وعلى طاعته، وكلما زاد أعمالاً صالحة زاد ثوابه على الأعمال الصالحة؛ كذلك الكفر يزداد بالمعاصي، ويجازى الكافر على كفره وعلى عصيانه، فالكافر يعذب على الكفر ويعذب أيضاً على العصيان، يقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88]، فيعذبون على الكفر؛ لأنهم كفروا وصدوا عن سبيل الله، وعذاب مزيد؛ لأنهم كانوا يفسدون في الأرض.
وقال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] فدل على أن الكفر أيضاً يزيد بزيادة شعب الكفر من المعاصي ونحوها.
وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران:90] وهذا يدل أيضاً على أن الكفر يزيد بالمعاصي.(180/14)
تفسير قوله تعالى: (فليس له اليوم هاهنا حميم لا يأكله إلا الخاطئون)
{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:35 - 37].
قال عز وجل: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} [الحاقة:35] يعني: قريب تأخذه الحمية له.
قوله تعالى: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:36] الغسلين هو غسالة أهل النار وصديدهم.
قال ابن جرير: كان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: كل جرح غسلته فخرج منه شيء فهو غسلين، (فِعْلِين) من الغسل من الجراح والدبر، وزيد فيه الياء والنون بمنزلة عفرين.
إذاً: الغسلين يعبر عنه بما يخرج من عصارة وغسالة وصديد أهل النار، والعياذ بالله.
قوله تعالى: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:37] أي: الآثمون أصحاب الخطايا، يقال: خَطِئ الرجل إذا تعمد الخطأ، وهناك فرق بين خاطئ ومخطئ، خاطئ يعني: آثم يتعمد الخطأ، لكن المخطئ قد يكون غير متعمد الخطأ، يقول عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)، ويقول الله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].
قال الرازي: قوله: ((وَلا طَعَامٌ)) الطعام ما هيئ للأكل، فلما هيئ الصديد ليأكله أهل النار كان طعاماً لهم، ويجوز أن يكون المعنى أن ذلك أقيم مقام الطعام فسمي طعاماً، كما قال الشاعر: وخيل قد جنحت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع يعني: لما قام الضرب مقام التحية أطلق عليه تحية، وقوله: (ضرب وجيع) أي: ضرب مؤلم.(180/15)
تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون)
قال الله تبارك وتعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ} [الحاقة:38 - 39] هذا القسم ينتظم جميع الأقسام التي وردت في القرآن الكريم؛ لأن هاتين الآيتين أجمل فيهما كل قسم أقسم الله سبحانه وتعالى به في القرآن الكريم؛ لأنه شامل لكل ما يقسم به تعالى، فهو سبحانه يقسم بشيء إما من عالم الغيب أو من عالم الشهادة، فجمعهما الله هنا بقوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ يعني: عالم الشهادة، وَمَا لا تُبْصِرُونَ يعني: عالم الغيب.
و (لا) هنا في قوله: ((فلا أقسم)) فيها قولان: إما أنها مزيدة للتأكيد وتقوية الكلام يعني: أقسم، وهذا معروف في كلام العرب، والقرآن عربي.
وإما أن قوله: ((فلا أقسم)) هو في حد نفسه تركيبة، وهذه التركيبة كلها بتمامها صيغة من صيغ القسم، كما في قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1 - 2] معناه: أقسم بهذا البلد.
يقول القاسمي: قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (وَمَا لا تُبْصِرُونَ) أي: أقسم بالمشاهدات والمغيبات.
يعني: المغيبات بالنسبة للبشر، وليس بالنسبة لله؛ لأنه ليس هناك غيب بالنسبة لله تبارك وتعالى، إنما الغيب يكون للمخلوقين، ولذلك نسب إليهم عدم البصر فقال: وَمَا لا تُبْصِرُونَ.
قال الرازي: وهذا القسم يعم جميع الأشياء على الشمول؛ لأنها لا تخرج من قسمين: مبصر، وغير مبصر، فشمل الخالق والخلق، والدنيا والآخرة، والعالم العلوي والسفلي، وهكذا.
ومن الممكن أن نعد أي آية أخرى في القرآن ورد فيها القسم تفصيلاً لما أجمل في هذا القسم، فهو إما من المبصر المشاهد وإما من المغيبات، فهذه الآية متضمنة كل قسم أقسم الله سبحانه وتعالى به في القرآن الكريم.(180/16)
تفسير قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم)
قال تبارك وتعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40].
قوله: ((إنه)) أي: القرآن الكريم.
قوله: ((لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)) وهو محمد صلى الله عليه وسلم يبلغه عن الله تعالى؛ لأن الرسول لا يبلغ عن نفسه، ويحتمل أن يكون الرسول المذكور هنا هو النبي محمداً صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون جبريل عليه السلام، خاصة وأن الله سبحانه وتعالى قال في سورة التكوير: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21] فهذا جبريل، فيحتمل أن يكون الرسول الكريم هناك هو الرسول الكريم هنا، لكن في سورة التكوير لا تحتمل إلا جبريل، أما في سورة الحاقة فيحتمل الاثنين، لكن مما يرجح أن المراد به هنا هو النبي محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم قول الله تبارك وتعالى بعد ذلك مباشرة: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:41]؛ لأن الذي اتهم بأنه شاعر هو الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يتهم جبريل بأنه شاعر، فهذا السياق يرجح أن المقصود بالرسول هنا هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
إذاً: قوله: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)) يعني: إنه لقول محمد صلى الله عليه وسلم على سبيل التبليغ، وهو من عند الله، والقرينة التي تدل على أن قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) على سبيل التبليغ لا أنه أنشأه هي: قوله بعدها بآيتين: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:43].
وقد نسب القرآن إلى النبي عليه الصلاة والسلام مرة، ونسب إلى جبريل أكثر من مرة، وهذا مما يوضح ومما يرجح تفسير قوله تعالى: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)) بأنه محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأننا إذا فسرناه بجبريل فتكون هذه الآية توكيداً لما ورد في سورة التكوير من أن سند القرآن الكريم يكون عن الرسول عليه الصلاة والسلام عن جبريل عن الله عز وجل، ولا شك أنه يكون الأقوى أن ترد آية تنزه سند القرآن مرة من قبل الرسول البشري، ومرة من قبل الرسول الملكي، حتى يحصل التنزيه لكل سند القرآن الكريم.
إذاً: الأفضل أن نقول هنا في تفسير هذه الآية: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)): هو محمد عليه الصلاة والسلام وهذا تنزيه للرسول البشري، وهناك في سورة التكوير نقول: هو تنزيه للرسول الملكي.
إذاً: خلاصة تفسير قوله تبارك وتعالى: ((إِنَّهُ)) أي: القرآن ((لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)) هو محمد صلى الله عليه وسلم يبلغه عن الله تعالى؛ لأنه وصفه بأنه رسول، والرسول يبلغ ما أرسل به وليس هو المتكلم به.
كذلك قوله تبارك وتعالى بعدها: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:43] يؤكد أن المقصود بقوله: ((لَقَوْلُ رَسُولٍكَرِيمٍ)) على سبيل التبليغ، خلافاً لكلام المستشرقين وأعداء الإسلام الأغبياء، الذين يطعنون في القرآن الكريم ويقولون: القرآن متناقض، مرة يوصف القرآن بأنه قول محمد، ومرة يوصف بأنه قول جبريل، ومرة يوصف بأنه قول الله، فهذا من سفاهة عقولهم، وجهلهم باللغة العربية، إذا كان أهل اللغة العربية يغفلون عن إدراك أسراره إن لم يكونوا من المتضلعين بها، فما بالك بأعاجم لم يشموا رائحة العلم في اللغة العربية وأسرارها وفصاحتها؟! كذلك في سورة التكوير قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] فهذا تنزيه أيضاً للرسول البشري هنا؛ لأنه قال في حق جبريل: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21] ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ} أي: محمد عليه الصلاة والسلام.(180/17)
عقيدة الرافضة في القرآن الكريم
في هذه الآيات الكريمة رد على الرافضة، فالرافضة -قبحهم الله وأخزاهم ونكس رايتهم- يزعمون التغيير والتحريف والنقص في القرآن الكريم، مثل شيعة إيران -قبحهم الله- يزعمون أن القرآن الكريم محرف، ويتهمون الصحابة كـ أبي بكر وعمر بالكفر والزندقة، وسائر الصحابة بأنهم حرفوا القرآن الكريم، فهذه عقيدة الرافضة الملاحدة المجرمون، ولهم كتب في ذلك منها كتاب اسمه: (فصل الخطاب في إثبات تحريف كلام رب الأرباب) لمؤلفه حسين النوري الطبرسي، وهذا المجرم يثني عليه الخميني في كتبه كثيراً، مع أنه مؤلف هذا الكتاب الذي يزعم فيه تحريف كلام الله تبارك وتعالى، ولهؤلاء الرافضة المجرمين الكفرة كلام كثير جداً في الطعن في القرآن الكريم، ثم إذا ناقشتهم في هذه المسألة أو غيرها أنكروا؛ لأنهم يتعبدون بالتقية وليس بالتقوى، فالتقية عندهم بمعنى أن يكون ماهراً في الكذب حتى يخفي عقيدته ومذهبه، فلذلك لا تستطيع مناقشتهم؛ لأنك إذا ناقشت واحداً منهم يقول لك: رضي الله عن الصحابة! ورضي الله عن أبي بكر وعمر! وكذا وكذا، ويظل يمدح فيهم وهو كذاب، هذا ديدنهم وهذه عقيدتهم، فلا يوثق أبداً بنقاش مع شيعي أبداً؛ لأنهم كذابون يتعبدون بالكذب فلا تصلح المناظرة معهم أبداً؛ لذلك الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى لما أتى فريق منهم للمناظرة معه، قال لهم: كيف نتناظر وأنتم لكم أصول ونحن لنا أصول؟! أي: المتناظران لابد أن يرجعا إلى أصول واحدة؛ كي يبطلا الخلاف.
فقال: كيف نتناظر وأنتم لكم أصول ونحن لنا أصول؟ يعني: لكم دينكم ولنا دين، قال: ثم إنكم فوق ذلك أهل كذب ونفاق فهم كذابون لا يوثق بكلامهم أبداً.
والمسلمون طالما خدعوا بهؤلاء الرافضة، وأعتقد أن خطر اليهود مثل خطر الرافضة ولا يقل عنهم إن لم يكونوا هم أشد خبثاً ودهاء وعداء لله ولرسوله للمؤمنين، فهؤلاء أعداء أمة الإسلام، وللأسف الشديد نحن لم نعرف أعداءنا إلى اليوم، ولم نفقه حقيقة هؤلاء المجرمين الطاعنين في صحابة الرسول صلى الله عليه وآله سلم، فهذا الخميني نفسه يترحم على النوري الطبرسي ويلقبه بأنه عالم جليل، مع أنه هو الذي ألف هذا الكتاب الذي فيه دعوى تحريف القرآن! إن الحديث عن الرافضة حديث ذو شجون، ونرجو ألا يأتي يوم يندم فيه هؤلاء الذين لمعوا الرافضة ودافعوا عنهم، وزعموا أن الخلاف بيننا وبين الرافضة كالخلاف بين الحنبلي والشافعي والحنفي وكذا وكذا، لا، بل الخلاف بيننا وبينهم كالخلاف بين اليهودي والنصراني وبين المسلم؛ لأن لهم ديناً ولنا ديناً آخر فنحن مختلفون معهم حتى في الأصول، حتى في القرآن الكريم؛ فهم يعتقدون إما بتحريف القرآن ولهم نصوص في ذلك، وإما أنهم يعتقدون أن القرآن الحقيقي ثلاثة أضعاف القرآن الموجود بيننا، والقرآن الكامل هو مع المهدي المتخفي في السرداب في سامراء، وهذا هراء ووهم في المهدي.
الشاهد من هذا أنهم حينما تواجههم بهذا الكلام يقولون: لا هذا كذب! نحن لا نعتقد بتحريف القرآن، ويدافعون بكلام ينطلي على السذج والبسطاء، لكن من كان فقيهاً بألاعيبهم فإنه يقول لهم: إذاً: أعلنوا البراءة مما جاء في كتابكم المقدس الذي هو كتاب الكافي للكليني، فهذا كتاب مقدس عندهم، فهو عند الشيعة كـ البخاري ومسلم عندنا، ويأخذون منه جل دينهم، ففي داخل هذا الكتاب سب الصحابة وكذا وكذا من هذه الضلالات والانحرافات، وفيه أيضاً الأخبار الكاذبة التي فيها دعوى تحريف القرآن الكريم، وكم مرة تحداهم علماء السنة حينما أنكروا أنهم يعتقدون تحريف القرآن بأن يتبرءوا مما ورد في كتاب الكافي من الطعن في القرآن الكريم، ومع ذلك لا يفعلون ذلك أبداً.
إن الرافضة الآن خاصة بعد قيام دولتهم الشيطانية الخبيثة في إيران عدو لدود للإسلام، فنسأل الله سبحانه وتعالى ألا يمكنهم أبداً من المسلمين، ويكفي حتى تعرفوا خطر الرافضة أن تقرءوا أخبار أهل السنة في إيران، كيف يضطهد أهل السنة في إيران، وحتى الآن يمنع في العاصمة طهران من إقامة مسجد واحد لأهل السنة، مع أن هناك كنائس وهناك معابد يهودية، وهناك أيضاً في طهران معابد للزرادتش وعبدة النار والكفرة، أما أهل السنة فممنوع أن يقام لهم مسجد في طهران من عهد الشاه، وليس فقط من عهد الخميني.
والشيعة الرافضة يشنون حرباً شديدة جداً من أجل تشييع شباب وأطفال أهل السنة والجماعة، ولهم حيل كثيرة جداً، وهذا حديث يطول، كنت أتكلم مع أحد الإخوة القادمين من المنطقة الشرقية في السعودية، فكان يشتكي من الرافضة وعداوتهم لأهل السنة، فقلت له: هل هم كالنصارى مثلاً في بلاد المسلمين؟ قال: لا، النصارى قد يكون عندهم رحمة بالمسلمين، أما هؤلاء فلا يرحمون أهل السنة أبداً إذا تمكنوا، والشيعة لا يعرفون إلا بشيئين اثنين: إما أن تعيش معهم وتذوق حقدهم على أهل السنة، وإما أن تتعلم من التاريخ وتتعلم من الكتب التي تتحدث عن عقائدهم وانحرافهم، ولذلك تجد الذين اصطلوا بنار الشيعة يكونون أشد الناس انفعالاً حينما يسمعون هذا الكلام؛ لأنه يثير الشجون، ويثير المشاعر الأليمة، وما أحداث الحرم التي حصلت قبل عدة سنوات وما فعلوه هناك منا ببعيد؟! على أي حال هذه الآية: ((إنه لقول رسول كريم)) فيها رد على الرافضة في دعواهم تحريف القرآن أو نقصه كما يزعمون.(180/18)
تفسير قوله تعالى: (وما هو بقول شاعر ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون)
قال تبارك وتعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة:41] يعني: كما تزعمون، فإن بين أسلوبه وحقائقه، وبين وزن الشعر وخيالاته بعد المشرقين.
قوله: {قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:41] يعني: قليلاً ما تصدقون بما ظهر من صدقه وبرهانه عناداً وعتواً، والقلة كناية عن عدم الإيمان.
ونصب ((قليلاً)) على أنه نعت لمصدر، يعني: تؤمنون إيماناً قليلاً، والناصب تؤمنون أو تذكرون، و (ما) زائدة.
وقال ابن عطية: يحتمل أن تكون نافية ومصدرية.
إذاً: قوله: ((قليلاً ما تؤمنون)) على اعتبار (ما) نافية يكون المعنى: لا تؤمنون، وعلى أنها مصدرية يكون المعنى: قليلاً إيمانكم، فيكون المقصود بالتعبير عن القلة التعبير عن العدم، يعني: أنتم لا تؤمنون، كذلك أيضاً في قوله تعالى: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:42] أي: كما تدعون بأنه من سجع الكهان.
قوله: ((قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)) أي: تتعظون وتعتبرون، قيل: نفى الإيمان في الأول، ونفي الذكرى في الثاني؛ لأن عدم مشابهة القرآن بالشعر أمر بين لا ينكره إلا معاند؛ لذلك قال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ}، فالفرق بين القرآن وبين الشعر أمر في غاية الوضوح لا ينكره إلا معاند، فلا عذر لقائله في ترك الإيمان، وهو أضل من حمار أهله، وأما مباينته للكهانة فيتوقف على التذكر والتفكر؛ لأن الكاهن يأخذ جعلاً على كهانته، ويجيب عما سئل عنه، ويتكلف السجع، ويكذب كثيراً، وإن التبس على الحمقى بإخباره ببعض المغيبات بكلام منثور.(180/19)
تفسير قوله تعالى: (تنزيل من رب العالمين)
قال تبارك وتعالى: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:43] أي: هو تنزيل ممن ربى العالمين بصنوف نعمه، ومنها: ما نزله وأوحاه لنهتدي به إلى سبل السعادة ومناهج الفلاح، فربط القرآن برب العالمين فيه؛ إشارة وتذكير بتربية الله سبحانه للعالمين بالنعم وإفاضة الخيرات عليهم والإحسان إليهم بإيحاء القرآن وتنزيل القرآن؛ ليهتدوا به إلى سبل السعادة والفلاح.(180/20)
تفسير قوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل عنه حاجزين)
قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} [الحاقة:44] عندما يقرأ المسلم القرآن الكريم يشعر بقوة الله سبحانه وتعالى وعلو الله والهيمنة الإلهية والعظمة، كما في هذا السياق: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا)) فتقطع أنه لا يمكن أن يكون المتكلم بهذا الكلام هو النبي محمداً صلى الله عليه وسلم.
قوله: ((عَلَيْنَا)) هذه نون العظمة.
قوله: ((بَعْضَ الأَقَاوِيلِ)) أي: لو افترى علينا، وسمي الكذب تقولاً؛ لأنه قول متكلف كما تشعر به صيغة التفعل.
و ((الأقاويل)) جمع قول على غير القياس، أو جمع الجمع كالأناعيم جمع أنعام، وقيل: تسمية الأقوال المنكرات أقاويل تحقيراً لها، وأنها جمع أفعولة من القول.
قوله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:45] هذا كقوله تعالى: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الأحقاف:8] أي: لن ينقذني من عذاب الله شيء.
هذه الآية قرأها بعض القراء: (ولو تُقوِّل علينا بعض الأقاويل) وانتصر لها بعض المسلمين استبعاداً بأن يفترض في حق النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتقول على الله ما ليس بحق، وهذا كلام في الحقيقة غير صحيح؛ لأن هذا السياق لا يوهم أنه يمكن أن يقع من النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو افتراض لما لا يتصور وقوعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء الافتراض في القرآن الكريم فيما هو أعظم من ذلك، كما قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] وهذا مجرد افتراض، وإلا فالله عز وجل منزه عن الولد سبحانه، وقال الله تبارك وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] فهذا أيضاً افتراض، ولا يحتمل أن يكون في السماوات والأرض آلهة غير الله.
إذاً: ينبغي للإنسان ألا ينزعج من مثل هذه الافتراضات، فكذلك هنا قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} يعني: على سبيل الافتراض لما لا يتصور وقوعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:46] قال ابن جرير: أي: لأخذنا منه بالقوة منا والقدرة.
قوله: ((الْوَتِينَ)) يعني: نياط القلب، والمعنى: أنه لو فعل ذلك لعاجله بالعقوبة ولا يؤخره بها.
وقد قيل: إن معنى قوله تعالى: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه، وإذا قلنا: ((باليمين)) هي في حق الله سبحانه وتعالى فيكون المعنى: بالقوة منا والقدرة، وذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] أي: عن القوة والقدرة.
قال الزمخشري: والمعنى: ولو ادعى علينا شيئاً لم نقله لقتلناه صبراًً كما يفعل الملوك بمن يكذب عليهم؛ معاجلة بالسخط والانتقام، فصوّر قتل الصبر بصورته؛ ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته، وخص اليمين عن اليسار؛ لأن القاتل إذا أراد أن يوقع الضرب في قفا المراد قتله أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده -أي: في عنقه- وأن يكفحه بالسيف- أي: يعدمه- وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف؛ أخذ بيمينه.
يعني: إذا أخذه بالشمال فيكون الضرب من جهة القفا، لكن الأخذ باليمين معناه: أنه يأخذه من أمامه بحيث يرى السيف وهو يقع على عنقه، وهذا أشد عليه وأصعب.
ثم يقول الزمخشري: ومعنى (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) لأخذنا بيمينه كما أن قوله: ((لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)) لقطعنا وتينه، وهذا بين.
إذاً: مما يقوي القول بأن اليمين المقصود بها يمين النبي عليه الصلاة والسلام نفسه قوله: (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) يعني: وتينه.
وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يتقول على الله باطلاً.
وما قرره الزمخشري أبلغ في المراد، وهو بيان المعاقبة بأشد العقوبة، والقول الأول هو أن معنى قوله: (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) يعني لأخذنا منه بقوتنا وقدرتنا، والقول الثاني: أن معنى قوله: ((لأخذنا منه باليمين)) يعني: بيمينه، وهذا أبلغ في المراد، وهو بيان المعاقبة بأشد العقوبة.
قوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:47] أي: ليس أحد منكم يحجزنا عنه، ويحول بيننا وبين عقوبته لو تقول علينا.(180/21)
تفسير قوله تعالى: (وإنه لتذكرة للمتقين وإنه لحسرة على الكافرين)
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة:48] أي: إن القرآن الكريم لتذكرة وعظة لمن يتقي عقاب الله، وذلك بالإيمان به وحده وما نزل من عنده.
قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} [الحاقة:49].
قوله: ((وإنا لنعلم أن منكم مكذبين)) أي: مكذبين له صلى الله عليه وسلم أو مكذبين بالقرآن الكريم؛ إيثاراً للدنيا والهوى، فسوف يجازيكم على إعراضكم عن القرآن الكريم.
قوله: ((وَإِنَّا لَنَعْلَمُ)) هذا العلم يستلزم معاقبتهم على ذلك التكذيب.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الحاقة:50] أي: ندامة عليهم إذا رأوا ثواب المؤمنين به، وهذا يشبه قوله تبارك وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82].(180/22)
تفسير قوله تعالى: (وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم)
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الحاقة:51 - 52].
العلم واليقين يتفاوت على درجات، فمن مراتب اليقين: مرتبة علم اليقين، ومرتبة عين اليقين، والمرتبة الأعلى حق اليقين.
لو أخبرتك أن خلف هذا الجدار إناء فيه عسل، وكنت موقناً بقولي؛ فهذا يسمى علم اليقين، فإذا فتحت الباب وأريتك إياه، ورأيته بعينك؛ فهذا يسمى عين اليقين، فإذا ذقت العسل؛ فهذا يسمى حق اليقين، كذلك مثلاً من علم بوجود الكعبة المشرفة ولم يرها فهذا علم اليقين، فإذا ذهب إلى هناك ورآها فهذا عين اليقين، وإذا دخل الكعبة المشرفة فهذا حق اليقين.
إذاً: حق اليقين هو أعلى درجات ومراتب اليقين.
قوله: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) يعني: إنه هو الحق اليقين الذي لا ريب فيه، قال الله تبارك وتعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:5] بالعلم، ثم قال: {لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:6 - 7].
ثم قال الله تبارك وتعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} يعني: دم على ذكر اسمه عز وجل، وادأب على الدعوة إليه وحده، وإلى ما أوحاه إليك، فالعاقبة لك ولمن اتبعك من المؤمنين.(180/23)
تفسير سورة المعارج(181/1)
تفسير قوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع)
سورة المعارج تسمى سورة (سأل سائل)، وهي مكية، وآيها أربع وأربعون.
قال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1].
قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} قال مجاهد: أي: دعا داع بعذاب يقع في الآخرة، وهو قولهم: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، والسائل هو النضر بن الحارث بن كلدة فيما رواه النسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
ودعاؤه بقوله -كما قصه الله تعالى-: ((اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ))، فلم يوفق إلى أن يقول: فاهدنا إليه.
لكنه علقه على تعجل العذاب: ((اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)).
وقد قيل: إن الموعود بوقوعه عذاب الدنيا.
أي: هذا النضر بن الحارث الذي يدعو بالعذاب سيقع به العذاب؛ لكن على التفسير الأول سوف يقع في الآخرة، وعلى الثاني سيقع في الدنيا، وبالفعل قتل النضر بن الحارث يوم بدر، ففي هذه الآية إخبار عن مغيب وقع مصداقهُ.(181/2)
تفسير قوله تعالى: (للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج)
قال تعالى: {لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:2].
قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1]، (واقع) صفة للعذاب، وقوله تعالى: (للكافرين) صفة ثانية للعذاب، يعني: هذا العذاب الذي هو واقع هو للكافرين.
أو أن (للكافرين)، متعلق بـ (واقع) أي: فسوف يقع للكافرين، واللام للتعليل، أي: لاستحقاقهم هذا العذاب بسبب كفرهم.
أو أن هذه اللام بمعنى (على)، أي: فهذا العذاب واقع على الكافرين.
((لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ)) أي: لا يرده رادُّ من جهته لتعلق إرادته به من الله، وهذا كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج:47].
وقوله تعالى: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} قال الرازي: المعارج جمع معرج وهو المقعد، ومنه قوله تعالى: (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33]، وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى: ((ذِي الْمَعَارِجِ)) أقوالاً ووجوهاً: أحدها: قال ابن عباس -في رواية-: {من الله ذِي الْمَعَارِجِ} أي: ذي السماوات.
وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها.
القول الثاني: قال قتادة: معنى قوله تعالى: ((ذِي الْمَعَارِجِ)) أي: ذي الفواضل والنعم، وذلك لأن أياديه وجوده وإنعامه مراتب.
يعني أن هذه النعم والفواضل التي يمن الله بها على الخلق هي مراتب ومنازل، وتصل إلى الناس على مراتب مختلفة.
أما القول الثالث في تفسير ((ذِي الْمَعَارِجِ)): فهو أن المعارج هي الدرجات التي يعطيها الله أولياءه في الجنة.(181/3)
تفسير قوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه)
قال الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألف َ سَنَةٍ} [المعارج:4].
قال ابن جرير: تصعد الملائكة والروح -وهو جبريل عليه السلام- إليه {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}، يعني: أن صعودهم كان مقدار يومه خمسين ألف سنةً لغيرهم من الخلق.
يعني: لو أن الذي صعد هذه المسافة من غير الملائكة لقطعها في خمسين ألف سنة، وذلك أنها تصعد من منتهى أسفل الأرض إلى منتهى أمره من فوق السماوات السبع.
وقيل: بل معناه: تعرج الملائكة والروح إليه يوم يفرغ من القضاء بين خلقه، فذلك اليوم الذي فرغ فيه من القضاء بينهم قدرهُ خمسون ألف سنة.
وقد قيل: إن (في يوم) متعلق بـ (واقع)، أي: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، أي: هذا العذاب يقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ويكون المراد به يوم القيامة.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: فهذا يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة.
وهذا التعبير إما حقيقي أو مجاز عن الاستطالة.
قال الشهاب: وهكذا زمان كل شدة.
يعني: أن زمان الشدة يطول، كما قال الشاعر: تمتع بأيام السرور فإنها قصارُ وأيام الغموم طوال فوقت الغم والهم والنكد يكون طويلاً بعكس وقت السرور، وقال الشاعر: وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف إعجازاً وناء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل ونقل الرازي عن أبو مسلم أن هذا اليوم هو يوم الدنيا كلها من أول ما خلق الله إلى آخر الفناء، فبين تعالى أنه لا بد في يوم الدنيا من عروج الملائكة ونزولهم، وهذا اليوم مقدر بخمسين ألف سنة، ثم لا يلزم على هذا أن يصير وقت القيامة معلوماً؛ لأننا لا ندري كم مضى وكم بقي.
وهذا القول بعيد، وهذه الآية كقول الله تبارك وتعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألف َ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، ولا منافاة في التقدير؛ لأن المعني به الاستطالة لشدته على الكفار، أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات.
والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فالتفسير بأن المقصود بخمسين ألف سنة أنه مجاز، لا داعي له؛ لأنه لا يتعذر حمله على الحقيقة، فالله سبحانه وتعالى يقول: خمسين ألف سنة.
هذا الزمن هو فترة عروج الملائكة والروح إليه.
أما الآية الأخرى {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألف َ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] فهذا في تقدير آخر، أي باعتبار أن موضوعه أمر آخر، وهو عروج الأمر المدبر إليه، وهذا في عروج الملائكة إليه.(181/4)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر صبراً جميلاً ثم ينجيه)
يقول تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج:5 - 14].
يقول تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}، يعني: على ما يقولون، ولا يضق صدرك فقد قرب الانتقام منهم.
{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ} أي: يرون العذاب الدنيوي أو الأخروي (بعيدا) أي: بعيداً وقوعه؛ لعدم إيمانهم بوعيده تبارك وتعالى.
{وَنَرَاهُ قَرِيبًا} أي: قريب الحضور.
{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} يعني: كالشيء المذاب، أو عكر الزيت الذي يكون في الطبقة السفلى منه إذا كان في إناء، فهذا العكر الذي يخالط الزيت هو المراد بالمهل هنا.
(ويوم) ظرف يعني: قريباً.
((وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ)) يعني: كالصوف.
{وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} يعني: لا يسأل قريبٌ قريباً عن فعله لشغله بفعل نفسه، فكل إنسان مشغول ومهتم بأمر نفسه، حتى الحبيب الذي هو في غاية الود والمحبة لمن يحب فإنه يقول: نفسي نفسي.
{يُبَصَّرُونَهُمْ} يعني: يعرفون أقرباءهم، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض؛ إذ قد يقول قائل: ربما يكون المقصود من قوله تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} أن بعضهم يحجب عن بعض، فلذلك ينشغل بحاله ولا يسأل عن أحوال حميمه وقريبه، فكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يدفع هذا التوهم ببيان شدة هذا الموقف، فقال: ((يبصرونهم)) أي أنهم سوف يعرفون أقرباءهم، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض.
وفيه تنبيه على أن المانع من هذا السؤال هو الاندهاش مما نزل لا احتجاب بعضهم عن بعض، فهم يرون بعضهم بعضاً، بل يعرف بعضهم بعضاً، فهذا أبوك، وهذا أخوك، وهذا صديقك الحميم، فيبصرونهم، وسوف يرونهم ويعرفون أقرباءهم، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض ولا يسأل حميم حميماً.
{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} أي: الذين هم محل شفقته، أي: يود الكافر أن يقع أولاده في العذاب فداءً عنه؛ رغم الشفقة المعروفة عند الأب على أولاده.
{وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} أي: التي هي أحب إليه ((وأخيه)) الذي يستعين به في النوائب، ((وفصيلته)) أي: عشيرته ((التي تؤويه)) أي: تضمه إليها عند الشدائد.
{وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ} يعني: يود أن يبذل ذلك ويضحي بكل هؤلاء في سبيل أن ينجيه هذا الافتداء، أو ينجيه هذا المذكور، أو ينجيه كل من في الأرض.
و (ثم) هنا للاستبعاد، أي: لاستبعاد أن ينجو حتى لو افتدى بمن في الأرض جميعاً.
فإذاً الفعل هنا (ثم ينجيه) معطوف على (يفتدي) أي: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} بكذا وكذا ثم ينجيه، أي: ثم مقابل هذه الفدية ينجو من العذاب.(181/5)
تفسير قوله تعالى: (كلا إنها لظى وجمع فأوعى)
قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:15 - 18].
((كلا)) يعني: لا يكون ذلك، فهو يتمنى أن لو يتمكن من ذلك ليفتدي بهؤلاء الأقربين أو يفتدي بكل من على وجه الأرض لعل ذلك ينجيه؛ ولكن: (كلا) لا يكون ذلك.
{إِنَّهَا لَظَى} أي: النار الموعود بها هذا المجرم (لظى) أي: لهب خالص.
{نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} أي: الأطراف كاليد والرجل.
أو أن الشوى جمع شواء، والشواء: هي جلدة الرأس التي يكون عليها الشعر.
(تدعو) إلى دخولها (من أدبر) عن الحق (وتولى) عن الطاعة.
(وجمع) المال (فأوعى)، أي: جعله في وعاء كان كنزه، فمنع حق الله منه فلم يزك ولم ينفق فيما أوجب الله عليه إنفاقه فيه، ومنه الحديث: (لا توعي فيوعي الله عليك).(181/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعاً منوعاً)
يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج:19 - 21].
(هلوعا) قليل الصبر كثير الحرص.
ولفظة الإنسان في القرآن الكريم تشير إلى هذا الكائن البشري من حيث هو عار عن الهداية الإلهية، فالإنسان بدون الهداية الإلهية والتوفيق الرباني يطلق عليه (إنسان)، فلذلك ترتبط به صفات الرذيلة، كقوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، وقوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2]، وقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، وكالحال هنا {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج:19 - 20]، وهكذا.
فقوله: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} أي: قليل الصبر شديد الحرص، كما بينه في قوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} أي: إذا مسه الضر والبلاء (جزوعا) أي: كثير الجزع من قلة صبره.
((وإذا مسه الخير)) يعني: كثر ماله وناله الغنى، (منوعاً) أي: منوعاً لما في يده نخيلاً له لشدة حرصه.
وهذه الآية مما استعمل فيها الخير بمعنى المال، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]، وكما في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] يعني: إن ترك مالاً فهذه منها.(181/7)
تفسير قوله تعالى: (إلا المصلين إن عذاب ربهم غير مأمون)
يقول تعالى: {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:22 - 28].
{إِلَّا الْمُصَلِّينَ} استثنى من الطباع والأخلاق السابقة المصلين، فقال: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:22 - 23] أي: مقيمون لا يضيعون منها شيئاً.
وهذه الآية هي الموضع الوحيد الذي استعمل فيه اسم الفاعل للقيام بالصلاة، في حين أننا نجد في عامة آيات القرآن ذكر إقامة الصلاة، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [المائدة:55]، {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:103]، {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} [النساء:162].
فغالباً ما تأتي الصلاة بفعل الإقامة، يعني: أداء حقوقها، وأنها ليست مجرد أداء هذه الحركات، إلا أنه جاز هنا أن يؤتى باشتقاق (اسم الفاعل) على أساس أنه قرن بها صفات تفيد نفس معنى إقامة الصلاة، حيث قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} أي: مقيمون لا يضيعون منها شيئاً.
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25] السائل هو الذي يسأل الناس ولا يجد مشكلة في أن يسأل، فإن كان مستحقاً فعلاً فهو المقصود بقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} أي أن هذا حق له، وليس منة منك عليه، وإنما هو حقه الذي شرعه الله له في مال الله الذي آتاك.
وهذ الحق أولاً للسائل، فربما سأل السائل صدقة أو معونة أو نحو ذلك، وهو مستحق لذلك، ومن شدة حاجاته يسأل.
النوع الثاني: المحروم، والعطف يقتضي المغايرة، أي: أن المحروم غير السائل، فمن هو المحروم؟ المحروم هو المتعفف الذي أدبرت عنه الدنيا فلا يسأل الناس تعففاً.
وقيل: المحروم الذي لا ينمو له مال.
وقيل: المحروم هو المصاب ثمره.
أي كان عنده مال ثمار أو زروع ثم أصابته جائحة، أخذاً من قول أصحاب الجنة في سورة نون: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [القلم:27] أي: أصبنا في ثمرنا بجائحة.
واللفظ أعم من ذلك كله، فيشمل كل ما يحتمل دخوله في معنى المحروم.
وقد روى ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن الحق المعلوم: أهو الزكاة؟ فقال: إن عليك حقوقاً سوى ذلك.
ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هو سوى الصدقة، يصل بها رحما، أو يقري بها ضيفاً، أو يحمل بها كلاً، أو يعين بها محروماً.
وعن الشعبي أن في المال حقاً سوى الزكاة، وهذه مسألة تفاصيلها في كتب الفقه.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:26] يعني: يوم الجزاء.
ثم أشار الله تبارك وتعالى إلى أن العبرة في الإيمان باليوم الآخر أن يشفق الإنسان منه، ويثمر هذا التصديق ثمرة عملية وهي الخوف والوجل من عذاب الله، وهذه إشارة إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يهتم بأن يعتقد عقيدة خاوية من العاطفة أو الوجدان أو المشاعر، وإنما الاعتقاد المثمر هو الذي ينعكس في سلوك الإنسان، فلذلك بعدما قال: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} قال: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}.
قال ابن جرير: أي: وجلون أن يعذبهم في الآخرة، فهم من خشية ذلك لا يضيعون له فرضاً ولا يتعدون له حداً.
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} أي: أن ينال من عصاه وخالف أمره.(181/8)
تفسير قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون فأولئك هم العادون)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} [المعارج:29 - 31].
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} أي: لغلبة ملكة الصبر؛ لأن هؤلاء المذكورين مستثنون من صفة الجزع عند البلاء والشح والبخل والحرص الشديد المذكورة في قوله: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج:19 - 21 - ] فمما يعجز غير المصلين عن الصبر عليه أمر العفَّة، فغير المصلي لا يصبر؛ لأنه لا يصلي صلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فأتى في صفة المصلين {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} أي: لغلبة ملكة الصبر وامتلاك ناصيته.
{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المعارج:30 - 31]، قال ابن جرير: أي: التمس لفرجه منكحا ًسوى زوجته أو ملك يمينه، ((فألئك هم العادون)) أي: الذين تعدوا ما أحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم.
فهذه إشارة إلى أثر الصلاة في العفة عما حرم الله تبارك وتعالى، ونفس هذا المعنى أشار إليه قول الله تبارك وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59]، فكل من يضيع الصلاة لا بد أن يقع أسيراً للشهوات.
وقال تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، ولذلك لا يقع المصلي المقيم للصلاة أسيراً للفحشاء والمنكر، فكما أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، كذلك الفحشاء والمنكر تنهى عن الصلاة، وتصد الناس عنها.
ومما يدل على ارتباط المحافظة على الصلاة بالتعفف عن المحرمات قول الله تبارك وتعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فلم يقل الله تبارك وتعالى: احفظوا الصلاة والصلاة الوسطى، وإنما جاءت على صيغة المفاعلة (حافظوا)، فهذه المحافظة تقتضي التفاعل من الطرفين، إشارة إلى أن من حافظ على الصلاة حفظته الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (احفظ الله يحفظك)، فهذا هو المطلوب، وهو أن المحافظ على الصلاة يرد له مثل ذلك بأن تحفظه الصلاة عما حرم الله تبارك وتعالى، ولذلك نجد أهل الصلاة أقل الناس شراً، وهم بشر وليسوا معصومين، لكن المصلي يكون انقياده للشهوات أقل بكثير من مضيع الصلاة الذي يقع أسيراً للشهوات.
ولذلك لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجل يصلي ويصوم ويفعل كذا وكذا لكنه يسرق قال: (أما إنَّ صلاته ستنهاه)، ففي الصلاة تأثير عجيب جداً في الالتفات عما حرم الله تبارك وتعالى، فإن المصلي يوفق إلى أن ينهض من جديد ويستأنف السير والسلوك إلى الله تبارك وتعالى.(181/9)
تفسير قوله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون بشهاداتهم قائمون)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج:32 - 33].
((وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)) قال ابن جرير: أي: لأمانات الله التي ائتمنهم عليها من فرائضه وأمانات عباده التي اؤتمنوا عليها، وعهودهم التي أخذها عليهم بطاعته فيما أمرهم به ونهاهم، وعهود عباده التي أعطاهم على ما أخذه لهم على نفسه، راعون؛ يرقبون ذلك ويحفظونه فلا يضيعونه، فهذا تعميم للأمانة.
فقوله: (والذين هم لأماناتهم) أي: جميع أنواع الأمانات، وسيدخل فيها أمانات الله التي ائتمنهم عليها، ومن ذلك الفرائض، والعهود التي أخذها عليهم بأن يطيعوه فيمتثلوا ما به أمر وينتهوا عما عنه نهى وزجر، فلا يضيعوها.
كذلك هم لأماناتهم وعهدهم مع الخلق كأمانات العباد التي يؤتمنون عليها، فإذا أعطاك أحدٌ أمانة أو ائتمنك على سر أو نحو ذلك، فينبغي أن تحفظه وترعاه، وكذلك عهود العباد التي بذلها لهم على ما عقده لهم على نفسه (راعون)، يرقبون ذلك ويحفظونه فلا يضيعونه.
{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} أي: لا يكتمون ما استشهدوا عليه، ولكنهم يقومون بأدائها حيث يلزمون بذلك غير مغيرة ولا مبدلة.(181/10)
تفسير قوله تعالى: (والذين هم على صلاتهم يحافظون مكرمون)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:34 - 35].
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي: لا يضيعون لها ميقاتاً ولا حداً، قيل: الحفظ عن الضياع.
ولم يقل: يحفظون الصلاة.
إنما قال: (يحافظون) فهذه الصيغة التي مصدرها (المفاعلة) تقتضي أن هناك تفاعلاً بين المصلي والصلاة، فأنت تحفظ الصلاة والصلاة تُردَّ لك بأن تحفظك، كما في قول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة:123]، فالقتال يقتضي حصول الأمر من الطرفين بخلاف القتل.
فالمقصود أنهم يتمون صلاتهم بأركانها وهيئاتها.
ونلاحظ أن الصلاة ذكرت مرتين مع أن الصفات متغايرة وفي غاية الدقة، لكن بدأ بالصلاة وختم بها، كما فعل عز وجل في سورة المؤمنون حيث قال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، ثم ذكر الصفات الآخرى إلى أن ختم بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9].
ولذا قال القاضي: هذا التكرار بالنسبة للصلاة ووصفهم بها أولاً وآخراً لاعتبارين: للدلالة على فضلها، وإنافتها على غيرها، فهي أعلى من غيرها من العبادات، فلا شك أن الصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين.
{أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} أي: مكرمون بثواب الله تبارك وتعالى لاتصافهم بمكارم الأخلاق.(181/11)
تفسير قوله تعالى: (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين الذي كانوا يوعدون)
قال تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ * فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:36 - 44].
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} أي: مسرعين للحضور إذا ما أخبروا بما يتخذونه هزءاً، فكانوا يحضرون سراعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليروا أي شيء يهزؤون به من الوحي أو من أمر الدين.
وعن ابن زيد قال: المهطع الذي لا يصرف عينه.
(عن اليمين وعن الشمال عزين) أي: متفرقين حلقاً ومجالس جماعة جماعة، معرضين عنك وعن كتاب الله.
(أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم) يعني: وإن لم يتصف بصفات أهلها المنوه بها قبل؟ فهل المسألة بالأماني، وأن الله كما آتاهم النعيم في الدنيا فسوف يؤتيهم ذلك في الآخرة، (كلا) أي: لا يكون ذلك؛ لأنه طمع في غير موطنه، بل هؤلاء حقيقون بأن ييأسوا من رحمة الله في الآخرة.
{كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} يعني: من النطف؛ فمن قدر على خلق هذا الإنسان من نطفة من ماء مهين لا يعجزه إهلاكهم، فليحذروا عاقبة البغي والفساد، ولذلك قال تبارك وتعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ}.
وسبق أن تكلمنا من قبل في معنى (لا أقسم)، وأن تفسيرها (أقسم).
وقوله: ((الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ)) يعني مشرق كل يوم من السنة ومغربه، أو مشرق كل كوكب ومغربه، أو الأقطار التي تشرق فيها الشمس وتغرب.
((إِنَّا لَقَادِرُونَ)) التوكيد بالقسم و (بإن) وباللام.
((عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)) أي: بمغلوبين إن أردنا ذلك، فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يفني الخلق أجمعين ويبدلهم بخير منهم.
(فذرهم) اتركهم (يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) أي: يوعدون أخذهم فيه وهلاكهم.
{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} الأجداث: جمع جدث، وهو القبر.
يعني: القبور، (سراعاً)، يعني: يسرعون سراعاً (كأنهم إلى نصب يوفضون) يعني: يسرعون.
والنُّصب: الصنم المنصوب للعبادة.
أو العلم المنصوب على الطريق ليهتدي به السائر.
أو أن النصب ما ينصب علامة لنزول اَلملِكِ وسيره، فهم يسرعون إلى عبادة الأصنام إسراع من ضل عن الطريق إلى أعلامها، أو إسراع الجند إلى راية الأمير.
{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} من الخزي والهوان، {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي: تغشاهم ذلة من هول ما حاق بهم.
{ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} يعني: بأنهم ملاقوه.
والله أعلم.(181/12)
تفسير سورة الجن [1 - 10](182/1)
تفسير قوله تعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ولن نشرك بربنا أحداً)
نشرع في تفسير السورة الثانية والسبعين من سور القرآن الكريم، وهي سورة الجن.
قال المهايمي: سميت بذلك لاشتمالها على تفاصيل أقوالهم في تحسين الإيمان وتقبيح الكفر، مع كون أقوالهم أشد تأثيراً في قلوب العامة؛ لتعظيمهم إياهم.
يعني أن عامة الإنس يعظمون الجن ويتأثرون بكلامهم بشدة.
يقول عز وجل: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1 - 2].
قوله تعالى: ((قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن)) يعني: استمع لهذا القرآن الحكيم نفر من الجن، والمشهور أن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقد يستعمل إلى الأربعين كالرهط، كما في المجمل.
قال القاضي: وفي الآية دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولم يقرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها، فأخبر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا ما يؤخذ من ظاهر ألفاظ الآية: ((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ)).
((فقالوا)) يعني: لما رجعوا إلى قومهم قالوا: ((إنا سمعنا قرآناً)).
قال المهايمي: أي: كتاباً جامعاً للحقائق الإلهية والكونية، والأحكام والمواعظ، وجميع ما يحتاج إليه في أمر الدارين.
قوله: ((عجبا)) أي: غريباً لا تناسبه عبارة الخلق، ولا يدخل تحت قدرتهم.
فهذا القرآن العظيم الكريم غريب، بمعنى: أنه لا يمكن أن يصدر عن بشر، أو أن يدخل تحت قدرة المخلوقين، بل لابد أن يكون كلام الله سبحانه وتعالى، فانظر إلى أول انطباع الجن حينما سمعوا آيات من القرآن الكريم، قالوا: ((إنا سمعنا قرآناً عجباً))! يقول تبارك وتعالى: {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}، أي: إلى الحق وسبيل الصواب.
((فآمنا به)) أي: فآمنا به فوراً.
((ولن نشرك بربنا أحدا)) أي: من خلقه في العبادة معه تبارك وتعالى.
فهذا هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، فقوله: ((فآمنا به)) فيه إثبات الألوهية لله سبحانه وتعالى، أي: فآمنا به وحده.
وقوله: ((ولن نشرك بربنا أحدا)) هذا نفي للأنداد والشركاء، وإبطال عبادة من عدا الله تبارك وتعالى.
وهذا المقام شبيه بقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:29 - 31].
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء) يعني: أن السماء حفظت من الشياطين؛ لأن الجن الشياطين من قبل كان يقف بعضهم فوق بعض حتى يسترقوا السمع، وكانوا يلتقطون الكلمة مما تتحدث به الملائكة مما أوحاه الله سبحانه وتعالى وتكلم به، ثم يضيفون إليها تسعة وتسعين كذبة، ثم ينشرونها على السحرة والمنجمين والكهان.
فحدثت إرهاصات بين يدي بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحوادث تلفت النظر، وتنبئ عن أن هناك أمراً خطيراً سيحصل بعد ذلك، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى.(182/2)
عالمية الدعوة المحمدية دون غيرها
قوله: ((قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به)) دليل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث قطعاً للجن والإنس، ولن أتكلم عن صحة الاستدلال بالآية هنا؛ لأن مجرد الاقتصار على الآية يفيد أنهم تبعوا القرآن فآمنوا به، لكن هل فيها أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث إلى الجن والإنس؟ ليس فيها ذلك، والله تعالى أعلم.
مثلاً: سحرة فرعون ليسوا من بني إسرائيل، وموسى عليه الصلاة والسلام إنما بعث إلى بني إسرائيل، فهل يمنع السحرة من الإيمان بموسى عليه السلام أنه بعث إلى بني إسرائيل فقط؟ لا، هم آمنوا بأن لا إله إلا الله، وأن موسى رسول من عند الله تبارك وتعالى، وإن لم يكن مبعوثاً إلى أناس معينين.
فكذلك هذه الآية لا يؤخذ منها هذا الأمر، وغاية ما يؤخذ منها أن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وصدقوا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
أما حقيقة المسألة فلا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام كما قال في الحديث: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
فأدلة عموم رسالته كثيرة جداً، بل إن الصفة العالمية والشمولية للجن والإنس بالنسبة لبعثة الرسول عليه الصلاة والسلام هي من خصائص النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بحيث نقول: إن هذه العالمية حكر على دعوة الإسلام، وليس من حق أي ديانة أخرى أن تدعي أنها جاءت ليبشر بها الناس أجمعون.
ونستطيع أن نأتي بكثير من النصوص من كتب النصارى، تؤكد أن المسيح عليه السلام لم يبعث إلا إلى بني إسرائيل فقط، ومن هذه الأقوال: قول المسيح عليه السلام: (إنما بعثت إلى حراب بيت إسرائيل الضالة).
والنصوص في ذلك كثيرة.
أما اليهود فقد كفونا شرهم؛ وذلك باعتبار اليهودية دعوة عنصرية، وعندهم أن الجنة خلقت لليهود فقط، وكل الشعوب إنما خلقت ليركبها اليهود كالحمير كما يزعمون.
فاليهود أصلاً ليس عندهم تبشير ودعوة إلى الدخول في اليهودية، وأهم شيء عندهم حتى ينسب المرء إلى اليهودية أن تكون أمه يهودية.
بل لو أن يهودياً دخل في الإسلام فإنه يبقى على يهوديته ولا يزول عنه وصف اليهودية، وقد انتشر خبر المغنية اليهودية التي قيل إنها أسلمت، والله تعالى أعلم، فلما توفيت قبل سنوات أراد اليهود أن يستولوا على بيتها ويحولوه إلى متحف فقيل لهم: إنها أسلمت، قالوا: حتى ولو أسلمت فهي يهودية، ولا يزول عنها هذا الوصف أبداً، لأن اليهودية دعوة عنصرية وليست رحمة للبشر، ولأنهم يعتقدون أنهم شعب الله المختار، فمن ثم أراحوا العالم من شر الدعوة إلى دينهم المحرف.
ولأنهم يعتبرون أنفسهم سلالة من نوع خاص يجب أن يعامل معاملة خاصة، قال عز وجل حاكياً قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فبالتالي هم لا يريدون خيراً لأحد، وليس عندهم نشاط تبشيري يدعون به الناس إلى الدخول في دينهم، وإنما عندهم نشاط تدميري لتحطيم الأمم؛ كي يقيموا ملك يهود على أنقاضها، سواء عن طريق نشر الإلحاد أو الفساد الأخلاقي ونحو ذلك.
أما النصارى فليس في دينهم أي نص يدل على عالمية دينهم، بل في كتبهم ما ينفي العالمية، ويثبت أن دينهم خاص ببني إسرائيل كما قال تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران:49].
ودين النصارى حرف على يد بولس، وهو اليهودي الذي ابتدأ الدعوة إلى التنصير، وذلك أنه ادعى أنه دخل في النصرانية، وكذب على النصارى حيث قال: إنه رأى المسيح وأوحى إليه بأشياء زعمها فصدقوه، ومنها الدعوة والتبشير بالنصرانية، ومن هنا بدأت فكرة التبشير بالنصرانية.
والنصرانية ليس من حقها أن تدعي أنها دعوة عالمية لغير بني إسرائيل؛ لأن العالمية لا تصح على الإطلاق إلا لدين الإسلام، ورسالة سيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم، وسبق أنا تكلمنا على هذا بالتفصيل عند دراسة قضية ختم النبوة.
أيضاً من فوائد هذه الآية: أن يعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه الفوائد: أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس.
ومنها: أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا.
ومنها: أن المؤمن من الجن يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان، وهكذا الإنسان إذا آمن فإن من واجباته المقدسة أن يدعو غيره إلى هذا النور والإيمان، كما فعل الجن، إذ فزعوا إلى قومهم داعين إياهم إلى الله عز وجل، مع أن عمر إيمانهم كان قصيراً.
ومنها: أن الجن لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان تنبهوا إلى الخطأ الذي اعتقده كفرة الجن، من اتخاذ الله صاحبة وولداً، فاستعظموا ذلك ونزهوا الله سبحانه عنه! انظر إلى جوهر الإيمان عندهم، فكل هذا الكلام يدور حول التوحيد بكل معانيه: تنزيه الله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله عما لا يليق به قالوا: ((فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً)) وهذا هو معنى: لا إله إلا الله.(182/3)
تفسير قوله تعالى: (وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولداً)
يقول الله عز وجل: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن:3].
قوله: ((وأنه تعالى جد ربنا)) أي: تعالى ملكه وعظمته وربوبيته عن اتخاذ الصاحبة والولد.
قال ابن جرير: الجد بمعنى الحظ.
وفي الدعاء: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) يقال: فلان ذو جد في هذا الأمر، إذا كان له حظ فيه، وهو الذي يقال له بالفارسية: البخت.
والمعنى: أن الله عز وجل المتصف بالملك والسلطان والقدرة العظيمة منزه عن أن تكون له صاحبة وولد؛ لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي حملته الشهوة إلى اتخاذها، والولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوقاع الذي يحدث منه الولد، فقال النفر من الجن: علا ملك ربنا وسلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفاً ضعف خلقه الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة أو وقاع ليحصل منه الولد.
فهنا تنزيه الله عز وجل عن أن يكون له ولد؛ لعظم ملكه وقدرته وسلطانه، فمن كان هذا شأنه، فإنه يستغني عن الاحتياج إلى صاحبة وإلى ولد.(182/4)
تفسير قوله تعالى: (وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً)
يقول عز وجل: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} [الجن:4].
((وأنه كان يقول سفيهنا)) يعني: الذي أضلنا وأغوانا قبل أن ندخل في الإسلام ونستمع القرآن.
((على الله شططا)) أي: قولاً ذا شطط، أو جعل القول نفسه عين الشطط مبالغة فيه، وأصل الشطط الزيادة في الحد.
والمراد منه أن نسبة الصاحبة والولد إلى الله تبارك وتعالى من القول الشطط.(182/5)
تفسير قوله تعالى: (وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً)
يقول عز وجل: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن:5].
هنا يعتذر هؤلاء المؤمنون من الجن عن اتبعاهم قبل إسلامهم لسفيههم وزعيمهم، أو كبيرهم ورئيسهم الذي كان يدعي لله الصاحبة والولد، فيقولون: نحن ما تصورنا أبداً أن هناك شخصاً يكذب على الله، وينسب إلى الله ما لا يليق به عز وجل.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً)) أي: في نسبة ما ليس بحق إليه سبحانه، وهو اعتذار عن اتباعهم السفيه في ذلك؛ لظنهم أن أحداً لا يكذب على الله فيتبعونه، يعني: هؤلاء الجن ظنوا أن زعيمهم صادق فيما يخبر به، فلما تبين لهم من القرآن كذب هذا الزعيم السفيه وافتراؤه تبرءوا منه واعتذروا إلى الله من اتباعه قبل إسلامهم.
هذا الموقف في سورة الجن له نظائر، مما يلفت نظرنا إلى ضرورة الاستدلال من الآيات القرآنية عند دعوة الآخرين إلى الدخول في دين الإسلام؛ لأن بعض الناس يتكلمون بكل الأدلة ويهجرون أدلة القرآن.
فانظر إلى هؤلاء الجن بمجرد أن سمعوا آيات القرآن الكريم أسلموا وتوصلوا من خلالها إلى الحق، فلا توجد أدلة ولا براهين أقوى ولا أوضح ولا أنصع من أدلة القرآن الكريم، فلنحذر خداع الشيطان إيانا؛ لأن الشيطان يأتي بعض الناس ويقول لهم: كيف تحاجونه بالقرآن وهو لا يؤمن بالقرآن، فهذا من تلبيس إبليس يريد أن يبطل أقوى الأسلحة مفعولاً، وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
بل من الكفار من إذا سمع القرآن الكريم وقعت في قلبه الرهبة والتعظيم للقرآن، ولو لم يفهم منه حرفاً واحداً؛ بسبب السلطان القرآني على القلوب، وما حديث كفار قريش منا ببعيد، لاسيما الوليد بن المغيرة.
اطلع بعض الناس على كتاب لأحد المؤلفين في قضية شرعية، أنكر فيه على من يعود إلى الآيات والأحاديث وكلام الفقهاء والعلماء في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وقال: إذا أردت أن تدعوهم إلى الإسلام فقل: قال الخواجة الفلاني: كذا، لماذا؟ قال: لأنه أقرب لقبول الناس لكلامك إذا نسبته إلى الخواجات وغيرهم من غير المسلمين.
انظر إلى المصيبة التي حلت بنا، يعتقد هذا وأشباهه أن الناس يتأثرون بكلام هؤلاء الكفار ولا يتأثرون بكلام الله وبكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
على كل حال عندما نخاطب مسلماً أو كافراً فلا بد أن تعطى الأدلة الشرعية قدرها والمكان اللائق بها في الاستدلال.(182/6)
تفسير قوله تعالى: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن)
قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6].
روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي، فزادهم ذلك إثماً.
أي: كان الواحد من الإنس إذا نزل في الوادي يهيم في الظلام بالليل فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي، بدلاً من أن يستعيذ بالله سبحانه وتعالى فإنه يستعيذ بزعيم الجن سكان هذه المنطقة، فزادهم ذلك إثماً، أي: إما زاد الكفار إثماً وإما زاد الجن أنفسهم رهقاً وإثماً.
ففي الآية إشارة إلى ما كانوا يعتقدون في الجاهلية من أن الوديان مقر الجن، وأن رؤسائهم تحميهم منهم.
وقال إبراهيم النخعي: كانوا إذا نزلوا الوادي قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه، فتقول الجن: ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضراً ولا نفعاً.
وقال الربيع بن أنس: كانوا يقولون: فلان من الجن رب هذا الوادي، فكان أحدهم إذا دخل الوادي يعوذ برب الوادي من دون الله، قال: فيزيدهم ذلك رهقاً أي: خوفاً.
وقال ابن زيد: كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بواد قال: إني أعوذ بكبير هذا الوادي، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم.
وذلك لأن التعوذ بغير الله سبحانه وتعالى من الشرك، ولذلك نزلت سورة المعوذتين لتعليم الاستعاذة بالله وحده والتبرؤ من الاستعاذة بغيره.
قال عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:1 - 3] إلى آخره.
وقال سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1].
إذاً التعوذ والاحتماء والالتجاء لا يكون إلا بالله عز وجل وحده دون غيره، وكذلك أذكار الاستعاذات المأثورة ومنها: ما روى مسلم عن خولة بنت حكيم قالت: قال عليه الصلاة والسلام: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء، حتى يرحل من منزله ذلك).
قال بعضهم: هذا الحديث فيه تفسير آية الجن، وهي قوله تعالى: ((وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا)).
فالحديث أتى بما يبطل هذا الشرك.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (أعوذ بكلمات الله التامات) هذا أحد الأدلة الواضحة التي استدل بها أهل السنة على المعتزلة في زعمهم أن القرآن مخلوق؛ لأن كلمات الله لو كانت مخلوقة فهل يجوز التعوذ بمخلوق؟ لا، هذا شرك، فما دام الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا أن نتعوذ بكلمات الله فإن هذا يدل على أن كلام الله ليس مخلوقاً وليس محدثاً.
والضمير المرفوع في قوله: ((فزادوهم رهقا)) عائد على الجن يعني: فزاد الجن الإنس باستعاذتهم بهم غياً وإثماً وضلالاً، أو أن الضمير يكون عائداً على الإنس يعني: فزاد الإنس الجن باستعاذتهم رهقاً وكبراً وعتواً، لأنهم لما رأوا الإنس يخافونهم ازدادوا كبراً وعتواً وتسلطاً عليهم.
والرهق في الأصل غشيان الشيء، فخص بما يعرض من الكبر أو الضلال.
وموضوع الجن موضوع ذو شجون، وقد سبق أن تكلمنا فيه بالتفصيل، وخاصة عند التعليق على الظواهر المرضية والشيطانية التي فشت وتغلغلت في عقول كثير من الناس في هذا الزمان، فلن نعيد الحديث؛ لأن من أبغض الأشياء إلينا أن نعيد هذا الكلام على موضوع الجن، وأعتقد أنه بدأ شيء من الحصار في موجة الجن هذه التي غلا فيها كثير من الناس الذين امتثلوا للدعوة، وكما قلت مراراً: أي إنسان فيه خير لا يستمر أبداً في هذا الموضوع.
فنرجو أن تواجه وتحارب هذه الظاهرة تماماً ولا يبقى لها وجود.
ونعود إلى ما كنا عليه من الاشتغال بمعالي الأمور، وأنت نترك هذه المصطلحات التي لا تليق بالمسلم العادي فضلاً عن الملتزمين والدعاة.(182/7)
تفسير قوله تعالى: (وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً)
يقول تبارك وتعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} [الجن:7].
((وأنهم ظنوا)) يعني: وأوحي إلي أن الجن ((ظنوا كما ظننتم)) يعني: كما ظننتم أيها الأنس في جاهليتكم ((أن لن يبعث الله أحداً)) أي: رسولاً إلى خلقه يدعوهم إلى توحيده وما فيه سعادتهم.
وقيل في قوله: ((أن لن يبعث الله أحداً)) يعني: ألن ينشر الله أحداً من قبره للحساب والجزاء.
فالبعث لفظ مشترك يحتمل أنه من البعث والنشور أو من إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقيل: الضمير في قوله: (وأنهم) عائد على الإنس المذكورين في قوله: ((وأنه كان رجال)) والمعنى: وأنهم ظنوا أي: من كلام الجن والخطاب لهم.(182/8)
تفسير قوله تعالى: (وأنا لمسنا السماء شهاباً رصداً)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:8 - 9].
((وأنا لمسنا السماء)) يعني: تطلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها، ((فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً)) أي حصبة رواجم.
نفهم من ذلك أنها قبل ذلك لم تكن مملوءة بالحرس والرواجم من الشهب وغيرها.
أي: كنا نقعد من السماء مقاعد لنستمع ما يحدث وما يكون فيها، فمن يستمع الآن فيها يجد له شهاب نار قد رصد له.
وقوله: ((رصداً)) يعني: مرصوداً.
قال الزمخشري: قوله: ((نقعد منها مقاعد)) أي: كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن ملئت المقاعد كلها، وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته.
يعني: ما هو هذا الشيء الجديد الذي هو ملأ السماء حرساً شديداً وشهباً، ولم يعد هناك أي مقعد يقعدون عليه بعد أن كانوا يقعدون؟ إن هذا الحدث الجديد هو بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي من السماء.(182/9)
تفسير قوله تعالى: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض)
يقول تبارك وتعالى: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10].
يعني: ما منعنا السمع من السماء ورجم من استمع منا بالشهب إلا لأمر عظيم أراده الله لأهل الأرض، وذلك بعثة هو النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمقصود أننا كنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً، حتى علمنا بعد استماعنا للقرآن الكريم أن هذا حصل لرشد وخير أراده الله لأهل الأرض، وهو بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.(182/10)
أسلوب القرآن في نسبة الشر إلى غير الله تعالى
قال الناصر: ولقد أحسنوا الأدب في ذكر إرادة الشر محذوفة الفاعل، وإبرازهم لاسمه عند إرادة الخير والرشد.
وهذه قاعدة تكلمنا عنها مراراً: وهي أنه لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن الشر هو من خلقه عز وجل، والله يريده كوناً وقدراً، ولكن لا يريده شرعاً وطلباً وإرادة، فمن ثم ينبغي لنا أن ننسب الشر إلى الله، كما في دعاء القنوت: (والخير كله في يديك والشر ليس إليك) فليس في أفعاله شر، بل أفعاله كلها خير محض.
أما الشر في القرآن الكريم فإما أن تأتي نسبته إلى اسم الفاعل مثل قوله: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
أو يؤتى باسم مفعول: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7].
أو الفعل المبني للمجهول كما في هذه الآية {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:10].
ثم قالوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] فنسبوا الخير إلى الله سبحانه وتعالى.
وهناك شواهد من القرآن تبين هذا المعنى، منها قول إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشفِينِ} [الشعراء:77 - 80] فنسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله.
ثم قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] فنسب الخطيئة إلى نفسه، ونسب المغفرة إلى ربه.
كذلك في قصة الخضر في حادثة السفينة، قال الخضر: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] فنسب العيب إلى نفسه؛ لأن العيب لا يصلح أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، وكذلك قال في قتل الغلام: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81].
أما في بناء الجدار الذي هو خير محض لا شر فيه، قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82].
وكذلك في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:1 - 4] فنسب للشيطان، {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:6] أي: من الجن والإنس.
وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] أي: من شر الخلق، فالشر ينسب إلى المخلوقين، ولا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى.(182/11)
تفسير سورة الجن [11 - 28](183/1)
تفسير قوله تعالى: (وأنا منا الصالحون بخساً ولا رهقاً)
يقول الله عز وجل: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا * وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} [الجن:11 - 13].
((وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ)) أي: المسلمون العاملون بطاعة الله.
((وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ)) أي: قوم دون ذلك وهم المقصرون في الصلاح، غير الكاملين فيه، يعني أن المؤمنين درجات: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:163].
وقيل: ((وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ)) هم الكافرون، أي: ومنا المسلمون ومنا الكافرون.
قوله: ((كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا)) أي: كنا قبل إسلامنا أهواء مختلفة وفرقاً شتى.
فهذا حكاية عن حالهم قبل أن يدخلوا في الإسلام لما سمعوا القرآن.
والطرائق جمع طريقة، وهي طريقة الرجل ومذهبه، والقدد: الضروب والأجناس المختلفة، جمع قدة كقطعة.
قوله: ((وَأَنَّا ظَنَنَّا)) أي: علمنا وأيقنا، والظن يأتي بمعنى العلم.
((أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ)) يعني: إن أراد بنا شيئاً.
((وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا)) إن طُلِبْنَا فلا مهرب لنا من الله عز وجل.
قال الزمخشري: هذه صفة الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم، منهم أخيار وأشرار ومقتصدون، وأنهم يعتقدون أن الله عز وجل عزيز غالب لا يفوته مطلب، ولا ينجي منه مهرب.
قوله: ((وأنا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى)) أي: القرآن الذي يهدي إلى الطريق المستقيم.
(آمنا به)، أي: صدقنا بأنه حق من عند الله.
((فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا)) يعني: لا يخاف أن ينقص من حسناته فلا يجازى عليها.
((وَلا رَهَقًا)) يعني: ولا يخاف أن ترهقه ذلة وتلحقه هيئة معذبة موجبة للخسوء والطرد، وإنما يكون له الجزاء الأوفى والعاقبة الحسنى.(183/2)
تفسير قوله تعالى: (وأنا منا المسلمون لجهنم حطباً)
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:14 - 15].
يقول تعالى: ((وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)) أي: الكافرون الجائرون عن طريق الحق.
إذاً: المقسط هو العادل، والقاسط هو الجائر.
((فَمَنْ أَسْلَمَ)) يعني: من أذعن وانقاد.
((فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)).
أي: ترجوا وتوخوا رشداً عظيماً، وقصدوا صواباً واستقامة.
وقوله: ((فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)) قيل: إنه من كلام الله عز وجل، وقيل: هو من كلام الجن.
قال الزمخشري: وقد زعم من لا يرى للجن ثواباً أن الله تعالى أوعد قاسطيهم، وما وعد مسلميهم.
وقد تعرضنا لذلك في سورة الأحقاف عند قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] يعني: منذرين العذاب، {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:30 - 31].
فزعم البعض أن الجن إن آمنوا وعملوا الصالحات فثوابهم أن تغفر لهم ذنوبهم، وأن يجاروا من العذاب الأليم، أما الجنة فإنهم لا يدخلونها؛ لأن هذا فقط هو ثوابهم كما في قوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31].
واستدلوا أيضاً بهذه الآية: ((وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)) قالوا: إن قوله: ((فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)) يعني: اختاروا الطريق الصحيح، وهو طريق الإسلام: ((وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)) فزعم الفريق الذي لا يرى للجن ثواباً أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم.
فرد الزمخشري عليهم بقوله: وكفى به وعداً أن قال: ((فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)).
فتحري الرشد لا شك أنه من أعظم أسباب الثواب وموجباته، والله أعدل من أن يعاقب القاسط، ولا يثيب الراشد.
وقد تكلمنا كثيراً في سورة الرحمن، وذكرنا أن من أقوى ما يدل على أن مؤمني الجن في الجنة، قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13].
فالمخاطب في هذه الآية هم الجن والإنس، بدليل قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الرحمن:33]، فواضح أن السياق الذي فيه ذكر النعيم الموجود في سورة الرحمن في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] عام في الجن والإنس، كذلك قوله تعالى في الحور: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، فدل على أن مؤمني الجن في الجنة.
وقوله تعالى: ((وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)) أي: توقد بكفار الجن كما توقد بكفار الإنس.(183/3)
تفسير قوله تعالى: (وألّوا استقاموا على الطريقة عذاباً صعداً)
{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16].
يقول عز وجل: ((وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا)) أي: الجن أو الإنس، أو كلاهما.
((عَلَى الطَّرِيقَةِ)) أي: على طريقة الحق والعدل.
((لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)) أي: لوسعنا عليهم الرزق، وإنما عبر بالماء الغدق -وهو الكثير- عن سعة الرزق؛ لأن الماء الكثير هو أصل المعاش وسعة الرزق، ولعزة وجوده بين العرب، فهم يعظمون الماء أكثر من غيرهم؛ فمن ثم وعد الله هؤلاء بقوله: ((وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)).
((لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)) أي: لنختبرهم ونبتليهم فيه كيف يشكرون ما خولهم الله سبحانه وتعالى من النعم وأعطاهم.
((وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ)) أي: عن عبادته أو موعظته.
((يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا)) أي: شديداً شاقاً.
قال الزمخشري: والصعد مصدر صعد يقال: صعد صعداً وصعوداً، فوصف به العذاب؛ لأنه يتصعد المعذب، أي: يعلوه ويغلبه، فلا يطيقه.(183/4)
تفسير قوله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18].
((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)) أي أن المساجد التي هي أشرف بقاع الأرض مختصة بالله عز وجل، ومقامة لأجل عبادة الله وحده لا شريك له.
(فلا تدعوا) أي: لا تعبدوا، والدليل قوله تعالى في سورة غافر: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] فكثيراً ما تأتي تتناوب هاتان العبارتان فأحياناً يعبر عن الدعاء بالعبادة، وأحياناً يعبر عن العبادة بالدعاء.
والمعنى: لا تعبدوا مع الله سبحانه وتعالى أحداً في المساجد، وهذا فيه تعريض لما كان عليه المشركون من عبادتهم غيره تعالى في المسجد الحرام، ونصبهم فيه التماثيل والأنصاب، وبما عليه أهل الكتاب، فإن المساجد لم تشد ولم تبن إلا ليذكر فيها اسمه تعالى وحده، ومن هنا ذهبت الحنابلة إلى أنه لا يجتمع في دين الله مسجد وقبر، وأن أيهما طرأ على الآخر وجب هدمه.
والغريب أن القاسمي ينسب هذا إلى الحنابلة فقط، لأن العبارة من عبارات ابن القيم في زاد المعاد، لكن الحقيقة أن هذا كلام أئمة المذاهب الأربعة، وعلمائها.
نحن في مصر متخصصون في وضع المساجد على القبور، وأوسع كتاب اشتهر بجمع أقوال المذاهب الأربعة التي تثبت أن جميع المذاهب المتبوعة تنهى عن بناء المساجد على القبور هو كتاب (تحذير الساجد من اتخاذ القبور على المساجد) وهو للعلامة الألباني رحمه الله تعالى، وهذا من أوائل الكتب التي ألفها الشيخ الألباني، ألفه وهو شاب صغير، رحمه الله تعالى.
فإذا كنا نهمل القضايا التي تمس صلب عقيدة التوحيد، والأمور التي تمس واقعنا، فكيف بما هو أقل منها.
فإذاً: ابن القيم ذكر في زاد المعاد أنه لا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، والحكم يكون للأصل، والطارئ هو الذي يزال، يعني: إن كان هناك قبر ثم بني عليه المسجد فالمسجد يهدم ويزال، أما إذا كان هناك مسجد ثم طرأ عليه قبر، فالقبر هو الذي يزال، أما مسجد وقبر فلا يجتمعان في دين الإسلام أبداً، والأدلة على ذلك واضحة وضوح الشمس.
وأنا كلما تلوت قوله عز وجل: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) تذكرت حادثة هدم المسجد البابري في الهند، والذي قاد الحملة لهدمه رجل هندوسي وثني مشرك، كان زعيماً لجماعة من الهندوس الكفرة، ظل مدة كبيرة يدربهم على هدم المسجد، لكن أذيع في الأيام الأخيرة أن هذا الرجل دخل في الإسلام، وظل يبكي ويدعو الله سبحانه وتعالى أن يمحو عنه وزر تحطيم هذا المسجد.(183/5)
تفسير قوله تعالى: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19].
((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ)) أي: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد وصف الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأشرف الصفات في أشرف المقامات، وهي صفة العبودية لله، فبعض الفئات من الناس تظن أنها لن تعظم النبي صلى الله عليه وسلم حق قدره حتى تبالغ في وصفه بما يكرهه، وبما يقدح في عقيدة التوحيد، فيظنون أن هذا تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهم في هذه الحالة يفعلون فعل النصارى، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).
إن فخر الرسول عليه الصلاة والسلام هي العبودية لله التي هي غاية الحب وغاية الذل، فمن أراد أن يمدحه فليمدحه بالعبودية والتواضع لله؛ لأن القاعدة أن من تواضع لله رفعه، ولا يمكن أن نبياً يبعث إلى الناس ويدعوهم إلى عبادة الله والكفر بالأنداد ثم هو نفسه يدعوهم إلى عبادة نفسه؛ لأن هذا تعارض، يقول عز وجل: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80].
فالغلو في النبي عليه الصلاة والسلام قد يصل إلى الكفر والعياذ بالله، خاصة بعض الصوفية الذين يوجد عندهم انحرافات كثيرة في هذا الباب، فلنحذر الغلو والمبالغة في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما عند بعض الشعراء وأشهرهم هو البوصيري في البردة المشهورة، وفيها كلام بشع يتناقض مع التوحيد تناقضاً جذرياً، مثل قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها.
يعني: من كرم الرسول عليه الصلاة والسلام أنه خلق الدنيا وضرتها، أي: الآخرة.
ومن علومك علم اللوح والقلم.
وقوله: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم أو قول بعضهم عند التعوذ: أعوذ بمحمد من شر ما خلق الله، هل يعظم بهذا؟! والرسول صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يقول: (ما شاء الله وشئت، غضب وقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده)، والأدلة في ذلك كثيرة.
قوله: ((يَدْعُوهُ)) يعني: يعبد ربه.
قوله: ((كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)) يعني: أن الجن لما رأوا النبي عليه الصلاة والسلام وهو يعبد الله عز وجل ازدحموا عليه طبقات فوق طبقات وجماعات بعضها فوق بعض؛ تعجباً مما رأوه من عبادته، واقتداء أصحابه به، وإعجاباً بما تلا من القرآن؛ لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره.
والضمير في قوله: ((كَادُوا)) عائد على الجن، أي: كاد الجن يكونون عليه لبداً؛ لأن الحديث في البخاري يدل على أنهم الجن.
وجوز رجوع الضمير على المشركين بمكة، والمعنى: لما قام الرسول يعبد الله وحده مخالفاً للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه، كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين.
قوله: ((لِبَدًا)) جمع لبد، وهو ما تلبد بعضه على بعض، يعني: طبقات بعضها فوق بعض، ومنها لبدة الأسد وهو شعر زبرة الأسد.(183/6)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً)
يقول تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} [الجن:20].
وقرئ ((قَاْل إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا)).
قوله: ((إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي)) أي: أعبد ربي وأبتهل إليه وحده.
((وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا))، أي: فليس ذلك ببدع ولا منكر يوجب تعجبكم أو إطباقكم على مقتي، يعني: هذه دعوتي صريحة واضحة، فمن أي شيء تتعجبون؟! أتتعجبون أنني أدعو إلى لا إله إلا الله، أو أني أقول: ربنا الله؟! ماذا تنكرون من حالي وأنا لا أقول إلا: لا إله إلا الله؟ ولا أدعو إلا إلى توحيد الله تبارك وتعالى ونبذ الأنداد.
فهذا كقول الله عز وجل: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28].
وقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
وقوله تعالى عن لسان المؤمنين السحرة: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} [الأعراف:126].
فلذلك قال هنا: ((قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا)) أي: فليس ذلك ببدع ولا بمنكر يوجب تعجبكم أو إطباقكم على مقتي.(183/7)
تفسير قوله تعالى: (قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً وأقل عدداً)
{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا * حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن:21 - 24].
يقول تبارك وتعالى: ((قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا)) أي: لأن ذلك لله تعالى وحده، فلا تستعجلوني بالعذاب، فهذا ليس بيدي.
((وَلا رَشَدًا)) إما أن يراد بالرشد هنا النفع تعبيراً بالسبب عن المسبب، يراد بالضر الغي، تعبيراً باسم المسبب عن السبب.
ويجوز أن يجرد من كل منهما ما ذكر في الآخر، فيكون احتباكاً، والتقدير: قل إني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ولا غياً ولا رشداً.
يقول تبارك وتعالى: ((قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ)) يعني: إن أراد الله عز وجل بي سوءاً فلن يجيرني من الله أحد.
((وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا)) يعني: ملتجأً إن أهلكني، وأصله المدخل من اللحد.
قوله تعالى: {إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن:23] هو استثناء من قوله: ((لا أَمْلِكُ)).
((قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا)) * ((إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ))، يعني: أملك لكم نوعاً معيناً من الرشد، وهو أنني أبلغكم رسالة الله والوحي الذي يهديكم به، فإن التبليغ إرشاد ونفع، فالاستثناء متصل، وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة، أعني قوله: ((قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا)).
وجمعت الرسالات في قوله: ((وَرِسَالاتِهِ)) لأنها تعبر عن معاني الوحي وأحكام الحق؛ لأنها متعددة.
((وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) يعني: فلم يسمع ما جاء به، ولم يقبل ما يبلغه، ((فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)).
((حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ)) يعني: ما يوعدون في الرسالات الإلهية من الظهور عليهم أو العذاب الأخروي.
((فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا)) أي: أجند الرحمن أو إخوان الشيطان؟!(183/8)
تفسير قوله تعالى: (قل إن أدري أقريب ما توعدون ومن خلفه رصداً)
يقول تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} [الجن:25].
((أمداً)) يعني: غاية تطول مدتها.
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26 - 27].
قوله: ((رَصَدًا)) يعني: حرساً من الملائكة يحفظون الرسول من تخاليط الشياطين ووساوسهم، حتى يبلغ ما أمر به من غيبه ووحيه.
قال بعض المفسرين في قوله تعالى هنا: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا)) إن كلمة: ((غَيْبِهِ)) ليست من صيغ العموم، فيحتمل أن يقصد بها نوع معين من الغيب، وهو توقيت قيام الساعة.(183/9)
تفسير الزمخشري لقوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى)
يقول الزمخشري: قوله: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} أي: أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة، لا كل مرتضى.
يعني: يمكن أن الله سبحانه وتعالى يرتضي من عباده الأولياء والصالحين، لكن يقصد هنا طبقة معينة من المرتضين، وهم من خصوا بالرسالة فقط، فهم الذين يطلعهم الله على هذا الغيب.
يقول الزمخشري: وفي هذا إبطال للكرامات؛ لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب.
لمزيد من التوضيح فـ الزمخشري معتزلي ينكر الكرامات، فهو يفسر الآية بطريقة معينة، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى لا يطلع على الغيب إلا درجة معينة ممن ارتضاهم ورضي عنهم، وهم من خصوا بالرسالة، لكن لا يوجد أحد يدعي أن الكرامات هي ما تعلق بشيء من الغيب، وكذلك لا يوجد أحد يزعم أن الأولياء يعلمون الغيب إلا من خلال أمرين اثنين: إما رؤيا منامية، كأن يرى رؤيا صالحة تشير إلى شيء من الغيب، ومع ذلك فهذا الولي لا يقطع بها الأمر الثاني: الفراسة، والفراسة هي نور البصيرة التي ينور الله بها قلب المؤمن، فيرى ويدرك الأشياء بنور الفراسة.
وهذا أيضاً لا يقطع به كمصدر من مصادر الحقائق العلمية، وإنما هو شيء مظنون.
فهل تنحصر كرامات الأولياء في هذا الباب فقط، أم تنحصر في خرق العادة بالكرامات الشهيرة المعروفة؟ يعني: كون بعض الناس ادعى الاطلاع على الغيب، فهل يجعلنا نبطل جميع كرامات الأولياء؟! كيف والقرآن نفسه احتوى على شيء من كرامات الأولياء، مثل كرامة مريم، كما في قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37].
إذاً: فالكرامات لا تنحصر فيما يتعلق بالإخبار عن الغيب، مع أننا لا ندعي أن أولياء الله يعلمون الغيب، لكن نقول: ربما يكون هناك إخبار بأشياء ستقع عن طريق رؤيا لا يقطع بها، أو عن طريق الفراسة، وهي أيضاً لا يقطع بها.
يقول الزمخشري: وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وإبطال الكهانة والتنجيم؛ لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط.
وهذا صحيح، نقول: إن قوله تعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا)) * ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)) يؤخذ منها أنه سبحانه وتعالى لا يخبر بهذا الغيب إلا من ارتضاه من الرسل، ويؤخذ من هذه الآية إبطال الكهانة والتنجيم؛ لأن أصحابهما هم أولى الناس بسخط الله، وهم أبعد الناس عن أن يرضى عليهم الله، فكيف يقال إنهم يعلمون الغيب؟!(183/10)
تفسير أبي السعود لقوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى)
وقد أجاب أبو السعود: بأن معنى الآية: فلا يطلع على غيبه إطلاعاً كاملاً ينكشف به جلية الحال انكشافاً تاماً موجباً لعين اليقين أحداً من خلقه.
قال: قوله: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)) أي: إلا رسولاً ارتضاه لإظهاره على بعض غيوبه المتعلقة برسالته.
أقول: وهل الرسول يطلع على كل غيب؟ لا، بل يطلعه الله على ما شاء من الغيب المتعلق برسالته.
قال: كما يعرب عنه بيان: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى)) بقوله: ((مِنْ رَسُولٍ)).
إما لكونه من مبادئ رسالته، بأن يكون معجزة دالة على صحتها.
يعني: قد يطلع الله سبحانه وتعالى الرسول المرتضى على شيء من الغيب، ليكون معجزة له وأنه أخبر بهذا الغيب، وهذا ركن من أركان الاستدلال به على صدق النبوة.
فمن ضمن الأشياء الخمسة التي يستدل بها على صدق النبوة: النبوءات والإخبار عن غيب قبل أن يقع فيقع كما أخبر، فيكون ذلك معجزة تؤيد النبي، وتدل على صدقه.
قال: وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية التي أمر بها المكلفون، وكيفيات أعمالهم، وأجزيتها المترتبة عليها في الآخرة.
أي: فهذا غيب، والرسول عليه الصلاة والسلام اطلع على هذا الغيب، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بها قصراً في الجنة)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له بها نخلة في الجنة).
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بهذا النوع من الغيب.
قال: وما تتوقف عليه من أحوال الآخرة التي من جملتها قيام الساعة والبعث، وغير ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة.
يعني: فالرسول عليه الصلاة والسلام يخبرنا من خلال الوحي بأشياء لا يمكن أن يدلنا عليها العقل، وهي هذه الأمور الغيبية، من صفات الملائكة والجن وأحوالهم، أليس هذا كله غيباً؟! قال: أما ما لا يتعلق بها على أحد الوجهين من الغيوب التي من جملتها قيام الساعة، فلا يظهر عليها أحداً أبداً؛ لأن هذا الغيب لا يرتبط بالرسالة، ولا هو من موضوع الرسالة.
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن قيام الساعة قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) إن السائل جبريل والمسئول هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا كان محمد عليه الصلاة والسلام وجبريل لا يعرفان متى الساعة، فهل يطمع غيرهما أن يعرف متى الساعة؟! والآيات في ذلك واضحة.
قال: على أن بيان وقته مخل بالحكمة التشريعية التي عليها يدور فلك الرسالة.
يعني: فمن حكمة الله أنه خبأ علينا موعد الساعة؛ لأننا لو عرفنا موعد قيام الساعة لانتهى الامتحان.
قال: أيضاً: ليس فيه ما يدل على نفي كرامات الأولياء، فإن اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكرامات بالرسل، لا يستلزم عدم حصول مرتبة ما من تلك المراتب لغيرهم أصلاً، ولا يدعي أحد لأحد من الأولياء ما نسب للرسل عليهم الصلاة والسلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح.(183/11)
كلام النسفي والرازي في قوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى)
قال النسفي في الجواب أيضاً: أي: إلا رسولاً قد ارتضاه لعلم بعض الغيب، فإنه يطلعه على بعض الغيب، ليكون إخباره عن الغيب معجزة له.
قوله: (من رسول) بيان لقوله: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى))، والولي إذا أخبر بشيء فظهر، فهو غير جازم عليه، ولكنه أخبر بناء على رؤياه أو بالفراسة، على أن كل كرامة من ولي فهي معجزة للرسول.
وقال الرازي: وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء مما قالوه.(183/12)
ملخص كلام المفسرين في قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى)
إذاً: الزمخشري ومن تابعه على أن قوله: ((عَلَى غَيْبِهِ)) ليس فيه صيغة عموم، كذلك أبو السعود والنسفي يقولان: ليس هذا هو المقصود بقوله تبارك وتعالى: ((فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا)) فيكفي في العمل بمقتضاه ألا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه، فنحمله على وقت وقوع القيامة، فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر على هذا الغيب بالذات أحداً، فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد.
والذي يؤكد هذا التأويل أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية عقيب قوله: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} [الجن:25]، فالكلام هنا عما توعدون من قيام الساعة، يعني: لا أدري وقت وقوع القيامة.
فقوله بعده: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا)) أي: غيبه الذي هو علم وقت القيامة.
وبالجملة فقوله: ((عَلَى غَيْبِهِ)) لفظ مفرد مضاف، فيكفي في العمل به حمله على غيب واحد وهو قيام الساعة، لكن هناك أنواع أخرى من الغيب يمكن أن يطلع عليها الرسل، كما ذكرنا.
ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعاً، يعني: كأن الله سبحانه وتعالى قال: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص جداً، والغيب المخصوص هو وقت القيامة.
قوله: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)) أي: حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن؛ لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام جواباً لسؤال من سأله عن وقت وقوع القيامة على سبيل الاستهزاء به والاستحقار لدينه ومقالته.
وملخصه تخصيص الغيب بوقت وقوع القيامة بدلالة السياق، وتخصيص الرسول بالملك.(183/13)
علم النجوم والاكتشافات والتجارب بين المشروع والممنوع
وقال بعضهم: إن في هذه الآيات تكذيب المنجمة.
وكلمة المنجمة كان لها اصطلاح غريب مخالف قليلاً لما نعرفه الآن، فالمنجم الآن ليس هو الذي يدعي النظر في النجوم ويستطلع فيما يزعم أخبار الغيب عن طريق النظر في النجوم كالكهان مثلاً، وإنما المنجم يدخل فيه كل من يشتغل بعلم الهيئة والنجوم.
فعلم الفلك الذي هو علم الهيئة هذا علم يخضع للتجربة والمشاهدة والاستنتاج والدراسة والاستقراء، وممكن أن يصدق أن الكسوف يحصل في وقت معين، وليس هذا ادعاءً للغيب، وإنما هو بناء على حسابات وضبط للنظام الذي وضعه الله في هذا الكون، فأنت عندما تقول: إن الشمس غداً ستشرق من المشرق لا تخبر بالغيب، لأن ذلك شيء تعودناه ورأيناه، فنعرف أنها سوف تشرق من المشرق بإذن الله، فكذلك الإخبار عن بعض هذه الأشياء.
إذاً: لا ينبغي أن نخلط بين العلوم التجريبية التي تخضع للحس وللتجارب البشرية والاستقراء، وبين من يدعي الإخبار بأشياء ستقع، بناءً على أنه يعلم الغيب، فهذه نقطة وتلك نقطة أخرى.
فكل ما يمكن للإنسان أن يصل إليه بالبحث والتحري لا يكون من الغيب في شيء، فلذلك بعض الناس يختلط عليهم الأمر، يقول لك: توجد الآن أجهزة يمكن من خلالها معرفة نوع الجنين، فتراه يرتبك ويذكر قول ربنا سبحانه وتعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:34] ثم يقول: عندنا تجرى أنواع من الفحوص ثم يقول لك الطبيب: إن هذا ذكر أو أنثى مثلاً، فهل هذا يتنافى مع إيماننا بأنه لا يعلم ما في الأرحام إلا الله؟ نقول: إن الله عز وجل يعلم ما في الأرحام بدون آلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يوجد غيب في حقه سبحانه، لكن الإنسان عندما يعلم ما في الرحم مثلاً هو لا يقول: هذا ذكر أو أنثى دون أن يجري فحوصات طبية ويستعمل آلات، كذلك عندما يكون في العظم شرخ مثلاً، فإنه لا يقول لك: هذا فيه شرخ دون أن يجرى أشعة وينظر في الأشعة.
فهل هو يعلم الغيب؟ لا، ولكن وصل إليه بنفسه بجهد وبآلة.
فالمقصود أن الله هو الذي يستأثر بعلم الغيب؛ لأنه لا يحتاج إلى آلة، أما نحن فلا يمكن أن نعرف إلا بآلة أو بجهد بشري نفعله، ونصل في النهاية إلى هذه الأشياء.
على أي حال يقول: وقال بعضهم: في هذه الآيات تكذيب المنجمة، وليس كذلك، فإن فيهم من يصدق خبره، وكذلك المتطببة، فإنهم يعرفون طبائع النبات، وذا لا يعرف بالتأمل، فعلم بأنهم وقفوا على علمهم من جهة رسول انقطع أثره وبقي علمه في الخلق، وهذا الجواب يلجأ إليه المتفقهة، زعماً بأن معرفة مواقيت الكسوف وخواص المفردات مما يشمله علم الغيب، ولا يصح أن أحداً يدعي أنه يعرفه، ونكذب من يقول هذا بحجة قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:26].
والصواب أن هذا ليس له علاقة بعلم الغيب؛ لأنه مما يتيسر للناس أن يعرفوه بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث، كالعلوم الرياضية والطبيعية والزراعية والصنائع والهيئة الفلكية وعلم الأجنة، فكل ما يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه لا يكون من الغيب في شيء، ولذا قال بعض الحكماء: لو كان من وظيفة النبي أن يبين العلوم الطبيعية والفلكية، لكان يجب أن تعطل مواهب الحس والعقل، وينزع الاستقلال عن الإنسان، ويلزم بأن يتلقى كل فرد كل شيء بالتكليم، ولوجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافياً لتعليم أفرادها في كل زمن ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم.
لقد ترك الله سبحانه وتعالى البشر يترقون في العلوم الدنيوية عن طريق الأجهزة والبحوث والاستقراء، ويكتشفونها بأنفسهم، لكن العلم الذي لا يمكن للبشر أن يصلوا إليه هو علم الوحي والغيب، فهذا أوحاه الله إلى الأنبياء، لكن لو أن الأنبياء هم الذين يعلمون الناس الكيمياء والفيزياء والزراعة والفلاحة وغير هذه الأشياء بتفصيل؛ فإن ذلك سيسد على الناس باب البحث والتعلم والسير في الأرض، واستخراج كنوزها وعلومها.
أما بالنسبة للعلوم الأخروية فقد اقتضت حكمة الله بأن هذا العلم النفيس لا يمكن أن تصل إليه العقول إلا عن طريق الوحي؛ لأنه لا يمكن للعقل البشري أن يصل إلى معرفة الجنة وصفات الجنة، ولا ما سيحصل في المستقبل، ولا ما حصل قبل خمسين ألف سنة من خلق السماوات والأرض، ولا أخبار الأمم الغابرة، ولا صفات الله، ولا أشراط الساعة، ولا تفاصيل يوم القيامة إلى آخره، وكذلك معرفة ما يرضي الله، ولا كيف سنصلي صلاة هي التي يريدها الله، أو نزكي زكاة ترضي الله.
إذاً: الوحي يقتصر على هذا الجانب، أما الجانب الدنيوي فقال فيه عليه الصلاة والسلام: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) يعني: أمور الدنيا تترك للاجتهاد البشري.
نعم إن الأنبياء ينبهون الناس بالإجمال إلى استعمال حواسهم وعقولهم في كل ما فيه منافعهم وتنمية معارفهم التي ترتقي بها نفوسهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك) ولكن مع ربطها بما يقوي الإيمان ويزيد في العبرة، وقد أرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى وجوب استقلالنا دونه في مسائل دنيانا في واقعة تأبير النخل إذ قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم).
يقول القاسمي: فاحفظه فإنه من المضنون به على غير أهله.
يعني: علم خصائص النباتات أو المعادن والكلام في علم الهيئة، ونحوها ليست من الغيب، بل هذه العلوم دون العلوم الشرعية، وتركت للناس بحيث يترقون فيها وينهضون بالطريقة المعروفة.(183/14)
تفسير قوله تعالى: (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم)
يقول الله تبارك وتعالى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28].
قوله: ((لِيَعْلَمَ)) متعلق بقوله تبارك وتعالى: ((فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)).
أي: تحفظه الملائكة من بين يديه ومن خلفه ((لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا)).
وإيراد علمه تعالى في قوله: ((لِيَعْلَمَ)) للعناية بأمر الإبلاغ، والإشعار بترتب الجزاء عليه، والمبالغة في الحث عليه، والتحذير من التفريط فيه.
قوله: ((وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ)).
أي: بما عند الرسل عليهم السلام، جيء بها لتحقيق استغنائه تعالى في العلم بالإبلاغ عما ذكر عن طريق الرصد.
قوله: ((وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا)).
أي: فرداًً فرداً؛ لسعة علمه، وهذا تقرير تام لإحاطته بما عند الرسل من وحيه وكلامه ووعده ووعيده، كما عرف من نظائره.
وهذا آخر تفسير سورة الجن.(183/15)
الأسئلة(183/16)
وجه وجود قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه في مسجده
السؤال
ما حكم وجود قبر الرسول عليه الصلاة والسلام وقبر أبي بكر وعمر في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
هذا بحث مهم ومفيد، وهو موجود بالتفصيل في كتاب (تحذير الساجد)، وهناك بحث في الجزء التاسع من أضواء البيان في نفس هذه الآية: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18].
لكن باختصار شديد: نجيب بما أجاب به الداعية المبارك العلامة أبو بكر الجزائري حفظه الله تعالى ومتعه بالصحة والعافية، فقد قال هنا في الإسكندرية في يوم من الأيام عندما زارنا وسئل هذا السؤال، وهو واعظ في المسجد النبوي الشريف، قال: أقسم بالله إن الرسول عليه الصلاة والسلام ما دفن داخل مسجده، بل دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها، وكان لها باب إلى المسجد، وهذه الحجرة مستقلة عن المسجد، فإدخال الحجرة في المسجد إنما تم في عهد الدولة الأموية، وأنكره بعض السلف في ذلك الوقت، وهذه مخالفة صريحة لنهي النبي عليه الصلاة والسلام، في قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد).
كذلك العمومات الواردة كقوله: (لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة، إنهم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح أقاموا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك التصاوير) والأحاديث في ذلك معروفة.
فكيف نترك كل هذه الأحاديث ونلوذ بفعل فعله من هو غير معصوم، وهو من خلفاء بني أمية.(183/17)
العلة في عدم ذكر الجن لعيسى عليه السلام في قولهم: (إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى …)
السؤال
لماذا ذكر موسى ولم يذكر عيسى في قوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30]؟
الجواب
هذه الملاحظة تكلمنا عليها مراراً، وقلنا: إن هناك ربطاً بين موسى ومحمد عليه الصلاة والسلام في كثير من آيات القرآن، حتى إن في سورة البقرة ربطاً بين هذه الأمة وأمة موسى عليه السلام.
والجواب فيها طويل لكن أقول باختصار شديد: لأن أصل رسالة عيسى إنما هي مكملة لرسالة موسى، وليست بالأصالة التي كانت في رسالة موسى، فالتوراة هي الأساس، ثم أتى عيسى عليه السلام ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم، أو يبين لهم بعض الذي يختلفون فيه، فهي مكملة، أما الرسالة الأصلية فهي رسالة موسى عليه السلام، ولذلك نلاحظ هذا الربط في قول ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء إليه: (هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى) إلى آخره.
وهذا النجاشي قال: (إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة).
كذلك في هذه الآية قول الجن: ((إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى)).
إذاً: أشبه نبي بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام هو موسى عليه السلام، فهناك شبه شديد بينهما من حيث النشأة والرسالة ومعاناة الأمة، فهذا جواب مختصر وقد فصلناه مراراً من قبل.(183/18)
تفسير سورة المزمل [9 - 20](184/1)
تفسير قوله تعالى: (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو)
يقول الله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9].
أي: لا إله إلا هو تكل إليه مهامك فإنه سيكفيكها.
قال ابن جرير: ((فاتخذه وكيلاً)) أي: فيما يأمرك وفوض إليه أسبابك.
((رب المشرق والمغرب)) وهذا ليس إلا لله سبحانه وتعالى.
((لا إله إلا هو)) أي: لا إله حق إلا الله سبحانه وتعالى.
((فاتخذه وكيلاً)) أي: بما أنه هو رب المشرق والمغرب وبما أنه لا إله إلا هو، فلا رب غيره، ولا إله معبود بحق سواه؛ فاتخذه وكيلاً بحيث لا تكل أمورك إلى غيره، وتوكل على الله وحده.
فهذا مما يبين أن التوكل عبادة لا تنبغي أن توجه إلى غير الله سبحانه وتعالى، فلا يجوز أن تتوكل إلا على الله سبحانه وتعالى؛ لأن التوكل عبادة كالسجود والركوع لا ينبغي أن يوجه إلا إلى الله وإلا كان شركاً.
وهذا هو معنى: حسبي الله ونعم الوكيل، ومعنى: توكلت على الله، ولذلك فإن تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]: حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين، وليس معناها: حسبك الله والمؤمنون هم أيضاً حسبك فتوكل عليهم! لأن التوكل عبادة لا تنصرف إلا لله، فلا يصح أن يقول رجل لآخر: توكلت على الله وعليك؛ أو: ثم عليك؛ لأنها مثل قولك: سجدت لله ثم لك! فهل هذا يقبل؟ فكذلك لا ينفعك أن تقول: توكلت على الله ثم عليك؛ لأن التوكل لا يكون إلا على الله وحده فقط، بخلاف الأمور الأخرى، فيمكن أن تستعمل لفظة (ثم) على التراخي.(184/2)
تفسير قوله تعالى: (واصبر على ما يقولون وعذاباً أليماً)
قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:10 - 13].
((واصبر على ما يقولون)) من الأذى والافتراء عليك.
((واهجرهم هجراً جميلاً)) أي: بالإعراض عن مكافأتهم بالمثل؛ لأن الهجر الجميل هو أن تعرض عن مقابلة الأذى بأذى مثله، وهذا كقول الله تبارك وتعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ على الله} [الأحزاب:48] أي: أعرض عن أذاهم وتوكل على الله.
((وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ)) أي: دعني والمكذبين، وكل أمرهم إلي، فإن لي قدرة على الانتقام منهم.
((أولي النعمة)) أي: أولي التنعم، ويريد بذلك عز وجل صناديد قريش ومترفيهم.
((ومهلهم قليلاً)) أي: تمهل عليهم زماناً أو إمهالاً قليلاً.
((إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا)) أي: قيوداً.
((وجحيماً)) أي: ناراً شديدة الحر والاتقاد.
((وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ)) أي: طعاماً يغص به آكله فلا يسيغه.
((وعذاباً أليماً)) أي: ونوعاً آخر من أنواع العذاب مؤلماً لا يعرف كنهه.
كما يقول الله عز وجل في نعيم الجنة: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) وقال سبحانه: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17].
أي: كما أن في الجنة ما لم يخطر على قلب بشر ولا يمكن لبشر أن يتصور كنهه، فكذلك النار فيها من العذاب ما لا يخطر على قلب بشر ولا يمكن أن يدرك كنهه، وهو فوق طاقة البشر ولا يستطيعون تخيله، فليست نار الآخرة كنار الدنيا.
((وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً)) أي: ونوعاً آخر من أنواع العذاب مؤلماً لا يعرف كنهه، فلا ترى موكولاً إليه أمرهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام.
والمعنى: إذا كان لدينا عذاب لا يتصور كنهه ولا يدركه أحد، فحقيق ألا تفوض أمرهم ولا تكل حسابهم ولا ترجو الانتقام منهم إلا من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أقدر على الانتقام منهم.(184/3)
تفسير قوله تعالى: (يوم ترجف الأرض والجبال أخذاً وبيلاً)
قال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا * إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:14 - 16].
((يوم ترجف الأرض والجبال)) أي: تضطرب وترتج بالزلزال.
((وكانت الجبال كثيباً مهيلاً)) أي: رملاً متفرقاً منثوراً.
((إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ)) أي: سوف يشهد عليكم -أيها الأمة- بإجابة من أجاب وإباء من أبى واستنكف عن الانقياد لشرعه.
إذاً: هذا الخطاب لكل البشر من لدن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيام الساعة.
((كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً)) أي: يدعوه إلى الحق.
((فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا)) أي: أخذاً ثقيلاً، وذلك بإهلاكه ومن معه غرقاً في اليم.
لقد كان فرعون يستعبد قوم موسى، وكان يطلب منهم أن يعبدوه، {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فعتى عتواً كبيراً، وطغى طغياناً عظيماً؛ لأن قومه كانوا كالذيل تبعاً له.(184/4)
تفسير قوله تعالى: (فكيف تتقون إن كفرتم يوماً)
قال تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل:17].
أي: كيف تقون أنفسكم إن بقيتم على كفركم ولم تؤمنوا بالحق يوم القيامة، وحاله في الهول ما ذكر الله سبحانه بقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل:14]، ثم قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:15 - 16].
فإذا كان يوم القيامة حاله ما ذكر، وهو يوم يجعل الولدان شيباً، أي: الطفل الصغير يشيب رأسه من أهوال يوم القيامة، مع أنه لم يرتكب معصية ولا ذنباً، فكيف تكون الأهوال في حق هؤلاء؟! وهذا كلام جرى مجرى المثل وليس ذلك على حقيقته؛ لأن الأمة مجمعة على أن الأطفال لا تتغير صفاتهم وصورهم في الآخرة إلى الشيب، والأصل في هذا أن الهموم والأحزان إذا توالت على الإنسان شاب سريعاً.
على أي الأحول هذا الكلام نسبه القاسمي إلى ابن أبي الحديد الذي ينسب إليه شرح نهج البلاغة، فهو يستبعد أن يكون الكلام على حقيقته، وعندنا أنه لا يوجد ما يمنع أن يكون على حقيقته، وأن الأطفال تتغير صفاتهم وصورهم في الآخرة إلى الشيب؛ لكن نقول: إن هذا يحصل في أهوال يوم القيامة وليس في ولدان الجنة.
يقول أبو الطيب المتنبي في قصيدة له: والهم يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم أي: الشخص البدين المليء إذا أصابه الهم فإنه يعود نحيفاً، وكذلك الهم يشيب ناصية الصبي، ويوصله إلى الهرم والكبر.(184/5)
تفسير قوله تعالى: (السماء منفطر به إلى ربه سبيلاً)
قال تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا * إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:18 - 19].
((السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ))، قال الزمخشري: وصف لليوم بالشدة أيضاً، وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟! هنا ملاحظة في وصف السماء بقوله: (منفطر) مع أن السماء لفظ مؤنث، ووصفت هنا بالمذكر ولم تؤنث الصفة لأمور: منها تأويلها بالمشتق، ومنها: أن السماء ذات انفطار نحو مرضع وحائض، ومنها: أن كلمة السماء قد تذكر وقد تؤنث.
قوله تعالى: ((منفطر به)) هذه الباء سببية، أي: بسبب يوم القيامة، أو للاستعانة، أو بمعنى في، أي أن السماء منفطر فيه.
((كان وعده مفعولاً)) أي أن الله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده، فاحذورا ذلك اليوم.
يقول الله تبارك وتعالى: ((إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ)) أي: أن هذه الآيات الناطقة بالوعيد الشديد.
((تذكرة)) أي: موعظة لمن اعتبر بها واتعظ.
((فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً)) أي: بالإيمان به والعمل بطاعته.(184/6)
تفسير قوله تعالى: (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل)
يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل:20].
((إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ)) أي أنك تتهجد فيه هذه التارات المختلفة، وتشمر للعبادة فيه هذا التشمير؛ امتثالاً لأمره وتبتلاً إليه.
((وطائفة من الذين معك)) أي: يعلم أنهم يقومون معك كذلك.
((والله يقدر الليل والنهار)) أي: يجعلهما على مقادير يجريان عليها، فتارة يستويان، وتارة يأخذ من الليل في النهار فيصير النهار أطول كما في الصيف، وتارة يأخذ من النهار في الليل فيطول الليل كما في الشتاء، مما يشق لأجله المواظبة على قيامه لما علمه منكم.
أو المعنى: ((والله يقدر الليل والنهار)) أي: يقدر فيهما ما شاء من الأوامر، ومنه أن يقدر لكم الوقت الذي تقومون فيه على سبيل التخيير والتيسير، كما جاء في أول السورة حيث قال: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:2 - 4] فهذا التخيير للترخيص والتيسير.
((علم أن لن تحصوه)) الهاء تعود إلى قيام الليل على النحو الذي دأبتم عليه، أو قيام الليل كله، أي: علم أنكم لن تطيقوا ولن تقدروا على قيام الليل كله؛ لأن في هذا حرجاً ومشقة وعسراً وإنهاكاً لأبدانكم.
((فتاب عليكم)) أي: عاد عليكم باليسر ورفع الحرج.
((فاقرءوا ما تيسر منه)) أي: اقرءوا في صلاة الليل ما تيسر بلا تقدير، أو المراد: لا تتجاوزوا ما قدره لكم رحمة بأنفسكم، وفيه رد عن غلوهم في قيام الليل كله، أو الحرص عليه شوقاً إلى العبادة وتوقاً إلى الكمالات.
قال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن يحيد عما أمر به من قيام.
((علم أن سيكون منكم مرضى)) أي: يضعفهم المرض عن قيام الليل.
((وآخرون يضربون في الأرض)) للتجارة وغيرها فيقعدهم ذلك عن قيام الليل.
((وآخرون يقاتلون في سبيل الله)) أي: لنصرة الدين فلا يتفرغون للقيام في الليل.
((فاقرءوا ما تيسر منه)) أي: من القرآن ولا تحرموا أنفسكم؛ لأنه سبحانه وتعالى يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.(184/7)
ذكر الخلاف في وجوب قيام الليل بسورة المزمل
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ذهب كثير من السلف إلى أن الآية الأولى فيها إيجاب قيام الليل، ثم هذه الآية في آخر السورة نسخت هذا الوجوب، ولذلك قال: ((فتاب عليكم)) أي: برفع الوجوب ونسخه للتيسير.
يقول ابن كثير: روى ابن جرير عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل، فتسامع به الناس فاجتمعوا، فخرج كالمغضب وكان بهم رحيماً، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فقال: أيها الناس! اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل، وخير الأعمال ما ديم عليه، فنزل القرآن: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] إلى آخر الآيات، حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق)، أي: كانوا من شدة قيامهم في الليل ومكابدتهم المشقة الشديدة امتثالاً للأمر الإلهي يربط الرجل الحبل ويتعلق به ويستند عليه أثناء صلاة القيام، حتى لا يقع على الأرض؛ من شدة ما كانوا يلقون من المشقة.
يقول: (حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر فرأى الله سبحانه وتعالى ما يبتغون من رضوانه، فرحمهم فردهم إلى الفريضة وترك قيام الليل).
قال ابن كثير: والحديث في الصحيح بدون زيادة نزول هذه السورة، وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة، وليس كذلك وإنما هي مكية.(184/8)
فائدة في تعدد أسباب النزول
يقول القاسمي: وبمثل هذه الرواية يستدل على أن مراد السلف بقولهم: ونزلت الآية، الاستشهاد بها في قضية تنطبق عليها كما بيناه مراراً.
إذاً: هذا دليل من الأدلة التي تؤيد هذا البيان الذي امتاز القاسمي رحمه الله تعالى ببيانه في كل مناسبة كما تلاحظون، بخلاف التفاسير الأخرى.
فالقارئ أحياناً إن لم يكن عنده خبر في هذه القضية يضطرب ويقول: هل معظم الآيات تعدد فيها النزول؟
و
الجواب
أنه لم يتعدد النزول في الغالب، لكن قد يكون المقصود بقولهم: نزلت في كذا ونزلت في كذا، أي: أن حكم هذه الواقعة مما يشمله عموم هذه الآية، أو أن معناها يشمل هذه الواقعة، فكذلك هنا قوله في هذا الحديث: (ونزل القرآن: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]) هو بمعنى الاستشهاد بالآية في قضية تنطبق عليها، وليس المقصود إطلاق سبب النزول في كل حالة.
وقد يتعدد النزول، لكن هذا قليل، فلا يتوهمن متوهم أن ما يوجد في بعض كتب التفاسير من ذكر أسباب كثيرة للنزول بعد صحة السند، بل إذا صح السند في أكثر من سبب، فإما أن يكون تكرر النزول، وإما يحمل على هذا المعنى الذي ذكرناه، وهو شمول المعنى وعمومه.(184/9)
ذكر الأقوال في وجوب قيام الليل ونسخه
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلاً، فشق ذلك على المؤمنين، ثم خفف عنهم فرحمهم وأنزل الله بعد هذا: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل:20] إلى آخر الآية، فوسع الله وله الحمد ولم يضيق).
وعن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] قاموا بها حولاً حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، حتى نزلت: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] قال: فاستراح الناس.
وقال ابن حجر في شرح صحيح البخاري: ذهب بعضهم إلى أن صلاة الليل كانت مفروضة ثم نسخت بقيام بعض الليل مطلقاً، ثم نسخ بالخمس، ثم نسخ بالصلوات الخمس، وأنكره المروزي.
وذهب بعضهم إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة.
وقال السيوطي في الإكليل: قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:2] هو منسوخ بعد أن كان واجباً بآخر السورة، وقيل: محكم.
واستدلت طائفة على لزومه على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، ويستدلون أيضاً بآية أخرى على وجوب القيام على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] واستدل به آخرون على وجوبه على الأمة أيضاً، ولكن ليس الليل كله بل صلاة ركعتين، وعليه الحسن وابن سيرين.
يقول القاسمي: هناك من ذهب إلى أن الأمر محكم وأنه ليس منسوخاً وأنه للندب، ويرى أن آخر السورة تعليم لهم بالرفق بأنفسهم، وحملوا الآية على الندب، فبماذا يجيب هذا الفريق الذي يرى أن الأمر الأول على الندب عن قوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] إلى آخره؟ يقولون: إن المقصود بآخر السورة إرشادهم إلى أن يرفقوا بأنفسهم؛ لأنه منّ عليهم باليسر ورفع عنهم الآصار.
وفيه ما يدل على شدة اهتمام وعناية الصحابة بالنوافل، يعني على هذا المذهب الذي يقول إن الأمر محكم وإن الأمر بقيام الليل على الندب، ولم يفرض على الأمة، ومع ذلك اجتهدوا هذا الاجتهاد حتى تاب الله عليهم بالتخفيف، وحتى أفضى الحال إلى الرفق بهم فيه.
ويدل عليه أثر عائشة رضي الله تعالى عنها في ربطهم الحبل للتعلق به استعانة على قراءة القرآن وكثرة تلاوته، ومعروف حديث زينب: (لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حبلاً مربوطاً بين ساريتين في المسجد فقال: لمن هذا الحبل؟ قالوا: إنه لـ زينب اتخذته حتى إذا قامت من الليل تتكئ عليه حتى لا تقع من شدة التعب، فأمر بقطعه وقال: عليكم من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا).(184/10)
معنى قوله: (فاقرءوا ما تيسر منه)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]: وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة الإسراء: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء:110] أي: بقراءتك.
وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى بهذه الآية على أنه لا تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ولو بآية أجزأه، واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن).
وقد أجابهم الجمهور بحديث: عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو في الصحيحين، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
أيضاً يرد على الأحناف بحديث المسيء صلاته أن في بعض الروايات: (ثم اقرأ بفاتحة الكتاب أو بأم القرآن) ولا شك أن الراجح والله تعالى أعلم أن قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة.
قوله تبارك وتعالى: ((وآخرون يقاتلون في سبيل الله)) هذا علم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ابن كثير: وهذه الآية بل السورة كلها مكية، ولم يكن القتال شرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوة؛ لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة.(184/11)
فائدة تتعلق بلام العهد
قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:15 - 16] الألف واللام في كلمة (الرسول) للعهد أي: أن الرسول هو موسى عليه السلام، بخلاف قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، فالرسول هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم بدلالة قوله: (القرآن).(184/12)
فضيلة التجارة
قوله تعالى: ((وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)) فيه فضيلة التجارة لسوقها في الآية مقرونة بالجهاد.
أخرج سعيد بن منصور أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إلي أن يأتيني وأنا ألتمس من فضل الله، ثم تلا هذه الآية: ((وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)).
وورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن تسعة أعشار أرزاق أمتي جعلت في التجارة)؛ لأن فيها توكلاً على الله سبحانه وتعالى.(184/13)
تفسير قوله: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)
فهذه الآية كما يقول السيوطي: أصل في مشروعية التجارة.
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزمل:20] أي: زكاة أموالكم.
قال ابن كثير: وهذا يدل لمن قال: إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة.
((وأقرضوا الله قرضاً حسناً)) أي: أن بذل المال في سبيل الخيرات على أحسن وجه يكون قرضاً حسناً، وذلك كأن ينتقي المال الطيب والحسن ويخرجه ولا ينتقي المال الرديء قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267].
وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] فالقرض يكون حسناً إذا كان من أصل طيب أو من أطيب المال.
ومن الإحسان في القرض تعجيله؛ لأن هناك ثلاثة أشياء تحمد في أي عمل معروف: تصغيره، وتعجيله، وكتمانه.
تصغيره بألا تعظمه، وتعجيله بألا تؤجله، وكتمانه كي يكون سراً، كما في الحديث: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمنيه) بخلاف من يمن ويؤذي: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264].
من خصائص القرض أن الإنسان يقرض بنية الأخذ؛ لأن الإنسان إذا بذل المال في سبيل الله تبارك وتعالى فإنه على يقين من أنه سوف يرجع إليه أضعافاً مضاعفة ببركة الله تبارك وتعالى، فلكونه محقق الرجوع إليه دل التعبير به على تحقق العوض هنا، ولذلك قال: ((وأقرضوا الله قرضاً حسناً)) فهذا هو سر بذل المال في سبيل الله وفي الخيرات على أحسن الوجوه، فأنت إذا بذلت هذا المال لن يذهب سدى، ورجوعه إليك أمر محقق حتى سمي قرضاً، فكأنك تقرض الله، والله سوف يعيد إليك ثوابه أضعافاً مضاعفة.
((وما تقدموا لأنفسكم من خير)) أي: في الدنيا من صدقة أو نفقة في وجوه الخير، أو عمل بطاعة الله أو غير ذلك من أعمال البر.
((تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً)) أي: أعظم ثواباً مما عندكم من متاع الدنيا.
((واستغفروا الله)) أي: سلوه غفران ذنوبكم.
((إن الله غفور رحيم)) أي: ذو مغفرة لذنوب من تاب إليه وأناب، وذو رحمة فلن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.(184/14)
تفسير سورة المدثر [1 - 30](185/1)
وجه الجمع بين الأحاديث في أول ما نزل من القرآن
سنشرع بإذن الله تبارك وتعالى في تفسير السورة الرابعة والسبعين، وهي سورة المدثر، وهي سورة مكية، وعدد آياتها تسع وخمسون آية.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ثبت في صحيح البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه، أنه كان يقول: (أول شيء نزل من القرآن: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}) وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولاً قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.
وروى البخاري عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، قلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}؟ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثلما قلت لي، فقال جابر: (لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت الوادي فسمعت صوتاً فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماءً بارداً، قال: فدثروني وصبوا علي ماءً بارداً، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]).
وروى الشيخان أيضاً عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: (فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء الأرض، فجثثت منه رعباً، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] إلى آخر الآيات).
فيفهم من هذا السياق أن هناك وحياً نزل قبل سورة المدثر، ففي هذه الرواية يقول جابر: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي) أي أن الوحي أول ما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام بسورة اقرأ، ثم انقطع فترة، وتوقف لمدة، ثم بعد ذلك عاد الوحي فكان أول ما نزل بعد فترة الوحي هو: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، وهذا الحديث يوضح ذلك.
يقول جابر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: (فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه رعباً، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] إلى آخر الآيات).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا السياق هو المحتوم، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله: (فإذا الملك الذي جاءني بحراء)، وهو جبريل حين أتاه بقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، ثم إنه حصل بعد هذا فترة، ثم نزل الملك بعد، هذا وجه الجمع.
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، (أن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاماً، فلما أكلوا منه قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: ليس بساحر.
وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ليس بكاهن.
وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: ليس بشاعر.
وقال بعضهم: سحر يؤثر.
فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن وقنع رأسه وتدثر، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] إلى آخر الآيات).(185/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها المدثر)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1].
أي: المتلفع بثيابه لنوم أو استدفاء.
والمدثر من الدثار، وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار، والشعار هو الثوب الذي يلي الجسد مباشرة.
وأصل المدثر المتدثر، فأدغمت التاء في الدال، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لحالته التي كان عليها وقت نزل الوحي، أو لقوله: (دثروني دثروني).
وقيل: معناه المدثر بدثار النبوة والرسالة، ومن ذلك قولهم: ألبسه الله لباس التقوى، وزينه برداء العلم، فجعل النبوة كالدثار واللباس.
قال الشهاب: إما أن يراد المتحلي بها والمتزين، كما أن اللباس الذي فوق الشعار يكون حلية لصاحبه وزينة.
وهذا قول آخر، يعني أن الدثار الذي يكون فوق الشعار هو حلية وزينة، وهذه إشارة إلى أنه متحلٍ بالنبوة ومتزين بها عليه الصلاة والسلام.
والتزيين بالدثار في ظهوره أو في الإحاطة، والأول أتم.(185/3)
تفسير قوله تعالى: (قم فأنذر)
قال تعالى: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2].
أي: قم من مضجعك ودثارك، أو قم قيام عزم وجد؛ لأن القيام يعبر به أحياناً عن ذلك.
فمن الأولى قوله: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14].
ومن الثاني قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ:46].
والمعنى: فحذر قومك من العذاب إن لم يؤمنوا.
قال الشهاب: ((قُمْ فَأَنذِرْ))، ولم يقل: وبشر؛ لأنه كان في ابتداء النبوة، لأن البشارة لمن آمن ولم يكن إذ ذاك مؤمن.
أو هو اكتفاء، فنقول في التفسير: قم فأنذر الكافرين وبشر المؤمنين، لكن اكتفى بهذا عن ذاك كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] أي: سرابيل تقيكم الحر والبرد.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في تتمة أضواء البيان: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، الإنذار: إعلام بتخويف، فهو أخص من مطلق الإعلان، وهو متعد لمفعولين: المفعول الأول: هو المنذَر.
والمفعول الثاني: المنذَر به.
أما المنذَر فبينت آيات أخرى أن المراد الكافرين، كما قال تعالى: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، تخويفاً لهم، وقد يكون للمؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون بهذا الإنذار، فيأتي الإنذار للكافرين باعتبار أنه تخويف لهم وترهيب حتى يعودوا إلى رشدهم ويرجعوا إلى الإيمان، وقد يأتي الإنذار للمؤمنين كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس:11]، فهنا قصر الإنذار على المؤمنين، لأنهم هم الذين ينتفعون بالإنذار.
وقد يكون للجميع كما قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [يونس:2] إلى آخر الآية.
أما المنذر به فهو ما يكون من أهوال يوم القيامة، ولذلك قال ابن جرير: ((قُمْ فَأَنذِرْ))، عذاب الله قومك الذين أشركوا بالله وعبدوا غيره.(185/4)
تفسير قوله تعالى: (وربك فكبر)
يقول تبارك وتعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:3].
يقول ابن جرير: أي: فعظمه بعبادته والرغبة إليه في حاجاتك دون غيره من الآلهة والأنداد.
وقال القاشاني: أي: إن كنت تكبر شيئاً وتعظم قدره فخصص ربك بالتعظيم والتكبير، لا يعظم في عينيك غيره، فيصغر في قلبك كل ما سواه بمشاهدة كبريائه عز وجل.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، التقديم هنا للاختصاص، أي: أن المستحق للتعظيم وحده هو الله سبحانه وتعالى.(185/5)
تفسير قوله تعالى: (وثيابك فطهر)
قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4].
اختلف في المقصود من قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}؟ فالظاهر هو الطهارة، أي: تطهير الثياب بالماء من الأنجاس؛ لأن الماء هو الأصل في التطهير.
قال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون؛ فأمره الله أن يتطهر ويطهر ثيابه.
وقيل: هذا أمر بتطهير القلب مما يستقذر من الآثام.
قال قتادة: العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد أنه دنس الثياب، أما إذا وفّى فإن العرب تسميه: مطهر الثياب.
وعن ابن عباس: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، أي: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة، ثم أنشد لـ غيلان بن سلمة الثقفي قوله: وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع ففي الوجه الأول بقاء لفظي الثياب والتطهير على حقيقتهما.
أما الثاني ففيه نوع تجوز، بأن يكون المقصود بذلك طهر القلب مما يستقذر من الآثام.
الوجه الثالث: حمل الثياب على حقيقتها، والتطهير على مجازه، وهو التقصير؛ لأن العرب كانوا يطيلون ثيابهم، ويجرون أذيالهم خيلاء وكبراً، فأمر بمخالفتهم.
ووجه رابع: حمل الثياب على الجسد أو النفس كناية، كما قال عنترة: (فشققت بالرمح الأصم ثيابه) يعني: نفسه، ولذا قال: ليس الكريم على القنا بمحرم واستصوب ابن الأثير في المثل السائر الوجه الأول، قال في الفصل الثالث من فصول مقدماته: اعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهر لفظه، ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل كقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، فالظاهر من لفظ الثياب هو ما يلبس، ومن تأول ذهب إلى أن المراد هو القلب لا الملبوس، وهذا لابد له من دليل؛ لأنه عدول عن ظاهر اللفظ، ثم قال: المعنى المحمول على ظاهره لا يقع في تفسيره خلاف، والمعنى المعدول عن ظاهره إلى التأويل يقع فيه الخلاف، إذ باب التأويل غير محصور، والعلماء متفاوتون في هذا فإنه قد يأخذ بعضهم وجهاً ضعيفاً من التأويل فيكسوه بعبارته قوة تميزه عن غيره من الوجوه القوية؛ فإن السيف بضاربه.
يعني: قد يكون لعالم وجه من الفصاحة والبلاغة حتى إنه لفصاحته وبراعته يستطيع أن ينتحي منحىً مرجوحاً عن طريق تأويل النص، ومع قوة عبارته وسحر البيان يقوي هذا القول الضعيف، وكما يقال: إن السيف بضاربه، يعني: أن السيف يقتل، لكن ليس السيف وحده هو الذي يؤثر، بل لابد له من ضارب قوي، ولذلك استشهد بعد قوله: (فإن السيف بضاربه) بشعر أبي الطيب المتنبي في قصيدة مطلعها: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني قال: إن السيوف مع الذين قلوبهم كقلوبهن إذا التقى الجمعان تلقى الحسام على جراءة حده مثل الجبان بكف كل جبان يقول المتنبي: إن السيوف مع الذين قلوبهم كقلوبهن إذا التقى الجمعان يعني: قد توجد السيوف الحادة القوية في أيدي أناس قلوبهم مثل قلوب النساء جبناً وهلعاً وخوفاً.
تلقى الحسام على جراءة حده، أي: مع أن السيف محدد بتار في حد ذاته.
تلقى الحسام على جراءة حده مثل الجبان بكف كل جبان فالسيف يكون جباناً ما دام في كف إنسان جبان، فالسيف بضاربه وليس فقط بحده، فإنه لا يؤثر إلا إذا كان الذي يحمله يضرب ضربةً قويةً.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في تتمة أضواء البيان: اختلف المفسرون في المراد من كل من لفظتي (الثياب) و (فطهر) هل دلا على الحقيقة، ويكون المراد طهارة الثوب من النجاسات أم هما على المجاز؟ فعلى سبيل المجاز يكون المراد بالثوب البدن، والطهارة عن المعنويات من معاصي وآثام ونحوها.
وذكر ابن جرير وغيره نحواً من خمسة أقوال: الأول: عن ابن عباس، وعكرمة، والضحاك، أن معناه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، لا تلبس ثيابك على معصية ولا على غدرة، واستشهد بقول غيلان: وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع وقول آخر: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل فاستعمل اللفظين في الكناية، وقد يستدل له بقوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2].
وورد عن ابن عباس: لا تلبس ثيابك من كسب غير طيب، يعني: البس ثيابك من المال الحلال، فاستعمل الثياب في الحقيقة والتطهير في الكناية.
وعن مجاهد: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: وعملك فأصلح، فاستعملهما معاً في الكناية عن العمل الصالح.
وعن محمد بن سيرين وابن زيد على حقيقتهما، يعني: فطهر ثيابك من النجاسة.
ثم قال ابن جرير: والذي قاله ابن سيرين وابن زيد أظهر في ذلك.
وقول ابن عباس وعكرمة قول عليه أكثر السلف، والله تعالى أعلم بمراده.
ويترجح قول ابن سيرين أن المراد طهارة الثوب من النجاسة، بالقرينة في الآية فإنها اشتملت على أمرين: الأول: طهارة الثوب، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}.
الثاني: هجر الرجز، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5]، ومن معاني الرجز المعاصي، فيكون حمل طهارة الثوب على حقيقته والرجز على حقيقته أولى، إن المعنى: طهر قلبك من الآثام والمعاصي، لوقع هنا تكرار؛ لأن قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} معناه: اهجر المعاصي على أحد التفاسير، فيكون هذا تكراراً، والتأسيس أولى من التأكيد.
فيترجح بذلك أن المراد بقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} الطهارة بالماء من الأنجاس، فيكون المراد الثياب على حقيقتها.
أما التطهير من الذنوب فأشار له قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] فيكون تأسيساً.
وهذه الآية بقسميها جاء نظيرها بأصرح من ذلك في قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال:11].
ومثله أيضاً قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، جمع بين الطهارتين: تطهير الباطن والظاهر.
ولذلك جعل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى هذه الآية: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} دليلاً على وجوب الطهارة للصلاة.(185/6)
تفسير قوله تعالى: (والرجز فاهجر)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5].
أي: اتركه، والرجز بضم الراء، وتأتي بكسر الراء كالرجس، والسين والزاي يتناوبان لأنهما من حروف الصفير.
والرجس: اسم للقبيح المستقذر كنى به عن عبادة الأوثان خاصة كما في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30].
أو عن كل ما يستكره من الأفعال والأخلاق، والجملة من جوامع الكلم في مكارم الأخلاق، كأنه قيل: اهجر الجفا والسفه وكل قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز.
وقيل: المراد بالرِجز أو الرُجز العذاب، وهجره كناية عن هجر ما يؤدي إليه من الشرك والمعاصي، فأقيم الرجز مقام سببه الذي هو الشرك والمعاصي؛ أو هو بتقدير مضاف، أي: وأسباب الرجز فاهجر.
وكما قلنا: الرِجز والرُجز تقرأ بالضم وتقرأ بالكسر، فيقول: قرئ بضم الراء وهي لغة وهما بمعنى العذاب.
وعن مجاهد أنه بالضم بمعنى الصنم، وبالكسر بمعنى العذاب.
وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بذلك -وهو بريء منه- أمر لغيره، وهذا تعريض، أو المراد الدوام على هجره، يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام ما عبد الأصنام، بل هو بريء من ذلك وحاشاه صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك أمره الله بهجرها، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}، فهذا الأمر هو أمر لغيره تعريضاً، أو أن المراد الدوام على هجره.(185/7)
تفسير قوله تعالى: (ولا تمنن تستكثر)
قال تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6].
أي: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، أي: إذا أعطيت فلا تترقب ولا تتوقع ولا تؤمل أن ترد إليك هذه العطية بأكثر منها.
يقال: مننت فلاناً كذا، أي: أعطيته، كما قال تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} [ص:39]، يعني: فأعط أو أمسك.
وأصله: أن من أعطى فقد منَّ، فسميت العطية بالمن على سبيل الاستعارة.
وجوز القفال أن يكون الاستكثار عبارة عن طلب العوض كيف كان زائداً أو مساوياً.
قال: وإنما حسنت هذه الاستعارة؛ لأن الغالب أن الثواب يكون زائداً عن العطاء، وسمى طلب الثواب استكثاراً حملاً للشيء على أغلب أحواله، وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها، فسمي الولد ربيباً، ثم اتسع الأمر فسمي ربيباً وإن كان حين تتزوج أمه كبيراً، حملاً للأمر على تلك الأحوال.
يقول: وسر النهي أن يكون العطاء خالياً عن انتظار العوض، والتفات النفس إليه تعففاً وكمالاً وعلو همة.
وقال بعض المفسرين: معنى الآية: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}: لا تعط عطاءً مستكثراً هذا العطاء حتى ولو كان كثيراً، فإن من مكارم الأخلاق استقلال العطاء وإن كان كثيراً، فالسين للعد والوجدان.
وسبق في سورة الروم في قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} [الروم:39]، نفس هذا المعنى، وقد تكلمنا عنه في موضعه.(185/8)
تفسير قوله تعالى: (ولربك فاصبر)
قال تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7].
يعني: على أذى المشركين، وهنا نلاحظ أنه في السور المكية الأولى يخاطب الله نبيه باسم الربوبية؛ لأن تصور المشركين عن الألوهية قد ارتبط بمفاهيم وثنية، ومن هذا الخطاب قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:1 - 3].(185/9)
تفسير قوله تعالى: (فإذا نقر في الناقور غير يسير)
قال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:8 - 10].
أي: إذا نفخ في الصور، والناقور من النقر.
بمعنى التصويت، وأصله القرع الذي هو سبب الصوت، ومنه منقار الطائر؛ لأنه يقرع به وينقر به على الأشياء، وأريد به النفخ؛ عبر به لأنه نوع من الصوت.
{فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}، أي: شديد.
{عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}، أي: ليس بهين على الكافرين لما يحيط بهم من الغم والكرب، وفي قوله: {غَيْرُ يَسِيرٍ}، تأكيد يمنع أن يكون عسيراً عليهم من وجه دون وجه، ويشعر بيسره على المؤمنين، ففيه جمع بين وعيد الكافرين وبشارة المؤمنين.
يعني: أن وصفه اليوم أولاً بقوله: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}، قد يتوقع بعض الناس أنه عسير على المؤمنين وعسير على الكافرين فأتى بالآية التي تليها ليدفع هذا التوهم فقال: {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}.
ثم إنه قد يقول قائل: (فذلك يومئذ يوم عسير) قد يكون عسيراً من وجه لكن ليس عسيراً من وجه آخر، فدفع هذا الوهم بقوله: {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}، فهذا عسر لا يسر فيه على الإطلاق.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}، الناقور: هو الصور، وأصل الناقور الصوت.
قال الزمخشري: إن (غَيْرُ يَسِيرٍ)، كان يكفي عنها (يوم عسير) إلا أنه أراد ليبين لهم أن عسره لا يرجى تيسيره.
يعني لأن الإنسان قد يتوقع هذا العسر يسيراً: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6]، فمهما كان هناك من شدة فإنها ستنتهي، فربما توهم بعض الناس أن شدة الأهوال يوم القيامة لها نهاية، فبين لهم عز وجل أنه لا يرجى بعده يسر، والعياذ بالله! وأيضاً فيه زيادة وعيد للكافرين، وفيه نوع بشارة للمؤمنين لسهولته عليهم، ولعل المعنيين مستقلان، وأن قوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}، كلام مستقل، وهو وصف لهذا اليوم وبيان للجميع شدة هوله كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]، هذا عام في الناس كلهم، وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:34 - 35].
ثم بين تعالى أن اليوم العسير على الكافرين فقال: {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}، كما قال تعالى عنهم: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل:17 - 18]، بينما يكون على المؤمنين يسيراً، مع أنه عسير في ذاته لشدة هوله، لكنه يخفف عن المؤمن، هذا هو المقصود من الآية التالية، وهي قوله: {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}، فهو في حد ذاته يوم شديد، لكنه يخفف على المؤمن، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:87 - 90].
فالفزع من الصعقة يوم ينفخ في الصور عام لجميع من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله، ثم بين تعالى أن الآمنين هم الذين جاءوا بالحسنات.(185/10)
تفسير قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً ثم يطمع أن أزيد)
يقول الله تبارك وتعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر:11 - 15].
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}، أي: لا مال له ولا ولد، وقد كنت قرأت منذ زمن أن (وحيداً) لقب من ألقاب الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، وهو من رءوس الكفر في قريش، وقد كان يلقب بريحانة قريش، وكان يلقب بالوحيد، أي: المتفرد.
أما هنا فقال القاسمي: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11]، يعني: في أول أمره وفي مبدأ أمره كان وحيداً بلا مال ولا ولد.
{وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا}، أي: ثم بعد ذلك أنعمت عليه وجعلت له مالاً ممدوداً أي: مبسوطاً كثيراً، أو ممدوداً بالنماء.
{وَبَنِينَ شُهُودًا}، يعني: رجالاً يشهدون معه المحافل والمجامع، أو حضوراً معه يأنس بهم لا يحوجه سفرهم وركوبهم الأخطار لاستغنائهم عن التكسب.
وهذه من النعم التي أنعم الله بها على الوليد بن المغيرة، فبعدما كان وحيداً لا مال له ولا ولد امتن الله عليه بالمال الممدود وبالبنين الحاضرين غير المسافرين؛ لأنهم لعزتهم وغناهم وثروتهم لا يحتاجون إلى أن يفارقوا أباهم بحثاً عن الرزق والربح.
{وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا}، أي: بسطت له في العيش والجاه والرياسة.
{ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر:15] يعني: يطمع الزيادة من المال والولد والجاه، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، وفي الحديث: (منهومان لا يشبعان: طالب العلم، وطالب الدنيا)، فطالب العلم مهما تجرع من العلم لا يشبع، وطالب الدنيا مهما أعطي من الدنيا لا يشبع، الإنسان أحياناً يستغرب من أناس بسطت عليهم الدنيا، ومع ذلك فهم في أشد الحرص على الاستكثار من المال والزيادة؛ لأن من طبيعة الإنسان الحرص والجري وراء الدنيا، فيصبح كالذي يشرب من البحر وكلما شرب ازداد عطشاً، فهذه إشارة إلى هذا الميل إلى الدنيا، وأن ابن آدم لا يملأ جوفه إلا التراب: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون له ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقيل: المعنى أنه يطمع أن أزيده نعيماً وقوة، وأدخله الجنة أيضاً على كفره.
وهذا التفسير أظهر في بدليل قوله تعالى بعده: {كَلَّا} [المدثر:16] أي: لا يكون ما يؤمله ويرجوه؛ لأن الجدير بالزيادة من نعيم الآخرة هم المتقون وليس هو منهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، فهو ينعم في الدنيا لكن في الآخرة لا نصيب له ولا خلاق.(185/11)
تفسير قوله تعالى: (كلا إنه كان لآياتنا عنيداً ثم قتل كيف قدر)
قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:16 - 20].
((كَلَّا))، أي: لا يكون ما يؤمل ويرجو؛ لأن الجدير بالزيادة من نعيم الآخرة هم المتقون لا هو.
((إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا))، كيف أزيده وأضيف إلى نعيم الدنيا الذي أعطيته إياه نعيماً في الآخرة وهو كان معارضاً لآيات الله.
فشرعت الآيات في ذكر مفاسده التي تجعله غير جدير بأن ينعم في الجنة.
فقوله: {عَنِيدًا}، أي: معانداً للحجج المنزلة والمرسلة.
{سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}، أي: سأغشيه عقبة شاقة المصعد كالجبل المرتفع كلما ارتفع زاد اختناقاً وضاق نفسه، كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، فهذا عذابه أن يصعد على جبل أو على عقبة مرتفعة شاقة في غاية العسر، وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق.
والمعنى: أسوق إليه من المصائب ما يشق عليه مشقة من يكلف صعود الجبال الشاهقة العالية الوعرة.
ثم علل إرهاقه بقوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر:18 - 22]، فهذا كله تعليل لاستحقاقه أن يرهقه الله سبحانه وتعالى صعوداً.
وقوله: (إِنَّهُ فَكَّرَ) يعني: ماذا يقول في هذه الآيات الكريمات، وفي هذا الذكر الحكيم؟ ((وَقَدَّرَ)) أي: قدر في نفسه ما يقوله وهيأه.
{فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}، يعني: لعن كيف قدر ذلك الافتراء الباطل، واختلق ما يكذبه وجدانه فيه، وهو يعلم في قرارة نفسه أن القرآن حق من عند الله! {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}، تكرير للمبالغة في التعجب منه، وقد اعتيد فيمن عجب غاية العجب أنه يكثر من التعجب ويكرره.
و (ثم) للدلالة على أن الثانية أبلغ في التعجب من الأولى؛ لأن العطف بـ ((ثُمَّ))، يدل على تفاوت الرتبة.
فقوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}، يعني: فقتل بنوع ما من القتل، وهذه الجملة دعاء.
{ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}، يعني: كأنه قال بعدما قال قتل بنوع ما من القتل: لا، بل قتل بأشده، وقد أورد الزمخشري في هذه الجملة ثلاثة أوجه: أن تكون تعجيباً من تقديره وإصابته فيه المحز، ورميه الفرض الذي كانت تنتحيه قريش.
أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به.
أو هي حكاية لما كرروه من قولهم: (قتل كيف قدر) تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره واستعظامهم لقوله! ثم قال: ومعنى قول القائل: قتله الله ما أفزعه، وأخزاه الله ما أشعره، الإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك، أي أنه تفوق جداً في هذا المجال حتى إن الناظر إليه خليق أن يحسد على ذلك.(185/12)
تفسير قوله تعالى: (ثم نظر إلا سحر يؤثر)
قال تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:21 - 24].
{ثُمَّ نَظَرَ}، أي: في ذلك المقدر وتروى فيه.
قال الرازي: وهذه المرتبة الثالثة من أحوال قلبه، فالنظر الأول للاستخراج، واللاحق للتقدير، وهذا هو الاحتياط.
وقال غيره: {ثُمَّ نَظَرَ}، أي: في وجوه القوم.
{ثُمَّ عَبَسَ}، أي: قطب وجهه كبراً وتهيؤاً لقذف تلك الكبيرة.
{وَبَسَرَ}، أي: كلح وجهه شأن اللئيم في مراوغته ومقاتلته، والحسود في آثار حقده على صفحات وجهه.
((ثُمَّ أَدْبَرَ)): عن الحق.
((وَاسْتَكْبَرَ))، أي: عن الإيمان به.
{فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}، أي: ما هذا القرآن إلا سحر يروى ويتعلم، أي: يأثره عن غيره، والمعنى أنه تعلمه من شخص آخر غيره.
{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}، أي: ليس بكلام الله كما يقوله.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: اتفق المفسرون على أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي أحد رؤساء قريش لعنه الله، وكان من خبره ما رواه ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش! إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً.
قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقل به.
قال: بل أنتم تقولون أجمع.
قالوا: نقول: كاهن! قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.
قالوا: فنقول: مجنون! قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
قالوا: فنقول: شاعر! قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهجزه وقبيضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.
قالوا: فنقول: ساحر! قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.
قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعبق، وإن فرعه لجنى، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: هو ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته! فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون مع الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا له أمره، فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة وفي ذلك قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:11 - 25].
وعن قتادة قال الوليد: لقد نظرت فيما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر، فأنزل الله هذه الآيات.
وقد روي عن مجاهد أن الوليد كان بنوه عشرة.
وحكى الثعلبي عن مقاتل أنه أسلم منهم ثلاثة: خالد بن الوليد.
وعمارة.
وهشام.
قال ابن حجر في الإصابة: والصواب أنهم خالد، وهشام، والوليد، فأما عمارة فإنه مات كافراً؛ لأن قريشاً بعثوه للنجاشي فجرت له معه قصة فأصيب بعقله.
وقد ثبت أنه ممن دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم من قريش لما وضع عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهره وهو يصلي، فدعا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، فأصابته دعوة النبي عليه السلام وجن في الحبشة.(185/13)
تفسير قوله تعالى: (سأصليه سقر عليها تسعة عشر)
قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:26 - 30].
{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}، أي: جهنم، وهو بدل اشتمال من قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:17].
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} قال الزمخشري: أي: لا تبقي شيئاً يلقى فيها إلا أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكاً حتى يعاد، أو: لا تبقي على شيء ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة.
{لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}، أي: محرقة للجلود، من قولك: لوحته الشمس إذا سودت ظاهره فإن الجلد يتأثر بالشمس فيسود لونه فيقال: لوحته الشمس، يعني: سودت ظاهره وأطرافه، فمعنى قوله: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:29]، يعني: محرقة للجلود؛ لأن قوله تبارك وتعالى هنا: البشر، جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد.
أو أن البشر اسم جنس بمعنى الناس، فيكون قوله: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}، يعني: محرقة للناس.
{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}، أي: من الخزنة المتولين أمرها، والتخالف على أهلها، وفيه إشارة إلى أن زبانية العذاب الأخروي تفوق زبانية الجبابرة في الدنيا أضعافاً مضاعفة، تنبيهاً على عظم العذاب وكبر مكانه.(185/14)
(تفسير سورة المدثر [31 - 56]) للشيخ: (محمد إسماعيل المقدم)
(عدد القراء 414)
عناصر الموضوع
1
تفسير قوله تعالى: (وم
الكل أسماء القراء أسماء المحاضرين عناوين المحاضرات نص المحاضرات مختارات من الأذان أسماء المنشدين عناوين الأناشيد أدعية مختارة استراحة التسجيلات
محور الحج
اختبر معلوماتك
فلاشات
رسائل جوال
صندوق الهدايا
مواقيت الصلاة
تحويل عملات
الأحوال الجوية
أكثر المواد استماعا على الشبكة الإسلامية
اسم المستخدم
كلمة السر(186/1)
تفسير سورة النبأ(187/1)
تفسير قوله تعالى: (عمّ يتساءلون)
سورة النبأ السورة الثامنة والسبعون من سور القرآن الكريم، وتسمى: سورة عم يتساءلون، وهي مكية بالإجماع، وآيها أربعون.
يقول ابن عطية: ليس فيها نسخ ولا حكم، إلا ما قاله بعض الناس في قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] إنها منسوخة.
يقول مقاتل بن حيان: الحقب: سبعة عشر ألف سنة، وهي منسوخة بقوله تعالى {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} [النبأ:30] ونحن نقول: قوله تعالى: ((لابثين فيها أحقاباً)) خبر، والخبر لا يقبل النسخ؛ لأن خبر الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يخلف، ولا يكون غير مطابق للحقيقة حتى ينسخ، فالأخبار لا يدخلها النسخ، فهذا القول إنما يحكى تنبيهاً على أنه خلاف غير معتبر، فيحكى لينبه على فساده، فهذا قول لا يصح بحال؛ لأن الأخبار لا تنسخ.
قوله: ((عم)) أصلها: عن ما، ثم أدغمت النون في الميم فصارت ((عما)) في الخبر والاستفهام، ثم حذف الألف في الاستفهام فرقاً بينه وبين الخبر، وقرئ ((عم))، وقرئ (عمه) بالهاء، وهذا إنما يكون عند الوقف على ((عم))، ثم يبتدئ بقوله: ((يتساءلون)) {عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:2] وجمع يتساءلون لأن ما بعده جملة صلة.
وقوله تعالى: ((عم يتساءلون)) أي: هؤلاء المشركون عن أي شيء يتساءلون؟ لأن بعضهم كذب، وبعضهم قال: سحر وكهانة وجنون وغير ذلك، فكثر تساؤلهم عن حقيقة هذا القرآن.
قال ابن جرير: وذلك أن قريشاً جعلت فيما ذكر عنها تختصم وتتجادل في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار بنبوته، والتصديق بما جاء به من عند الله تعالى، والإيمان بالبعث، فقال الله سبحانه وتعالى لنبيه: ((عم يتساءلون)) أي: فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون؟ و (في) و (عن) في هذا الموضع بمعنى واحد.
والتفاعل في قوله: (يتساءلون) إما على بابه أي: يسأل بعضهم بعضاً، أو أنه بمعنى: فعل يعني: سأل، وعلى الأول فالمعنى: يتساءلون فيما بينهم، وعلى الثاني فالمعنى أنهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم.(187/2)
تفسير قوله تعالى: (عن النبأ العظيم ثم كلا سيعلمون)
{عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:2 - 5].
قوله تعالى: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}، ((عن)) هنا أيضاً بمعنى (في) أي: في النبأ العظيم يختصمون.
الاستفهام هنا لتفسير الخبر عن هذا النبأ.
قال ابن عباس وقتادة هو الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد وقتادة: هو القرآن خاصة بدليل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص:67] {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص:68].
وعن قتادة: هو البعث من القبور، كما قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} [النبأ:17].
وكلها متلازمة؛ لأن من كذب بواحد منها كذب بها كلها، ومن صدق بواحد منها صدق بها كلها.
قوله: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} رجح بعض المفسرين القول بأن النبأ العظيم هو البعث؛ لأنه أتى بعده بدلائل وبراهين البعث، وعقبها بيوم الفصل: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا}.
قوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} * {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} هذا ردع للمتسائلين، والمفعول محذوف، والتكرار هنا للمبالغة في عظمته.
والتقدير: سيعلمون حقيقة الحال، أو سيعلمون ما يحل بهم من العقوبات والنكال.
وفي (ثم) إشعار بأن الوعيد الثاني أشد؛ أشد من الوعيد في الآية الرابعة؛ لأنها تأتي للبعد والتفاوت النسبي، ففيها ردع وزجر شديد بل أشد وأشد، فبهذا الانتظار صار كأنه مغاير لما قبله.(187/3)
تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض مهاداً وجعلنا نومكم سباتاً)
{أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} [النبأ:6 - 9].
ذكرهم تعالى بدلائل قدرته وآيات رحمته فقال عز وجل: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَاداً}، أي: فراشاً وموطئاً تفترشونها فالمهاد هو الفراش الممهد كالمهد للصبي، وكذلك الأرض، وقرئ: (مهداً).
{وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} أي: أرسينا الأرض بالجبال كما يرسى البيت بالأوتاد، حتى لا تميد بأهلها، وتكون الأرض مهاداً بسبب ذلك، فإنما كانت الجبال أوتاداً؛ لأن جذورها في الأرض مغروسة، ولأنها تمنع الأرض من الاضطراب كالأوتاد التي تربط بها السفن لتثبيتها.
{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} أي: ذكوراً وإناثاً.
أو: (وخلقناكم أزواجاً) أي: أنواعاً في ألوانكم وصوركم وألسنتكم، فيدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن، وطويل وقصير لتختلف الأحوال، فيقع الاعتبار فيشكر الفاضل، ويصبر المفضول.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي: وصيرنا نومكم راحة ودعة، ليريح القوى من تعبها ويعيد إليها ما فقد منها؛ إطلاقاً للملزوم وهو السبات (الموت)، وإرادة اللازم وهو الاستراحة.
وقيل: السبات هو الليل الممتد الطويل السكون، ولهذا يقال فيمن وصف بسكرة الموت: إنه مسبوت أو به سبات، فوجه الامتنان بذلك ظاهر لما فيه من المنفعة والراحة؛ لأن النوم يكسب شيئاً من الراحة.(187/4)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا الليل لباساً سراجاً وهاجاً)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} [النبأ:10 - 13].
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} أي: كاللباس لإحاطة ظلمته بكل أحد وستره لهم، ووجه النعمة في ذلك أن ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هرباً من عدو أو بياتاً له، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان اطلاع غيره عليه.
قال المتنبي: وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب فالسياق في قوله الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} سياق امتنان على الناس بهذه النعمة.
ووجه النعمة هنا أن ظلام الليل ليس شراً كله كما تزعم المانوية، الذين يجعلون الظلام إله الشر، والنور إله الخير.
فمن فوائد الليل أيضاً: راحة العين والبدن واستعادة القوى وغير ذلك.
فقول المتنبي: (وكم لظلام الليل عندي من يد) أي: من نعمة وفضل ومنة (تخبر أن المانوية تكذب) أي: حين ينسبون كل شر إلى الليل، فهو يقول: كم لظلام الليل عندي من يد وإحسان، وهذه اليد وهذا الإحسان تخبران أن المانوية تكذب في نسبة الشر المطلق إلى الظلام.
وأيضاً فكما أن الإنسان بسبب اللباس يزداد جماله، وتتكامل قوته، ويندفع عنه أذى الحر والبرد، فكذلك لباس الليل بسبب ما يحصل فيه من النوم الذي يزيد في جمال الإنسان، وفي طراوة أعضائه، وفي تكامل قواه الحسية والحركية، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني، وأذى الأفكار.
{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} أي: وقت معاش إذ فيه يتقلب الخلق في حوائجهم ومشاكلهم.
وقوله: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} هي على حذف مضاف، أي: وقت معاش.
والمقصود بقوله: (معاشاً) أي: متصرفاً لطلب ما يعاش به من المطعم والمشرب، وغير ذلك.
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} أي: سبع سماوات (شداداً) جمع شديدة، أي: أن السماء عظيمة الخلق لا يؤثر فيها مرور الزمان.
وقال بعض المفسرين: السبع الشداد الطرائق السبع، وهي ما فيها من الكواكب السبعة السيارة.
وهذا الكلام فيه نظر، الكواكب السبعة تحت السماوات السبع، والله أعلم أين تنتهي السماء الدنيا.
{وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} أي متلألئاً وقاداً، يعني به الشمس.(187/5)
تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً وجنات ألفافاً)
قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} [النبأ:14 - 16].
{وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} المعصرات هي السحائب شارفت أن تعصر بالمطر.
وقيل: المعصرات هي الرياح التي تأتي بالمطر.
وقيل: المراد بالمعصرات السماء.
فكلمة (المعصرات) تطلق على الرياح، وعلى السحب، وعلى السماء، لكن أقربها هنا أن المراد بالمعصرات السحاب.
((مَاءً ثَجَّاجاً)) أي: منصباً متتابعاً، والثجاج: هو السريع الاندفاع كما يندفع الدم من عروق الذبيحة، وفي الحديث: (أفضل الحج العج والثج) العج: رفع الأصوات بالتلبية، والثج: هو إراقة الدماء تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً} قال ابن جرير: الحب كل ما تضمنه كمام الزرع التي تحصد، والنبات الكلأ الذي يرعى من الحشيش والزروع.
يقول الزمخشري: يريد ما يتقوت من نحو الحنطة والشعير، وما يعتلف من التبن والحشيش كما قال تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه:54].
{وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} أي: حدائق ملتفة الشجر مجتمعة الأغصان.
قال الرازي: قدم الحب؛ لأنه الأصل في الغذاء، وثنى بالنبات لاحتياج الحيوانات إليه، وأخر الجنات؛ لأن الحاجة إلى الفواكه ليست بضرورية.
ثم قال: وكان الكعبي من القائلين بالطبائع، فاحتج بقوله تعالى: (لنخرج به حباً ونباتاً) على بطلان قول من قال: إنه تعالى لا يفعل شيئاً بواسطة شيء آخر، أي أن ارتباط المسببات بالأسباب مما بنى عليه سبحانه بحكمته الباهرة نظام العمران.
على أي الأحوال هذا منهج الرازي المفسر المعروف حينما يذكر الشبهات، وهذه من عيوبه الساذجة في تفسيره أنه يذكر استدلال أهل البدع بشتى مذاهبهم وفرقهم في القرآن الكريم، حتى إذا ما بدأ يرد عليها يكون قد أنهكت قواه.
إننا نحذر من القراءة في تفسير الرازي بسبب انحرافه في العقيدة، إلا لمن عنده علم ويستطيع أن يمحص هذا الفهم.
عموماً الرازي من آفات تفسيره كثرة حكاية الشبهات وأقوال المنحرفين في عقائدهم وأهل البدع، وضعف الردود عليهم أحياناً.(187/6)
تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل كان ميقاتاً فتأتون أفواجاً)
قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} [النبأ:17 - 18].
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} (ميقاتاً) مفعالاً من الوقت، وميعاداً من الوعد.
((إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ)) أي: يوم يفصل بين الناس وتميز السعداء من الأشقياء باعتبار تفاوت الأعمال، وهو يوم القيامة.
(كان) أي: عند الله وفي علمه وحكمه.
(ميقاتاً) أي: حداً معيناً ووقتاً مؤقتاً ينتهي الخلق إليه ليرى كل جزاء عمله.
{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} (يوم) هذا بدل من يوم الفصل، أو عطف بيان، كناية عن اتصال الأرواح بالأجساد، ورجوعها إلى الحياة والحشر في الآخرة.
وقال الإمام محمد عبده: النفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور، وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور.
والصحيح أن المقصود بالصور هو القرن الذي ينفخ فيه لبعث الناس، وهو قول الجمهور.
وزعم بعضهم أن الصور جمع صورة، أي يوم يرد الله فيه الأرواح إلى الأبدان، والأول أشهر وبه تظاهرت الآثار، وهو ظاهر قول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
(فتأتون أفواجا) الأفواج: الجماعات يتلو بعضها بعضاً، واحدها فوج، أي: فرقاً مختلفة كل فرقة مع إمامهم على حسب تباين عقائدهم وأعمالهم وتوافقها.(187/7)
تفسير قوله تعالى: (وفتحت السماء فكانت سراباً)
قال تعالى: {وَفُتِحَتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً * وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} [النبأ:19 - 20].
وقرئ (وفتِّحت السماء) بتشديد التاء على المبالغة.
قال ابن جرير: أي: وشققت السماء وصدعت فكانت طرقاً، بعد أن كانت شداداً لا فطور فيها ولا صدوع، أما في يوم القيامة فإنها تتشقق ويحصل فيها هذه الفطور كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً} [الفرقان:25] فهذا الفتح هو المذكور في قوله: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:1]، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1]، بالفتح والتشقق والتفطر، وهذا كما قال ابن جرير: مثل للغاية.
{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} أي: نزعت بكاملها في الهواء، وذلك إنما يكون بعد تفتيتها وجعلها أجزاء مفرقة كالهباء، وفي الآية تشبيه بليغ، والجامع أن كلاً منهما يرى على شكل شيء وليس هو به، فالسراب يرى كأنه بحر وليس كذلك، والجبال إذا فتت وارتفعت في الهواء ترى كأنها جبال وليست بجبال، بل غبار غليظ متراكم يرى من بعيد كأنه جبل، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه:105] * {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:106 - 107] فقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88].(187/8)
تفسير قوله تعالى: (إن جهنم كانت مرصاداً جزاء وفاقاً)
قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلْطَّاغِينَ مَآباً * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:21 - 26].
قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} أي: موضع رصد، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] أي: إن جهنم معدة مترصدة تتطلع لمن يأتي، منتظرة الجزاء والحساب، يقال: أرصده إذا تتبعه وترقبه، فكذلك جهنم فهي معدة مترقبة تتطلع لمن يأتي.
و (مرصاداً) صيغة مبالغة كما تقول: معصار، أي كثير العصر.
قوله: (إن جهنم كانت مرصاداً) أي: يكثر منها انتظار الكفار.
وقيل: يرصد خزنتها من كان يكفر بها وبالمعاد، وهذا على أن (مرصاداً) اسم مكان، أي: الموضع الذي يرصد خزنة جهنم ويترقبون من كان يكذب بها وباليعاد.
{لِلْطَّاغِينَ مَآباً} أي للذين طغوا في الدنيا بالظلم، أو في دينه بالكفر، فتجاوزوا حدود الله استكباراً على ربهم.
فمعنى: (لِلْطَّاغِينَ مَآباً) أي: منزلاً ومرجعاً يصيرون إليه.
{لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} جمع حقب، والحقب هي الدهور المتتابعة إلى ما لا نهاية لها كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء:57] وكقول متمم بن نويرة وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا ((لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً)) أي: غوثاً وراحة.
وبرداً قيل: هو النوم لأنه يبرد العصب، ومن كلامهم منع البرد البرد، يعني: منع الهواء البارد النوم.
قال الله تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر:36] والنوم أخو الموت، فهم أيضاً لا ينامون لأن النوم مصدر راحة فهم يمنعون من ذلك، وقيل البرد هو الهواء البارد وهو القر، وعن ابن عباس: (البرد الشراب المستلذ) يطلق عليه الشراب كما قال الشاعر: أماني من ليلى حسان كأنها سقتني بها ليلى على ظمأ بردا يعني: شراباً.
منى إن تكُن حقاً تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا {إِلاَّ حَمِيماً} أي: إلا ماء حاراً في منتهى غليانه.
{وَغَسَّاقاً} أي: صديداً، وهو ما يخرج من جلودهم يجتمع في حياض فيسقونه والعياذ بالله.
{جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26] أي: جوزوا بذلك جزاء موافقاً لما اكتسبوه من الأعمال، وقدموه من العقائد والأقوال.(187/9)
تفسير قوله تعالى: (إنهم كانوا لا يرجون إلا عذاباً)
قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} [النبأ:27 - 30].
{إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً} * {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} أي: يعذبون ذلك العذاب لأنهم كانوا موصوفين بهذه الرذائل، من عدم توقع المكافآت والتكذيب بالآيات، فلم يعملوا صالحاً رجاء الجزاء ولم يعلموا علماً فيصدقوا بالآيات.
فقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً} أي: لا يتوقعون حساباً.
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} أي: كل شيء من أعمالهم ضبطناه بالكتاب عليهم في صحائفهم وكتبهم.
{فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} أي: يقال لهم: ذوقوا؛ تقريعاً وتأنيباً لهم من تكثيف العذاب، وإعلاماً بمضاعفته، قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] وقال تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97] والعياذ بالله.(187/10)
تفسير قوله تعالى: (إن للمتقين مفازاً عطاء حساباً)
قال تعالى: ((إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً)) [النبأ:31] ((حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً)) [النبأ:32] ((وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً)) [النبأ:33] ((وَكَأْساً دِهَاقاً)) [النبأ:34] ((لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً)) [النبأ:35] ((جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً)) [النبأ:31 - 36].
لما ذكر عز وجل وعيد الكفار أعقبه بوعد الأبرار فقال عز وجل: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} أي: فوزاً بالنعيم، ونجاة من النار التي هي مآل الطاغين والمفاز هو موضع الفوز؛ لأنه يحجب عن النار ويدخل الجنة، وقيل للفلاة إذا قل ماؤها مفازة؛ تفاؤلاً بالخلاص منها.
{حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً} والحدائق جمع حديقة، وهي البستان الذي فيه أنواع الشجر المثمر المحوط بالحيطان المحدقة به، والأعناب معروفة.
قال ابن جرير: (وأعناباً) أي: وكروماً وأعناباً، فاستغنى بالأعناب عنها.
{وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} أي: نواهد لم تتدل ثديهن.
(أتراباً) أي: متساويات في السن، يعني: إذا ولد مولودان في وقت واحد ومسّا التراب في وقت واحد فهنا يقال: هذا ترب فلان.
{وَكَأْساً دِهَاقاً} أي: ملئ من خمر لذة للشاربين، والكأس الدهاق هي المترعة المتتابعة الصافية.
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا} أي: في الجنة {لَغْواً} أي: باطلاً من القول.
{وَلا كِذَّاباً} أي: مكاذبة يعني: لا يكذب بعضهم بعضاً.
وقيل: لا يسمعون كذبا.
واللغو هو فسق الكلام؛ لأن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم ولم يلغوا، بخلاف أهل الدنيا.
وخمر الجنة ليس فيها غول ولا فيها ذهاب العقول كخمر الدنيا، ولذلك لا يلهون ولا يسمعون لغواً بعد ما يشربون من هذه الكئوس؛ لأنها ليست كخمر الدنيا في إذهابها العقول، فلذلك أتبع قوله عز وجل: {وَكَأْساً دِهَاقاً} بتنزيههم عن آثار خمر الدنيا وقال: (لا يسمعون فيها لغواً ولاكذاباً) واللغو والتكذيب من أشد الأذى لقلوب المؤمنين الصادقين، فأراد الله إزاحة ذلك عنهم.
{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} أي: جزاء لهم على صالح أعمالهم تفضلاً منه تعالى بذلك الجزاء.
(عطاء حساباً) بمعنى: كافياً، من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي، يقول الشاعر: ونكفي وليد الحي إن كان جائعاً ونحسبه إن كان ليس بجائع قوله: (نحسبه) أي: إن كان ليس بجائع نظل نعطيه ونعطيه حتى يقول: حسبي لا أريد المزيد.
وقيل: على حسب أعمالهم.(187/11)
تفسير قوله تعالى: (رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن)
قال تعالى: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} [النبأ:37].
قال ابن جرير: لا يملكون أن يخاطبوا الله، قال: والمخاطب المخاصم الذي يخاصم صاحبه.
وقال غيره: أي: لا يملكهم الله منه خطاباً في شأن الثواب والعقاب، بل هو المتصرف فيه وحده، وهذا كما تقول: ملكت منه درهماً، فـ (من) ابتدائية متعلقة بملكت وذكر ابن جرير أنهم لا يمكن أن يخاطبوه بشيء من نقص العذاب.
وقيل: (لا يملكون منه خطاباً) أي: لا يملكون من إخباره إن خاطبوه بمعذرة ولا غيرها، وهذا في موطن خاص.
وقرئ: (رب) و (الرحمن) بالجر والرفع، وقرئ بكسر الأول ورفع الثاني.(187/12)
تفسير قوله تعالى: (يومَ يقوم الروح والملائكة صفاً)
قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ:38].
(يوم يقوم الروح) أي: جبريل عليه السلام، وهو المعبر عنه بروح القدس في آية أخرى، وفيه أقوال أُخر نقلها ابن جرير وما ذكرناه أصوبها، والتنزيل يفسر بعضه بعضاً، والقرآن دل على أن هذا هو اسم جبريل عليه السلام.
فثبت أن القيام صحيح من جبريل والكلام صحيح منه، ويصح أن يؤذن له، فكيف يصرف هذا الاسم عنه إلى خلق لا نعرفه، أو إلى القرآن الذي لا يصح وصفه بالقيام؛ لأن بعض الناس قالوا: الروح هو القرآن؛ لأن من أسمائه الروح قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] لكن هل يليق هنا أن يكون بالروح القرآن؟! هذا لا ينبغي، لأنه ذكر القيام.
فقوله: (يوم يقوم الروح) كقوله: ((تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] فهذا من باب عطف الخاص على العام، أما في هذه السورة: (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) فهو من عطف العام على الخاص.
وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل:102] والقيام يصح من جبريل، والكلام يصح من جبريل، فيصح أيضاً أن يؤذن له.
(والملائكة صفاً) أي: صافين في مراتبهم، كما قال تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:164 - 165].
قال الرازي: يحتمل أن يكون المعنى صفاً واحداً، ويحتمل أنهم صفان، ويجوز صفوفاً، والصف في الأصل مصدر، لأن المصدر المنكَّر قد يكون حالاً، قال في الخلاصة: ومصدر منكر حالاً يقع بكثرة كبغتة زيد طلع فينبئ عن الواحد والجمع، ورجح بعضهم الأخير لقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] وقال تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً} [الكهف:48].
{لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} أي: لا يتكلمون في الشفاعة، كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] والضمير يعود على الملائكة، وقد يعم كقوله: {يوم يأت لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود:105].
وقال الزمخشري: هنا طريقتان: أولاً: أن يكون المتكلم منهم مأذوناً له في الكلام، ثانياً: وأن يتكلم بالصواب، فلا يشفع لغير مرتضى، لقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28].(187/13)
تفسير قوله تعالى: (ذلك اليوم الحق كنت تراباً)
قال تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا * إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:39 - 40].
{ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} أي: الواقع الذي لا يمكن إنكاره، والحق صفة أو خبر.
{فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} أي: فمن شاء اتخذ للتصديق بهذا اليوم الحق والاستعداد له والعمل بما فيه النجاة مآبا ومرجعاً حسناً يئوب إليه.
{إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} أي: عذاب الآخرة، وصفه بالقرب لتحقق وقوعه وأنه آت، وكل آت قريب، وهذه قاعدة لا ينبغي أن يغفل عنها الإنسان أبداً، وهي أن كل ما هو آت قريب، والبعيد ما ليس بآت، والقرب نسبي، فكل ما هو معدود ومحدود فهو قريب، ولذلك قال اليهود: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80] لأن المعدود محدود وله نهاية.
فكذلك هنا في قوله تبارك وتعالى: (إنا أنذرناكم عذاباً قريباً).
وأما قربه فلأن مبدأه الموت يوم القيامة؛ لأن الإنسان ينتقل بالموت إلى الدار الآخرة.
{يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي: ينظر جزاءه من خير أو شر.
{وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} أي: يا ليتني كنت في الدنيا تراباً؛ لأن التراب لن يحاسب أو يلتفت إليه.
ومثل هذا الكلام قد يصدر من المؤمنين الخائفين أهل الخشية، كقول عمر رضي الله تعالى عنه: ليتني كنت بعرة! وكقول بعضهم: يا ليت أمي لم تلدني! خوفاً من الحساب يوم القيامة.
وعن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه قال: لو كنت يوم القيامة بين الجنة والنار لاخترت أن أكون تراباً قبل أن أصير إلى إحداهما).
يعني: ما دام يوجد احتمال أن يكون من أهل النار فيؤثر أن يكون تراباً.
وعن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم: أن الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة، فيقتص لبعضها من بعض، ثم يقول لها من بعد ذلك: كوني تراباً فيعود جميعها تراباً، فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله وقال: (يا ليتني كنت تراباً).
وقال أبو القاسم بن حبيب: رأيت في بعض التفاسير أن الكافر هنا إبليس، فهو إذا رأى ما حصل للمؤمنين من بني آدم من الثواب قال: (يا ليتني كنت تراباً) أي: كآدم الذي خلق من تراب، وهو قد احتقر آدم أولاً لأنه خلق من تراب حيث قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].
وهي عامة في كل كافر لقوله: (ويقول الكافر) فإنها صيغة عموم، وأولى الكفار بذلك إبليس عليه لعنة الله.
والله أعلم.(187/14)
تفسير سورة التكوير والانفطار(188/1)
تفسير الآيات من قوله: (وإذا الصحف نشرت علمت نفس ما أحضرت)
قال تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:140 - 14].
(وإذا الصحف نشرت) أي: صحف أعمال العباد نشرت لهم، بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات والسيئات.
(وإذا السماء كشطت) أي: قلعت وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، كقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48].
(وإذا الجحيم سعرت) أي: أوقد عليها فأحميت، قال قتادة: سعرها غضب الله وخطايا بني آدم.
(وإذا الجنة أزلفت) أي: قربت للمتقين.
(علمت نفس ما أحضرت) أي: علمت كل نفس عند ذلك ما قدمت من خير فتصير به إلى الجنة، أو شر فتصير به إلى النار.
أي: أن المراد من قوله: (علمت نفس ما أحضرت) أنه تبين لها عند ذلك ما كانت جاهلة به، وما الذي كان فيه صلاحها من غيره.
وقوله: (علمت) جواب لجميع ما سبق من الشروط، كل ما سبق من الشروط من قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إلى قوله: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ}.(188/2)
تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس)
قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير:15 - 16].
(الخنس) هي الرواجع من النجوم، من خنس إذا رجع وتأخر.
قال الزمخشري: الخنس الرواجع بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوله.
والجوار جمع جارية من الجري.
وأصلها (الجواري) بالياء.
(الكنس) أي: تغيب وتدخل في بروجها التي تغيب فيها.
مأخوذة من كنس الوحش إذا دخل في كناسه، وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر، فهو في الأصل مجاز بطريق التشبيه، ثم صارت الغلبة في استعماله على الحقيقة.(188/3)
تفسير قوله تعالى: (والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس)
قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير:18].
(عسعس) أي: أدبر بظلامه ولم يبق منه إلا اليسير، وذلك وقت السحر آخر جزء من الليل.
{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}، أي: أقبل وتبين.
أو إذا هب نسيمه اللطيف.
أو إن زالت عنه غمة الليل وكربته، فتقول: تنفست بعد هذه الكربة، وهذا تشبيه بمن نفست عنه كربة باعتبار أن الليل كربة، فزال عنه ذلك الظلام.
إن لله سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من خلقه، لكنه لا يقسم إلا بما فيه آيات ودلائل على قدرته وحكمته تبارك وتعالى، ومع ذلك أقسم الله سبحانه وتعالى بهذه الأجرام السماوية، وفي أثناء القسم بها وصفها بما ينفي عنها صفة الألوهية؛ وذلك في قوله: (فلا أقسم بالخنس) وهي الرواجع من النجوم فهي تسترجع بعدما تغيب، فكذلك قوله: (والجوار الكنس) أي: التي تغيب وتدخل في بروجها، فذهابها وغيابها يدل على حدوثها وأنها مخلوقة لله سبحانه وتعالى.
فالخنوس والكنوس هو الغياب، قال عز وجل: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76] فالإله الحق لا يأفل ولا يغيب عن خلقه، فهذا تقريع لمن خصها بالعبادة، واتخذها من دونه أرباباً.
وفي الليل إذا أدبر زوال تلك الغمة التي تغمر الأحياء بامتداد الظلمة، بعدما استعادت أسباب نشاطها، وانتعشت من فتورها.
وفي الصبح إذا تنفس بشرى الأنفس بالحياة الجديدة في النهار الجديد، تنطلق فيه الإرادات إلى تحصيل الرغبات وسد الحاجات، والاستعداد لما هو آت.(188/4)
تفسير قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم)
يقول تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19].
أي: أنه روح القدس الذي ينفث في روعه صلى الله عليه وسلم، وهو جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
هذا هو جواب القسم لما تقدم.
المقصود بنسبة القول إلى جبريل عليه السلام: (إنه لقول رسول كريم) أنه يبلغ الوحي من الله سبحانه وتعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما قوله تبارك وتعالى في سورة الحاقة: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:38 - 42] فالمقصود بالرسول هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه قال: (وما هو بقول شاعر)، (ولا بقول كاهن).
فنسب القول مرة إلى الرسول الملكي، ومرة إلى الرسول البشري؛ باعتبارهما مبلغين عن الله، فالرسول الملكي واسطة بين الله سبحانه وتعالى وبين النبي عليه الصلاة والسلام؛ والنبي عليه الصلاة والسلام واسطة بين الله وبين خلقه في إبلاغهم ما أوحي إليه، لكن في الحقيقة هو كلام الله عز وجل، فالنسبة لمعنى التبليغ وحمل هذه الأمانة والرسالة.
قوله: (إنه) هذه الهاء إما أنها للبعث والجزاء والنشور؛ لأن البعث والجزاء والنشور مأخوذ من قوله تبارك وتعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14]؛ لأن النفس لا تعلم ما أحضرت إلا في يوم البعث والنشور.
وإما أنها للقول المذكور، وهو القرآن الكريم.(188/5)
تفسير قوله تعالى: (ذي قوة وما صاحبكم بمجنون)
قال تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:19 - 22].
{ذِي قُوَّةٍ} أي: قوة على تحمل أعباء الرسالة، وعلى كل ما يؤمر به، كما تقدم في قوله تبارك وتعالى: {شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] وهو جبريل عليه السلام.
قوله: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} أي: صاحب مكانة وشرف ومنزلة لديه تبارك وتعالى.
قوله تعالى: {مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: في الملأ الأعلى.
(أمين) على وحيه ورسالته.
قوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} أي: ليس محمد صلى الله عليه وسلم ممن يتكلم عن ذلة ويهذي هذيان المجانين، كما قال تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37] وهذا نفي لما كان يبهته به أعداؤه صلى الله عليه وسلم حسداً وجرماً.
وفي قوله: (صاحبكم) تكذيب لهم بألطف وجه، إذ هو إيماء إلى أنه نشأ بين أظهركم، وأنتم تعرفونه جيداً بأنه أتم الخلق عقلاً، وأرجحهم قولاً، وأكملهم خلقاً، وأتقاهم لله، فلا يسند له الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون، فالله در البحتري إذ يقول في القصيدة التي مطلعها: في الشيب زجر له لو كان ينزجر وبالغ منه لولا أنه حجر إلى أن قال: إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر يعني: إذا الخصم رأى المحاسن التي أدل بها وأفخر بها ذنوباً وتقصيراً فكيف أعتذر؟! فكذلك هنا قوله تبارك وتعالى: (وما صاحبكم بمجنون) فهو صاحبكم وأنتم تعرفون أنه منزه عن الكذب، وتقرون بأنكم ما جربتم عليه كذباً قط، حتى كانوا يلقبونه بالصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.(188/6)
تفسير قوله تعالى: (ولقد رآه بالأفق المبين)
قال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23].
أي: ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بالأفق الأعلى على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح.
قال ابن كثير: والظاهر والله تعالى أعلم أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء؛ لأنه لم يذكر إلا هذه الرؤية وهي الأولى، وأما الثانية فهي المذكورة في قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:13 - 15] فتلك إنما ذكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد سورة الإسراء.
والقصد من بيان رؤيته لجبريل عليه السلام أن أمره مبني على مشاهدة وعيان لا على ظن وحسبان، فما سبيله كذلك فلا مدخل للريب والتكذيب فيه.
فالله سبحانه وتعالى هنا ينزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن كل هذه الأشياء المسماة بالخيالات والعوارض، فهو صلى الله عليه وسلم حينما رأى الملك رآه حقيقة، وليس كما يتخيل المجنون أنه يرى أشياء لا حقيقة لها، بل هي رؤية حسية بعينه، وليست خيالاً.
(ولقد رآه) حقيقة، وحسب المكان قال: (بالأفق) أي: في الأفق المرتفع الظاهر.
(المبين) أي: الواضح الذي لا شك فيه.(188/7)
تفسير قوله تعالى: (وما هو على الغيب بضنين)
قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24].
(وما هو على الغيب بضنين) أي: ببخيل، قال مجاهد: ما يضن عليكم بما يعلم من الوحي بالتعليم والتبليغ.
وقال الفراء: يأتيه غيب السماء وهو شيء نفيس فلا يبخل به عليكم.
وقال أبو علي الفارسي: المعنى: أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك، ويمتنع من إعلانه حتى يأخذ عليه حلواناً.
وقرئ: (وما هو على الغيب بظنين) بالظاء أي: وما هو بمتهم على ما يخبر به من الغيب.
قال القاشاني: لامتناع استيلاء شيطان الوهم من التخييل عليه فيخلف كلامه أو يمزج المعنى القدسي بالوهمي والخيالي.
كما قال هرقل لـ أبي سفيان: (وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الرب سبحانه وتعالى).
فيما يتعلق بقراءة: (وما هو على الغيب بظنين) يقول الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: وأولى القراءتين في ذلك عندي هي ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به وذلك بالضاد؛ لأن ذلك كله كذلك في خطوطها.
ثم يقول: فأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأول: وما محمد على ما علمه الله من وحيه وتنزيله ببخيل بتعليمكموه أيها الناس، بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلموه.
واختار أبو عبيدة القراءة بالظاء لوجهين: أحدهما: أن الكفار لم يبخلوه وإنما اتهموه، فنفي التهمة أولى من نفي البخل.
ثانيهما: أن الضاد والظاء في الخط القديم لا يختلفان إلا بزيادة قراءة إحداهما على الأخرى زيادة يسيرة.
أقول: وهو كما قال، ويعرفه من قرأ الخط المسند، وليس فيه اتهام لنقلة المصاحف كما يتوهم؛ لأن ما نقلوه موافق للقراءة المتواترة، ولابد مما ذكره أبو عبيدة بأنهم اشترطوا في القراءات موافقة الرسم العثماني، ولولاه كانت قراءة الظاء مخالفة له.
انتهى.
وقال ابن كثير: وكلتا القراءتين متواترة ومعناها صحيح كما تقدم.(188/8)
تفسير قوله تعالى: (وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون)
قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير:25 - 26].
أي: ما هو من إلقاء الشيطان المطرود عن بلوغ هذا المقام، كما في قوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:210 - 212] فهذا أيضاً نفي لقولهم: إنه كهانة، فرد الله هذا بقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}.
{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} أي: أي مسلك تسلكون، وقد قامت عليكم الحجة، لا جرم أنكم بعد هذه المزاعم في الوحي قد بعدتم عن الصواب.
قال الزمخشري قوله تعالى: (فأين تذهبون) استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق: أين تذهب؟ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل.(188/9)
تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين رب العالمين)
قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:27 - 29].
(إن هو) أي: القرآن المتلو عليكم.
(إلا ذكر للعالمين) أي: تذكرة وعظة للعالمين، يتذكرون بها ما غرز الله في طباعهم من الميل إلى الخير بمقتضى الفطرة، وما طرأ على طباعهم من ملكات السوء التي تحدثها أضرار الاستماع.
قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} بدل من العالمين، أي أنه ذكرى لمن أراد الاستقامة على طريق الحق، لصرف إرادته وميله إليه والثبات عليه؛ لأن من أعرض ونأى فمن أين تنفعه الذكرى وقد زاده الران عمى؟! قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي: وما تشاءون شيئاً من فعالكم إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئتكم، والتخلية بينكم وبينها.
وفائدة هذا الإخبار هو الإعلام بالافتقار إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه لا قدرة للعبد على ما لم يقدره الله عز وجل عليه، فهو خاضع لسلطان مشيئته مقهور تحت سبيله وإرادته.(188/10)
تفسير قوله تعالى: (إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب)
قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:1 - 5].
نشرع بإذن الله في تفسير سورة الانفطار وهي السورة الثانية والثمانون حسب ترتيب المصحف الشريف، وهي مكية، وآيها تسع عشرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} أي: انشقت كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ}.
{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} أي: تساقطت، والانتثار يراد به إنزال الكواكب، حيث شبهت بجواهر قطع سلكها فتناثرت وتساقطت.(188/11)
تفسير قوله تعالى: (وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت)
{وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} أي: فتح بعضها إلى بعض؛ لزلزلة الأرض وارتجاجها.
{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} أي: قلب ترابها وأخرج موتاها، وأصل البعثرة من بعثر التراب أي: بدله، وهو إنما يكون لإخراج شيء تحته؛ لأن الإنسان إنما يحفر في الأرض من أجل أن يبحث على حاجة تحت التراب.
وقد يراد به البعث والإخراج يوم القيامة من القبور التي دفنوا فيها أحياء.
قال بعض أئمة اللغة كـ الزمخشري وغيره: إن كلمة بعثر مركبة من كلمتين: البعث، والبحث، لكن دمجت الكلمتان اختصاراً، ومثله كثير في لغة العرب، وهذا يسمى بالنحت، مثلما تقول: بسمل، أي: قل: بسم الرحمن الرحيم، وكذلك تقول: حوقل، أي: قل: لا حول ولا قوة إلا بالله.
فعلى هذا يكون معنى (بعثرت) النبش والإخراج معاً.
(علمت نفس ما قدمت) أي: لذلك اليوم من عمل صالح أو سيء.
(وأخرت) أي: تركت من خير أو شر.
أو: علمت نفس ما قدمت من عمل خير لم تقصر فيه.
(وما أخرت) أي: ما قصرت فيه.
فالمراد بالعلم بالتقديم والتأخير وجدان الجزاء عليهما؛ لأن (علمت نفس) يعني: وجدت الجزاء عليهما، وتحقق مصداق الوعد عليهما.(188/12)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ما شاء ركبك)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8].
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أي: أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه والانحراف عن فطرته.
وذكر الكريم للمبالغة في المنع عن الاغترار؛ لأنه بمعنى العظيم الجليل الكامل في نعوته، ومن كان كذلك فجدير بأن يرهب عقابه ويخشى انتقامه وعذابه، لاسيما وله من النعم العظيمة والقدرة الكاملة، ما يزيد في الرهبة كما قال: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} أي: جعلك سوياً متكامل الأعضاء والقوى.
وأصل التسوية جعل الأشياء على سواء، فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها لإعطائها ما تتم به.
(فعدلك) أي: جعلك معتدلاً، متناسب الخلقة، معتدل القامة، وليس كالبهائم التي تمشي على الأربع.
وقرئ بالتخفيف: (فعدَلَك) أي: صرفك عن خلقة قبيحة إلى خلقة حسنة تميزت بها على سائر الحيوان.
قوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} أي: في أي صورة شاءها ركبك عليها، فقد ركبك في صورة هي أبدع الصور وأعدلها.
فأي استفهامية، والقصد أن من خلق هذا الخلق البديع وسواه وعدله بقدرته وتقديره، حتى أحكم صورته في ذلك التصوير، لجدير بأن يتقى بأسه ويحذر بطشه ويرهب أشد الترهيب.(188/13)
أقوال العلماء في الفرق بين الرجاء وحسن الظن وبين الغرور
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب الكافي: فليحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب، وهذا من أهم الأمور؛ فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وأخراه ولابد، ولكن تغالطه نفسه.
ثم يقول: ومنهم من يغتر بفهم فاسد فهمه هو وأضرابه من نصوص القرآن والسنة فاتكلوا عليه.
ثم قال: وكاغترار بعض الجهال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} فيقول: كرمه، وقد يقول بعضهم: إنه لقن المغتر حجته.
وللأسف أن هذا مذكور في بعض كتب التفاسير.
قال: كأنه إذا قيل لك: ما غرك بربك الكريم فقل له: كرمك أو لأنك كريم، وهذا جهل قبيح وإنما غره بربه الغرور: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وهو الشيطان، ونفسه الأمارة بالسوء، وجهله وهواه، وأتى سبحانه بلفظ (الكريم) وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به، ولا إهمال حقه، فوضع هذا المغتر الغرور في غير موضعه، واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به.
يقول الغزالي رحمه الله تعالى: وفي مثل هذا الغرور يجب على العبد أن يستعمل الخوف، فيخوف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه.
ويقول: مع أنه: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3] ومع أنه كريم فقد خلد الكفار في النار أبد الآباد، مع أنه لم يضره كفرهم، بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا، وهو قادر على إزالتها.
وهو سبحانه قد خوفك عقابه فكيف لا تخافه؟! وكيف تغتر به؟! فالتعلق بكرم الله عز وجل بهذا المعنى ليس في الحقيقة رجاء، وإنما هو اغترار وحمق، فالخوف والرجاء يبعثان الناس على العمل، فما لا يبعث على العمل تزيين وغرور.
ورجاء كافة الخلق هو بسبب قصورهم وبسبب إقبالهم على الدنيا، وبسبب إعراضهم عن الله تعالى، وإهمالهم السعي للآخرة فذلك غرور.
وقد روي: أن الغرور يغلب على قلوب آخر هذه الأمة.
وقد كان ذلك، فقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون على العبادات، ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، يخافون على أنفسهم، ويقضون الليل والنهار في طاعة الله، يداومون على التقوى والحذر من الشبهات والشهوات، وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين، مع إكبابهم على المعاصي وانغماسهم في الدنيا، وإعراضهم عن الله تعالى، زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله، راجون لعفوه ومغفرته، كأنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون.
فالأنبياء والصالحون يعرفون أن الله كريم ولم يفعلوا ما تفعلون، فإذا كان هذا الأمر يدرك بالمنى وينال بالهوينى، فعلى ماذا كان بكاء أولئك وخوفهم.
قال الغزالي: والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه إن كان مؤمناً بما فيه، وترى الناس يهذونه هذاً -يعني: يقرءونه قراءة سريعة لا تدبر فيها- يخرجون الحروف من مخارجها، ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها وكأنهم يقرءون شعراً من أشعار العرب، لا يهمهم الالتفات إلى معانيه والعمل بما فيه، وهل هناك غرور أكثر من هذا؟!(188/14)
تفسير قوله تعالى: (كلا بل تكذبون بالدين يعلمون ما تفعلون)
قال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:9 - 12].
{كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} أي: لا شيء يغرك ويخدعك بربك الكريم، بل سعة عطاء ربك وحكمته في كرمه تدلك وتوحي إلى نفسك أنك مبعوث في يوم آت، فيه ثواب أو عقاب، وإنما الذي يقع منك أيها الإنسان هو العناد والتكذيب بيوم الدين يوم الجزاء، مع أن الله تعالى لم يترك عملاً من أعمالك إلا حفظه وأبقاه عليك حتى يوفيك جزاءه، كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} أي: رقباء يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم.
{كِرَامًا كَاتِبِينَ} أي: يكتبون ما تقولون.
{يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} أي: من خير أو شر، أي: يحكونه عليكم فلا يغفلون ولا ينسون.
قال الرازي: إن الله تعالى أجرى أموره مع عباده على ما يتعاملون به فيما بينهم؛ لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى بينهم، ولما كان الأبلغ عندهم في المحاسبة إخراج الكتاب بالشهود عند المحاسبة، فخوطبوا بمثل هذا فيما يحاسبون به يوم القيامة: فتُخْرج لهم كتب منشورة ويُحْضر بذلك ملائكة يشهدون عليهم، كما يشهد عدول السلطان على من يعصيه ويخالف أمره، فيقولون له: أعطاك الملك كذا وكذا وفعل بك كذا وكذا، ثم قد خالفته وفعلت كذا وكذا، فكذا هاهنا والله أعلم.
يكفي أن نوجز بأن الملائكة الكرام الكاتبين هم حفظة يحفظون أعمال العباد ويدونونها، عن اليمين وعن الشمال قعيد، أما كيف يكتبون فهذا غيب لا ينبغي إدراكه ولا علم حقيقته، بل يجب أن نكل علمه إلى الله.(188/15)
تفسير قوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم وما هم بغائبين)
قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} [الانفطار:13 - 16].
{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} أي: إن الذين بروا بأداء فرائض الله واجتناب معاصيه في الجنة ينعمون فيها، والأبرار جمع بر، وهو المتصرف بالبر أي الطاعة.
قال الأصفهاني: وقد اشتمل على البر قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} أي: الذين انحرفوا عن أمر الله وخالفوه.
قوله: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} أي: يوم يدان العباد بالأعمال فيجازون بها.
قوله: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} أي: بخارجين؛ لأنهم مخلدون في النار.(188/16)
تفسير قوله تعالى: (وما أدراك ما يوم الدين) إلى آخر السورة
قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:17 - 19].
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}، {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} هذا تفخيم لأمر ذلك اليوم وتعظيم لشأنه، أي: أي شيء أعلمك به؟ فأنت لا تدريه مع أنه من أوجب ما تهمك درايته والبحث عنه، والخطاب للإنسان المتقدم أول السورة: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] فهنا يخاطبه الله بقوله: (وما أدراك) أي: يا أيها الإنسان (ما يوم الدين) (ثم ما أدراك ما يوم الدين).
ثم فسر تعالى بعض شأنه ذلك اليوم فقال: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} أي: لا يقدر أحد على نفع أحد ولا خلاصه مما هو فيه إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.
{وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} أي: أمر الملك الظاهر ونفوذ القضاء القاهر يومئذ لله وحده.
وهذا وعيد عظيم من حيث إنه عرفه بأنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ، دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء.
والله أعلم.(188/17)
تفسير سورة المطففين(189/1)
مقدمة عن سبب تسمية السورة بالمطففين ومكان نزولها وأسباب النزول
نشرع بإذن الله تعالى في تفسير سورة المطففين، وهي السورة الثالثة والثمانون في ترتيب المصحف الكريم.
قال المهايمي: سميت بالمطففين دلالة على أن من أخل بأدنى حقوق الخلق استحق أعظم ويل من الحق.
حيث قال عز وجل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1 - 3].
فإذا كان من أخل بحقوق الخلق عوقب بالويل الذي هو أعظم العذاب من الله سبحانه وتعالى، فكيف بمن أخل بأعظم حقوق الله على العباد من الإيمان به وبآياته ورسله؟! وسورة المطففين هي سورة مكية على الأظهر، فإن سياقها يؤيد أنها نزلت بمكة لا سيما خاتمتها، فإنها في صفات المستهزئين الذين كانوا بمكة، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] إلى آخرها.
وحملها على المنافقين بالمدينة بعيد، إذ لم يبلغ بهم الحال ذلك، فالمنافقون في المدينة ما تجرءوا إلى حد أن يفعلوا ذلك صراحة مع المؤمنين.
وأما ما رواه النسائي وابن ماجة كما في ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] فحسنوا الكيل بعد ذلك) فقد ذكرنا مراراً أن سبب النزول في إطلاق السلف لا يكون مقصوراً على سبب النزول؛ لأنه قد تشمل الآية حكمه، فأهل المدينة تلي عليهم ما سبق إنزاله في مكة، وقيل لهم: أنزل الله ما أنتم عليه من تطفيف فأقلعوا، وهذا ظاهر.
ومنه يعلم أن قول بعضهم: نزلت بمكة إلا قصة التطفيف وشيئاً آخر، وقولهم: إن كل نوع من المكي والمدني منه آيات مستثناة، إنما منشؤه الحيرة في المطابقة بين ظاهر ما يتناقل من المأثور في سبب النزول، وبين ما يدل عليه السياق، وبالوقوف على عرف السلف يزول الإشكال، ويعلم سبب هذه الحيرة.
وكثيراً ما يشير إلى هذا القاسمي رحمه الله تعالى حيث يذكر عدة أسباب للنزول في بعض السور وبعض الآيات، يقول الأول: نزلت في كذا.
ويقول آخر: نزلت في كذا، في أشياء متغايرة؛ فلا يستلزم من ذلك تعدد النزول في كل الأحوال, ولا يستلزم التعارض بين هذه الأسباب؛ لأنها تكون قد نزلت لسبب واحد أو لغير سبب أصلاً, إلا أن حكمها ينطبق على هذه الوقائع، فيقال: نزلت فيمن يفعل كذا وكذا، بمعنى أن الحكم الذي تدل عليه الآية يشمل هذا وهذا.(189/2)
تفسير قوله تعالى: (ويل للمطففين يخسرون)
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1 - 3].
يقول تبارك وتعالى: ((وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)): أي: هلاك للمطففين.
قال الأصفهاني: ومن قال: ويل واد في جهنم، فإنه لم يرد أن ويلاً في اللغة هو موضوع لذلك، وإنما أراد: من قال الله تعالى ذلك فيه فقد استحق مقراً من النار.
ثم عرف تعالى المطففين فقال: ((الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ)) أي: إذا أخذوا الكيل من الناس يأخذونه وافياً زائداً، على إيهام أن ذلك تمام الكيل، فإذا فعلوا ذلك في الكيل الذي هو أقل مقداراً ففي الوزن بطريق الأولى.
وهنا يقول الله: ((الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ)) ولم يقل: الذين إذا اكتالوا من الناس، فكلمة: (على) قدرت بـ (من) للإشارة إلى ما في عملهم المنكر من الاستعلاء والقهر، وبيان شأن الظالم المتحامل المتسلط الذي لا يستبرئ لدينه ولذمته.
((وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)) أي: إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم ينقصونهم حقهم الواجب لهم، وهو الوفاء والتمام في الكيل والوزن.
قال ابن جرير: من لغة أهل الحجاز أن يقولوا: وزنتك حقك، وكلتك طعامك.
بمعنى: وزنت لك وكلت لك.
وفي الإكليل: في الآيتين ذم التطفيف والخيانة في الكيل والوزن.
أي: أنه من المنكر ومن المحظورات أشد الحظر؛ لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل في الأخذ والدفع ولو في شيء قليل؛ لأن من دنت نفسه إلى القليل فطويته فاسدة وملكته خبيثة، وأنه لا يبعده عن التوثب إلى الكثير إلا عجز أو رقابة.
يعني: لو كان قادراً على أن يستولي على ما ليس بحقه لفعل، ولو لم يكن عليه رقيب لأخذ ما استطاع، ولو لم يكن من حقه.
قال ابن جرير: وأصل التطفيف من الشيء الطفيف، والطفيف هو القليل النزر، والمطفف المقلل حق صاحب الحق عما له من الوفاء والتمام في كيل أو وزن، ومنه قيل للقوم الذين يسيرون سواءً في حسبة أو عدد: هم سواء كطف الصاع.
وقد أمر تعالى بالوفاء في الكيل والميزان, فقال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء:35]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:9] وقص علينا سبحانه أنه أهلك قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال.(189/3)
تفسير قوله تعالى: (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون لرب العالمين)
{أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُون * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6].
يقول الله سبحانه متوعداً لهم: ((أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ)) يعني: من قبورهم بعد مماتهم.
((لِيَوْمٍ عَظِيمٍ)) أي: عظيم الهول جليل الخطب كثير الفزع، من خسر فيه أدخل ناراً حامية.
((يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) أي: لأمره وقضائه فيهم بما يستحقون، في موقف يغشى العبد فيه من الهول ما يود الافتداء بكل مستطاع.
وفي تأكد الويل للمطففين بما ذكر في هاتين الآيتين مبالغة في المنع عن التطفيف وتعظيم حرمه؛ لأنه بعدما ذكر أحوالهم: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:2 - 3] قال: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:5 - 6]، مع اسم الإشارة الدالة على التبعيد ((أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ)) أي: البعداء الذين هم بعيدون؛ تحقيراً لهم.
وقوله: ((لِيَوْمٍ عَظِيمٍ)) فيه وصف يوم القيامة بالعظمة أيضاً.
وقوله: ((يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) هذا يدل على استعظام ما استسصغروه، يعني: هم يستصغرون هذا اليوم لكنه عظيم.
وقوله تعالى: ((يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) فعنوان رب العالمين المالكية والتربية، لأنه هو الذي يملكهم وهو الذي يربيهم, الدال على أنه لا يفوته ظالم قوي، ولا يترك حق مظلوم ضعيف، واقتضت حكمته ألا يهمل مثقال ذرة من خير أو شر.
وفي تعظيم أمر التطفيف إيماء إلى العدل وميزانه, وأن من لا يهمل مثل هذا كيف يهمل تعطيل قانون عدله في عباده؟! وناهيك بأنه وصفهم بصفات الكفرة، فتأمل هذا المقام ففيه ما تتحير فيه الأفهام.
يعني: وصفهم بصفة الكفرة بقوله: ((أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ)) أي: إن كانوا من المسلمين المصدقين فقد تشبهوا بمن لا يؤمن بيوم الحساب ولا بالبعث والنشور, ولو كانوا يؤمنون لاتقوا الله وخشوا حسابه على هذا التطفيف؛ لأن الكافر الذي لا يؤمن بيوم الحساب لا يبالي بأكل أموال الناس.(189/4)
تفسير قوله تعالى: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين كتاب مرقوم)
يقول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:7 - 9].
قوله تعالى: ((كَلَّا)) هذا اللفظ فيه ردع عن التطفيف الذي يقترفونه؛ لغفلتهم عن يوم الحساب وضعف استيقانهم به.
قوله: ((كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ)) أي: ما كتب فيه من عملهم السيئ وأحصي عليهم، وإيثار المظهر للإشعار بوصف لهم ثانٍ وهو الفجور.
وفي غير القرآن كان يمكن أن يقال: كلا إن كتابهم لفي سجين.
والضمير يعود على المطففين، لكن أوثر اللفظ الصريح المظهر وهو قوله تعالى: ((الفُجَّارِ)) لأن في العدول عن الضمير إلى المظهر إشعاراً بوصف لهم ثانٍ.
الوصف الأول: التطفيف، الوصف الثاني: الفجور, فلو أشار إلى الضمير لما شعر أحد بالوصف الثاني وهو الفجور.
وإيثار المظهر للإشعار بوصف لهم ثانٍ وهو الفجور، لخروجهم عن حد العدالة المتفق عليها في الشرع والعقل.
يعني: أن وصفهم بالفجور يفيد أنهم خارجون عن العدالة التي اتفق عليها العقل والشرع معاً.
قوله: ((كِتَابٌ مَرْقُومٌ)) أي: مكتوب بيّن الكتابة، أو فيه علامة تنبئ عن صدقه.
((كلا إن كتاب الفجار لفي سجين)) وسجين على وزن فعيل من السجن وهو الحبس والتضييق؛ لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، فهو بمعنى فاعل في الأصل، أو بمعنى مفعول، أي: مسجون لما ذكر في مكان مظلم.
وقيل: سجين اسم مكان، فيقدر مضاف فيه أو فيما بعده، والتقدير: ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ)) ما كتاب سجين؟ أو ما محل كتاب سجين؟ فحذف المضاف.
وقيل: إنه مشترك بين المكان والكتاب.
وقال الأصفهاني: السجين اسم لجهنم بإزاء عليين.
يعني: في مقارنة عليين تسمى جهنم سجين.
وقيل: وزيد في لفظه تنبيهاً على زيادة معناه.
وقيل: هي اسم للأرض السابعة.
ثم قال: وقد قيل: إن كل شيء ذكره الله تعالى بقوله: (وما أدراك) فسره، وكل ما ذكره من قوله: (وما يدريك) تركه مبهماً.
يعني: إذا جاءت في القرآن الكريم لفظة: (وما أدراك)، فإن القرآن يبينها ويشرحها في السياق، أما قوله تعالى: (وما يدريك) فإنه يتركه مبهماً، مثل قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] أما لفظة (وما أدراك) فمثل: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 3].
وهنا أيضاً: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:8 - 9] وكذلك قوله عز وجل بعد ذلك: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين:19] ثم فسر الكتاب.
فقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:8 - 9] أي: ذلك الكتاب المكتوب فيه أعمالهم هو كتاب مرقوم، كتبت فيه أعمالهم وما في ضمائرهم وقلوبهم.(189/5)
تفسير قوله تعالى: (ويل يومئذ للمكذبين قال أساطير الأولين)
يقول الله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [المطففين:10 - 13].
(يكذب بيوم الدين) الدين بمعنى الحساب والمجازاة، وفيه إشعار بأن المطففين ممن يتناولهم هذا الوصف؛ لأن إصرارهم على التعدي والإجرام يدل على عدم الإيمان بالبعث، فقوله تعالى هنا مباشرة بعد أن انتهى الكلام عن المطففين: ((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)) يشعر أن هؤلاء المطففين ممن يتناولهم هذا الوصف, وهو أنهم يكذبون بيوم الدين؛ لأن الذي يكذب بيوم الدين لا يبالي بما يقع، ولا يخشى حساباً ولا عقاباً، فبالتالي لا ينزجر عما تقوده إليه أهواؤه.
إذاً: إصرار هؤلاء المطففين على التعدي والإجرام وانتقاص حقوق الناس يدل على عدم تصديقهم بالبعث، كما قال تعالى في آية أخرى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل:105] وهذه المعاصي تليق بالذين لا يؤمنون ولا يخافون يوم الحساب، فلا يبالون بما يأتونه وما يفعلونه من الجرائم، فكذلك لا تصدر هذه الأخلاق كالتطفيف ونحوه إلا ممن يكذب بيوم الدين، فهذه الأخلاق لائقة بهم.
قوله تعالى: ((وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ)): أي: كل مجاوز للفطرة الإنسانية، بتجاوزه حد العدالة إلى الإفراط في ارتكاب البغي والعدوان.
قوله: ((أثيم)) , أي: مبالغ في ارتكاب أفاعيل الإثم وأنواع المعاصي.
قوله تعالى: ((إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) أي: هذا القرآن حكايات وقصص وأخبار الأولين، وليس بوحي رباني ولا تنزيل إلهي.(189/6)
تفسير قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)
{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
يقول تعالى: ((كَلَّا)) أي: ليست هذه الآيات بأساطير الأولين، بل هي الحق المبين وشفاء لما في الصدور.
قوله: ((بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) أي: غطى على مداركهم ما اكتسبوه من الآثام، حتى كدر جوهرها, وصار صدأً عليها بالمكوث فيها.
أي: إن السبب الذي حال بينهم وبين الإيمان بالحق وبآيات الله مع وضوح البراهين على أنها من عند الله كامن في الظلم؛ لأنهم لكثرة ما ارتكبوا من المعاصي رين على قلوبهم، أي: صار الران يعلو قلوبهم طبقة فوق طبقة حتى أعماها، كما يعلو الصدأ المعدن والحديد حتى يحول بينه وبين اللون الأصلي، فكذلك هذه المعاصي مع تواصلها وإصرارهم عليها وإدمانها ورسوخهم فيها رانت على قلوبهم بما كانوا يكسبون، وبالتالي حصل هذا الغطاء الكثيف على القلب الذي حال دون خروج الكفر منه ودخول الهدى فيه, فهذا هو السبب في ذلك.
والرين أصل معناه الصدأ والوسخ والقار الذي لا يزول بالغسيل، وإنما يلتصق تماماً بالشيء ولا يفارقه.
وشبه به حب المعاصي الراسخة في النفس, وذلك أنه يحصل من تكرار الفعل ملكة راسخة لا تقبل الزوال, وصفة في النفس قارة فيها.
فكذلك هؤلاء من كثرة ما تكررت منهم المعاصي صار لديهم ملكة راسخة لا تقبل الزوال، وصفة في النفس قارة فيها، فلكثرة المعاصي يرسخ حبها في القلب بحيث لا يزول، كالصدأ الذي لا يزول بسهولة.
والران: ما غطى على القلب وركبه من القسوة بسبب الذنب بعد الذنب.
فإدمان المعاصي والإصرار عليها وعدم التوبة منها يفسد القلوب ويغلفها بهذا الران، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي لولا أني أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة)، وفي رواية: (مائة مرة).
فهذا الران نشأ من تراكم المعاصي والإصرار عليها، حتى صار ذلك طبقة راسخة لا يستطاع التخلص منها، فيقال: ران عليه الشراب والنعاس.
ران عليه الشراب يعني: غلب على عقله.
وران عليه النعاس.
يعني: غلب أيضاً على عقله.
ونظيره الغين, والمراد هنا ما يتغشى القلب.(189/7)
تفسير قوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم)
يقول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15 - 16]: قال ابن جرير: فلا يرونه ولا يرون شيئاً من كرامته يصل إليهم, فهم محجوبون عن رؤيته وعن كرامته.
أي: فهم محجوبون عن رؤية الله تبارك وتعالى التي ينعم بها المؤمنون, ومحجوبون عن كرامة الله أن تصل إليهم.
وتخصيص الحجب بهؤلاء يقتضي أن غيرهم غير محجوب، فيراه تعالى ويرى كرامته، وهؤلاء هم المؤمنون.
قال الشهاب: لما كان الحجاب هو الساتر من طرف بيت وغيره استعير تارة لعدم الرؤية؛ لأن المحجوب لا يرى ما حجب، وتارة للإهانة؛ لأن الحقير يحجب ويمنع من الدخول على الرؤساء، ولذا قالت العرب: الناس ما بين مرحوب ومحجوب.
مرحوب: أي مكرم ومرحب به.
محجوب يعني: مهان.
ونلاحظ هنا أن وصف المحجوبية إنما هو وصف للمخلوقين وليس وصفاً لله تبارك وتعالى.
قوله: ((ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ))، أي: محترقون بها؛ لأن صال بمعنى دخل، أي: دخل الجحيم ليعذب فيها ويحترق بها.
وقد أشار القاشاني إلى سر ترادف هذه الجمل الكريمة، وهو أن ما اكتسبوه من الذنوب لما صار كالطبع على قلوبهم من الرسوخ فيها كدر جوهرها وغيرها عن طباعها، فعندها تحقق الحجاب, وانغلق باب المغفرة، ولذلك قال: ((كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)) لامتناع قبول قلوبهم للنور.
أي: أن قلوبهم لا يصل إليها النور بسبب هذه الحجب وهذا الران الذي جاء بسبب إصرارهم على المعاصي.
يقول: وامتناع عودها إلى الصفاء الأول الفطري، كالماء الكبريتي مثلاً, إذ لو صعد لما رجع إلى الطبيعة المائية المبردة لاستحالة جوهرها، بخلاف الماء الساخن الذي استحالت كيفيته دون طبيعته.
يعني: كأنه يشير إلى أن بعض المواد تتغير صفاتها الفيزيائية بالبرودة وبالحرارة, فالماء مثلاً يكون بارداً ويكون ساخناً؛ لكن جوهره لا زال كما هو, بخلاف ما لو حصل تفاعل كيميائي للماء فتتغير مكوناته, فكذلك هؤلاء الكفار، لم يكن التغير مجرد مظاهر قابلة للتغير، بل حصل تغير في جوهرهم وطبيعتهم؛ ولذلك استحقوا الخلود في العذاب، وحكم عليهم بقوله: ((ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ)).(189/8)
كلام ابن القيم في معنى قوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون)
قال ابن القيم في بدائع الفوائد: في هذه الآية جمع لهم سبحانه وتعالى بين العذابين: عذاب الحجاب وعذاب النار، فألم الحجاب يجعل في قلوبهم وأرواحهم ألماً نفسانياً، تتألم وتتعذب به قلوبهم وأرواحهم، نظير ما تفعله النار في أجسادهم، كحال من حيل بينه وبين أحب الأشياء إليه في الدنيا وأخذ بأشد العذاب.
يعني: جمع له هذان الأمران, فرق إلى الأبد بينه وبين أحب إنسان إليه في الدنيا، بالإضافة إلى ذلك عذب أشد العذاب، فجسمه في عذاب، وقلبه وروحه في عذاب، والعياذ بالله.
يقول: فإن أخطر عذاب الروح أن تتعلق بمحبوب لا غنى لها عنه, وهي ممنوعة من الوصول إليه, فكيف إن حصل لها مع غياب المحجوب عنها وطول احتجابه بغضه لها ومقته وطرده وغضبه الشديد عليها؟! ولذلك فـ ابن القيم يريد أن يبين أن هذا الألم الذي يقع على القلوب والأرواح ألم نفسي أشد بكثير جداً مما يقع على الأبدان، ويزداد العذاب شدة عندما يتوارى هذا المحبوب ويطول احتجابه عنها.
يقول: فأي نسبة لألم البدن إلى هذا الألم الذي لا يتصوره إلا من بلي به أو بشيء منه, فلو توهمت النفوس ما في احتجاب الله سبحانه وتعالى عنها يوم لقائه من الألم والحسرة لما تعرضت لأسباب ذلك الاحتجاب.
يعني: لو أن الإنسان أعمل فكره وأخذ يتأمل كيف تكون حسرته إذا كان من المحجوبين عن الله تبارك وتعالى في ذلك اليوم, لاتقى أسباب هذا الاحتجاب؛ حتى لا يعذب هذا العذاب.
ثم يقول: وأنت ترى المحبين في الدنيا لصورة منتهى حسنها إلى ما يعلم -يعني إلى الموت-.
فالرجل العاشق مثلاً لامرأة في غاية الجمال نهايتها الموت.
ناهيك عن الأمور الأخرى التي هي دون الموت.
يقول: وأنت ترى المحبين في الدنيا لصورة منتهى حسنها إلى ما يعلم، كيف يصيبهم من ألم احتجاب محبوبهم عنهم وإعراضه وهجره, ويرى أحدهم كالموت أو أشد منه من بين ساعة.
يعني: من فراق ساعة, فالبين هو الافتراق والابتعاد, أي: كل ما حصل هو فراق ساعة من الزمان, فهو يتألم ألماً شديداً, كما يقول الشاعر يرثي أخاه لأمه: وكنت أرى كالموت من بين ليلة فكيف ببين كان ميعاده الحشر.
أقول لنفسي في الخلاء ألومها لك الويل ما هذا التذلل والصبر.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وإنما يتبين الحال في هذا بمعرفة ما خلقت له الروح وما هيئت له، وما فطرت عليه, وما لا سعادة لها ولا نعيم ولا حياة إلا بإدراكه.
فاعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق كل عضو من الأعضاء لغاية ومنفعة، فكماله ولذته في أن يحصل فيه ما خلق له، فخلق العين للإبصار, والأذن للسمع, والأنف للشم, واللسان للنطق والذوق، واليد للبطش, والرجل للمشي، والروح لمعرفته ومحبته وللابتهاج بقربه والتنعم بذكره، وجعل هذا كمالها وغايتها, فإذا تعطلت من ذلك كانت أسوأ حالاً من العين والأذن واللسان واليد والرجل التي تعطلت عما خلقت له وحيل بينها وبينه، بل لا نسبه لألم هذه الروح إلى ألم تلك الأعضاء المعطلة ألبتة، بل ألمها أشد الألم, وهو من جنس ألمها إذا فقدت أحب الأشياء إليها وأعزه عليها, وحيل بينها وبينه, وشاهدت غيرها قد ظفر بوصله وفاز بقربه ورضاه.
والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها, الذي لا تقر عينها إلا بقربه والأنس به، والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى لقائه، فهذا غاية كمالها وأعظم نعيمها وجنتها العاجلة في الدنيا، فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب الذي كان يحجبها في الدنيا عن رؤية وجهه وسماع كلامه.
يعني: الإنسان إذا عمر قلبه بمحبة الله سبحانه والأنس به ومعرفته, والعكوف على الشوق إليه، يعيش في الدنيا كأن في صدره جنة، ويرى من النعيم ما لا يوصف، كما قال العلماء في قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14]: فهذه عامة لا ينبغي تخصيصها بالنعيم في البرزخ ولا بالنعيم في الجنة, بل هي في الدور الثلاثة: في الدنيا, وفي البرزخ، وفي الجنة.
ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: ما يصنع أعدائي بي، جنتي في صدري, فأينما رحت فهي معي.
يقصد جنة العلم ومحبة الله عز وجل ومعرفته.
وقال بعض الصالحين: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة النعيم لجالدونا عليه بالسيوف.
أي: لو ذاق الملوك وأبناء الملوك النعيم الذي نتمتع به في قلوبنا من ذكر الله ومعرفته والأنس به ومحبته عز وجل لجالدونا عليه بالسيوف، لكنهم لا يعلمون؛ لأنهم يتلهون بنعيم الدنيا ويرغبون عن ذلك النعيم الحقيقي.
فطريق السعادة أن تستقيم على مراد الله, كما قال بعض العلماء: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وهي جنة الرضا عن الله سبحانه وتعالى ومحبته.
والإنسان يشعر بهذا إذا ذاقه, أما إن كان مجرد خبر فإنه لا يوقن به كما لو ذاقه، كما يقول الصوفية: من ذاق عرف ومن حرم انحرف.
ثم يقول: والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها، الذي لا تقر عينها إلا بقربه والأنس به, والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى لقائه، فهذا غاية كمالها وأعظم نعيمها وجنتها العاجلة في الدنيا، فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب.
يعني: أعظم نعيم في الدنيا هو أن يعمر القلب بمحبة الله، وأعظم نعيم في الآخرة إذا قوبل المحبوب أن يرفع الحجب التي كانت في الدنيا بينه وبينه، كما قال النبي عليه السلام: (حجابه النور, لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ففي الآخرة يخلق المؤمن ويخلق أهل الجنة خلقاً بحيث يتحملون رؤية الله تبارك وتعالى، أما في الدنيا فلا يمكن لأحد أن يرى الله: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143] هذا الجبل الضخم القوي لم يتحمل فما قوة موسى عليه السلام بالنسبة للجبل؟! لما تجلى الله سبحانه وتعالى للجبل اندك تماماً، فأراد الله أن يبين لموسى أنه بخلقته هذه في الدنيا لا يستطيع رؤيته سبحانه وتعالى, وأما في الآخرة فيخلقون خلقاً جديداً بحيث يطيقون رؤية الله عز وجل, فالله لا يرى بهذه العين الفانية, وإنما يرى بخلق آخر يخلقه الله في جنة الرضوان، وحينئذ يكون أعظم نعيم في حقهم, بحيث إذا نعموا به يتلهون وينسون سائر ما في الجنة من نعيم، فرؤية الله سبحانه وتعالى في اليوم المهيب ورؤية وجهه الكريم وسماع كلامه هو أعظم نعيم على الإطلاق.
وفي حديث الرؤية يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فو الله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه) فبعداً وسحقاً لأولئك الكفرة الذين يعيرون المسلمين بأن دينهم يدعوهم إلى الجنة لينالوا فيها المتاع الحسي من الحور العين والأكل والشراب والفاكهة واللحم، وأن نبيهم يغريهم بالشهوات الجسدية، وهذا كله نابع عن جهلهم وحماقتهم وظلمة قلوبهم بالكفر، وهو ناتج عن غلوهم في تحريم الطيبات، فهم ينظرون إلى متع الحس على أنها نجس وخبث، حتى إن القذارة عندهم شيء طيب، والنظافة شيء خبيث ينفرون منه، فانعكس هذا على العقائد عندهم, فهم ليس عندهم شيء اسمه الجنة والنار بالتفاصيل التي نعرفها نحن, والتي امتن الله بها على هذه الأمة المحمدية المصطفاة، كما في كتابها القرآن الكريم وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام، أما هؤلاء الضلال فأقصى شئء عندهم هو الدخول في الملكوت.
ما هو الملكوت؟ لا يعرفون عنه شيئاً، ونحن امتن الله علينا بالقرآن وبالسنة فجاءت لنا بالتفاصيل لهذه الحياة الغيبية، حتى إننا لنعلم أكل أهل الجنة وملابس أهل الجنة وصفة الجنة وأشجارها وثمارها إلخ, كل هذا كي يكون محرراً وقائداً للمؤمنين إلى السعي لنيل هذا النعيم.
ثم لماذا ينسى النعيم الحسي؟ أليس الإنسان مركباً من روح وجسد؟ والروح تتنعم والجسد أيضاً يتنعم، فما الذي يستغربونه من هذا الفضل الرباني الإلهي؟ أيستبعدون أن ينعم الله الروح والجسد؟ ما الذي يستغربه هؤلاء الحمقى ويعيرون به المسلمين ويقولون: إن دينكم يغريكم بالشهوات؟ ثم ما جريمته إن كانت هذه خلقة الإنسان وهذه فطرة الإنسان؟ ومع ذلك فإن أعظم نعيم الجنة في الحقيقة هو النعيم الروحي، وليس الحسي, بدليل الأحاديث التي دلت على أن أهل الجنة إذا تجلى لهم الله سبحانه وتعالى ورأوه عز وجل فإنهم يتلهون عن كل ما في الجنة من ملذات, فينسون الحور العين وغيرها من الملذات، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه).
والله سبحانه يقول: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] فرضوان الله أكبر من نعيم الجنة الحسي وملذاتها, وقد عرفنا أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما نلهم النفس، والإنسان إذا نام يبقى يتنفس، فكذلك أهل الجنة يلهمون التسبيح؛ لأنهم في دار ليست بدار تكليف وإنما هي دار جزاء، فلذلك لا يتعبدون بالتسبيح، كما هو الحال في الدنيا وإنما التسبيح يأتي بصورة لا إرادية.
ثم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وكما جمع الله سبحانه وتعالى لأعدائه بين هذين العذابين, وهما ألم الحجاب وألم العذاب.
وهما في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15 - 16] فألم الحجاب أن يتحسر أهل النار حينما يكونون من المحجوبين عن الله، ولا أمل عندهم أن يروا الله سبحانه وتعالى، فاجتمع لهم ألم الحجاب وألم العذاب أي: عذاب النار.
يقول: فكما جمع الله سبحانه وتعالى لأعدائه بين هذين العذابين وهما: ألم الحجاب وألم العذاب، جمع لمحبيه بين نوعي النعيم: نعيم الخلد والنظر, ونعيم الأكل والشرب والتمتع بما في الجنة.
جمع الله لأهل الجنة(189/9)
تفسير قوله تعالى: (ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون)
يقول الله تعالى: {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17].
يقال لهم هذا زيادة في التنكيل والتوبيخ، فإن أشد شيء على الإنسان إذا أصابه مكروه أن يزجر عن شيء وهو يتألم له؛ لأن وسائل النجاة من مصابه كانت بين يديه فأهملها، وأسباب التخطي عنه كانت في متناوله فأغفلها.
يعني: لو أن إنساناً آتاه الله المال فأخذ يبدده في السفاهات والمعاصي والمخالفات، فمثل هذا ينطبق عليه قول الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29].
((ملوماً)) أي: أن الآخرين يلومونك: ألم تفعل كذا، وهكذا يكون ملوماً من الآخرين.
((محسوراً)) حسرة منازعة وتوبيخ لنفسه.
إن مما يعظم المصيبة على الإنسان أنه إذا وقع في المصيبة أن يتذكر وهو يتألم توبيخ الناس له: لو كنت فعلت كذا ما وقعت في كذا.
ومما يضاعف عذابه وألمه أن يتذكر وهو يتألم للمصائب بأن وسائل النجاة كانت بين يديه فأهملها، وأسباب التخطي عنه كانت في متناوله فأغفلها، فلذلك من أنواع العذاب المعنوي أيضاً على نفوس الكفار أن يبكتوا ويوبخوا ويعنفوا، بأن يقال لهم: ((هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)) أي: ألم تكونوا تسخرون من المؤمنين في الدنيا؟ فـ ((هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)).(189/10)
تفسير قوله تعالى: (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين نضرة النعيم)
يقول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:18 - 24].
((كلا)) هذا ردع عن التكذيب، أو بمعنى حقاً.
قوله: ((إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)) أي: ما كتب من صور أعمال السعداء في عليين، وهو مقابل للسجين في علوه وارتفاع درجته, وكونه ديوان أعمال أهل الخير، كما قال تعالى: ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ)) ((كِتَابٌ مَرْقُومٌ)) أي: محل شريف رسم بصور أعمالهم.
((يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)) أي: يحفه المقربون من حضرة ذي الجلال كما في قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55]، والمقربون هم الأبرار, وأعاد ذكرهم بوصف ثانٍ؛ تنويهاً بهم وتعديداً لصفاتهم.
أو المقربون: هم الملائكة؛ إجلالاً لهم وتعظيماً لشأنهم.
وبعد أن عظم تعالى كتاب الأبرار أتبع ذلك بتعظيم منزلتهم بقوله سبحانه: ((إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)) ((عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُون)) ((تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)).
قوله: ((إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)) أي: عظيم دائم، وليس نعيمهم في انحلال.
((عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ)) أي: على الأسرة ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة وأفانين النعيم.
((تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)) أي: بهجته ورونقه كما يرى على وجوه المترفين ماؤه وحسنه.
وكان ينبغي أن يزيد القاسمي الإشارة إلى أن نضره النعيم إنما هي أثر من آثار رؤية الله تبارك وتعالى, كما ذكر جماعة من المفسرين.
قوله: ((عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ)) يعني: ينظرون إلى وجه الله سبحانه وتعالى في جنات الرضوان، لأنه إذا وصف الفجار بأنهم محجوبون؛ فإن ذلك يستلزم أن يوصف الأبرار بأنهم غير محجوبين؛ لأنهم يرون الله سبحانه وتعالى، ولذلك هذه الآيات مما استدل به على رؤية الله تبارك وتعالى لأهل الجنة.(189/11)
تفسير قوله تعالى: (يسقون من رحيق مختوم)
يقول الله تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين:25]: (من رحيق) , أي: خمراً، إلا أنه خص بالخالص الذي لا رجس فيه، كما قال حسان: يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل.
ومنه قولهم: مسك رحيق لا غش فيه، وحسب رحيق لا شوب فيه.
قوله: (مختوم) أي: ختم على أوانيه تكريماً له لصيانته عن أن تمسه الأيدي، على ما جرى فيه العادة من ختم ما يكرم ويصان.
الختم هنا كما يفهم من كلام العلماء مثل غطاء الزجاجة مثلاً, وهو ما يختم به عليها كي تحفظ، فكذلك قوله: ((يسقون من رحيق مختوم)) يعني: مختوماً على أوانيه كي لا تتعرض للتلف، ولا تمسها الأيدي كي تكرم.
قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين:26].
قال: القفال: الذي يختم به رأس قارورة, ذلك الرحيق هو المسك.
فكأن ذلك المسك رطب ينطبع فيه الخاتم.
ومن المسك ما يكون صلباً وليس سائلاً، فكأن هذا هو الذي يختم به على رأس تلك القوارير.
وعن بعض السلف واللغويين: المختوم هو الذي له ختام، يعني: عاقبة.
وقد فسر قوله تعالى: ((ختامه مسك)) أي: من شربه كان ختم شربه على ريح المسك.
يعني: يشرب من هذا الرحيق، فآخر شيء يشربه من داخل هذا الرحيق يكون المسك.
والقصد هو اللذة وزكاء الرائحة، على خلاف خمر الدنيا الخبيثة الطعم والرائحة، فهنا وصف لخمر الجنة بالصفات التي تشيع في القرآن الكريم من كونها شراباً طهوراً طيب الطعم والريح؛ لأن ختامه مسك.
وإذا ذكر أي شيء من نعيم الجنة فالقاعدة كما ذكرناها مراراً: أنه ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط، أما الحقيقة فلا يمكن للإنسان مهما اجتهد أن يتخيل حقيقة نعيم أهل الجنة، فإذا قلنا: (ختامه مسك)، فلا يتخيل أنه نفس مسك الدنيا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أطيب الطيب المسك)، فهذا تشابه في الاسم فقط؛ لكنه لا شك أنه يتفاوت تفاوتاً عظيماً.(189/12)
تفسير قوله تعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)
يقول الله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
((وفي ذلك)) أي: في ذلك النعيم المنوه به وما تلاه.
((فليتنافس المتنافسون)) أي: فليرغب الراغبون بالإقبال على طاعة الله تعالى.
قال ابن جرير: التنافس أن ينفس الرجل على الرجل بالشيء يكون له, ويتمنى أن يكون له دونه, وهو مأخوذ من الشيء النفيس, وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتطلبه وتبتغيه، وكأن معناه في ذلك: فليجدّ الناس فيه وإليه، وليستبقوا في طلبه ولتحرص عليه نفوسهم.
قال الرازي: إن مبالغته تعالى بالترغيب فيه تدل على علو شأنه.
يعني: كون الله سبحانه وتعالى هو الذي يحرضنا على التنافس في هذا النعيم، فهذه أعظم دليل على علو شأن هذا النعيم.
يقول: وفيه إشارة إلى أن التنافس يجب أن يكون في مثل ذلك النعيم العظيم الدائم، لا في النعيم الذي هو سريع الفناء.
فالناس إنما يتنافسون في الدنيا، والتنافس في الدنيا والتحاسد عليها يورث البغضاء؛ لأنها ضيقة، والناس تتحاسد على الشيء الذي يكون محدوداً؛ لكن الجنة واسعة جداً وأدنى أهل الجنة منزلة له مثل الكرة الأرضية مرتين، فالتنافس لا يكون فيما هو مكدر؛ لأن الإنسان الذي يحسد في الدنيا إما أن يحسد مؤمناً أو يحسد كافراً، فإذا كان يحسد كافراً فإن نهايته الخلود في الجحيم إلى الأبد, فعلام يحسد هذا الشخص الذي نهايته الخلود في الجحيم؟! وإذا كان يحسد مؤمناً على هذا النعيم الذي أوتيه فما هو هذا النعيم بالنسبة لنعيم أهل الجنة، فالمؤمن صائر إلى الجنة والكافر صائر إلى النار, فلا ينبغي أن يحسد، والناس حينما يتنافسون على الشيء الضيق تحصل عداوة، كأن تكون المنافسة على الأموال أو المناصب والانتخابات؛ فتجد الأحقاد والتخاصم، لكن التنافس ينبغي أن يكون في شيء مستحق، بأن نتنافس فيما ندبنا سبحانه وتعالى للتنافس فيه, ففي الشرع هناك تنافس مأمور به، وهناك تنافس منهي عنه، أما المأمور به فهو في هذه الآية: ((وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)) وفي قوله تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61].
أما التنافس المنهي عنه ففي مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تنافسوا) يعني: في الدنيا؛ ولذلك قالوا: من ينافسك في الدنيا فادفعها في نحره.
أي: لا تنافس في الدنيا، وإنما التنافس الذي ينبغي أن يكون في ابتغاء رضوان الله تبارك وتعالى، وهو الذي قيل فيه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] وقيل فيه: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] وقيل فيه: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون:61] فالمسابقة والمنافسة إنما تكون في أعمال الآخرة؛ لأن نعيمها عظيم كبير دائم، أما نعيم في الدنيا فهو نعيم مكدر سريع الفناء, إن بقيت أنت له لم يبق لك، وإن بقي لك لم تبق، وكل ما له نهاية فهو قليل.(189/13)
تفسير قوله تعالى: (ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب بها المقربون)
يقول عز وجل: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:27 - 28].
((ومزاجه من تسنيم)) الواو هنا واو العطف، معطوف على ((ختامه مسك)) لكن بينهما قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
فالمعنى: ختامه مسك ومزاجه من تسنيم، عطف على أنه صفة أخرى لهذا الرحيق المختوم.
وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته.
يعني: ما يوجد في ذلك الرحيق من ماء تسنيم، والتسنيم في الأصل مصدر سنمه، بمعنى رفعه، ومنه سنام الجمل.
قوله: ((وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ)) أي: ذات تسنيم.
قوله تعالى: ((عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ))، أي: هذا الماء ماء عين تسمى تسنيماً، وسمي الماء به لارتفاعه وانصبابه من علو، وقد بينه بقوله: ((عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)) أي: يشربون بها الرحيق.
والكلام في الباء، كما في قوله تعالى: ((عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6]، من كونها زائدة, أو بمعنى (من) فقوله: ((يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)) يعني: يشرب منها المقربون، أو تضاف للتلذذ.(189/14)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون)
يقول تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا)) وهم كفار قريش.
((كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ)) أي: استهزاءً بهم لإيمانهم بالله وحده، وبما أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم, ونبذهم ما ألفوا عليه آباءهم، فإذا تأملنا كلمة: ((كانوا)) وجدنا أن المشهد يتكلم عن موقف يوم القيامة، فكل الآلام التي عاناها المؤمنون في الدنيا صارت ذكريات ماضية وانتهت، وصارت العاقبة للتقوى فما أعظم ما تواسينا هذه الكلمة، فربنا سبحانه وتعالى يصف هؤلاء بالإجرام، فهذا يفيد أن الكافر في ميزان الله مجرم.
((كانوا)) استرجاع لما كان يعانيه المؤمنون في الدنيا في سبيل الله تبارك وتعالى, وفي سبيل دينهم، مثل قوله: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] يعني: لو أن هؤلاء المجرمين ينقمون منهم أنهم سرقوا أموالهم واعتدوا على أعراضهم أو ظلموهم ونهبوهم، لكان هناك ما يسوغ، لكن أن ينقموا منهم وليس لهم جريمة سوى أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، أو أنهم يقيمون دين الله تبارك وتعالى أو يدعون إليه, فهذا هو الذي لا يمكن أن يسوغ لهم المعاداة للدين وأهله.
(إن الذين أجرموا) هم المعتدون الأثمة الذين خبثت نفوسهم، وصمت آذانهم عن سماع دعوة الحق، هؤلاء كانوا يضحكون من الذين آمنوا؛ وذلك لأنه حين رحم الله هذا العالم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان كبار القوم وعرفاؤهم على رأي الدهماء وفي ضلال العامة، وكانت دعوة الحق خافتة لا يرتفع بها إلا صوته صلى الله عليه وسلم، ثم يُسِرُّ بها بعض من يليه، ويجيب دعوته من الضعفاء الذين لم تطمس أهواؤهم سبيل الحق إلى قلوبهم، فيسروا بها إلى من يرجون، ولا يستطيعون الجهر بها لمن يخافون قتله وبطشه.
ومن شأن القوي المستعد بالقدرة والكثرة أن يضحك ممن يخالفه بالمبدأ ويدعوه إلى غير ما يعرفه، وهو أضعف منه قوة وأقل عدداً.
فطبيعة الإنسان إذا استغنى بكثرة المال أو كثرة الولد والقوة أن ينظر إلى من هو دونه بمنطق القوة لا بمنطق الحق، فهم يعتمدون على حق القوة، أما المؤمنون فيعتمدون على قوة الحق, حتى لو كانوا ضعفاء في عددهم أو عدتهم، أما الآخرون فيعتمدون على حق القوة, أي: بما أنه قوي ومتغلب فهو يسخر ممن هو دونه حتى ولو كان الحق له, فكذلك كان شأن جماعة من قريش كـ أبي جهل والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل وأشياعهم، وهكذا يكون شأن أمثالهم في كل زمان.
فمتى عمت البدع, وتفرقت الشيع، وخفي طريق الحق بين طرق الباطل، وضيع معنى الدين، وأزهقت روحه من عباراته وأسانيده, ولم يبق إلا ظواهر لا تطابقها البواطن، وحركات أركان لا تسايرها السرائر، وتحكمت الشهوات فلم تبق رغبة تحدو بالناس إلى العمل، إلا ما تعلق بالطعام والشراب والزينة والرياسة والمناصب والألقاب، وتشبثت الهمم بالأمل الكاذب، وأحب كل واحد أن يحمد بما لم يفعل، وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل، واستوى في ذلك الصغير والكبير، والأمير والمأمور، والجاهل والملقب بلقب العالم.
إذا صار الناس إلى هذه الحال ضعف صوت الحق، وازدرى التابعون قول الداعي إليه، وانطبق عليهم نص الآية الكريمة: ((إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ))؛ لأنهم يستندون إلى حق القوة.
((وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ)) أي: إذا مروا بالمؤمنين فإنهم يتغامزون فيما بينهم استهزاء وسخرية بالمؤمنين، كما يحصل الآن من السخرية بالإخوة والأخوات المتدينين من هؤلاء القوم.
والغمز هو الإشارة بالجفن والحاجب.
قال السيوطي: في هذا دلالة على تحريم السخرية بالمؤمنين, والضحك منهم, والتغامز عليهم.
ولذلك عد العلماء من المكفرات معاداة المؤمن لأجل دينه.
يعني: لو كان الواحد يعادي مؤمناً بسبب الاعتداء على أرض أو على مال أو أي شيء من الدنيا -بغض النظر من المحق ومن المبطل- فقد يكون المتدين هو المبطل فلا مشكلة هنا، لكن عندما تعاديه من أجل تدينه فقد عد العلماء هذا من المكفرات.(189/15)
تفسير قوله تعالى: (وإذا انقلبوا إلى أهلهم عليهم حافظين)
{وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:31 - 33].
((وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} أي: إذا انقلب هؤلاء المجرمون من مجالسهم إلى أهليهم انقلبوا فكهين بالسخرية وحكاية ما يعيبون به أهل الإيمان، أو فاكهين بما هم فيه من الشرك والطغيان والتنعم في الدنيا.
((وَإِذَا رَأَوْهُمْ)) يعني: إذا رأوا المؤمنين.
((قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ)) يعني: تركهم لما عليه العامة، والاعتصام بغيره.
((وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ)) يعني: ما أرسل هؤلاء المجرمون القائلون ما ذكر على المسلمين حافظين لأعمالهم، فهذه جملة حالية من واو (قالوا) أي: قال أولئك والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم، ويهيمنون على أعمالهم، ويشهدون بغيهم وضلالهم.
وهذا تهكم بهم! وقد جوز أن يكون ذلك من جملة قول المجرمين، كأنهم قالوا: إن هؤلاء لضالون, وما أرسلوا علينا حافظين يعني: إنكاراً لصدهم عن الشرك ودعوتهم إلى الإسلام، وإنما قيل (عليهم) نقلاً له بالمعنى، كما في قولك: حلف لأفعلن.(189/16)
تفسير قوله تعالى: (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ما كانوا يفعلون)
{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36].
قال تبارك وتعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34] أي: يوم القيامة.
هذا متعلق بما قبله من قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ} [المطففين:29 - 34] أي يوم القيامة.
وقد قال تعالى عن الكفار: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة:82] أي: من يضحك الآن فسوف يبكي غداً بكاء طويلاً لا ينتهي، والمهم أن المؤمن هو الذي يضحك في النهاية وتكون له العاقبة.
يقول تعالى: ((فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ)) هذا تفريع على ما قبله، للدلالة على أنه جزاء سخريتهم, والجزاء من جنس العمل.
قوله: ((فاليوم)) هو يوم الدين والجزاء.
وضحكهم من الكفار ضحك المسرور بما نزل بعدوه من الهوان والصغار بعد العزة والكبرياء.
((عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ)) أي: ينظرون ما أوتوا من النعيم وما حل بالمجرمين من عذاب الجحيم وأيضاً: ينظرون أعظم نعيم على الإطلاق وهو رؤية الله تعالى في الآخرة، خاصة وأن الآية اشتملت المقابلة بين عاقبة المؤمنين وعاقبة الكافرين، فعاقبة الكافرين فيها عذاب البدن وعذاب الحجاب، فالنعيم يشمل الأمرين: رؤية الله سبحانه وتعالى، وينظرون ما أعد لهم من النعيم، وينظرون أيضاً ما حل بالمشركين من عذاب الجحيم.
يقول تعالى: ((هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)) أي: جوزوا ثواب ما كانوا يفعلون في الدنيا.
والاستفهام للتقرير، كأنه خطاب للمؤمنين؛ تعظيماً لهم وتكريماً، كأن الله سبحانه وتعالى يقول: وهل رأيتم كيف جازيت الكافرين بأعمالهم وكيف فعلت بهم؟! وثوبه وأثابه يعني: جازاه، وهو من ثاب بمعنى رجع، فالثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله، ويستعمل في الخير.
ونظير هذه الآيات قول الله تبارك وتعالى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:108 - 111].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من هؤلاء الأئمة الفائزين.(189/17)
تفسير سورة البروج(190/1)
تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات البروج واليوم الموعود)
سورة البروج هي السورة الخامسة والثمانون من القرآن الكريم، وهي سورة مكية، وآيها اثنتان وعشرون آية.
روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق).
قال الله تبارك وتعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج:1 - 2].
قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) أي: الكواكب والنجوم، شبهت بالبروج -وهي القصور- لعلوها، أو البروج منازل عالية في السماء.
قال ابن جرير: وهي اثنا عشر برجاً، فمسير القمر في كل برج منها يومان وثلث، فذلك ثمانية وعشرون منزلة، ثم يستتر لليلتين، ومسير الشمس في كل برج منها شهراً.
وأصل معنى البروج الأمر الظاهر من التبرج، ثم صار حقيقة في العرف للقصور العالية، فالقصر العالي يطلق عليه برج؛ لأنه ظاهر للناظرين، ويقال لما ارتفع من سور المدينة: برج أيضاً.
يقول ابن كثير: يقسم تعالى بالسماء وبروجها وهي النجوم العظام كما تقدم بيان ذلك في قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61].
وقيل: البروج النجوم.
وقال مجاهد: البروج التي فيها الحرس.
وقال يحيى بن رافع: البروج قصور في السماء.
وقال المنهال بن عمرو: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) ذات الخلق الحسن.
واختار ابن جرير أنها منازل الشمس والقمر، وهي اثنا عشر برجاً.
قوله: (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) أي: الذي وعد فيه العباد بفصل القضاء بينهم، وذلك يوم القيامة.(190/2)
تفسير قوله تعالى: (وشاهد ومشهود)
قال عز وجل: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3].
يقول القاسمي: الشاهد هو كل ما له حس يشهد به، والمشهود: هو كل محس يشهد بالحس، فيدخل فيه العوالم المشهودة كلها.
وتخصيص بعض المفسرين بعضاً مما يتناوله لفظهما لعله الأهم أو الأولى أو الأعرف والأظهر لقرينة عنده، وإلا فاللفظ على عمومه حتى يقوم برهان على تخصيصه.
قوله: (وشاهد ومشهود) اختلف المفسرون في ذلك، ومن ذلك ما حكاه ابن كثير رحمه الله تعالى أن الشاهد هو يوم الجمعة وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه، ولا يستعيذ فيها من شر إلا أعاذه.
قوله: (وَمَشْهُودٍ) هو يوم عرفة، والحديث الوارد في هذا ضعيف، ثم ذكر جملة من الأحاديث مما ذكرنا.
وعن ابن عباس قال: الشاهد هو محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود يوم القيامة، ثم قرأ {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103].
يعني: يوم القيامة.
وسأل رجل الحسن بن علي عن قوله: (وشاهد ومشهود) قال: سألت أحداً قبلي؟ قال: نعم.
سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا: يوم النحر ويوم الجمعة، فقال: لا، ولكن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم ثم قرأ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] والمشهود: يوم القيامة، ثم قرأ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103].
وقال الضحاك وغيره: الشاهد: ابن آدم، والمشهود: يوم القيامة.
وعن عكرمة: الشاهد: محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: يوم الجمعة.
وعن ابن عباس: الشاهد: الله، والمشهود: يوم القيامة.
وعنه أيضاً: (وشاهد ومشهود) قال: الشاهد: الإنسان، والمشهود: يوم الجمعة.
وعن سعيد بن جبير: الشاهد: الله، وتلا: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:79]، والمشهود: نحن.
ثم قال ابن كثير: والأكثرون على أن الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة.
وقد ذكر القاسمي كلاماً قوياً، وهو: أن الشاهد هو كل ما له حس يشهد به، والمشهود هو كل مُحَس يُشهد بالحس، فيدخل فيه العوالم المشهودة كلها، وتخصيص بعض المفسرين بعضاً مما يتناوله لفظهما؛ لعله الأهم أو الأولى أو الأعرف والأظهر لقرينة عنده، وإلا فاللفظ على عمومه حتى يقوم برهان على تخصيصه.(190/3)
تفسير قوله تعالى: (قتل أصحاب الأخدود)
قال تبارك وتعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4].
هم الذين كانوا يعذبون المؤمنين، قتلهم الله وأهلكهم وانتقم منهم، على أن الجملة خبرية وهي جواب القسم، أو دليل جوابه إن كانت جملة دعائية، والتقدير: لتبلون كما ابتلي من قبلكم، ولينتقمن الله منكم -يا كفار قريش- كما انتقم من الذين ألقوا المؤمنين في الأخدود.
قال الزمخشري: وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان، وإلحاق أنواع الأذى وصبرهم وثباتهم، حتى يأنسوا بهم، ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أن الكفار ملعونين عند الله بمنزلة أولئك المعذِّبين بالنار، أحقاء بأن يقال فيهم: قتلت قريش كما قيل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]، والأخدود: الحفرة المستطيلة في الأرض.(190/4)
تفسير قوله تعالى: (النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود)
قال تبارك وتعالى: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:5].
قوله: (النار) بدل من الأخدود، أي: النار سبب في الوقود.
والوَقود بالفتح الحطب الذي يوقد به، لكن الوُقود بالضم هو الإيقاد، مثل الوَضوء والوُضوء والطَهور والطُهور.
قوله تبارك وتعالى: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج:6] أي: على حافة أخدودها.
(قُعُودٌ) أي: قاعدون يتشفون من المؤمنين، ويتلذذون برؤية المؤمنين وهم يحترقون.(190/5)
تفسير قوله تعالى: (وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود)
قال تبارك وتعالى: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:7] يعني: حضور يشاهدون احتراق الأجساد الحية وما تفعل بها النيران، لا يرقون لهم؛ وذلك لقسوة قلوبهم.
يقول عز وجل: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] أي: وما أنكروا منهم ولا كان لهم ذنب إلا الإيمان بالله وحده! قال الراغب: نقمت من الشيء ونقمته إذا أنكرته، إما باللسان وإما بالعقوبة ومنه الانتقام.
قوله: (الْعَزِيزِ) أي: الغالب على أعدائه بالقهر والانتقام.
قوله: (الْحَمِيدِ) أي: المحمود على إنعامه وإحسانه.
يقول الحافظ ابن كثير: قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] أي: لعن أصحاب الأخدود، وجمعه أخاديد، وهي الحفر في الأرض، وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله عز وجل، فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم فأبوا عليهم؛ فحفروا لهم في الأرض أخدوداً وأججوا فيه ناراً، وأعدوا لها وقوداً يسعرونها به، ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم فقذفوهم فيها، ولهذا قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7] أي: مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين.
قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي: وما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يضام من لاذ بجانبه، المنيع الحميد في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، وإن كان قد قدر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به فهو العزيز الحميد، وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس.
قال تبارك وتعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:9]، من تمام الصفة أنه المالك لجميع السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما.
قوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي: لا يغيب عنه شيء في جميع السماوات والأرض ولا تخفى عليه خافية.
قال القاسمي: أي على كل شيء من أفاعيل هؤلاء الفجرة أصحاب الأخدود وغيرهم شاهد شهوداً لا يخفى عليه منهم مثقال ذرة، وهو مجازيهم عليه.
وفي توصيفه تعالى بما ذكر من النعوت الحسنى إشعار بمقام إيمانهم، فإن كونه تعالى قاهراً ومنعماً، له ذلك الملك الباهر، وهو عليم بأفعال عبيده؛ مما يوجب أن يخشاه من عرف المصائب.
وفي الآية نوع من البديع يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم، وهو معروف في كتب المعاني، وهناك بيت شعر مشهور فيه تأكيد للمدح بما يشبه الذم، يقول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وقد تمدح شخصاً فتقول: لا عيب فيه إلا أنه سيموت، فهذا تأكيد المدح بما يشبه الذم، فالشاعر يقول: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم قد يتوقع أن سيوفهم قصيرة، أو أن سيوفهم من خشب، أو أي شيء فيه ذم، لكن قال: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب أي: أن كثرة الخدش في سيوفهم هو من كثرة ما يقاتلون الأعداء ويبارزون في القتال.
قوله: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ) يعني: ما أمسكوا عليهم ذنباً إلا أنهم يعمرون المساجد بالعبادة، فهذا تأكيد للمدح بما يشبه الذم، لكن هو في هذه الآية ليس بذم، بل هذا أعظم ما يمدح به الإنسان.(190/6)
أقوال المفسرين في أصحاب الأخدود
روى ابن جرير عن ابن عباس في أصحاب الأخدود قال: هم ناس من بني إسرائيل خدوا أخدوداً في الأرض ثم أوقدوا فيه ناراً، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء فعرضوا عليها.
وقال الضحاك: هم من بني إسرائيل أخذوا رجالاً ونساء فخدوا لهم أخدوداً، ثم أوقدوا فيه النيران فأقاموا المؤمنين عليها، فقالوا: تكفرون أو نقذفكم في النار.
وقال مجاهد: كان الأخدود شقوقاً بنجران، كانوا يعذبون فيها الناس.
وتفصيل النبأ: أن دعوة المسيح عليه السلام الأولى العارية عن شوائب الإلحاد لما دخلت بلاد اليمن، وآمن كثير من أهلها كانت في مقدمة تلك البلاد بلدة نجران، وكان أقام عليها ملك الحبشة أميراً من قبله نصرانياً مثله، وكان بها راهب كبير له الكلمة النافذة والأمر المطاع، ثم إن اليهود الذين كانوا في تلك البلاد تآمروا على إزالة السلطة النصرانية من اليمن والإيقاع بمن تنصر بغضاً في المسيحية.
والحقيقة أن كلمة المسيحية كلمة غير صحيحة؛ لأن المسيحية ليست مثل الناصرية والماركسية بمعنى أن ينسب المذهب إلى مؤسسه، بل المسيح لم يؤسس دعوة المسيحية وإنما جاء بالإسلام، يقول عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فجميع الأنبياء دعوتهم هي دعوة الإسلام، لكن اشتهرت دعوة المسيح بأنها النصرانية، وهناك نصرانية حقة ونصرانية مزيفة.
إذاً: فكلمة المسيحية ما ينبغي التساهل فيها، إنما هي النصرانية، فينبغي أن تقول: فلان نصراني ولا تنسبه إلى المسيح؛ لأن المسيح بريء منه، كالذين ينتسبون إلى علي وما هم بعلويين، بل هؤلاء أعداء لـ علي وهو يتبرأ منهم.
فالشاهد أن القاسمي أتى من كتب هؤلاء بقصة معروفة عند النصارى بخبر أراكا ورفقته، ويرادفونها بعام (524م) من تاريخهم، والله تعالى أعلم.
وهؤلاء الذين عذبوا في الأخدود كانوا قطعاً مسلمين بشهادة القرآن الكريم.
يقول الحافظ ابن كثير: وقد اختلف أهل التفسير في أهل هذه القصة من هم؟ فعن علي رضي الله عنه أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل تزويج المحارم فامتنع عليه علماؤهم فعمد إلى حفر أخدود فقذف فيه من أنكر عليه منهم، واستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم.
وعنه: أنهم كانوا قوماً باليمن اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم فغلب مؤمنوهم على كفارهم، ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين فخدوا لهم الأخاديد وأحرقوهم فيها.
وعنه: أنهم كانوا من أهل الحبشة، واحدهم حبشي.
وعن ابن عباس: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:4 - 5] قال: ناس من بني إسرائيل خدوا أخدوداً في الأرض، ثم أوقدوا فيه ناراً، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء فعرضوا عليها، وزعموا أنه دانيال وأصحابه.
وقيل غير ذلك.
وروى الإمام مسلم والإمام أحمد رحمهما الله تعالى عن صهيب رضي الله عنه، وهذا الحديث لا نستطيع القطع بأنه مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ويوجد احتمال أنه قصة حكاها صهيب الذي كان رومياً، وعنده علم من أخبار النصارى، فيحتمل أن يكون من كلام صهيب، ويحتمل أن يكون مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني وحضر أجلي، فادفع إلي غلاماً لأعلمه السحر، فدفع إليه غلاماً فكان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر.
قال: فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، فمضى الناس، فأخبر الراهب بذلك فقال: أي بني! أنت أفضل مني وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي.
فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم -أي: بإذن الله-، وكان للملك جليس فعمي فسمع به، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: اشفني ولك ما هاهنا أجمع، فقال: ما أنا أشفي أحداً، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان! من الذي رد عليك بصرك؟ فقال: ربي.
فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله.
قال: أولك رب غيري؟! قال: نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بني! بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء؟! قال: ما أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل، قال: أنا؟ قال: لا، قال: أولك رب غيري؟! قال: ربي وربك الله، فأخذه بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتي بالراهب فقال: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا فقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه -يعني دحرجوه- فذهبوا به، فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت! فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟! قال: كفانيهم الله.
فبعث به مع نفر في قرقور -والقرقور: سفينة صغيرة-، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟! قال: كفانيهم الله.
ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي.
قال: وما هو؟! قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم قل: باسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.
ففعل ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه وقال: باسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام.
فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟! فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم! فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران وقال: من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي -وهو أحد الأطفال الرضع الذين نطقوا-: اصبري يا أماه! فإنك على الحق) وهكذا رواه مسلم في آخر الصحيح إلى آخره.
يقول الحافظ ابن كثير: وهذا السياق ليس فيه صراحة أن سياق هذه القصة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: فيحتمل أن يكون من كلام صهيب الرومي فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى، والله تعالى أعلم.(190/7)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10].
قوله: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) أي: بلوهم بالأذى والنار ليرجعوا عن دينهم.
قال أبو السعود: والمراد به إما أصحاب الأخدود خاصة أو المفتونين المطروحين في الأخدود، والذين بلوهم في ذلك داخلون في جملتهم دخولاً أولياً.
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) يعني: صرفوهم عن دين ربهم وعن طاعته عز وجل.
قوله: (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) يعني: عن كفرهم وفتنتهم.
قوله: (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) أي: عذابان منوعان: عذاب على الكفر، وعذاب على الفتنة، أو هما واحد، أي: (فلهم عذاب جهنم) بسبب الكفر، (ولهم عذاب الحريق)؛ لأن الجزاء من جنس العمل، كما أحرقوا المؤمنين فلهم أيضاً عذاب الحريق، أو كلاهما شيء واحد، أو هو من باب عطف الخاص على العام للمبالغة فيه؛ لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما، والأظهر أنهما واحد، وأنه من باب عطف التفسير والتوضيح.
يقول ابن كثير: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) أي: حرقوا.
قوله: (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) أي: لم يقلعوا عما فعلوا، ويندموا على ما أسلفوا.
قوله: (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) وذلك أن الجزاء من جنس العمل.
وقال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة! أي: قتلوا أولياءه ومع ذلك يقول: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} دلالة على أن التوبة تجب ما قبلها كائناً ما كان.(190/8)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات)
قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البروج:11] بخلاف ما أعد لأعدائه من الحريق والجحيم ثم قال: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11].
يقول القاسمي: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعني: من هؤلاء المفتونين وغيرهم.
قوله: (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) أي: لهم في نشأتهم الأخرى (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ).
قوله: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ أي: التام الذي لا فوز مثله.(190/9)
تفسير قوله تعالى: (إن بطش ربك لشديد)
قال عز وجل: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأن لكفار قومه نصيباً موفوراً من مضمونه، كما يصدر عنه التعرض لتوحيد الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم في قوله: (ربك)، والبطش هو الأخذ بعنف، وحيث وصف بالشدة، فقد تضاعف وتفاقم.
قوله: (إن بطش ربك لشديد) أي: أن بطشه بالجبابرة والظلمة وأخذه إياهم بالعذاب والانتقام لشديد، كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، وهو تعالى ذو القوة المتين الذي ما شاء كان كما يشاء في مثل لمح البصر أو هو أقرب.(190/10)
تفسير قوله تعالى: (إنه هو يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود)
قال عز وجل: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:13] أي: يبدئ الخلق ثم يعيده، وهو في كل يوم يبدئ خلقاً من نبات وحيوان وغيرهما، ثم إذا هلك أعاد الله خلقه مرة أخرى، وهذا فيه دلالة على أنه يعيد الناس في اليوم الآخر ويبعثهم بعد موتهم للجزاء والحساب.
(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) بلا ممانع ولا منازع.
قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14] أي: هو الغفور لمن يرجع إليه بالتوبة، يغفر ذنب من تاب إليه وخضع له ولو كان الذنب من أي شيء كان.
قوله: (الْوَدُودُ) أي: المحب لمن أطاعه وأخلص له.
وقال ابن عباس وغيره: الودود هو: الحبيب.(190/11)
تفسير قوله تعالى: (ذو العرش المجيد)
قال عز وجل: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] أي: صاحب العرش المعظم العالي على جميع الخلائق.
الشيء المحزن أن القاسمي يفسر العرش بالملك والسلطان أو السماء، مع أن العرش مشهور ومعروف أنه من أعظم مخلوقات الله تبارك وتعالى! قوله: (المجيد) المجيدُ صفة لمدح الله سبحانه وتعالى، وهناك قراءة أخرى بالجر (ذو العرش المجيدِ) ولذلك يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: و (المجيد) فيه قراءتان: الرفع على أنه صفة للرب عز وجل، والجر على أنه صفة للعرش، وكلاهما معنى صحيح.
يقول القاسمي: (المجيد) أي: العظيم في ذاته وصفاته، وقرئ بالجر صفة للعرش.
ومجده علوه وعظمته.(190/12)
تفسير قوله تعالى: (فعال لما يريد)
قال تبارك وتعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] أي: لا يريد شيئاً إلا فعله، فلا يحول بينه وبين مراده شيء، فمتى أراد إهلاك الجاحدين ونصر المخلصين فعل؛ لأن له ملك السماوات والأرض، ولهذا أتبع ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:17 - 20].
قوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ يقول ابن كثير: أي: مهما أراد فعله لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل؛ لعظمته وقهره وحكمته وعدله، كما روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قيل له وهو في مرض الموت: هل نظر إليك الطبيب؟ قال: نعم.
قالوا: فماذا قال لك؟ قال: قال لي: إني فعال لما أريد.
وقد سبق أن أشرنا إلى أن الإنسان عندما يكون في مرض الموت، فإننا نجد أهل هذا المريض يذهبون به من مستشفى إلى مستشفى، تجد السيارات آتية وذاهبة، بينما لا تجد واحداً من الأقارب لهذا المريض ولا الزوار يحاول أن يذكره بالموت، وينبهه أنه على وشك أن يرحل من الدنيا، وينصحه ويوصيه، ويرغبه في عفو الله ومغفرته! فنقول: المريض يحتاج منك إذا كنت محباً له حقيقة أن تنفعه في هذه اللحظة، وهي أشد لحظة أن يقف صديقه أو قريبه إلى جانبه فيذكره بالتوبة، ويذكره بلا إله إلا الله، لكن للأسف لا نجد من كثير من الناس إلا الاهتمام بالأسباب الدنيوية، حتى وإن ظهر لهم أنه مرض الموت، وأنه على وشك أن تخرج منه الروح! إذاً: ينبغي أن ننتبه لهذا الأمر، وهو أمر السياق الأخير، وذلك عند خروج الروح، فهذا أبو بكر وهو في مرض الموت لما سئل: هل نظر إليك الطبيب؟ قال: نعم.
إذاً: علينا أن نهتم بالأولويات وأن نعطيها مكانها، ليس فقط أن نأتي بالطبيب والدواء والحقن للمريض حتى نقول له: نحن لم نقصر معك، فقد ذهبنا بك إلى أحسن مستشفى، وأحضرنا لك الأدوية من آخر الدنيا، واستوردناها من الخارج، وفعلنا كذا؛ لكن من منا ذكره بأنه مقبل على الموت؟ حتى لو لم يكن مرض الموت، فالموت آت وقد يأتي فجأة وقد يأتي بعد رسل ونذر كالشيب والمرض وهو الغالب، ولذلك تجد الفقهاء يذكرون أحكام المرض ثم يعقبونها بأحكام الموت؛ لأن الموت إما أن يأتي فجأة وإما أن يأتي بعد مرض، ورب إنسان مرض مرضاً ما كان يتصور أنه سيموت منه ثم إذا به يموت منه! فالإنسان إذا كان مريضاً فعليه أن يوصي أولاده ويذكرهم بالموت: يا أولادي إذا مت فافعلوا كذا وكذا، حافظوا على الصلاة والحجاب، علي حقوق لفلان فأدوها، هذا هو أمر الشرع، حتى لا تضيع حقوق الناس.
كذلك على المريض أن يحافظ على الصلاة، وإذا عجز تماماً عن الوضوء فيمكنه أن يتيمم، وإذا عجز عن الصلاة حال القيام أو القعود فإنه يصلي مضطجعاً أو يشير بعينه أو يمر الأركان على قلبه.
أيضاً المريض في لحظات المرض هو أحوج إلى من يذكره بالصلاة ويعينه عليها ويذكره بهذه الأمور، وألا يلتفت إلى الأسباب كالطبيب وغيره؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إنك لست الطبيب، إنما الله هو الطبيب وأنت رفيق)، فلا بد أن نتوكل على الله سبحانه وتعالى ونعطي الأمور حجمها، وأن نرتبط دائماً بالله عز وجل.(190/13)
تفسير قوله تعالى: (هل آتاك حديث الجنود فرعون وثمود)
يقول تبارك وتعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج:17 - 18].
قوله: (هل أتاك حديث الجنود) أي: الذين تجندوا على الرسل بأذاهم.
قال ابن جرير: (هل أتاك) يعني: قد أتاك ذلك وعلمته، فاصبر لأذى قومك إياه لما لابد فيه من مكروه كما صبر الذين تجند هؤلاء الجنود عليهم من رسلي، ولا يثنينك عن تبليغهم رسالتي، كما لم يثن الذين أرسلوا إلى هؤلاء، فإن عاقبة من لم يصدقك ويؤمن بك منهم إلى عطب وهلاك، كالذي كان من هؤلاء الجنود.
فالجملة -كما قال أبو السعود: (استئناف مقرر لشدة بطشه تعالى بالظلمة العصاة والكفرة العتاة).
وكونه فعالاً لما يريد متضمن البشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بالإشعار بأنه سيصيب قومه ما أصاب الجنود.
قوله: (فرعون وثمود) هذا بدل من الجنود؛ لأن المراد فرعون وجنده كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8].
قوله: (وثمود) المراد ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال، وما حل بهم من العذاب والنكال.(190/14)
تفسير قوله تعالى: (بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط)
قال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:19 - 20].
قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} أي: هم في شك وغي وكفر وعناد، وفي تكذيب بالحق والوحي مع وضوح آياته وظهور بيناته عناداً وبغياً.
والإضراب انتقالي، فقوله: (بل الذين كفروا في تكذيب) كأنه قيل: ليس حال فرعون وثمود بأعجب من حال قومك، فإنهم مع علمهم بما حل بهم لم ينزجروا.
وفي قوله: (بل الذين كفروا في تكذيب) إشارة إلى أنهم كانوا غارقين في التكذيب مهووسين متمسكين به، وقيل: إنه إشارة إلى تمكنه من أنفسهم، وأنه أحاط بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بغريقة، مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} أي: قادر عليهم قاهر ظاهر لا يفوتونه ولا يعجزونه، أو المعنى: محص عليهم أعمالهم لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيهم على جميعها، فهم في قبضته وحوزته كالمحاط إذا أحيط به من ورائه، فسد عليه مسلكه فلا يجد مهرباً.
وفيه تعريض لهم بأنهم نبذوا الله وراء ظهورهم، وأقبلوا على الهوى والشهوات، والله من ورائهم محيط.(190/15)
تفسير قوله تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ)
قال تبارك وتعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22].
قوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) أي: كامل كريم عظيم لا يماثل في أسلوبه وهدايته.
قوله تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} قرئ (محفوظ) قرئ بالرفع صفة لقرآن، والتقدير: بل هو قرآن محفوظ، وعلى قراءة الجر يكون صفة للوح (في لوح محفوظٍ).
قال ابن جرير: والمعنى على القراءة الأولى: محفوظ من التغيير والتبديل في لوح، وعلى الثانية: محفوظ من الزيادة فيه والنقصان منه عما أثبته الله فيه.
و (بل) إضراب عن شدة تكذيبهم وعدم كفهم عن التكذيب.
ووصف القرآن بما ذكر للإشارة إلى أنه لا ريب فيه، ولا يضره تكذيب هؤلاء؛ فإنه تعالى تولى حفظه وظهوره أبد الآبدين.
يقول ابن كثير: قوله: (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي: هو في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل.
وقال الحسن البصري: إن هذا القرآن المجيد عند الله في لوح محفوظ، ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه.
قال بعض العلماء: إذا كان القرآن محفوظاً عند الله سبحانه وتعالى في السماء في اللوح المحفوظ، فكذلك سيحفظ في الدنيا في لوح، فمن أراد حفظه فليحفظه في اللوح.
وكانت هذه هي الطريقة التقليدية القديمة في الكتاتيب، فقد كان الصغار يحفظون القرآن عن طريقة الكتابة في لوح.(190/16)
تفسير سورة الأعلى(191/1)
فضل سورة الأعلى
سورة الأعلى هي السورة السابعة والثمانون في ترتيب المصحف الشريف، وهي سورة مكية، وآيها تسع عشرة.
قال ابن كثير: والدليل على أنها مكية ما رواه البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم رضي الله عنهما فجعلا يقرئاننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد رضي الله عنهم، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين رضي الله تعالى عنهم، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء، فما جاء حتى قرأت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] في سور مثلها) يعني: فما وصل المدينة حتى كنت قد حفظت سورة ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)) في سور مثلها.
وعن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}) تفرد به الإمام أحمد.
وثبت في الصحيحين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ رضي الله تعالى عنه: هلا صليت بـ ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى))، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1]).
وعن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما) رواه مسلم وأهل السنن.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والمعوذتين)(191/2)
تفسير قوله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى)
قال تبارك وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1].
أي: نزه ربك عما يصفه به المشركون من الولد والشريك ونحوهما، كقوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180]، فالاسم صلة، وسر إيراده أن المنوه به إذا كان في غاية العظمة فكثيراً ما تضاف ألفاظ التفخيم إلى اسمه، فيقال: سبح اسمه، ومجد ذكره، كما يقال: سلام على المجلس العالي، هذا هو القول الأول في تفسير هذه الآية الكريمة، وهو أن قوله: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)) أي: سبح ربك الأعلى، ويؤيده أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذا قرءوا ذلك قالوا: سبحان ربي الأعلى، ولم يكونوا يقولون: سبحان اسم ربنا الأعلى.
وأيضاً: فإن الحق تعالى إنما يعرف بأسمائه الحسنى؛ فقوله: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ)) فيه تنبيه على أن علينا أن نعرف الله سبحانه وتعالى عن طريق أسمائه الحسنى.
ومما يؤيده ما ذكر من الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: (أنهم كانوا إذا قرءوا ذلك قالوا: سبحان ربي الأعلى) رواه ابن جرير وغيره.
وذهب بعضهم إلى أن المراد تنزيه اسم الله وتقديسه عن أن يسمى به شيء سواه؛ لأن المشركين كانوا يسمون آلهتهم بأسماء يزعمون أنها مشتقة من أسماء الله عز وجل، كاللات زعموا أنها مؤنث من الله، وأخذوا العزى من العزيز.
فالمقصود بقوله: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ)) أي: نزه اسم ربك وقدسه عن أن يسمى به شيء سواه تبارك وتعالى، كما كان يفعل المشركون في تسميتهم لآلهتهم ببعضها كاللات والعزى، وهذا ما اعتمده الإمام ابن حزم في الفصل حيث رد على من استدل بهذه الآية في مسألة هل الاسم عين المسمى أم غيره؟ وهذه من المسائل المحدثة المبتدعة، وقد كره العلماء الانشغال بها، فالإمام ابن حزم رد على من استدل بهذه الآية على أن الاسم عين المسمى؛ لأن المعنى: سبح ربك، فالاسم هو نفس المسمى، ومن الممتنع أن يأمر الله عز وجل أن يسبح غيره، فلو كان الاسم غير المسمى لما أمر الله بتسبيح اسمه عز وجل.
قال ابن حزم: وأما قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] فهو على ظاهره دون تأويل؛ لأن التسبيح في اللغة التي نزل بها القرآن وخاطبنا بها الله عز وجل هو تنزيه الشيء عن السوء، وبلاشك أن الله تعالى أمرنا أن ننزه اسمه -الذي هو كلمة مجموعة من حروف الهجاء- عن كل سوء.
فينبغي تعظيم اسم الله عز وجل عن كل سوء، سواء كان في النطق به أو في كتابته.
فأي ورقة كتب فيها اسم الله فينبغي صيانتها عن الامتهان وهكذا.
ووجه آخر: وهو أن معنى قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، ومعنى قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:95 - 96] معنى واحد، وهو أن يسبح الله تعالى باسمه، ولا سبيل إلى تسبيحه تعالى ولا إلى دعائه ولا إلى ذكره إلا باسمه، فكلا الوجهين صحيح، وتسبيح الله تعالى وتسبيح اسمه كل ذلك واجب بالنص، ولا فرق بين قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وبين قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:48 - 49]، والحمد بلاشك هو غير الله عز وجل، وهو تعالى يسبح بحمده كما يسبح باسمه ولا فرق، فبطل تعلقهم بهذه الآية.
وفي الحقيقة هناك تعليق على قول ابن حزم الأخير هذا: من أنه لا فرق بين قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:48]؛ لأن قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} يعني ملابسة الحمد للتسبيح، فتقول: سبحان الله وبحمده، فتقرن التسبيح بالحمد معاً، يعني: أنا أسبح الله وأحمده، فهذه تفيد الملابسة بخلاف الباء في قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وهذا الذي أشار إليه القاسمي بقوله: وقد يقال: فرق بين الآيتين، فإن الباء في قوله: ((بحمد ربك)) للملابسة، ولا كذلك هي في قوله: ((باسم ربك)).
ومع اتساع اللفظ الكريم للأوجه كلها، فالأظهر هو القول الأول: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ)) يعني: نزه ربك عما يصفه به المشركون من الولد والشريك ونحوهما؛ وذلك لما أيده من الأخبار، وبقوله تعالى: {فَسَبِّحْهُ} [ق:40]، وقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ} [الصافات:180]، والله تعالى أعلم.
قوله: ((الأعلى)) أي: الأرفع من كل شيء قدرة وملكاً وسلطاناً، واستدل السلف بظاهره في إثبات العلو بلا تكييف، والمسألة معروفة في إثبات العلو لله تبارك وتعالى على كل مخلوقاته عز وجل.(191/3)
تفسير قوله تعالى: (الذي خلق فسوى)
قال عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2].
قال الزمخشري: أي: الذي خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية ولم يأت به متفاوتاً غير ملتئم، ولكن على إحكام واتساق، ودلالة على أنه صادر عن عالم، وأنه صنعة حكيم.
أي: أن الله عز وجل خلق كل المخلوقات محكمة متفقة متلائمة سوية، وفي هذا دلالة على أنها صدرت عن عالم سبحانه وتعالى، ودلالة على أنها صنعة حكيم؛ لأن كل شيء خلقه الله تبارك وتعالى ستجد أنه وضع بحكمة وبسابق علم في موضعه.
إن جميع الصفات البشرية للإنسان سواء الحسية أو النفسية، والأشياء التي لا ترى أصلاً بالعين المجردة وهي ما يسمى (بالجينات) و (الكرموزومات) وهذه الأشياء التي تكون صفات الإنسان بعد ذلك من هذه الجينات؛ دليل أكيد على أن هناك من دبر هذا وأحكمه وأتقنه: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}.
إذا تأمل الإنسان مثلاً: الأسنان، لو أن أضراس الإنسان في الأمام والقواطع في الجانبين مثلاً، كيف يأكل الإنسان؟! إذاً: كل شيء وضع بحكمة.
كذلك لو أن لسان الإنسان في قفاه في مؤخرة رأسه، أو الفم كانت في القلب، أو العين كانت تحت والأنف فوق! يعني تتعجب وتستغرب هذا، فهذا يدل على أن كل شيء وضع بحكمة.
إذاً: الإنسان والنباتات والحيوانات وكل خلق الله تبارك وتعالى فعلاً تنطق بأن لا إله إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال الشاعر: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملك الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل وفي قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} لم يذكر الله سبحانه المفعول به؛ ليعم كل ما خلق، فكل خلق الله تبارك وتعالى مستو ومحكم ومتقن؛ أو ليدلنا على أنه قادر عالم، وأنه صنعة حكيم.(191/4)
تفسير قوله تعالى: (والذي قدر فهدى)
قال عز وجل: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3].
أي: قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به.
والهداية أنواع: منها: الهداية العامة، وهي هداية كل مخلوق إلى ما يصلحه، حتى لو لم يكن عنده عقل، لكن الله سبحانه وتعالى يهديه إلى ما يصلحه.
أنت إذا طاردت نملة هل تستسلم النملة أم تهرب؟ تهرب وكذلك الذبابة أو الصرصور أو أي شيء من هذه الدواب، فإنها إذا رأت شيئاً يؤذيها فإنها تتجنبه، فهذه هي الهداية العامة لجميع المخلوقات.
والطفل الصغير مجرد أن يولد يمارس عملية الرضاعة وكأنه خبير! فهذا الطفل من علمه؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
إن باب الهداية من أبواب العلم للتأمل في خلق الله عز وجل، ومما يفتح على القلب معرفة الله سبحانه وتعالى، واليقين بحكمته وعلمه وقدرته عز وجل، وهذا الباب اهتم به العلماء جداً في مصنفاتهم، ويوجد الآن في زماننا مئات الكتب في هذا المجال، فنحن مطالبون جميعاً بأن نتأمل، ولذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه المبارك: (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) عقد فصلاً في هذا الموضوع، وأتى بأمثلة من هداية المخلوقات إلى ما يصلحها، وحكى أشياء عجيبة جداً في هداية المخلوقات إلى ما يصلحها.
من ذلك مثلاً قال: إن طائراً ابتلعت الحية فرخه، فماذا فعل لينتقم لفرحه؟ أتى بنوع معين من الأعشاب السامة القاتلة، وهذا الطائر لم يدرس الصيدلة، فمن أين عرف ذلك؟! إنها هداية الله الهداية العامة، فظل هذا الطائر يقترب أمام تلك الحية منها حتى فتحت فمها فأسقط فيه هذه المادة السامة فقتل الحية! وحكى ابن القيم أيضاً عن إناء كان فيه عسل في وسط الحجرة، وكان الإناء في حوض من الماء، فالنمل لا يستطيع أن يصل إليه، لكن النمل اخترع حيلة وهي أنه مشى في اتجاه الجدار ثم صعد الجدار ثم مشى على السقف حتى صار موازياً للعسل فألقى بنفسه ليقع فيه، فالنملة ما عندها عقل، فمن علمها؟ إنها هداية الله، وهذه هي الهداية العامة، فيلهم الله سبحانه وتعالى كل مخلوق ما يصلحه.
ومن ذلك أيضاً قال: إن هناك بعض الدببة في المناطق الجليدية إذا أراد أن يصطاد شيئاً معيناً فإنه يختبئ داخل غرف الثلج حتى تأتي الفريسة فينقض عليها! وهذا حديث يطول، والحديث عن عجائب صنع الله تبارك وتعالى شيق، وحكى ابن القيم أيضاً أن فأراً كان يشرب زيتاً من برميل معين، فظل يشرب الزيت حتى نزل ونقص البرميل ولم يستطع أن يشرب منه، فذهب الفأر وأخذ ماء في فمه، فصبه على الزيت حتى يرتفع؛ لأن كثافة الزيت أخف من كثافة الماء، فارتفع الزيت فشرب، فمن علم هذا الفأر هذا الفعل؟! إنه الله سبحانه وتعالى.
قوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} كقوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] أي: ثم هداه إلى ما يصلحه.
وابن القيم رحمه الله رغم أنه عاش في زمن بعيد لكن كان مطلعاً اطلاعاً واسعاً جداً في هذا الباب، ونحن عندنا الآن العجب العجاب، وتوجد قناة تلفزيونية أمريكية اسمها الطبيعة، هذه القناة متخصصة فقط في ذكر هذه الآيات وتصويرها، وهم يأخذونها كنوع من الانبهار بالطبيعة وصنعة الطبيعة، ولا ينسبونها إلى الله سبحانه وتعالى! لكن المؤمن يستفيد من هذه الأشياء؛ لأن الذي صنعها هو الله عز وجل، فمن عجائب صنع الله سبحانه وتعالى (البكتيريا) التي تسبب الأمراض والالتهابات، وهي مع كثرة استخدام الأدوية المضادة لها لا تستطيع أن تقاومها، فمن الذي هداها إلى التفلت من هذه الأدوية؟! إنه الله سبحانه.
وهذه الأشياء مما استطعنا أن نكتشفها وما خفي من آيات الله كان أعظم، فنقول: إنه ينبغي التفكر في هذه الآيات العظمى، ونرجو أن تأتي فرصة لنذكر هذه الأنواع من الهداية العامة.
إذاً: قوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} يعني: قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به.(191/5)
تفسير قوله تعالى: (والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى)
قال عز وجل: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى:4].
أي: أخرج من الأرض ما ترعاه الأنعام من صنوف النباتات.
قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى:5] قوله: ((فجعله)) يعني: هذا المرعى الذي ترعاه الأنعام كان أخضر من صنوف النبات، ثم جعله وصيره وحوله بعد خضرته ونضرته ((غُثَاءً أَحْوَى)) أي: جافاً يابساً تطير به الريح.
قوله: ((أحوى)) يعني: أسود، وهذه الصفة مؤكدة لغثاء؛ لأن النبات إذا يبس تغير إلى الحوة وهي السواد.
قال ابن جرير: وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وأن المعنى: والذي أخرج المرعى أحوى، أي: أخضر إلى السواد، فجعله غثاء بعد ذلك، ويعتل لقوله ذلك بقول ذي الرمة: حواء قرحاء أشرطية وكفت فيها الذهاب وحفتها البراعيم وهذا القول وإن كان غير مدفوع أن يكون ما اشتدت خضرته من النبات، قد تسميه العرب أسود؛ غير صواب عندي؛ بخلاف تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا لتقديمه عن موضعه أو تأخير، أما وله وجه صحيح فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير.(191/6)
تفسير قوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى)
قال تبارك وتعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6].
قوله: ((سنقرئك)) أي: سنجعلك قارئاً بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه، يعني: سندعك تحفظ بدون جهد، وبدون مراجعة، بخلاف الواحد منا إذا أراد أن يحفظ فإنه لابد من التكرار الكثير والمذاكرة، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد ضمن الله له أن القرآن الذي يوحى إليه سوف يتكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه في قلبه فلا ينساه صلى الله عليه وسلم، وهذه آية من آيات الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ من الكتب، أما غيره فإنه يقرأ عن طريق معرفة القراءة والكتابة فينظر في الكتاب فيقرأ، أما النبي عليه الصلاة والسلام فكيف يكون قارئاً وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب؟! هذه هبة من الله عز وجل ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال الزمخشري: بشره الله بإعطاء آية بينة: وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه صلى الله عليه وسلم.
وقال الرازي: هذه آية تدل على المعجزة من وجهين: أحدهما: إنه كان رجلاً أمياً، فحفظه لهذا الكتاب المطول عن غير دراسة ولا تكرار ولا كتابة خارق للعادة، فيكون معجزاً.
وثانيهما: إن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، ومع ذلك فيها إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة سيقع في المستقبل {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى}.
فمعظم القرآن نزل بعد ذلك، وهذه من أوائل السور في مكة.
وقوله: ((فلا تنسى)) قيل: نهي، لكن في غير القرآن إذا كانت ناهية نقول: فلا تنس، يجزم الفعل بحذف الياء أو الألف.
والجواب عن هذا عند من يقولون: إنها ناهية أن الألف للإطلاق في الفاصلة، مثل قول الله تبارك وتعالى {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:67] والمعنى: لا تغفل قراءته وتكريره فتنسى، فالنهي هنا مجاز عن ترك أسبابه الاختيارية.
قال الرازي: والقول المشهور: أن هذا خبر ليس بنهي.
يعني أن الله سبحانه وتعالى سيقرئه فلا ينسى، (فلا) هنا على هذا القول نافية.
ويقول: والمعنى سنقرئك إلى أن تصير بحيث لا تنسى وتأمن النسيان كقولك: سأكسوك فلا تعرى.
أي: فتأمن العري.
قال الرازي: واحتج أصحاب هذا القول على ضعف القول الأول، بأن ذلك القول لا يتم إلا عند التزام مجازات في هذه الآية، فعلى القول بأن (لا) ناهية، (فلا تنس) تكون نهياً عن النسيان، والنهي مجاز عن ترك الأسباب الاختيارية.
وهذا القول لا يتم إلا عند التزام مجازات في هذه الآية: منها: أن النسيان لا يكون إلا بقدر الله تعالى، فلا يصح ورود الأمر والنهي به، فلا بد وأن يحمل ذلك على المواظبة على الأشياء التي تنافي النسيان، مثل: الدراسة وكثرة التذكر، وكل ذلك عدول عن ظاهر اللفظ.
ومنها: أن نجعل الألف مزيدة للفاصلة، وهذا أيضاً خلاف الأصل.
ومنها: أنا إذا جعلنا قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} خبراً كان معنى الآية: بشارة الله إياه بأني أجعلك بحيث لا تنساه، أما إذا جعلناه نهياً كان معناه: أن الله أمره أن يواظب على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة، وهذا ليس في البشارة وتعظيم حاله مثل الأول الذي هو الخبر، وهذا على خلاف قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16] قال ابن عباس: جمعه لك في صدرك وتقرؤه، فالآية الأولى فيها ضمان من الله سبحانه وتعالى أنه لا ينسى شيئاً، وهذه الآية فيها نهي عن أن يحرك لسانه خلف جبريل خشية أن ينسى هذا الوحي {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أي: اطمئن، {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17] أي: سوف نجمعه لك في صدرك {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} [القيامة:18] يعني: إذا قرأه عليك الملك جبريل عليه السلام، {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18] يعني: أنصت لقراءته ولا تحرك لسانك؛ لأنه كان يحرك لسانه خشية أن ينسى، فأوحى الله إليه هذه الآيات التي فيها الضمان والتأمين من النسيان.(191/7)
تفسير قوله تعالى: (إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى)
قال عز وجل: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى:6 - 7] هذا استثناء مفرغ أي: لا تنسى مما تقرؤه شيئاً من الأشياء، إلا ما شاء الله أن تنساه مما تقتضيه الجبلة البشرية أحياناً.
قال الزجاج: إلا ما شاء الله أن ينسى فإنه ينسى، ثم يتذكر بعد ذلك ولا ينسى نسياناً كلياً دائماً؛ لأن ما في الجبلة لا يتغير، وإلا لكان الإنسان عالماً آخر.
وقد روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله فلاناً! لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتها) وفي رواية: (كنت أنسيتها)، وهذا النسيان إنما يكون عارضاً طارئاً، كمن ينسى في الصلاة مثلاً آية أو نحو ذلك، فهذا هو المقصود بقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، وليس هو النسيان الذي يترتب عليه عدم التذكر مطلقاً.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) رواه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} يعني: على وجه القلة والندرة، كأن تقول مثلاً: قل من يقول كذا، وأنت تريد أنه لا يقول أحد هذا الكلام.
وقال الفراء فيما نقله الرازي: إنه تعالى ما شاء أن ينسي محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً، إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصيره ناسياً لقدر عليه، كما قال: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا} [الإسراء:86]، ونحن نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك، هل شاء الله أن يذهب ما أوحى إليه؟ لا، بل هذا لمجرد بيان قدرة الله تعالى على ذلك، كذلك قوله هنا: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6 - 7] للتذكير بأن الله قادر على أن ينسيك إياه، فهذه فائدة الاستثناء هنا.
قوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} يعني: يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من الأقوال والأفعال، وهو تعليل لقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى:6 - 7]، مبين لحكمته، وهو سبق علمه تعالى لحاجة البشر إلى إقرائه الوحي، وإخراجهم به من الظلمات إلى النور.
وكيف يكون هذا تعليلاً لقوله: ((سَنُقْرِئُكَ)) لأنه ((يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى))؟
الجواب
أن الله سبحانه وتعالى يعلم بعلمه الأزلي أن البشر محتاجون إلى إقرائه الوحي، لأن الصلة بين الله سبحانه وتعالى وبين الرسول عليه الصلاة والسلام ركنها المتين هو الوحي، لأن النبي هو من يوحى إليه، ونبوة الله هي الوحي، فهذا الوحي لو افترض وجود خلل في نفسه خاصة في حق هذا الدين الخاتم أو أصل الرسالة الخاتمة أو الشريعة الخاتمة؛ فتخيل الذي يمكن أن يحصل في البشر وهم بحاجة إلى الوحي أشد من حاجتهم إلى الهواء والطعام والشراب؟! فلذلك يفهم من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى ((يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى))، فمما يعلمه الله سبحانه وتعالى مسيس حاجة البشرية إلى أن يضمن الله لنبيه حفظ هذا القرآن، وذلك بأن يحفِّظه القرآن بحيث لا ينساه أبداً، ويجعله قارئاً بقدرة الله لا بأسبابه الحسية كالتكرار والمذاكرة، وإنما بتوفيق الله سبحانه وتعالى.
فأول تأمين للقرآن أنه عليه الصلاة والسلام حُفظ من نسيان شيء منه {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى}، ((إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى)) هذه تعليل لقوله: (سنقرئك) أي: سنقرئك حتى تحفظ القرآن؛ لأن الله يعلم السر وأخفى، ومما يعلمه شدة حاجة البشر إلى هذا القرآن أن تبلغهم إياه كما أنزله الله إليك، وليخرجوا به من الظلمات إلى النور.(191/8)
تفسير قوله تعالى: (ونيسرك لليسرى)
قال الله تبارك وتعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8].
أي: فهذا الدين وهذا القرآن الموحى به لا حرج فيه ولا عسر فيه، وإنما هو يسير وسهل وسمح.
واليسرى صفة لمحذوف تقديره: الطريقة اليسرى.
قوله: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} أي: نوفقك للطريقة اليسرى، أي: الشريعة السمحة والسهلة التي هي أيسر الشرائع وأوفقها لحاجة البشر مدى الدهر.(191/9)
تفسير قوله تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى)
قال عز وجل: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9].
قوله: ((فذكر)) أي: ذكر العباد بعظمة الله عز وجل وعظهم وحذرهم عقوبته.
قوله: ((إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى)) (إن) هنا بمعنى: إذ، أي: فذكر إذ نفعت الذكرى، كقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وكقوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] أي: وأنتم الأعلون إذ كنتم مؤمنين.
أو (إن) بمعنى: قد على ما قاله ابن خالويه.
وقيل: (إن) هنا صرفية، والمعنى: ذم المُذَكَّرِينَ واستبعاد تأثير الذكرى فيهم بسبب الطبع على قلوبهم.
يعني: أنت مطالب بالبلاغ والبيان فقط! لأن الله سبحانه وتعالى قال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، أما هداية القلوب فلا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى.
إذاً: قوله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} ممكن أن تفهم في ضوء الآية الأخرى التي في سورة الذاريات: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] يعني: إذا كان ذكراً نافعاً فيجب عليك أن تذكر به، وهذا التذكير لن ينتفع به إلا المؤمنون، أما الكافرون المعرضون فعليك إبلاغهم بالحق، سواء انتفعوا أم لم ينتفعوا به.(191/10)
تفسير قوله تعالى: (سيذكر من يخشى ثم لا يموت فيها ولا يحيا)
قال تبارك وتعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10].
قوله: ((سيذكر)) أي: سيقبل التذكرة وينتفع بها من يخاف عقاب الله على الجحود والعناد بعد ظهور الدليل.
وفي قوله: ((سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى)) حذف المفعول وهي التذكرة.
ثم قال عز وجل: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى:11] يعني: يتجنب التذكرة الأشقى.
قوله تعالى: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:12] أي: العظمى ألماً وعذاباً.
قوله تعالى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:13] أي: لا يهلك فيستريح، ولا يحيا حياة تنفعه.
قيل: إن العرب كانت إذا وصفت الرجل بوقوعه في شدة شديدة، قالوا: لا هو حي ولا ميت، فجاء على مألوفهم في كلامهم قوله تعالى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}، وقوله: ((ثم)) هنا للتفاوت الرتبي إشارة إلى أن سبيله النار الكبرى، ليس هذا فحسب بل هناك ما هو أعظم وأشد رتبة وهي أن هذا عذاب خالد دائم لا ينقطع أبداً.
وفي الحقيقة لو أن القلوب فقهت هذا المعنى الخطير لذهلت وبهتت وتحيرت وشابت الرءوس، فينبغي أن نتأمل هذا المعنى، من يستطيع أن يدخل النار أو يضع جزءاً من يده مثلاً داخل النار أو وجهه لا نقول: لمدة ساعة أو يوم كامل، وإنما لمدة دقيقة أو ثانية؟! من يتحمل ذلك؟ لا يستطيع أحد ذلك.
فعذاب النار -والعياذ بالله- في غاية الخطورة، وليس هذا كلاماً للتخويف، بل هو حقيقة، ومن مقتضى حكمة الله سبحانه وتعالى وعدله وجود هذا العذاب، والملاحدة الزنادقة يؤولون آيات القرآن تأويلاً عجيباً جداً، يقولون: إن عذاب النار المذكور في النصوص الشرعية ليس حقيقياً، وإنما الله عز وجل يخوف بها مجرد تخويف فقط! وهذا كفر وزندقة وتحريف وإلحاد في آيات الله سبحانه وتعالى.
إذاً: الخلود في النار أشد من أن يدخل الواحد النار ويحترق فيها ويموت وانتهى، فالمعذب فيها ليس له نهاية، فالأمر خطير، فياويل الكافر الذي يكفر بالله سبحانه وتعالى بعد أن أعطاه الله العقل وأرسل الأنبياء وأنزل الكتب! لقد جاهد الصحابة رضي الله عنهم الكفار وفتحوا البلاد وضحوا بالدماء والأموال والأولاد والأنفس من أجل تبليغ دين الله وإيصال الحجة للناس، كذلك العلماء اتجهوا لتحقيق العلم وتقييده وبذله وتعليمه، وتناقلوه جيلاً عن جيل؛ كي تقوم الحجة، والكرة الأرضية لا تخلو أبداً من حجة الله، فالحجة قائمة، والقرآن موجود.
فأي كافر على ظهر الأرض ممن سمع عن دين الإسلام يستطيع أن يبحث ويفتش حتى يصل إلى الدين الحق، فليس هناك سلاسل ستقيده وتمنعه عن الوصول إلى الدين الحق، كل من أراد الحق بإخلاص فإن الحق متاح وهو أقرب إليه من حبل الوريد، ولكنهم يعرضون ليس هذا فحسب، بل يصدون عن سبيل الله، ويريدون إطفاء نور الله سبحانه وتعالى بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
إن الكافر نوى عن إصرار وتعمد أنه ما دام حياً فسوف يكفر بالله إلى الأبد، فلذلك كان الجزاء من جنس العمل، فعوقب بالخلود في النار إلى الأبد، كذلك المؤمن أطاع الله وصبر على البلاء وهو لا يدري متى ينتهي عمره، فهو يطيع الله وينوي طاعته إلى الأبد، وليست الطاعة مؤقتة أو مؤجلة بأجل؛ ولذلك كوفئ بنعيم الجنة إلى الأبد بلا انقطاع وبلا نهاية، فتخيلوا مدى خسارة الكفار الذين يقول الله فيهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر:63]، وقال: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15].
ونار الآخرة ليس فيها من نار الدنيا إلا الأسماء، مع البون الشاسع بين هذه وتلك.
وحين يتيقن الكافر من الخلود فيها يتمنى حينئذ أن يرجع إلى الدنيا ويكون مسلماً كما أخبر الله عنه: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2].
إذاً: عذاب النار مهما حاولت أن تتخيله هو أفظع مما تتخيله والعياذ بالله، فلابد من الوقوف كثيراً عند قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [البينة:8]، وقوله تعالى: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20] ((مؤصدة)) أي: تغلق عليهم ولا تفتح ولا يستطيع أحد أبداً الهروب منها.
أعظم أمنية للكافر الذي يعذب في النار الموت، لكن لا يمكن أبداً أن يموت؛ لأن الله تعالى قال: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:13]، وقال عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
وهذه الآية من آيات الله سبحانه وتعالى التي فيها إعجاز علمي؛ لأن الجلد هو مكان الإحساس، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن ينجينا وإياكم من أهوالها.(191/11)
تفسير قوله تعالى: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى)
قال تبارك وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14].
قوله: ((قَدْ أَفْلَحَ)) أي: فاز وظفر من تطهر من دنس الشرك والمعاصي، وعمل بما أمره الله سبحانه وتعالى به.
((مَنْ تَزَكَّى)) أي: أعلى تزكية هي تزكية النفس بالتوحيد، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم تزكية النفس أن يعلم المرء أن الله معه حيث كان كما صح في الحديث.
قال بعض المفسرين قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} يعني: من آتى الزكاة.
وقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] يعني: أقام الصلاة، وقالوا: إنه مما عهد في كلام الله تبارك وتعالى الجمع بين الصلاة والزكاة في عدة آيات من القرآن الكريم، مثل قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة:5]، والزكاة والصلاة مبدأ كل خير، وعنوان السعادة، لكن قيل: إن المعهود في التنزيل الكريم عند ارتباط الصلاة بالزكاة تقديم الصلاة على الزكاة، فهنا في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] يخالف المعهود في القرآن من ذكر الصلاة قبل الزكاة، فهذا مما يبعد هذا التفسير.
وأجيب بأنه لا ضير في مخالفة العادة مع أن العادة الجارية المعهودة في القرآن الكريم تقديم الصلاة إذا ذكرت بالاسم على الزكاة، كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة:5]، وقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم:55]، أما إذا ذكرت بفعل مأخوذ منها فلا، كقوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة:31]، فهنا أتت الصدقة أولاً، لكن صدق هنا الأقرب أنها من التصديق المقابل للتكذيب، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:32]، وهي في مقابل التكذيب.
والتفسير الأول أظهر؛ لأنه لا يتعارض مع هذا بل يشمله، فقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] يعني: فاز وظفر من تطهر من دنس الشرك والمعاصي وعمل بما أمره الله به، فقمة التزكية هي التوحيد؛ ولذلك من ليس في قلبه التصديق بلا إله إلا الله فإن قلبه نجس، والمراحيض والمجاري والخنازير أطهر منه، وقد قال الله تعالى عنهم: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]، وليست نجاسة المشركين نجاسة حسية وإنما هي نجاسة معنوية، نجاسة في قلوبهم والعياذ بالله، فأولى الزكاة على الإطلاق هي تطهير القلب بلا إله إلا الله من دنس الشرك والمخالفات، فالتزكية هنا عامة بالتوحيد وبالطاعات واجتناب الشرك والمخالفات.
قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أي: تذكر جلال ربه وعظمته فخشع وأشفق وقام بما له وعليه.(191/12)
تفسير قوله تعالى: (بل تؤثرون الحياة الدنيا)
يقول عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16] هذا إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام، كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح: أنتم لا تفعلون ذلك، يعني: مع أن من زكى نفسه وطهرها وذكر ربه فصلى هو الذي يفلح، لكن أنتم لا تزكون أنفسكم، ولا تذكرون اسم ربكم وتصلون، بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية فتسعون لتحصيلها! والخطاب إما للكفرة فيكون المراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا والاطمئنان بها، والإعراض عن الآخرة بالكلية، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} [يونس:7]، أو الخطاب للكل للمؤمن والكافر، فيكون المراد بإيثار الحياة الدنيا ما هو أهم مما ذكر، وما لا يخلو عنه الإنسان غالباً من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادئ.
إذاً قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} خطاب لكل البشر، وذلك لتعلقهم بالحياة الدنيا.
وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] وأنتم لا تفعلون ذلك {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16]، فهنا تلاحظون أن الكلام الأول في سياق الغيبة ثم التفت إلى الخطاب: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16]، وهذا الالتفات لتشديد التوبيخ على الكافر، فوبخ بأنه لا يفعل لا الزكاة ولا التزكية ولا الصلاة، بل يؤثر الحياة الدنيا.
أما على القول الثاني: فالالتفات في حق الكفرة لتشديد العتاب، وفي حق المسلمين على أن الكفار معروف عنهم أنهم يؤثرون الحياة الدنيا على الإطلاق، فلا يليق بالمسلمين أن يتشبهوا بهم في ذلك، فهم يستحقون أيضاً العتاب؛ ولهذا جاء الالتفات.
وقرئ: (يؤثرون) بالياء، وعلى هذا فلا التفات.(191/13)
تفسير قوله تعالى: (والآخرة خير وأبقى)
قال تبارك وتعالى: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17].
يقولون: شربت من النهر، والأصل شربت من ماء النهر، لكن شاع استعمالها بدون ذكر المضاف، وهكذا قوله تعالى: ((والآخرة)) أي: الدار الآخرة، فنقدر كلمة الدار، فيكون المعنى: والدار الآخرة خير، كذلك الآخرة هي صفة للدار الآخرة.
قوله: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ} أي: أفضل لخلوصها عما يكدر.
قوله: ((وأبقى)) أي: أدوم لعدم انقضاء نعيمها.
يعني: نعيم الجنة لا ينقطع بل هو دائم.
إن على المؤمنين والمسلمين ألا ينخدعوا بما يزينه لهم شياطين الإنس والجن من حولهم باسم الإسلام أحياناً، مثل قولهم: إننا نريد المجتمع المتحضر والحضارة والمباني والعمائر وناطحات السحاب والبساتين والخضرة، كما يحصل في البرازيل وغيرها.
نقول: الاهتمام بمثل هذه الأشياء من العبث، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في القرآن، قال الله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128] هذا هو العبث، وإذا لم يكن هناك إلا تضييع الأموال وتبذيرها؛ بسبب المنظر حتى يكون جميلاً والخضرة وكذا وكذا لكان ذلك كافياً للترك.
أيضاً الدنيا ليست وطنك، ومشكلة المسلمين حب الدنيا وكراهية الموت، فالإنسان إذا عمرها وزينها فإنه بالتالي يحب البقاء فيها.
أيضاً الدنيا والآخرة ضرتان إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، فلا يمكن أن يجتمعا، إما الدنيا وإما الآخرة، فلذلك القرآن دائماً ينبهنا لهذا المعنى، وهو الالتفات إلى الآخرة وتعمير الآخرة وعدم الانخداع بزخرف الدنيا؛ لأن الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله عز وجل مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
قوله: (الدنيا حلوة خضرة) يعني: تخدع وتسحر ألباب الناس، فينبغي الحذر منها، والصبر على المشقة في الدنيا، وعلى البلاء في الدنيا، وألا ننجرف مع من ينجرفون وراءها؛ لأن الدنيا لا قيمة لها عند الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، كنت دائماً أقرأ هذه الآية وأنا أنظر في الأفق إلى ناطحات السحاب في مدينة نيويورك، وهم في غاية الفخر بالإعمار وناطحات السحاب وهذه الأشياء الضخمة؛ فتيقنت زوال تلك العمارات الضخمة، مصداقاً لهذه الآية.
وقد قيل: حب الدنيا رأس كل خطيئة، وإذا فكرت في هذا القول ستجد فعلاً أن حب الدنيا هو رأس كل خطيئة، فما يقع إنسان في معصية إلا من أجل الدنيا، الذي يسرق يسرق لأجل الدنيا، والذي يرتكب الفواحش يرتكبها لأجل شهوات الدنيا، الذي يرتشي، الذي يفعل كذا أو كذا هذا كله راجع إلى حب الدنيا.
إذاً: مرضنا وداؤنا حب الدنيا وكراهية الموت كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي للمسلم العاقل أن ينخدع بما ينخدع به الآخرون؛ لأن الإنسان الذي يعظم الدنيا إنما يعمر الدنيا ويخدمها، وفي الأثر: (يا دنيا اخدمي من خدمك) أي: أسعدي من خدمك، والإنسان يكد ويكدح في الدنيا ولا يأتيه إلا ما قدر له، والسعي الحثيث وراء الدنيا لن يغير شيئاً مما كتب الله سبحانه وتعالى؛ لأن الرزق لا يجلبه حرص حريص ولا يرده كراهية كاره، فيعطى الإنسان رزقه رغم أنفه كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن ابن آدم يهرب من الرزق كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه أجله).
إذاً: على الإنسان ألا يجزع؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب) يعني: هونوا عليكم طلب الدنيا، وقال عز وجل: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] امشوا مشياً، لكن في الآخرة قال سبحانه: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، وقال عز وجل: {وَسَارِعُوا} [آل عمران:133]، وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]، وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
فالإنسان المسلم في الدنيا يهون على نفسه، ولا يكون مثل هؤلاء الكفار الدواب الذين لا هم لهم إلا الدنيا، كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب في الأسواق، جيفة في الليل، حمار بالنهار).
قوله: (جيفة في الليل) أي: لا يذكر الله سبحانه وتعالى، وهناك شعوب ينطبق عليها هذا الوصف أشد الانطباق، وهم اليابانيون، لقد قاموا بمظاهرات احتجاجاً على الحكومة؛ لأنها عملت إجازة في يوم معين! فهم من شدة حرصهم على الدنيا استنكروا على الحكومة أنها جعلت ذلك اليوم إجازة! قال لي أحد الإخوة من رجال الأعمال: كان هناك رجل من اليابان يعمل في القاهرة، وجاء إلى الإسكندرية لسبب معين، ثم يعود إلى القاهرة، فكان مجيئه يوم الخميس بالليل، ويوم الجمعة إجازة، فمن حرصه على العمل جعل السائق يرجعه إلى القاهرة في نفس الليلة؛ حتى يواصل الشغل؛ لأنه لا يطيق البعد عن العمل! قوله: (حمار بالنهار) يعني: يعمل كالحمار بالنهار من المشقة التي يبذلها في السعي وراء الدنيا.
إذاً: العاقل الذي يسمع عن الجنة فيحرص على طلبها، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها! ولا مثل النار نام هاربها!) فالجنة تستحق التعب والنصب والتضحية والفداء والبذل، قال عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).
ويقول الشاعر: أيها النائم دعني لست أصغي للملام إنني أطلب ملكاً نيله صعب المرام قوله: ((والآخرة خير وأبقى)) الجملة مبتدأ وخبر، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب حال من فاعل ((تؤثرون)) مؤكدة للتوبيخ والعتاب.
وقال الله تبارك وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4] يعني: الدار الآخرة خير من الدار الأولى التي هي أقرب إلينا.
قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17] هي أفضل وخير ومع ذلك هي دائمة وأهلها مخلدون فيها لا يموتون.
والذي يؤثر الحياة الدنيا يؤثرها للمتاع الذي فيها، والنعيم الذي خلق في الدنيا ما خلق إلا لينبه على نعيم الآخرة، كما أن الآلام التي في الدنيا تنبه على آلام الآخرة، والدليل على ذلك قوله تعالى في النار: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] أي: جعلنا نار الدنيا تذكرة بحيث إذا رأيتموها تذكرتم نار الآخرة فتعوذتم بالله منها.
ونعيم الدنيا لا يمكن أن يكون بغير تنغيص، لابد أن يشوبه تنغيص بصورة أو بأخرى، إما التنغيص الذي يلقاه في سبيل الحصول عليه، أو تنغيص عند تناول الأطعمة والأشربة؛ لأنه ليس المقصود منها أن تتمتع بالدنيا، بل المقصود أن تنبهك إلى نعيم الجنة الذي لا ينقطع، فمتاع الدنيا يقطع ويشوبه الأكدار والآلام والمنغصات وما أكثرها! فلذلك العاقل يؤثر الآخرة على الدنيا ولا يؤثر الدنيا على الآخرة، وإلا يكون قد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
فخلاصة الكلام لا ينبغي لمن يؤمن بالآخرة ويعلم أنها خير وأبقى أن ينساق مع من ينساق في تعظيم الدنيا، ومع من يجعلون الإسلام دين حضارة من عمران ومباني وغيره فقط وينسون أن القضية الكبرى للإسلام هي قضية تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى.
وأذكر في هذا السياق مدرساً في بعض البلاد الإسلامية، أتى وفد أجنبي ليزور تلك البلاد، وشاء الله أن يدخل هذا الوفد هذه المدرسة التي فيها هذا المدرس، فطاف هذا الوفد في المدرسة، فدخل فصلاً فيه حصة لهذا الأخ الفاضل، فهذا الأخ أخذ يشرح الإسلام وكيفية الصلاة إلى آخره، فسأله بعض الناس لماذا تفعل هذا؟ قال: لأننا عندنا العمارات والمباني والحدائق إلى غيره من مظاهر الدنيا الخداعة، وكل كلامه كان على أن الإسلام دين الحضارة، تاركاً الحديث عن الآثار والأحجار التي تصرف للنظر عن جوهر القضية، فقضيتنا أعظم بكثير من ذلك، وهي قضية تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى في الأرض، فلا ننساق مع الذين يدعون في أن الإسلام جاء لتزيين الدنيا! الشاهد أن هذا الأخ قال لمن أنكر عليه هذا الأمر: إن هؤلاء لن تطلعوهم على شيء إلا وعندهم ما هو أفضل منه في بلادهم من المباني والمصانع، فمهما رأوا سوف يلاقونها هناك عندهم، {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف:65]، لكن نقدم لهم ما يفتقرون إليه وهو الإسلام وشريعة الإسلام ومكارم الإسلام والنبوة والرحمة وكذا، هذا هو الذي يحتاجون إليه.
وبالنسبة للرياضة النافعة التي تعود عليك ببناء جسمك، هي الرياضة المطلوبة في الإسلام، التي فيها الصحة والقوة، أما أنك تجلس تتفرج وتقعد تشجع فريقاً على فريق، وتتابع البطولات، فنقول: أين البطولة في فلسطين؟! هل البطولة في إجازة؟! إذاً: لا يليق بنا أن ننشغل بما ينشغل به الآخرون، نحن كما قال ربعي بن عامر لما سأله رستم: ما جاء بكم؟ قال: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
إذاً: لا تنسوا في زحمة الحياة الدنيا وزحمة الضغوط التي شغلتنا في كل وقت وفي كل أوان ومن كل جهة أن تتذكروا هـ(191/14)
تفسير قوله تعالى: (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى)
قال عز وجل: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى:18].
قوله: ((إن هذا)) أي: هذا الذي ذكر من أول قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] إلى قوله: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17]، {لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى}، يعني هذا الكلام مدون وموجود وثابت في الصحف الأولى.
قوله تعالى: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:19].
قوله: ((صحف)) بدل من قوله: ((الصحف الأولى)) ووصف الصحف بالقدم كقوله: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] أي: القديمة، فأبهمها أولاً في قوله: ((إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى))، ووصفها بالقدم ثم بينها وفسرها بقوله: ((صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى))، وهذا فيه تفخيم لشأنها، وتعظيم لأمرها.(191/15)
تفسير سورة الغاشية(192/1)
بين يدي سورة الغاشية
سورة الغاشية هي السورة الثامنة والثمانون، وهي مكية، وآياتها ست وعشرون، وقد تقدم حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، والغاشية في صلاة العيد، ويوم الجمعة).
وروى الإمام مالك: (أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير رضي الله عنه: بم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة؟ قال: هل أتاك حديث الغاشية).
رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.(192/2)
تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث الغاشية عاملة ناصبة)
قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}.
أي: هل أتاك خبرها وقصتها؟ والغاشية: هي القيامة، وأصل الغاشية: الداهية التي تغشى الناس بشدائدها.
والاستفهام للتعظيم والتعجب مما في حيزه، مع تقريره.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أي: ذليلة، وهي وجوه أهل الكفر للحق والجحود له، وعبّر بالجزء عن الكل، فالمقصود بالوجوه الذوات، بدليل أنه قال: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:3 - 5]، فهذا مما يؤكد أن المقصود بالوجوه الذوات.
وقوله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}، أي: تعمل أعمالاً صعبة تتعب فيها، ونلفت النظر إلى هذا المعنى المهم؛ وهو أن الأشغال الشاقة المؤبدة نوع من العقوبة، ففي النار أشغال شاقة، والدليل هذه الآية، فكأن ملائكة العذاب تكلف الكفار بهذا النوع من أنواع العذاب الذي لا يتناهى والعياذ بالله، فتكلفهم بأعمال شاقة؛ إتعاباً لأبدانهم وتعذيباً لهم.
إذاً: قوله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}، أي: تعمل دائماً أعمالاً صعبة تتعب فيها، كالهوي في دركات النار، والارتقاء في عقباتها، فهم يرمون -والعياذ بالله- في النار، ثم يكلفون بارتقاء العقبات العالية المرتفعة، فهذا بلا شك فيه تعب ونصب شديدان.
أو (عاملة) من استعمال الزبانية إياها في أعمال شاقة من جنس أعمالها التي رضيت بها في الدنيا، وإتعابها فيها من غير منفعة لها منها إلا التعب والعذاب؛ لكنهم في الدنيا كانوا يجنون من ورائها ربحاً ومالاً، أما في النار فالعذاب بالإصعاد والأعمال الشاقة التي يكلفونها ليس فيه مقابل إلا التعب والعذاب.
ويجوز أن تكون {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}: إشارة إلى عملهم في الدنيا، فيكون المعنى: كانت عاملة ناصبة في الدنيا.
إذاً: يوجد وجهان للآية: الأول: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي: عاملة ناصبة في أعمال الدنيا، كالذي وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث بقوله: (جيفة بالليل، حمار بالنهار) أي: يكدح بالنهار في عمل الدنيا كالحمار.
الثاني: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي: الكافر الذي يتعب نفسه في العبادة كالرهبان الذين يعيشون في حرمان، بسبب تحريم الطيبات على أنفسهم من أطعمة وألبسة، وكذا التمتع بمتاع الحياة الدنيا الذي أباحه الله لخلقه، فيَحْرمون أنفسهم ويعذبونها بأنواع المشاق، ويجتهدون في الصلاة والصيام وغيرها من العبادات، ثم تكون هباءً منثوراً يوم القيامة، قال الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:18]، فتحبط جميع أعمالهم بالكفر، وكما قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]، فهذا أشد الخسران، ففي حقهم يكون معنى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي: أنهم يكدّون ويكدحون ويتعبون في التعبد بكافة أنواع المشقات، وهم يرجون بذلك الثواب من الله سبحانه وتعالى، ثم إذا بهم يفاجئون يوم القيامة كما قال الله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
ويجوز أن يكون قوله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} إشارة إلى عملهم في الدنيا، أي: عملت ونصبت في أعمال لا تجزى عليها في الآخرة، فيكون بمعنى: حابطة أعمالها، أو جعلت أعمالها هباءً منثوراً كما تدل عليه آيات أخر، مثل قوله تعالى في سورة النور {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39].
ويؤيده مقابلة هذه الآية لقوله في أهل الجنة: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية:9]، فأول صفة للكفار هنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}، وأول صفة للمؤمنين: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8].
الصفة الثانية للكفار: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}، والصفة الثانية للمؤمنين: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}، ما هو السعي؟ السعي الذي كان في الدنيا، فالمؤمن يأتي راضياً عما سعى في الدنيا من الأعمال الصالحة، ويقابلها: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}، وهذا يقوّي قول من قال: إن المقصود بـ {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}: عملها في الدنيا، والله تعالى أعلم.(192/3)
تفسير قوله تعالى: (تصلى ناراً حامية لا يسمن ولا يغني من جوع)
قال تعالى: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:4] أي: تدخل ناراً متناهية في الحرارة.
{تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5] آنية: أي بلغت غايتها في شدة الحر، فذكر أولاً الشراب، وقوله: (تُسقى) إشارة إلى أنه لا يقبل هو أن يشرب، ولكنه يُسقى رغماً عنه، ولا يستطيع أن يمتنع.
{لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] الضريع: هو نوع من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطباً، فإذا يبس تحامته -أي: تجنّبته-، وهو سُمُّ قاتل.
قال ابن جرير: الضريع عند العرب نبت يقال له: الشبرق، ويسميه أهل الحجاز الضريع إذا يبس.
ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:36]؛ لأن العذاب ألوان، والمعذبون طبقات، فمنهم: أكلة الغسلين، ومنهم: أكلة الضريع عافانا الله وإياكم.
وقيل: الضريع أُريدَ به طعام مكروه حتى للإبل التي تتميز برعي الشوك، فلا ينافي كونه زقوماً أو غسليناً، فيكون الضريع كناية عن الطعام المكروه الذي تعافه الإبل رغم أنها تمتاز برعي الشوك، فليس لهم طعام إلا هذا الشيء المكروه، وهذا يناسب كونه زقوماً أو غسليناً.
{لا يُسْمِنُ} [الغاشية:7] أي: لا يسمن بدن الآكل، {وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7] أي: لا يسكّن داعي النفس ونهمها، فيظلون يتعذبون بالجوع والعطش، فلا الشراب يرويهم، ولا الطعام يشبعهم، وهذا نوع من أنواع العذاب أيضاً والعياذ بالله.
وإذا صرخوا وطلبوا السقيا فكما قال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29] أي: إذا اقتربوا منه ليشربوا شوى وجوههم لقوة حرارته!! فما بالك إذا شربوا منه؟! قال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15]، نسأل الله العافية! فما أقوى هذا الكلام وما أشد تأثيره، ولكنها الغفلة التي تُخيّم على القلوب، وتحول بينها وبين الانتفاع بكلام الله تبارك وتعالى.(192/4)
تفسير قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناعمة وزرابي مبثوثة)
قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] بمعنى: أنها متنعمة بين النعيم، خلافاً لحُسن المنظر المحروم من التنعم، مثل أن نقول: فلان يعيش حياة ناعمة، أي: متنعمة في نعيم ورفاهية، أو أن المقصود بقوله: (ناعمة) من النعومة أي: وجوه أهل الجنة ذات حُسْن -إذ ليس في وجوههم لحى-.
{لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية:9] أي: لعملها الذي عملته في الدنيا، وحزمها في طريق الجد، واكتساب الفضائل، فهي شاكرة لا تندم ولا تتحسر، فيقول أحدهم عند أخذه الكتاب باليمين: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] فهو في غاية الفخر، لماذا؟ يقول: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة:20 - 22].
فقوله هنا: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي: للسعي الذي عملته في الدنيا راضية، ويحمدون الله أن وفقهم للعمل الصالح في الدنيا، وأن هداهم للإيمان وسائر أنواع البر، بخلاف الذي يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25 - 29].
قوله: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الغاشية:10] أي: مرتفعة في المحل أو رفيعة القدر، فقوله: (عالية): إما علو القدر والمكانة، وإما علو المكان، ولا تعارض بين الصفتين، فالجنة عالية القدر، وهي أيضاً عالية في المكان والمحل.
{لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية:11] أي: لغواً، أو كلمة ذات لغو، أو نفساً تلغو؛ لأن كلامهم فيه الحشمة والعلو، والتسبيح والتحميد.
{فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية:12] أي: لا انقطاع لها.
{فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية:13] أي: مرتفعة؛ لأن السرر إذا كانت مرتفعة يتمكنون من رؤية جميع ما حولهم من النعيم.
{وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الغاشية:14] الأكواب: جمع كوب، وهو الإناء الذي لا أذن له، (مَوْضُوعَةٌ)، أي: بين أيديهم لا يعجزهم أخذها، فهي موضوعة ومهيأة أمامهم، فلا يذهبون للبحث عنها وإحضارها.
{وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} [الغاشية:15] النمارق: الوسائد، مصفوفة: صف بعضها إلى جانب بعض فوق الأسِرّة أو في الجوانب للاستناد إليها.
{وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:16] الزرابي: البُسط والطنافس، ((مَبْثُوثَةٌ)) يعني: مفروشة.(192/5)
تفسير قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى الأرض كيف سطحت)
قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17]، هذا استئناف مسوق لتقريب ما فصل من حديث الغاشية، وما هو مدلول عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون للاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره، لكن ما علاقة هذه الآيات بالتي قبلها؟ إن الآيات السابقة فيها إخبار عن الغاشية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، وبيان حال أصحاب الجنة، وحال أصحاب النار، وهذا كله مبني على الإيمان بالبعث والنشور، والدار الآخرة، والحساب والجزاء، والكفار ينكرون البعث، فالله سبحانه وتعالى يوجه أنظارهم إلى الإيمان به عز وجل وبقدرته على الخلق، وهذا سيلزمهم بالإيمان بالبعث والنشور، وأحوال أهل الجنة، وأحوال أهل النار، فدلّهم إلى الإيمان بالله عن طريق أدلة محسوسة لا يستطيعون إنكارها؛ لأنها مشاهدة؛ فلذلك قال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}، (أَفَلا) الهمزة: للإنكار والتوبيخ، والفاء: للعطف على مُقدّر يقتضيه المقام.
((أَفَلا يَنْظُرُونَ)) يعني: أينكرون ما ذُكر من البعث وأحكامه، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل؟! أفلا ينظرون إلى الإبل -التي هي نصب أعينهم ويستعملونها كل حين- كيف خُلقت خلقاً بديعاً معدولاً به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات؟! فالإبل فيها أشياء اختصت بها دون سائر الحيوانات، من عِظَم جثتها، وشدة قوتها وعجيب هيئتها اللائقة لحمل الأشياء الثقيلة، وجرّ الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة - البعيدة-، وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى إن إظماءها لتبلغ العشر فصاعداً، واكتفائها باليسير، ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم، فأنت ترى الإبل ترعى ما تيسر من أنواع النبات، فهذه من خصائصها.
وأيضاً انقيادها مع ذلك للإنسان في الحركة والسكون والجلوس والنهوض، حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء، وهذه من آيات الله سبحانه وتعالى، فإن الجمل على رغم قوته الشديدة، إلا أنه يقوده طفل صغير أو رجل ضعيف أمامه! فالله سبحانه وتعالى يذلله ويسخره للإنسان.
{وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:18] السماء التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار، ((كَيْفَ رُفِعَتْ)) أي: رفعت كواكبها رفعاً سحيق المدى، وأمسك كل منها في مداره إمساكاً لا يختل سيره، ولا يفسد نظامه.
{وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية:19] الجبال التي ينزلون في أقطارها، ((كَيْفَ نُصِبَتْ)) أي: أقيمت منتصبة، فلا تبرح مكانها حفظاً للأرض من الميلان.
{وَإِلَى الأَرْضِ} [الغاشية:20] التي يضربون فيها ويتقلبون عليها، {كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:20] أي: بُسطت ومُهّدت حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق.
قال الزمخشري: والمعنى: أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق؛ حتى لا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤمنوا به ويستعدوا للقاء الله تبارك وتعالى.(192/6)
تفسير قوله تعالى: (فذكر إنما أنت مذكر ثم إن علينا حسابهم)
قال تعالى: ((فَذَكِّرْ)) ذكّر من أُرسِلْت إليه بآياته تعالى التي تسوق إلى الإيمان بخالقها على الفطرة.
{إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] أي: مُبلِّغ ما نُسي من شرعه تعالى.
{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] أي: بمتسلط تقهرهم على الإيمان.
وقرئ بالسين على الأصل (بمسيطر).
{إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية:23 - 24]، وهو عذاب جهنم والعياذ بالله، والاستثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} منقطع، يعني: لكن من تولى وكفر فإن لله الولاية عليه والقهر له فهو يعذبه العذاب الأكبر على جحده الحق، فليس هنا استثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ}، إذ ليس معناه أن الرسول يسيطر على من تولى وكفر! لكن المقصود: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}، لكن {مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية:23 - 24]، على جحده الحق.
{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية:25] أي: رجوعهم ومعادهم بالموت والبعث، والجملة تعليل لتعذيبه تعالى بالعذاب الأكبر.
{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26] نلاحظ هنا أن الضمير جمع، أما في قوله: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية:23 - 24] فإن الضمير مفرد، والإفراد هنا في قوله: (فيعذبه) باعتبار اللفظ، أما الجمع في قوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} فهو باعتبار معنى (من).
إذاًَ: جمع الضمير فيه وفيما بعده باعتبار معنى (من) كما أن إفراده فيما سبق باعتبار لفظها.
وقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}، أي: سنجازيهم بالعذاب الأكبر، فإن القهر والغلبة لله تبارك وتعالى وحده.(192/7)
تفسير سورة البلد(193/1)
تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد)
سورة البلد مكية بإجماعهم، وهي عشرون آية.
قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد:1 - 3]، (لا أُقْسِمُ) فيها قولان: القول الأول: أن معناها: أقسم، وإنما أدخلت (لا) في التوكيد، فـ (لا) زائدة، وهذا معهود في لغة العرب، كما قال الله تبارك وتعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد:29]، يعني: ليعلم، فهي مزيدة للتوكيد.
القول الثاني: أن هذا التركيب: (لا أقسم) صيغة من صيغ القسم.
فقوله تعالى: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) يعني: أقسم بهذا البلد، وهو مكة المكرمة.(193/2)
تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد)
قال تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2] يعني: أقسم بهذا البلد وأنت في هذا البلد، فالقسم مقيد بكون النبي صلى الله عليه وسلم حالاً بهذا البلد، وفيه عناية بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله أقسم بالبلد لأجل وجود النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وفيه الإشارة إلى عدم شرف أهل مكة، وأنهم جهلوا جهلاً عظيماً بهمهم بإخراج من هو حقيق بالبلد، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أحق الناس أن يقيم في بلد الله الحرام، وشرف هذا البلد يتم بحلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فمثل هذا حقه أن يوقر وأن يؤمن به وأن يتبع وأن يصدق، لا أن يطرد ويخرج من هذا البلد.
قال الشهاب: والحل صفة أو مصدر بمعنى: الحال، ولا عبرة بمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة.
إذاً: قوله تعالى: ((وَأَنْتَ حِلٌّ)) أي: وأنت حال مقيم موجود في هذا البلد، وقيل معناه: وأنت يستحل فيه حرمتك، ويتعرض لأذيتك، ففيه تعجيب من حالهم في عداوته، وتعريض بتجميعهم وتفريقهم؛ لأنه لا يستحل فيه الحمام، فكيف يستحل فيه دم مرشد الأنام عليه الصلاة والسلام! وقيل: معناه ((وَأَنْتَ حِلٌّ)) به في المستقبل، أي: سيحل له القتال فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا البلد حرمه الله عز وجل، وإن مكة لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار) يعني: ساعة الفتح، فعندما فتحها أحل الله له أن يفعل بأعدائه ما يشاء، ثم قال: (فإن ترخص أحد بقتال النبي صلى الله عليه وسلم فقولوا له: إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لك)؛ فلذلك فإن مكة البلد الحرام لا يجوز لأحد أن يستحل القتال فيها بحال من الأحوال.
وهذه السورة مكية بإجماع المفسرين، وسورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2] إلى آخرها هي آخر سورة أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يدل على أن في هذه الآية إخباراً بشيء لم يكن قد وقع، فقوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) يعني: سوف يأتي وقت تحل لك فيه مكة، وذلك ساعة من النهار كما حصل في فتح مكة، ثم عادت حرمتها بعد الفتح كما كانت قبل الفتح.
فهذه الآية إشارة إلى ما سيقع من فتح مكة وإحلالها له صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار يقتل فيها ويأسر، مع أنها ما أحلت لأحد قبله ولا تحل لأحد بعده، ففيه تسلية له ووعد بنصره وإهلاك عدوه.
والحل على هذين الوجهين ضد الحرمة، قال بعض المفسرين: هذا فيه بعد، لاسيما الوجه الأخير، فالتفسير الأول أولى، يعني: وأنت حال في هذا البلد، أي: أقسم بهذا البلد وأنت حال فيها، وفي ذلك زيادة في شرفها لوجودك وحلولك فيها.
قال بعضهم: وإنما كان الأول أولى لتشريفه صلى الله عليه وسلم، بجعل حلوله به مناطاً لأعوانه، فهذا تشريف لمكة حتى أقسم الله بها؛ وإنما زاد شرفها لوجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها، مع التنبيه من أول الأمر على تحقق مضمون الجواب بذكر بعض مواد المكابدة على نهج براعة الاستهلال، وأنه كابد المشاق، ولاقى من الشدائد في سبيل الدعوة إلى الله ما لم يكابده داع قبله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن هذا القسم: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) جوابه في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، فذكر هذا القسم بالبلد مع حلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه تحقيق لمضمون الجواب، وهو أن الإنسان بالفعل خلق في كبد، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم كابد من المشاق، ولاقى من الشدائد في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ما لم يكابده داع قبله صلوات الله عليه وسلامه.(193/3)
تفسير قوله تعالى: (ووالد وما ولد)
قال تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد:3] هذا عطف على قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] يعني: أقسم بوالد وما ولد، قيل: يعني: آدم وذريته، وقيل: إبراهيم وولده، والصواب -كما قال ابن جرير -: أن المعني به كل والد وما ولد؛ لأن الصيغة صيغة عموم، قال ابن جرير: وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل، يعني: من أراد أن يخصصه بآدم أو بإبراهيم أو غيرهما، فلابد أن يأتي بحجة نقلية أو عقلية، ولا سبيل إلى شيء من ذلك، قال ابن جرير: ولا خبر بخصوص ذلك، ولا برهان يجب التسليم له بخصوصه.
وقوله تعالى: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) عبر بما مكان من للعاقل كما في قول الله تبارك وتعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] والمقصود: من طاب، فإذا كان التركيب على الوصف تستعمل ما، ومثله قول الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران:36] يعني: والله أعلم بأي مولود عظيم الشأن وضعته.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: فإدخال (ما) على (من) لإرادة الوصف، يفيد التعظيم في مقام المدح، وكأنه لا يحتمل كنهه لشدة إبهام ما؛ لأن الإبهام في (ما) أشد، فكأن هذا الشيء المعظم لا يشتبه وصفه؛ ولذا أفادت التعجيب وإن لم يكن استفهاماً كما في قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) أي: أي مولود عظيم الشأن وضعته.
فقوله تعالى: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) إن كان المقصود آدم أو إبراهيم فذكر (ما) ظاهر، فيكون المراد إبراهيم الوالد، وولده محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عظيم عجيب، أو يكون المراد آدم وذريته فالتعجب من كثرتهم يعني: وما أدراك ما هذا الذي ولد له هذا الوالد وهو: آدم وكل ذريته؟! فالتعجيب هنا من خصائص آدم وذريته التي اختصوا بها على سائر المخلوقات كالنطق والعقل وحسن السيرة إلى آخر تلك الخصائص.(193/4)
تفسير قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد)
قال عز وجل في جواب القسم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] أي: في شدة يكابد الأمور ويعالجها في أطواره كلها، من حمله إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة وإما في النار، من بداية ما يحصل الحمل به وهو نطفة مذرة ثم يستمر نموه شيئاً فشيئاً إلى أن يخرج من بطن أمه باكياً، ثم ينمو ويمر بالأطوار التي يمر بها كل إنسان من الطفولة، إلى الصبا، إلى الشباب، إلى الكهولة، إلى الشيخوخة، إلى الموت، إلى القبر، إلى البعث والنشور، إلى أهوال يوم القيامة، ومقداره خمسون ألف سنة، إلى الميزان، إلى الصراط، ثم إلى نهاية الرحلة وهي الاستقرار في دار القرار إما في الجنة وإما في النار، فالإنسان في كل هذه المراحل يكابد المشاق، ولا يخلو الإنسان أبداً من المشاق.
قال الزمخشري: الكبد مأخوذ من قولك: كبد الرجل كبداً فهو أكبد إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع في هذا التعبير حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه، وأصله كبده، إذا أصاب كبده، قال لبيد: يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد أي: في شدة الأمر وصعوبة الخطب.
وفي هذه الآية الكريمة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من قريش من جهة أن الإنسان لم يخلق للراحة في الدنيا، وكل من كان أعظم إيماناً فهو أشد نصباً.
(لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) يعني: كل إنسان يعاني ويكابد المشاق، فهذه سنة الله الماضية، وهذا فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من قريش، من جهة أن الإنسان لم يخلق للراحة في الدنيا، ولذلك لما قيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: إذا خلف جسر جهنم وراءه.
فالإنسان لا يجد الراحة إلا إذا مر على الصراط، ونجا من أهوال يوم القيامة، وأبصر النار بعيدة عنه، وأوشك أن يدخل الجنة، فعندها يجد طعم الراحة، أما قبل ذلك فهو في كبد، فمن يطلب الراحة في الدنيا فهو يطلب المحال؛ لأن الدار التي ليس فيها نصب هي الجنة فقط كما قال الله عنهم: {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:35]، أما الدنيا فلا يمكن أبداً أن يجد الإنسان فيها الراحة دائماً، فكل إنسان لم يخلق للراحة، وكل من كان أعظم إيماناً فهو أشد نصباً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه قوة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة).
قال القاسمي رحمه الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) أي: مكابدة ومشقة، ومما ابتلي به هواه فهو معه في صراع ومجاهدة كما قال الشاعر: إني ابتليت بأربع يرمينني بالنبل قد نصبوا علي شراكا إبليس والدنيا ونفسي والهوى من أين أرجو بينهن فكاكا فالعبد في مكابدة ومشقة مع نفسه وهواه والدنيا والشيطان.
والكبد مصدر القوى الطبيعية، فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل.(193/5)
تفسير قوله تعالى: (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد)
قال تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5] أي: أيحسب هذا الإنسان لغلظ حجابه ومرض قلبه واحتجابه بالطبيعة أن لن تقوم قيامته، وأن لن يقدر الله سبحانه وتعالى على مجازاته وقهره وغلبته؟! هذا مع أن ما هو فيه من المكابدة يكفي لإيقاظه من غفلته واعترافه بعجزه.(193/6)
تفسير قوله تعالى: (يقول أهلكت مالاً لبداً)
قال تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد:6] يعني: يقول الإنسان: أهلكت مالاً كثيراً، (لُبَدًا) من تلبد الشيء إذا اجتمع، كما قال الله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] فسر أنهم كانوا طبقات بعضهم فوق بعض، وكذلك قوله هنا: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) يعني: مالاً كثيراً متراكماً بعضه فوق بعض، والمراد هنا: ما أنفقه للافتخار والمباهاة والرياء، فيفتخر بأنه أنفق كثيراً، مثل قول بعض الناس إذا أنفق على شخص: خسرت عليه كذا وكذا يعني: ضحيت بهذا المال الكثير من أجل هذا الشخص، فهذا الإنسان الجحود يتفضل على الناس بالتبذير والإسراف، ويحسبه فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة ولجهله، فمن الجواد؟ ومن البخيل؟ الجواد هو: الذي يعطي في موضع العطاء، ويمنع في موضع المنع، والبخيل هو: الذي يمنع في موضع العطاء، فلو أن إنساناً يعطي في غير موضع العطاء، بل لأجل المفاخرة والمباهاة؛ فهذا لا يمدح، ولا يسمى هذا جوداً وكرماً، وإنما هذه سفاهة وإسراف وتبذير، فالإنفاق لا يمدح على الإطلاق، وإنما يمدح الإنفاق إذا أنفق في المحل اللائق به، أما من ينفق ماله سفاهة فهذا لا يمدح، وليس هذا من الكرم ولا من الجود في شيء، مثل هذا الذي يقول: ((أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا)) فأنفق مالاً كثيراً يباهي به الناس، ويتفضل عليهم بالتبذير والإسراف، ويحسب أن هذا الإسراف فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة وجهله.(193/7)
تفسير قوله تعالى: (أيحسب أن لم يره أحد)
قال الله سبحانه وتعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:7] أي: أيحسب أن الله تعالى لم يطلع على باطنه ونيته حين ينفق ماله في السمعة والرياء والمباهاة لا على ما ينبغي في مراضي الله، وهذه رذيلة على رذيلة، من حيث التبذير في النفقة، ومن حيث أنه لا يريد بذلك وجه الله، فإن كانت رذيلة فوق رذيلة، فكيف يحسبها فضيلة؟!(193/8)
تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين)
قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8 - 9] أي: ألم ننعم عليه بالآلات البدنية التي يتمكن بها من البصر والكلام، فهذا تذكير بنعم الله على العباد، وما يسر عليهم في تكاليفهم، وما تفضل به عليهم من الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم، ويدفعون بها المضار عنهم؛ لأن الحاجة إلى أكثر المنافع الدينية والدنيوية ماسة، فالحاجة إلى العينين للرؤية، واللسان للنطق، والشفتين لحبس الطعام والشراب وإمساكهما في الفم، وللنطق أيضاً.(193/9)
تفسير قوله تعالى: (وهديناه النجدين)
قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: طريقي الخير والشر كما قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، ومعنى: ((هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)) أي: بينا له ووضحنا له طريق الخير وطريق الشر، والنجد هو الطريق المرتفع، والمراد بهما: طريقا الخير والشر، سماهما نجدين ليشير إلى أن في كل منهما وعورة وصعوبة، فليس الشر بأهون من الخير كما يظن، وكذلك ليشير إلى أنهما واضحان جليان لا يخفى واحد منهما على سالك.
فالله تعالى بين طريق الخير وطريق الشر فهما كالنجدين المرتفعين، والشيء العالي لا ينكره أحد إذا رآه، وقد بين الله الطريقين بما أوحى، فهما طريقان واضحان جليان لا يخفى واحد منهما على سالك في أحد الطريقين، فالعبد يختار أحدهما وهو على بصيرة؛ لأنه طريق غير ملتبس، بل طريق واضح.
وهذه الآية: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) يفسرها قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، وقيل: أي: أوزعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر، وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاماً تدله عليهما، ثم وهبناه الاختيار بعدما بينا له، فعليه أن يختار أي الطريقين شاء، فالذي وهب الإنسان هذه الآلات، وأودع في باطنه تلك القوى؛ لا يمكن للإنسان أن يفلت من قدرته، ولا يجوز أن يخفى عليه شيء من سريرته، فأدوات الإدراك كلها منة من الله سبحانه وتعالى، فإذا كان الله هو الذي أعطاك العينين واللسان والشفتين، وهو الذي هداك النجدين، فكيف تحسب بعد ذلك أن الله لم يطلع عليك حينما أنفقت مالاً لبداً للمباهاة والرياء والتفضل على الناس من غير ابتغاء وجه الله؟! وكيف يحسب أن الله لم ير ما في باطنه من النية الفاسدة والرياء؟! كيف يحسب ذلك والله هو الذي امتن عليه بكل آلات الإدراك، وهو المدبر الحكيم لهذه القوى، والإنسان لا يرى إلا بالله؟! وقول الله سبحانه وتعالى: {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:9] هذا اللسان نعمة عظيمة، ولكن هذه الجارحة لها خطورة مهلكة إن لم يحترز صاحبها؛ ولهذا جعل الله أمام اللسان باباً من عظم وهو الأسنان، وباباً من لحم وهو الشفتان؛ كي يستحكم إغلاقه، ولا يخرجه إلا بحساب؛ لخطورة هذا اللسان الذي إذا خرج كان كالثعبان يلدغ خلق الله سبحانه وتعالى.(193/10)
تفسير قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة)
قال تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11] يعني: ألم يشكر الإنسان تلك النعم الجليلة باقتحام العقبة؟! فحق هذا الإنسان الذي آتاه الله هذه النعم أن يقتحم العقبة، لكنه لم يقتحم العقبة! والاقتحام: هو الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة، والعقبة هي: الطريق الوعرة في الجبل التي يصعب سلوكها، والتعبير بهذا اللفظ هنا لما فيه من معاناة المشقة ومجاهدة النفس.
والمراد بالعقبة هنا بينه الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:12 - 17]، فهذا كله هو معنى اقتحام العقبة، فاقتحام العقبة يكون بالإتيان بهذه الأمور التي فيها مشقة ومجاهدة نفس.
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) أي: أي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟! والاستفهام هنا فيه زيادة تشويق لها، وأن لها عند الله تعالى مكانة.
وقوله: (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي: عتق رقبة أو المعاونة على عتقها وتخليصها من الرق وأسر العبودية، رجوعاً بها إلى ما فطرت عليه من الحرية.(193/11)
تفسير قوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة)
قال تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:14] يعني: إطعام في يوم مجاعة.
وإطعام مصدر، مفعوله يتيماً، أي: إطعام يتيماً، {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:15] يعني: ذا قرابة، وهذا حض على تقديم ذوي النسب والقربى المحتاجين على الأجانب في الإطعام؛ لأن الصدقة على المسكين صدقة، أما الصدقة على القريب فهي صدقة وصلة، وثوابها أكثر؛ لأنها صدقة من جهة، وصلة رحم من الجهة الأخرى، وهذه الآية يفهم منها أن الإحسان إلى القريب المحتاج أولى وأفضل وثوابه أعظم من الإحسان لغير القريب.
وقيل: المقربة هنا غير مأخوذة من القرابة والقربى، بل من القرب، والقرب: هو الخاصرة، فكأن المعنى: أنه يطعم من خاصرته لصقت من شدة الجوع والضر، وهذا أشبه بقوله تعالى: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ)، والآية تحتمل أنه من ذوي القرابة، وتحتمل التفسير الآخر؛ لأن كل ذلك مبالغة في وصفه بالقرب.
وقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16] أي: ذا فقر شديد لا يواريه إلا التراب، يقال: ترب يعني: لصق بالتراب، ويقال: الفقر المدقع أو فقير مدقع بمعنى: لاصق بالدقعاء وهي: التراب، فالفقر المدقع الذي يلصق صاحبه بالتراب.
وذهب الأكثرون إلى أن (لا) نافية في قوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11]، وإنما لم تكرر مع أن العرب لا تكاد تفردها كما في آية: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة:31] وكقوله تعالى: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]؛ وكما تقول: لا في العير ولا في النفير، استغناء بدلالة بقية الكلام على تكراره، فسياق الكلام يفيد تكرارها؛ لأن التقدير: لا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً.
وفي الآية أجوبة أخرى منها أنه لما عطف عليه كان هو منفي أيضاً، فكأنها كررت، وقيل: لا للدعاء، كما تقول: فلان لا نجا ولا سلم، يعني: أسأل الله ألا يسلمه ولا ينجيه، وقيل: أصلها ألا للتحضيض، وقيل: إنها للنفي فيما يستقبل، وقال بعضهم: قولهم: (لا) إذا دخلت على الماضي وجب تكرارها؛ قول لا يلتفت إليه؛ لأن القرآن نفسه حجة في الفصاحة، ولم تتكرر (لا) في هذه الآية، وقد ورد في كلامهم عدم تكرارها.(193/12)
تفسير قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة)
هذه الأعمال التي ذكرها الله في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:12 - 16] لا تنفع إلا مع الإيمان، فلا تنفع صاحبها في الآخرة إلا إذا كان مؤمناً، قال الله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97] فيشترط الإيمان حتى تنفع الأعمال الصالحة؛ ولهذا قال سبحانه هنا: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17]، و (ثم) هنا بمعنى: الواو، يعني: هو يفعل هذه الأشياء، ثم بعد ذلك يؤمن.
قوله تعالى: ((ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا)) أي: بالحق الذي جاءهم.
((وَتَوَاصَوْا)) أي: أوصى بعضهم بعضاً.
((بِالصَّبْرِ)) أي: على ما نالهم في سبيل الدعوة إلى الحق.
((وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)) أي: بالرحمة على بعضهم كقوله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، أو المعنى: بموجبات رحمته تعالى من القيام بالحق والصدع به، فالمرحمة هنا: أن يرحم بعضهم بعضاً، وكما قال سبحانه: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] أي: يتواصوا فيما بينهم بالأشياء التي إن فعلوها توجب لهم رحمة الله إياهم، وهي الأعمال الصالحة، والجهاد، والدعوة، والصدع بالحق، والصبر على ذلك.
وقوله: {الْمَيْمَنَةِ} [البلد:18] أي: اليمين، أو المراد جهة اليمين التي فيها السعداء أصحاب اليمين.(193/13)
فوائد في قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة)
يقول القاشاني: يشير قوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11] إلى آخره إلى قهر النفس بتكلف الفضائل، والتزام سلوك طريقها، والتزامها حتى يصير ذلك طبعاً، فهذه الآية إشارة إلى أن يقهر الإنسان نفسه وأن يجاهد نفسه، ويتكلف الفضائل حتى لو لم يكن متحلياً بالفضائل كلها، لكن يجاهد نفسه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد أن يجاهد العبد نفسه وهواه في ذات الله) أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا يستفاد من قوله: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)، فإن العقبة المرقى الوعر جداً في جبل، وصعود الجبال يترتب عليه مشقة كبيرة؛ لأن التنفس يصعب كلما ارتفع الإنسان إلى أعلى، فهو يقتحم هذه العقبة، ويتكلف المشقة في الارتفاع في هذه الطريق الوعرة، فالله سبحانه وتعالى يرشدنا في هذه الآية إلى مجاهدة النفس، وتحمل المشقة في جهاد النفس، فقال: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) فكأنه يقتحمها بقوة وجرأة، والمقصود أن الإنسان يغالب نفسه ويقهرها، ويعودها الفضائل، ويلزم نفسه سلوك طريقها واكتسابها حتى يصير التطبع طبعاً، فيتطبع أولاً ومع المداومة يستطيع أن يغير طبعه إلى الخير وإلى الأحسن.
وقال بعض المفسرين: الإطعام في وقت شدة الاحتياج للمستحق هو من باب وضع النفقة في مستحقها، بخلاف الذي ينفق مالاً كثيراً مفاخرة ومباهاة ورياء، ويظن أن ذلك فضيلة، بل هي رذيلة فوق رذيلة، فضلاً عن كونها تبذيراً وإسرافاً من أجل المراءاة والتباهي؛ ولذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن إجابة دعوة المتباريين وقال: (إن المتباريين لا يجابان ولا يؤكل طعامهما)، فإذا كان غنيان كل واحد منهما يعمل الوليمة، ويدعو الناس إليها مباهاة، وكانا يتباريان ويتنافسان، فإنهما يعاقبان بألا تجاب دعوتهما، ولا يؤكل طعامهما، فالمتباريان لا تجاب دعوتهما ولا يؤكل طعامهما؛ لأنهما لا ينفقان ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى، وهذا يعلم بالقرائن، فإذا عرف أنهما يريدان المباهاة لا النفقة في سبيل الله تبارك وتعالى فلا يجيبهما، أما هذا فيخرج الطعام في وقت المجاعة: ((فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ))، يطعم الطعام في وقت شدة احتياج الشخص المستحق للصدقة وللطعام، وهذا من باب فضيلة الإيثار، بل هو أفضل أنواعها؛ لأن المجاعة في الغالب تعم، فيكون هو محتاجاً للطعام، لكنه يطعم مع ذلك في وقت المجاعة.(193/14)
اقتحام الأهوال في سبيل الله
قوله تعالى: ((ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا))، الإيمان هو العلمي اليقيني ((وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) الصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة، والإيمان مقدم الشجاعة، فالإنسان يكون عنده يقين ثم تكون عنده الشجاعة، كما في الجهاد، فالمجاهد يضحي بنفسه وبروحه وعنده يقين بأن له عند الله الجنة، وهذا غيب، ولو لم يكن عنده يقين بالغيب لما أقدم، ولما حصلت له هذه الشجاعة، وهذه هي المشكلة التي تؤرق أعداء الإسلام في كل زمان، فالكفار الذين حاربوا المسلمين منذ العصر الأول إلى يومنا هذا مشكلتهم أن المسلمين يحبون الموت أشد من حب الكفار للحياة! وهذا هو الذي يقض مضاجع اليهود، وشواهد هذا من التاريخ كثيرة جداً، وما أكثر فزع الكفار من شدة حب المسلمين للموت! ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد في عهد ريجن حصلت في لبنان عملية دك المبنى الأمريكي، ومات عدد كبير جداً من العسكريين الأمريكان في هذه الحادثة في بيروت، وعلى أثرها فرت أمريكا من لبنان كالجرذان الهاربة، وعاتبوا ريجن وقالوا له: كيف أن أمريكا أقوى دولة في العالم وعندها تكنولوجيا وكذا وكذا، ومع هذا يحصل هذا التفجير؟! فرد عليهم رداً منطقياً فقال: إن أقوى إجراءات الأمن في العالم لا تقف في وجه رجل يريد أن يموت! فالشاهد أن هذا هو الذي أقض أعداء الإسلام في كل وقت، وهذا من خصائص هذه الأمة، وما هو السر؟! الكفار لا يفقهون؛ لأنهم لو فقهوا لعلموا السر، السر هو أنه لا يقدم على هذا إلا وهو موقن بأنه سوف ينتقل إلى ما هو أفضل؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه)، والذنوب دائماً تصيب الإنسان بالجبن والهلع والخوف، فيخشى من الموت فيلقى الله بذنوبه، لكن الله سبحانه وتعالى يزيل من أمامه هذه العقبة، فيقول له: ضمنت لك إذا استشهدت في سبيلي أن أمحو عنك ذنوبك في أول دفعة من دمك، فتمسح منه كل الخطايا التي ارتكبها تماماً، فمن منا لا يحرص أن تمحى خطاياه بهذه السرعة؟! قال عليه الصلاة والسلام: (يغفر له في أول دفعة من دمه، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج سبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه)، فهذا هو سر هذه القوة عند المسلمين، مع أنهم قد يدخلون في كثير من المعارك وهم في حالة شديدة من الضعف مادياً، لكن هذه النقطة بالذات هي التي أقضت الروم وأقضت الفرس وأقضت كل من يتصدى للمسلمين.
في حرب فلسطين سنة 1948م كان اليهود أخوف ما يخافون من المجاهدين من الإخوان المسلمين، فكانوا يخافون منهم جداً، ويهربون من أي مكان يجدونهم فيه، قال أحد الضباط اليهود في ذلك الوقت: نحن أتينا إلى فلسطين لنعيش، وهم جاءوا إلى هنا من أجل أن يموتوا! فهم معترفون أنهم من أشتات الأرض، منهم اللصوص المجرمون، فالحل أن يرجع كل واحد إلى وطنه، يرجع الفلسطينيون إلى بلادهم، ويرجع اليهود من حيث جاءوا من أشتات الأرض التي كانوا فيها.
وإلى الآن يفزع اليهود من المجاهدين الفلسطينيين مع أنه لا وجه للمقارنة بين قوة هؤلاء المساكين أطفال الحجارة، وبين جيش عرمرم، ومع ذلك يضجون ويخافون ويفزعون! ولا أريد الآن الدخول في تفاصيل موضوع ما يسمى بالعمليات الانتحارية، فهو يحتاج إلى شيء من التفصيل من ناحية فقهية، لكن هي تدل على أن الشجاعة تأتي بعد اليقين، فلابد أولاً من اليقين، فالمجاهد يعلم أنه إذا قتل في سبيل الله فهو حي عند الله كما قال سبحانه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فهو يصدق خبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، ووعد الله لا يمكن أن يخلف، فإن الله لا يخلف الميعاد، قال الله حاكياً عن المؤمنين قولهم: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الشهيد لا يجد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة) فألم السيف أو الرصاص أو العذاب لا يشعر به.
وقال النبي عليه السلام: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)، فلذلك الشهيد يجار من عذاب القبر، ولا يفتن في قبره، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه، فماذا يريد الإنسان أكثر من هذا، وهو سيموت ولا بد بأي سبب؟ تعددت الأسباب والموت واحد ولن يموت إلا بأجله، قال خالد رضي الله تعالى عنه وهو على فراش الموت: ما في جسدي موضع شبر إلا وفيه طعنة برمح أو ضربة بسيف، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء! ومن الحكم: احرص على الموت توهب لك الحياة.
إذاً: فضيلة الشجاعة لا تأتي إلا مترتبة على فضيلة اليقين، فلابد من اليقين أولاً، ثم اليقين هو الذي يجعل الإنسان شجاعاً، أما إذا لم يوجد عند الإنسان يقين، فهو يريد الدنيا ولا يريد الآخرة، وهذا يجعله يرفع شعار: الجبن سيد الأخلاق كما يقولون.(193/15)
الصبر على الشدائد
الصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة، وأخره الله عن الإيمان في قوله: ((ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))؛ لامتناع حصول فضيلة الشجاعة بدون اليقين، فأولاً يؤمن فإذا آمن يكون واثقاً من ثواب الصبر، وعنده يقين بالعاقبة الحسنة لهذه الشجاعة والإقدام.
وقوله تعالى: ((وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)) أي: بالتراحم والتعاطف، وهذا من أفضل أنواع العبادة.
قال بعض المفسرين: هنا عدد الله أجناس الفضائل الأربع التي يحصل بها كمال النفس، بدأ بالعفة التي هي أولى الفضائل، وعبر عنها بمعظم أنواعها وأخف خصالها الذي هو السخاء، ثم أورد الإيمان الذي هو الأصل والأساس، وجاء بلفظة (ثم) لبعد مرتبته عن الأولى في الارتفاع والعلو.
ثم رتب عليه الصبر لامتناعه بدون اليقين، فالصبر واليقين توءمان، والصبر أعلى درجات الشجاعة، والقرآن يربط رباطاً وثيقاً بين الصبر والإيمان، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، يقول العلماء: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، لا يمكن أن يصل الإنسان إلى مرتبة الإمامة إلا ومعه الصبر واليقين، وكذلك هنا ربط بينهما فقال: ((ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) فالإيمان هو اليقين، ثم ذكر الصبر، ولا يمكن أن يحصل صبر إلا باليقين، ولذلك تجد المؤمن أقل الناس جزعاً عند المصائب، فالمؤمن لا يجزع عند المصائب، حتى يعجب الناس من حاله إذا نزلت به مصيبة؛ لأنه يوقن أن ما عند الله خير وأبقى.
أحد الإخوة الشباب كان راكباً في طائرة فاختطفت، فكان يجلس بجواره بالطائرة رجل أمريكي، وكانت تحصل مفاوضات بين الخاطفين للطائرة وغيرهم، وكان الركاب في فزع وهلع وجزع؛ لأنهم يخافون من الموت، أما هذا الأخ فكان عنده سكينة ويقين وبرد وسلام، يذكر الله سبحانه وتعالى وكأن شيئاً لا يحصل، راضياً بما يقدره الله سبحانه وتعالى من موت أو حياة، فهو يستغفر الله ويذكر الله في غاية من الاطمئنان والهدوء والسكينة، فكان هذا يستفز الرجل الأمريكي الذي بجانبه، فقد كان في غاية من القلق والفزع والهلع من هذا الذي يحدث، فما صبر الأمريكي وكان كبيراً في السن، فقال له: ما هذا؟! نحن في هذه الحالة من الفزع وأنت جالس تتمتم بالأذكار مطمئناً! فقال له: لأنني مسلم، فقال له: ماذا تعني؟ فشرح له أن كل شيء سيكون بقضاء الله وقدره، والمسلم كل أمره له خير، ومهما حدث له فسيكون خيراً له إلى آخره، فالرجل من شدة إعجابه قال: لو نجوت من هذه الحادثة فسوف أدخل في الإسلام الذي يجعل أتباعه يصمدون أمام الشدائد بهذه الطريقة، فنجوا ولكن للأسف الشديد لم يسلم هذا الرجل! والله أعلم بحاله، وحسابه على الله.
الشاهد أن المؤمن بما عنده من اليقين لا يجزع عند الشدة ولا يخاف، بسبب ما عنده من اليقين، فاليقين هو أصل الشجاعة.
واستغنى بذكر المرحمة التي هي: صفة الرحمن عن سائر أنواعها كما استغنى بذكر الصبر عن سائر أنواع الشجاعة.(193/16)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [البلد:19] أي: كفروا بأدلتنا من الكتب والرسل وغير ذلك من آيات الأنفس والآفاق التي يرتقى بها إلى معرفة الصراط الذي تجب الاستقامة عليه في الاعتقاد والعمل، ((هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ)) أي: الشؤم على أنفسهم، أو الذهاب بهم إلى الشمال التي هي النار، قال الله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:41]، واليمين في لسان الإسلام هو: عنوان السعداء، والشمال هو: عنوان الأشقياء والعياذ بالله.
{عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20] أي: مطبقة أبوابها، كناية عن لبثهم المخلد فيها، وسد سبل الخلاص منها، أجارنا الله بفضله وكرمه منها!(193/17)
تفسير سورة الشمس(194/1)
بين يدي سورة الشمس
سورة الشمس هي السورة الواحدة والتسعون وكلها مكية بإجماعهم، وآياتها خمس عشرة آية، وجاء في حديث جابر في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (هلا صليت بـ (سبح اسم ربك الأعلى)، (والشمس وضحاها)، (والليل إذا يغشى)).(194/2)
تفسير قوله تعالى: (والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها)
قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:1 - 2].
قوله: (وضحاها): وضوئها إذا أشرقت، قال الراغب: الضحى: انبساط الشمس وامتداد النهار، وبه سمي وقت الضحى.
قال الألوسي: وحقيقته تباعد الشمس عن الأفق المرئي وبروزها للناظرين، ثم صار حقيقة في وقته، يعني: هذا الوقت الذي تصعد الشمس فيه عن الأفق وتبرز للناظرين هو وقت الضحى.
ويقسم الله سبحانه وتعالى بالشمس نفسها إذا ظهرت أو غابت لأنها خلق عظيم، قال الله هنا: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) فالله سبحانه وتعالى يقسم بالشمس في حد ذاتها سواءً كانت ظاهرة أو كانت بعد الغروب؛ لأنها في حد ذاتها آية من آيات الله تبارك وتعالى.
وهذه الشمس هي أكبر من الأرض بمليون مرة! ثم أقسم الله بضوئها فقال: (وَضُحَاهَا) أي: وضوئها؛ لأنه سبب الحياة ومصدر الهداية في الأرض، وهل سترى أحداً لولا ضياء الشمس؟! وهذه الشمس قد سماها الله آية النهار فقال: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12]، وهي آية من آياته وعجيبة من عجائب خلقه سبحانه وتعالى.
والشمس لها ارتباط وثيق جداً بالحياة على وجه الأرض، فأي تعديل في وضعها عن الوضع الحالي تتأثر منه الحياة تماماً، فلو اقتربت قليلاً أو بعدت أكثر، فهذا يفني الحياة على وجه الأرض تماماً، فالمسافة بيننا وبين الشمس (93) مليون ميل! وهي سبب أساسي جداً من أسباب الحياة، ولا حياة في الأرض بدون الشمس؛ لأن الله سبحانه وتعالى ضبطها على وضع معين، وارتباط الشمس بالأرض له تأثير كفيل جداً ببقاء الحياة على وجه الأرض.
قوله: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} أي: والقمر إذا تبعها، ويكون ذلك في الليالي البيض، أي: الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى الخامسة عشرة، وهو قسم بالقمر عند امتلائه أو قربه من الامتلاء؛ ليضيء الليل كله من غروب الشمس إلى الفجر، وهو قسم بالضياء في طور آخر من أطواره، وهو أثناء الليل كله! والقمر تابع للشمس من حيث الإضاءة لأن القمر مثل المرآة يعكس ضوء الشمس، فالأساس هو الشمس، فقوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) يعني: إذا تبع الشمس، قال المفسرون: وذلك في الليالي البيض؛ لأن فيها إضاءة طوال الليل.(194/3)
تفسير قوله تعالى: (والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها)
قال تعالى: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:3 - 4].
قوله: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) أي: والنهار إذا أظهر الشمس، وذلك عند ظهور النهار وانبساطه؛ لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء! وفي هذه الأقسام كلها إشارة إلى تعظيم أمر الضياء، وإعظام قدر النعمة فيه، ولفت أذهاننا إلى أنه من آيات الله الكبرى، ونعمه العظمى، فالضياء ليس فقط من أجل نعمة البصر والرؤية وإنما هو سبب عظيم جداً من أسباب الحياة، فمثلاً: النباتات الخضراء لا يمكن أبداً أن تحيا بدون الشمس.
وقوله تعالى: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) قسم بالنهار في حالة معينة (إِذَا جَلَّاهَا)، فهذا بيان للحالة التي ينطق فيها النهار بتلك الفتنة الباهرة والآية الظاهرة، وهي حالة الصحو.
وقوله: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) مفهومه أنه لا يدخل في قسم النهار إذا كان هناك غيم، وإنما القسم بيوم الصحو حيث لا سحاب يحول بين الناس وبين الشمس، فالحالة التي ينطق فيها النهار بتلك الفتنة الباهرة والآية الظاهرة هي حالة الصحو، وأما يوم الغيم الذي لا تظهر فيه الشمس فحاله أشبه بحال الليل.
قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} أي: يغشى الشمس، ويعرض دون ضوئها، فيحجبه عن الأقطار، وذلك من خلال الظلمة الحالكة المشار إليها في قوله تعالى: {وَلَيَالٍ عَشْر} [الفجر:2]، وهي ليالي عشر ذي الحجة أو العشر الأواخر من رمضان، وفيها تكون الظلمة حالكة حيث لا قمر طوال الليل.
يقول بعض المفسرين: إن الله قال في النهار: (جَلَّاهَا) بالماضي، لكن في الليل قال: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) بالمضارع، والحكمة من ذلك أنه لقلة أوقات الظلمة عبر في ذلك بالمضارع المفيد للحاق الشيء وعروضه المتأخر عما هو أصل في نفسه، أما النهار فإنه يجلي الشمس دائماً من أوله إلى آخره، وذلك وصف له في ذاته، ولا ينفك عنه إلا لعارض، فالغيم أو الكسوف قليل العروض، ولهذا عبر في النهار بالماضي المفيد لوقوع المعنى من فاعله بدون إشارة أنه مما ينفك عنه.(194/4)
تفسير قوله تعالى: (والسماء وما بناها والأرض وما طحاها)
قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس:5 - 6].
قوله: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) يعني: والسماء ومن رفعها وهو الله سبحانه وتعالى، فيعبر بـ (ما) عن الله سبحانه وتعالى، كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 5]، فكذلك هنا.
فقوله: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) يعني: ومن بناها، أي: ومن رفعها وصيرها بما فيها من الكواكب كالسقف أو القبة المحكمة المزينة المحيطة بالأرض، وبناء السماء بناء في غاية الإتقان والإحكام، وهو دليل على قدرة الله تبارك وتعالى، فـ (ما) هنا موصولة بمعنى (من).
فالمقصود بقوله: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) يعني: والقادر الذي أبدع خلقها، فعبر بما لأنها تدل على وصف الله عز وجل بأنه القادر على إبداع خلقها.
وقيل: إن (ما) هنا مصدرية، فيكون المعنى: والسماء وبنائها، يعني: الذي رفعها، فالسماء مرفوعة أصلاً، وفي اللغة كل ما علاك فهو سماء.
والحكمة من أن الله سبحانه وتعالى قال: (وَمَا بَنَاهَا) مع أنه لو قال: (والسماء) فقط لدل على ارتفاعها، أن في ذلك دلالة على إيجادها وموجدها صراحة، فالدلالة على إيجادها بمعنى أنها مخلوقة حادثة، والدلالة على موجدها صراحة، بمعنى: أن الله هو الذي بناها وهو الذي خلقها.
قوله: {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} أي: بسطها من كل جانب لافتراشها وازدراعها والضرب في أثنائها، وليس في ذلك دليل على أن الأرض غير كروية كما يزعم بعض الجاهلين بتحريفهم الكلم عن معناه المراد منه، فبعض الناس يظن أن معنى: (وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا) أنها غير كروية، لا، لكن الأرض لضخامة حجمها وسعتها، فهذا البسط فيها لا يلمح من قرب إنما يلمح بنوع من التأمل، وكروية الأرض حقيقة حسية لا تستنكر على الإطلاق، وليس فيها أي شيء غريب، ولا يوجد الآن أحد ممكن يقول: إن الأرض ليست كروية، لأن هذا شيء صعب جداً، وأدلة كروية الأرض كثيرة جداً، وأكبر دليل حسي على ذلك أن الناس الذين يخرجون للفضاء يصورونها كروية، وفي بعض رحلات الطيران تكون الطائرات محلقة في ارتفاع عال جداً، فيتضح تكور الأرض بصورة لا شك فيها.
ومن الأدلة كذلك أن راكب البحر يرى مركباً في الأفق، فلا يرى إلا مقدمه ثم إذا تقدم رآه كله.
فلا ينبغي الاستدلال بأن الله جعلها منبسطة، وجعلها مهاداً على أنها غير كروية، لكن لاتساعها لا يظهر هذا التكور إلا بما ذكرنا.(194/5)
تفسير قوله تعالى: (ونفس وما سواها وقد خاب من دساها)
قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10] قوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} أي: خلقها فعدل خلقها ومزاجها، وأعدها لقبول الكمال، فالنفس مخلوقة.
قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} قال القاسمي: أي: أفهمها إياهما، وأشعرها بهما بالإلقاء الملكي، والتمكين من معرفتهما، وحسن التقوى وقبح الفجور معلومان بالعقل الهيولاني.
وأصل كلمة (الهيولى) هي: مادة الشيء الذي يصنع منه، وهذا التعبير عند الفلاسفة، فمثلاً الهيولى بالنسبة للكرسي هو الخشب، والهيولى بالنسبة للمسمار هو الحديد، والهيولى بالنسبة للملابس القطنية هو القطن.
أما عند القدماء فالهيولى هو: مادة ليس لها شكل ولا صورة معينة، قابلة للتجديد والتطوير بشتى الطرق، والفلاسفة يقولون هي: المادة التي صنع الله منها أجزاء العالم المادية، والمراد بالعقل الهيولاني الذي ما زال في الحالة المبدئية، نقول: هذا رسم هيولاني، يعني رسم أولي لم يجاوز الخطوط الأساسية، ونحن نسميه رسم (كروكي)، فالرسم (الكروكي) هو الذي يُقال فيه: الرسم الهيولاني، بمعنى: ما زال في حالة مبدئية.
قول القاسمي: ((فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) أي: أفهمها إياهما، يعني: أنه بين للإنسان طريق الخير وطريق الشر، طريق الفجور وطريق التقوى.
قوله: وأشعرها بهما بالإلقاء الملكي، يعني: أن الملك يلقي في قلب الإنسان الخير كما هو معروف في الحديث الذي ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم للصراط، وقال فيه: (والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم) فهذا هو الإلقاء الملكي، فالملك يحدث الإنسان بأن هذا خير فافعله، وهذا شر فاجتنبه.
قوله: والتمكين في معرفتهما، يعني: أن الله آتى الإنسان قدرات وعقلاً حتى يستطيع أن يميز بين الخير والشر {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10].
قوله: وحسن التقوى وقبح الفجور معلومان بالعقل الهيولاني، يعني: بالعقل المبدئي أو المادة الخام للعقل إن جاز التعبير.
وفي صحيح مسلم أن من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها).
وجوز أن تكون (ما) مصدرية في كل هذه الآيات: يعني: والسماء وبناءها، والأرض وطحيها، ونفس وتسويتها، ونفس وإلهامها.
وأما تنكير (نفس) فللتكثير أو التعظيم، والإنسان طبعاً روح وبدن، ومعظم الناس إذا تفكر في خلق الله للإنسان فينظر فقط للبدن، أي للناحية العضوية أو الفسيولوجية لكن قلَّ من ينتبه ويفكر في النفس، فالإنسان مكّون من نفس كما أنه مكون من بدن، فهناك روح وهناك بدن.
قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} أي: زكى نفسه وطهرها من رجس النقائص والآثام، لأن التزكية تطلق على التطهير أو (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) يعني: نماها بالعلم والعمل والوصول إلى الكمال وبلوغ الفطرة الأولى.
قوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} قال ابن جرير: أي: أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله تعالى.
وقال غيره: أي: نقص تزكيتها وأخفى استعدادها وفطرتها التي خُلقت عليها.
فالإنسان أصلاً عنده استعداد للحق وللفضائل، لكنه يرسي هذه الفطرة السليمة ويخفيها ويدفنها عن طريق المعاصي والجهل والفسوق، وهو مأخوذ من دس الشيء في التراب، قال تعالى: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59]، فدس الشيء في التراب يعني: أدخله فيه وأخفاه، وأصل دس: دسسه.
وجملة (قَدْ أَفْلَحَ) جواب القسم، وحذفت اللام للطول.
وهنا نتأمل الأقسام المذكورة في هذه السورة: 1 - (وَالشَّمْسِ) 2 - (وَضُحَاهَا) 3 - وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا 4 - وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا 5 - وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا 6 - (وَالسَّمَاءِ) 7 - (وَمَا بَنَاهَا) 8 - (وَالأَرْضِ) 9 - (وَمَا طَحَاهَا) 10 - (وَنَفْسٍ) 11 - (مَا سَوَّاهَا) وجواب هذه كلها: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).
قال البيضاوي: وكأنه لما أراد به الحث على تكميل النفس والمبالغة فيه أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع ووجوب ذاته وكمال صفاته، الذي هو أقصى درجات القوة النظرية، ويذكرهم عظائم آلائه ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه، الذي هو منتهى كمالات القوة العملية.
وذهب الزمخشري إلى أن هذه الجملة كلام تابع لقوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) على سبيل الاستطراد.
وجواب القسم محذوف تقديره: ليدمدمن الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحاً عليه السلام.(194/6)
تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود بطغواها ولا يخاف عقباها)
قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:11 - 15].
قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} الباء هنا سببية، أي: بسبب طغيانها ومجاوزتها الحد في الفجور، والطغوى مصدر، ويجوز أن يراد به العذاب نفسه، يعني: كذبت بالعذاب على حذف المضاف، أي: كذبت بما وعدت به من عذابها بالطغوى كقوله: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:5] فالطغوى التجاوز عن الحد والزيادة من العذاب.
قوله: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} إذ هنا ربط بين (كذبت ثمود بطغواها) وبين مقام أشقى ثمود، وهو عاقر ناقة صالح عليه السلام، وكانوا نهوا عن قربها بسوء، وأنذروا عاقبة المخالفة، قال الله: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155].
وأشقاها هو قدار بن سالف، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في قومه مثل أبي زمعة) رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم.
قوله: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} يعني: صالح عليه السلام.
وقوله: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} أي: احذروا واتقوا ناقة الله التي جعلها آية بينةً، واحذروا أيضاً سقياها يعني: شربها الذي اختصها الله به في يومها.
وكان عليه السلام تقدم إليهم عن أمر الله أن للناقة شرب يوم ولهم شرب يوم آخر غير يوم الناقة، كما بينته آية الشعراء: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:155 - 156] أي: لا تؤذوا الناقة ولا تتعدوا عليها في شربها ويوم شربها.
قوله: ((فَكَذَّبُوهُ)) أي: فيما حذرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا، {فَعَقَرُوهَا} يعني: قتلوها، وأصل العقر ضرب قوائم البعير أو الفرس بالسيف وهو قائم، ثم استعمل في القتل والهلاك؛ وذلك أنهم أجمعوا على منعها من الشرب، ورضوا بقتلها، وبسبب رضا جميعهم عن قتل قاتلها، وعقر من عقرها؛ نسب التكذيب والعقر إلى جميعهم، فالفاعل في قوله: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) ضمير جمع مع أن الفاعل واحد، لكنه عقرها بتواطؤ ورضا الجميع.
قوله: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ} أي: أهلكهم وأبعدهم بسبب كفرهم به وتكذيبهم رسوله، وعقرهم ناقته؛ استهانة به واستخفافاً بما بُعث به، وقيل: دمدم يعني: أطبق عليهم العذاب، وقيل: الدمدمة حكاية صوت الهرة.
قوله: {فَسَوَّاهَا} أي: فسوى الدمدمة عليهم جميعاً فلم يفلت منهم أحد، بمعنى: جعل الله سبحانه وتعالى الدمدمة سواء عليهم، فتساووا في أن أصابتهم هذه الدمدمة ولم يفلت منهم أحد، أو (فَسَوَّاهَا) الضمير لثمود يعني: جعلها عليهم سواء، وقال المؤرِّج: الدمدمة إهلاك باستئصال.
قوله: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} أي: لا يخاف تبعة إهلاكهم.
والفاعل هنا فيه أقوال: القول الأول: يخاف الله سبحانه وتعالى العقبى، أي تبعة هذا الإهلاك، هل هناك غالب يغالب الله؟! الكفار هم أحقر الخلق عند الله، ولا وزن لهم عنده، فأهلكهم.
فقوله: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} يعني: لا يخشى تبعة إهلاكهم؛ لأنه سبحانه وتعالى العزيز الذي لا يغالب، قال الله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23]، وقال: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] وقيل: لا يخاف الله عاقبتها كما يخاف الملوك عاقبة ما يفعلون، وهذا لأهانتهم وبيان أنهم أذلاء عند الله تبارك وتعالى، فالضمير في (يخاف) لله وهو الأظهر، ويجوز عوده لصالح عليه السلام، يعني: أنه لا يخاف عاقبة إنذاره لهم.
وقيل: الضمير للأشقى الذي عقر الناقة، أي: أنه لا يخاف عاقبة فعله الشنيع.
إذاً: الأشقى لا يخاف عقباها؛ فهو أقدم على هذا الفعل وهو لا يخشى عاقبته؛ لأنه كان يكذب الوعيد الذي تهددهم به صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهو لا يخاف عاقبة ما صنع، والواو هنا للحال أو للاستئناف، أي أنه: لا يخاف عقباها حال عقره للناقة.
قال الإمام ابن القيم في مفتاح دار السعادة: والمقصود أن الآية أوجبت لهم البصيرة فآثروا الضلال والكفر عن علم ويقين، ولهذا -والله أعلم- ذكر قصتهم من بين قصص سائر الأمم.
قال الله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء:59]، وقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} [فصلت:17].
يقول ابن القيم: ولهذا -والله أعلم- ذكر الله قصتهم من بين قصص سائر الأمم في سورة (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا)؛ لأنه ذكر فيها انقسام النفوس إلى النفوس الزكية الراشدة المهتدية، وإلى الفاجرة الضالة الغاوية.
وذكر فيها الأصلين القدر والشرع، فقال: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) فهذا قدره وقضاؤه، ثم قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) وهذا أمره ودينه.
فثمود هداهم الله كما في سورة فصلت: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]؛ فذكر الله قصتهم ليبين سوء عاقبة من آثر الفجور على التقوى والتدسية على التزكية.
لكن لماذا خصت سورة الشمس بذكر قصة ثمود دون غيرهم من الأمم المهلكة؟
الجواب
لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في هذه السورة انقسام النفوس إلى الزكية الراشدة، وإلى الغوية الضالة: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) وذكر فيها الخبر والشرع، الخبر في قوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) والشرع في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) فهذا أمره ودينه، فثمود هداهم الله، كما قال الله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) يعني: بينا لهم كل شيء (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) فذكر قصتها ليبين سوء عاقبة من آثر الفجور على التقوى، والتدسية على التزكية، والله تعالى أعلم.(194/7)
تفسير سورة الليل(195/1)
تفسير قوله تعالى: (والليل إذا يغشى وما خلق الذكر والأنثى)
سورة الليل سورة مكية، وآياتها إحدى وعشرون آية، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ (هلا صليت بـ (سبح اسم ربك الأعلى)، (والشمس وضحاها)، (والليل إذا يغشى)).
بسم الله الرحمن الرحيم: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل:1 - 3].
قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أي: يغشى الشمس أو يغشى النهار بظلمته، فيذهب بذاك الضياء.
قوله: {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} أي: إذا ظهر بزوال ظلمة الليل أو تبين بطلوع الشمس.
والتعبير في الغشيان بالمضارع (يغشى) وفي النهار بالماضي (تجلى) لقلة أوقات الظلمة، أما النور فهو أسمى مظاهر الوجود حتى عبر به عن الوجود نفسه.
قوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} أي: ومن خلق الذكر والأنثى، فـ (ما) موصولة، (وما خلق) أي: والذي خلق الذكر والأنثى من كل نوع له توالد.
وإنما أقسم الله بذاته بهذا اللفظ (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى) ولم يقل: والله؛ لما فيه من الإشعار بصفة العلم المحيط بدقائق المادة، والإشارة إلى الإبداع في الخلق عند التفريق بين الذكر والأنثى، وأن خلقهما لا يحصل بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها فيما تفعل كما يزعم بعض الجاهلين، فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية، فتكوين الجنين من عناصر واحدة وجعله تارة ذكر وتارة أنثى دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل، محكم لما يصنع.(195/2)
تفسير قوله تعالى: (إن سعيكم لشتى)
قال تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] هذا هو جواب القسم، أي: إن سعيكم مختلف في جزائه، ومفترق في عاقبته، منه ما يسعد به الساعي ومنه ما يشقى به، فشتان ما بينهما كما فصله فيما بعد.
قوله: (شَتَّى) جمع شتيت بمعنى مفترق، و (سعيكم) مصدر مضاف يفيد العموم، فأي مصدر إذا كان مضافاً فإنه يفيد العموم؛ فهو من حيث المعنى جمع، ومن حيث اللفظ مفرد، لذلك أخبر عنه بالجمع في قوله: (شتى) فهو جمع شتيت وهناك وجه آخر وهو أنه: مفرد، وتكون شتى مصدراً مؤنثاً لذكرى وبشرى، وتكون خبراً لسعيكم بتقدير مضاف، أي: ذو شتى، أو بتأويله بالوصف، أي: شتيت، أو بجعلها عين الافتراق مبالغة، ويأتي في القرآن نفس المعنى في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر:20] وأيضاً قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].(195/3)
تفسير قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى فسنيسره لليسرى)
قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل:5].
قوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} هذا تفصيل أنواع السعي المذكور في قوله: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى، فالله عز وجل يفصل تلك المساعي الشتى ويبين مآلها.
وقوله: (أعطى) فيها قولان: القول الأول: أنفق المال في كل أمور الخير، من صدقات وعتق وتقوية المسلمين على عدوهم كما كان يفعل أبو بكر رضي الله تعالى عنه، سواء كان الإعطاء في فرض أو في نفل، وإطلاق هذا كالإطلاق في قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3] فإن المراد منه كل ما كان إنفاقاً في سبيل الله سواء كان واجباً أو نفلاً، وقد مدح الله قوماً فقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]، وقال في آخر هذه السورة {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17 - 18].
القول الثاني: أن قوله: (أعطى) يتناول إعطاء حقوق المال، وإعطاء حقوق النفس في طاعة الله تعالى، فاستفرغ وسعه في طاعة الله تعالى.
والقول الأول هو المناسب للإعطاء، فهو إنفاق المال في جميع أمور الخير؛ لأن المعروف في الإعطاء تعلقه بالمال خصوصاً، وقد وقع في مقابلة ذكر البخل والمال، وهذا يقوي القول الأول، فإنه قال: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى) ثم ذكر في المقابل البخل في المال فقال: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} [الليل:8].
وقوله: {وَاتَّقَى} أي: اتقى ربه فاجتنب محارمه.
قوله: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي: بالمثوبة الحسنى، أي: صدق بموعود الله الحسن، وهو الجنة، قال الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وكما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى:23] فسمى مضاعفة الأجر حسناً.
قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} أي: فسنهيئه ونوفقه للطريقة اليسرى التي هي سلوك طريق الحق، فهذه الطريق تؤدي إلى اليسر وإلى الأمر السهل الذي يستريح به الناس.(195/4)
تفسير قوله تعالى: (وأما من بخل واستغنى فسنيسره للعسرى)
قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8 - 10].
قوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} أي: بخل بالنفقة في سبيل الله، ومنع ما وهبه الله له من فضله، ولم يصرف ماله في الوجوه التي أمر الله بصرفه فيها، واستغنى عن ربه فلم يرغب إليه بالعمل بطاعته، فاستغنى عن ربه، ولا أحد يستغني عن الله، لكن المعنى: لم يرغب إلى الله بالعمل بطاعته أو استغنى بماله عن كسب الفضيلة.
{وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي: بوجود المثوبة الحسنى لمن آمن بالحق واغتر بالحياة الدنيا ولم يستعد لعالم الآخرة.
{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أي: للطريقة العسرى المؤدية إلى الشقاء الأبدي، وهي الطريقة التي يحط الإنسان فيها من نفسه، ويقصر في حقها، وينزل بها إلى حضيض البهيمية، فيغمسها في أوحال الخطيئة، واختيار طريق الفسق والفجور هو أعسر الطريقين على الإنسان.(195/5)
تفسير قوله تعالى: (وما يغني عنه ماله إذا تردى وإن لنا للآخرة والأولى)
قال الله تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} [الليل:11 - 13].
قوله: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} أي: وما يفيده ماله الذي تعب في تحصيله، وأفنى عمره في جمعه، وبطر الحق لأجله، تم مات مثل من تردى من الجبل، وتردى في الهوة؟! وفي التعبير بتردى إشارة إلى أنه بما قدمه من أعماله الخبيثة هو المهلك لنفسه والموقع لها في الهاوية.
وقوله: (ما) نافية، أي: لا يغني عنه ماله أو تكون استفهامية والجواب لا شيء.
قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} أي: علينا بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة أن نبين لخلقنا طريق الهدى، فالله سبحانه وتعالى تكفل بأن يبين للناس طريق الهدى، وقد فعل سبحانه ذلك بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتمكين العقل من الاستدلال.
قوله: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} يعني: ملكاً وخلقاً، فلا يضرنا توليكم عن الهدى؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين لنا الهدى وهو غني عنا، قال سبحانه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] فالله سبحانه وتعالى غني عنكم، وليس بحاجة إلى طاعتكم {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر:15].
فالله تعالى له التصرف المطلق في الدارين، والخلق في قبضة تصرفه، لا يحول بينهم وبينه أحد، ولا ينفعه أحد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
وفي قوله: (وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى) إشارة إلى كمال عظمته، وتكامل قهره وجبروته، وأن من كان كذلك فجدير أن يبادر بطاعته، ويحذر من معصيته.(195/6)
تفسير قوله تعالى: (فأنذرتكم ناراً تلظى الذي كذب وتولى)
قال الله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:14 - 16].
قوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} يعني: الله الذي يملك الآخرة والأولى، وهو غني عن عباده لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم، فمن كان هذا فعله فينبغي للمخلوق أن يبادر نفسه إلى طاعته، وأن يحذر من معصيته؛ ولذلك رتبت هذه الآية: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى) على قوله: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى}.
ومعنى (تَلَظَّى) أي: تتلظى وتتوهج، وهي نار الآخرة.
قوله: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي: كذب بالحق لما جاءه، ((وَتَوَلَّى)) أي: تولى عناداً عن آيات ربه وبراهينها التي وضح أمرها وظهر نورها.
وهذه الآية مما تعلق به بعض المغرورين فزعموا أن قوله تعالى: (لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى) دليل على أنه لا يدخل النار إلا كافر، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأن هذه النار موصوفة بقوله: (نَارًا تَلَظَّى) ولأن النار طبقات، فدرجات الجنة تذهب علواً، ودركات النار تذهب سفلاً، ولأهل النار منازل، وسياق الآيات في الأشقى الذي أتى بأفظع أنواع الكفر والإجرام، فلا ينافي هذا أن هناك من عصاة الموحدين من يدخل النار كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة، فلو كان كل من لا يشرك لا يعذب لم يقل الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، ويكون -على هذا- قوله تبارك وتعالى: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) كلاماً لا معنى له إذا كان العاصي الموحد لا يعذب.
وأيضاً في قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:17 - 18]، فهؤلاء لا يتوب الله عليهم مع أن الفريق الأول ليسوا كفاراً، فالعصاة الموحدون إذا تابوا عند حضور الموت لا يتوب الله عليهم، فالتوبة عند الغرغرة لا تقبل.
إذاً: الذي يموت على شيء من المعاصي أو الكبائر وهو لم يتب منها فإنه تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فلا يصح أن يتعلق بهذه الآية على أنه لا يدخل النار إلا الأشقى؛ لأن أهل النار منازل.(195/7)
تفسير قوله تعالى: (وسيجنبها الأتقى ولسوف يرضى)
{وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21].
قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} أي: ينفق ماله في سبيل الخير، (يَتَزَكَّى) أي: يطهر نفسه من البخل.
{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} أي: من يد يكافئه عليها، فليست صدقاته من باب المكافأة والمعاوضة، فهو لا ينفق لمقابلة إحسان سابق، وإنما ينفق ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى، وطلب مرضاته، لا لغرض مكافأة أو محمدة أو سمعة.
وفي قوله: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى) حصر للأتقى، مع أن الأتقى يعمل أعمالاً صالحة أخرى، لكن انظر إلى الترغيب في هذا العمل الذي استوجب له ذلك: (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) أي: ينفق ليزكي نفسه، ويؤتي ماله لوجه الله لا للمكافأة.
وقوله: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى) (نعمة) نكرة في سياق النفي، فظاهرها العموم، وإذا دخلت (من) على النكرة فهي قطعية في العموم.
قوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} قال ابن جرير: أي: ولسوف يرضى هذا المؤتي ماله في حقوق الله عز وجل يتزكى، بما يثيبه الله في الآخرة عوضاً مما أتى في الدنيا في سبيله إذا لقي ربه تبارك وتعالى.
فقوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} فيه وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها، إذ به يتحقق الرضا، وهذا باعتبار أن فاعل (يرضى) ضمير مستتر يعود إلى الأتقى.
وذهب بعضهم إلى أن قوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} أي: ولسوف يرضى الله عن ذلك الأتقى الطالب لرضاه.
والتعبير بسوف لإفادة أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير، ولا يكفي القليل من المال؛ لأن العبد إذا أراد أن يرضي ربه فلا بد أن ينفق في سبيل الله حتى يرضى الله عنه.(195/8)
سبب نزول قوله تعالى: (وسيجنبها الأتقى ولسوف يرضى)
قال ابن كثير: ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع على ذلك، ولا شك أنه داخل فيها، وأولى الأمة بعمومها.
وقال بعض العلماء: هو أبو بكر في قول جميع المفسرين.
لكن لفظ الآية لفظ العموم، لكن أولى الناس بالدخول في هذا العموم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.(195/9)
ذكر بعض فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه
قال ابن كثير: ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف، وسائر الأوصاف الحميدة رضي الله تعالى عنه، فإنه كان صديقاً سخياً كريماً جواداً بذالاً لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكم من دراهم ودنانير بذلها في ابتغاء وجه ربه الكريم! ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولقد كان فضله وإحسانه على السادات والبؤساء من سائر القبائل، ولهذا قال له عروة بن مسعود -وهو سيد ثقيف يوم صلح الحديبية-: أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
وذلك أن عروة بن مسعود سيد ثقيف قال للنبي عليه الصلاة والسلام: ما أرى حولك إلا أوباشاً خليق بأن يفروا ويدعوك، أي: في ساعة الجد يفر الصحابة عنك ويتركوك لوحدك، فغضب أبو بكر فقال له كلمة شديدة جداً، فقال: من هذا؟! قالوا: أبو بكر.
فقال: أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، ولكن هذه بتلك، يعني: أنت لك فضل علي فيما مضى.
فهذا اعتراف من عروة بن مسعود الثقفي بأن أبا بكر متفضل عليه.
فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل، فكيف إحسانه على المسلمين؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله دعته أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة نودي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام نودي من باب الريان، فقال أبو بكر: هل من أحد يدعى من هذه الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم) رواه البخاري.
والأحاديث في مناقب أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه كثيرة جداً، فلـ أبي بكر حق في عنق كل واحد من هذه الأمة؛ لأن أبا بكر هو الرجل الثاني في الإسلام، وأبو بكر أفضل البشر بعد الأنبياء رضي الله تعالى عنه.
فلـ أبي بكر مكانة عظيمة جداً في الإسلام، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى قال: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فكان الله معهما، وليس هذا فحسب بل لقب بعد وفاة النبي عليه السلام خليفة رسول الله، فالله مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع الخليفة، وما نودي أحد بهذا اللقب إلا أبا بكر؛ لأن عمر لما صار خليفة رأى أن اللقب سيطول، فيقال: خليفة خليفة رسول الله، ثم يقال: خليفة خليفة خليفة رسول الله؛ فاستبدل ذلك اللقب بلقب أمير المؤمنين.
وفضائل أبي بكر رضي الله تعالى عنه يطول الحديث فيها جداً، وفيها مصنفات مستقلة.(195/10)
ضلال الرافضة الذين يسبون الصحابة
ينبغي أن نحذر من أن يختل ميزان الولاء والبراء في قلوبنا؛ لأن بعض الناس ينبهر بأفعال الشيعة، وأفعال إيران، ويتغاضون عن جريمتهم في سب الصحابة، لا سيما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فينبغي للمسلم ألا ينخدع وينبهر بهم لمجرد مواقف حصلت مما يسمى بحزب الله ضد اليهود، ولو كانت هناك دولة إسلامية سنية لظهر منها أضعاف أضعاف أضعاف هذه المواقف ضد اليهود، لكن أهل السنة والجماعة ليس لهم دولة على وجه الأرض، ولا توجد دولة تطبق الإسلام كما أنزله الله، فأهل السنة مقهورون في كل مكان، بل ومحاربون، أما الشيعة فصارت لهم دولة، فلذلك يسمع لهم هذا الصوت، ويحصل انبهار بأفعالهم، لكن نحن لا نحبهم أبداً وهم يبغضون أصحاب الرسول عليه السلام، وما يجتمع في قلب مؤمن أبداً حب الصحابة وحب من يسب عائشة ومن يكفرها ويلعنها وأباها كما في دعاء صنمي قريش الذي وقع عليه الخميني، وهما عندهم أبو بكر وعمر والعياذ بالله! وفيه: اللهم العن صنمي قريش وطاغوتيهما وزوجتيهما وابنتيهما والعياذ بالله! فهذا كلام كله حقد على الصحابة، فمهما فعلوا لا يشفع لهم إزاء هذه الجريمة العظمى التي فيها تكذيب قول الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] فهم يقولون: الصحابة شر الأمة، والمناقب يحولونها إلى مثالب، فيأتون إلى قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] وهي أعظم منقبة لـ أبي بكر، حيث اختاره النبي عليه السلام إياه رفيقاً له في الهجرة، فكيف يتصرفون في هذه الآية وهم يسبون أبا بكر؟ يقولون: الرسول عليه السلام اصطحب أبا بكر معه حتى لا يدل قريشاً عليه! ويقولون: أبو بكر لقي كاهناً في الجاهلية، فأخبره أنه سوف يبعث نبي، فاقترب منه حتى تكون خليفة له، ويكون لك الملك من بعده! كل هذا أساطير وخرافات؛ لأن التضحية إذا لم تبن على إيمان صحيح وعقيدة صحيحة لا تجدي على الإطلاق، وكم من شجاعة معروفة عن أناس من الكفار، لهم مواقف كثيرة جداً في التضحية في كثير من البلاد الكافرة.
والمعلوم أنه توجد قرابة كبيرة بين الرافضة واليهود، وبينهم مودة عظيمة، فالذي أسس دين الرافضة هو يهودي اسمه عبد الله بن سبأ، وكان يلقب بـ ابن السوداء.
والشاهد أن القرآن يثني في آيات كثيرة جداً على أبي بكر وعمر والصحابة أما هؤلاء فإنهم يكفرون الصحابة إلا خمسة أو ثلاثة، بل كل الأمة مرتدة عن الإسلام في زعم هؤلاء المجرمين الأفاكين الحاقدين على خير أمة أخرجت للناس.
وهذه المسألة ليست مسألة جزئية، بل هي من صلب عقيدتنا؛ ولذلك ينص العلماء في كتب العقيدة على حب الصحابة، فحب الصحابة ليس اختيارياً، بل لها قوانين وضوابط بحسب بلائهم في نصرة الدين، وفي سبيل نشره.
والصحابة في الحكم والموالاة لهم ترتيب معين، فأفضل الصحابة على الإطلاق هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ثم عمر، ولذلك يجب أن يكون للصحابة ترتيب معين في قلب المسلم، ولا يجتمع حب الصحابة مع حب أعداء الصحابة الذين يلعنونهم.
وهناك أهداف كثيرة مشتركة بين اليهود وبين الروافض، والأيام ستكشف شيئاً منها، ولو كان الرافضة يريدون أن يحرروا الأقصى فما الذي يمنعهم؟! يقول الرافضة: الطريق إلى القدس يمر بمكة! يعني: لازم يحررون مكة من الاستعمار الأمريكي من أجل أن يبدءوا في تحرير القدس، فطريق القدس عندهم يمر بمكة.
وعلينا نحن المسلمين ألا نغتر بالمواقف السياسية التي تحصل من الرافضة، كمواقف الخميني أو حزب الشيطان الذي هو حزب حسن نصر الله، فنحن في زمان مقفر، ما نجد أحداً يتكلم بعزة إلا هؤلاء، لأن لهم دولة، ولو كان لأهل السنة والجماعة -الذين هم أهل الحق وأصحابه- دولة تعمل بالإسلام كما أنزله الله سبحانه وتعالى؛ لكان هناك أضعاف أضعاف هذه المواقف.
والرسول عليه الصلاة والسلام عندما ذكر افتراق الأمة قال: (كلها في النار إلا واحدة، فسئل عنها فقال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
فالنجاة لا تكون إلا على مثل ما كان عليه الصحابة، فهل يجتمع هذا السبيل مع محبة من يلعن الصحابة ويكفرهم، ويقول عنهم: منافقون وزنادقة كـ الخميني وغيره من هؤلاء المجرمين الضالين؟! ونحن لا ننسى الحادثة التي حصلت في المدينة وبسببها أوقف الحذيفي إمام المسجد النبوي، وذلك أن رئيس إيران رفسنجاني دخل المسجد النبوي، فدخل الحجرة النبوية، ووقف أمام قبر الرسول عليه السلام وسلم عليه، ثم لعن أبا بكر وعمر، فالحارس أبلغ الشيخ الحذيفي، فجعل خطبة الجمعة في البراءة من هؤلاء الرافضة، فأوقفته الدولة السعودية عن الخطابة إرضاءً لإيران.
إن الشعوب التي عاشرت الرافضة يعرفون حقدهم وعداءهم للمسلمين، والشيعة يخدعون الناس بالتقية، إذا واجهتهم يقولون لك: الصحابة رضي الله عنهم، وعائشة هي أم المؤمنين، وهكذا! فالكذب عندهم عبادة، ويسمونها التقية.
والقرآن عندهم محرف، ويعتقدون أن ثلاثة أضعاف القرآن فقدت، وينكرون أن أبا بكر جمع القرآن، وينكرون مناقبه رضي الله تعالى عنه، وأنه الرجل الثاني في الإسلام، وأفضل البشر بعد الأنبياء على الإطلاق.
فلا تغض الطرف عن شيء غير قابل للتهوين من فعلهم، فكيف تحب هؤلاء الذين يلعنون الصحابة ويكفرون الصحابة، ويجعلون لعنهم أفضل من التسبيح والتهليل والتكبير؟! فينبغي الكلام في الشيعة بالتفصيل حتى يكون عندنا بصيرة، وحتى لا يتهاون في هذا الأمر، ولا يغتر بالفكر الرافضي.
وقد ألف أحد الرافضة كتاباً أسماه: (أهل السنة والجماعة شعب الله المختار) فاعتبرهم مثل اليهود! ومما يغيض أنك تجد بعض الشباب المسلم ينبهر بالشيعة، ويغض الطرف أو يحاول أن يعمي نفسه عن حقيقة هؤلاء الذين هم مع أعداء الله من اليهود والنصارى في خندق واحد ضد أهل السنة، ولا شك في هذا، فهؤلاء أعداء لنا، ولو تمكنوا منا لن يرحمونا، فينبغي الحذر منهم.(195/11)
تفسير سورة الضحى(196/1)
حكم التكبير عند قراءة سورة الضحى وما بعدها من السور وكيفيته
سورة الضحى هي السورة الثالثة والتسعون من سور المصحف الشريف، وهي سورة مكية، وآيها إحدى عشرة.
قال ابن كثير: روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقرىء، قال: قرأت على عكرمة بن سليمان، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد، فلما بلغت {وَالضُّحَى}، قالا لي: كبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة، فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك، وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس رضي الله عنهما فأمره بذلك، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب رضي الله عنه فأمره بذلك، وأخبره أبي أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك.
فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي من ولد القاسم بن أبي بزة وكان إماماً في القراءات، فأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازي وقال: لا أحدث عنه، وكذلك قال أبو جعفر العقيلي: هو منكر الحديث، لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في شرح الشاطبية عن الشافعي: أنه سمع رجلاً يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال: أحسنت وأصبت السنة.
وهذا يقتضي صحة هذا الحديث.
ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته، فقال بعضهم: يكبر من آخر: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] وقال آخرون: من آخر {وَالضُّحَى}.
وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول: الله أكبر، ويقتصر.
ومنهم من يقول: الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر.
وذكر القراء في مناسبة التكبير من أول سورة الضحى: أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتر تلك المدة، ثم جاء الملك فأوحى إليه {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2]، إلى آخر السورة بتمامها كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً وسروراً، ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف، فالله تعالى أعلم.(196/2)
تفسير قوله تعالى: (والضحى والليل إذا سجى)
قال الله عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2].
قوله تعالى: (وَالضُّحَى)، تقدم في تفسير سورة الشمس: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، تفسير الضحى بالصعود وارتفاع النهار ارتفاعاً عالياً، قال تعالى: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98]، أي: وقت ارتفاع النهار ارتفاعاً عالياً.
قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى): أي: اشتد ظلامه، وأصله من التسجية وهي التغطية لستره بظلمته، كما في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ:10]؛ لأن هذا الليل يستر ويغطي.
ويقال: سجى بمعنى أظلم، وقيل: ذهب، وقيل: أقبل، وقيل: سكن، وقيل: استقر ظلامه.
قال الطبري: قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى)، يعني: والليل إذا سكن بأهله وثبت بظلامه، كما يقال: (بحر ساج) إذا كان ساكناً.
وأرجح الأقوال في معنى سجى: سكن واستقر ظلامه وثبت.(196/3)
تفسير قوله تعالى: (ما ودعك ربك وما قلى)
قال تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]، هذا هو جواب القسم، والمعنى ما تركك وما قطعك قطع المودع.
قال الشهاب في العناية: إنه عبر عن التوديع بالترك هاهنا، وفيه من اللطف بالنبي عليه الصلاة والسلام والتعظيم له ما لا يخفى؛ فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته، كما قال المتنبي: حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا فلم أدر أي الظاعنين أشيع والمعنى: أن هذا المحبوب لما حصل الفراق وودعنا، فروحي ونفسي أيضاً فارقتني معه ليس هو وحده فقط، حتى إنني احترت أي واحد منهما أودع، أَأُودع هذا المحبوب الذي فارقني أم أودع روحي أو نفسي التي فارقتني أيضاً؟! فهذا شاهد على أن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته.
وقيل في شرح الوداع: الوداع له معنيان في اللغة: الترك، وتشييع المسافر، فإن فسر بمعنى تشييع المسافر على طريق الاستعارة يكون فيه إيماء إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يتركه أصلاً، وأنه معه أينما كان في كل حال وفي كل زمان، أما الترك لو تصور في جانبه فهو يدل على الرجوع، فالتوديع إنما يكون لمن يحب ويرجى عوده، وإليه أشار الأرجاني بقوله: إذا رأيت الوداع فاصبر ولا يهمنك البعاد وانتظر العود عن قريب فإن قلب الوداع عادوا أي: أن قلب كلمة (عادوا) هو (وداع).
فهذا فيما يتعلق بالتوديع.
والتوديع كما يقول أبو حيان: مبالغة في الودع؛ لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك.
كما قلنا: إن التوديع يكون بالترك، ويكون بتشييع المسافر.
وقوله عز وجل: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)، يعني: ما تركك وما أعرض عنك، فهذا يؤكد نفس المعنى في قوله تعالى: (مَا وَدَّعَكَ).
وقال بعضهم: وهذا لم أر من ذكره مع غاية لطفه، وكلهم فسروه بالمعنى الأول: (وَدَّعَكَ) بمعنى: تركك.
ولما رأوا صيغة الفعل تفيد زيادة المعنى والمبالغة فيه، فيقتضي الانقطاع التام، قالوا: إن المبالغة في النفي لا في المنفي.
وقرئ: (ما وَدَعَكَ) بالتخفيف، يعني: ما تركك.
وهناك شاهد من السنة في استعمال كلمة ودع بمعنى ترك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره)، قوله: (من ودعه) يعني: تركه الناس وابتعدوا عنه، اتقاء لسانه وبذاءته وفحشه.
وورد شاهد أيضاً في الشعر يقول الشاعر: فكان ما قدموا لأنفسهم أعظم نفعاً من الذي ودعوا يعني: من الذي تركوا.
وقال أبو الأسود: ليت شعري عن خليل ما الذي نما له في الحب حتى ودعه يعني: حتى تركه.
وقال الشاعر أيضاً: وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر يعني: هناك تركنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف السيوف.
وبعضهم استبعد قراءة اسمها: (ودعت) باعتبار أن استعمال ودع في اللغة العربية نادر، لكن يكفي أن القرآن الكريم ورد به، فما دامت صحت هذه القراءة فلا عبرة في هذه الحالة بكلام النحاة.
وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وإن كان استعمالها نادراً.
وقد كان أحد الأدباء يكتب مقالات لبعض المجلات السيارة فلما عنّ له السفر كتب يودع القراء بقوله: أودعكم والله يعلم أنني أحب لقاكم والركون إليكمُ وما عن قلى كان الرحيل وإنما دواعٍ تبدّت فالسلام عليكمُ قوله: (وما عن قلى كان الرحيل) يعني: ليس هذا الرحيل عنكم هجراً ولا إعراضاً ولا بغضاً؛ لأن القلى يكون تركاً ينضم إليه بغض.
فقوله تعالى: (وَمَا قَلَى) يعني: ما هجرك عن بغض.
وقال الشهاب: وحذف مفعول قلى اختصاراً للعلم به، وهنا عدة أراء: قوله: (وَدَّعَكَ) فالمفعول هنا هو حرف الكاف، بينما هنا في كلمة (قلى) اقتصر على الفعل وحذف المفعول، الذي هو الكاف، فقال بعضهم: إنما اختصرها للعلم بها، وليجري على نهج الفواصل التي في السورة: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:3 - 5]، أو لئلا يخاطبه بما يدل على البغض، فمجرد وضع الضمير مع الفعل لم يرضه الله لنبيه عليه الصلاة والسلام، فما بالك بالفعل نفسه، فهو سبحانه لم يقل: (وما قلاك) مع أنه ينفيها، لكن أراد ألا يتعب قلب نبيه عليه الصلاة والسلام إذا قرن الضمير بالفعل مثل قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} إلى قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} [الأحزاب:35]، فقوله: (والذاكرات) أي: والذاكرات لله كثيراً، لكن حذفت للعلم بها، وأيضاً مراعاة للفواصل.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (وَمَا قَلَى) حذف كاف الخطاب لثبوتها في قوله: (ودعك) فدلت عليها.
وقال بعضهم: تركت لرأس الآية، يعني: مراعاة للفواصل، والذي يظهر من لطيف الخطاب ورقيق الإيناس ومداخل اللطف، أن الموادعة تشعر بالوفاء والود، يعني: كلمة التوديع مأخوذة من توديع المسافر.
مثلاً: الذي يودع المسافر ويخرج معه مسافة هم أحبابه الذين يريدون أن يبقوا معه إلى آخر لحظة ممكنة، حتى يتحرك القطار.
إذاً: التوديع يكون فيه ملاطفة وود ومحبة ووحدة، فالموادعة تشعر بالوفاء والود، فمن ثم أبرزت فيها كاف الخطاب (مَا وَدَّعَكَ) يعني: لم تتأت موادعتك وأنت الحبيب والمصطفى المقرب صلى الله عليه وسلم.
أما (قلى) ففيها معنى البغض فلم يناسب إبرازها؛ إنعاماً في إبعاد قصده صلى الله عليه وسلم بشيء من هذا المعنى؛ لأنه ما قلاه، كما تقول لعزيز عليك: لقد أكرمتك وما أهنت، ولقد قربتك وما أبعدت، وهذا المثال فيه إمعان في نفي الإهانة ونفي الإبعاد.
والقلى يمد ويقصر وهو يعني: البغض.
يقول الشاعر: أيام أم الغمر لا نقلاها ولو تشاء قفلت عيناها وقال كثير عزة: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت جاء في السيرة ما يشهد لهذا المعنى ويبين دوام موالاته سبحانه وتعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم وعنايته به وحفظه له، فهو سبحانه ما تركه أبداً، فقد سخر له سبحانه عمه أبا طالب لينصره ويحفظه وقال عمه أبو طالب في ذلك شعراً: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفيناً هذا ناشئ عن محبة طبعية؛ لأنه ابن أخيه، لكن ليست محبة شرعية.
وذكر ابن هشام في رعاية عمه له صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا جن الليل وأرادوا أن يناموا فرش لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أولاده، حتى إذا أخذ كل مضجعه عمد عمه إلى واحد من أبنائه فأقامه وأتى بمحمد صلى الله عليه وسلم لينام موضعه، ويجعل ولده مكان محمد صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان هناك من رأى مكانه في أول الليل ثم جاء يريده بسوء وقع السوء لابنه، وسلم محمد صلى الله عليه وسلم، كما فعل الصديق رضي الله تعالى عنه عند الخروج إلى الهجرة في طريقهما إلى الغار.
(لقد كان أبو بكر رضي الله عنه في طريق الهجرة تارة يمشي أمامه صلى الله عليه وسلم وتارة يمشي وراءه، فسأله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك) يعني: أتذكر العدو فأكون أمامك حتى إذا كان هناك سوء يصيبني قبلك، ثم أتذكر الطلب من الخلف فأكون وراءك حتى إذا كان هناك سوء يصيبني ولا يصيبك.
ويقول القاسمي رحمه الله تعالى: روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه القرآن أبطأ عنه جبريل أياماً فعير بذلك، فقال المشركون: ودعه ربه وقلاه، فأنزل الله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]) وفي رواية: (إن قائل ذلك إمراة أبي لهب) وفي أخرى: (إنها خديجة رضي الله تعالى عنها) ولا تنافي لاحتمال وقوعه من الجميع، إلا أن خديجة لو صح أنها قالت له ذلك فيكون على سبيل التوجع والحزن والأسف.
وفي رواية إسماعيل مولى آل الزبير قال: (فتر الوحي حتى شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأحزنه، فقال: لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني -يعني: جبريل- فجاء جبريل بهذه السورة {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2]).(196/4)
تفسير قوله تعالى: (وللآخرة خير لك من الأولى)
قال عز وجل: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:3 - 4].
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى)، فخير تأتي مصدراً كقول الله سبحانه والله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة:180]، قوله: (ترك خيراً) يعني: مالاً كثيراً بمعنى المصدر، وتأتي أفعل تفضيل محذوفة الهمزة بمعنى أخير.
وهي هنا أفعل تفضيل: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ) والدليل هنا على أنها أفعل تفضيل قوله: (من).
مما يدل على أن الله سبحانه وتعالى أعطاه في الدنيا خيرات كثيرة، وما يكون له في الآخرة فهو خير وأفضل مما أعطاه في الدنيا، فيتوهم بعض الناس من الآية: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى)، أن الآخرة خير له صلى الله عليه وسلم وحده من الأولى.
فجاء النص يدل على أن هذا ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده، بدليل قوله تبارك وتعالى: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران:198]، أي: للأبرار من المؤمنين، وكما قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:13] وقال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان:5].
أما بيان الخيرية هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففيها بيان ثواب الخيرية له في الدنيا، ثم الأفضل منها هو ما يكون في الآخرة، وصيغة أفعل التفضيل تأتي للمفاضلة بين طرفين يشتركان في أصل الوصف، بل إن أحدهما يزيد على الآخر، حينما تقول: علي أقوى من حسن، يعني: كلاهما مشترك في صفة القوة، لكن الأول أقوى من الثاني في هذه الصفة، فكذلك قوله: (خير لك من الأولى) تتضمن أن الدنيا خير له أيضاً، لكن الآخرة أفضل وأخير له من الأولى.
فأما الخيرية التي آتاه الله إياها في الدنيا، فأشار إليها القرآن الكريم في هذه السورة وفي التي بعدها، ففي هذه السورة قال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6] يعني: تعهده الله سبحانه وتعالى منذ ولادته ونشأته صلى الله عليه وسلم فصانه عن دنس الشرك وطهره، وشق صدره ونقاه، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش صلى الله عليه وسلم، حتى روي أن عمه قال عند خطبته خديجة له صلى الله عليه وسلم: فتى لا يعادله فتى من قريش حلماً وعقلاً وخلقاً إلا رجح عليه.
كذلك قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:7 - 8] فهي نعم يعددها الله سبحانه وتعالى عليه، وهي من أعظم خيرات الدنيا من صغره إلى شبابه وكبره.
ثم اصطفاؤه بالرسالة، ثم حفظه من الناس: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
ثم نصره على الأعداء، وإظهار دينه وإعلاء كلمته.
أيضاً من الناحية المعنوية، قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1 - 4].
أما خيرية الآخرة على الأولى، فهي في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، يعني في الآخرة، وليس بعد الرضا مطلب.
وفي الجملة فإن الأولى دار عمل وتكليف وجهاد، والآخرة دار جزاء وثواب وإكرام، فهي لا شك أفضل من الأولى.
قال ابن جرير: أي: وللدار الآخرة وما أعد الله لك فيها خير لك من الدار الدنيا وما فيها.
ثم يقول: فلا تحزن على ما فاتك منها، فإن الذي لك عند الله خير لك منها.
وقال القاضي: (وَلَلآخِرَةُ) يعني: لنهاية أمرك خير من بدايته، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يزال يتصاعد بالرفعة والكمال.(196/5)
تفسير قوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى)
قال عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5].
أي: يعطيك من فواضل نعمه في العقبى حتى ترضى، وهذه عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا.
وبعض الناس أخطأ في تفسير هذا العطاء فقال: هي الشفاعة في أمته حتى يرضى.
فعن ابن عباس قال: (عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفتح على أمته من بعده كفراً كفراً -يعني: بلداً بلداً- فسر بذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:4 - 5])، قال ابن كثير: إسناده صحيح، ومثله لا يقال إلا عن توقيف.
ولذلك عمم القاسمي هنا فقال: وهذه عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين، وظهور الأمر وإعلاء الدين من فتوح واقعة في عصره صلى الله عليه وسلم، وفي أيام خلفائه الراشدين، وغيرهم من ملوك الإسلام، وفشو دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، ولما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وبالجملة هذه الآية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع السعادة، وثبوت الإنعام في الدارين، حيث أجمله ووكله إلى رضاه، وهذا غاية الإحسان والإكرام.
يعني: سيظل يعطيك ويوالي عليك النعم في الدنيا والآخرة حتى ترضى.
وقوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) هذه الآية كنا قد أشرنا إليها مراراً أن بعض العلماء قال: إنها أرجى آية في القرآن الكريم، ووجه ذلك أن الله يشفعه في أمته حتى يرضى.
وروى بعض الناس في ذلك بعض الأحاديث، وهي لا تصح، ومن هذه الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام قال عند نزول هذه الآية الكريمة {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]: (إذاً: لا أرضى، وواحد من أمتي في النار) وإذا صح الحديث فإن المقصود بالأمة أمة الإجابة.
وعبر بعض الشعراء عن هذا المعنى فقال: قرأنا في الضحى ولسوف يعطي فسر قلوبَنا ذاك العطاءُ وحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساءُ هناك نصوص كثيرة في القرآن وفي السنة فيها أن من مات من أهل الكبائر وأهل المعاصي دون توبة يعذب في النار، وهناك أناس من الموحدين سوف يدخلون النار، ومنهم من يخرج بالشفاعة، ومنهم من يمكث إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، والحديث معروف في آخر من يخرج من النار.
إذاً: هناك من يعذب في النار، ويبقى إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، لكنه لا يخلد فيها.
وهذا الحديث: (إذاً: لا أرضى وواحد من أمتي في النار) إذا صح فيكون معناه: إذاً: لا أرضى وواحد من أمتي يخلد في النار، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يرضيه ما يرضى ربه عز وجل، وهذا الحديث لم يثبت.
ثم إن التعلق بهذا المعنى يفتح على الناس باب التواكل، ويغتر به بعض الجهال من أنه لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار، فهو من غرور الشيطان لهم ولعبه بهم؛ فإنه صلوات الله عليه وسلامه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى، وهو سبحانه وتعالى يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة، وقد ولع الحشوية بتقوية أمثال هذه الآثار المفتراة؛ تغريراً للجهال، وتزييناً لموارد الضلال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إذاً: الله سبحانه وتعالى حكم عدل، كما أن إدخال الجنة يكشف عن صفات الرحمة والإحسان والتفضل والإكرام، كذلك أيضاً كونه شديد العقاب فيعذب الكفار بعد إنذارهم، أو يعذب العصاة بعد إقامة الحجة عليهم، فهذا أيضاً يكون مظهراً لعدله وحكمته، وهذه من صفات كماله سبحانه وتعالى.
إذاً: هذا الكلام يتعارض مع النصوص التي وردت من كون العصاة يدخلون النار فضلاً عن الكفار، مما ينبغي الحذر منه، وعدم الاعتراف بأقوال هؤلاء الشعراء وبهذه الروايات الضعيفة؛ لأنه لا يفرح بها كثيراً إلا المرجئة.
ونحن قلنا: إذا صح قوله: (لا أرضى وواحد من أمتي في النار) فالمقصود أمة الإجابة، وإن كان هناك أحاديث أخرى فيها معنى قريب من هذا، لكن ليس بنفس الإطلاق، مثل حديث: (لا أزال أشفع يوم القيامة فأشفع حتى يناديني ربي: أقد رضيت يا محمد؟! فأقول: أي رب رضيت) هذا في حق من أذن له في الشفاعة فيهم.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وقول عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أمتي أمتي، وبكى، فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام: اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله: ما يبكيك؟ فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره، فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام: اذهب إلى محمد فقل له: إن الله يقول لك: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوءك).
فهذا يئول بالشفاعة وبغير ذلك.
أما أنه لا يدخل أحد من أمته النار على الإطلاق، وأن هذا هو الذي يرضيه، فنحن نقول: يرضيه ما يرضي ربه تبارك وتعالى.(196/6)
تفسير قوله تعالى: (ألم يجدك يتيماً فآوى)
قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6].
هذا تعديد لما أفاض عليه من أول أمره إلى ذلك الوقت.
يعني: من أول نشأته يتيماً والله سبحانه وتعالى يرعاه ويحفظه ويكلؤه.
فهذا تعديد لما أفاض عليه عز وجل من أول أمره إلى ذلك الوقت، من فنون النعماء العظام؛ ليستشهد بالحاضر الموجود على المترقب الموعود.
فقوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) هذه كلها في الماضي، حتى يستشهد بالحاضر في إحسان الله فيما مضى، على إحسانه المترقب بقوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى).
يعني: أنت قد لمست ذلك في ما مضى، فقطعاً سوف يحصل هذا فيما يستقبل ويكون أمرك إلى ازدياد.
يقول الشاعر: إن رباً كفاك بالأمس ماكان فسيكفيك في غد ما يكون فيطمئن قلبه وينشرح صدره، والهمزة لإنكار النفي وتقرير المنفي على أغلب وجه، كأنه قيل: قد وجدك يتيماً فآوى، وقد وجدك ضالاً فهدى.
والوجود هنا بمعنى العلم، روي أن أباه مات وهو في بطن أمه، وماتت أمه وهو ابن ست سنين، فكفله جده عبد المطلب ثم مات جده وهو ابن ثمان سنين ثم كفله عمه أبو طالب وعطف عليه فأحسن تربيته، وذلك إيواؤه عليه الصلاة والسلام المذكور في قوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى).(196/7)
تفسير قوله تعالى: (ووجدك ضالاً فهدى)
قال عز وجل: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7].
أي: غافلاً عما أوحاه إليك من الهدى والفرقان، فهداك إليه وجعلك رسولاً له، كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52].
وقال الشهاب: الضلال مستعار من ضل في طريقه إذا سلك طريقاً غير موصلة لمقصده؛ لعدم ما يوصله من علوم نافعة من طريق الاكتساب.
يعني: لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يسلك طريقاً يوصله للعلوم الفكرية التي ينالها الإنسان بالكسب، وإنما كان الذي امتن الله عليه به هو علم وهبي وليس كسبياً؛ لأن النبوة لا تكتسب، والله سبحانه وتعالى امتن على النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الوحي الذي هو العلم الوهبي.
وقال بعضهم: قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) يعني: وجد قومك ضالين فهداهم بك، على تقدير مضاف، كما في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، يعني: واسأل أهل القرية.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتاب (دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب) قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) هذه الآية الكريمة يوهم ظاهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ضالاً قبل الوحي، مع أن قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] يدل على أنه صلى الله عليه وسلم فطر على هذا الدين الحنيف، ومعلوم أنه لم يهوده أبواه ولم ينصراه ولم يمجساه، بل لم يزل باقياً على الفطرة حتى بعثه الله رسولاً، ويدل لذلك ما ثبت من أن أول نزول الوحي كان وهو يتعبد في غار حراء، فذلك التعبد قبل نزول الوحي دليل على بقائه صلى الله عليه وسلم على الفطرة.
والجواب أن معنى قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)، أي: غافلاً عما تعلمه الآن من الشرائع وأسرار علوم الدين، التي لا تعلم بالفطرة ولا بالعقل، وإنما تعلم بالوحي، فهداك إلى ذلك بما أوحى إليك.
فمعنى الضلال على هذا القول: الذهاب عن العلم.
وفي القرآن الكريم أن الضلال يطلق على الذهاب عن العلم بالنسيان أو نحو ذلك، ومنه قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]، فقوله: (أن تضل) أي: تذهب عن العلم، ومنه أيضاً قوله تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52] يعني: لا يذهب عن العلم، وكذلك قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95].
ويقول الشاعر: وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلاً أراها في الضلال تهيم إذاً: قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) يعني: ووجدك غافلاً عن هذا العلم، كما قال تعالى: {وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] أي: قبل القرآن، وقال عز وجل: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113] وقال عز وجل: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86].
وبعضهم فسر الضلال في قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) تفسيراً حسياً فقال: هو أنه ضل الطريق وهو صغير في شعاب مكة.
وقيل: ضل الطريق في سفره إلى الشام، والقول الأول هو الصحيح، والله تعالى أعلم.(196/8)
تفسير قوله تعالى: (ووجدك عائلاً فأغنى)
قال تبارك وتعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:8].
قوله: (عَائِلًا) أي: فقيراً.
قوله: (فَأَغْنَى) يعني: فأغناك بمال خديجة رضي الله عنها الذي وهبته إياك، أو بما حصل لك من ربح في التجارة.
وقيل في تفسيرها: رضاك بما أعطاك من الرزق؛ لأن الغنى كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس).
ويقول الشاعر: غنيت بلا مال عن الناس كلهم إلا الغنى العالي عن الشيء لا به فغنى النفس أعلى درجات الغنى.
فقوله: (عَائِلًا) أي: فقيراً، يقول الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل يعني: وما يدري الغني متى يفتقر.
وقال ابن قتيبة: العائل الفقير.
أي فقير يسمى عائلاً، سواء كان له عيال أو لم يكن له عيال، لكن يقال: عال يعيل إذا افتقر.
وأعال يعني: كثر عياله، كما قال تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3].(196/9)
تفسير قوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر)
قال عز وجل: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9]، لا تنهره على ماله، فتذهب بحقه استعطافاً منك له.
قوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10].
قال ابن جرير: أي: وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره، ولكن أطعمه واقض له حاجته؛ لأن للسائل حقاً كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25].
قوله تعالى: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره.
فالمسلم إما أن يعطي وإما أن يقول كلمة طيبة، كما قال الله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء:28]، فإذا أردت أن ترده ترده بكلمة طيبة، يقول الشاعر: لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال يعني: أنفق الكلمات الطيبة التي لا تكلفك شيئاً.
وقال الله سبحانه وتعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263].
يعني: قد يلح السائل في السؤال فيحاول أن يحرج المسئول ويستفزه إذا أحس أنه لن يعطيه شيئاً، فقال الله سبحانه وتعالى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ) يعني: إما أن تقول قولاً معروفاً، وأيضاً مغفرة يعني: تتجاوز عما يحصل منه من الأذى أو الإلحاح أو الإحراج أو نحو ذلك، فلا ترد عليه إذا قال كلاماً لا ينبغي.
وقال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السؤّال يحملون زادنا إلى الآخرة.
يعني: لو كنت مسافراً من مكان إلى مكان بعيد ومعك الزاد والمتاع الثقيل فقال لك رجل: أنا أحمل عنك هذا المتاع وأوصله إلى المكان الذي تريده.
فهو يشبه السؤّال الذين يسألون الصدقات بعمال البريد، يعني: أنهم ينقلون لنا الزاد من الدنيا إلى الآخرة.
وقال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: السائل بريد الآخرة، يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء؟! يعني: هل تريد أن تبعث لوالدك أو لوالدتك أو لقريبك الذي مات بشيء؟! وقد ذهب الحسن فيما نقله الرازي عنه إلى أن المراد من السائل من يسأل العلم، فيكون في مقابلة قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]، يعني: كما أنك كنت غافلاً عن هذا القرآن، وعارياً من هذا العلم النبيل، ثم إن الله سبحانه وتعالى هداك إليه بالتعليم وبالهبة وبالوحي، فتقابل هذه النعمة بألا تنهر من يسألك أو يسترسل من علمك.
قال ابن كثير: أي: وكما كنت ضالاً فهداك الله، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد.
ويؤيد هذا المعنى ما ورد في أحوال الذين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم بيان ما يشتبه عليهم، فمنهم: أهل الكتاب الممارون، ومنهم: الأعراب الجفاة، ومنهم: من كان يسأل عما لا يسال عنه الأنبياء، فلا غرو أن يأمره الله تعالى بالرفق بهم، وينهاه عن نهرهم، كما عاتبه على التولي عن الأعمى السائل في سورة عبس.
وقال ابن العربي رحمه الله تعالى: وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم على الكفاية.
(وكان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث فيبسط رداءه لهم ويقول: مرحباً بأحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أنه كان إذا أتاه طلبة العلم يقول: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الناس لكم تبع، وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً).(196/10)
تفسير قوله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث)
قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]، ما المراد بهذه النعمة؟ قيل: هي النبوة، وقيل: القرآن، وقيل: هي عامة في جميع الخيرات.
فالتحديث بنعمة الله يكون بشكرها وإظهار آثارها، كما جاء في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عليه ثياب رثة فسأله: ألك مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل المال آتاني الله سبحانه وتعالى، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: من كان له مال، فليرى أثر نعمة الله عليه وكرامته)، فهذا تحديث فعلي بنعمة الله، وكذلك يشرع الحديث القولي إذا أمن الإنسان العجب، فيتحدث بنعمة الله تبارك وتعالى عليه.
أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد أوجب الله عليه التحدث بهذه النعم بشكرها وإظهار آثارها، وعلى المسلم أن يحرص على أن تقضي الحاجات من طريقه، وهذا هو سر الأمر بالتحدث بها، فالغني مثلاً يظهر أثر النعمة عليه بحيث يتوجه الفقير إليه ويسأله.
وفي الآية تنبيه على أدب عظيم: وهو التصدي للتحدث بالنعمة وإشهارها؛ حرصاً على التفضل والجود والتخلق بالكرم، وفراراً من رذيلة الشح الذي رائده كتم النعمة والتمسكن والشكوى، ومن عادة البخلاء أن يكتموا مالهم؛ لتقوم لهم الحجة في خفض أيديهم عن البذل، فلا تجدهم إلا شاكين من القل، أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل ما آتاهم الله من فضله، ويجهرون بالحمد بما أفاض عليهم من رزقه، فالتحديث بالنعمة كناية عن البذل وإطعام الفقراء وإعانة المحتاجين، فهذا هو معنى قوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).
ويشهد لذلك قول الله تعالى: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) فأنت عرفت في نفسك ما يكون فيه الفقير، فأوسع في البذل على الفقراء، وليس القصد في مجرد ذكر الثروة، فإن هذا يتنزه عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يذكر ما عنده من نقود وعروض، ولكن الذي عرف عنه أنه كان ينفق ما عنده ويبيت طاوياً صلى الله عليه وسلم.
وقد يقال: إن المراد من هذه النعمة النبوة، ولكن سياق الآيات يدل على أن هذه الآية مقابلة لقوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} فيقابلها قوله عز وجل هنا: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}، فتكون النعمة بمعنى الغنى، ولو كانت بمعنى النبوة لكانت مقابلة لقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر).(196/11)
تفسير سورة الشرح(197/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك)
سورة الشرح هي السورة الرابعة والتسعون، وهي سورة مكية، وقيل: مدنية، وهذا أقوى، فإن استقرار هذه النعم المعدودة فيها إنما كان بالمدينة النبوية كما لا يخفى، وآيها ثمان.
قال تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
قوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)، أي: ألم نوسعه بإلقاء ما يسره ويقويه، وإظهار ما خفي عليه من الحكم والأحكام، حتى علم ما لم يعلم، وصار مستقر الحكمة، ووعاء حقائق الأنباء.
والهمزة لإنكار النفي، ونفي النفي إثبات، ولذا عطف المثبت عليه {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2].
ما معنى قوله: نفي النفي إثبات؟ معنى ذلك: أن الهمزة نفسها فيها معنى النفي، ثم أتت بعدها أداة نفي وهي (لم)، فنفي النفي إثبات، كما قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]، وقال أيضاً على لسان فرعون: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء:18].
وقال الشاعر: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح إذاً: هذا استفهام معناه التقرير، فقوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) فيكون معنى الآية: قد شرحنا لك صدرك، فلذلك عطف على هذا قوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2].
وأصل الشرح بسط اللحم ونحوه مما فيه توسيع مستلزم لإظهار باطنه وما خفي منه.
واستعمل في القلب الشرح والسعة؛ لأنه محل الإدراك لما يسر وضده، فجعل إدراكه لما فيه مسرة، يزيل ما يحزنه فرحاً وتوسيعاً؛ وذلك لأنه بالإلهام ونحوه مما ينفس كربه ويزيل همه، وبظهور ما كان غائباً عنه وخفياً عليه مما فيه مسرته، كما يقال: شرح الكتاب: إذا وضحه، ثم استعمل الشرح في الصدر، والصدر محل القلب؛ لأن اتساع الشيء يتبعه اتساع ظرفه، ولذا تسمع الناس يسمون السرور بسطاً ثم سموا ضده ضيقاً وقبضاً.(197/2)
تفسير قوله تعالى: (ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك)
قال تبارك وتعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:2 - 3].
الوزر: هو الحمل الثقيل، ووضعه: إزالته عنه؛ لأنه إذا تعدى بعلى كان بمعنى التحميل، وإذا تعدى بمن كان بمعنى الإزالة، مثلاً تقول: وضعت على الجمل الأثقال.
هذا بمعنى التحميل، لكن وضعت عنه هذه الأثقال بمعنى الإزالة.
قوله: (الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ) الإنقاض: هو حصول النقيض بالضاد، والنقيض هو صوت فقرات الظهر.
وقيل: صوت الجمل أو الرحل أو المركوب إذا ثقل عليه، فالإنقاض التثقيل في الحمل حتى يسمع له نقيض، أي: صوت.
وقال ابن عرفة: هو الأثقال يجعل ما حمل عليه نقضاً، أي: مهزولاً ضعيفاً، وقد مثل بذلك حاله صلى الله عليه وسلم مما كان يثقل عليه ويهمه من كثرة المستهزئين بدعوته، وضعف من سبق إلى الإيمان به، وشيوع الشرك والضلال في جزيرة العرب، وقوة أهلها؛ ووضع الأثقال عنه هو كثرة من آمن به، ودخولهم في دين الله أفواجاً، وقوة أتباعه، وانمحاء الشرك والجاهلية من الجزيرة، وذل أهلها بعد العز، وانقيادهم بعد شدة الإيذاء.
وقيل: الآية كناية عن عصمته وتطهيره من دنس الآثام، كما قال الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:2].
والوجه الأول أقوى؛ لأن الوزر هو حال النبي عليه الصلاة والسلام مما كان يثقل عليه من تألمه بحال المستهزئين به، وعدم استجابتهم له، وضعف أتباعه إلى آخره.
وسبق أن تكلمنا بالتفصيل في سورة الفتح، في تفسير قوله تعالى: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)) وبينا أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم من المعاصي، وأن الأنبياء كلهم معصومون من المعاصي والآثام، وأن ما ورد في الكتاب أو السنة مما يفهم منه خلاف ذلك فهو محمول على أحد أمرين: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما هو خلاف الأولى، فيكون هذا في حقه كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فعد معصية بالنسبة إلى مقامه العالي الشريف وعوتب عليه.
وإما أن يكون عليه الصلاة والسلام اجتهد في هذا الأمر وظن أنه يوافق مرضاة الله، ثم بعدما فعله اتضح أنه بخلاف ذلك، فعد ذنباً بهذا الاعتبار، لكن تعمد مخالفة أمر الله لا تصدر عنه.
والقاعدة المقررة عند أهل السنة: هي عصمة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.(197/3)
تفسير قوله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك)
قال عز وجل: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] يعني: بالنبوة، وفرض الاعتراف برسالتك.
ولذلك: يجب على كل إنسان من البشر أن يؤمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان به شرط في قبول الإيمان وصحته؛ ولأنه لا يمكن أبداً أن يدخل أحد الجنة بعد بعثته صلى الله عليه وسلم إلا من طريقه.
وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة عليه الصلاة والسلام، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
وقال مجاهد: لا أُذكر إلا ذكرت معي.
قال الشهاب: وهذا -أي: قول مجاهد - إن أخذ كلية خالف الواقع؛ فإنه كم ذكر لله وحده، وكم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وحده، وإن عين موضعاً فهو ترجيح بلا مرجح، وإن جعلت القضية مهملة فلا يخفى ما في الإهمال من الركاكة.
فينبغي لمن كان من أهل العلم أن يناقش الكلام بتمحيص، فهنا مجاهد رحمه الله فسر قوله: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) بقوله: لا أُذكر إلا ذكرت معي.
فيفهم منها على إطلاقها أنه لا يمكن أن يذكر الله إلا ويذكر معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا لا يوافق الواقع؛ لأن ما أكثر ما يقول المسلم: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، دون أن يذكروا معه النبي صلى الله عليه وسلم، وكم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وحده.
ثم قال الشهاب: وقد أمعنت فيه النظر حتى لاح لي أن الجواب الحق أن يقال: الذكر محمول على الذكر في مجامع العبادة ومشاهدها، فإن ذكره صلى الله عليه وسلم مقرون بذكره في الصلوات وفي الخطب، فلا ترى مشهداً من مشاهد الإسلام إلا وهو كذلك، فلا ينفك ذكره صلى الله عليه وسلم عن ذكره تعالى في يوم من الأيام، ولا ليلة من الليالي، بل ولا في وقت من الأوقات المعتد بها فتتجه الكلية.
وعلى هذا التفسير نقبل القاعدة الكلية التي أطلقها مجاهد في تفسير الآية بقوله: لا أُذكر إلا ذكرت معي، يعني: لا أذكر في مجامع العبادة ومشاهدها، كصلاة العيد وصلاة الجمعة.
والتشهد في الصلاة مثلاً، وفي الأذان إلا ذكرت معي.
في الأذان كما قال حسان بن ثابت وهو يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: أغر عليه للنبوة خاتم من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقول الإمام الصرصري: لا يصح الأذان في الفرض إلا باسمه العذب في الفم المرضي ويقول أيضاً: ألم تر أنا لا يصح أذاننا ولا فرضنا إن لم نكرره فيهما ويقول الشاعر أيضاً: يا آل بيت رسول الله حبكم من الله فرض في القرآن أنزله يكفيكم من عظيم المجد أنه من لم يصل عليكم فلا صلاة له صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى: أنه لا يوجد وقت على الإطلاق إلا ويذكر فيه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأرض كروية، والليل هنا يكون نهاراً في مكان آخر، فتنتقل مسافات الزمن، ونحن الآن ندرك هذه الأمور بما اكتشف من العلوم الحديثة، بحيث لو اتصلت إلى أمريكا في الساعة الثامنة والربع مساءً فإن الوقت عندهم يكون الساعة الواحدة والنصف ظهراً؛ لأن الوقت يترحل باستمرار يقول عز وجل: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5].
يقول: فلا ينفك ذكره صلى الله عليه وسلم عن ذكره تعالى، لا ينفصل عنه في يوم من الأيام، ولا ليلة من الليالي، بل ولا في وقت من الأوقات المعتد بها، فتتجه الكلية، أي: قول مجاهد: لا أذكر إلا ذكرت معي.
فإن قلت: من أين لك هذا التخيير؟ فهل هو إلا ترجيح من غير مرجح؟ قلت: المقام ناطق بهذا القيد، فإن المراد التنويه بذكره صلى الله عليه وسلم وإشاعة قدره، الدال على قربه من ربه، كقرب اسمه من اسمه، وإنما يكون هذا بذكره في المحافل والمشاهد والجوامع والمساجد، وأي إشاعة أقوى من الأذان، لا في الأسواق والطرق التي يطرح فيها كل ذكر.
ثم قال: واعلم أن تحقيق هذا المقام ما قاله الإمام الشافعي في أول رسالته الجديدة وبينه بالتفصيل، فقال رحمه الله تعالى: قول مجاهد في تفسير الآية: لا أذكر إلا ذكرت معي، أي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
يعني: ذكره عند الإيمان بالله، والأذان، ويحتمل ذكره عند تلاوة القرآن، وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية.
قال السبكي: هذا الاحتمال من الشافعي جيد جداً، وهو مبني على أن المراد بالذكر الذكر بالقلب؛ لأن الفاعل للطاعة أو الكاف عن المعصية امتثالاً لأمر الله تعالى به ذاكر للنبي صلى الله عليه وسلم بقلبه؛ لأنه المبلغ لها عن الله، وهذا أعم من الذكر باللسان؛ فإنه -أي: الذكر باللسان- مقصور على الإسلام عند الدخول في الإسلام والأذان والتشهد والخطبة ونحو ذلك.
قال الشافعي: فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت نلنا بها حظاً في دين أو دنيا، أو رفع عنا بها مكروه فيهما أو في واحد منهما إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها.
فعلم من هذا أنه إن أبقى العموم والحصر على ظاهره، حمل الذكر على الذكر القلبي، فيشمل كل موطن من مواطن العبادة والطاعة، فإن العاقل المؤمن إذا ذكر الله تذكر من دل على معرفته وهداه إلى طاعته، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قيل: فأنت باب الله أي امرئ أتاه من غيرك لا يدخل ولك أن تقول: المراد برفع ذكره عليه الصلاة والسلام تشريفه بمقارنته بذكره في شعائر الدين الظاهرة، وأفضلها كلمتا الشهادة، وهما أساس الدين، ثم الأذان والصلاة والخطب كلها تنحصر في شعائر الدين.
يقول الشيخ عطية سالم: وقد نص القرآن أن الله جعل الوحي ذكراً له ولقومه، فقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:43 - 44].
ومعلوم أن ذكر قومه ذكر له، كما قال الشاعر: وكم أب قد علا بابن ذرى رتب كما علت برسول الله عدنان فتبين أن رفع ذكره صلى الله عليه وسلم، إنما هو عن طريق الوحي، سواء كان بالوقوف على توجيه الخطاب إليه كمثل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، والتصريح باسمه في مقام الرسالة {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29]، أو كان في فروع التشريع كما في الأذان والإقامة، والتشهد والخطب والصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم.(197/4)
تفسير قوله تعالى: (فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً)
قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6].
قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، إشارة إلى أن الذي منحه صلى الله عليه وسلم من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر بعد ضيق الأمر، واستحكام حلقات الكرب في أول السير، كان على ما جرت به سنته تعالى في هذا النوع من الخليقة، وهو أن مع العسر يسراً، ولهذا وصل العبارة بالفاء التي هي لبيان السبب، فَإِنَّ سببية.
و (أل) في قوله: (العسر) للاستغراق، يعني: مع كل عسر.
ولكنه استغراق بالمعهود عند المخاطبين من أفراده وأنواعه، فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف، ودهن الصديق وقوة العدو وقلة الوسائل إلى المطلوب، ونحو ذلك مما هو معهود ومعروف.
فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت، وكانت النفس حريصة على الخروج منها ظافرة لكثرة شدتها، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل ما من شأنه أن يعد لذلك في معروف العقل، واعتصمت بالتوكل على الله، حتى لا تدركها الخيبة لأول مرة.
ولا تضر عزيمتها بما تلاقيه عند الصدمة الأولى، فلا ريب في أن النفس تخرج منها ظافرة، وقد كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ضيق الأمر عليه كان يحمله على الفكر والنظر، حتى آتاه الله ما هو أكبر من ذلك وهو الوحي والنبوة.
ثم لم تكسر مقاومات قومه شيئاً من عزمه، بل ما يزال يلتمس الغنى في الفقر، والقوة في الضعف، حتى أوتي من ذلك ما زعزع أركان الأكاسرة والقياصرة، وترك منه لأمته ما تمتعت به أعصاراً طوالاً.
ثم يذكر القاسمي لطيفة حول تنكير قوله: (يُسْرًا) يقول: فتنكير (يُسْرًا) للتعظيم، والمراد يسر عظيم، وهو يسر الدارين، وفي كلمة (مَعَ) إشعار في غاية سرعة مجيء اليسر، كأنه مقابل للعسر.
يعني: أنها تفهم كما في قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7] يعني: الشدة أولاً، ثم يتبع ذلك الفرج.
فأراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل لعباده الأمل في تفريج الكربات، بأن جعل اليسر مقارناً للعسر وليس قريباً منه.
فاستعير لفظ (مع) بمعنى: بعد.
وقوله تعالى: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) تكرير للتأكيد، أو عظة مستأنفة؛ لأن هذا العسر سيأتي بعده يسر آخر، كثواب الآخرة؛ ولذلك جاء في الأثر: (لن يغلب عسر يسرين).
يقول أبو بكر: (إنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة، يجعل الله بعده فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين).
إشارة إلى ما جاء في هذه الآية: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) فالعسر واحد؛ لأنه أتى بـ (أل) أما اليسر فأتى منكراًً فهو يسرين.
فإن المعرف إذا أعيد، يكون الثاني عين الأول، سواء كان معهوداً أو جنساً.
أما اليسر في الآية الأولى وفي الثانية فهو منكر (يُسْرًا) فيكون مغايراً لما أريد بالأول، فلذلك قالوا: لن يغلب عسر يسرين.
يقول الشاعر: إذا اشتد بك العسر ففكر في ألم نشرح فعسر بين يسرين إذا ذكرته فافرح(197/5)
تفسير قوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب)
قال عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7]، أي: إذا فرغت من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك، فانصب، أي: خض في عمل آخر واتعب فيه، فإنك تجد لذة الراحة عقب النصب لما تجنيه من ثمرة العمل.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى بعدما بين أنه لا سبيل إلى الفراغ عند المؤمن الحق، يقول: المؤمن لا يعرف الفراغ، فموضوع ما يسمى ضبط الفراغ، وتجزية وقت الفراغ، حتى يقول قائلهم: أنا أقتل الوقت، وفي الحقيقة هو يقتل نفسه.
النصب: هو التعب بعد الاجتهاد، يقول تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:2 - 3] أي: أنها تعمل وتكد وتجتهد وتكدح فيترتب عليه النصب.
وقد يكون النصب للدنيا أو للآخرة.
فلذلك اختلف في المقصود من قوله هنا: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ)، فقال بعضهم: فانصب في الدعاء، أو في الذكر بعد الفراغ من الصلاة، وقيل: إذا فرغت من الفريضة فانصب في النافلة.
يعني: فاجتهد فيه ما استطعت، والذي يشهد له القرآن، أنه توجيه عام للأخذ بحظ الآخرة، بعد الفراغ من عمل الدنيا، كما في مثل قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، أي: لأنها وقت الفراغ من عمل النهار وسكون الليل، وقال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2]، يعني: أديت مهمة تبليغ الدين، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]، فيكون وقته كله مشغولاً إما للدين وإما للدنيا.
وفي قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) حل لمشكلة الفراغ التي شغلت العالم، حيث لم تترك للمسلم فراغاً في وقته؛ لأنه إما في عمل للدنيا وإما في عمل للآخرة.
ولذلك مر بعض السلف بأناس يلهون فقال: ما بهذا أُمر الفارغ.
يعني: من فرغ من العمل ما أمر باللعب واللهو، إنما أمر بالنصب وتلا قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ).
وعن عمر أنه قال: (إني لأكره لأحدكم أن يكون خالياً سبهللاً، لا في عمل دنيا ولا دين).
لذلك السلف لم يعرفوا مشكلة الفراغ وضياع الوقت، فالوقت هذا أعظم نعمة كما قال عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
فالفراغ رأس مال الإنسان وهو الوقت، فمن جمع الله له الأمرين: الصحة والفراغ، فهما أعظم نعمة، ومغبون من ضيع الصحة والفراغ، ممكن واحد معه صحة، لكن ليس عنده فراغ، ممكن واحد عنده فراغ، لكنه مبتلى بالأمراض والأوجاع، فلا يستطيع استثمار هذه النعمة، لكن إذا جمع الله لك هاتين النعمتين: الصحة والفراغ؛ فاعلم أنهما أعظم نعمة.
فلذلك ينبغي على الإنسان أن يحافظ على الوقت والصحة.
وقد ذكر الألوسي في قوله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ قراءة شاذة: (فإذا فرغت فانْصِب) بمعنى التنصيب، يعني: عيِّن الإمام من بعدك.
وهذا هو مذهب الشيعة الضلال، فالشيعة قالوا: (فَإِذَا فَرَغْتَ) إذا فرغت من أعباء النبوة وأديت ما عليك، فنصب علياً إماماً، هذا من إلحادهم في آيات الله وما أكثرها.
وقال الألوسي: ليس الأمر متعيناً بـ علي.
الألوسي يرد على الشيعة، يقول لهم: ليس الأمر متعيناً بـ علي؛ لأن السني قد يقول: معنى قوله: (فانصب) يعني: نصب أبا بكر رضي الله عنه، كذلك إذا احتج الشيعي بما كان في غدير خم، احتج السني بأن وقته لم يكن وقت الفراغ من النبوة، بينما الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) وهذا كان بعد بعد حادثة غدير خم، وكان قرب فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة؛ لأنه كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم، فأولى أن يكون هذا في حق أبي بكر.
وعلى كل حال إذا كان الشيعة يحتجون بهذه القراءة، فيكفي لرد احتجاجهم أنها شاذة، وتتبع الشواذ قريب من التأويل المسمى باللعب عند علماء التفسير، وهو صرف اللفظ عن ظاهره لا لقرينة صارفة ولا علاقة رابطة.
ولقد استطرد الشيخ عطية سالم وذكر صوراً أخرى من اللعب في التأويل في هذه الآية الكريمة، يقول: ومن اللعب في التأويل في هذه الآية ما يفعله بعض العوام، يقول: رأيت رجلاً عامياً عادياً قد لبس حلة كاملة من عمامة وثوب قصير وحزام جميل مما يسمونه نصبة -النصبة يعني: بدلة كاملة- فقال له رجل: ما هذه النصبة يا فلان؟ فقال له: لما فرغت من عملي نصبت كما قال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ.
وسمعت آخر يتوجع لقلة ما في يده، ويقول: يا فلان! ألا تعرف لي شخصاً أنصب عليه، يعني: أقترض منه، فقلت له: ولم تنصب عليه، والنصب كذب وحرام؟ فقال: إذا لم يكن عند الإنسان شيء، ويده خالية فلا بأس، إذا فرغت يدك من الأموال (فانصب) فلا بأس؛ لأن الله قال: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وهذا وأمثاله مما يتجرأ عليه العامة لجهلهم، أو أصحاب الأهواء لضلالهم.
يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ)، أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطاً فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة، ومن هذا القبيل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء).(197/6)
تفسير قوله تعالى: (وإلى ربك فارغب)
قال تبارك وتعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:8] يعني: وإلى ربك ترغب، التقديم هنا مشعر بالتخصيص، مثل قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: لا نعبد غيرك، وهكذا هنا لا ترغب إلى غيره سبحانه وتعالى.
كأنه يقول: الذي أنعم عليك بكل ما تقدم هو الذي ترغب فيما عنده لا سواه؛ لأنه سبحانه هو الذي أنعم عليك بكل هذه النعم المعدودة في سورة الضحى والشرح.
فإذا كان كل هذه النعم هي من عند الله، فلا ينبغي أن ترغب إلا بما عند الله سبحانه وتعالى لا فيما سواه: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ).
يقول القاسمي: قوله: (فإذا فرغت) أي: من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك.
قوله: (فانصب) أي: خض في عمل آخر واتعب فيه، فإنك تجد لذة الراحة عقب النصب بما تجنيه من ثمرة العمل.
قوله: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي: في الدعوة إليه، ولا ترغب إلا إلى ذاته، دون توان أو غرض آخر، لتكون دعوتك ووجهتك إليه وحده.
وقال ابن جرير: اجعل نيتك ورغبتك إليه دون من سواه من خلقه، إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الأنداد.
يقول القاسمي: والأظهر عندي اعتماداً على ما صححناه من أن الآية مدنية، وأنها من أواخر ما نزل، وأن يكون معنى قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) أي: إذا فرغت من مقارعة المشركين، وظفرت بأمنيتك منهم بمجيء نصر الله والفتح، فانصب في العبادة والتسبيح والاستغفار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(197/7)
تفسير سورة التين(198/1)
تفسير قوله تعالى: (والتين والزيتون وهذا البلد الأمين)
سورة التين هي السورة الخامسة والتسعون، وهي مكية، وقيل: مدنية، والأرجح الأول لقوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3]، إشارة إلى المكان الذي نزلت فيه السورة، وهو مكة.
وآيها ثمان.
عن البراء بن عازب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بـ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1]، فما سمعت أحسن صوتاً أو قراءة منه) أخرجه الجماعة.
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3].(198/2)
أقوال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: (والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين)
اعلم أن المفسرين لم يختلفوا في أن البلد الأمين هو مكة المشرفة، الآمن أهلها أن يحاربوا، فهذا الحرم آمن وأمين في اللغة بمعنى: آمن، كما قال الشاعر: ألم تعلمي يا أسم ويحكِ أنني حلفت يميناً لا أخون أميني! أميني: أي: آمني، فمكة هي البلد الأمين، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67].
أما المقسمات بها قبل ففيها أقوال للسلف؛ لاحتمال موادها لكل البشر، وقد أقسم بأربعة أشياء وهي: التين، والزيتون، وطور سنين، وهذا البلد الأمين.
فالثلاثة الأولى هي محل الخلاف، لكن البلد الأمين لم يختلف في أنها مكة، فعن مجاهد والحسن أن التين: الذي يؤكل، والزيتون: الذي يُعصر، قالوا: وخصّهما لكثرة فوائدهما وعظم منافعهما.
وعن قتادة قال: التين: هو الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس.
وعن كعب وابن زيد: التين: مسجد دمشق، والزيتون: بيت المقدس.
وعن ابن عباس: التين: مسجد نوح الذي بُني على الجودي، والزيتون: بيت المقدس.
فظهر أنهما الشجرتان المعلومتان أو جبلان أو مسجدان.
وصوّب ابن جرير الأول منها، وهو: أن التين والزيتون هما الشجرتان المعروفتان، حيث قال: والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: التين هو التين الذي يؤكل، والزيتون: هو الزيتون الذي يُعصر منه الزيت؛ لأن ذلك هو المعروف عند العرب، ولا يُعرف جبل يسمى تيناً، ولا جبل يقال له: زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام: القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون، فيكون ذلك مذهباً، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك دلالة في ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوّز خلافه؛ لأن دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون.
انتهى كلامه وفيه نظر؛ لأن مَن حَفظ حجة على من لم يحفظ.(198/3)
كلام القاسمي في قوله تعالى: (والتين والزيتون)
يقول القاسمي معلقاً على كلام ابن جرير: لا، مَن حفظ حجة على من لم يحفظ، ومعروف في التاريخ القديم أن جبل الزيتون جبل بفلسطين، يكون معروفاً ذلك عند علماء أهل الكتاب والمؤلفين.
قال صاحب الذخيرة في تعداد جبال فلسطين: ويتصل بجبال إسرائيل جبل الزيتون، وقد دعي كذلك لكثرة الزيتون فيه، وهو قريب المسافة من أورشليم، وفيه صعد المسيح لكي يرتفع إلى السماء، ويسمى أيضاً: طور زيتا إلى الآن، أي: جبل الزيتون.
فعلى قول ابن جرير الطبري: إن التين والزيتون هما الشجرتان.
وكان طور سينين موضعاً أو مكاناً، والبلد الأمين مكان، فإذا أمكن أن نحمل التين والزيتون على أنهما منابت التين والزيتون، أو أنهما موضعان، فسيكون هناك اتفاق بين المقسمات كلها.
ثم يقول القاسمي: على أن في ما قرره ابن جرير تبقى المناسبة بينهما وبين طور سينين والبلد الأمين، وحكمة جمعهما معاً في نسق واحد غير مفهوم، فالأرجح أنهما موضعان أو موضع واحد معروف، ويكون المقسم به ثلاثة مواضع مقدسة.(198/4)
كلام ابن كثير قي قوله تعالى: (والتين والزيتون)
قال ابن كثير: وقال بعض الأئمة: هذه محالّ ثلاثة -أي: أماكن ثلاثة- بعث الله من كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار.
فالأول: محلة التين والزيتون، وهو بيت المقدس الذي بعث الله فيه عيسى بن مريم عليهما السلام.
والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء، وسيناء: الجبل الذي كلّم الله عليه موسى بن عمران.
والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسل فيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة وفيها: (جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران).
وهذا اللفظ موجود في التوراة إلى اليوم، وهو بشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يستطيع أن ينكره إلا مكابر.
قوله: (جاء الله من طور سيناء)، أي: الذي كلم الله عليه موسى، (وأشرق من ساعير)، أي: جبل بيت المقدس، الذي بعث الله عنده عيسى، (واستعلن من جبال فاران)، فاران: مكة في لغة ما يسمى بـ (العهد القديم)، وجبال فاران: أي: جبال مكة.
ويوجد أيضاً في التوراة لفظ: (إن إسماعيل نشأ في جبال فاران) أو (بين جبال فاران).
قال ابن كثير: أي: جبال مكة التي أرسل الله منها محمداً صلى الله عليه وسلم، فذكرهم مخبراً عنهم على الترتيب المدني بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف، ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما.
انتهى كلام ابن كثير.(198/5)
كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى: (والتين والزيتون وهذا البلد الأمين)
لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه كتاب: (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح)، وهذا الكتاب من روائع شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو كتاب جدير أن يفنى العمر في دراسته؛ لأنه كتاب قيم جداً، ومن أروع الكتب في هذا الفن، والأمريكان من اهتمامهم بهذا الكتاب ترجموه، وتوجد منه نسخة في مكتبة الكونجرس باللغة الانكليزية، مع أن منا من لم يره أصلاً -فضلاً عن أن يقرأه أو يبحث فيه- فليعلم أن هذا الكتاب من أروع الكتب، وأكثر من ألّف في بحث عقيدة النصارى إنما كان عالة على هذا الكتاب.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فصل: شهادة الكتب المتقدمة بنبوته صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول: وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية: جاء الله من طور سيناء.
وبعضهم يقول -في الترجمة-: تجلّى الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران.
قال كثير من العلماء -واللفظ لـ أبي محمد بن قتيبة -: ليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض؛ لأن مجيء الله من طور سيناء: إنزاله التوراة على موسى من طور سيناء، كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا، وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح من ساعير -أرض الخليل- بقرية تدعى: ناصرة، وباسمها يسمى من اتبعه: نصارى.
وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران: إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وجبال فاران هي جبال مكة.
قال: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة، فإن ادّعوا أنها غير مكة، فليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم.
قلنا: أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟! وقلنا: دلّونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران؟! والنبي الذي أنزل عليه كتاباً بعد المسيح؟! أوليس (استعلن) و (عَلِنَ) هما بمعنى واحد، وهو ما ظهر وانكشف؟! هل تعلمون ديناً ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه؟ إن استعلن هي: الظهور والإعلان والانتصار الكبير، وهذا ليس إلا من ملة الإسلام.
وقال أبو هاشم بن ظفر: (ساعير) جبل بالشام، منه ظهرت نبوة المسيح عليه السلام.
قلت -القائل: ابن تيمية -: وبجانب بيت لحم -القرية التي ولد فيها المسيح- قرية تسمى إلى اليوم: ساعير ولها جبال تسمى: جبال ساعير وعلى هذا فيكون ذكر الجبال الثلاثة حقاً، جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه، ومنه كان نزول أول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وحوله من الجبال جبال كثيرة.
وجبل النور أو الجبل الذي فيه غار حراء شكله مميز جداً، حيث ترى المنظر في قبة الجبل كأن الجبل مُنطوٍ يستقبل شيئاً من السماء.
ثم يقول ابن تيمية رحمه الله: (وذلك المكان يسمى (فاران) إلى هذا اليوم، وفيه كان ابتداء نزول القرآن، والبرية التي بين مكة وطور سيناء تسمى: برية فاران، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي، فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني، فذكر إنزال التوراة، ثم الإنجيل، ثم القرآن، وهذه الكتب نور الله وهداه.
وقال في الأول: جاء أو ظهر، وفي الثاني: أشرق، وفي الثالث: استعلن.
وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك، ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى، وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء، ولهذا قال: واستعلن من جبال فاران.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين، كما يظهر نور الشمس إذا استعلت في مشارق الأرض ومغاربها؛ ولهذا سماه الله (سراجاً منيراً)، وسمى الشمس (سراجاً وهاجا).
والخلق يحتاجون إلى السراج المنير أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج؛ فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت، بل قد يتضررون به في بعض الأوقات، وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت وفي كل مكان، ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زُويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها) اهـ.
ونحن نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرجح القول بأن قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] أن القسم هو بالمكان الذي ينبت فيه التين والزيتون، وأيضاً: {وَطُورِ سِينِينَ} [التين:2] مكان، {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3] مكان أيضاً.
وذلك يتضح من قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد الكلام السابق: (وهذه الأماكن الثلاثة أقسم الله بها في القرآن في قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3] الآيات.
فأقسم بالتين والزيتون وهو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك، ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل، وأقسم بطور سيناء، وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى، وناداه من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأقسم بهذا البلد الأمين، وهو مكة، وهو البلد الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه هاجر فيه، وهو الذي جعله الله حرماً آمناًَ ويتخطف الناس من حولهم، وجعله آمناً خلقاً وأمراً، قدراً وشرعاً.
ثم قال شيخ الإسلام في بسط هذه الآيات الثلاث: فقوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3]؛ إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة، التي ظهر فيها نوره وهداه، وأنزل فيها كتبه الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن، كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله: جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران.
ولما كان ما في التوراة خبراً عنها أخبر بها على ترتيبها الزماني، فقدم الأسبق فالأسبق).
إذاً: التوراة جاءت في الترتيب الزماني الأول، حيث بدأ بها بقوله: جاء الله من طور سيناء.
أي: رسالة موسى، وأشرق من ساعير.
أي: رسالة عيسى، واستعلن من جبال فاران.
أي: رسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
ثم قال شيخ الإسلام: (وأما القرآن فإنه أقسم بها تعظيماً لشأنها؛ وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وتعالى وآياته وكتبه ورسله، فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة، فختمها بأعلى الدرجات.
فأقسم أولاً بالتين والزيتون، ثم بطور سينين، ثم بمكة؛ لأن أشرف الكتب الثلاثة: القرآن، ثم التوراة، ثم الإنجيل).
والتوراة أعظم وأهم بكثير من الإنجيل؛ لأن الإنجيل جاء مكملاً ومتمماً فقط، كما قال عيسى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50] إلى آخر الآيات.
لكن الشريعة كاملة كانت في التوراة، فانظر إلى هذه الدقة؛ لأن السياق في القرآن سياق تعظيم لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فبدأ بها حسب دلالتها، فقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] هذه رسالة عيسى، {وَطُورِ سِينِينَ} [التين:2] رسالة موسى عليه السلام، {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3] القرآن الذي أوحاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال شيخ الإسلام: وكذلك الأنبياء، فأقسم بهم على وجه التدريج حسب مقامهم، فهذا كقوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:1 - 4].
فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة، فأقسم بالرياح الذاريات، ثم بالسحاب الحاملات للمطر، فإنها فوق الرياح، ثم بالجاريات يسراً، وقد قيل: إنها السفن، ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير:15 - 16].
انتهى كلامه رحمه الله.
(فالمقسمات أمراً): هي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله.(198/6)
تفسير آخر لقوله تعالى: (والتين)
استظهر بعض المعاصرين أن قوله تعالى: {وَالتِّينِ} [التين:1] أي: شجرة بوذا مؤسس الديانة البوذية، والتي تحرفت كثيراً عن أصلها الحقيقي.
وقال هذا المعاصر: فإن تعاليم بوذا لم تكتب في زمانه، وإنما رويت كأحاديث بالروايات الشفهية، ثم كتبت بعد ذلك حينما ارتقى أتباعه.
ثم قال: والراجح في ذلك -بل المحقق- إذا صح تفسيره لهذه الآية: أنه كان -أي: بوذا- نبياً صادقاً، ويسمى: خيامونجي أو زوناما، وكان في أول أمره يأوي إلى شجرة تين عظيمة، وتحتها نزل عليه الوحي وأرسله الله رسولاً، فجاءه الشيطان ليفتنه هناك فلم ينجح معه، ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين، وتسمى عندهم: التينة المقدسة، وبلغتهم: أجافالا.
ثم قال: ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعظم أديان البشر الأربعة الموحاة منه تعالى لهدايتهم ونفعهم في دينهم ودنياهم، فالقسم فيها كالتمهيد لقوله بعده: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، فبدأ تعالى بالقسم بالبوذية؛ لأنها أقل درجة في الصحة وأشد الأديان تحريفاً عن أصلها، ثم ارتقى إلى النصرانية، ثم اليهودية، ثم الإسلامية إلخ.(198/7)
تفسير قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)
قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] هذا هو المقسم عليه، والمعنى: في تقويمٍ هو أحسن تقويم، فـ (أحسن تقويم) نعت لمحذوف، والتقويم هو التعديل كما في قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً * قَيِّمًا} [الكهف:1 - 2]، والتعديل أو التقويم حسّاً ومعنى، حساً: في شكل الإنسان وبُنيته، حيث يمشي منتصب القامة، ولا يمشي على أربع، وهذه أكمل وأجمل صورة.
وأما معنوياً: فمن حيث أن الله سبحانه وتعالى ميّزه بالروح الإنسانية: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7]، أي: عدلها.
وهذا التقويم الذي قوم الله الإنسان أو عدله عليه هو من دلائل القدرة ودلائل البعث، وبالتالي يكون دليلاً على قدرته على البعث والنشور، كما يقول الشاعر: دواؤك منك وما تشعرُ وداؤك منك وما تبصرُ وتزعم أنك جُرْمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبرُ يقول تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:37 - 40]؟ بلى.
وقوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ) الإنسان هنا مفرد لكنها اسم جنس، والدليل على أنها اسم جنس أنه قال بعدها: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [التين:6] يعني: أن كلمة الإنسان يستثنى منها الذين آمنوا فدلّ على أنها اسم جنس، مثل سورة العصر: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:2 - 3] فهذا الاستثناء يدل على أن كلمة (إنسان) اسم جنس.
قوله: (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي: في أحسن تعديل خلقاً وشكلاً صورة ومعنى، فهو في أحسن صورة وأعدلها.(198/8)
كلام الشنقيطي في قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية الكريمة: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] تُوهم أن الإنسان ينكر أن ربه خلقه، فالكفار لما أنكروا البعث ظهرت عليهم أمارة إنكار الإيجاد الأول؛ لأن من أقر بالأول لزمه الإقرار بالثاني؛ لأن الإعادة أيسر من البدء، فأكد لهم الإيجاد الأول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4].
ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:7]، أي: إذا كان الله هو الذي خلقك وبدأك بأحسن تقويم (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ)، الدين: هو الجزاء، كما قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، يوم الدين: يوم الجزاء.
أي: ما يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالبعث والجزاء بعد علمك أن الله أوجدك أولاً؟! فمن أوجدك أولاً فهو قادر على أن يوجدك ثانياً، كما قال تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79]، وقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] , وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم:27]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5] إلى غير ذلك من الآيات.
فلذلك ذكر تعالى أن من أنكر البعث فقد نسي إيجاده الأول، مع أنه مُقرّ بأن الله هو الذي خلقه، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فهم لا ينكرون أن الله هو الذي خلقهم، لكنهم تصرفوا تصرف الذي ينكر أن الله خلقهم؛ لأنهم ينكرون البعث والنشور، فلذلك زعموا بأنهم أيضاً ينكرون الإيجاد الأول، ولذلك فإن الإنسان لا ينكر البعث والنشور إلا إذا نسي الإيجاد الأول، قال الله سبحانه وتعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79].
وقال تعالى: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ} [مريم:66 - 67].
وفي هذا إشارة إلى أنه ليس من الممكن أنه ينكر النشور إلا إذا نسي البعث، فتأمل كلمة: (أولا يذكر!)، وفي سورة يس: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78]، أي: أنه يقرّ أن الله هو الذي خلقه، لكنه ينسى؛ لأنه بإنكاره البعث والنشور يلزمه أن ينكر أيضاً بداية الخلق، فلذلك هو ينسى الخلق الأول: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم:66 - 67].
وبعض المفسرين قالوا في تفسير: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:7]، أي: من يقدر على تكذيبك يا نبي الله! بالثواب والعقاب بعدما تبين أنا خلقنا الإنسان على ما وصفنا.(198/9)
تفسير قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين) إلى آخر السورة
يقول الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5]، أي: جعلناه أسفل من سَفُل، وهُم أصحاب النار؛ لعدم جريانه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين.
وأسفل سافل للمتعثر المتفاوت؛ لأن دركات النار كلما كانت أسفل تكون أسوأ، فقوله: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5] يعني: أحطّ منزلة، و (ثم) للتراخي الزماني، أو هو رتبي، أو (أسفل سافلين) أي: إلى مكان أشد سفولاً وهو النار بمعنى: جهنم.
وقوله: (أسفل سافلين) قيل: نزلهم منزلة العقلاء، كذا قالوا، ولو قيل: هم أهل النار والدركات؛ لأنهم أسفل السفل لكان أولى.
قوله: (ثم رددناه) يعني: أننا نفعل هذا بكثير من الناس، وليس بكل إنسان، والعرب تقول لمن ينفق: أَنفَقَ ماله على فلان.
مع أنه لم ينفق كل المال، وإنما بعض المال، ويقول تعالى: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18] هل يقصد كل ماله؟ لا، بل بعض ماله.
وبعض المفسرين ذهبوا إلى أن معنى قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، أي: القوة والشباب والفتوة، {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5]، أي: بأن يُردّ إلى أرذل العمر.(198/10)
الاختلاف حول معنى قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين)
يقول تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين:6].
المقصود بهذا الاستثناء قولان: القول الأول: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)) يعني: فإنهم لا يُردون إلى الخرف وأرذل العمر، وإن عُمّروا طويلاً فهم في عافية من أن يصيبهم الخرف ونحوه.
قال ابن عباس: من قرأ القرآن لم يُردّ إلى أرذل العمر.
القول الثاني: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)) أي: فإنهم لا يُردّون إلى النار، فالنار هي المقصودة بقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5].
قوله تعالى: ((فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) أي: غير مقطوع، أو غير منقوص، أو غير محسوب، أو غير ممنون به عليهم، وسبق في سورة القلم البيان بالتفصيل أن هذا التفسير الأخير لا يصح؛ لأن الذي يمنّ هو الله سبحانه وتعالى، فله المنّة وله الفضل، وما من خير إلا من الله سبحانه وتعالى.(198/11)
تفسير ابن جرير لهذه الآيات
وقد اعتمد ابن جرير في تخريج الآية ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن معنى الآية: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5] أي: ثم رددناه إلى أرذل العمر، وأن من كان يعمل بطاعة الله في شبيبته كلها، ثم كبر حتى ذهب عقله، كُتب له مثل عمله الصالح الذي كان يعمله في شبيبته، ولم يؤاخذ بشيء مما عمل في كبره وذهاب عقله من أجل أنه مؤمن وكان يطيع الله في شبيبته.
انتهى كلامه.
وهذا غير صحيح؛ لأن الواقع يشهد بخلافه، فكم نرى من أناس صالحين أصابهم الخرف، مثل بعض علماء الحديث تجد أنه تغير في آخر عمره واختلط حفظه! وهذه سنة الله سبحانه وتعالى، فإن كل كمال يؤول وينتهي إلى النقصان، ومهما بلغ الإنسان فلابد أنه يرجع إلى الضعف، وتضمحل قواه، وهذا ليس بعيب، وإن كان يوجد فعلاً بركة في العمر وفي الصحة لكثير من الناس والعلماء الأفاضل ممن طعنوا في السن، ومع ذلك لم تذهب عنهم العافية، وهذا من بركة القرآن وبركة العلم والطاعة، لكن هل نقول: إن عدم وجودها نذير شؤم وبلاء على صاحبه وعلامة سوء خاتمة والعياذ بالله؟!
الجواب
لا؛ لأنه لا يُتصور أن الإنسان الذي اجتهد طول عمره في الطاعة والاستقامة ثم ابتلي بمرض من أمراض الشيخوخة المعروفة، مثل فقدان الذاكرة أو نحو ذلك أن نعامله كأنه إنسان مجنون.
فالله سبحانه وتعالى هنا كأنه يُطمئن من جرت عليه هذه السنّة حين طعن في السن ورد إلى أرذل العمر أنه ما دام مكلفاً فهو ينال ثواب عمله إذا ابتلي بأي مرض، وبعض الناس لو رأى أحداً ممن ابتلي بالسرطان أو غيره من الأمراض فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه أن هذه علامة سوء! نقول: لا، هذه سنن الله، وهي تمضي على كل خلق الله سبحانه وتعالى، وربما ترتفع بها درجات الإنسان إذا ابتلي بالبلاء الكبير.
وعلى هذا، فقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:6]، كأنها بشارة ومواساة وتعزية لمن يبتلى بمثل هذا، أنه إذا اختلّ عقله مثلاً بسبب كبر السن، فلا يؤاخذ على ما يصدر منه من أشياء غير حميدة، وفي هذه الحالة يبشره الله سبحانه وتعالى أنه ما دام حياً فإنه يجري عليه ثواب الأعمال الصالحة التي كان يعملها قبل أن يبتلى بهذا المرض؛ لأنه ظل مستقيماً إلى آخر إمكانياته.
ولذلك قال تعالى: ((فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) يعني: غير منقطع عند تغير العقل بسبب كبر السن، وسيظل يجري عليه أجره تامّاً، كما جاء في الحديث: (إذا سافر العبد أو مرض كتب الله مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً).
ومثله من كان مواظباً على قيام الليل ثم فاته قيام بعض الليالي لمرض أو نحوه، فإنه يكتب أجره كاملاً كما كان يقوم الليل من قبل، ما دام أن الذي أقعده هو المرض.
فكذلك قوله: ((فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) أي: أنه إذا دخل في هذا السن وأصابه المرض فلا ينقطع أجره، بل يجري عليه أجر ما كان يعمله في حال شبابه وقوته؛ لأنه ما حال بينه وبين الطاعة إلا عذر سماوي لا يد له فيه.
وفي آخر العمر يصيب الإنسان الضعف وذهاب العقل، يقول الشاعر: إن الثمانين وقد بُلَّغْتُهَا أحوجت سمعي إلى ترجمان فالحواس كلها تضعف، والآيات في هذا واضحة بأن معنى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أي: الرد إلى أرذل العمر، يقول تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس:68]، ولذلك قال الله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} أي: لأن الكبير يعود إلى حال الأطفال بالضبط، وكما كانت أمك وهي تنظفك من النجاسات والأقذار دون أن تتأفف أو تتضجر، فإذا احتاجت هي وأبوك لهذا في يوم من الأيام {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23].
قال تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل:70]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم:54] سبحانه وتعالى!!(198/12)
تفسير النخعي وابن قتيبة لقوله تعالى: (فلهم أجر غير ممنون)
يقول النخعي رحمه الله تعالى: إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل، كُتب له ما كان يعمل، وهو قوله تعالى: ((فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)).
وقال ابن قتيبة: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) يعني: إلا الذين آمنوا في وقت القدرة والقوة، فإنهم حال الكبر غير منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات؛ لأن الله تعالى علم أنه لو لم يسلبهم القوة لم ينقطعوا عن أفعال الخير، فهو يجري لهم أجر ذلك.
فكأن الله من رحمته يثيبه على النية، مثلما يحصل في سبب خلود أهل النار وخلود أهل الجنة، فإن الخلود للنية، مع أن الكافر يكفر لفترة سنوات محدودة، والمؤمن يؤمن ويطيع الله لمدة محدودة، وله مقابل إيمانه وعمله الخلود في الجنة؛ لأن المؤمن ينوي أن يستقيم على طاعة الله مهما امتدّ به العمر، ولو عاش للأبد سيظل مستقيماً على طاعة الله، مؤديا ًحق الله، والكافر مُصرّ على الكفر إلى آخر ما أمكنه، فعامل الله هذا بنيته وذاك بنيته.
فكذلك المؤمن في حياته، ما دام ينوي الاستقامة على الطاعة، ثم حيل بينه وبينها بمرض أو عذر، كما في هذه الأحوال التي ذكرنا، فإنه لا ينقطع أجره، بل يستمر وكأنه يعمل نفس الأعمال التي كان يعملها قبل هذه الشيخوخة.(198/13)
إيراد كلام ابن جرير حول هذه الآيات، وما رجح في تفسيرها
قال ابن جرير: (وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة قول من قال: معناه: ثم رددناه إلى أرذل العمر، ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) في حال صحتهم وشبابهم، ((فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) بعد هرمهم، كهيئة ما كان لهم من ذلك على أعمالهم، في حال ما كانوا يعملون وهم أقوياء على العمل).
والسورة فيها الإشارة إلى المراحل التي يمر بها ابن آدم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:4 - 5].
فهذا الكلام جاء في سياق الاحتجاج بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت؛ لأن الآية بعد إقامة هذه الحجة والدليل الواضح على البعث والنشور لا يجرؤ إنسان على أن يكذب بالدين، وهو هنا: الجزاء، لذا قال في آخر السورة: ((فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ)) أي: من الذي يقوى ويتجاسر ويجرؤ على أن يكذب بالبعث والنشور بعد هذه الحجة، وقد احتج الله عليهم بما لا يقدرون على دفعه مما يعاينونه ويحسونه.
يقول الإمام ابن جرير رحمه الله: قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5] فيها احتمالين: الأول: إما (رددناه أسفل سافلين) بأن يُردّ إلى أرذل العمر والكبر.
الثاني: أن يدخل النار في أسفل سافلين.
وسياق الآيات هنا سياق إقامة الحجة عليهم بقدرة الله على البعث والنشور، وأنت إذا أردت أن تقيم الحجة على الخصم، فإنك تأتي له بكلام لا يمكن أن ينكره أو يدفعه، فأنت لو قلت له: إن معنى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:7]، أي: فما يكذبك بعد هذه الحجة -وهي: أن العصاة والكفرة يردون إلى أسفل السافلين من جهنم؟ فمن الممكن أن يقول لك الخصم: أنا أنكر النار أصلاً، ولا يوجد شيء اسمه نار! فالله سبحانه وتعالى هنا في سياق إقامة الحجة بمراحل الخلق لإثبات القدرة على البعث والنشور، أتى بشيء لا يستطيعون أن ينكروه، فهو يصلح أن يكون حجة على البعث والنشور.
يقول الإمام ابن جرير: وإنما قلنا: هذا القول أولى بالصواب في ذلك؛ لأن الله تعالى ذكره أخبر عن خلقه ابن آدم وتصريفه في الأحوال، احتجاجاً بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت، ألا ترى أنه يقول: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:7] يعني: بعد هذه الحجج، ومحال أن يحتج على قوم كانوا منكرين معنى من المعاني بما كانوا له منكرين، وإنما الحجة على كل قوم بما لا يقدرون على دفعه، مما يعاينونه ويحسونه، أو يقرون به وإن لم يكونوا له محسين، وإذا كان ذلك كذلك، وكان القوم للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة منكرين، وكانوا لأهل الهَرَم والخرف من بعد الشباب والجلد شاهدين، عُلم أنه إنما احتجّ عليهم بما كانوا له معاينين من تصريفه خلقه، ونقله إياهم من حال التقويم الحسن والشباب والجلد، إلى الهرم والضعف وفناء العمر وحدوث الخرف.(198/14)
إيراد كلام الشيخ عطية سالم في تتمة أضواء البيان
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: لأن الله تعالى قال في آخرها: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:7] أي: بعد هذه الحجج الواضحة، وهي بدء خلق الإنسان وتطوره إلى أحسن أمره، ثم رده إلى أحط درجات العجز أسفل سافلين، وهذا هو الشاهد لهم، يحتج به عليهم.
أما رده إلى النار فأمر لم يشهدوه ولم يؤمنوا به، فلا يصلح أن يكون دليلاً يقيمه عليهم؛ لأن من شأن الدليل أن ينقل من المعلوم إلى المجهول، والبعث هو موضع إنكارهم، فلا يحتج عليهم لإثبات ما ينكرونه بما ينكرونه، وهذا الذي ذهب إليه.
ومما يشهد لهذا الوجه: أن حالة الإنسان هذه في نشأته من نطفة، فعلقة، فطفلاً، فغلاماً، فشيخاً، فهرماً، فهرم وعجز، جاء مثلها في النبات، وكلاهما من دلائل البعث، كما في قوله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد:20] إلى قوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد:20].
وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [الزمر:21].
فكذلك الإنسان؛ لأنه كالنبات سواء كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح:17 - 18].
ويكون الاستثناء: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)) فإنهم لا يصلون إلى حالة الخرف وأرذل العمر؛ لأن المؤمن مهما طال عمره فهو في طاعة وفي ذكر الله، فهو كامل العقل، وقد تواتر عند العامة والخاصة أن حافظ كتاب الله المداوم على تلاوته لا يصاب بالخرف ولا الهذيان.
وقد شاهدنا شيخ القراء بالمدينة المنورة، الشيخ: حسن الشاعر لا زال على قيد الحياة عند كتابة هذه الأسطر تجاوز المائة بكثير، وهو لا يزال يقرئ تلاميذه القرآن، ويعلمهم القراءات العشر، وقد يسمع لأكثر من شخص يقرءون في أكثر من موضع، وهو يضبط على الجميع.
انتهى كلامه.
وهذا أمر ملاحظ، ولكنه ليس قاعدة في أن من وصل إلى هذه السن وحفظ الله عليه صحته، فإن ذلك يكون بسبب العلم أو نحوه، وليس معناه أن من ابتلي بأمراض الشيخوخة يكون هذا بذنب منه أو أن هذا غمز فيه، لا، بل هذه سنة الحياة.
فمثلاً: العلامة الألباني رحمه الله تعالى توفي عما يقارب تسعين سنة، والشيخ ابن باز كان عمره حوالي واحد وتسعين سنة، رحمهم الله أجمعين.
فهذا موجود ومشاهد، ومن العجيب جداً ما كان من أمر العلامة الكبير القاضي الشيخ عبد الله بن يوسف، الذي تلقيت عنه شيئاً بسيطاً من العلم في أبها، وكان قرين ابن باز أو ربما أكبر منه قليلاً، وهو إلى الآن حي يُرزق، وهو مشهور جداً بصفة معينة -والشيخ عائض القرني باعتباره من بلده يعرف هذه الصفة- وهي: أنه لا يفتر أبداً عن ذكر الله بأي حال من الأحوال، ولا يمكن أن يوقف لسانه عن الذكر مطلقاً، وهذا من العجائب، وهذا الشيخ كبير جداً في السن، ومع ذلك -ما شاء الله- يحفظ بعض كتب العلم بالحرف، فهو يحفظ كتاب (المغني) من الجلدة إلى الجلدة عن ظهر قلب، وأنا كنت أقرأ عليه أحياناً في كتاب (لطائف المعارف) لـ ابن رجب، فكان يصحح لي في الكتاب غيباً.
فالله أعلم، ربما ما تعلم كتاباً إلا وكان حافظاً له.
وقد كان على درجة عظيمة جداً من العلم، وكان إذا تغيب شيخه عن الدرس فإنه يقوم مقامه في إلقاء الدرس للشيخ ابن باز ورفاقه.
وقد كنت أظن أنه توفي؛ لأنه كبير جداً في السن، ولكن قبل شهور قليلة فوجئت بأحد الإخوة من أبها يقول لي: إنه ما زال حياً يُرزق، حفظه الله تعالى.
فالشاهد: أن هذا شيء ملاحظ، وهو أن الله سبحانه وتعالى يحفظ العبد إذا حفظ جوارحه.(198/15)
تفسير سورة البينة(199/1)
ذكر بعض الأحاديث الواردة في فضل سورة البينة
هذه السورة ترتيبها في المصحف: الخامسة والتسعون.
وتسمى بسورة البينة، وسورة لم يكن، وسورة القيمة، وسورة المنفكين، وسورة البريّة.
وعدد آياتها ثمان، وهي مدنية على الأصح.
روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب رضي الله عنه: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال: وسماني لك؟ قال: نعم.
فبكى رضي الله عنه) وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية للإمام أحمد عن أبي حبة البدري قال: (لما نزلت: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا)) [البينة:1] قال جبريل: يا رسول الله! إن ربك يأمرك أن تقرئها أبياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي: إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة، قال أبي: وقد ذُكرت ثَم يا رسول الله؟! قال: نعم، قال: فبكى أبي رضي الله تعالى عنه).
وهذا الحديث فيه فضيلة عظيمة لـ أبي رضي الله تعالى عنه، إذ أمر الله رسوله أن يقرأ عليه هذه السورة، وهذا يشير إلى أنه أقرأ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
واختصاص هذه السورة بالذكر يقتضي اختصاصها وامتيازها بأمور معينة؛ وذلك أن هذه السورة على وجازتها وقصرها اشتملت على أمهات أمور العقيدة والدين من التوحيد والرسالة والإخلاص والصحف والكتب المنزلة على الأنبياء وذكر الصلاة والزكاة والمعاد وبيان أهل الجنة وأهل النار، فكل هذه المعاني الأمهات موجودة في هذه السورة الوجيزة الجامعة.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار لا قراءة تعلم واستذكار.
وذلك بأن يقرأ شخص على آخر إما لأجل التعلم منه، أو الاستذكار، أو العرض عليه، كما يقرأ مثلاً متعلم القرآن على شيخه، فهذه قراءة تعلم، أو يقرأ على صاحبه للاستذكار والمراجعة.
وقال ابن العربي رحمه الله: وفيه -أي: في هذا الحديث- من الفقه: قراءة العالم على المتعلم؛ لأن الأصل أن المتعلم هو الذي يقرأ على العالم، لكن يجوز أن يقرأ العالم على المتعلم.
وقال بعض العلماء: إنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي ليعلم الناس التواضع؛ لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة.(199/2)
تفسير قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب)
قال الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:1 - 3].
قوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) كلمة (منفكين) معناها: منفصلين وزائلين، يقال: فككت الشيء فانفك أي: انفصل، والمراد من الآية: لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم حتى تأتيهم البينة، وقيل: لم يكونوا منتهين عن كفرهم مائلين عنه حتى تأتيهم البينة.
والمراد من قوله عز وجل هنا: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: جحدوا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بعنادهم بعدما تبينوا الحق منها.
وقوله: ((مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) أي: اليهود والنصارى الذين عرفوه صلى الله عليه وسلم، وسمعوا أدلته، وشاهدوا آياته، فإنهم لم يكونوا هم والمشركون وهم وثنيو العرب ((مُنفَكِّينَ)) أي: منفصلين وزائلين عن كفرهم وشركهم، أو منتهين عن كفرهم مائلين عنه ((حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أي: الحجة القاطعة المثبتة للمدعى، وهي هنا النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله تعالى: ((رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ)).
فمجيئه صلى الله عليه وسلم هو الذي أحدث هذه الضجة فيما رسخ من عقائدهم، وتمكن من عوائدهم، حتى أخذوا يحتجون لعنادهم ومكابرتهم بأنه كان شيئاً معروفاً لهم يصلون إليه بما كان لديهم، ولكنه ليس بمستحَقّ أن يتبع، فإن ما هم فيه أجمل وأبدع، ومتابعة الأذى فيه أشهى إلى النفوس وأنفع.
وقوله تعالى: ((حَتَّى تَأْتِيَهُمُ)) عبر هنا بالفعل المضارع الذي يدل على الاستقبال، مع أنها في الماضي، فمعنى ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ)) أي: حتى أتتهم البينة، وتلك البينة التي تعرفهم وجه الحق هي رسول من الله، وأطلق على النبي صلى الله عليه وسلم بيّنة؛ لأنه هو الذي بين لهم ضلالهم وجهلهم، وهذا السياق فيه بيان نعمة الله على من آمن من الفريقين؛ إذ أنقذهم به.
وقيل: معنى الآية: لم يختلفوا أن الله سيبعث إليهم نبياً، فلما بُعث إليهم نبي افترقوا.
وقوله: ((رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ)) هو محمد صلى الله عليه وسلم، ((يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً)) وهي صحف القرآن المطهرة من الخلط والباطل وحذف المدلسين، فلهذا تنبعث منها أشعة الحق فيعرفه طالبوه ومنكروه معاً.
وقوله عز وجل هنا: ((يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً)) المقصود: يتلو ما تضمنته الصحف، والمكتوب فيها، وهو القرآن الكريم، والدليل على أنه يتلو ما تضمنته تلك الصحف وهي القرآن الكريم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن عن ظهر قلب لا من كتاب؛ لأنه كان أمياً عليه الصلاة والسلام.
ثم وصف الله تبارك وتعالى هذه الصحف المطهرة فقال: (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي: مستقيمة لا عوج فيها، واستقامة الكتب اشتمالها على الحق الذي لا يميل إلى باطل، كما قال تعالى في وصف هذا القرآن الكريم: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
وقد اختلف المفسرون في المقصود من قوله تبارك وتعالى: (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)، فقيل: إن هذه الكتب القيمة هي ما تضمنه القرآن الكريم من أحكام.
وقيل: هي اقتباسات من الكتب السماوية التي سبق إنزالها من قبل، فالقرآن فيه أشياء مما في صحف إبراهيم وموسى كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19] أي: هذه المعاني التي وردت في سورة الأعلى.
وكذلك هناك آيات منها قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) أي: في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] إلى آخره، فهذا أيضاً إشارة إلى تلك الكتب القيمة التي أشار القرآن إلى مواضع منها، وكما في آخر سورة الفتح أيضاً: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29]، ثم قال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:29]، فهذا إخبار عن أشياء موجودة في الكتب السابقة قبل إنزال القرآن الكريم، فإن الكتب التي في صحف القرآن هي ما صح من كتب الأولين كموسى وعيسى وغيرهما مما حكاه الله في كتابه عنهم، فإنه لم يأت منها إلا بما هو قوي سليم، وقد ترك حكاية ما لبس فيه الملبسون إلا أن يكون ذكره لبيان بطلانه.
وهذا الكلام فيه نظر، فكيف يُقال: ترك حكاية ما لبس فيه الملبسون وإنما كلامنا هنا عن التوراة والإنجيل اللذين أنزلهما الله؟! لا ما طرأ عليه التحريف من بعد، فهذا الاحتمال غير وارد أصلاً؛ لأن القرآن الكريم حينما يشير إلى الكتب السابقة فالمقصود بها تلك كما أنزلها الله، وليست كما طرأ عليها التحريف، فهذا التعليل بأن الله سبحانه وتعالى قص علينا ما يوافق الحق وكان قوياً وسليماً، كما قال هنا القاسمي، فهذا غير وارد ابتداء؛ لأن هذه الكتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى ليس فيها إلا الحق والتوحيد، فالإشارة هنا إلى الكتب كما أنزلها الله، وليست إلى الكتب المحرفة، فليس هناك حاجة أبداً إلى أن يقول: وقد ترك حكاية ما لبس فيه الملبسون.
يقول: ولهذا لم يجد الجاحدون لرسالته صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب سبيلاً إلى إنكار الحق، وإنما فضلوا عليه سواه، ومعنى (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) يعني: سور القرآن، ((حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أي: الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهناك تفسير آخر لقوله: (يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً) (فالصحف مطهرة) قد يراد بذلك ما بينه تبارك وتعالى في قوله تبارك وتعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، أو أنه في اللوح المحفوظ، و (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) يعني: فيها سور القرآن وآياته، وإنما قيل لها: كتب؛ لأن الكتب -كما قلنا مراراً- هو الجمع، فسميت الآيات والسور كتباً لما جمعت من أحكام وأمور شتى، ((قَيِّمَةٌ)) يعني: عادلة مستقيمة تبين الحق من الباطل.
وهناك قول بأن الكتب المقصود بها الأحكام (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي: فيها أحكام قيمة، واستدل من قال بذلك بقول الله تبارك وتعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] أي: حكَم وقضى الله، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث: (والله! لأقضين بينكما بكتاب الله) أي: بحكم الله؛ لأن الذي قضى به في هذا الحديث ليس مذكوراً في القرآن؛ فدل على أنه حكم الله الذي شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هناك قول بأنها (كتب قيمة) يعني: سور القرآن، فإن كل سورة من سوره كتاب قويم، فصحف القرآن أو صحائفه وأوراق مصحفه تحتوي على سور من القرآن هي كتب قيمة مجموعة قيمة، ولما كان لسائل أن يسأل: إذا كان هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين قد انفكوا عن ذلك الضلال المطبق، وبدا لهم من الحق ما عرفوه كما يعرفون أبناءهم، فما بالهم لم يؤمنوا بهذا الحق الذي جاءهم؟! فأجاب الحق تعالى: بأن أهل الكتاب قد جاءتهم البينة والحجة القاطعة على الحق الذي لا يختلف وجهه بما أوحى الله به إلى أنبيائهم، وكان من حقهم أن يسترشدوا بكتبهم في معرفة سبيله؛ حتى لا ينحرفوا عنه، فإذا عرض لأحد شبهة رجع في تفسيرها إلى العارف بمعاني الكتب، ثم كان عليهم أن يحرصوا على تعلم معانيها، وفهم أسانيدها، وأن يحافظوا عليها؛ حتى لا يضللهم فيها مضلل، لكن هذه البينة لم تفدهم شيئاً، فإنهم اختلفوا في التأويل، وتفرقوا في المذاهب، حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند أهل المذهب الآخر، وكان ذلك بغياً منهم، واستمراراً في المراء، وإصراراً على ما قاد إليه الهوى، وهذا هو قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا} [البينة:4 - 5] يعني: في كتبهم، {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].
وقال بعض العلماء: إن صدر السورة من أول قوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) * (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً) * (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) في مدح الذين آمنوا من أهل الكتاب وأسلموا، ثم من أول قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4] إلى آخره في ذم الذين كفروا ولم يهتدوا بهذه البينة.
ونزيد هذه الآية إيضاحاً؛ لأن للعلماء في هذه الآية كلام مميز.(199/3)
كلام الشيخ عطية سالم في تفسير قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب)
يقول العلامة الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: ذكر هنا الذين كفروا ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) وجاء بعدها ((أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ)) مما يشعر بأن وصف الكفر يشمل كلاً من أهل الكتاب والمشركين، كما يشعر مرة أخرى أن المشركين ليسوا من أهل الكتاب؛ لوجود العطف، فالعطف يقتضي المغايرة.
إذاً فالمشركون ليسوا من أهل الكتاب، وأهل الكتاب ليسوا من المشركين، وهذا لا يؤخذ من مجرد لفظ الآية، وهذا المبحث معروف عند المتكلمين وعلماء التفسير، واتفقوا على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وأن المشركين هم عبدة الأوثان، وأن الكفر يجمع القسمين، ولكن الخلاف: هل يجمعهما الشرك أيضاً أم لا؟ فهل يوصف أهل الكتاب أيضاً بأنهم مشركون كما يوصفون بأنهم كفار؟ يقول الشيخ: بين الفريقين عموم وخصوص، عموم في الكفر، وخصوص في أهل الكتاب لليهود والنصارى، وخصوص في المشركين لعبدة الأوثان.
إذاً: الوصف العام في الكفر، ثم هناك اختص اليهود والنصارى بأنهم يسمون أهل كتاب، واختص عبدة الأوثان بكونهم هم المشركين، وهذا في حدود فهم هذه الآية فقط.
وقد جاءت آيات أخرى تدل على أن مسمى الشرك يشمل أهل الكتاب أيضاً، كما في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:30 - 31] فالشاهد في آخر هذه الآية وهو قوله تعالى: (عَمَّا يُشْرِكُونَ)، ولا شك أن الإشارة هنا إلى اليهود وإلى النصارى، فوصفهم أيضاً بالإشراك، لأن النصارى قالوا: ثالث ثلاثة، واليهود قالوا: عزير ابن الله، واليهود أيضاً مشبهة كما هو معلوم من كفرهم، فهذا من الشرك.
وجاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه منَع نكاح الكتابية، وقال: وهل هل هناك شرك أكبر من قولها: اتخذ الله ولداً؟ فالشاهد هنا في وصف عبد الله بن عمر الكتابية بالشرك، وإن كان جمهور العلماء يختلفون معه في ما ذهب إليه من منع الزواج من الكتابيات، ومن هنا وقع النزاع في مسمى الشرك: هل الشرك يشمل أهل الكتاب أم لا؟ مع أننا وجدنا فرقاً في الشرع بين معاملة أهل الكتاب ومعاملة المشركين، فأحل الله سبحانه وتعالى ذبائح أهل الكتاب، ولم يحل ذبائح المشركين، وأحل نكاح الكتابيات، ولم يحله من المشركات كما قال تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]، وقال عز وجل: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، وقال: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]، ثم بين ما في حق الكتابيات وقال عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة:5] إذاً: فهناك مغايرة في الحكم بين أهل الكتاب وبين المشركين.
وقد فصل العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتابه المبارك (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) عند الكلام على الآيات في سورة براءة، وذلك عند قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] إلى قوله: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].
يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية فيها التنصيص الصريح على أن كفار أهل الكتاب مشركون؛ بدليل قوله فيهم سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بعد أن بين وجوه شركهم بجعلهم الأولاد لله، واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، أي: أنّ الآيات التي نعت على المشركين شركهم في أي نوع من أنواع الشرك كثيرة، كزعمهم أن الملائكة بنات الله، فهذا شرك، وكذلك الذين قالوا: (عزير ابن الله) فهذا شرك، والذين قالوا: (المسيح ابن الله) فهذا أيضاً شرك.
فيقول الشيخ رحمه الله تعالى: ونظير هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] فأجمع العلماء على أن كفار أهل الكتاب داخلون في هذا الحكم؛ لأن مقتضى قول بعض الضالين المضلين المنافقين الزنادقة الذين يتجرءون ويزعمون أن أهل الكتاب مؤمنون، وأن صالحهم يدخل الجنة، والعياذ بالله، وهذا تكذيب صريح بالقرآن، ومن شك في كفر اليهودي أو النصراني فهو كافر خارج من الملة، ولا يمكن أن يكون له حظ من الإسلام، ومع ذلك تجد بعض هؤلاء الزنادقة والمضلين يتلاعبون بآيات الله، ويريدون أن يمارسوا هواية اليهود القديمة في تحريف كلام الله عز وجل عن مواضعه، فالقرآن الكريم صريح في هذه المسألة بلا خلاف، ومقتضى كلامهم أن الله سبحانه وتعالى لا يغفر لمن يعبدون الأوثان فقط، وأما اليهود والنصارى فهؤلاء داخلون في قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وهذا إلحاد في آيات الله تبارك وتعالى.
يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: وقد جاءت آيات أخر تدل بظاهرها على أن أهل الكتاب ليسوا من المشركين، كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [البينة:6].
وقوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة:105]، والعطف يقتضي المغايرة.
والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه -هو العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى-: أن وجه الجمع: أن الشرك الأكبر المقتضي للخروج من الملة أنواع، وأن أهل الكتاب متصفون ببعضها، وغير متصفين ببعض آخر منها.
فأما البعض الذي هم غير متصفين به فهو ما اتصف به كفار مكة من عبادة الأوثان صريحاً، أي: أن عبادة الأوثان صراحة غير موجودة في أهل الكتاب، نعم أنه يوجد فيهم هذه العبادة، ولكنه ليست بطريقة صريحة، فهم الآن يتوسلون بالأصنام، ويبكون أمامها، ويتبركون ويتمسحون بها، فعبادة الأصنام موجودة، ولكنها ليست بصورة صريحة كما هو الحال في مشركي مكة.
إذاً: فعطفهم عليهم هو لاتصاف كفار مكة بما لم يتصف به أهل الكتاب من عبادة الأوثان، وهذه المغايرة هي التي سوغت العطف.
أي: أن الوثنيين تلبسوا بنوع من الشرك غير النوع الذي تلبس به أهل الكتاب، فهذا هو معنى المغايرة هنا، فكل واحد اختص بنوع من الشرك، فالشرك أنواع، والجنون فنون، فعبادة الأوثان شرك، وعبادة الكواكب شرك، وعبادة الأحجار شرك، وعبادة الأنبياء شرك، وعبادة الملائكة شرك، وعبادة الفئران كما في شرق آسيا شرك، بل وتبني القصور الفخمة من الرخام لعبادتها، وكذلك عبادة الأبقار شرك، فالشاهد أنّ الشرك أنواع، فالمغايرة ناشئة من أن شرك هؤلاء غير شرك هؤلاء، فلا تنافي أن يكون أهل الكتاب مشركين بنوع آخر من أنواع الشرك الأكبر، وهو طاعة الشيطان والأحبار والرهبان، فإن مطيع الشيطان إذا كان يعتقد أن ذلك صواب فهو عابد للشيطان، ومشرك بعبادته للشيطان الشرك الأكبر المخلد في النار، كما بينه قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ} [النساء:117 - 118] أي: وما يعبدون إلا شيطاناً؛ لأن عبادتهم للشيطان هي طاعتهم له فيما حرمه الله عليهم.
وقوله تعالى أيضاً: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60].
وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44].
وقال تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:41].
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137].
فكل هذا الكفر هو بشرك الطاعة في معصية الله تعالى، ولما أوحى الشيطان إلى كفار مكة أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة من قتلها؟ فإنه إذا قال عليه الصلاة والسلام: الله قتلها، أوحى إليهم أن يجادلوا المسلمين ويقولوا: ما قتلتموه بأيدكم حلال وما قتله الله حرام؟! فأنتم إذاًً أحسن من الله! فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] وما أشبه كثير من الناس في طريقة وأسلوب طعنهم في الأحكام الشرعية -بأسلوب الشيطان وطريقته، وذلك حتى يشككوا الناس في دين الله تبارك وتعالى، فالأسلوب نفس الأسلوب، فهؤلاء ليس لهم رد غير التوقف عن جدالهم، وعدم التنزل إلى هذه الدرك المهلك، (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، فأقسم تعالى في هذه الآية على أن من أطاع الشيطان في معصية الله فإنه مشرك بالله، ولما سأل عدي بن حاتم رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن(199/4)
اختلاف المفسرين في معنى قوله تعالى: (منفكين)
يقول الشيخ عطية رحمه الله: اختلف في (منفكين) اختلافاً كثيراً عند جميع المفسرين، حتى قال الفخر الرازي عند أول هذه السورة: قال الواحدي في كتاب البسيط: هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظماً وتفسيراً، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء.
ثم أشار إلى وجود إشكال في هذه الآية، لكنه لم يفصل، ولم يبين وجه الإشكال؛ ولذلك يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: وأنا أقول: وجه الإشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم بينة، والبينة هي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان شيخنا الشنقيطي يبين الإشكال، ثم بعد ذلك في مرحلة ثانية يرد على هذا الإشكال.
فالشيخ عطية يريد هنا أن يقول: إنّ الرازي نقل أنّ هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظماً وتفسيراً، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء، يعني: في تفسيرها، ومع ذلك لم يبين وجه صعوبة هذه الآية، ولا وجه الإشكال، فالمرحلة الأولى يريد الشيخ عطية سالم رحمه الله أن يستخرج الإشكال، ثم في مرحلة لاحقة سوف يرد على هذا الإشكال.
ثم إنه تعالى لم يذكر الشيء الذي لم ينفك عنه الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، فقيل: هو الكفر الذي كانوا عليه، إذاً فقوله: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ)) أي: عن الكفر الذي كانوا عليه حتى تأتيهم البينة، والتي هي الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الشيخ عطية بعد ذلك: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هناك تناقض في الظاهر بين الآية الأولى والآية الثانية، وأما في حقيقة الأمر وعند تحرير المسألة فلابد أن يرتفع التناقض، فلا يمكن أبداً أن يقع تناقض في القرآن الكريم، بل إنّ القرآن الكريم يصدق بعضه بعضاً، فالإشكال يكون في عقولنا وفي أفهامنا نحن، فإذا رجعنا إلى الراسخين في العلم أزالوا لنا هذا الإشكال بما لديهم من ملكات تؤهلهم لذلك.
ففي الجزء الأول من الآية: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أنهم لن يتركوا الشرك والكفر الذي هم عليه حتى تأتيهم البينة، فمعنى ذلك أن البينة إذا جاءت فسوف يزول عنهم ذلك الشرك، وسوف ينفكون عنه، وفي الآية الأخرى: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أنهم لما جاءتهم البينة ازدادوا كفراً وتفرّقاً، في حين أن صدر السورة يُفهم أن البينة إذا جاءت فسيزول عنهم الشرك.
وقد سبق أن بينا في أثناء الكلام أن فريقاً من العلماء قال: إن الشطر الأول من الآيات يتكلم فيمن آمن فعلاً لما جاءته البينة، وأما قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ} [البينة:4] إلى آخره، فهي في شأن الذين لم يهتدوا ولم يؤمنوا بعدما جاءتهم البينة، فهذا فريق وهذا فريق.
وهذا الإشكال مبني على أن منفكين بمعنى: تاركين، وعليه جميع المفسرين، والذي جاء عن الشيخ رحمه الله تعالى: أن معنى (منفكين) أي: مرتدعين عن الكفر والضلال ((حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) يعني: وقد أتتهم.
يقول: ولكن في (منفكين) وجه يرفع هذا الإشكال، وهو أن تكون (منفكين) بمعنى: متروكين، لا بمعنى تاركين، أي: لم يكونوا جميعاً متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة، يعني: أن الله سبحانه وتعالى ما كان ليتركهم سدى، ولا ليهملهم حتى تقوم عليهم الحجة، وهذا مثل قول الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] يعني: لا نوحي إليه وحياً، ولا نجعل له حساباً ولا جزاءً، ومثل قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] أي: أنهم لن يتركوا، وقريب من هذا قوله تعالى: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود:53].
وقد حكى أبو حيان عن ابن عطية أنه قال: ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى، وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولاً منذراً تقوم عليهم به الحجة، ويتم على من آمن به النعمة، فكأنه قال: ما كانوا ليتركوا سدى، فالله سبحانه وتعالى لابد أن يرسل إليهم رسولاً يقيم عليهم الحجة، فهذا القول يزيل هذا الإشكال الكبير عند المفسرين.
يقول: ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول في ذلك نسوقه لشموله، وأورد في الكلام على هذه السورة، وفي كون المشركين وأهل الكتاب لم يكونوا منفكين ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين: هل المراد: لم يكونوا منفكين عن الكفر؟ أو المراد: لم يكونوا مكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى بعث؟ يعني: أنهم قبل أن يبعث لم يتركوا التصديق به؛ لأنهم يعرفون صفته من كتبهم، لكن لما بُعث كفروا به وجحدوا، أو أن المراد: أنهم لم يكونوا متروكين حتى يرسل إليهم رسول؟ وهذا هو الراجح كما قلنا.
وناقش شيخ الإسلام تلك الأقوال وردها كلها ثم قال: فقوله: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ)) أي: لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم على هواهم يفعلون ما يهوونه ولا حجر عليهم، كما أن المنفك لا حجر عليه إلى أن قال: فالمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون، ولا ترسل إليهم رسل، والمعنى: أن الله لا يخليهم ولا يتركهم، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولاً كقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] أي: لا يؤمر ولا ينهى، يعني: أيظن أن هذا يكون؟! فهذا ما لا يكون البتة، بل لابد أن يؤمر وينهى.
وقريب من ذلك قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:3 - 5]، فقوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) [الزخرف:5] أي: أنعرض عنكم بسبب إشراككم؟! فهذا استفهام إنكاري بمعنى: ألأجل إشراككم نترك إنزال الذكر، ونعرض عن إرسال الرسل؟! فهذا ما لا يكون.
فتبين من ذلك كله أن الأصح في تفسير قوله تعالى: ((مُنفَكِّينَ)) أي: متروكين، وبه يزول الإشكال الذي أورده الفخر الرازي، ويستقيم السياق، ويتضح المعنى وبالله التوفيق.(199/5)
تفسير قوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب)
قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4].
قوله: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)) المقصود بذلك هنا من لم يؤمن من أهل الكتاب، المقصود ((إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ))، وهذا مثل قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا} [الشورى:14].
والبينة هنا قيل: هي رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بعث، وقد سبقت الإشارة إلى هذا المعنى، وقيل: ((مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أي: القرآن الكريم، وقيل: ((مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أي: ما في كتبهم من بيان نبوته صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وما تفرقوا في كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا من بعد أن تبينوا أنه الذي وعدوا به في كتبهم.
يقول القاسمي في تفسير قوله: (إلا من بعد ما جاءتهم البينة): أي: على ألسنة أنبيائهم، فهكذا كان شأنهم في النبي صلى الله عليه وسلم جحدوا بينته كما جحدوا بينة أنبيائهم في كتبهم، كذلك أيضاً جحدوا بينته في القرآن الكريم لما بعث عليه الصلاة والسلام، فتفرقوا فيها، وابتعدوا عن حقيقتها بسبب هذا التفرق، فإن هذا كان شأن أهل الكتاب في بينته وبينتهم، أي: إذا كان أهل الكتاب وهم الذين أنزل إليهم الكتابان من قبل: الإنجيل والتوراة، وهذان الكتابان مملوءان بالبشارات ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أن كلمة الإنجيل نفسها تعني البشارة، والبشارة هي أساس البيان لمحمد عليه الصلاة والسلام، حتى إن معنى اسمه في الإنجيل: البشارة، والمقصد من دعوة المسيح هو البشارة بمحمد صلى الله عليه وعلى آله سلم، فإذا كان هؤلاء هم أهل الكتاب، وكانوا على علم بوصف الرسول عليه الصلاة والسلام، ووصف أصحابه، فإن ذلك كان موجوداً في كتبهم، ومع ذلك اختلفوا فيه، وجحدوا بعدما بعث، فما ظنك بالمشركين الذين هم أميون لا كتاب لهم، وهم أبعد عن العلم!! فلا شك أنهم سيكونون أولى بالانقياد للهوى، والغرق في الجهالة.
وقال بعض العلماء: خص أهل الكتاب بالتفريق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين؛ لأنهم مظنون بهم العلم، فالمفترض أن يكونوا على علم، فإن تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف، وأولى بوصف الكفر، والإعراض عن دين الله تبارك وتعالى.
وقد فاتنا تنبيه مهم يتعلق بقوله تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:3].
يقول الشيخ عطية سالم: مدلول الكتب على ظاهرها، أي: أن بعض العلماء -كما قلنا- قالوا: الكتب هنا هي الآيات وسور القرآن الكريم، أو هي الأحكام.
وقول آخر: أن الكتب على ظاهرها جمْع كتاب، والمراد الكتب المنزلة على الأنبياء من قبل كما في قوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17]، ثم قال بعدها: ((إِنَّ هَذَا)) يعني: هذا الكلام نفسه {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19].
وكقوله أيضاً في عموم الكتب الأولى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف:30]، وقال أيضاً: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ} [آل عمران:3 - 4].
وقال أيضاً: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام:114]؛ لأن ما فيه يصدّق ما في كتبهم التي سبق إنزالها، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [النور:34].
وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]، فهو مهيمن على ما عندهم، ومحاسب ومرسخ للحق، ومبين للباطل، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام:92]، فهذا كله يدل على أن آيات القرآن متضمنة كتباً قيمة مما أنزلت من قبل.
وقال الله سبحانه وتعالى أيضاً: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) أي: في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، فهذا الكلام موجود في التوراة، وهذا هو معنى قوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:3] يعني: أنّ القرآن فيه أشياء من الكتب القيمة التي سبقت.
وقال أيضاً: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) يلاحظ أن السورة في أولها عن الكفار عموماً من أهل الكتاب والمشركين، وهنا الحديث عن أهل الكتاب فقط: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ))؛ وذلك مما يخصهم في هذا المقام دون المشركين؛ لأنهم أهل كتاب، وعندهم علم به صلى الله عليه وسلم وبما سيأتي به، فكانوا {مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89]، وكقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى:14] فاختصوا بالذكر هنا لمعرفتهم بالنبي عليه الصلاة والسلام قبل مجيئه، واختلافهم فيه بعد مجيئه.
ثم يقول الشيخ عطية سالم: ومما يدل على ما ذكرنا من معنى (كتب قيمة) أمران من كتاب الله: الأول منهما: اختصاص أهل الكتاب هنا بعدم عموم الحديث عن الذين كفروا، مما يؤكد أنّ تفسير (كتب قيمة) يكون بهذا المعنى الذي أشرنا إليه آنفاً.
والثاني منهما: أن القرآن لما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام يتلو على المشركين قال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] فجاء نفس الأسلوب الذي استعمل مع المشركين فقال: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)؛ لأنهم لم يكن لهم علم بالكتب الأخرى، ولذا قال: (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) فاقتصر على الآيات، وأما أهل الكتاب فذكر أن فيها كتباً قيمة؛ لأنهم على علم بالكتب -يعني- السابقة.(199/6)
تفسير قوله تعالى: (وما أمروا إلّا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)
قال تبارك وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [البينة:5].
قوله: ((وَمَا أُمِرُوا)) أي: والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، أي: موحدين لا يعبدون سواه، ومذعنين خاضعين لا يشركون بالله سبحانه وتعالى شيئاً: لا واسطة، ولا مالاً، ولا كرامة، ولا جاهاً.
إذاً: فأهل الكتاب تفرقوا بعد ما جاءتهم البينة، مع أن المفروض أن البينة والعلم تجعلهم يتحدون وينقادون لها، ومع ذلك أعرضوا عنها.
فالواو في قوله: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) واو الحال، أي: والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، فهذا يقتضي أن يؤمنوا به، فيأتي النبي، وتأتي البينة، ويأتي القرآن يدعوكم إلى أن تعبدوا الله وحده مخلصين له الدين، فعلام التفرق والأمر في غاية الوضوح؟! ولذلك فأنا أعجب من عقلية هؤلاء اليهود والنصارى وغيرهم؛ فالمسلمون لا يدعونهم إلى عبادة محمد عليه الصلاة والسلام، ولا ادعاء أنه ابن لله، ولا إلى عبادة الأصنام والأحجار، وإنما يدعونهم إلى عبادة الله الواحد الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فهل مثل هذا يعرض عنه الإنسان؟! قوله تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا)) أي: والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم ((إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ))، واللام في قوله: ((إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ)) بمعنى: (أن) والمعنى: وما أمروا إلا أن يعبدوا الله، قال الفراء: والعرب تجعل اللام في موضع (أن) في الأمر والإرادة كثيراً، فأحياناً يستعملون اللام مكان (أن) كقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء:26] أي: يريد الله أن يبين لكم، وهذا يتعلق بالإرادة، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8] فمعناه: يريدون أن يطفئوا، وقال في الأمر: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71]، أي: وأمرنا أن نسلم، وهذا في الأمر، فهذا له شواهد كثيرة كما بينا.
فقوله: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) أي: أن يكونوا موحدين لا يعبدون سواه، ((حُنَفَاءَ)) أي: مائلين عن الأديان كلها إلى الإسلام، فالحنيف: هو المائل، والحنف الذي يكون في السقف هو الميل الذي يكون في السقف.
فمعنى (حنيفاً) أي: مائلاً عن الأديان ومعرضاً عنها إلى دين الإسلام، والحنفية هي ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ((حُنَفَاءَ)) أي: متبعي إبراهيم عليه السلام، أو على مثاله، وأصله: جمع حنيف وهو المائل المنحرف، وسمي به إبراهيم عليه السلام؛ لانحرافه عن وثنية الناس كافة.
قوله: ((وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ)) أي: يقيمون الصلاة المكتوبة، ويأتون بها بحدودها، وفي أوقاتها، بإحضار القلب هيبةَ المعبود، وترهيبه به، وأن تكون بخشوع لا أن تكون الصلاة مجرد حركات ظاهرة، فإن ذلك ليس من الصلاة في شيء البتة.
وقوله: ((وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ)) أي: عند وجوبها، وذلك بصرفها في مصارفها التي عينها الله تبارك وتعالى.
قوله: ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) أي: وذلك الذي أمروا به سواء على لسان أنبيائهم وفي كتبهم، أو على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) أي: الكتب القيمة، وهناك اختلاف بين العلماء في المقصود بدين القيمة، ولكن قبل أن نبين ذلك ننقل قول ابن كثير رحمه الله تعالى، قال: استدل كثير من الأئمة كـ الزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان، ولهذا قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].
أقول: يشيع الاستدلال بهذه الآية: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) في كل أبواب العبادات على الإخلاص، وأن أي عبادة يشترط فيها النية، فالنية ركن أساسي في الصلاة، والنية ركن في الحج، والزكاة لابد فيها من النية، والصيام لابد فيه من النية، فلو أن رجلاً أخرج في آخر السنة مالاً ولم ينو أنه زكاة ماله فلا تسقط عنه فيها الزكاة.
ولو أن شخصاً كان جنباً فانغمس في البحر وخرج، أو اغتسل بسبب حرارة الجو، فلا يرفع ذلك جنابته، لأنه لم ينو رفع الحدث الأكبر، إذن: فالنية ركن متين في العبادات، وهذا موضوع كبير ومهم، لكن هذه إشارة تابعة، فهذه الآية دائماً نجدها في كل باب من أبواب الفقه عند بيان ركنية النية، فهي تميز العادة من العبادة، فلو رجلاً جلس في المسجد عشرة أيام متواصلة ولم يغادره، ولم ينو الاعتكاف، وآخر يعمل نفس العمل لكنه نوى الاعتكاف، فالأول لا يكتب له أجر الاعتكاف، والآخر يكتب، والمفرق بينهما هي النية.
فالنية لها شأن خطير جداً في الشرائع الإسلامية، وهي أيضاً تميز العبادات عن بعضها، فتميّز بين النفل وبين الفرض، فقد تشتبه صورة الصلاة في النفل والفريضة، ثم تأتي النية فتميز وتفرق بينهما.
قوله تعالى: ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) (وذلك) أي: الذي أمروا به، (دين القيمة) أي: دين الكتب القيمة، أو وذلك دين الأمة القيمة الوسط، وهي أمة الإسلام، فتكون لفظة (القيمة) صفة لمحذوف.
ومعنى الآية: إن أهل الكتاب قد افترقوا، ولعنت كل فرقة أختها، وكانت فرقهم في العقائد والأحكام وفروع الشريعة، مع أنهم لم يؤمروا، ولم توضع لهم تلك الأحكام إلا لأجل أن يعبدوا الله، ويخلصوا له عقائدهم وأعمالهم، فلا يأخذونها إلا عنه مباشرة، ولا يقلدون أهل الضلال من الأمم الأخرى، وأن يخشعوا لله في صلاتهم، وأن يَصِلوا عباد الله بوفائهم، فإذا كان هذا هو الأصل الذي يُرجع إليه في الأوامر فما كان عليهم إلا أن يجعلوه نصب أعينهم، فيُردّ إليه كل ما يعرض لهم من المسائل، ويحل به كل ما يعترض أمامهم من المشاكل.
ومتى تحتم الإخلاص في الأنفس تخلق الإنصاف عليها فكانت فيها الرحمة، ولم تطرق طرقها الفرقة، وهذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب، فما نقول في حالنا؟! أفما ينعاه كتابنا الشهيد علينا بسوء أعمالنا في افتراقنا في الدين، وأن صرنا فيه شيعاً، وملأناه محدثات وبدعاً؟! من خلال ما تقدم عرفت أن الذين كفروا هم الذين أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عند دعوته إلى قبول ما جاء به، وأن (مِن) في قوله تعالى: ((مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) للتبعيض؛ لأن منهم من آمن ومنهم من كفر، وهذا كلام القاسمي رحمه الله تعالى.
فالمقصود: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) في قول أنها ماذا؟ من للتبعيض يعني: لأن في طائفة أخرى أسلمت واضح؟ وأن معنى (لم يكن منفكين) أي: لم يكن وجه الحق ينكشف لهم فيقع الزلزال في عقائدهم فينفك عن الرهبة المحضة التي كانوا فيها حتى تأتيهم البينة.(199/7)
كلام الشيخ عطية سالم في قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله)
يقول العلامة الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)): وهذا لا يستوجب التفرق في أمره صلى الله عليه وسلم، وقد بيّن القرآن العظيم أن هذا الأمر موجود في كل كتبه يقول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13].
وقال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:40 - 41] إلى آخر الآيات.
فهذه الأوامر سواء كانت في كتبهم أو في القرآن فإنها لا تقتضي التفرق، بل تستوجب الاجتماع والوحدة.
قوله تعالى: ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) القيمة: فيعلة من القوامة، وهي غاية الاستقامة، وجاء بعده قوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:3] أي: مستقيمة بتعاليمها.
وبين الله سبحانه وتعالى أن القرآن الكريم هو أقوم الكتب وأعدلها على الإطلاق في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا} [الكهف:1 - 2] فنفى عنه العوج، وأثبت له الاستقامة، فهذه غاية القيام، فإن المستقيم قد يكون فيه انحناء كالطريق المعبد المستقيم عن المرتفعات والمنخفضات، لكنه قد ينحرف تارة يميناً وشمالاً مع أنه مستقيم، إذن فقد يكون الشيء مستقيماً لكن لا يخلو من العوج، لكن أكمل الأحوال أن ينتفي عنه العوج وتثبت له الاستقامة، فهو الطريق الذي يمتد في اتجاه واحد بدون أي اعوجاج إلى أي الجانبين، مع استقامته في سطحه، وهكذا هو القرآن، فهو الصراط المستقيم، ولذلك قال تعالى: ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) أي: دين الملة القيمة، فهي قيمة في ذاتها، وقيمة على غيرها ومهيمنة عليه، قال تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:161 - 163].
وفي قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى فيها: إن في هذه الآية رداً صريحاً على أولئك الذين ينادون بدون علم إلى دعوة لا تخلو من تشكيك، حيث لم تسلم من لبس، وهي دعوة وحدة الأديان، ومحل اللبس فيها أن هذا القول منه حق ومنه باطل.
أقول: والصواب أن نقول: وحدة الأديان بالكسر أي: أن الدين واحد، وأما وَحدة الأديان بالفتح فمعناها أن هناك أديان مختلفة ثم توحدت مع بعضها، وهذا غلط.
فالحق أن هذه الدعوة فيها شيء من الحق، وفيها تلبيس وباطل، فأما الحق فهو أن هذه الأديان كلها في الأصل دين واحد، فوحدة الأديان أي: وحدة أصولها، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] فهذا جوهر جميع الرسالات السماوية.
لذلك، فالصواب أن يقال: الرسالات السماوية، ولا يقال: الديانات السماوية؛ لأن الدين واحد، فجميع الأنبياء دعوا إلى دين واحد {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فهو دين واحد، وإلا فكيف تكون كلها سماوية وهي يضرب بعضها بعضاً؟ فكيف تكون الأديان متضاربة ومتناقضة وقد نزلت من مصدر واحد؟! فجميع الأنبياء دعوا إلى دين واحد، وهو دين الإسلام، ودين الإسلام مكون من جملتين: لا إله إلا الله، فلان رسول الله، فجميع الأنبياء من آدم عليه السلام وحتى خاتمهم وهو محمد عليه الصلاة والسلام كلهم دعو إلى: (لا إله إلا الله) نفس الإله، وأمروا بعبادته وبالإيمان وبالقضاء والقدر، والإيمان بالملائكة، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالبعث والنشور، فهذه أمور ثابتة في جميع رسالات الأنبياء عليهم السلام.
والشق الثاني: نوح رسول الله مثلاً، وهذا في عهد نوح عليه السلام، ففي عهد نوح كانت النجاة بأن يشهدوا هاتين الشهادتين أي: لا إله إلا الله نوح رسول الله، وفي عهد موسى: لا إله إلا الله موسى رسول الله.
فلا يصح أن تؤمن وتعبده دون أن تؤمن بالرسالات؛ لأن معرفة ما يرضي الله، وما يقرب من الله، وما يبعد عن الله لا يصل إليها العقل بمفرده، بل لا بد فيها من الوحي، فهو الذي يبين ذلك؛ لأن العقل لا يدرك المعاني التعبدية في كثير من الأحيان، فالبتالي فكلمة النجاة ألّا تعبد إلا الله وفق ما يشرعه لك على لسان نبيه ورسوله، فإن معنى: محمد رسول الله، أو نوح رسول الله، أو عيسى رسول الله معنى ذلك: أن تتبع هؤلاء الرسل لا أن تتبعوا وتخترعوا من تلقاء أنفسكم.
فهذه كانت كلمة النجاة، وأما الفرق بين الأديان فهو اختلاف في بعض الشرائع: في أحكام الطلاق والزواج، وتفاصيل بعض العبادات، وأما التوحيد فهو جوهر جميع الرسالات، وكل الأنبياء دعوا إليه، وهذه الحقيقة هي أنصع وأطهر وأهم حقيقة في الوجود كله وهي: لا إله إلا الله، فما خلق الخلق كلهم إلا من أجل لا إله إلا الله، وما بعث الأنبياء إلا من أجل لا إله إلا الله، وما خلقت الجنة والنار إلا من أجلها، وما شرعت فريضة الجهاد إلا من أجلها، وما شرع الحلال والحرام إلا من أجلها، وما قسم الناس إلى أهل الجنة وأهل النار إلا على أساسها وهكذا، فهي إذن محور الحياة كلها، ولذلك ذكرت في مناسبة سابقة أن التفسير الوحيد الصحيح للتاريخ هو أن يفسر على أنه صراع بين أهل التوحيد وبين مناوئيهم من المشركين والكفار، فهذا هو التفسير الحقيقي، وليس كما يقولون: إن الصراع إنما هو بين طبقات حاقدة من الفقراء وبين البرجوازيين، كما هو معروف من خرافات الشيوعية، أو أنه من أجل صراع سياسي، أو صراع من أجل الشهوات كما ذهب إليه بعضهم.
فالشاهد: أن المحور الحقيقي للتاريخ منذ أن خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إنما هو صراع بين الإسلام والكفر، فهذا هو التفسير الوحيد المقبول في التاريخ، ويجب أن ينظر إلى الموضوع من هذا المحور، وليس كما يقول بعضهم: إن أحداث الدنيا كلها من أجل الدنيا، وفي هذا الزمان الذي نعيش فيه نرى الصراع واضحاً بين الإسلام والكفر، فمن الخداع أن يصور بصورة أخرى خلاف ذلك، بل من العدوان على الحق وغمطه أن يسوى بين الكفر والإسلام، ولو زال الحد الفاصل بين الإسلام والكفر: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] لاختلت الموازين، فهذا ياسر عرفات يقول لزوجته لما أرادت أن تدخل في الإسلام وقد كانت نصرانية: لا، ليس هناك داعٍ، فالكل شيء واحد، فلتبقِ على النصرانية؛ فإنها والإسلام سواء، فعنده أن كل الأديان شيء واحد.
فالشاهد هذا تشويش على الإسلام وخصوصاً إذا صدر من أناس لهم ثقلهم في العلم أو في الإسلام، فهذه القضية لا تحتمل مساومة على الإطلاق.
فهذا الذي يدعون إليه يعتبر جناية في حق البشرية، فطالما قررتُ أن أعظم حق، وأول حق، وأهم حق من حقوق الإنسان -لمن عقل- هو ألّا يحال بينه وبين الإسلام كما أنزله الله، وأعظم جريمة ترتكب في حق الإنسان ليست أن يستعبد، ولا أن يعذب، ولا أن تؤخذ أمواله، لا، بل هي أن يحال بينه وبين الدخول في الإسلام بالتشويش على الإسلام، ووصف المسلمين بالإرهابيين، ووصف الإسلام بأنه دين التطرف، وغيرها من عبارات التنفير، فهذه أكبر جريمة في حق البشرية كلها وخصوصاً الكفار؛ لأنهم إذا حرموا من هذه النعمة فسوف يخلدون أبد الآباد في نار جهنم، فأي جريمة في حق الإنسان أكثر من أن يحال بينه وبين سعادة الدارين في الدنيا والآخرة؟! إذاً: فأصحاب هذه الدعوى يتسترون ويقولون: الأديان الإبراهيمية، وهي كلمة حق، لكننا لا نسميها أدياناً، بل إن ملة إبراهيم عليه السلام دين واحد، وهو دين الإسلام.
فكأنه من هذه الآية: ((وَمَا أُمِرُوا)) أي: كل هؤلاء الكفار، وما أمروا سواء كان في كتبهم أو جاء به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا الأمر لا يقبل التصرف ولا الاختراع ((إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ)) وحده ((مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) بلا شرك ولا ند، ((حُنَفَاءَ)) كما كان إبراهيم، ((وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) وأما الباطل في دعوة الأديان الإبراهيمية أو توحيد الأديان فهو الإبهام بأن هذا ينجر على الفروع مع الجزم عند الجميع؛ لأن فروع الإسلام قد لا تتفق كلها مع فروع الدين الآخر، كالصلاة والصيام إلى آخره.
فالذي جاء به القرآن هو دين القيمة ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) فالإسلام هو الدين القيم، والقرآن يهدي للتي هي أقوم، وليست كلمة (أقوم) أفعل تفضيل، فلا يمكن أن يص(199/8)
مراحل الدعوة إلى وحدة الديان
هذه القضية في غاية الأهمية، وهي أخطر قضية عُرفت في الوجود كله، وهي عملية إزالة الحد الفاصل بين الإسلام والكفر، وهي الآن تجري على قدم وساق، وهذا أخطر خطر يتعرض له الإسلام، وهذه القضية تعرض لها العلامة الجليل الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في كتاب له يسمى: (الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان) والشيخ بكر أبو زيد حفظه الله تعالى رجل مبدع في كتاباته، فإنه يغوص في أعماق الأسفار، ويخرج لنا من بطونها هذه الكنوز، فأي كتاب عليه اسم الشيخ بكر أبو زيد فلابد أن يشترى، فهو لا يؤلف في موضوع إلا وقد أتقنه، فلابد أنك سوف تستفيد منه، فهذا الكتاب ناقش فيه هذه القضية بالتفصيل نقاشاً رائعاً جداً، وفصل فيها تفصيلاً رائعاً، ففي هذا الدرس نقتنص منه بعض الأشياء، وقد جعل غالبه في ذكر المصدر التاريخي لهذه النظرية، فذكر أن هذه هي نظرية اليهود والنصارى لسحب المسلمين عن الإسلام، وهذه المؤامرة يراد منها الخلط بين الأديان، وأن المسلمين يخرجون من الملة، ويزحفون من الإسلام إلى ضلال اليهود والنصارى، وهذا من تدابيرهم الكيدية ومواقفهم العدائية للإسلام والمسلمين، ففي عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانت محاولتهم دائبة لإضلال المسلمين عن إسلامهم، وردهم إلى الكفر، يقول تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109].
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:111 - 112].
وقال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135].
فشاء الله سبحانه وتعالى أن تبقى هذه الآيات على مر الزمن تتلى في المحاريب؛ حتى لا يغيب هذا الكيد عن قلوب المؤمنين.
والمرحلة الثانية: مرحلة الدعوة إليها بعد انصرام القرون المفضلة، وهذا كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فلما انصرمت القرون المفضلة وجاءت القرون التي بعدها جاءت الدعوة لإخراج المسلمين من إسلامهم تحت اسم: الاتحاد والحلول، وذلك على أيدي ملاحدة المتصوفة في مصر والشام وفارس وأقاليم العجم وهكذا الرافضة، حتى بلغ الحال أن بعض هؤلاء الملاحدة يجيز التهود والتنصر! بل إن فيهم من يرجح دين اليهود والنصارى على دين الإسلام!! وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كان له مواقف في الرد على هؤلاء الغلاة مثل الحلاج الحسين بن منصور الفارسي المقتول على الردة سنة (309هـ)، وابن عربي: محمد بن علي الطائي قدوة القائلين بوحدة الوجود كما في كتابه (الفصوص)، وابن سبعين والتلمساني وابن هند وغيرهم كثير، والملاحدة أعداء الإسلام يحاولون ويجتهدون الآن في أن يعيدوا تراثهم، وهذه وصية أيضاً لإضعاف انتماء المسلمين إلى الإسلام، والهدف هو إخراج المسلمين من الإسلام، وليس من المهم أن يتهودوا أو يتنصروا، فهذا غير ممكن، وهم عاجزون عنه أصلاً، لكن يهمهم إخراج المسلم عن إسلامه، فمن الصور التي فيها إخراج عن الإسلام قول: إن الذي يعبد أي شيء هو أصلاً ما عبد إلّا الله، كما يقول الخبيث ابن عربي: العبد رب والرب عبد فليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف أستغفر الله، انظر إلى هذا الكفر، ويقول: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة ويعتبر ابن عربي أن أكبرَ موحدَينِ في الدين هما: محمد عليه السلام، وإبليس لعنه الله، فهذا الشرك والضلال كله كان الهدف منه إخراج المسلمين من دين الإسلام، وبعضهم الآن يؤلف الكتب في الحلاج، ويعمل المسرحيات وكل الضلالات، ويتكلمون في الوهابيين بحجة أنهم هم الذين قتلوا الحلاج، ويظهرون الحلاج بأنه كان رجلاً مظلوماً إلى آخر هذا الكلام، وذلك كله من أجل أن يعيدوا هذا التراث العفن، سواء كان هذا التراث لـ كمال مصطفى، أو لـ ابن عربي، أو للحلاج أو لـ ابن سبعين، أو للتلمساني، أو لـ ابن هند.
وأيضاً مرحلة الدعوة إليها في النصف الأول من القرن الرابع عشر، فهذه الدعوة جمدت في وقت من الأوقات، ثم عادت من جديد تحت اسم جديد وهو الماسونية، وهي منظمة يهودية هدفها السيطرة على العالم، ونشر الإلحاد والإباحية تحت غطاء الدعوة إلى وحدة الأديان، ونفي التعصب، وأن كل الناس مؤمنون بالله تعالى، وقد دخل في دعوتهم وتورط فيها رجل شيعي أصلاً، وهو المسمى بـ جمال الدين الأفغاني، وهو شيعي إيراني وليس أفغانياً.
وتلطخ بها أيضاً زعيم الطائفة ميرزا محمد باقر الإيراني، فدخل في جمعية التقريب بين الأديان الثلاثة، ودخل فيها بعض الإيرانيين، وبعض الإنكليز، وبعض اليهود.
وأما مرحلة الدعوة وهي في العصر الحاضر في الرُّبع الأخير من القرن الرابع عشر الهجري، وذلك في ظل النظام العالمي الجديد، فظهر اليهود والنصارى بالدعوة إلى التجمع الديني بينهم وبين المسلمين، وبعبارة أخرى: التوحيد بين الموسوية والعيسوية والمحمدية، ونحن نؤمن بمحمد وعيسى وموسى عليه السلام جميعاً، بل لو كفر مسلم بأحد هؤلاء الأنبياء لخرج من الملة تماماً، ولكان مشركاً كافراً مرتداً، فنحن نؤمن بالأنبياء ونعظمهم، لكن لا على ما يزعم هؤلاء.
فالدعوة إذاً أخذت صورة الدعوة للتقريب بين الأديان، ونبذ التعصب الديني، ثم اسم الإخاء الديني، ومجمع الأديان واسم الصداقة الإسلامية النصرانية، التضامن الإسلامي النصراني ضد الشيوعية، ثم خرجت من بعد شعارات وحدة الأديان: توحيد الأديان الإبراهيمية، والوحدة الإبراهيمية، ووحدة الدين الإلهي، والمؤمنون المتحدون، والناس المتحدون، والديانة العالمية، والتعايش بين الأديان الملية العالمية، وتوحيد الأديان، ووحدة الكتب السماوية، وآخر ما وصلوا إليه: الإعلان عن فكرة طبع القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد مع بعض، ثم دخلت في الحياة التعبدية العملية، فدعا ما يسمى بالبابا إلى إقامة صلاة مشتركة بين ممثلي الأديان الثلاثة: الإسلاميين والكتابيين في قرية أسيس في إيطاليا، وأقيمت الصلاة جماعة في تاريخ (27/ 10/1986م) ثم تكرر هذا الحدث مرات أخرى باسم صلاة روح القدس، لكن يا تُرى إلى أي قبلة اتجهوا؟!! وفي أي مكان صلوا؟!! وما يتبع ذلك من الأساليب البارعة للاستدلال ولفت الأنظار إليها، والالتفاف حولها، كالتلويح بالسلام العالمي، ونشر الطمأنينة والسعادة الإنسانية والإخاء والفضيلة والمساواة والبر والإحسان، وهذه مثل شعارات الدعوة إلى الحرية والإخاء والمساواة أو السلام والرحمة والإنسانية.
أيضاً: فالدعوة الروحية الحديثة قائمة على تحضير الأرواح: روح المسلم واليهودي والنصراني والبوذي وغيرهم، وكل هذه دعاوى طغيانية هدامة.(199/9)
آثار دعوى وحدة الأديان
أول آثار هذه الدعوى: اقتحام العقبة لكسر حاجز الهيبة من المسلمين، وكسر حاجز النفرة من الكافرين.
ومن آثارها: تقديم هذا المدعو بالبابا نفسَه إلى العالم بأنه القائد الروحي للأديان جميعاً، وأنه حامل لرسالة السلام العالمي الإنساني.
ومن آثارها: أنه اعتبر يوم (27/ 10/ 1986م) عيداً لكل الأديان، وأول يوم من شهر يناير هو يوم التآخي.
ومن آثارها: اتخاذ نشيد يردده الجميع، وأسموه نشيد الإله الواحد: رب وأب.
ومن آثارها: انتشار عقد المؤتمرات لهذه النظرية، وقد عقد المؤتمر الإبراهيمي سنة (1987م) في قرطبة بمشاركة عدد من اليهود والنصارى والمنتسبين للإسلام من القاديانيين والإسماعيليين، باسم: مؤتمر الحوار الدولي للوحدة الإبراهيمية.
كان المتولي لذلك النصراني، والذي يفخر بأنه ما زال نصراني وهو رجل يهودي، وليس كما يفهم الناس، فقد قال: أنا ما تخليت عن النصرانية، وله فكرة في غاية الخطورة، وبعد ذلك تأسست الجماعة العالمية باسم المؤمنون متحدون، ونادي الشباب المتدين أيضاً، وجماعة أخرى باسم الناس متحدون، وعمل لهذه المؤسسات لوائح وأنظمة داخلية ركّزت على إذابة الفوارق بين الإسلام واليهودية والنصرانية، وتجريد الشخصية الإسلامية من هويتها، فينسى المرء أن الإسلام ناسخ لما قبل، أو أن القرآن ناسخ لجميع الكتب، وأنه مهيمن عليها، باسم وحدة الأديان.
ويبلغ رأس مال جماعة (المؤمنون المتحدون) (800.
000 دولار) وفي حال حل الجمعية تعود أموالها إلى الصليب الأحمر، ومؤسسة الصدقات الكنيسية.
من معتبرات هذه الجمعية رموز: رمز الإحسان هو مؤسس الصليب الأحمر.
رمز التطور هو داروين.
رمز المساواة هو كارل ماركس.
ورمز السلام العالمي للبشرية والإخاء الديني هو البابا.
واتخذت هذه الجمعية راية عليها الشعارات الآتية: شعار الأمم المتحدة، وألوان علم الأمم المتحدة متخذة من التوراة الدين السماوي، وشعار قوس قزح وهذا أيضاً مأخوذ من سفر التكوين التوراتي، وشعار السبعة رمز النصر عندهم، وهو اسم أول سفينة اكتشفت القارة الأمريكية، وحملت النصرانية إلى هذه القارة.
ومن آثار هذه النظرية جلبها إلى ديار الإسلام، وتأييدها على بعض الألسنة، ومنها ما حصل في مؤتمر شرم الشيخ في مصر سنة (1416هـ) وقد تركزت كلمات بعض أصحاب الفخامة على الصفة الجامعة بين المصلين وهي الإبراهيمية، وهو مؤتمر يجمع لفيفاً من المسلمين واليهود والنصارى والشيوعية.
وفي تاريخ (10/ 10/ 1416هـ) أعلن بعضهم عن إصدار كتاب يجمع بين دفتيه القرآن الكريم والتوراة والإنجيل، وفي بعض الآفات صدر قرار رسمي بجواز تسمية موالي المسلمين بأسماء اليهود المختصة بهم، ونلاحظ أن من المسلمين من سمى ابنه رابين، والله المستعان.
ومن ذلك أن نصرانياً سمته أمه محمداً فأصبح اسمه: محمد صبحي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا شيء مؤلم جداً أن يكون نصرانياً ويسمى محمداً.
ومن ذلك أن سورياً كان معجباً بـ هتلر، وفي سنة (1930م) رزق ولداً، وسماه محمد هتلر، وهناك رجل كويتي سمى ابنه عبد الله جورج بوش الصالح، ووالدته دكتورة اسمها: بدور المطوع، قالت: سمينا الطفل على اسم الرئيس الأمريكي؛ كبادرة عرفان في تحرير بلادنا، وهذا مظهر من مظاهر ذوبان الهوية، وذوبان الحد الفاصل بين المسلمين وبين غيرهم.
فالشيخ بكر فصل جداً في هذا الكتاب، وأنا أنصح بقراءة هذا الكتاب القيم جداً واسمه: (الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان).
هذا ما تيسر المرور عليه من موضوعات هذا الكتاب.(199/10)
تفسير قوله تعالى: (إنّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين)
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6].
قرئت: البريّة، وقرئت: البريئة أي: شر من برأه الله سبحانه وتعالى وخلقه، فأكثر العرب وأكثر القراء على ترك الهمز، أي: البرية؛ لكثرة ما جرت على الألسنة، وهي فاعلة بمعنى مفعولة من برأ الله الخلق فهي بريئة، أي: مخلوقة من الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22].
فهذه الآية تضمنت أن أولئك في نار جهنم خالدين فيها، وأنهم شر البرية، ومن البرية: الدواب والطيور، فاللفظ هنا على العموم.
ومفهوم الآية أن هؤلاء شر الخليقة كلها، أي: أنهم شر من الحيوانات والدواب؛ لأنها تدخل في البرية، وهذا ما صرح به القرآن في موضع آخر فقال عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22]، وقال تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23]، فبان بذلك أن المراد بهم الكفار، وقال: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزخرف:40]، فهل الدواب في ضلال مبين؟ لا، ليست الدواب في ضلال مبين، بل إن الكفار في ضلال مبين.
وأما الدواب فتؤمن بوحدانية الله، فهدهد سليمان عليه السلام أنكر شرك بلقيس وقومها فقال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:22 - 23]، ثم يقول: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24] إلى آخر الآية، فالهدهد فاهم لقضية التوحيد فهماً عميقاً كما في هذه السورة.
وفي الحديث في فضل يوم الجمعة: (وما من دابة إلا تصيخ بأذنها من فجر يوم الجمعة إلى طلوع الشمس شفقاً من الساعة)، فهذا خبر الصادق المصدوق، والكفار ليس لديهم من ذلك خبر، فلذلك فإن الدواب أفضل منهم كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].
وفي الآخرة لما يجمع الله سبحانه وتعالى جميع الدواب فيقتص للعجماء من القرناء، ويقول لها: كوني تراباً، فحينئذ يتمنى الكافر لو أنه كان مثلها، وهيهات أن يحصل مثل ذلك، قال تعالى: {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] فالدواب لم تعمل خيراً حتى تجازى عليه، ولم تعمل شراً لتعاقب عليه، فالدواب خرجت من الدنيا لا لها ولا عليها، إلا ما كان فيما بينها، فإذا نطحت ذات القرن التي بدون قرن فإنه يقتص من بعضها البعض، ثم تكون نهايتها وعودتها إلى منبتها، وهو التراب، بخلاف الكافر فإن عليه حساب وعقاب المخالفة، فيعاقب بالخلود في النار، فكان بذلك شر البرية.(199/11)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] أي: إن الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم أولئك هم خير البرية.
وقد جاء حديث في هذا المعنى عن أنس رضي الله عنه قال: (قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية! فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم)، وجواب العلماء عن هذا ونحوه كحديث: (لا تفضلوني على يونس بن متى) إما أن هذا الخبر كان قبل أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام أنه أفضل الأنبياء والمرسلين، أو أنه قاله على سبيل هضم النفس والتواضع صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله: ((أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)) هنا يعقد العلماء مسألة، وهي: المفاضلة بين صالحي البشر وبين جنس الملائكة.
يقول ابن كثير: اختلف الناس في تفضيل الملائكة على البشر على أقوال، فأكثر ما قيل في هذه المسألة في كتب المتكلمين، والخلاف فيها مع المعتزلة ومن وافقهم.
وأقدم كلام روي في هذه المسألة ما جاء في ترجمة أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص أنه حضر مجلساً لـ عمر بن عبد العزيز وعنده جماعة، فقال عمر: ما أحد أكرم على الله من كريم بني آدم، ومن الصالح من بني آدم، واستدل بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7]، فوافقه على ذلك أمية بن عمرو بن سعيد، فقال أراق بن مالك: ما أحد أكرم على الله من ملائكته، فهم خدم داريه، ورسله إلى أنبيائه، واستدل بقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20]، فأجاب المخالف فقال: قد كرم الله آدم فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعل من ذريته الأنبياء والرسل، ومن تزوره الملائكة.
وهنا نبيّن باختصار موضع النزاع فنقول: لا خلاف في أن الكفار والمنافقين غير داخلين في هذه المفاضلة على الإطلاق؛ لأنهم كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، وليس المقصود بهذه المفاضلة المفاضلة بين حقيقة البشر وحقيقة الملائكة من حيث العنصر مثلاً، أو الجنس الذي خلق منه، لا، إنّها المفاضلة في هذه المسألة بين صالحي البشر وبين الملائكة، فهذا هو محل النزاع، وذهب بعضهم إلى أن الملائكة أفضل من سائر المؤمنين، وقالوا: إنّ الخلاف بين الملائكة وبين الأنبياء فقط.
ولن نناقش هنا الأدلة، ولكن نختم الكلام بترجيح ابن تيمية في المسألة وهو: أن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، وذلك حينما يدخلون الجنة، وينالون الزلفى، ويسكنون الدرجات العلى، ويحييهم الرحمن، ويخصهم بمزيد قربه، ويتجلى لهم فيستبشرون بالنظر إلى وجهه الكريم، وتقوم الملائكة في خدمتهم بإذن ربهم.
فصالحو البشر أفضل باعتبار كمال نهايتهم في الجنة، والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى متنزهون عما يلابسه بنو آدم، ومستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحول البشر، فهذه خلاصة الكلام في هذه القضية.(199/12)
تفسير قوله تعالى: (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري)
قال تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8] قوله: (عدن) تعني: إقامة، فمعدن الشيء مستقره ومركزه الذي يوجد فيه، فمعنى قوله: ((جَنَّاتُ عَدْنٍ)) أي: جنات إقامة.
قوله: (رضي الله عنهم) أي: بما أطاعوه في الدنيا، وعملوا في خلوصهم من عقابه، ((وَرَضُوا عَنْهُ)) أي: رضوا عن ثوابه تبارك وتعالى، ولا شك أن مقام رضا الله تعالى عنهم أعلى مما أوتوه من النعيم المقيم، والدليل قوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]، فهذا النعيم أعظم بكثير من كل ما أوتوه من النعيم، ((ذَلِكَ)) أي: هذا الجزاء ((لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ))، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]، قوله: (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي: خاف الله تعالى في الدنيا في سره وعلانيته، فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية.(199/13)
تفسير سورة الزلزلة والعاديات القارعة(200/1)
تفسير سورة الزلزلة(200/2)
تفسير قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض زلزالها) إلى قوله: (يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً) ليروا أعمالهم)
سورة الزلزلة هي السورة التاسعة والتسعون، قال ابن كثير: مكية.
ورجح السيوطي أنها مدنية.
وآيها ثمان.
بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1].
الزلزال: هو الحركة الشديدة بسرعة، ومما يدل على تركب معنى كلمة: (الزلزال) من الحركة الشديدة والسرعة، تكرار الحروف في كلمة: (الزلزال) وكذلك أيضاً (التضعيف) يدل على هذه الشدة.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}، أي: أصابها ذلك الزلزال الشديد، والاهتزاز الرهيب، فالإضافة للتفخيم أو الاختصاص.
أي: الزلزال المخصوص بها، وهي الرجة التي لا غاية وراءها.
والأقرب الأول، أي: أن هذه الإضافة للتفخيم، بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1].
وقرئ بفتح الزاي: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زَلْزَالَهَا}، وقد قيل: هما مصدران، وقيل: المفتوح اسم، والمكسور مصدره وهو المشهور.
قوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:2]، أي: قذفت ما في باطنها من كنوز ودفائن وأموات وغير ذلك؛ لشدة الزلزلة وتدفق ظهرها كقوله تعالى: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:3 - 4].
فالأثقال هنا في قوله: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} بمعنى: موتاها وكنوزها، أو تكون بمعنى: التحدث بما عمل عليها الإنسان.
وأرجح هذه الأقوال -والله تعالى أعلم- هو أن هذه الأثقال هي الموتى، فتخرج الأرض موتاها، بدليل قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26].
وأيضاً: إخراج الكنوز إنما يكون قبل النفخة، فحينما يخرج الدجال يقول للأرض: أخرجي كنوزك؟ فتخرج الكنوز تتبعه، أما التحدث بالأعمال فهو منصوص عليه في نفس السورة فالأرجح أن أثقالها: موتاها، والله تعالى أعلم.
والأثقال: جمع ثَقَل -بفتحتين- وهو متاع المسافر وكل نفيس مصون، وإذا قلنا: ثِقَل؛ فيكون بمعنى: حمل البطن؛ لأنه يسمى ثِقَل، بدليل قوله تعالى: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف:189].
قوله تعالى: {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:3]، فيه دليل على أن هناك أناس أحياء في ذلك الوقت يشهدون ذلك الزلزال، فيقول من يكون من الناس مشاهداً لهذا الزلزال المفاجئ المدهش، الذي لم يحدث مثله: ما لهذه الأرض رُجّت هذه الرجّة الهائلة وبَعثر ما فيها من الأثقال المدفونة؟! قوله: (وقال الإنسان) سواء كان مؤمناً أو كافراً، بدليل قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:51 - 52].
وقيل في قوله: {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا}، أي: الإنسان الكافر، أما المؤمن فهو لا يُعذب؛ لأنه يؤمن أن هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، فلم يكن أمراً جديداً عليه.
قوله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، كلمة (يومئذٍ) بدل من (إذا) أي: في ذلك الوقت ((تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)) أي: تخبر بما عمل على ظهرها.
قال القاسمي: أي: تبين الأرض بلسان حالها ما لأجله زلزالها وإخراج الأثقال منها، فتدل دلالة ظاهرة على ذلك.
وهذا أيضاً من التأويل الغريب! فما الذي يستبعد أن الأرض تنطق وتحدث بما عمل على ظهرها؟! وما الذي يمنع من ذلك؟! فيكون معنى: ((تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)) أي: بما عمل على ظهرها، وهذا ليس ببعيد في قدرة الله تبارك وتعالى.
قوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5]، الباء هنا سببية متعلقة، أي: أن الأرض تحدث بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها بالتحديث.
قال القاسمي: الإيحاء استعارة أو مجاز مرسل ليس المقصود ظاهره.
وهذا أيضاً كلام غير مقبول، فالله سبحانه وتعالى يمكن أن يوحي للأرض كما أوحى إلى النحل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68].
قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6]، أي: ينصرفون من مراقدهم إلى مواطن حسابهم وجزائهم، متفرقين إلى سعداء وأشقياء، فقوله: ((يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا)) مثل قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43]، ومثل قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14].
قوله: (لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) أي: ليريهم الله جزاء أعمالهم.(200/3)
تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره)
قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7]، أي: فمن عمل في الدنيا وزن ذرة في الخير يرى ثوابه هنالك، والذرة: النملة الصغيرة، وهي مَثَلٌ تضربه العرب في كل ما هو صغير ودقيق، وقيل: الذر هو الهباء الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من النافذة، فينعكس ضوء الشمس على الذر الدقيق جداً.
وبعض الناس ممن يستغرقون في التفكير العلمي يفخرون بأن القرآن دل على أن الذرة تنقسم، واستدلوا بالآية: {وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ}، حيث زعموا أن فيها إشارة إلى الذرة، كما في سورة سبأ ويونس.
لكن هذا الكلام لا يسلم لهم؛ لأن المعهود والمعروف عند العرب من كلمة (ذرّة) أنها النمل الصغير، أو هذا الهباء، والعرب لم يقصدوا بكلمة (ذرّة) أنه الجزء الذي بتجمعه تكون الجزيئات، بل هذا اصطلاح علمي حادث.
فلا يجوز محاكمة القرآن أو فهم القرآن في ضوء ما حدث من الاصطلاحات، إنما نفهمه على لغة العرب، ولا نربط القرآن بمثل هذا الكلام، ونزعم أن القرآن جاء بهذا أو دل على أن الذرة تنقسم بدليل قوله: {وَلا أَصْغَرَ}، فالآية تعني أن هناك ما هو أصغر من الذرة، وأما ذاك التفسير فإنه من التعمق والتوسع في الربط بين القرآن وبين الاكتشافات العلمية.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:8]، أي: ومن كان عمل في الدنيا وزن ذرة من شر فإنه يرى جزاءه ثمة، أي: هناك.
قال السيوطي في الإكليل: في هاتين الآيتين الترغيب في قليل الخير وكثيره، والتحذير من قليل الشر وكثيره، فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: هذه الآية أحكم آية في القرآن، وفي لفظ: أجمع آية في القرآن، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: الجامعة الفاذّة.
ففي الصحيح: (أنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن زكاة الحمر وسكت عن البغال) والجواب فيهما واحد؛ لأن البغل والحمار لا كر فيهما ولا فر، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما في الخيل من الأجر الدائم والثواب المستمر سأله السائل عن الحمر؛ لأنه لم يكن عندهم يومئذٍ بغال ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تسمى (الدلدل) والتي أهداها إليه المقوقس، فأفتاه في الحمير بعموم الآية، وأن في الحمار مثاقيل ذر كثيرة، وسياق الحديث كان في الخيل، وثواب المجاهد في الخيل وما كان عليها من حبل وما خرج منها من روث كذلك يكون في ميزان حسنات المجاهد إلى آخره.
فسأله الرجل عن الحمير فأفتاه بعموم الآية، كما جاء في الحديث قال له: (ما أنزل الله فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]).
فإذا كان من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومثقال ذرة شراً يره، فكم في الحمار من مثاقيل الذر؟! فلو أن إنساناً عنده حمار يستعمله في الخير فإن له أجراً على قدر ذلك.
فالشاهد هو: الاستدلال بعموم هذه الآية وأنه لم يخص الحمار بشيء معين، فهذا ينطبق على أي شيء قابل لأن يكون معيناً للإنسان على الخير أو على الشر، كل بحسبه.
وفي الموطأ: أن مسكيناً استطعم عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وبين يديها عنب، فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويتعجب، فقالت: أتعجب! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرّة؟! وروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه تصدق بتمرتين، فقبض السائل يده، فقال للسائل: ويقبل الله منا مثاقيل الذر، وبالتمرتين مثاقيل ذر كثيرة.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة)، فهذا الذي أتيح له أنه يتصدق له بتمرتين، لكن السائل استنكف أن يأخذ تمرتين! مع أن ربنا قال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة:7]، فكم فيها من مثاقيل الذر؟! وروى الإمام أحمد والنسائي في الكبرى عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} إلى آخر السورة، قال: حسبي لا أبالي ألّا أسمع غيرها).(200/4)
تفسير سورة العاديات(200/5)
تفسير قوله تعالى: (والعاديات ضبحاً فوسطن به جمعاً)
سورة العاديات هي السورة الثلاثون، وآيها إحدى عشرة.
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} [العاديات:1 - 3] هذا قَسَمٌ بخيل الغزاة التي تعدو نحو العدو لتهاجمه، وأثناء هذا العَدْو تضبح، والضَبْح: صوت أنفاسها إذا عَدَتْ، وليس المراد هنا: الصهيل؛ لأن الخيول لها حالتان: حالة الصهيل: وهو الصوت العادي المعروف.
أما الضَبْح فهو صوتها عند النزال حيث تلهث أثناء الجري للعدو، فتصدر الصوت المسموع عند الشهيق والزفير.
قوله تعالى: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات:2] أي: أن هذه الخيول توري النار بحوافرها، والقدح هو الضرب لإخراج النار، والإيراء يترتب عليه؛ لأنه إخراج النار وإيقادها، فإيراؤها ما يرى من صدم حوافرها للحجارة وهي تعدو، لا سيما إذا اصطدمت بالصخور، فذلك يُخرج شرارة أو ناراً، وتسمى: نار الحداحد، ولما كان هذا مرتباً على عدوها عطفه بالفاء بقوله: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا}.
قوله تعالى: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} [العاديات:3] أي: تُغِيْر على العدو في وقت الصبح، يقال: أغار على العدو، إذا هجم عليه ليقتله أو يأسره أو يسترد منه ماله، فهذا وصف للخيل بالغاية التي جهزت لها، أي: أنها تعدو ويشتد عَدْوها حتى يخرج الشرر من حوافرها؛ لتهجم على العدو وقت الصباح، وهو وقت المفاجأة حينما يكون العدو على غير أُهْبة، وهذا أفضل وقت يُغار فيه على العدو.
قوله تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} [العاديات:4] أي: فَأَهَجْن في ذلك الوقت غباراً، وهو مأخوذ من الإثارة، وهي التهييج وتحريك الغبار حتى يرتفع.
والنقع الغبار، وورد بمعنى الصياح، فجوز إرادته هنا، بمعنى صياح من هوجم عليه وأوقع به، لا صياح المغير المحارب، لكن الأول الأقرب.
قال الشهاب: وذِكْرُ إثارة الغبار إشارة إلى شدة العَدْو وكثرة الكر والفر، وتخصيص الصبح هنا؛ لأن الغارة كانت معتادة فيه، أي: لمباغتة العدو، والغبار إنما يظهر نهاراً وليس ليلاً.
قوله تعالى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات:5] أي: فتوسطن ودخلن في وسط جمع من الأعداء ففرّقنه وشتتنه.(200/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الإنسان لربه لكنود وإنه لحب الخير لشديد)
قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6]، هذا هو جواب القسم.
قوله: (كنود) أي: كفور، يكفر نعمة الله ولا يشكرها، أي: لا يستعملها فيما ينبغي ليتوصل بها إليه.
قال المهايمي: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} أي: لكفور، فيوجب قتاله بهذه الخيول، وقهره بهذا الغضب.
يعني: بما أنه كفور؛ فإنه يستحق أن يسلّط الله عليه المجاهدين ليقهروه بهذه الخيول وبهذا الغضب؛ لأنه كنود كفور، إذ كفر بالله سبحانه وتعالى وبنعمه.
وعن أبي أمامة قال: الكنود الذي يأكل وحده، ويظلم عبده، ويمنع رفده.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}، أي: وإن الإنسان على كفره وجحوده لشهيد، يشهد على نفسه به؛ لظهور أثره عليه، فالشهادة مستعارة لظهور آثار كفره وعصيانه بلسان حاله.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]، أي: وإنه لحب المال والدنيا وإيثارها لقوي، والخير: المال والدنيا، بدليل قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180]، فيطلق الخير على المال؛ لأن الأصل في المال أنه خير، فيستعان به على طاعة الله، وهو في حُب تقوى الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس.
قوله: (لحب) لو قلنا: إن اللام للتعليل، فيكون المعنى: وإنه لأجل حب المال (لشديد) أي: لبخيل، فلذلك يحتجب به غارزاً رأسه في تحصيله وحفظه وجمعه ومنعه، مشغولاً به عن الحق معرضاً به عن جلاله.(200/7)
تفسير قوله تعالى: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور) إلى قوله: (إن ربهم بهم يومئذٍ لخبير)
قال تعالى: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} [العاديات:9] أي: بعد هذا الاحتجاج ومخالفة العقل، أفلا يعلم بنور فطرته وقوة عقله، (إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ)، أي: بُعث وأُثير ما في القبور وأُخرج موتاها، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10]، أي: أُظهر وأُبرز ما في صدورهم ونفوسهم من أسرارهم ونيّاتهم المكتومة، مع ما فيها من خير أو شر.
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:11]، أي: عالم بأسرارهم وضمائرهم وأعمالهم، فيجازيهم عليها يومئذٍ، وهنا نلحظ تقديم الظرف، فلم يقل: (لخبير يومئذ) وإنما قال: (يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)، إما لمكان نظم السجع ورعاية الفواصل، أو للتخفيف لوقوع علمه تعالى كناية عن معجزاته وإنما تكون يومئذٍ.
قال الرازي: قوله تعالى: (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ)، خصّ هُنا أعمال القلوب بالتحصيل دون أعمال الجوارح؛ لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح؛ ولذلك جعلها تعالى هي الأصل في الذم، فقال: {آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283]، وهي كذلك الأصل في المدح كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2].(200/8)
تفسير سورة القارعة(200/9)
تفسير قوله تعالى: (القارعة ما القارعة) إلى قوله: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش)
سورة القارعة هي السورة الواحدة بعد المائة، وهي سورة مكية، وآيها إحدى عشرة آية.
بسم الله الرحمن الرحيم.
قال الله تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 3].
القرع هو: الضرب بشدة واعتماد بحيث يحصل منه خوف شديد، والقارعة هي القيامة، وهذا الاسم من أسماء القيامة التي سُميت بها؛ لأنها تفزع القلوب والأسماع بهموم الأفزاع والأهوال، وتخرج جميع الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال: السماء بالانشقاق والانفطار، والشمس والنجوم بالتكوير والانكدار والانكسار، والأرض بالزلزال والتبديل، والجبال بالدّك والنسف.
قوله تعالى: {مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:2] (ما) مبتدأ خبره قوله تعالى: {مَا الْقَارِعَةُ}، أيْ: أيّ شيء عجيب في الفخامة والفضاعة؟! قوله: (القارعة) لم يقل: ما هي؟ وإنما قال: (ما القارعة) حيث وضع الظاهر موضع الضمير تأكيداً للتهويل.
قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}، تأكيد لهولها وفضاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق، على معنى: أن عِظَم شأنها ومدى شدتها بحيث لا تحيط به دراية أحد حتى يدرك حقيقتها، فقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:3]، أي: وأيّ شيء أعلمك بشأن القارعة؟! ولما كان هذا ينبئ عن الوعد الكريم بإعلامها أنجز ذلك بقوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4]، أي: هي يومٌ يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، أي: في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والاضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار.
وكلمة (يوم) إما أن تكون منصوبة بإضمار كلمة: اذكر، وكأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة، وتشويقه عليه الصلاة والسلام في معرفتها، فيكون تقدير الكلام: اذكر (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث).
قوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5]، أي: كالصوف المندوش في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو، ولما كان من المعلوم أن ذلك اليوم هو اليوم الذي تبدأ فيه الحياة الآخرة، وفيها تعرف مقادير الأعمال، وما تستحقه من الجزاء رتّب عليه ما يأتي من الآيات.(200/10)
تفسير قوله تعالى: (فأما من ثقلت موازينه) إلى قوله: (نار حامية)
قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:6 - 7].
قال ابن جرير: أي: فأما من ثقلت موازين حسناته، يعني بالموازين: الوزن، والعرب تقول: لك عندي درهم بميزان درهمك، ويقولون: داري بميزان دارك، ووزن دارك يراد حذاء دارك.
قال الشاعر: قد كنتُ قبل لقائكم ذا مرة عندي لكلّ مخاصمٍ ميزانُهُ يعني: كلامه وما ينقض عليه حجته، وكان مجاهد يقول: ليس ميزان إنما هو مَثَل يُضرب.
وعليه: فهو كالموازين، جمع ميزان.
وجوز كونه جمع موزون، وهو العمل الذي له أثر ووزن عند الله تعالى، والأرجح المعنى الأول إثباتاً لحقيقة الميزان؛ لأن هذا من عقائد أهل السنة، وهي أننا نعتقد ثبوت الميزان، وأن هناك ميزان توزن فيه الأعمال، كما ثبت ذلك في الأحاديث، فكان لائقاً أن يشار إلى هذا الاعتقاد، لا أن يُحام حول هذه المعاني اللغوية بما يفهم في أنه لا يوجد ميزان حقيقي، بل هناك آيات أخرى مثل قوله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]، وقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ولولا الحرص على الاختصار لأفردنا ذلك ببحث مستقل نبين فيه الاعتقاد الصحيح في موزاين الأعمال.
قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:7]، أي: في عيشة قد رضيها في الجنة، راضية أي: مَرضيّة.
قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:8]، أي: وزن حسناته، {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:9]، أي: فمأواه ومسكنه الهاوية التي يأوي بها على رأسه في جهنم والعياذ بالله.
فسمّى المأوى أُمّاً على التشبيه تهكماً؛ لأن أم الولد مأواه ومستقره، وقيل: المراد أم رأسه، أي: يُطرح في النار منكوساً على رأسه والعياذ بالله، والأول هو الموافق لقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:10 - 11]، يعني: مأواه ومسكنه الهاوية، يقذف فيها على رأسه والعياذ بالله في الجحيم.
قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة:10]، أي: ما أدراك ما الهاوية؟ فقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}، أصلها: (وما أدراك ما هي) كناية عن الهاوية، فأدخلت فيها هاء السكت وقفاً، وتحذف وصلاً، وقد أجيز إخفاؤها مع الوصل.
وجواب هذا السؤال هو قوله: {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:11].(200/11)
تفسير سورة الهمزة [1](201/1)
الوعيد الشديد لمن يضحك الناس بالحديث الكاذب
عن بهز بن حكيم قال: حدثنا أبي عن جدي قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم؛ ويل له ويل له)، رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود، والترمذي، وحسنه الحاكم، والنسائي؛ ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني.
وهذا الحديث يرويه بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة رضي الله عنه.
و (ويل) أي: هلاك عظيم، أو واد عميق في جهنم؛ (لمن يحدث)، أي: لمن يخبر الناس؛ (فيكذب) في حديثه؛ (ليضحك به القوم) يضحك هنا من الإضحاك، أي: بسبب تحديثه، أو يضحك بهذا الكذب القوم؛ (ويل له ويل له).
يقول الإمام المناوي في شرح هذا الحديث: (كرره إيذاناً بشدة هلكته) فكرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الويل وهذا الوعيد إيذاناً بشدة هلكة من أتى هذا الفعل الشنيع.
ويقول الإمام القاري في شرحه: (كرره إما للتأكيد أو للتأذية؛ فتكون الويل الأولى للبرزخ) أي: ويل له أنه يلقى هذا العذاب وهذا الوعيد في البرزخ في قبره، (ثم ويل الثانية يلقاها عند الموقف أمام الله عز وجل؛ والويل الثالثة يلقاها في النار).
وهذا ما يعرف بـ: (النكتة) فهو يكذب في الكلام من أجل أن يضحك الناس، وهذا من الكبائر، وعليه هذا الوعيد الشديد، وقول المناوي: (كرره إيذناً -يعني إعلاماً- بشدة هلكته، وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل فضيحة، فإذا انضم إليه -أي: إلى الكذب- استجلاب الضحك الذي يميت القلب) بدليل ذلك ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكثروا الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب) رواه ابن ماجة في سننه، فإذا انضم إليه استحلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان، ويورد الرعونة؛ كان أقبح القبائح، ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة؛ فهو ينكت ويضحك ويكذب أيضاً ليضحك القوم.
وقال المباركفوري في شرح هذا الحديث: (ثم المفهوم منه؛ يعني إذا كان هذا حق من يكذب ليضحك به القوم, فمفهوم المخالفة: أنه إذا حدث بحديث صدق ليضحك القوم فلا بأس) إن كان إنسان على سبيل الندرة ليس على سبيل العادة، وأن حياته كلها تكون هزلاً ومزاحاً وضحكاً؛ فإن كان يضحك القوم بحديث صدق فلا حرج في ذلك ولا ويل له، كما صدر مثل ذلك عن عمر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم حين غضب على بعض أمهات المؤمنين.
وهو يشير بذلك إلى ما أخرجه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: (أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو صلى الله عليه وسلم ساكت -يعني واجم كأنه حزين- فقال عمر -في نفسه-: لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك)، حاول أن يضحك النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى من حاله الذي يظهر منه الحزن (فقال عمر: يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد -يعني امرأته- سألت النفقة آنفاً فوجأت عنقها -يعني: أرادت أن أوسع عليها فقطعت عنقها- فضحك النبي صلى الله عليه وسلم) أراد سيدنا عمر أن يضحكه لكن بالحق وليس فيها كذب، (فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: هن حولي يسألنني النفقة، فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها ليضربها.
وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة رضي الله عنها، كلاهما يقولان: تسألن النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضربهما، فقلن: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده؛ قال: وأنزل الله عز وجل الخيار بسورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29]؛ فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بـ عائشة فقال: إني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28]؛ قالت: أفيك أستأمر أبوي، بل أختار الله تعالى ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال: إن الله تعالى لم يبعثني معنفاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً؛ لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها).
المقصود من الحديث: أن عمر رضي الله عنه هنا في هذا الحديث فعل فعل الإضحاك، وتعمد الإضحاك لكن بحق ولم يكذب.
فمفهوم الحديث: أن الذي يضحك القوم في الحق فلا حرج عليه، لكن الحرج فيمن يضحكهم بحديث الكذب.
وقال الغزالي: وحينئذ إذا أراد الإنسان أن يضحك القوم بحديث صدق فينبغي أن يكون من قبيل مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا أراد أن يمزح فليكن على نهج النبي صلى الله عليه وسلم في مزاحه، فلا يقول إلا حقاً؛ ولا يأتي بمزاح إلا من المزاح الحق كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستحمله) يعني: طلب منه أن يحمله على دابة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا حاملوك على ولد الناقة، فقال: يا رسول الله! ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق!) فأراد أن يداعبه النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه فهم أنه يريد ولد الناقة الصغير وهو لا يحمل، وهذا الحديث رواه الإمام أبو داود والترمذي.
وقال زيد بن أسلم: (إن امرأة يقال لها: أم أيمن، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن زوجي يدعوك.
قال: ومن هو؟ أهو الذي بعينه بياض! فقالت: والله ما بعينه بياض، فقال: بلى إن بعينه بياضاً، فقالت: لا والله، فقال: ما من أحد إلا وبعينه بياض)؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم البياض الذي في عين كل إنسان وهو المحيط بالحدقة، أما هي فقد فهمت منه البياض الذي يكون على الحدقة.
وأخرج الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً، وكان يهدي النبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج) كان إذا قدم من البادية يأتي معه بهدية، فإذا أراد أن يخرج من الحضر إلى البادية يعود لكي يجهزه النبي ويهديه هدية أخرى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن زاهراً باديكم ونحن حاضره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان رجلاً دميماً، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه، ولم يبصره زاهر، فقال: أرسلني، من هذا، فعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه -فلم يعد يطلب أن يقول له: أرسلني- وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله! إذن والله تجدني كاسداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد) أو قال: (لكنك عند الله غال) وهذا الحديث رواته ثقات.
فسياق هذا الحديث يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليبيع رجلاً حراً، ولكن أراد بكلمة العبد: (من يشتري العبد)، يعني: عبد الله؛ وكلنا عبيد لله.
وأخرج الترمذي في الشمائل عن الحسن قال: (أتت عجوز النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز؛ فولت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:35 - 37])، يعني: أنها تعود إلى صباها ولا تدخلها وهي على هيئة الشيخوخة.
وأخرج الترمذي في الشمائل عن أنس رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ذا الأذنين) يعني: يمازحه؛ لأن كل إنسان له أذنان.
وهذه الأحاديث حتى وإن لم يصح بعضها لكن جملتها تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولكن بالحق ولم يكن يغلب عليه هذا المزاح.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قالوا: يا رسول الله! إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلا حقاً)، فهذا شأن النبوة، وفي هذا ينبغي أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الغزالي: (وحينئذ ينبغي أن يكون م(201/2)
تفسير سورة الهمزة
يقول الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:1 - 9].
اسم هذه السورة: سورة الهمزة.
وهي: مكية بإجماع من نقل عنه من المفسرين، وقال هبة الله بن سلامة المفسر: (وقد قيل إنها مدنية) ولا شك أن البناء للمجهول يدل على ضعف هذا القول، لكن ذكر بعض المفسرين أنها مكية بإجماع.
وعدد آياتها تسع آيات بلا خلاف.(201/3)
مناسبة موضع سورة الهمزة لما قبلها وما بعدها من السور
أما مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي سورة العصر: لما ذكر سبحانه فيما قبلها في سورة العصر أن الإنسان سوى من استثنى الله سبحانه وتعالى في خسر: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:2 - 3]، بين هنا في السورة التالية أحوال بعض الخاسرين على وجه التفصيل، فقال عز وجل: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1].
أما مناسبة هذه السورة لما بعدها وهي سورة الفيل: فكأنه لما تضمن الهمز واللمز من الكفرة الذين كانوا يلمزون النبي صلى الله عليه وسلم نوع كيد له عقب ذلك بقصة أصحاب الفيل؛ للإشارة إلى أن عقبى كيدهم في الدنيا تدميرهم، فإن عناية الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم أقوى وأتم من عنايته بالبيت، أي: إذا كانت عناية الله لبيته الحرام أدت إلى إهلاك أصحاب الفيل فعنايته بنبيه الذي تهمزونه وتلمزونه أتم وأتم؛ فالسورة تشير إلى مآلهم في الدنيا إثر بيان مآلهم في الأخرى، ويجوز أن تكون كالاستدلال على ما أشير إليه فيما قبلها من أن المال لا يغني من الله تعالى شيئاً، يعني {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:2 - 3]، هؤلاء ليسوا ممن {جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:2 - 3]، ويتوهم أن النجاة بكثرة المال وكثرة تعداده، وإنما النجاة كما في سورة العصر بالعمل الصالح والصبر عليه.
أو تكون كالاستدلال على قدرته عز وجل على إنفاذ ما توعد به أولئك الكفرة في قوله سبحانه: {لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} [الهمزة:4]، فالله عز وجل الذي قدر على أن يعاقب أصحاب الفيل في الدنيا بهذه العقوبة الشديدة وهذا الخزي وذلك النكال قادر سبحانه وتعالى بالأولى على أن ينفذ هذا الوعيد المتوعد به في هذه الآية: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}.
أما سبب النزول فلم يرد من طريق ثابت أو صحيح سبب مباشر في نزول الآية، لكن حكى بعض المفسرين أقوالاً في أن هذه السورة نزلت في أشخاص معينين.
قال ابن الجوزي: واختلف المفسرون هل نزلت في حق شخص بعينه، أم نزلت عامة؟ على قولين، ويأتي إن شاء الله التفصيل.(201/4)
القراءات في سورة الهمزة
أما بالنسبة للقراءات في هذه السورة، فقد قرأ الجمهور: (ويل لكل همزة لمزة) كما هي رواية حفص؛ وقرأ أبو جعفر محمد بن علي والأعرج: (ويل لكل همزة لمزة) بسكون الميم فيهما.
قرأ الجماعة أيضاً: (الذي جمع مالاً وعدده)، (الذي جمع) فعل مخفف الميم، وشددها الحسن وابن عامر وحمزة والكسائي على التكثير، واختار أبو عبيد تشديد الميم لقوله تعالى: (وعدده) فهو أوفق به.
وقال الطبري: أما قوله: (الذي جمع مالاً) فإن التشديد والتخفيف فيهما صوابان، يعني: كلاهما قراءة صحيحة (الذي جمع) أو (الذي جمع) لأنهما قراءتان معروفتان عند قرأة الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقرأ الحسن والكلبي ونصر بن عاصم وأبو العالية: (الذي جمع مالاً وعدده) أي: قرأ الموضعين بالتخفيف، فأظهروا هذا التبعيض فقالوا في قوله: (الذي جمع مالاً وعدده) قالوا: العطف هنا على المال، أي: جمع المال ثم جعل (وعدده) أي: عدد هذا المال.
قال الطبري تعليقاً على قراءة (وعدده): (وقد ذكر عن بعض المتقدمين بإسناد غير ثابت أنه قرأه (جمع مالاً وعدده) بتخفيف الدال، بمعنى جمع مالاً وجمع عشيرته وعدده، وهذه القراءة لا القراءة بها، بخلافها قراءة الأمصار وخروجها عما عليه الحجة مجمعةً في ذلك).
فالمقصود: أن القراءة بالتشديد والتخفيف في ميم (جمع) (الذي جمع) أو (جمع مالاً وعدده) وجهاً واحداً.
قوله: (كلا لينبذن) قرأ الحسن ومحمد بن كعب ونصر بن عاصم ومجاهد وحميد وابن محيصن بالتثنية (كلا لينبذان) أي: لينبذن هو وماله؛ وعن الحسن أيضاً (كلا لينبذنه) يعني لينبذن ماله، وعنه أيضاً (كلا لننبذنه) أي: بدون العظمة وهاء النصب ونون التوكيد (لننبذنه) على أنه أخبر الله تعالى عن نفسه، وأنه ينبذ صاحب المال ويلقيه في الحطمة، وعن الحسن أيضاً (لينبذن) بضم الذال على أن المراد الهمزة واللمزة والذي جمع مالاً وكأن على هذا المجموع كله لينبذن كلهم في الحطمة، وقرأ زيد بن علي: (لينبذن في الحاطمة * وما أدراك ما الحاطمة).
وقال الطبري في تفسير في قوله تعالى: (إنها عليهم مؤصدة) بالهمز؛ قال: (مؤصدة يعني: مطبقة وهي تهمز، ولا تهمز وقد قرئتا جميعاً) يعني ممكن تقرأ (مؤصدة) أو (موصدة).
وليس معنى هذا أننا في الصلاة نجمع بين القراءتين في وقت واحد، وإن بدأت بقراءة حفص عن عاصم تستمر فيها، لكن لا تجمع في المجلس الواحد بين قراءتين مختلفتين كما يفعل بعض القراء؛ لأن هذا من البدع.
قوله: (في عمد ممددة) اختار أبو عبيد (عمد) بفتحتين، وكذلك أبو حاتم، اعتباراً بقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2]؛ وأجمعوا على فتحها، فهو قال: بما أنهم أجمعوا في سورة الرعد على فتح كلمة (عمد) فكذلك هنا تقرأ على مثالها.
وفي قراءة ابن مسعود: (إنها عليهم مؤصدة * بعمد ممددة) وقراءة حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: (في عمد ممددة) جمع عمود في حاله، فقرأ هارون عن أبي عمر بضم العين وسكون الميم (في عُمد ممددة) لكن قراءة الجمهور بالفتح: (في عمد ممددة) وقال الطبري: (قرأته عامة قراء المدينة والبصرة (في عمد ممددة) بالفتح، وقرأ عامة قراء الكوفة (في عمد ممددة) بالضم.
والقول في ذلك عندنا: أنهما قراءتان معروفتان قد قرأ بكل واحد منهما علماء من القراء، ولغتان صحيحتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
لكن لو كان في صلاة جماعة والإمام يقرأ مستمراً على قراء حفص عن عاصم ثم خالف وقرأ بقراءة أخرى حتى ولو لم يقصد، لكن في هذه الحالة لا تفتح عليه؛ لأن هذا لا يعتبر خطأً، فمادام أن القراءة التي قرأ بها الإمام هي أحد أوجه القراءة الصحيحة فلا تنكر عليه، ولا تفتح عليه في الصلاة.(201/5)
سبب نزول سورة الهمزة
يقول الله عز وجل: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1]، قال الإمام أبو حيان: هذه السورة مكية، لما قال فيما قبلها: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2]؛ بين حال الخاسر فقال: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}.
ونزلت في الأخنس بن شريق، لكن الحافظ ابن حجر صحح في الإصابة أنه أسلم، وكان من المؤلفة قلوبهم، فإذاً: إن صح هذا فلا يتأتى هذا الوعيد في حقه، فإما ألا يصح ذلك، أو لا يصح إسلامه.
وقيل: إنها نزلت في: العاص بن وائل السهمي، أو جميل بن عامر الجمحي، أو الوليد بن المغيرة، أو أمية بن خلف، أو أبي بن خلف.
وهذه كلها أقوال ذكرها المفسرون في الشخص الذي نزلت فيه هذه السورة، ويمكن أن تكون نزلت في الجميع، وهي مع ذلك عامة في من اتصف بهذه الأوصاف، وقال السهيلي: هو أمية بن خلف الجمحي كان يهمز النبي صلى الله عليه وسلم ويعيبه، وإنما ما ذكرته -إن كان اللفظ عاماً-؛ لأن الله سبحانه وتعالى تابع في أوصافه، أي: أن بعض العلماء يرى أنها نزلت في شخص بعينه؛ لأن الله تابع في ذكر أوصاف هذا الشخص والخبر عنه: (ويل لكل همزة لمزة * الذي جمع مالاً وعدده) فكل كلامه على ضمير معين، حتى فهم أنه يشير إلى شخص بعينه، وكذلك قوله في سورة نون: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم:10 - 12] إلى آخر الآيات، فتابع في ذكر الصفات حتى علم أنه يريد إنساناً بعينه هو الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد رضي الله عنه.
قال الطبري: فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عم بالقول كل همزة لمزة، كل من كان بالصفة التي وُصف هذا الموصوف بها، سبيله سبيله، كائناً من كان من الناس؛ لأن اختصاص السبب لا يستدعي خصوص الوعيد بهم، بل كل من اتصف بوصف القبيح فله ذنوب مثل ذنوبهم.
وقال بعض أهل العربية: هذا من نوع ما تذكر العرب اسم الشيء العام، وهي تقصد به الواحد، ويسمونه في أصول الفقه (تخصيص العام بقرينة العرف) يعني: هي عامة والمقصود بها شخص بعينه، كما يقال فيما لو كلم الأول الثاني فيقول له: لا أزورك أبداً، أي: أنا لن أزورك أبداً، فيرد عليه الثاني: كل من لم يزرني فلست بزائره، وهو يقصده هو بالذات، فظاهر اللفظ أنه يعني أناساً كثيرين، لكن يظهر من سياق الكلام أنه يقصد المتكلم نفسه، وقائل ذلك يقصد جواب صاحبه ويريده هو بهذه الصيغة العامة.
المهم: هناك خلاف في الآية، لكن لاشك -كما يرى الكثير من المفسرين- أن المقصود هنا العموم حتى وإن نزلت في سياق خاص؛ لأنه لا تعارض؛ والعبرة بعموم الألفاظ وليست بخصوص الأسباب.(201/6)
تفسير قوله تعالى: (ويل لكل همزة لمزة)
قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1].(201/7)
معنى كلمة (ويل)
اختلف المفسرون في معنى كلمة (ويل) فقال الشوكاني: الويل مرتفع على الابتداء، أي: أنها مبتدأ، وهي أصلاً نكرة لمفعول، لكن ساغ أن يبتدأ بها لأنها بمعنى الدعاء، وخبر (ويل): (لكل همزة لمزة) والمعنى: خزي، أو عذاب، أو هلكة، أو واد في جهنم (لكل همزة لمزة).
وقال الطبري: (الويل هو الوادي يسيل من صديد أهل النار وقيحهم).
وقيل: هي كلمة عذاب وهلاك، وقد وردت هذه الكلمة أيضاً في قوله تعالى في سورة الجاثية: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية:7].
ويشهد لهذا المعنى ما جاء في حق أصحاب الجنة التي أصبحت كالصريم، أنهم قالوا عند رؤيتهم إياها: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} [القلم:31]؛ فكلمة (ويل) كلمة تقال عند نزول المصائب، وعند التقبيح؛ فنقول: (ويل لك) إذا أردت أن تقبح الشخص، وكذلك عند نزول المصيبة الشديدة يقول: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:14].
وقال الفخر الرازي: (أصل الويل: لفظ السخط والذم، وأصلها: (وي لفلان) يعني: ويل، ثم لما كثرت في كلام العرب وصلت باللام، فأصبحت (ويل) ويقال: ويحك للترحم لكن هذه للتوبيخ)، ومما يدل لهذا القول الذي حكاه الرازي قوله عز وجل حاكياً في قصة قارون: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82]؛ ومثله أيضاً ما قد يستخدم في التعجب كما في قوله عز وجل: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:72]؛ وقوله: {قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} [المائدة:31] فالظاهر أن (يا ويلتا) كلمة تقال عند الشدة والهلكة، أو عند شدة التعجب مما يشبه الأمر المستبعد، والذي يشهد له القرآن هو هذا المعنى.
وسبب الخلاف في ذلك راجع لمجيئها تارةً مطلقة؛ كقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:19]، وها هنا أيضاً تنزل: (ويل لكل همزة لمزة) وتجيء أيضاً مع ذكر ما يتوعد به؛ كقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]، وقوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف:65]، يعني: ويل لهم من عذاب يوم أليم، فذكر النار والعذاب الأليم مع كلمة الويل، لكن في هاتين الآيتين: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وهذه السورة: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}، لم يبين هل هي من النار أو غيرها، وكذلك قوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم:37]، فهي في هذا كله في سياق الوعيد الشديد مما ذكر معها من النار والعذاب الأليم، ومشهد اليوم العظيم، وليست مقصودة بذاتها دون ما ذكر معها.
فالمقصود: أنها كلمة تدل على الهلكة وعلى الوعيد الشديد.(201/8)
أقوال العلماء في معنى الهمزة اللمزة
اختلف العلماء في المراد بالهمزة اللمزة اختلافاً كبيراً، فهناك قول: بأنهما متفقان، بمعنى أن الهمزة واللمزة فعل شخص واحد، والقول الثاني: بأنهم متغايران، فقيل: إن الهمزة العياب الطعان الذي يكثر منه عيب الناس، والطعن عليهم، واللمزة أيضاً مثله، عن أبي الجوزاء قال: قلت لـ ابن عباس: (من هؤلاء الذين بدأهم الله بالويل؟) يعني: من هؤلاء الذين لما بدأ الله الكلام في حقهم بدأه بتوعدهم بهذا الويل، وفي لفظ: (من هؤلاء الذين ندبهم الله إلى الويل؟ قال: هم المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب).
فقوله: (المشاءون بالنميمة) يعني: الذين يمشون بالنميمة، فيكثر منهم ويغلب عليهم؛ لأنها صيغة مبالغة.
وقوله: (الباغون للبرآء العيب) يعني: ينسبون إلى الناس البرآء من الصفات ما هم بريئون منها، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلي المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبرآء العنت والعيب)، وهذا الحديث رواه الطبراني في المعجم الصغير، وقال الألباني: ضعيف له شواهد ترقى به إلى مرتبة الحسن.
وقال الزجاج: (الهمزة اللمزة) الذي يغتاب الناس ويردهم، يعني: ينتقص أقدارهم ويحتقرهم، قال الشاعر: إذا لقيتك عن كره تكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه وفي لفظ آخر: إذا لقيتك عن شحط مكاشر، فقوله: (عن شحط) أي: عن بعد ومعنى البيت: أنك أول ما تنظر إلي تقطب وجهك، وإن كنت غير موجود في المجلس كنت الهامز اللمزة الذي يغتاب ويطعن ويعيب الناس! إذا لقيتك عن شحط تكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه وقال زياد الأعجم: تدلي بودي إذا لاقيتني كذباً وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه والمعنى: إذا قابلتني تظهر لي المودة، وإن أغيب فأنت الهامز اللمزة، يعني: الطعان العياب.
وقال ابن قتيبة: أصل الهمز واللمز الدفع.
ومن ذلك قول بعض الشعراء: ومن همزنا عزه تبركعا على استه زوبعةً أو زوبعا يقال: بركعه فتبركع.
يعني: صرعه فوقع على استه.
فالمقصود أن هذا قول من قولين، وهو أن الهمزة اللمزة هي صفة واحدة هي العيب والطعن في الناس.
وهناك قول آخر: أنهما مختلفان، فالهمزة غير اللمزة، وأصل الهمز: الكسر والعض على الشيء بعنف، ومنه همز الحرف، ويقال: همزت رأسه، وهمزت الجوز بكفي كسرته، يمسكه بيديه بعنف فيكسره.
وقيل لأعرابي: أتهمزون الفارة، أي: أنتم عندكم في البادية كيف تنطقون هذه الكلمة؟ يعني: أتنطقونها الفأرة بالهمزة وليس بالألف؟ فقال: إنما تهمزها الهرة، والذي في الصحاح: قيل لأعرابي: أتهمز الفارة؟ فقال: السنور يهمزها، والسنور اسم القط، فالسنور يهمزها، فالقول الأول قاله الثعلبي، وهو يدل على أن الهة يسمى الهمزة.
إذاً فمن ناحية اللغة ممكن أن نسمي القط الهمزة، وقال العجاج: ومن همزنا رأسه تهشماً، يعني: كسرنا رأسه.
إذاً: هناك أقوال متعددة تصل إلى سبعة أقوال في التفريق بين الهمزة واللمزة؛ فمنهم من قال: إن الهمزة هو المغتاب القتات النمام وفي الحديث: (لا يدخل الجنة قتات) والقتات هو النمام الذي ينقل كلام الناس ليفسد بينهم، والواجب أن كون الإنسان إذا سمع كلاماً قبيحاً عن الناس فإنه لا ينقله؛ لأن هذه نميمة، وماسميت امرأة أبي لهب وبحمالة الحطب؛ إلا لأنها كانت نمامة.
وقال الحسن وعطاء وأبو العالية: الهمزة الذي يغتاب ويهمز الإنسان في وجهه إذا قابله، أما اللمزة فالذي يلمزه ويغتابه إذا غاب عنه أو أدبر عنه، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]؛ عندما يغيب عليه الصلاة والسلام يلمزوه في الصدقات.
ومن هذا المعنى أيضاً قول حسان: همزتك فاختضعت بذل نفسٍ بقافية تأجج كالشواظ وقال مجاهد: الهمزة: هو الطعان في الناس، واللمزة: الطعان في أنساب الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت)، والطعن في الأنساب بأن يقول: فلان هذا ليس ولد فلان، أو فلان هذا كذا، هذا طعن في الأنساب وهو من الكفر والعياذ بالله وهو من شأن الجاهلية، فـ مجاهد يقول: إن الهمزة طعان في الناس عموماً بأي طعن، لكن اللمزة الطعان في النسب بالذات.
وقال قتادة: الهمزة الذي يهمز بعينيه ويغمز بعينيه ويغتاب الناس بعينيه، فهذا الذي يستعمل عينيه في الهمز، أما اللمزة فيهمز باللسان.
وقال ابن زيد: الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، أما اللمزة فالذي يلمزهم بلسانه.
وقال سفيان الثوري: الهمزة الذي يهمز بلسانه جهراً، واللمزة الذي يلمز بعينه وبحاجبه سراً.
وقال مقاتل: الهمزة المغتاب، الذي يغتاب الناس في عدم وجودهم، واللمزة الطاعن على إنسان في وجهه، على عكس ما ذكرناه عن الحسن وعطاء وأبي العالية.
وقال الإمام ابن كثير: الهماز بالقول، اللماز بالفعل.
وقال ابن كيسان: الهمزة: الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ، واللمزة: الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير بيده وبرأسه وبحاجبه بها في المجلس.
وهذه الأقوال ذات وجوه متقاربة وترجع إلى أصل واحد.
بالنسبة للمغايرة؛ فقد جاء استعمال القرآن للفظتين (الهمزة واللمزة) بمعان استخدمت فيها كل كلمة مفردة عن الأخرى، مما يؤيد أن هناك نوع مغايرة بين الهمزة واللمزة؛ فالهمزة قال الله عز وجل فيه: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11]، مما يدل على أن المقصود به هنا: الغيبة والكذب والنميمة، وفي اللمزة قال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11]؛ وقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]، وكلها تدل على التنقص والعيب في الحضور لا في الغيب، فتغايرا في المعنى وفي الصفة، والجمع بينهما جمع بين القبيحين، فلهذا كان فاعلهما مستحق لهذا الوعيد الشديد: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1].
وعلى كلٍ فإن الأقوال التي قيلت في الآية متقاربة المعنى، ويمكن أن نرجعها إلى أصل واحد، وهذا الأصل هو: أن الهمز واللمز هو الطعن وإظهار العيب في الآخرين؛ ثم هذا الطعن وإظهار العيب على قسمين: إما أن يكون بالجد، كما يكون عند الحقد والحسد فيهمز ويلمز ويطعن ويظهر عيوب الناس، وإما أن يكون بالهزل، فهو يطعن فيهم بمزح كما يكون عند السخرية وإضحاك الآخرين، ثم كل قسم من هذين: (الجد أو الهزل) إما أن يكون في أمر يتعلق في الدين أو في أمر يتعلق في الدنيا بما يتعلق بجلسته أو شكله أو صورته، وأنواعه كثيرة وغير مضبوطة.
والطعن أيضاً إما يكون لحاضر أو لغائب، وقد يكون باللفظ، وقد يكون بالإشارات، كمن يشير برأسه أو بعينه أو بيده أو بلسانه أو بحاجبه إلى آخره.(201/9)
نماذج من الهمز واللمز في العصر الحديث على الدين وأهله
لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس منصباً في الدين؛ كان الطعن فيه عظيماً عند الله عز وجل؛ فلا جرم حينها أن نزل قوله عز وجل في حق من يهمزه ويلمزه قائلاً: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:1 - 3]؛ فهل يوجد في هذا العصر أناس يستحقون مثل هذا الوعيد؟ لا شك أن العصر الذي نعيشه يخرج لنا ويظهر الكثير من الذين يقعون في هذا الهمز واللمز بل في أقبح أنواعه، فنجد مثلاً المستشرقين أو الكفار من اليهود أو النصارى أو غيرهم كثيراً ما يطعنون في النبي صلى الله عليه وسلم، أو القرآن، أو دين الإسلام، أو المسلمين؛ وهؤلاء بلا شك يدخلون في هذا الوعيد الشديد.
كذلك أيضاً هناك الذين يطعنون في أحكام الشريعة الإسلامية فيقولون: هذا تأخر ووحشية وقسوة.
كل هذا الكلام هذا أيضاً من الهمز واللمز والطعن في الشريعة.
كذلك رمي المسلمين بأنهم أناس متعصبون أو متطرفون أو متشددون أو متزمتون، أو هؤلاء عندهم هوس ديني، أو هؤلاء نسوا حياتهم وضيعوا شبابهم إلى آخر هذه الأوصاف المعروفة والطعون التي توجه إلى المسلمين كل هؤلاء يدخلون تحت الهمز واللمز.
وهذه نماذج نمر عليها سريعاً.
هذا رجل يدعى مصطفى أمين، وهو معروف ولا يوجد أحد إلا ويعرفه، وقلما يظهر حقيقة، وهذا الشخص بالذات دائماً يتكلم عن الإنسانية وخدمة الناس، لكن حقيقة أهدافه قلما يفصح عنها، ومن مقولاته: إن حضارة مصر عمرها سبعة آلاف سنة، ولا يمكن أن تعود إلى الخلف.
وكان هذا في معرض رده على تطبيق الدعوة التي نادت إلى تطبيق الشريعة الإسلامية.
وهذا من الهمز واللمز إلى أن الشريعة متخلفة.
وقال في مناسبة أخرى: (حارب الأحرار في هذا البلد سنوات طويلة) والأحرار هنا ليس بالمعنى الذي يتبادر للذهن، ولكن يقصد اللبراليين، يقول: إن الحرية مطلقة والإنسان على أن يتحرر في تفكيره من أي قيود وبالذات قيد الدين؛ لأن معنى اللبرالية ما عرف في أوروبا إلا بعد الثورة على الكنيسة وفصل الدين عن الحياة واللبرالية تعني التحرر من القيود كلها وبالذات قيد الدين.
يقول: (حارب الأحرار في هذا البلد سنوات طويلة لتحصل المرأة على بعض حقها، لكن يظهر أن بعض الناس يريدون العودة بها إلى الوراء، وقد يحدث هذا في أي مكان، ولكن لا نفهم أن يحدث في الجامعة مهد التقدم والفكر الحر).
وهذا الرجل يصرح كان بأهدافه منذ زمن، وله كلام قبل استقلال مصر تحت عنوان الأهداف التي سوف تعمل لها مصر بعد الاستقلال.
قال: ومن الأهداف التي سأعني بها وأقود إليها الرأي العام أن أحارب التعصب الديني.
وأن أجدد الأزهر، وأنادي بتحرير المرأة قلبياً؛ لأن الحب الطاهر لا يزال جريمة يعاقب عليها المجتمع، والمجتمع المصري إلى اليوم مجتمع لا روح فيه؛ لأنه خالٍ من المرأة، والشباب المصري لا شخصية له؛ لأنه ليس في حياته امرأة.
ومن أهدافه: أن يشجع المرأة على المطالبة بحقوقها السياسية وتولي الوظائف، وأن ترث كما يرث الرجل تماماً.
والعياذ بالله.
فهو يدعو إلى اتحاد شرقي على نظام الولايات المتحدة الأمريكية ولا يريد اتحاداً إسلامياً.
هذا الكلام نقله عنه الأستاذ نور الدين في كتاب اسمه: (الصحافة والأقلام المسمومة)، ففيه قصة كاملة عنه في (99 - 106).
فهذا نموذج من الهمز واللمز والطعن في هذه الشريعة الحنيفية.
ومن نماذج الهمز واللمز -وما أكثرها- ما تراه أحياناً في كل شيء، حتى أنهم ما تركوا لنا أي شيء من مظاهر الإسلام إلا وقد طعنوا فيه، فلو تكلم عالم عن اللحية، يعملون له ألف حملة، وتنطلق الكلاب المسعورة من جحورها.
ومن نماذج الهمز واللمز المرأة التي كانت ترد على العلماء الذين ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية، فتقول: كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟! وتقول أيضاً: إنني لا أطمئن على حقوق المرأة إلا إذا تساوت المرأة مع الرجل في الميراث.
ومن ضمن الحملات التي قامت بها الهمز واللمز في حجاب المسلمات فتقول: إن هذه الثياب الممجوجة قشرة سطحية لا تكفي وحدها لفتح أبواب الجنة أو أكتساب رضا الله، فتيات يخرجن إلى الشارع والجامعات بملابس قبيحة المنظر يزعمن أنها زي إسلامي، لن أجد ما يعطيني مبرراً منطقياً معقولاً لارتداء فتيات على قدر مذكور من التعليم إلى لبس أجسادهن من الرأس إلى القدمين بزي هو والكفن سواء.
وتقول أيضاً: هل من الإسلام أن ترتدي البنات في الجامعة ملابس تغطيهن تماماً وتجعلهن كالعفاريت؟ وهل لا بد من تكفين البنات بالملابس وهن على قيد الحياة؛ حتى لا يرى منها شيء وهي تسير في الشارع؟ وتقول في ضمن حملاتها: اقتراحي بإجراء تلقيح صناعي لزوجة عقيم من زوجها أقام الدنيا وأقعدها، ومطالبتي بإلغاء المحاكم الشرعية كاد أن يدخلني السجن؛ أما مهاجمتي لقانون الأحوال الشخصية فقد أثارت الدنيا من حولي، وجاءت مظاهرة إلى دار الهلال تهتف بسقوطي.
وهي تذكر هذا بأنه من مناقبها.
ومنه الكلام على المنقبات؛ تقول: والأدهى من ذلك: المقنعات وهن قلة من المتصلفات في إعلان تدينهن، فقد ذهبن في ثيابهن إلى تحريم ما أحله الله، فغطين وجوههن -هي تبحث عن الحلال والحرام- بأنسجة كثيفة ليس بها سواء خرمين صغيرين للاستعانة بهما في النظر، ولم يكتفين بذلك بل ذهبن في مبالغتهن إلى تغطية الخرمين الصغيرين بنظارات سوداء خوفاً من أن تتغلغل الأنظار من خلال الخرمين إلى حدقة العينين، وهو كل ما يحتمل أن يظهر من هذا القناع العجيب الدقيق.
وهذا حقيقة همز ولمز!! وتقول: وهذا بالطبع غير جائز في الإسلام، بدليل الفتوى التي أصدرها سيد الأئمة كلهم، الشيخ محمد عبده.
وعندما تكلمت عن الحجاب قالت: هذا تشبه بالكفار؛ لأن هذا مثل الراهبات.
فهي غير راضية عنه؛ لأنه زي فيه تشبه بالكفار، وهي عندما تتعرى تتشبه بمن؟! الغيرة على الإسلام تتدفق وتنهال، الغيرة على حرمات الله والتشبه بالكفار!! وتقول: وما يقال عن الحجاب من أنه تشبه بالراهبات يسري أيضاً على ملابس الرجال، فمع عظيم إجلالي للعمامة والجبة والقفطان أعرف أنها ليست زياً إسلامياً أصلياً وإنما هي مقتبسة من ملابس الأحبار اليهود في قديم الزمان.
ومن الذين حملوا حملات كبيرة في مجال الهمز واللمز الفيلسوف لهرم العجوز المسمى: زكي نجيب محمود، هذا الرجل كان مرشحاً لخلافة مقعد طه حسين، وله كتاب اسمه (خرافة الميتافيزيقا) وهو ما وراء الطبيعة، أي: الغيب، فهو يعني: خرافة الغيب، وخرافة الاعتقاد بالغيب، وهو يتكلم أيضاً عن نفس الموضوع، فكتب مقالات معروفة من مدة سماها: (ردة في عالم المرأة) وعندما نسمع كلمة (ردة في عالم المرأة) يعتقد أنه يتكلم عن النساء اللاتي ارتدين عن الإسلام، أو أحلوا ما حرم الله أو حرموا ما أحل الله أو شيء من هذا، لكنه يعبر عن عودة النساء إلى الالتزام بالحجاب والالتزام بأحكام الإسلام، ويقول: هذه ردة، ونكسة، ويقول: إنها مأساة، ويقول: إن المرأة نكصت على عقبيها؛ لأنها عادت إليه بعد أن ألقت الحجاب على شواطئ الإسكندرية أيام سعد زغلول.
بل اتهم المرأة أيضاً في فرجها، حيث يقول: إن المرأة التي تتحجب تشبه السلعة التي تقف وتصيح بالناس ها هي ذي سلعة من عصور الحريم تباع فمن يشتري؟! فنقول له: هل الشيء يصان هو السلعة، أو الشيء الذي يعرض على الناس هو السلعة؟ على أي حال هذه نماذج من بعض الحملات أو بعض المواقف التي يقع فيها بعض المعاصرين في الهمز واللمز فهم أولى بقوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1].(201/10)
تفسير سورة الهمزة [2 - 7](202/1)
تفسير قوله تعالى: (يحسب أن ماله أخلده)
قال تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:3] هذه جملة حالية أو جملة استئنافية، فإذا كانت حالية فالمعنى: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} [الهمزة:2]، وحالته وهو يجمع هذا المال ويعدده أنه يظن أن ماله أخلده.
وإذا كانت جملة استئنافية فهو ابتداء معنى جديد وجملة جديدة، فهو همزة لمزة، وهو يجمع الأموال ويعددها، وهو بجانب أنه جمع المال وعدده ((يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ)) أي: يظن أن ماله مانع له من الموت، فهو يعمل عمل من يظن أن ماله سيتركه حياً مخلداً لا يموت.
يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: يحسب أن ماله الذي جمعه وأحصاه وبخل بإنفاقه، مخلده في الدنيا فمزيل عنه الموت؛ وقيل: أخلده، فعل ماضي المقصود به المضارع والمستقبل، يعني: يحسب أن ماله يخلده فيما يستقبل، كما يقال للرجل الذي يأتي الأمر الذي يكون سبباً لهلاكه: عطب والله فلان، أو هلك والله فلان، وهو لم يهلك بعد، ولا دخل النار، لكن المقصود أن هذا العمل سوف يهلكه فيما يستقبل، بمعنى أنه يعطب من فعله ذلك، ولما يهلك بعد ولم يعطب، وكالرجل يأتي الموبقة من الذنوب فيقال له: دخل والله فلان النار.
انتهى كلام الطبري.
وقال الزمخشري ((يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ)) أي: طول المال أمله، ومناه الأماني البعيدة، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أن المال تركه خالداً في الدنيا لا يموت.
وهذا ليس ببعيد في البخلاء، فالبخلاء لهم أخبار عجيبة، كما قال الله عنهم: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37]، فبعض البخلاء من شدة تمكن هذه الصفة القبيحة الذميمة في قلبه يتأذى لو رأى غيره يجود! إذاً: يحسب أن ماله سيبقيه حياً لا يموت، أو يبقيه ماكثاً مكثاً طويلاً جداً، لأن هذا من معنى الخلود، أو يزيد في عمره.(202/2)
تفسير قوله تعالى: (الذي جمع مالاً وعدده)
قال تعالى: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} [الهمزة:2].
يلاحظ أن الله عز وجل أظهر هنا المال في موضع الإضمار فقال عز وجل: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} [الهمزة:2] فكرر كلمة المال، مع أن السياق يقتضي أن يقول: يحسب أنه أخلده، فتعود الهاء على (مالاً)، لكن هذا التكرار لعلة وحكمة، قال بعض العلماء: إن المقصود بتكرار كلمة المال زيادة التقرير، وللتقريع والتوبيخ.
وقيل: في الآية تعريض بالعمل الصالح، فالمال لا يخلد صاحبه، لكن العمل الصالح هو الذي يخلد الإنسان، وينبغي للعاقل أن يكب عليه، ويسعى للآخرة حيث الخلود الحقيقي، فتكرار كلمة المال للتعريض بأن المخلد الحقيقي ليس هو المال، وإنما هو العمل الصالح الذي يخلد صاحبه في الجنة، فهذا الحسبان المذموم هو المنصب عليه الوعيد، فإن هذا الشخص لا يؤمن بالبعث ولا يوقن به كما قال صاحب الجنة -وهو سلفه من قبل-: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} [الكهف:35] يعني: غير معقول أن هذه الجنان وهذا المتاع وهذا النعيم ليبيد أبداً.
يقول الإمام الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:35 - 36]: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن هذا الرجل الكافر الظالم لنفسه، الذي ضر به مثلاً مع الرجل المؤمن في هذه الآيات لرؤساء الكفار الذين افتخروا بالمال والجاه على ضعفاء المسلمين الفقراء، أنه دخل جنته في حال كونه ظالماً لنفسه، وقال: إنه ما يظن أن تهلك جنته ولا تفنى؛ لما رأى من حسنها ونضارتها، وقال: إنه لا يظن الساعة قائمة، وإنه إن قدر أنه يبعث ويرد إلى ربه ليجدن عنده خيراً من الجنة التي أعطاه في الدنيا، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من جهل الكفار واغترارهم بمتاع الحياة الدنيا وظنهم أن الآخرة كالدنيا ينعم عليهم فيها أيضاً بالمال والولد كما أنعم عليهم في الدنيا، جاء مبيناً في آيات أخر كقوله في سورة فصلت: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، وقوله في سورة مريم: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:77 - 78]، وقوله في سبأ: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]، وقوله في هذه السورة الكريمة: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، وقوله: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:3].
وبين جل وعلا كذبهم واغترارهم فيما ادعوه من أنهم يجدون نعمة الله في الآخرة كما أنعم عليهم بها في الدنيا في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج) يعني: لييسره للعسرى حتى يستحق مزيداً من العذاب نتيجة المزيد من كفران النعم؛ يقول عز وجل: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182].
وقال عز وجل: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182 - 183]، وقوله عز وجل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]، وقال عز وجل: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37]، وقال عز وجل: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2]، فهذا المال الذي جمعه وعدده، وكان زينته في الدنيا، هو الذي صرفه عن التفكر في المآل وفي المصير، ودفعه إلى الهمز واللمز واحتقار خلق الله، يقول الله عز وجل: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2]، ويقول عز وجل إن هذا الظالم يقول يوم القيامة: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29].
روى أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب)، هو لا يكذب، فهو رأى، لكن لا يذكر ذلك، بل ينساه بمجرد أن صبغ في الجنة صبغة، بل يحلف إنه ما رأى بؤساً ولا شدة قط، نسأل الله يجعلنا منهم.(202/3)
مسألة الذهب المحلق
مسألة الذهب المحلق كثر الكلام فيها، ونحتاج إلى بيان آراء العلماء المخالفين لأحد أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وهو سيدنا الشيخ ناصر الدين الألباني فيما ذهب إليه في مسألة الذهب المحلق، وهو لا يحرم الذهب مطلقاً على النساء، لكن يحرم على النساء الذهب المحلق، وهو الذي يكون على هيئة حلقة مثل الخواتم والأساور أو أي حلية تكون دائرية على هيئة حلقة متماسكة، هذا هو مذهب الشيخ ناصر في هذه المسألة، وقد رد كثير من العلماء على الشيخ ناصر في هذه المسألة، وألف الشيخ إسماعيل الأنصاري كتاب إباحة الذهب المحلق للنساء، وكذلك الدكتور محمد عبد العزيز عمرو في كتاب له، وكذلك الدكتور نور الدين عتر في كتابه (ماذا عن المرأة؟) وكذلك الشيخ أحمد بن حجر القطامي في بعض فتاواه.(202/4)
أدلة جواز لبس النساء للذهب المحلق
الأدلة من الكتاب والسنة على جواز تحلي النساء بالذهب المحلق كثيرة، منها قوله عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] فالله عز وجل يعيب على المشركين أنهم كانوا ينسبون إليه الملائكة، ويصفونهم بأنهم إناث، ويرتضون لأنفسهم الذكور، ويفضلون الذكور على الإناث، فيختارون لأنفسهم ما يحبونه، وينسبون إلى الله عز وجل الإناث، فالله عز وجل أنكر عليهم هذا فقال: ((أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ)) يعني: أتنسبون إلى الله عز وجل الإناث اللاتي تعتقدون أن فيهن نقصاً ظاهراً في البدن، ونقصاً باطناً في العقل؟! ومن النقص الظاهر في بدن المرأة أنها تحاول أن تكمله وتعوضه بالحلية وبالزينة، أما نقص العقل فعلامته أنها ((فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)) يعني: لا تكاد امرأة من النساء تقدر على الخصام والمجادلة والنقاش إلا ما استثني، فهذا نقص باطنها، ونقص ظاهرها.
فالشاهد أن قوله تعالى: ((أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ)) المقصود به: الإناث، فتنشأ الطفلة من صغرها على حب الزينة، وتعويض هذا النقص الذي فيها، وهذه فطرة من الله عز وجل؛ فبين سبحانه أن للنساء حاجة أصلية إلى التحلي بالذهب وغيره من أنواع الحلي، وأنهن ينشأن عليه، وأن ذلك من دواعي أنوثتهن؛ وأباح لهن الذهب بإطلاق، يستوي في ذلك الذهب المحلق وغير المحلق، فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة على حل الذهب مطلقاً للنساء.
وجاء عن أبي العالية أنه سئل عن الذهب للنساء فقال: لا بأس به، يقول الله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18].
وأسند عبد الرزاق في تفسيره عن مجاهد رحمه الله أنه ذكر له أنهم يقولون: من تحلى بخربيصيصة كوي بها في النار؛ والخربيصيصة قطعة طويلة من الذهب؛ فقال مجاهد: رخص للنساء في الذهب والحرير، ثم تلا هذه الآية: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، وقوله: رخص للنساء في الذهب والحرير فيه إشارة إلى أن هذا كان بعد التحريم، والإمام مجاهد من أئمة التفسير الذين تلقوا التفسير عن ابن عباس رضي الله عنه، فقد قرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره يستوقفه عند كل آية ويستفسره عنها؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: مجاهد إمام المفسرين، وكان آية في التفسير، ويقول سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وقد أكثر الإمام الشافعي في الاعتماد على أقوال مجاهد في التفسير، وكذلك الإمام البخاري.
وجاء في إباحة الذهب المحلق وغير المحلق للنساء أحاديث كثيرة تلقتها الأمة بالقبول من سائر المذاهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، وقدم العلماء أحاديث الإباحة على ما خالفها من أحاديث الحظر؛ لأنها أقرب إلى القرآن وأشهر وأصح، ومن ذلك حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهذا الحديث صححه الإمام ابن حزم، وإن كان بعض العلماء طعن فيه بأنه من رواية محمد بن إسحاق وهو مدلس، لكنه قد صرح بالتحديث كما ذكر في عون المعبود فزال هذا الاعتراض، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم حلية من عند النجاشي أهداها له، فيها خاتم من ذهب فيه فص حبشي، قالت: فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معرضاً أو ببعض أصابعه، ثم جاءت أمامة بنت أبي العاص ابنة ابنته زينب فقال: تحلي بهذا يا بنية)، فهذا خاتم ذهب محلق، ومع ذلك أمرها أن تتحلى به.
ومن ذلك الحديث المشهور والمعروف: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك بالذهب والحرير فقال: هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم)، وهذا الحديث له طرق كثيرة صحح بعضها الإمام الترمذي وابن حبان والحاكم وابن حزم وابن العربي المالكي، ونقل الحافظ عبد الحق عن علي بن المديني أنه حسن بعض طرقه، بل عده الكتاني من الأحاديث المتواترة، وفيه دليل على الإباحة المطلقة للذهب للنساء.
ومن الأدلة ما جاء من طريق عبد الله بن جعفر عن محمد بن عمارة عن زينب بنت نبيط عن أمها قالت: (كنت أنا وأختان لي في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يحلينا من الذهب والفضة)، وفي رواية أبي نعيم عنها قالت: حدثتني أمي وخالتي، وهذا الحديث من جملة ما استدركه الحاكم على الصحيحين وأقره الذهبي على تصحيحه.
وعن عائشة رضي الله عنها عند الإمام أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو كان أسامة جارية لحليته وكسوته حتى أنفقه)، وهذا الحديث صححه الحافظ العراقي في المغني عن حمل الأسفار، واستدل به البزار على هذا الحكم.
ومن ذلك ما أخرجه ابن سعد بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: قدمت صفية وفي أذنها خرصة من ذهب، فوهبت منه لـ فاطمة وللنساء معها؛ وصفية إنما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة؛ لكن هذا حديث مرسل.
ومن ذلك أيضاً الأحاديث التي تدل على زكاة الحلي من الذهب، وخلاف العلماء فيها معروف، وتلك الأحاديث تدل على إباحة التحلي بالذهب مطلقاً للنساء.
ومن ذلك حديث صلاة العيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خطب النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين بعد صلاة العيد ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي قرطها في ثوب بلال)، وفي رواية: (فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن) يعني: يخلعن الذهب الذي في آذانهن وفي حلوقهن، وهذا يدل على أنهن كن يلبسن الذهب المحلق.
فهذه النصوص استدل بها العلماء على إباحة الذهب المحلق للنساء.
يقول الإمام البخاري في صحيحه: باب الخاتم للنساء، وكان على عائشة خواتيم الذهب، وعن عمرو بن أبي عمرو قال: سألت القاسم بن محمد فقال: لقد رأيت -والله- عائشة تلبس المعصفر وتلبس خواتيم الذهب.
وفي لفظ آخر: سألت القاسم بن محمد فقلت: إن ناساً يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأحمرين المعصفر والذهب، فقال: كذبوا والله، لقد رأيت عائشة تلبس خواتيم الذهب.
يقول القاضي أبو المحاسن في توجيه هذا: لا يمكن أن عائشة تخالف الأحاديث في النهي عن لبس خواتم الذهب إلا بعد وقوفها على ناسخ؛ فكونها لبست مع علمها بالأحاديث الناهية يدل على أنها وقفت على حديث ينسخ هذه الأحاديث المحرمة للبس الذهب.(202/5)
كلام العلماء في جواز لبس النساء للذهب المحلق
حكى الإجماع غير واحد على إباحة التحلي بالذهب المحلق للنساء، مثل الإمام الجصاص في أحكام القرآن، والكيا الهراسي، والبيهقي في السنن الكبرى، والنووي في المجموع، وابن حجر في فتح الباري، والهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر، والسندي في حاشيته على سنن النسائي.
أما الجصاص فقال في تفسير قوله تعالى: ((أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ)) بعد أن ذكر حديث عائشة رضي الله عنها في منع الناس من الذهب، وحديث أبي هريرة في الوعيد على اتخاذ الخرص: الأخبار الواردة في إباحته للنساء عن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر وأشهر من أخبار الحظر، ودلالة الآية ظاهرة في إباحته للنساء، وقد استفاض لبس الحلي للنساء من لدن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى يومنا هذا من غير نكير من أحد عليهن، ومثل هذا لا يعترض عليه بأخبار الآحاد.
ذكر القرطبي في تفسيره قول مجاهد: رخص للنساء في الذهب والحرير وقرأ هذه الآية، وقال الكيا الهراسي: فيه دلالة على إباحة الحلي للنساء، والإجماع منعقد عليه، والأخبار فيه لا تحصر.
وقال البيهيقي في السنن الكبرى بعدما أورد حديث أبي هريرة: (من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب) إلى آخره، وحديث أسماء: (أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب)، وحديث ثوبان في شأن بنت أبي هريرة: هذه الأخبار وما في معناها تدل على إباحة التحلي بالذهب للنساء، واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن، وعلى نسخ الأخبار الدالة على تحريمه لهن خاصة.
وهذه المسألة مثل الأحاديث التي تحصر تعدد الزوجات بأربع، فهي لا تخلو من كلام من حيث السند، لكن استدل العلماء على الحصر بأربع بانعقاد الإجماع، فهو يدل على وجود ناسخ للتعدد المطلق؛ وكذلك هنا استدل العلماء بالإجماع على وجود الناسخ؛ لأن الأمة معصومة في إجماعها من الضلال.
وقال الإمام النووي في المجموع: يجوز للنساء لبس الحرير والتحلي بالفضة والذهب للأحاديث الصحيحة، وقال أيضاً: أجمع المسلمون على أنه يجوز للنساء لبس أنواع الحلي من الفضة والذهب جميعاً كالطوق والعقد والخاتم والسوار والخلخال والتعاويذ والتمائم والقلائد وكل ما يتخذ في العنق وغيره، وكل ما يعتدن لبسه، ولا خلاف في شيء من هذا.
ونفس هذا الكلام ذكره الإمام ابن قدامة في المغني، وقال النووي في شرح صحيح مسلم في باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال ونسخ ما كان من إباحته في أول الإسلام: أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في شرح حديث البراء: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبع: نهانا عن خاتم الذهب): النهي عن خاتم الذهب أو التختم به مختص بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء، وأيد الحافظ ابن حجر ذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النجاشي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حلية فيها خاتم من الذهب فأخذه وإنه لمعرض عنه، ثم دعا أمامة بنت بنته فقال: تحلي به).
وقال ابن حجر الهيتمي الفقيه في الكبيرة السادسة بعد المائة: تحلي الذكر البالغ العاقل بالذهب، يعني: لبس الرجل العاقل والبالغ الذهب من الكبائر، هذا من الكبائر، سواء خاتم أو غير خاتم، يقول: وأخرج ابن حبان في صحيحه: (ويل للنساء من الأحمرين: الذهب والمعصفر) وهو حديث صحيح، وفي الحديث: (أريت أني دخلت الجنة فإذا أعالي أهل الجنة فقراء المهاجرين وذراري المؤمنين، وإذا ليس فيها أحد أقل من الأغنياء والنساء، فقيل لي: أما الأغنياء فإنهم على الباب يحاسبون ويمحصون، وأما النساء فألهاهن الذهب والحرير)، يقول: وبه يعلم معنى قوله: (ويل للنساء) في الحديث قبله أي: أن هذين سبب للهوهن وإعراضهن عن الخير وليس المراد به ظاهره؛ لأنهما حلالان لهن إجماعاً.
وقال الإمام السندي في حاشيته على النسائي بعد أن حكى نقل النووي في شرح مسلم إجماع المسلمين على نسخ الأدلة القائلة بحظر خواتيم الذهب بحديث: (إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها): قلت: ولولا الإجماع -هذا كلام السندي - لقلت بتحريمه على النساء، يعني لأن الظاهر أن يقال: كان الذهب حلالاً للكل ثم حرم على الرجال فقط ثم حرم على النساء أيضاً، لكن لأن الإجماع انعقد على هذا فلا يخالفه.(202/6)
أدلة الألباني على تحريم لبس النساء للذهب المحلق
استدل الشيخ الألباني رحمه الله بحديث البراء بن عازب رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب).
وبعض الأحاديث صححها وخالفه أغلب العلماء في تصحيح هذه الأحاديث، لكن لا شك أن علماء الحديث من صميم عقيدتهم أنه إذا صح الحديث عند أحدهم فلا يملك أن ينصرف عنه إلى غيره، فهو بنى مذهبه على صحة هذه الأحاديث، ورأى أن إباحته مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا عذره، فهو يهاب مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنده، وهذا هو اللائق به كعالم من علماء الحديث.
ومن الأحاديث التي استدل به قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يحلق حبيبه بحلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب، ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقاً من نار فليطوقه طوقاً من ذهب، ومن أحب أن يسور حبيبه سواراً من نار فليسوره سواراً من ذهب، ولكن عليكم بالفضة، فالعبوا بها، العبوا بها، العبوا بها)، وهذا الحديث قد أجاب عنه العلماء على فرض ثبوته بأن الرواية: (من أحب أن يحلق حبيبه) بدون التاء، قال صاحب بذل المجهود الإمام السهارنفوري الحنفي في شرح هذا الحديث: وهو إلى الصغير أقرب منه إلى الكبير؛ لأن الصغير هو الذي يلبس غالباً، والكبير يلبس بنفسه، فمعنى يطوق حبيبه أن يلبس حبيبه مثل ابنه طوقاً من ذهب.
وقال الشيخ محمد سعيد ألباني الدمشقي: يفهم من نظم هذا الحديث أنه مسوق للصبيان دون النساء؛ لأن تحلق المرأة بحلقة من ذهب جائز.(202/7)
تفسير قوله تعالى: (كلا لينبذن في الحطمة)
قال تعالى: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} [الهمزة:4] أي: ليطرحن في جهنم التي من أسمائها الحطمة؛ لأنها تحطم وتأكل ما ألقي فيها، كما يقال في وصف الرجل الأكول: كأنما في جوفه تنور، يعني: فرن، فهو يهضم الطعام في الحال، ويطلب المزيد والجديد.
وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ هذه الآية: ((لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ)) بالتثنية: (لينبذان) يعني: هذا الهمزة وماله سينبذان في النار، كما قال عز وجل: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2] يعني: لا يغني عنه هذا المال، وقال تعالى حاكياً عنه: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29].
قال ابن الجوزي: ((الْحُطَمَةِ)) اسم من أسماء جهنم؛ سميت بذلك لأنها تحطم كل ما يلقى فيها، أي: تكسره، فهي تكسر العظم بعد أكلها اللحم، وقال الضحاك: ((الْحُطَمَةِ)) الدرك الرابع من النار؛ وقال الكلبي: الطبقة الثالثة من جهنم، وقال الواحدي: باب من أبواب جهنم؛ وقال مقاتل: هي تحطم العظام، وتأكل اللحوم، حتى تصل إلى القلوب والعياذ بالله.
ووزن حطمة فُعَلة، وهذا يكون لتنزيل الفعل مكانه الطبيعي، فالنار عادتها أنها تحطم وتأكل.
قال القرطبي: سميت بذلك؛ لأنها تكسر كل ما يلقى فيها وتحطمه وتهشمه؛ قال الراجز: إنا حطمنا بالقضيب مصعباً يوم كسرنا أنفه ليغضبا فالحطم يستعمل في كل كسر متناه، يعني تكسر الشيء إلى أقصى مدى من التكسير، فالحطم هو التكسير المتناهي البليغ.
وقوله: ((كَلَّا)) (كلا) في القرآن تأتي بمعنى حقاً أو تأتي بمعنى لا للنفي، يقول الألوسي: ((كَلَّا)) ردع له عن ذلك الحسبان الباطل، أو ردع عنه وعن جمع المال، يعني: لا تحسب أن مالك مخلدك، أو ((كَلَّا)) يعني: لا تجمع المال، فهو ردع له عن حبه المفرط، واستظهر أنه ردع عن الهمز واللمز، وهذا بعيد؛ لأن القريب هو جمع المال.
وقوله: ((لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ)) يفسره قوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:9] أي: ينبذ نبذاً فيهوي على أم رأسه عياذاً بالله من ذلك.
إذاً: ((الْحُطَمَةِ)) اسم من أسماء النار؛ سميت بذلك لأنها تحطم -أي: تكسر وتهشم- كل ما يلقى فيها تكسيراً بليغاً متناهياًَ، ويقال أيضاً: شر الرعاء الحطمة، ويقال: راعي حطمة، وهو الذي يحطم الماشية، لأنه يسوقها سوقاً عنيفاً، ويسيء معاملتها وقيادها، فكأنه يكسرها فسمي: الحطمة.
والنبذ فيه معنى الإلقاء والطرح، فهذا يفيد أن لها قعراً عميقاً جداً، وقد جاءت أدلة كثيرة من السنة تدل على هذا الوصف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع وجبة -يعني: صوت وقع الشيء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تدرون ما هذا؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم؛ قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار، الآن حيث انتهى إلى قعرها).
أيضاً لفظ النبذ يدل على الإهانة؛ لأن الكافر كان يعتقد أنه من أهل الكرامة كما قال الله: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:15]، وقال سبحانه: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، فالكافر يظن أن إعطاء المال له والتوسيع عليه في الدنيا يقتضي كرامته على الله عز وجل في الآخرة، فالله عز وجل يقول: ((كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ)) فيعامل بنقيض قصده وبنقيض اعتقاده؛ لأن كلمة النبذ معناها الطرح والرمي والإلقاء، قال تعالى: {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [القصص:40]؛ ومنه النبيذ؛ لأنك تنبذ التمر -مثلاً- في الماء، فيكون عصيراً، فإذا أسكر فهو محرم، أما إذا لم يسكر فيطلق عليه نبيذ، وهذا في اللعنة وإن كانت الآن عرفاً تطلق على المسكر، وهو محرم بلا شك؛ والمقصود أنه سمي نبيذاً لأنك تنبذ وترمي فيه التمر، وولد الزنا يسمى منبوذاً؛ لأنه ينبذ ويرمى على الطريق.
قال أبو الأسود: وخبرني من كنت أرسلت أنما أخذت كتابي معرضاً بشمالك نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلاً أخلقت من نعالك وقال آخر: إن الذين أمرتهم أن يعدلوا نبذوا كتابك واستحلوا المحرم(202/8)
الحكمة من ذكر اسم الحطمة
يقول الرازي: اعلم أن الفائدة في ذكر جهنم بهذا الاسم هاهنا وجوه: الأول: الاتحاد في الصورة، فالله عز وجل قال: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] على وزن فُعَلة، فاتحدت الصورة بقوله تعالى: ((لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ))، كأنه تعالى يقول: إن كنت الهمزة اللمزة فوراءك الحطمة، فهذا من التشابه في الصورة.
الثاني: أن الهامز يكسر غيره ليضع قدره، فالهامز اللامز يستخدم عينه أو حاجبه أو شفته أو نحو ذلك ليضع من قدر الناس، ويكسر أقدار الناس، فيقول الله عز وجل له: وراءك الحطمة، فالحطمة تكسرك كسراً وتلقيك في حضيض جهنم، فهي ((لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ)).
الثالث: أن الهماز اللماز يأكل لحم الناس، و ((الْحُطَمَةِ)) اسم للنار من حيث إنها تأكل الجلد واللحم، فيمكن أن يقال: ذكر وصفين: الهمز واللمز، ثم قابلهما باسم واحد: ((لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ))، فكأنه قال: خذ واحداً مني وهو الحطمة، باثنين منك وهما الهمز واللمز، فإنه يفي ويكفي، فكأن السائل يقول: كيف يفي الواحد بالاثنين؟ فكأن
الجواب
إنك لا تعرف خطر وقدر هذا الواحد، فلذلك قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} [الهمزة:5].(202/9)
تفسير قوله تعالى: (وما أدراك ما الحطمة التي تطلع على الأفئدة)
قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} [الهمزة:5] يعني: وأي شيء أشعرك -يا محمد- ما الحطمة؟ ثم أخبره عنها فقال جل ثناؤه: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} [الهمزة:6 - 7] يعني: التي يطلع ألمها ووهجها القلوب، تطلع بمعنى يصل عذابها ويبلغ، وسمع من العرب قولهم: متى طلعت أرضنا؟ يعني: متى وصلت أرضنا؟ أو متى بلغت أرضنا؟ إذاً: معنى (تطلع): تصل وتبلغ، فتأكل الجلد ثم اللحم ثم تنفذ في النهاية إلى القلب وهو ألطف شيء في بدن الإنسان، فمعنى ذلك: أنه يبلغ أقصى درجات العذاب والعياذ بالله.
يقول الشوكاني: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} [الهمزة:5]، هذا الاستفهام للتهويل والتفظيع حتى كأنها ليست مما تدركه العقول وتبلغه الأفهام، ثم فسر الله عز وجل الحطمة فقال: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:6] أي: هي نار لا كسائر النيران، التي تعرفونها، ((نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ)) موقدة بأمر الله عز وجل، أي: هي النار التي لا تنسب إلا إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو منشئها في عالم لا يعلمه سواه.
يقول أبو السعود: وفي إضافتها إليه سبحانه ووصفها بالإيقاد من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه.
وقوله: ((الْمُوقَدَةُ))؛ لأنها غير خامدة.
وهذه الإضافة إلى الله سبحانه وتعالى إضافة للتخصيص، فهي نوع معين من النيران، وليست كالنيران التي يعرفونها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم) (ناركم) فأضافها إلى المخاطبين، وفي لفظ آخر قال صلى الله عليه وسلم: (نار بني آدم التي يوقدون)، فلبني آدم نار، ولكن جهنم ليست كنار بني آدم التي تعرفونها لكنها نار الله الكبرى كما جاء في آية أخرى، فلو جمعنا كل النيران التي على وجه الأرض فهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم! (قالوا: والله إن كانت لكافية، قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها)، رواه البخاري ومسلم والترمذي.
قال الغزالي: نار الدنيا لا تناسب نار جهنم، ولكن لما كان أشد عذاب الدنيا عذاب هذه النار عرف عذاب نار جهنم بها، وهيهات لو وجد أهل الجحيم مثل هذه النار لخاضوها هرباً مما هم فيه والعياذ بالله! يعني: أهل جهنم لو يروا مثل هذه النار التي لو جمعنا كل نار الدنيا واجتمعت في مكان واحد وأهل الجحيم رأوها لخاضوها وألقوا بأنفسهم فيها هرباً مما هم فيه من جحيم الآخرة والعياذ بالله!.
نار جهنم هي نار الله الموقدة، وهي لا تخمد أبداً، فنار الدنيا يمكن أن تخمد، لكن نار الله عز وجل هي الموقدة، وهذه صفة ثابتة لها لا تنفك عنها.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: أترونها حمراء كناركم هذه؟! يعني: لا يحملنكم هذا الوصف من النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة جهنم أن تظنوها حمراء؛ لأن نار الدنيا يمكن أن ننتفع بضوئها أو بدفئها، قال: لهي أسود من القار! والقار هو: الزفت.
قال الباجي: ومثل هذا لا يعلمه أبو هريرة إلا بتوقيف؛ لأنه خبر غيبي، ولا يخبر به أبو هريرة إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، فله حكم الرفع.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بشدة أمرها في الحر، وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يخبر عن شدة أمرها في لونها؛ لأن سوادها أشد في العذاب وفي النكال، يقول بعض السلف: عجباً لمن علم أن الجنة تزين فوقه، والنار تسعر تحته، كيف ينام بينهما؟ قوله: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} [الهمزة:7].
يقول ابن الجوزي: أي: تأكل اللحم والجلود حتى تقع على الأفئدة فتحرقها.
أولاًَ تبدأ باللحم والجلود ثم تصل إلى القلب، وتطلع يعني: تصل وتبلغ إلى القلوب والعياذ بالله! ثم ما صفة جلد الكافر؟ جلده ليس كالجلد في الدنيا، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن غلظ -يعني: سمك- جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً)، فالكافر يزاد في خلقه يوم القيامة حتى جاء في الحديث: (إن ضرس الكافر يكون مثل جبل أحد)، فيزاد في حجمه حتى يزداد إحساسه بالعذاب، وجبل أحد طوله ستة آلاف متر، يعني: ستة كيلو متر، فهذا قدر ضرس الكافر في جهنم والعياذ بالله! قال: (وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وعن أبي هريرة مرفوعاً: (ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع) رواه مسلم.
قال الفراء: حتى يبلغ ألمها الأفئدة، والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى واحد، والعرب تقول: متى طلعت أرضنا؟ أي: بلغت.
وقال ابن قتيبة: ((تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ)) أي: توفي عليها وتشرف.
وقال الشوكاني: أي: يخلص حرها إلى القلوب فيعلوها ويغشاها، وخص الأفئدة مع كونها تغشى جميع الأبدان؛ لأنها محل العقائد الزائفة.(202/10)
تفسير سورة المسد(203/1)
بين يدي سورة المسد
قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5].
سورة المسد سورة مكية، آياتها خمس، ويقال لها: سورة أبي لهب، ولم يفرد الله سبحانه وتعالى سورة لذم أحد الناس بالتعيين سوى هذه السورة التي تناولت ذم أبي لهب وامرأته؛ ولذلك لشدة عداوتهما للنبي صلى الله عليه وسلم، وكثرة إيذائهما له.
ويجتنب كثير من الناس قراءة هذه السورة في الصلاة معتقدين كراهة قراءتها؛ لأنها تذم عم النبي صلى الله عليه وسلم! وهذا شيء لا أصل له، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يضيره ذم عمٍ له كان أكفر قريش بالله، وأشدهم عداوة لرسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الشاعر: لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب وما أحسن ما قاله الزمخشري في تفسير قوله تعالى: ((حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)) وحكى القراءتين فيها: قراءة: (حمالةُ الحطب) و (حمالةَ الحطب) والقراءة الثانية بالنصب هي رواية حفص، وقد وجهها بأن النصب على الشتم، يعني: أشتم حمالة الحطب أو أذم حمالة الحطب، ثم قال: وأنا أستحب هذه القراءة، وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل من أحب شتم أم جميل، وهي امرأة أبي لهب وكنيتها أم جميل.
إذاً: ما يعتقده العامة الذين يجتنبون قراءة هذه السورة ظناً منهم أن هذا يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام لكونه عمه، اعتقاد باطل، بل الرسول عليه الصلاة والسلام هو أولى الخلق بالله، وأعلمهم بالله، وأولى من يحب في الله ويبغض في الله ولو أقرب قريب له، ولو كان عمه الشريف أبا لهب.(203/2)
سبب نزول سورة المسد
يقول الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قال البخاري: حدثنا محمد بن سلام حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى: يا صباحاه! فاجتمعت إليه قريش فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد.
فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟! تباً لك، فأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] إلى آخر السورة)، وفي رواية: (فقام ينفض يديه وهو يقول: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}).(203/3)
تفسير قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب)
قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
قوله: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)) دعاء عليه، كما في قوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17].
وقوله: ((وَتَبَّ)) خبر، فالأولى (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) دعاء عليه، والثانية: (وتبَّ) خبر بأن هذا الدعاء قد تحقق في حقه، وهلك فعلاً.
وأبو لهب هو أحد أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه: عبد العزى بن عبد المطلب، وكنيته أبو عتبة، وإنما سمي أبا لهب لإشراق وجهه، وكان كثير الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشديد البغض والتنقص له.
روى الإمام أحمد بسنده عن رجل يقال له: ربيعة بن عباد من بني الديل، وكان جاهلياً فأسلم قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله؛ تفلحوا، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب.
يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب).
وفي بعض الروايات: (إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع القبائل، ووراءه رجل أحول وضيء ذو جمة، يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة فيقول: يا بني فلان! إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به.
فإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه: يا بني فلان! هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة؛ فلا تسمعوا له ولا تتبعوه.
فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب).
فقوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) أي: خسر وخاب، وضل عمله وسعيه، (وتبّ) أي: وقد تب، أي: تحققت خسارته وهلاكه.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: التبُّ هو: القطع، وهذه المادة: (بت) تدور على معنى القطع، كما يفيده فقه اللغة في دوران المادة على معنى واحد، التب والتبب والتباب والتبيب والتتبيب: النقص والخسارة، وتبت يداه أي: ضلتا وخسرتا.
إذاً: التباب: الهلاك، ونظيره في القرآن الكريم قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37] أي: إلا في هلاك، فـ أبو لهب أهلك نفسه بفساد اعتقاده، وسوء فعاله، كما قال الأعرابي: (هلكتُ وأهلكت) يعني: في جماع أهله في رمضان، وقال تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود:101] يعني: غير خسران، والخسران يؤدي إلى الهلاك والقطع، وفي قصة صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود:63].
فظهر من هذا كله: أن معنى (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) دائرٌ بين معنى القطع والهلاك والخسران، أما قطعهما فلم يُقدَّر عليه قطع يديه قبل موته، لكن حصل له الهلاك، فقد هلك بالغدة، وقد تخلف عن غزوة بدر بسببها، وأرسل نائباً عنه، ثم هلك بعد ذلك، وأما الخسران فما أشد خسرانه بعد هذا الحكم عليه من الله تبارك وتعالى.
وإذا كان المعنى قد تعين بنص القرآن بالهلاك والخسران، فلا بد من حمل قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) على الهلاك والخسران، فلماذا أسند التب لليدين؟!
الجواب
أن ذلك أسلوب معروف من أساليب اللغة العربية وهو: إطلاق البعض وإرادة الكل، كما في قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16]، فالمقصود: صاحبها، وهو الكاذب الخاطئ، لكن حينما يخص الله سبحانه وتعالى الناصية بقوله: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16] لابد لها من زيادة اختصاص بالمعنى المراد، فالمراد بها الإنسان كله، لكن تخصيص هذا الجزء من بدنه يستلزم زيادة اختصاص بهذا المعنى المراد، وهو أن الكذب يسود الوجه، ويذل الناصية التي هي أشرف شيء في وجه الإنسان، بعكس الصدق الذي يبيض الوجه، ويعز الناصية، ويرفع الرأس، فأسند الكذب إلى الناصية لزيادة اختصاصها بالكذب عن اليد مثلاً، فالناصية تختص بالكذب أكثر من اختصاص اليد بالكذب، ولما كان الهلاك والخسران غالباً ما يكتسب عن طريق الجوارح، واليد أشد اختصاصاً في ذلك؛ أسند إليها البت؛ لأن اليد أشد الجوارح اختصاصاً بعمل الأشياء وبالكسب، ومما يدل على أن المراد صاحب اليدين، وليس اليدين فقط؛ قوله تعالى: ((وَتَبَّ)) ولم يقل: (وتبتا) لليدين.
إذاً: قوله تعالى: (وتب) المراد: أبو لهب نفسه.
وقوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب) يحتمل أن يكون على سبيل الإخبار أو الإنشاء، لكن لا يوجد إلا احتمال واحد في قوله تعالى: (وتب) وهو أنها للإخبار، ففي تفسيرها نقول: (وتب) أي: وقد هلك، وفي قراءة ابن مسعود: (وقد تب) وهذه القراءة تفسيرية؛ فإنه لابد في إثبات القراءة أن توافق رسم المصحف، فعندما يقال: فلان قرأ الآية كذا، ويزيد كلمة، فالمقصود أنه فسرها، وتكون قراءة تفسيرية.(203/4)
تفسير قوله تعالى: (ما أغنى عنه ماله وما كسب)
قال تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2].
(ما) استفهامية تقتضي الإنكار، يعني: ما أغنى عنه شيئاً في الحقيقة، ويحتمل أن (ما) نافية: (ما أغنى) فهو نص على أن ماله لم يغن عنه شيئاً.
قوله: (وما كسب) يعني: وما كسب من المال، واكتساب المال إما أن يكون مالاً اكتسبه بالميراث ونحوه أو ما كسب من عمل جر عليه هذا الهلاك، وهو عداوته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:11]، وقال تبارك وتعالى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الجاثية:10].
وفي هذه الآية سؤالان: السؤال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو قومه في مكة برفق وحلم، فما الحكمة من هذا الدعاء على عمه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]؟
الجواب
أنه كان يلاطفهم وهو يطمع في إسلامهم، أما عمه فقد يئس من إسلامه، فكان هذا الدعاء في محله، كما وقع من إبراهيم عليه السلام حينما كان يلاطف أباه ويقول: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم:43 - 44]، فلما يئس منه تبرأ منه، قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، وكذلك نوح عليه السلام لما أوحي إليه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] حينئذٍ دعا عليهم بدعائه المعروف.
السؤال الثاني: ما الحكمة من مجيء قوله تعالى: (وتب) بعد قوله: (تبت يدا أبي لهب) مع أن الجملة الأولى كافية سواء قلنا: إنها إنشاء للدعاء أو إخبار بوقوع ذلك؟ الجواب -والله تعالى أعلم-: أن الجملة الأولى محتملة للخبر وللإنشاء، فإذا كانت خبراً فقد يمحو الله ما يشاء ويثبت، والإنشاء قد لا ينفّذ، كقوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17]، ويحمل على الذم فقط والتقبيح، فقوله بعد ذلك: (وتب) هو لبيان أن الهلاك واقع به لا محالة، وأنه ممن حقت عليهم كلمات ربك، فيئس النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون من إسلامه، وهنا تنقطع الملاطفة معه، والله تعالى أعلم.
وقد وقع ما أخبر الله به، وهذا من إعجاز القرآن الكريم ومن علامات النبوة، فإنه استمر على كفره حتى مات، قال الله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:33]، فهذه السورة من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(203/5)
تفسير ابن كثير لقوله تعالى: (ما أغنى عنه ماله وما كسب)
يقول الحافظ ابن كثير: قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2] قال ابن عباس وغيره: (وما كسب) يعني: ولده، وفي الحديث: (وإن ولده من كسبه).
وذكر عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قومه إلى الإيمان قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فإني أفتدي نفسي يوم القيامة من العذاب بمالي وولدي، فأنزل الله: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:2 - 3] أي: ذات شررٍ ولهيب وإحراق شديد.(203/6)
تفسير قوله تعالى: (وامرأته حمالة الحطب)
قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4].
كانت زوجة أبي لهب من سادات نساء قريش، وهي أم جميل، واسمها: أروى بنت حرب بن أمية، وهي أخت أبي سفيان، وكانت عوناً لزوجها على كفره وجحوده وعناده؛ فلهذا تكون يوم القيامة عوناً عليه في عذابه في نار جهنم، والجزاء من جنس العمل، فلما كانت معينة ومساعدة لزوجها في عناده وكفره وجحوده، فالجزاء أنها تكون عوناً عليه في عذابه في جهنم والعياذ بالله، ولذلك قال تعالى: ((حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)) يعني: تحمل الحطب في النار فتلقيه على زوجها ليزداد عذاباً على ما هو فيه، وهي مهيئة لذلك مستعدة له.
وروي عن بعض السلف أنها كانت تمشي بين الناس بالنميمة، وفي بعض الروايات أنها كانت تضع الشوك في طريق النبي صلى الله عليه وسلم.(203/7)
من أخبار حمالة الحطب
جاء عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: لما نزلت: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة، وفي يدها فهر وهي تقول -والعياذ بالله-: مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا لقد كان المشركون لعنهم الله من حقدهم على الرسول عليه الصلاة والسلام وعداوتهم له يسمونه (مذمماً) عكس كلمة محمد، ومعنى محمد: ممدوح ومثنى عليه الصلاة والسلام.
قالت أسماء: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله! قد أقبلت، وأنا أخاف عليك أن تراك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها لن تراني) وقرأ قرآناً واعتصم به -كما قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:45]- فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر، ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني؟ قال: لا ورب هذا البيت ما هجاك، فولّت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها.
ومن أخبارها أنها عثرت في مرطها وهي تطوف بالبيت فقالت: تعس مذمم، فقالت أم حكيم بنت عبد المطلب: إني لحصان فما أكلم وثقاف فما أعلم وكلتانا من بني العم وقريش بعد أعلم(203/8)
تفسير قوله تعالى: (في جيدها حبل من مسد)
قال تعالى: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:5] أي: في عنقها حبل من نار، قال مجاهد وعروة: من مسد النار، وقال بعض أهل العلم: في عنقها في الآخرة حبل من نار ترفع به إلى شفيرها، ثم يرمى بها إلى أسفلها، ثم كذلك دائماً.
وقال سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة، فقالت: لأنفقنها في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فأعقبها الله بها حبلاً في جيدها من مسد النار.
وقال عروة بن الزبير: المسد سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً، وقيل: هي قلادة من نار طولها سبعون ذراعاً.
وقيل: المسد حبل من ليف أو من خوص، وقد يكون من جلود الإبل أو أوبارها، ومسدت الحبل أمسده مسداً إذا أجدت فتله بإتقان.
وقال مجاهد: (في جيدها حبل من مسد) أي: طوق من حديد؛ لأن العرب يسمون البكرة مسداً، والبكرة هي التي يستقى عليها.
وعبر بالمسد عن حبل الدلو، كما قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات: كل مسد رِشاء- يعني: رشاء الدلو- وأنشد في ذلك: وبكرة ومحوراً صراراً ومسداً من أبق مغاراً قال: والأبق: القنب.
وقال الآخر: يا مسد الخوص تعوذ مني إن كنت لدْناً ليناً فإني ما شئت من أشمط مقسئن(203/9)
فوائد من سورة المسد(203/10)
ظهورة معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
قال العلماء: في هذه السورة معجزة ظاهرة، ودليل واضح على النبوة، فإنه منذ نزل قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:3 - 5]، فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان، ولم يقيض لهما أن يؤمنا، ولا واحد منهما لا ظاهراً ولا باطناً، لا مسراً ولا معلناً، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة على النبوة الظاهرة.
وهذا ذكره الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه السورة.(203/11)
أولاد أبي لهب
قال الشهاب: الذي صححه أهل الأثر أن أولاد أبي لهب لعنه الله ثلاثة: معتب، وعتبة وقد أسلما، وعتيبة وهو الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليه لما جاهر بإيذائه وعداوته، ورد ابنته وطلقها، فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك)، فأكله السبع في خرجة خرجها إلى الشام، والمقصود بالكلب هنا: الأسد، وفيه يقول حسان رضي الله عنه: من يرجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع(203/12)
زيادة بيان لمعنى قوله: (سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب)
قال تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] أي: ذات توقد واشتعال، وهي نار الآخرة، جزاء ما كان يأتيه من مقاومة الحق ومجاهدته.
وقوله: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4] يعني: وستصلاها معه امرأته أيضاً، فامرأته مرفوع عطفاً على الضمير في (سيصلى) أي: هو وامرأته، أو مرفوع على الابتداء، ويكون قوله: (في جيدها) هو الخبر.
وقرئ: (حمالةَ) بالنصب على الشتم والذم، وبالرفع نعتاً أو بدلاً أو عطف بيان، وإنما قيل لها ذلك-على قراءة النصب- لأنها كانت تمشي بالنميمة، قال الزمخشري: ويقال للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم- لأن نقل الكلام يؤدي إلى اشتعال الفتن بين الناس- أي: يوقد بينهم ويورث الشر، قال الشاعر: من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب يمدح الشاعر امرأة بأنها لم تمش بين الحي بالحطب الرطب، يعني أنها بريئة من المشي بالنميمة بين الناس.
وقال القاسمي: أي في عنقها حبل من المسد، أي: أنها في تكليف نفسها المشقة الفادحة للإفساد بين الناس، وتأجيج نيران العداوة بينهم في منزلة حامل الحطب، الذي في عنقه حبلٌ ثفن، يشد به ما حمله إلى عنقه، حتى يستقل به، وهذه أشنع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب، ففي عنقها حبل من المسد تشد به الحطب إلى كاهلها حتى تكاد تختنق به.
وقد أنزل الله في أبي لهب وفي زوجته هذه السورة ليكونا مثلاً يعتبر به من يعادي ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مطاوعة لهواه، وإيثاراً لما ألفه من العقائد والعوائد والأعمال، واغتراراً بما عنده من الأموال، وبما له من الصولة أو المنزلة في قلوب الرجال، وأنه لا تغني عنه أمواله ولا أعماله شيئاً، وسيصلى ما يصلى، نسأل الله سبحانه وتعالى العافية.(203/13)
تفسير سورة الإخلاص(204/1)
بين يدي سورة الإخلاص
سورة الإخلاص هي السورة الثانية عشرة بعد المائة من القرآن الكريم وهذه السورة مكية، وآياتها أربع.
روى الإمام أحمد بسنده عن أبي بن كعب رضي الله عنه: (أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! انسب لنا ربك، أي: اذكر نسب ربك، فأنزل الله تعالى هذه السورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]).
وروى البخاري بسنده عن عمرة بنت عبد الرحمن -وكانت في حجر عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله سلم- عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبروه بأن الله تعالى يحبه)؛ أي: لأنه أحب صفة الله تبارك وتعالى.
وفي بعض الروايات عند البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم، فكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال: (يا فلان! ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ فقال: إني أحبها، قال: حبك إياها أدخلك الجنة).
وثبت أيضاً أن هذه السورة تعدل ثلث القرآن، فروى البخاري بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! إنها لتعدل ثلث القرآن).
وروى البخاري بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟! فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: الله الواحد الصمد ثلث القرآن) يعني: سورة قل هو الله أحد.
وروى الإمام الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احشدوا -يعني: اجتمعوا وأحضروا الناس- فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحُشد من حُشد، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، إني لأرى هذا خبراً جاء من السماء -يعني: جاءه خبر من السماء يأمره بأن ينصرف ولم يشرع في قراءة ثلث القرآن ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن).
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، ورواه مسلم في صحيحه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فإنه من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] في ليلة فقد قرأ ليلتئذٍ ثلث القرآن).
ومما صح أيضاً في فضيلة هذه السورة العظيمة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ قل هو الله أحد عشر مرات حتى يختمها بنى الله له قصراً في الجنة، فقال عمر: إذاً نستكثر يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكثر وأطيب).
قوله: (إذاً نستكثر) يعني: إذاً نقرؤها كثيراً.
قوله: (الله أكثر وأطيب) أي: الله أكثر أجراً وثواباً من عملكم.
وعن بريدة: (أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا رجل يصلي ويدعو، يقول: اللهم! إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فسمعه الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: والذي نفسي بيده! لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب).
ومن الأحاديث الواردة في فضيلة هذه السورة العظيمة أيضاً ما رواه الإمام أحمد بسنده عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت بيده، فقلت: يا رسول الله! بم نجاة المؤمن؟ قال: يا عقبة! أخرس لسانك -أي: تصرف كأنك أخرس، أي: أمسك عليك لسانك، وجاء في بعض الروايات الأخرى: أملك عليك لسانك، أمسك عليك لسانك-، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك).
وهكذا سلوك المؤمن في الفتن أن يكف لسانه ولا يخوض؛ لأن اللسان إذا أطلق فهو سبع عقور، يقطع في أعراض الناس، ويجني ويحصد صاحبه بهذه العضلة القصيرة الآثام والكبائر والذنوب، فتهلكه.
قوله: (أمسك عليك لسانك) أي: أغلق هذا الباب من الشر.
(قال عقبة: ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتدأني فأخذ بيدي، فقال: يا عقبة بن عامر! ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم؟ قال: قلت: بلى، جعلني الله فداك، قال: فأقرأني: قل هو الله أحد، وقول أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم قال: يا عقبة! لا تنسهن، ولا تبت ليلة حتى تقرأهن إلى آخر الحديث).
وأيضاً ثبت الاستشفاء بهذه السورة العظيمة، فقد روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما -أي: ينفخ بريق لطيف، فهذه رقية يومية كان الرسول عليه السلام يرقي بها نفسه قبل أن ينام-، فقرأ فيهما: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات).
وقوله هنا في هذا الحديث: (ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما) ليس على ظاهره وإنما المقصود: أنه قرأ أولاً، ثم نفث بعد القراءة؛ حتى تحصل بركة تلاوة القرآن في كفيه.
قوله: (نفث فيهما) أي: بعد القراءة، فينبغي أن يحمل الحديث على هذا، فإذا أراد الإنسان أن ينام فإنه يجمع كفيه، ثم يقرأ المعوذات الثلاث، وإذا قيل: المعوذات فالمراد بها: قل هو الله أحد، والفلق، والناس، المعوذات بالجمع.
قوله: (يجمع كفيه ثم ينفث فيهما) أي: بعد أن يقرأ.
قوله: (ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده)، فيبدأ أولاً برأسه ووجهه، ثم ما أقبل من جسده، ثم ما استطاعت يده أن تصل إليه من جسده، فيرقي نفسه بهذه السور الثلاث.(204/2)
تفسير قوله تعالى: (قل هو الله أحد)
قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].
يقول الشيخ عطية سالم -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة الإخلاص: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، (قُلْ) أي: لا تقله من عند نفسك؛ بل قل: هذا الذي عرفته صادقاً يقول لي: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أي: الواحد الوتر الذي لا شيبه له ولا نظير ولا صاحبة ولا ولد ولا شريك.
ومعلوم أن هذه المعاني كلها صحيحة في حقه تبارك وتعالى؛ فالله هو الواحد الوتر، الذي لا شريك له ولا ند ولا نظير.
فهذه الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى أَحد في ذاته وفي صفاته، فلا شيبه له ولا شريك ولا نظير ولا ند له سبحانه وتعالى.
فهذه صفات الرحمن كما جاء في الحديث الذي سبق أن ذكرناه، وفيه قصة ذلك الصحابي الذي قال: إني أحبها؛ لأنها صفة الرحمن -تبارك وتعالى-.
وهذا مما يدل على خطورة موقع قضية معرفة الله سبحانه وتعالى.
ومعرفة الله كما يقول البعض: زلة حاضرة، فكيف يعرف الله؟ إن معرفة الله سبحانه وتعالى لا تكون بالعقل، وإنما يعرف بالوحي، فصفات الله وأسماؤه لا يمكن أن يجتهد الإنسان فيها بعقله حتى يصل إليها، فكيف لهذا المحدود أن يدرك المطلق سبحانه وتعالى؟! إذاً: فمعرفة الله لا تكون إلّا بالوحي، فيأتي الوحي ويخبرنا عن أسماء الله وصفاته وأفعاله عز وجل، وليس الأمر كما يقول بعض الناس: ربنا عرفناه بالعقل، فبالعقل نتأمل في مخلوقات الله، فنصل بذلك إلى حكمته وعلمه وقدرته، وآيات توحيده، وأما معرفة الله فإنما تكون عن طريق الوحي.
وقضية الأسماء والصفات قضية في غاية الخطورة، خلافاً لبعض الجهلة ممن لم تسبقهم إلى بدعتهم وقولهم وجهلهم أي طائفة، لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة؛ لأن الفرق كلها تعطي هذه القضية الأولوية المطلقة في قضايا الدين، فقضية معرفة الله وأسمائه وصفاته قضية لها الأولوية المطلقة، معرفة الله وما يليق به وما لا يليق به؛ لأن علم التوحيد هو أشرف العلوم على الإطلاق، فالعلم يشرُف بشرف المعلوم، فمثلاً: هل علم الطب مثل علم الحشرات؟ لا؛ لأن موضوع علم الطب هو رأس مال الإنسان في الحياة الدنيا، وهي الصحة، وأما علم الحشرات فعلم أقل من ذلك بكثير، وهكذا، فبشرف المعلوم يشرف العلم، فأشرف معلوم في الوجود هو الله سبحانه وتعالى، فمن ثَم فإن علم التوحيد هو أشرف العلوم على الإطلاق؛ لأن موضوعه معرفة الرب عز وجل، ومعرفة ما يليق بالله، ومعرفة ما ينبغي أن ننزه الله تبارك وتعالى عنه.
إذاً: فقضية التوحيد قضية محورية جوهرية لها مرتبة أولية على كل ما عداها من القضايا.
ومع ذلك نسمع بعض الجهلة يقولون: التوحيد يفرق الناس، فدعونا في الأمور التي وراءها عمل، فالمسكين يظن أن هذا ليس بعمل! أليس القلب إذا عرف الله وصدّق فهذا منه عمل؟! ألم يقل تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225]، فالكسب هو اليقين في القلب، أليس هذا عملاً، وأليس هذا تصديقاً؟! إذاً: فهذه السورة هي ثلث القرآن، وقد بشر الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك الصحابي الذي كان يختم بها في الصلاة أن الله تعالى يحبه؛ لأنه يحب صفة الرب تبارك وتعالى، فليس فيها إلا الصفة، وليس فيها حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، وإنما فيها خبر عن صفات الله، وما يليق بالله وما لا يليق بالله.
وأيضاً فإن أعظم آية في القرآن هي آية الكرسي، ومع ذلك ليس فيها الأمر أو النهي أو العمل الذي يزعمونه، وليس فيها سوى الخبر عن الله: إثباتاً لما يليق به، ونفياً لما لا يليق به، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فيه نفي وإثبات، ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)) فالحي القيوم لا يمكن أن تأخذه سنة ولا نوم، {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255].
وقد سبق مراراً أن نبهنا على هذا الأمر، فنكتفي بهذه الإشارة.
وقد دلت هذه الآية الكريمة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} على أن الله سبحانه وتعالى أحد، أي: في ذاته وصفاته، فلا شبيه له ولا شريك ولا نظير ولا ند.
فقوله تبارك وتعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فسره ضمناً قوله تبارك وتعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]؛ أي أن الله سبحانه وتعالى واحد فرد لا شريك له ولا ند ولا نظير ولا شبيه، لا في صفاته، ولا في ذاته، ولا في أفعاله.
وكذلك أيضاً (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يفسرها قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)).
((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) تفسيرها: ليس كالله شيء.
وأما المعنى العام: فإن الرسالة المحمدية كلها، بل وجميع رسالات الأنبياء إنما جاءت لتقرير هذا المعنى؛ لأن الله سبحانه وتعالى واحد أحد، ولا يدل على هذا آيات القرآن الكريم فقط، ولا الكتب المنزلة على الأنبياء من قبل فقط، بل يحوم ويدندن حول هذه القضية كل ما في الوجود، كما يقول الشاعر: فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد ويقول الآخر: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خُطَّ فيها لو تأملت خطَّها ألا كلُّ شيء ما خلا اللهَ باطل وأما نصوص القرآن على هذه الحقيقة الخالدة، والتي هي أعظم حقيقة في الوجود، فكثيرة جداً، وكل الوجود يدور حول إثبات هذه الحقيقة وهي: التوحيد لله تبارك وتعالى، ونفي النظير والشريك والند والمثل له.
يقول تبارك وتعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163].
ويقول تعالى في سورة التوبة: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [التوبة:31].
وفي سورة ص: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص:65].
وقال تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [إبراهيم:52].
فسبحانه جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وتنزهت صفاته، فهو واحد أحد في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أفعاله.
وقد جاء القرآن أيضاً بتقرير هذا المعنى عقلاً كما أقره نقلاً، أي أنه جمع بين العقل والنقل.
فما مضى فتملك أدلة نقلية، وإخبار من الله سبحانه بأنه واحد لا شريك له.
وقد عرض القرآن هذه القضية على سبيل الاستدلال العقلي، فقال تبارك وتعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:42 - 43].
وقال تبارك وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، فدلل على عدم فسادهما بعدم تعددهما، فهل فسدت السموات والأرض؟
الجواب
لم تفسد، بل هي على نظام ثابت مستقر بمشيئة الله، فيدل هذا على عدم تعدد الآلهة.
وجُمع العقل والنقل في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91].(204/3)
تفسير قوله تعالى: (الله الصمد)
قال تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2].
قوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ يفسره قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]، قال ابن كثير: وهذا معنىً حسن.
وقال بعض العلماء: الصمد هو المتناهي في السؤدَد، وفي الكمال من كل شيء.
وقيل: الصمد من يصمد الخلائق إليه في حاجاتهم، ولا يحتاج هو إلى أحد.
فكل الخلق محتاجون إليه، وهو سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد، ومن ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14]، وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
ونبدأ في تفسير ما بعده الذي أشرنا إليه، فقد قلنا في قوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ: إنه يفسره ما بعده، وهو قوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ.
وفي إمعان النظر في مبدأ: يفسره ما بعده، يتضح لنا أن السورة كلها هي تفسير لأول آية فيها.
فسورة الإخلاص هي أربع آيات، والثلاث الآيات الأخيرة منها تفسير للآية الأولى.
فقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فسرها وشرحها قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:2 - 4]؛ لأن الأحدية هي تفرد الله سبحانه وتعالى بصفات الجلال والكمال كلها، ولأن المولود ليس بأحد؛ لأنه جزء من والده.
فلو وُلد لرجل مولود، فهذا المولود لا يقال له: أحد؛ لأنه ليس بأحد، وإنما هو جزء من والده الذي تناسل منه، وكذلك الوالد لا يقال له: أحد؛ لأن جزءاً منه في ولده.
وكذلك لو لم يكن له والد ولا ولد لكنه له كفؤ وله نظير وله شبيه ومثيل، فليس بأحد أيضاً، فكل من له كفؤ ونظير ومثيل لا يوصف بأنه أحد؛ لأنه غير منفرد فله نظير، فكيف يكون منفرداً، وكيف يكون واحداً أحداً؟! إذاً: فالسورة كلها تقرير لمعنى (أحد) في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].(204/4)
تفسير قوله تعالى: (لم يلد ولم يولد)
قال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3].
قوله: (لَمْ يَلِدْ)، ومثله قوله تعالى: {وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111]، وهذه الآية هي آخر آية في سورة الإسراء، وتسمى آية العزة.
إن نفي اتخاذ الولد لا يستلزم نفي الولادة؛ لأنه يمكن أن يتخذ الشخص ولداً بطريقة غير طريقة التناسل المعروفة، وذلك عن طريق التبني مثلاً، ففي قصة يوسف عليه السلام يقوله سبحانه وتعالى عن عزيز مصر: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21].
إذاً: فيمكن أن يُتخذ الولد عن طريق الإلحاق، أو عن طريق التبني، فيكون في هذه السورة نفي أخف.
فقوله: (لم يلد) أخف من قوله: (ولم يتخذ ولداً)، ففي هذه السورة نفي أخف.
فقوله: (ولم يتخذ ولداً) نفي لاتخاذ الولد مطلقاً بالنسب وغيره.
فلزم التنبيه عليه في هذه السورة الكريمة التي هي سورة الإخلاص والتي تعدل ثلث القرآن؛ لأن هذه السورة مختصة بحق الله تبارك وتعالى في ذاته وصفاته من الوحدانية والصمدية ونفي الولادة والولد ونفي الكفؤ، وكلها صفات انفرد الله سبحانه وتعالى بها، ولذلك جاء في هذه السورة (سورة الإخلاص) النص الصريح بعدم الولادة في قوله: (لم يلد) وأنه سبحانه وتعالى (لم يلد ولم يولد)، فهي أخص من تلك، وهذا من المسلمات عند المسلمين جميعاً بدون شك ولا نزاع، ولم يؤثر فيها أي خلاف.
وهذه الحقيقة ليس فيها شك على الإطلاق، وليس فيها أدنى خلاف بين من ينتسب إلى الإسلام، ومن قال بخلاف ذلك فليس بمسلم، بل يصير كافراً.
إذاً: فقد سلم جميع المسلمين بهذه الحقيقة: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، ولكن غير المسلمين لم يسلموا بهذه الحقيقة.
فاليهود قالوا: عزير ابن الله، وهذه صورة من صور الشرك، ولهم صور أخرى في الشرك كتشبيه الله بخلقه، وهذا باب آخر، فإن كلامنا الآن في نفي الوالدية لله سبحانه وتعالى، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله، فاتفقوا على ادعاء الولد لله، ولم يدع أحد أنه سبحانه وتعالى مولود، أي: أن له أبوين.
وقد جاءت النصوص الصريحة في نفي الولد عن الله سبحانه وتعالى، إلا أن مجرد النص الذي لم يؤمن به الخصم لا يكفي لإقناعه، وهذه السورة وهي المختصة بصفات الله لم يأتِ فيها السليم عن المانع من اتخاذ الله للولد، ومنه كونه سبحانه وتعالى لم يولد.
يقول الشيخ عطية سالم: جاء في القرآن الكريم ذكر ادعاء الولد لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وجاء الرد من الله تعالى مع بيان المانع مفصلاً - أي: بأن الله لم يلد ولم يولد- مع الإشعار بالدليل العقلي وذلك في قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} [البقرة:116]، فهذا تنزيه لله؛ لأن هذا شتم لله كما جاء في الحديث القدسي: (يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني) أي: أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى الولد.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:116 - 117].
فهذا نص صريح فيما قالوه: اتخذ الله ولداً، وهو أيضاً نص صريح في تنزيه الله سبحانه وتعالى عما يقولون.
ثم جاء حرف الإضراب عن قولهم فقال: (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) ففيه بيان المانع عقلاً من اتخاذ الولد بما يُلزم الخصم، وذلك أن غاية اتخاذ الولد أن يكون باراً بوالده، وأن ينتفع الوالد بولده كما جاء في قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، أو يكون الولد وارثاً لأبيه كما في قوله تعالى عن نبي الله تعالى زكريا عليه السلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:5 - 6].
أما الله سبحانه وتعالى فهو حي باقٍ، يَرث ولا يُورث كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:180].
إذاً: فكل ما في السموات والأرض في قنوت وامتثال طوعاً أو كرهاً لله سبحانه وتعالى، وكما قال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:92 - 93]، إذاًَ: فهو سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى الولد؛ لغناه عنه.
ثم بيّن سبحانه قدرته على الإيجاد والإبداع فقال: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]، وهذا واضح في نفي الولد عن الله عز وجل.
وقد تمدّح سبحانه في قوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111] أي: الله أكبر كبيراً.
وأما أنه لم يولد فلم يدع أحد عليه ذلك؛ لأنه ممتنع عقلاً بدليل الممانعة المعروف، فلو توقف وجود الله سبحانه وتعالى على أن يولد لكان محتاجاً في وجوده إلى من يلده، ثم يكون من يلده بحاجة إلى والد وهكذا، وهذا يسمى بالتسلسل أو الدور، وهو من الأمور المستحيلة.
وأورد بعض المفسرين سؤالاً في هذه الآية، وهو: لماذا قدم نفي الولد على نفي الولادة؟ فقوله: (لم يلد) نفي للولد.
وقوله: (ولم يولد) نفي للولادة.
والأصل في المشاهدة أن الإنسان يولد أولاً ثم يلد بعد ذلك.
و
الجواب
أن هذا من باب تقديم الأهم؛ لأنه رد على النصارى في قولهم: عيسى ابن الله، وعلى اليهود في قولهم: عزير ابن الله، وعلى المشركين في قولهم: الملائكة بنات الله، ولأنه لم يدع أحد أنه سبحانه وتعالى مولود لأحد، فكانت دعواهم الولد لله فرية عظمى كما قال تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5]، وقال عز وجل: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:88 - 93].
فمع أن أحداً لم يدع لله سبحانه وتعالى الولادة جاء القرآن بنفي كلا الاحتمالين؛ لتسليم النفي والتنزيه كما في حديث البحر لما سئل الرسول عليه السلام عن الوضوء بماء البحر فقيل له: (إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته).
فلأن الشيء الذي يحتمل أن يسأل عن مائه، يحتمل -أيضاً- الاشتباه في حكم ميتته، فهذا جواب للسائل بأكثر مما سأل عنه.(204/5)
تفسير قوله تعالى: (ولم يكن له كفواً أحد)
قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4].
يقال: كفواً، وكفؤاً، وكفاءً، وهي كلها بمعنى واحد، وهو المثْل.
وكل أقوال المفسرين في هذه الآية الكريمة تدور على معنى نفي المماثلة، وأنه سبحانه ليس له مثيل ولا نظير ولا شبيه.
فعن كعب وعطاء: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا) -بضم الفاء- لم يكن له مثلٌ ولا عَديل.
وعن ابن عباس أنه بمعنى: ليس كمثله شيء.
وعن مجاهد أي: لا صاحبة له.
وقد جاء نفي الكفؤ والمثل والند والعِدل عن الله سبحانه وتعالى.
فنفي الكفؤ عن الله في قوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا).
أما نفي المثل جاء في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وفي قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74].
أما نفي الند ففي قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22].
أما نفي العِدل ففي قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] أي: يساوونه بغيره.
وهو مأخوذ من العِدل، وهو أحد شقي حمل البعير.(204/6)
سبب نزول سورة الإخلاص
روي في سبب نزول هذه السورة أن المشركين قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: انسب لنا ربك؛ فنزلت هذه السورة، وقال عز وجل فيها: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]، رداً على إثبات النسب له سبحانه وتعالى.
وقد جاء مثل هذا المعنى حينما سأل فرعون موسى عليه السلام عن ربه فقال له: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] فجاء جوابه: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:24 - 27].
فما موجب قول فرعون -لعنه الله- عن موسى عليه السلام إنه لمجنون؟ لأنه سأله بـ (ما) فقال: (وما رب العالمين)؟ و (ما) يُسئل بها عن شرح الماهية، فكان مقتضى السؤال بها أن يبين ماهية الرب عز وجل، من أي شيء هو؟ كما يقال في جواب قول القائل:-ولله المثل الأعلى- ما الإنسان؟ فيجاب: هو حيوان ناطق مثلاً.
ولكن موسى عليه السلام أعرض عن سؤال فرعون؛ لأنه جاهلٌ بالله ولا يعرف ما الذي يليق أن يُسئل به عن الله وما الذي لا يليق؛ فسأل فرعون لجهله عن حقيقة الله تعالى، أو لتجاهله عن هذه الحقيقة، أو كان ذلك منه جحوداً وعناداً، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14].
فأتى الجواب بما يخصه هو، فالله سبحانه وتعالى لا يعلم كيفيته إلا هو.
إذاً: لا يوجد أي أمل على الإطلاق في أن يدرك الإنسان ربه، أو يحيط به علماً، فهذا لا مطمع لأحد فينا به على الإطلاق، فلا يعرف كيفية الله إلا الله عز وجل، فغير وارد أبداً أن يحاط بالله سبحانه وتعالى علماً، فأي إنسان مهما حاول أن يُعمل عقله وخاض بكل ما أوتي من قوة ومن علم أن يعرف كيفية الله فالله قطعاً بخلاف ما توهمه؛ لأنه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] أي: ليس كالله شيء.
فأنت تستطيع أن تتصور في خيالك وفي عقلك الشيء الذي رأيته من قبل، فإذا قلت لك مثلاً: قلم، كوب، طائرة، دبابة، سيارة، عمود، حجر، ماء، فهذه أسماء وألفاظ قلتها، وكل منكم في مخيلته صورة لها فتستطيعون أن تتخيلوها؛ لأنكم رأيتموها، فيستطيع المرء أن يتصورها بالكيفية التي رآها عليها، وأما الله تعالى فمتى رآه حتى يتصوره ويكيفه بصورة معينة؟!! إذاً: فهذا الأمر في غاية الأهمية، وقد أيأسنا الله سبحانه وتعالى من تخيل بعض المخلوقات كالجنة مثلاً، فقد جاء في الحديث القدسي: (أعددت فيها لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) أي: أنك مهما حاولت أن تتخيل نعيم الجنة وما فيها من فاكهة ونخيل وأعناب وأنهار فلا تستطيع، مع أننا قد رأينا في الدنيا هذه الأشياء، ومع ذلك فالجنة بخلاف ذلك، ولا موافقة بين ما في الدنيا وما في الجنة إلا في الأسماء فقط، فإذا كان هذا في المخلوقات فكيف بحق الله سبحانه وتعالى؟! فلا أمل على الإطلاق في هذا، فينبغي للإنسان ألّا يهدر طاقته العقلية والذهنية في التفكير في شيء أيأسنا الله من أن نصل إليه، ولذلك لما كان بعض الناس يخوض في تشبيه الله بخلقه أفحمه بعض العلماء، فاستقرأه حديث الإسراء، وكيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (رأيت جبريل في صورته وله ستمائة جناح، ما منها جناح إلا قد سد ما بين المشرق والمغرب).
فإذا كان هذا في مخلوق من مخلوقات الله تعالى فكيف بالله تعالى! فقال له: صف لي خلقاً من خلق الله له ستمائة جناح؟ فعجز، فقال له: فأنا أضع عنك خمسمائة وسبعة وتسعين جناحاً، فصف لي خلقاً من خلق الله له ثلاثة أجنحة؟ فبهت وتحير، فقال له: يا أبا فلان! قد عجزنا عن صفة المخلوق فنحن عن صفة الخالق أعجز.
إذاً: فلا مطمع ولا أمل على الإطلاق في أن يعرف أحد كيفية الله أبداً، فعلينا أن نثبت له الصفات كما وردت في القرآن والسنة، ولا نكيف، ولا نمثل، ولا نعطل.
إذاً: ففرعون يسأل عن ماهية رب العالمين في قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، وهذا سؤال لا يمكن أن يدرك أحد جوابه، فموسى عليه السلام رد عليه بما يخصه ويلزمه الاعتراف به من أن الله سبحانه وتعالى رب السموات والأرض وما بينهما، وليست كربوبية فرعون الكاذبة.
ومثل ذلك في القرآن: عندما سألوا عن الأهلة لماذا تبدو صغيرة وبعدها تكبر؟ فهذا سؤال عن حقيقة تغيرها، فترك القرآن الجواب على سؤالهم، وأجابهم بما يخصهم، وما يلزمهم وينفعهم، فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189].
وكذلك جواب الخليل عليه السلام للنمرود عندما حاجه في ربه كما في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258]، فهذا أسلوب في المناظرة، فإبراهيم عليه السلام لم ينتقل عجزاً عن جواب السؤال الأول، فالنمرود كان عنده مخارج في المشاغبة، فقال: أنا أحيي وأميت، فأتى برجلين فحكم على أحدهما بالإعدام والثاني أطلقه، فقال له: أنا الآن أحيي وأميت، فهذا نوع من الشغب، فلم يتفرغ إبراهيم لمناقشة شغبه، وانتقل إلى حجة لا يمكن بحال من الأحوال أن يدعي أن له قدرة عليها، فقال تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258].
وقد جاء أيضاً أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقيقة ربه كما جاء في بعض الرويات: وإلهك هذا من نحاس، أم من خشب، أم من كذا أم من كذا؟ وفي بعض الرويات أنهم قالوا: انسب لنا ربك، فجاء الجواب بصفات الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، لأن النسب لا يكون إلّا للمخلوق، وعندما تسأل عن الماهية فهذا في المخلوق، لكن الله سبحانه وتعالى لا يسأل عنه أبداً بهذا السؤال، فما يسألون عنه إنما يكون في المخلوقات لا في الخالق سبحانه وتعالى، وفي الممكن لا في الواجب الوجود، فهو سبحانه لا يدرك كنهه غيره عز وجل، وصدق الله العظيم في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وفي قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110].
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتابان في تفسير سورة الإخلاص، وهذه السورة لو مكثنا سنة كاملة في تفسيرها لا نفرغ؛ لأن فيها من المعاني والأسرار والحكم ما تنقطع دونه الأعناق، والكتابان هما: (تفسير سورة الإخلاص)، والثاني: (جواب أهل العلم والإيمان في ما ورد من أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)، وهذا من أبدع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فنكتفي بهذا القدر من تفسير سورة الإخلاص.(204/7)