تفسير سورة الرحمن [37 - 54](151/1)
تفسير قوله تعالى: (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان فبأي آلاء ربكما تكذبان)
انتهينا في تفسير سورة الرحمن إلى الآية السابعة والثلاثين، وهي قول الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:37 - 38].
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ)) أي: انفطرت فاختل نظامها العلوي.
((فَكَانَتْ وَرْدَةً)) أي: كلون الورد الأحمر.
قوله: ((كَالدِّهَانِ)) أي: كالدهن الذي هو الزيت، كما قال تعالى في سورة المعارج: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج:8] وهو دردي الزيت، يعني: في لونها كدورة لصيرورتها إلى الفناء والزوال.
ووجه تشبيهها بالدهن أو الدهان الذي هو الزيت في اللون المكدر وفي الذوبان كما قال تعالى: ((يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ)) أي: أن المهل هو دردي الزيت، فإذا كان هناك زيت في برميل مثلاً فيلاحظ أن الشوائب والقاذورات التي تخالطه تترسب في قرب القاع أو في الطبقة السفلى منه، فهذا هو الدردي الذي يترسب في الطبقة السفلى من الزيت ويسبب له نوعاً من الكدورة في لونه، ولذلك يضربون به المثل فيقولون: إذا كان أول الدن دردياً فماذا يكون بعد؟! والدن هو البرميل أو إناء الزيت، فمعنى المثل: إذا كان الدردي الذي هو العكر يوجد في أعلى الدن فما بالك بأسفل الطبقة كيف سيكون؟! وهو يشبه ما يعبر به العامة في قولهم: أول القصيدة كفر، يعني: إذا كان أول القصيدة كفر فماذا يكون بعد؟! وسياق قوله تعالى: ((فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)) يدل على أن ذلك إنما يقع يوم القيامة، والقرينة على ذلك قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39]، فهذا مما يقوي أو يؤكد أن ذلك إنما يكون يوم القيامة كما هو في السياق، وخاصة أن هناك لهذه الآية نظائر في القرآن الكريم، كقوله تبارك وتعالى: {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:16] يعني: يوم القيامة، وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25]، وقال تبارك وتعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:1 - 2]، وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1]، وهكذا.
قوله: ((فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)) سياق الآية أنها في يوم القيامة.
نشرت وكالة ناسا الأمريكية حديثاً صوراً ملونة في غاية الروعة فيها انفجارات لنجوم، سواء لميلاد نجوم جديدة، أو انشقاق أو تفجر نجوم في الفضاء الفسيح البعيد جداً، وهي مصورة في أفلام حية متحركة بل فيها أصوات أيضاً لانشقاقات هذه النجوم، لكن العجيب جداً أن هذه الصور التي التقطت كثير منها فعلاً صورته تماماً كصورة الوردة الحمراء ذات الورق الأخضر، وكما قلنا فإن هذه الآية تذكر انشقاق السماء لكن هذا في الآخرة، وهذه الانشقاقات تقرب إلى أذهاننا أن النجوم حينما تنشق تعطي صورة الوردة كالدهان، وهذا مما يستأنس به، وإن كان السياق بكل وضوح إنما هو فيما سيحصل يوم القيامة بالأدلة التي ذكرناها.
((فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)) يعني: السماء سوف تنشق يوم القيامة، وإذا انشقت صارت وردة كالدهان.
((وَرْدَةً)) يعني: حمراء كلون الورد.
((كَالدِّهَانِ)) فيه قولان معروفان للعلماء: الأول منهما: أن الدهان هو الجلد الأحمر، وعليه فالمعنى: أنها تصير وردة متصفة بلون الورد مشابهة للجلد الأحمر في لونه.
القول الثاني: أن الدهان هو ما يدهن به من الألوان، وعليه فالدهان هو جمع دهن، وقيل: هو مفرد؛ لأن العرب تسمي ما يدهن به دهاناً وهو مفرد.
والفرق بين القولين: على القول أن الله سبحانه وتعالى وصف السماء عند انشقاقها يوم القيامة بوصف واحد: وهو الحمرة، فشبهها بحمرة الورد، وحمرة الأديم، أي: الجلد الأحمر.
قال بعض أهل العلم: إنها يصل إليها حر النار فتحمر من شدة الحرارة.
وقال بعضهم: أصل السماء حمراء إلا أنها من شدة بعدها وما دونها من الحواجز لم تصل العيون إلى إدراك لونها الأحمر على حقيقته، وأنها يوم القيامة ترى على حقيقة لونها، فالله أعلم بذلك.
أما القول: بأنها وردة كالدهان، يعني: الدهن الذي يدهن به، فإن الله قد وصف السماء عند انشقاقها بوصفين: أحدهما: حمرة لونها.
الثاني: أنها تذوب وتصير مائعة كالدهن.
فوجه الشبه بين السماء والدهان أنها تذوب وتصير مائعة سائلة كما هو الحال بالنسبة للدهون والزيوت، ووجه الشبه بينها وبين الوردة أنها حمراء، وكون السماء ستحمر يوم القيامة حتى تكون كلون الجلد الأحمر لم ترد ما يشير إلى ذلك في كتاب الله.
أما القول بأنها تذوب وتصير مائعة فبينه قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج:6 - 8] والمهل هو: الشيء الذائب، سواء قلنا: إنه دردي الزيت، أو قلنا: إنه الذائب من حديد أو نحاس أو نحوهما، وقد بين الله سبحانه وتعالى في سورة الكهف أن المهل شيء ذائب يشبه الماء شديد الحرارة، وذلك في قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29].
هناك قول بأن الوردة تشبيه بالفرس الكميت، فصارت وردة كفرس الورد، وهو نوع معين من الخيول أو البغال -كما فهمت من كلام المفسرين- تختلف ألوان جلده ما بين الشتاء والصيف والربيع وهكذا، وهذا مألوف في بعض الحيوانات مثل السحلية أو الحرباء فهي حيوانات تتلون.
ويبدو أن العرب يعرفون هذا في نوع معين من الخيول أو الأفراس، فلذلك بعض المفسرين يقولون: فكانت وردة كالفرس الورد وهو الفرس الكميت الأحمر؛ لأن حمرته تتلون باختلاف الفصول، فتشتد حمرتها في فصل، وتميل إلى الصفرة في فصل، وإلى الغبرة في فصل آخر، فيكون المقصود تشبيه كون السماء عند انشقاقها من شدة أهوال القيامة تتلون بألوان مختلفة، وبعض المفسرين قالوا: إن هذا بعيد عن ظاهر الآية.
كذلك هناك من قال: إنها تذهب وتجيء؛ لأن الألوان في الفرس الكميت تذهب وتجيء، فقالوا: أيضاً ألوانها تذهب وتجيء واستدلوا بقوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطور:9] واستبعده بعض العلماء.(151/2)
أقول المفسرين في معنى قوله تعالى: (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان)
نجمل كلام بعض المفسرين فيما يتعلق بتفسير هذه الآية الكريمة: ((فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)).
يقول الحافظ ابن كثير: ((فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)) أي: تذوب كما يذوب الدردي والفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء.
وقال القرطبي: الدهان: الدهن.
والمعنى: أنها صارت في صفاء الدهن، على أساس أن الدهان جمع دهن.
وقال سعيد بن جبير وقتادة: ((فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ))، يعني: حمراء اللون كالوردة.
وقيل: تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، يعني: أنها تنشق ومع الانشقاق تذوب حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها.
وقيل الدهان: الجلد الأحمر الصرف.
وذوبان الشيء الصلب وتميعه هذا شيء نحن نراه ونلمسه في أشياء كثيرة، كما في بعض وسائل التعذيب البشعة حيث يضعون الإنسان داخل حمض الكبريتيك أو الهيدروكلوريك المركز فتجد هذا الإنسان يتبخر ويذوب تماماً، وفي الحديث إشارة إلى شيء قريب من هذا، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: (أن من آذى أهل المدينة أو روع أهل المدينة النبوية المباركة يذيبه الله سبحانه وتعالى كما يذاب الملح في الماء).
إذاً: معنى قوله: (فكانت وردة كالدهان): أنها تذوب مع انشقاقها حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها.
وقيل: إن معنى قوله: ((فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)): كالجلد الأحمر الصرف، حيث تصير السماء حمراء كالأديم من شدة حر النار.
وقيل إن معنى قوله: ((فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)): كانت كالفرس الورد، يقال: للكميت ورد إذا كان جلده يتلون بألوان مختلفة.
وعن ابن عباس: (كالفرس الورد في الربيع كميت أصفر وفي أول الشتاء كميت أحمر، فإذا اشتد برد الشتاء كان كميتاً أغبر).
ويعني هذا كله: أن السماء سوف تتلون كما يتلون الفرس الورد من الخيل.
وقال الحسن: ((كَالدِّهَانِ)) كصب الدهن، فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً.
ويحتمل أنه يقصد بذلك ألوان الطيف حينما تنعكس على بعض السوائل من زاوية معينة فتعطي ألواناً كثيرة.(151/3)
تفسير قوله تعالى: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان)
{فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:39 - 40].
قوله: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)) أي: لا يفتح له باب المعذرة، كقوله تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات:36]، فهذا المقصود به: نفي سماع الاعتذار عن طريق التعبير، بأنهم لا يفتح لهم باب المعذرة، فهذا من باب نفي السبب لانتفاء المسبب، وأخذ كثير السؤال على حقيقته وهذا هو الظاهر، ونحن نرفض مثل هذا المجاز نقول بأن الكلام يكون على حقيقته ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)).
فإذا قلنا: إن السؤال على حقيقته -وهذا هو الراجح وهذا هو الصحيح وظاهر القرآن الكريم- فإننا نحتاج حينئذ أن نجمع بين ما قد يعارضه في الظاهر وليس هناك معارضة حقيقة.
قال القاشاني: وأما الوقف والسؤال المشار إليه في قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، فهذا في الظاهر يتعارض مع قوله: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ))، له نظائر سوف نذكرها.
يقول: ففي مواطن أخرى من اليوم الطويل الذي كان مقداره خمسين ألف سنة أحوال متغايرة وليست متعارضة، وإنما في وقت من الأوقات وفي حال من الأحوال لا يسألون وفي أحوال أخرى يسألون، وقد يكون هذا الموطن قبل الموطن الأول في ذلك اليوم وقد يكون بعده.
يعني: قد يكون السؤال أولاً ثم بعد ذلك لا يكون هناك سؤال.
وكذا قال ابن كثير رحمه الله تعالى: إن هذه الآية كقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات:35 - 36]، فهذا في حال، وثم حال يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93].
وفي الآية تأويل آخر قال مجاهد: لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم حينما يستقرون في النار، أو حينما يكونون على وشك أن يقذفوا في النار.
يعني: أن الملائكة لا تحتاج إلى أن تسألهم عن ذنوبهم، وإنما تعرفهم حين تأخذهم وتلقيهم في جهنم؛ لأن لهم سيما وعلامات معروفة سوف نبينها، فهذا تفسير آخر.
قوله: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ)) مبني للمجهول، يعني: احتمال ألا تسأل الملائكة المجرمين وإنما يعرفونهم بسيماهم.
ومما يرسخ هذا القول الآية التي تليها مباشرة: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41] يعني: تعرفهم الملائكة باسوداد الوجوه وزرقة العيون ونحو ذلك.
((فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ)) يعني: كي يلقوا ويرموا في نار جهنم.(151/4)
كلام ابن القيم في السؤال المنفي في قوله: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه) والجمع بين الأقوال فيها.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في طريق الهجرتين: اختلف في هذا السؤال المنفي الذي في قوله: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)) فقيل: هو وقت البعث والمصير إلى الموقف، لا يسألون حينئذ في بداية البعث والتحرك إلى موقف العرض الأكبر، وفي حال أخرى يسألون بعد إطالة الوقوف واستشفاعهم إلى الله سبحانه وتعالى أن يحاسبهم ويريحهم من مقامهم ذلك.
وقيل: المنفي هو سؤال الاستعلام والاستخبار، أي: لا يسألون سؤال استعلام واستخبار؛ لأن الله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم، وإنما هو سؤال التوبيخ والتقريع كما سنبين إن شاء الله تعالى.
إذاً: المنفي سؤال الاستعلام والاستخبار لا سؤال المحاسبة والمجازاة، أي: قد علم الله ذنوبهم، فلا يسألهم عنها سؤال من يريد علمها وإنما يحاسبهم عليها.
يقول قتادة رحمه الله تعالى: قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
يعني: حصل السؤال في مرحلة معينة ثم بعد ذلك: ((لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)) لأنه يختم على الأفواه وتتكلم الأيدي والأرجل بما كانوا يعملون، وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون.
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة لا يسأل إنساً ولا جاناً عن ذنبه؛ لأن يوم القيامة مواطن وأحوال، وهو يوم طويل جداً، فيسأل في حال ولا يسأل في حال أخرى، وقد بين هذا المعنى في قوله تبارك وتعالى في سورة القصص: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]، قال ابن كثير: هذا في حال وثم حال يسأل الخلائق فيها عن جميع أعمالهم.
وذكر جل وعلا في آيات أخر أنه يسأل جميع الناس يوم القيامة، فيسأل الرسل والمرسل إليهم، كما في قوله عز وجل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، وقال تبارك وتعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93].
نلاحظ هنا ملاحظة دقيقة جداً وهي: أنه في حالة النفي قال الله تبارك وتعالى: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ)) فالسؤال هنا المنفي قيد بأن يكون سؤالاً عن الذنب فقط، كذلك في الآية الأخرى في قوله تبارك وتعالى: ((وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)) فإذاً: هذا يمهد لجواب آخر في الجمع بين هذه الآيات، فجاءت آيات تدل على أن الجميع سوف يسألون: ((فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ))، وقال تبارك وتعالى: ((فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)) * ((عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) وهذه تعم كل شيء، وقد جاءت آيات أخرى مبينة لوجه الجمع بين هذه الآيات، التي قد يظن غير العالم أن بينها اختلافاً.(151/5)
كلام الشنقيطي في الجمع بين قوله: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه) وغيرها من الآيات التي تثبت السؤال
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أولاً أن السؤال المنفي في قوله هنا: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ))، وقوله: ((وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)) هذا السؤال أخص من السؤال المثبت في قوله: ((فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)) * ((عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ))؛ لأن هذه فيها تعميم السؤال في كل عمل، والآيتان قبلها ليس فيهما نفي السؤال إلا عن الذنوب خاصة.
وللجمع بين هذه الآيات أوجه معروفة عند العلماء: الأول منها -وهو الذي دل عليه القرآن الكريم، وهو محل الشاهد عندنا من بيان القرآن بالقرآن هنا- هو: أن السؤال نوعان: أحدهما: سؤال التوبيخ والتقريع، وهو من أنواع العذاب.
والثاني: هو سؤال الاستخبار والاستعلام.
فالسؤال المنفي في بعض الآيات هو سؤال الاستخبار والاستعلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلم بأفعالهم منهم أنفسهم، كما قال عز وجل: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6].
يعني: أن العبد نفسه ينسى معاصيه، فإذا واجه الحساب يوم القيامة يكون قد نسيها، لكن الله سبحانه وتعالى أحصاها عليه.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (لا يسألهم: هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا؟).
ثم يقول الشنقيطي رحمه الله: وعليه فالمعنى: ((لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)) سؤال استخبار واستعلام؛ لأنه أعلم بذنبه منه.
والسؤال المثبت في الآيات الأخرى هو سؤال التوبيخ والتقريع، سواء كان عن ذنب أو عن غير ذنب، ومثال سؤالهم عن الذنوب سؤال توبيخ وتقريع قول الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران:106].
ومثاله عن غير ذنب قول الله تبارك وتعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26] وقوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:13 - 15] وقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130].
أما سؤال الموءودة في قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8] فلا يعارض الآيات النافية السؤال عن الذنب؛ لأنها سئلت عن أي ذنب قتلت.
وهذا ليس من ذنبها، والمراد بسؤالها توبيخ قاتلها وتقريعه؛ لأنها هي تقول: لا ذنب لي، فيرجع اللوم على من قتلها ظلماً.
وكذلك سؤال الرسل فإن المراد به توبيخ من كذبهم وتقريعه، مع إقامة الحجة عليه بأن الرسل قد بلغته.
يعني: سوف يقع في يوم القيامة سؤال الرسل، وهذا لا مانع من وقوعه؛ لأنه ليس عن ذنب فعلوه؛ ولأن المنفي هو خصوص السؤال عن ذنب: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ))، وقال في الآية الأخرى: ((وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ))، فالنهي هو عن الذنب بالذات، أما الرسل فإنهم يسألون كما في قوله تبارك وتعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8]، ومن ذلك سؤال الله سبحانه وتعالى المسيح عليه السلام: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة:116]، إلى قوله تبارك وتعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119].
هناك أوجه أخرى للجمع بين هذه الآيات ربما مررنا على معظمها، لكن العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى يقول هنا: وباقي أوجه الجمع بين الآيات لا يدل عليه قرآن، وموضوع هذا الكتاب -أي: كتاب أضواء البيان- بيان القرآن بالقرآن.
فهذه لفتة مهمة جداً حتى نعرف أن هذا الكتاب المبارك مختص بتفسير القرآن بالقرآن أساساً، ولذلك من لم يفهم عنوان الكتاب (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) يظن أنه كتاب شامل لتفسير جميع آيات القرآن الكريم بينما هو يتعرض فقط للآيات التي شرحت بآيات أخرى، أي: تفسير القرآن بالقرآن الكريم.
هناك تفسير آخر لقوله: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)) يعني: لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم، وإنما كل إنسان يسأل عما فعل.
يقول مجاهد في تفسير هذه الآية: ((لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)): لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم بدليل ما بعدها وهي قوله تعالى: ((يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ)).
قال بعض المفسرين: إن هذا بعدما يؤمر بهم إلى النار، فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم، بل يقادون إليها ويلقون فيها.(151/6)
تفسير قوله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم فبأي آلاء ربكما تكذبان)
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:41 - 42].
قوله: ((يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ)).
(سيما) أي: علامة، ولذلك حتى أصحاب الأعراف يعرفون كلاً من الفريقين بهذه السيما، كما قال الله تبارك وتعالى: {يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف:46] يعني: كلاً من أهل الجنة وأهل النار، كذلك قوله: ((يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُم)) يعني: بعلامات تظهر عليهم.
ولقد أوضح القرآن الكريم هذه العلامات كما في قول الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، فالكفار تكون وجوههم سوداء، كذلك عيونهم تكون زرقاء: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] يعني: أن العين تكون زرقاء حتى البياض فيها، فهذا هو المقصود وليس الصفة التي تكون عليها الناس في الدنيا.
ومن هذه السيما: الغبرة والقترة في وجوههم، كما يقول الله تبارك وتعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:40 - 41]، فهذه كلها من السيما ومن العلامات التي يعرف بها المجرمون، فتأخذهم الملائكة ويلقونهم في جهنم.
كما يعرف المؤمنون أيضاً بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء، قال الله تبارك وتعالى في وصف المتقين: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24]، وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22].
قوله: ((يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ)) يقول القاسمي: أي: بما يعلوهم من الكآبة والحزن والذلة.
وقيل: بسواد الوجوه وزرقة العيون.
((فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ)) يعني: فتأخذهم الزبانية بنواصيهم وأقدامهم فتسحبهم إلى جهنم وتقذفهم فيها، والباء للآلة، كأخذت بالخطام، أو للتعدية، والناصية: مقدم شعر الرأس.
وفيه بيان لكيفية إلقائهم في النار والعياذ بالله، حيث تجمع الزبانية ناصيته مع قدميه، حتى قال بعض المفسرين: إن الأمر ليس كما نتصوره نحن أنه يجمع الناصية مع القدم من الأمام بل تجمع الناصية مع القدم من الخلف حتى تتكسر عظامه والعياذ بالله.
أي: تجمع الزبانية ناصيته مع قدميه ويلقونه في النار كذلك، وقيل: يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين ناصيته حتى يندق ظهره ثم يلقى في النار.(151/7)
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله: ((بِسِيمَاهُمْ)) أي: بعلامتهم المميزة لهم، وقد دل القرآن على أنها هي سواد وجوههم وزرقة عيونهم، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران:106] الآية.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60]، وقال تعالى: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27]، وقال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:40 - 42]؛ لأن معنى قوله: (ترهقها قترة): يعلوها ويغشاها سواد كالدخان الأسود.
وقال تعالى في زرقة عيونهم: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102]، ولا شيء أقبح وأشوه من سواد الوجوه وزرقة العيون؛ ولذا لما أراد الشاعر أن يقبح علل البخيل بأسوأ الأوصاف وأقبحها وصفها بسواد الوجوه وزرقة العيون حيث قال: وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود ولاسيما إذا اجتمع مع سواد الوجه اغبراره، كما في قوله: {عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:40 - 41] فإن ذلك يزيده قبحاً على قبح.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ)) قد قدمنا تفسيرها في الكلام على قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13] قيل: تسحبهم الملائكة إلى النار، وفي قول آخر: تارة تأخذ بناصيته، أي: بمقدم شعر الرأس ثم تجره في النار على وجهه، وتارة تأخذ بقدميه وتسحبه على رأسه، والظاهر هو ما ذكرناه آنفاً من أنه تجمع النواصي إلى الأقدام ثم يلقى في النار أعاذنا الله وإياكم منها.
((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، كما قلنا في صدر السورة: إذا ذكر قوله تبارك وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) فيراد بها تقرير العباد بامتنان الله عليهم بما سبق ذكره قبل هذه الآية الكريمة من النعم.
وفي بعض المواضع التي قد لا يظهر فيها معنى الامتنان بالنعمة وبالآلاء نحتاج إلى أن نتدبر ونتفكر حتى نعرف وجه الامتنان في قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، نقول: بعد أن وصف سبحانه أحوال أهل العذاب وأهل الجحيم وأهوال القيامة وعقاب المجرمين، تبين لنا أن هذا من رحمة الله بنا، وأن هذا من أعظم النعم؛ لأنه حذرنا من المعاصي كي لا نقع فيما نستحق به هذا العذاب، هذا هو وجه النعمة.
فإذاً: النعمة فيما وصف من أهوال القيامة وعقاب المجرمين ما في ذلك من الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات، ولذلك يقول بعض المفسرين: ولما كان معاقبة العصاة المجرمين وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه، وكان إنذاره لهم عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك، قال تعالى ممتناً بذلك على بريته: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: من عقوبته أهل الكفر به وتكريمه أهل الإيمان به.(151/8)
تفسير قوله تعالى: (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال الله تبارك وتعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:43 - 45].
قوله: ((هَذِهِ جَهَنَّمُ)) يعني: يقال لهم توبيخاً وتقريعاً وتحقيراً وتصغيراً: ((هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ)) أي: هذه النار التي كان يكذب بها المجرمون في الدنيا، أما في الآخرة لا يكذبون بها، فيوبخهم الله قائلاً: {أَفَسِحْرٌ هَذَا} [الطور:15] أي: أهذا الذي كنتم تقولون عليه: سحر وكهانة؟ {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور:15 - 16].
وقال تبارك وتعالى هنا: ((هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ)) يعني: النار التي كنتم تكذبون بوجودها ها هي حاضرة تشاهدونها عياناً.
((يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)) الحميم هو الماء الحار، والحميم أخذ منه كلمة الحمام؛ لأنه يكون فيه الماء المسخن.
أما قوله: ((آنٍ)) أي: انتهى حره واشتد غليانه، حتى إنه لا يستطاع من شدة حرارته.
وقال بعض المفسرين: (حميم آن) يعني: حميم حاضر، وفي الحقيقة لا تعارض بين وصفه بأنه حار شديد الحرارة انتهى غليانه إلى أقصى ما يصل إليه من الحرارة، وفي نفس الوقت كونه حاضراً.
ومما يدل على كونه حاراً قوله تبارك وتعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5] يعني: التي اشتدت حرارتها جداً.
ومما يدل على كونه حاضراًَ قول الله تبارك وتعالى: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53] يعني: إدراكه وبلوغه واستواءه ونضوجه.
قوله: ((يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)) أي: تراهم يسعون بين عذاب الجحيم وبين الحميم، فإذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الشديد الحرارة، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]، فهم ما بين هذا أو ذاك.
وقال تبارك وتعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:19 - 20]، وهذه الآية مثل قول الله تبارك وتعالى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:71 - 72].
فهذا مما يوضح معنى قوله تعالى: ((يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)) يعني: تارة في الجحيم وتارة والعياذ بالله يسقون من الحميم، وهو شراب كالنحاس المذاب يقطع الأمعاء والأحشاء.(151/9)
تفسير قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان)
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47].
قوله: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ))، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أي: قيامه عند ربه للحساب.
((مَقَامَ)) هنا مصدر بمعنى القيام.
إذاً: فمعنى ((مَقَامَ رَبِّهِ)): قيام الشخص ووقوفه بين يدي الله للحساب، فحينما خاف مقام ربه للحساب ترتب على ذلك أنه في الدنيا أطاعه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
فإذاً: إذا كان المقصود مقام العبد أمام ربه للحساب يوم القيامة، فلماذا أضيف للرب؟ أضيف للرب لأنه سوف يكون عند الله سبحانه وتعالى وأمام الله، وهذا كقول العرب: ناقة رقود الحل، يعني: رقود عند الحل.
تفسير آخر لقوله تعالى: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ)) أي: موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب، وذلك لاختصاص الملك يومئذ بالله تعالى، أو هو كناية عن خوف مقام الرب، بمعنى: من حصل له الخوف من مكان أحد يهابه وإن لم يكن فيه، فخوفه بطريق الأولى، يعني: لو أن شخصاً يحصل له الخوف إذا رأى المكان الذي يجلس عليه القاضي أو الملك أو كذا، فيهاب المكان حتى وإن لم يكن جالساً عليه، فلا شك أنه لو كان جالساً عليه فسيكون خوفه أشد بطريق الأولى.(151/10)
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)): قد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد يكون فيها وجهان صحيحان كلاهما يشهد له القرآن، فنذكر ذلك كله مبينين أنه كله حق، من ذلك هذه الآية الكريمة.
وإيضاح ذلك أن هذه الآية الكريمة فيها وجهان معروفان عند العلماء كلاهما يشهد له قرآن: أحدهما: أن المراد بقوله: ((مَقَامَ رَبِّهِ)) أي: قيامه بين يدي ربه، فالمقام اسم مصدر بمعنى القيام، وفاعله على هذا الوجه هو العبد الخائف، وإنما أضيف إلى الرب لوقوعه بين يديه، وهذا الوجه يشهد له قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] فقوله: ((وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)) قرينة دالة على أنه خاف عاقبة الذنب حين يقوم بين يدي ربه، فنهى نفسه عن هواها.
والوجه الثاني: أن فاعل المصدر الميمي الذي هو المقام هو الله تبارك وتعالى، أي: خاف هذا العبد قيام الله عليه، ومراقبته لأعماله وإحصاءها عليه، ويدل لهذا الوجه الآيات الدالة على قيام الله على جميع خلقه وإحصائه عليهم أعمالهم، كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33]، وقوله تبارك وتعالى: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61] الآية.
إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا التفسير فإن الإنسان إذا هم بمعصية فذكر أن الله سبحانه وتعالى يراقبه، وأن الله عز وجل مطلع عليه وقائم عليه فيترك المعصية خوفاً من الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية دليل على مسألة فقهية أفتى بها سفيان الثوري وهي: أن من قال لزوجته: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق، فإنه لا يحنث؛ لأنه لو هم بمعصية في يوم من الأيام وتركها استحياء من اطلاع الله سبحانه وتعالى عليه وخوفاً من الله فلا تطلق زوجته ولا يحنث في يمينه.
ثم يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وقد قدمنا في سورة الأحقاف في الكلام على قوله تبارك وتعالى في شأن الجن: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31]، أن قوله تبارك وتعالى: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ))، وتصريحه بالامتنان بذلك على الإنس والجن في قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، نص قرآني على أن المؤمنين الخائفين مقام ربهم من الجن يدخلون الجنة.(151/11)
أقوال العلماء والمفسرين في قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه)
قيل في هذه الآية أقوال: منها: أنها نزلت في أبي بكر الصديق.
وقيل: نزلت في الرجل الذي قال: (أحرقوني بالنار لعلي أضل الله) يعني: أفوته ويخفى عليه مكاني.
والصحيح أن الآية عامة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) رواه البخاري.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذه الآية عامة في الجن والإنس، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا، ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء، فقال: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)) * ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، فقوله: (ربكما) أي: الإنس والجن.(151/12)
ترجيح ابن القيم بين الأقوال في قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه)
وللإمام ابن القيم كلام قيم جداً في الترجيح بين القولين اللذين ذكرناهما في تفسير الآية: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ))، هل هي ولمن خاف مقامه بين يدي الله يوم القيامة للحساب، أو ولمن خاف قيام الله عليه وشهوده واطلاعه على أعماله في الدنيا، فيتقي منه ويترك المعصية.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى مرجحاً أن المعنى: ولمن خاف مقامه بين يدي ربه في الحساب يوم القيامة.
أي: أن الإنسان يهم بالمعصية فيتذكر أنه واقف بين يدي الله يوم القيامة وأنه محاسب فينزجر عنها، هذا الذي يرجحه ابن القيم وترجيحه هذا لوجوه: الأول: أن طريقة القرآن في التخويف أن يخوفهم بالله واليوم الآخر، فإذا خوفهم به علق الخوف به لا بقيامه عليهم، كقوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8]، وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]، ففي هذا كله لم يذكر خشية مقامه عليهم، وإنما مدحهم بخوفه عز وجل وخشيته، وقد يذكر الخوف متعلقاً بعذابه، كقوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]، وأما خوف مقامه عليهم فهو وإن كان كذلك فليس طريقة القرآن.
الثاني: أن هذا نظير قوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:51]، فخوفهم أن يحشروا إليه هو خوفهم من مقامهم بين يديه، والقرآن يفسر بعضه بعضاً فقوله: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:51]، معناها: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)) يعني: من خاف مقام ربه للحساب بين يدي الله بعد الحشر.
الثالث: أن خوف مقام العبد بين يدي ربه في الآخرة لا يكون إلا ممن يؤمن بلقائه وباليوم الآخر وبالبعث بعد الموت، وهذا هو الذي يستحق الجنتين المذكورتين، فإنه لا يؤمن بذلك حق الإيمان إلا من آمن بالرسل، وهو من الإيمان بالغيب الذي جاءت به الرسل، وأما مقام الله على عبده الدنيا واطلاعه عليه وقدرته عليه على القول الثاني فهذا يقر به المؤمن والكافر والبر والفاجر، وأكثر الكفار يخافون جزاء الله لهم في الدنيا لما عاينوه من مجازاة الظالم بظلمه، والمحسن بإحسانه، وأما مقام العبد بين يدي ربه في الآخرة فلا يؤمن به إلا المؤمن بالرسل.
فإن قيل: إذا كان المعنى أنه خاف مقام ربه عليه في الآخرة فقد استوى التقديران، فمن أين رجحتم أحدهما؟ قيل: التخويف من مقام العبد بين يدي ربه أبلغ من التخويف بمقام الرب على العبد؛ ولهذا خوفنا الله سبحانه وتعالى بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]؛ لأنه مقام مخصوص مضاف إلى الله تبارك وتعالى وذلك في يوم القيامة، بخلاف مقام الله على العبد فإنه في كل وقت.
وأيضاً: فإنه لا يقال لقدرة الله على العبد واطلاعه عليه وعلمه به: مقام الله، ولا هذا من المألوف إطلاقه على الرب.
وأيضاً: فإن المقام في القرآن والسنة إنما يطلق على المكان كقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقوله تعالى: {خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73].(151/13)
أوجه دخول الجن مع الإنس في التكليف والثواب والعقاب
قوله تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} يتناول الصنفين من وجوه، تقدم منها وجهان.
يعني: أنه يشمل الجن ويشمل الإنس؛ لأن أساس السياق كان في إثبات أن الجن مكلفون كالإنس، ويترتب على أعمالهم الثواب والعقاب، فمحسنهم في الجنة كما أن مسيئهم في النار، قال الله تعالى حكاية عن المؤمنين من الجن: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} [الجن:13]، وبهذه الحجة احتج البخاري.
قوله: ((فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا)) البخس هو: نقصان الثواب، والرهق هو: الزيادة في العقوبة على ما عمل، فلا ينقص من ثواب حسناته ولا يزاد في سيئاته، وهذا مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] أي: لا تزاد سيئاته عما عمل ولا تنقص حسناته عما عمل ولا ينقص ثوابها.
وقال تعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا)) يعني: يا معشر الجن والإنس! ((تُكَذِّبَانِ)) ثم ذكر ما في الجنتين إلى أن قال: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، فهذا يدل على أن محسنهم -أي: الجن- في الجنة؛ لأن قوله تعالى: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)) يعني: إنس من أهل الجنة ولا جن من أهل الجنة.
فقوله: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)) هذه صفة عموم، فتتناول كل من خاف مقام ربه سواء كان من الجن أو الإنس.
كذلك رتب الجزاء المذكور على خوف مقامه، فكل من أتى بالشرط ينال الجزاء، أي: فكل من خاف مقام الله فإنه يكون له جنتان سواء كان من الجن أو من الإنس.
لقد استطرد ابن القيم في المقصود بقوله: ((مَقَامَ رَبِّهِ)) ثم عاد إلى المسألة الأصلية التي كان يتكلم فيها فقال أيضاً: قول الله سبحانه وتعالى عقب هذا الوعد: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أيضاً يدل على ذلك.
وأيضاً: وصف نساء أهل الجنة بقوله: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)) يعني: لم يطمث نساء الإنس إنس قبلهم، ولا نساء الجن جن قبلهم.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30]، وهذا يشمل الجن أيضاً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث للثقلين، ثم قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:31] وأمثال هذا من العمومات، وقد ثبت أن منهم المؤمنين فيدخلون في العموم كما أن كافرهم يدخل في الكافرين المستحقين للوعيد، ودخول مؤمنهم في آيات الوعد أولى من دخول كافرهم في آيات الوعيد، فإن الوعد فضله والوعيد عدله، وفضله من رحمته وهي التي تغلب غضبه.
وأيضاً: فإن دخول عاصيهم النار إنما كان لمخالفته أمر الله، فإذا أطاع الله دخل الجنة.
وأيضاً: فإنه لا دار للمكلفين سوى الجنة والنار، وكل من لم يدخل النار من المكلفين فالجنة مثواه.
وأيضاً: ثبت أنهم إذا أجابوا داعي الله غفر لهم وأجارهم من عذابه، وكل من غفر الله له دخل الجنة ولابد، وليس فائدة المغفرة إلا الفوز بالجنة والنجاة من النار.
وأيضاً: ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهم وأنهم مكلفون باتباعه، وأن مطيعهم لله ورسوله مع الذين أنعم الله عليهم كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69]، إلى آخر الآية.
وأخبر الله سبحانه وتعالى عن ملائكته حملة العرش ومن حوله أنهم يستغفرون للذين آمنوا، سواء من الجن أو الإنس، وأنهم يقولون: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم} [غافر:7 - 8]، فدل على أن كل مؤمن غفر الله له ووقاه عذاب الجحيم فقد وعده الجنة، وقد ثبت في حق مؤمنهم الإيمان ومغفرة الذنب ووقاية النار كما تقدم فتعين دخولهم الجنة.
قوله: ((جَنَّتَانِ)) يقول القاسمي: أي: جنة لمن أطاع من الإنس وجنة لمن أطاع من الجن، أو هو كناية عن مضاعفة الثواب وإيثار التثنية للفاصلة، وهذا كلام فيه نظر، لكن الصحيح والأظهر في تفسير الآية: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)) يعني: جنتان كل على حدة، فلكل خائف جنتان.
كما لا يصح في قول الله تبارك وتعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] أن يقال: هم عشرون، لكن لأجل الفاصلة قال: هم تسعة عشر، هذا لا يجوز أبداً وما ينبغي.(151/14)
تفسير قوله تعالى: (ذواتا أفنان فبأي آلاء ربكما تكذبان)
ثم لقد شرع عز وجل في وصف هاتين الجنتين فقال تبارك وتعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:48 - 49].
يقول القاسمي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: (ذواتا أفنان) أي: أنواع من الأشجار والثمار على أساس أن أفناناً جمع فن بمعنى النوع، أو ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)) أي: أغصان لينة جمع فنن وهو ما دق ولان من الغصن.
إذاً: قوله: ((أَفْنَانٍ)) إما جمع فن، وإما جمع فنن، ومن قال: جمع فن فهو على أساس أن الفن يحتوي على النوع، أي: ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، ومن قال: جمع فنن فهو على أساس أن الفنن هو ما دق ولان من الغصن.
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)) أي: أغصان نضرة حسنة، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة، ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، هكذا قال عطاء الخرساني وجماعة أن الأفنان أغصان الشجر يمس بعضها بعضاً.
قال مجاهد الأفنان: الأغصان واحدها فنن.
والأفنان هذه كلمة يحبها الشعراء جداً، وتراهم يأتون بكلمة الأفنان بمعنى الأغصان، يقول إقبال: والطير صادحة على أفنانها.
يعني: على أغصانها.
ويقول النابغة: أسائلها وقد سفحت دموعي كأن مفيضهن غروب شن بكاء حمامة تدعو هديلاً مفجعة على فنن تغني قوله: (بكاء حمامة) يعني: أبكي بكاء حمامة.
وقال آخر يصف طائرين: باتا على غصن بانٍ في ذرى فنن يرددان لحوناً ذات ألوان (يرددان لحوناً) أي: لغات ذات ألوان.
ويقول الشاعر أيضاً: ما هاج شوقك من هديل حمامة تدعو على فنن الغصون حماما تدعو أبا فرخين صادف طاوياً ذا مخلبين من الصقور قطاما فخلاصة الكلام: أن الأفنان هي الأغصان.
وقيل أيضاً: الأفنان ظل الأغصان على الحيطان.
وقيل: ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)) ذواتا ألوان، يعني: أن فيهما فنوناً من الملاذ.
وقال عطاء: كل غصن يجمع فنوناً من الفاكهة.
يعني: الغصن الواحد يكون فيه ثمار وألوان كثيرة جداً من الفاكهة، ليس مثل الدنيا يكون في الغصن ثمرة واحدة من نوع واحد.
وقال الربيع بن أنس: ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)) يعني: واسعتا الفناء.
يقول ابن كثير: وكل هذه الأقوال صحيحة ولا منافاة بينها، والله أعلم.
وقال قتادة: ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)) يعني: بسعتها وفضلها ومزيتها على ما سواها.
وروي عن أسماء قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر سدرة المنتهى فقال: يسير في ظل الفنن منها الراكب مائة سنة، أو قال: يستظل في ظل الفنن منها مائة راكب، فيها فراش الذهب، كأن ثمرها القلال).(151/15)
تفسير قوله تعالى: (فيهما عينان تجريان فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال تبارك وتعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:50 - 53].
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: ((فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ)) أي: تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان.
((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).
قال الحسن: إحداهما يقال لها: تسنيم، والأخرى السلسبيل، وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، ولهذا قال بعدها: ((فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)).
يعني: صنفان وكلاهما حلو يستلذ به.(151/16)
التفاوت بين الجنتين الأوليين والجنتين الأخريين
إن الجنتين اللتين توصفان الآن هنا أعلى من الأخريين، فلما تتأمل ستجد أن هاتين الجنتين هما للمقربين، أما الأخريين فقال الله عنهما: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62]، وهما لأصحاب اليمين، فنلاحظ هنا أن الجنتين الأوليين أفضل في كل شيء، فهنا قال: ((فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ)) وهناك قال: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66] والجري أفضل من النضخ.
كذلك قال الله تبارك وتعالى في هاتين الجنتين الأوليين: ((فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)) فعم جميع أنواع الفاكهة، وهناك قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] وهذا أقل، وهنا قال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54] وفي الأخريين قال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] والعبقري: الطنافس، ولا شك أن الديباج أعلى من العبقري، والرفرف هي الوسائد، فلا شك أن الفرش المعدة للاتكاء عليها أفضل من الوسائد، وقال في الأوليين: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:58] وقال في الأخريين: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70]، وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان.
وقال في الأوليين: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:48]، وقال في الأخريين: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:64] أي خضراوان كأنهما من شدة الخضرة سوداوان.
فوصف الأوليين بكثرة الأغصان ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ))، ووصف الأخريين بالخضرة فقط، ولعل ما لم يذكره الله سبحانه وتعالى من التفاوت بين الجنتين أكثر مما ذكر.(151/17)
معنى قوله تعالى: (فيهما من كل فاكهة زوجان) والفرق بين ثمار الدنيا وثمار الآخرة
يقول ابن كثير ((فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)) يعني: فيهما من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون، ومما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).
ثم قال رحمه الله تعالى: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل).
لكن الحنظلة في الجنة تكون حلوة وليست مرة كشجر الدنيا.
ثم قال رحمه الله: وقال ابن عباس: (ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء) يعني: أن بين ذلك بوناً عظيماً وفرقاً بيناً في التفاضل.
وهذا نفس الشيء بالنسبة لعذاب النار، فإذا وصف عذاب النار بوصف في الدنيا فهو مجرد الأسماء، حتى داء الجرب في القرآن إشارة على أنه من عذاب أهل النار، كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50]، ومعروف أن العرب كانوا يعالجون الإبل من الجرب بدهنها بالقطران الأسود، ففي الآخرة يسلط عليهم داء الجرب، ولكن ليس جرب النار والعياذ بالله كجرب الدنيا، مع أنه في الدنيا من أشد الأمراض وأقبحها وأبغضها إلى الإنسان، يقول لك: كأني أجرب وأعياه داء.
ففي الآخرة يسلط عليهم أيضاً جرب لكن هناك تفاوت كثير في حقيقة العذاب به، إذاً: قوله: ((سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ)) يعني: فيدهن بقطران، لكن هناك تفاوت بين قطران الآخرة وقطران الدنيا، فقطران الآخرة ستشب فيه النار ويتضاعف العذاب.
الشاهد: أنه ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء فقط، وهناك تفاوت وبون شاسع سواء في حالة العذاب أو في حالة النعيم كما أشرنا.
وقال أبو بكر الوراق في تفسير قوله تعالى ((فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ)): لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل.
يعني: على أساس أن الجزاء من جنس العمل.(151/18)
تفسير قوله تعالى: (متكئين على فرش بطائنها من استبرق)
قال الله تبارك وتعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54].
قوله: (متكئين) هذا حال منصوب، والاتكاء يطلق على الاعتماد على شيء، قال عز وجل حاكياً عن موسى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه:18].
ويطلق أيضاً على أن الإنسان يجلس على جنبه ويستند على مرفقه.
بالنسبة للاتكاء هناك ظاهرة عجيبة جداً بدأت تشيع في المساجد، وهي أنه في بعض المساجد تجد خطاً من الكراسي يجلس عليها بعض المصلين، ونلاحظ الذي يجلس عليها أحياناً يكون شاباً أو فوق الشباب بقليل -أي: في منتصف العمر- وهو ما شاء الله يسعى وراء الدنيا مثل الجمل أو مثل (البابور) وتراه في منتهى الصحة والعافية، ثم تراه جالساً على الكرسي، وهذا يدل على تهاون الناس بالصلاة، وقد تجد إنساناً يصلي متكئاً أو جالساً على كرسي.
نقول: في النافلة يقبل ما لا يقبل في الفريضة، صحيح أن العلماء قالوا في مثل هذا الإنسان: يصلي حسبما يستطيع، يعني: إن كان لا يستطيع القيام فله أن يصلي قاعداً أو على جنب على حسبه، لكن القيام ركن من أركان الصلاة، بمعنى: لو أن رجلاً في الفريضة صلى جالساً وهو قادر على القيام فصلاته باطلة، يقول عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].
أما إذا لم يستطع قائماً فله أن يصلي جالساً أو على جنب، وهكذا هناك درجات معينة لا ينتقل إلى التي بعدها حتى يعجز عن التي قبلها.
إذاً: ينبغي أن لا توضع الكراسي للناس في المساجد إلا إذا كان أثناء الجلوس خارج الصلاة، كأن يشق على بعض كبار السن فلا بأس بذلك، لكن داخل الصلاة لا ينبغي أن توفر الكراسي؛ حتى لا نفتح هذا الباب للناس المتهاونين؛ لأني أرى في بعض المساجد أناساً في منتهى الصحة والعافية، لكن وقت الصلاة تراه يأخذ كرسياً ويجلس عليه.(151/19)
تفسير سورة الرحمن [58 - 78](152/1)
تفسير قوله تعالى: (كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان)
{كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) [الرحمن:58 - 61].
قوله: ((كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ)) يقول القاسمي: أي: في الحسن والبهجة، أو في حمرة الوجنة والوجه أدباً وحياء ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).
((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) يعني: هل جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب وهو الجنة: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وقوله تعالى: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) أي: ما لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة, كما قال الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26].
قوله: ((الحسنى)) هي الجنة، ((وَزِيَادَةٌ)) وهي رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة.
وبعض المفسرين ذهب إلى أن قوله تعالى: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) يفيد العموم، يعني: ما جزاء الإحسان في الدنيا التي هي دار العمل إلا الإحسان في الدنيا والآخرة.
قال الصادق: هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه إلى الأبد, فيكون هنا تفسيران: التفسير الأول: هل جزاء من أحسن في الدنيا العمل إلا الإحسان إليه في الدار الآخرة, هذا هو الصواب، ويؤيده قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26].
والتفسير الثاني: ((هل جزاء الإحسان)) يعني: هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل حينما كتبه الله سبحانه وتعالى من السعداء إلا حفظ الإحسان عليه إلى الأبد حتى يدخل الجنة.
وقال محمد بن الحنفية: هي مسجلة للبر والفاجر, أي: مرسلة.
يعني: مطلقة غير مقيدة، حتى الكافر إذا أحسن في الدنيا يحسن الله إليه في الدنيا، لكن أعماله مقيدة بمشيئة الله تعالى، كما في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18] وهذا هو سر القيد: ((لمن نريد)) إلى آخر الآية.
وقول محمد بن الحنفية في تفسيرها: هي مسجلة للبر والفاجر، أي: مرسلة على الفاجر في الدنيا، وعلى البر في الآخرة، وهذا المعنى في الحقيقة ليس بدعاً من القول، فإنه يؤيده نصوص تدل على أن عمل الكافر الذي يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى لا يضيع عليه، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى.
يعني: أن الكافر الذي يعمل أعمالاً حسنة مما يرضي الله عز وجل كبر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الضيف، وحسن الجوار، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، والتنفيس عن المكروب، ونحو ذلك فهو يجازى عليه، لكن فقط في الدنيا؛ لأن الدنيا هي سجن المؤمن وجنة الكافر.
يعني: المؤمن إذا خرجت روحه كالسجين الذي يحكم عليه بالإطلاق والإخراج, فيدخل إلى سعة رحمة الله تبارك وتعالى، ويطلق من القيود التي كان مقيداً بها في الدنيا، سواء الأحكام الشرعية من الحلال والحرام أو غير ذلك من الابتلاءات, أما الكافر فهو يجازى فقط في الدنيا التي هي جنته, وهي المكان الوحيد الذي يمكن أن ينتفع فيه بعمله الصالح في الدنيا، ولا يمكن أن يكون له حظ في الآخرة إذا مات على غير التوحيد؛ وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، وقال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها) رواه مسلم، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا).
وهذا هو السر في أننا أحياناً نجد الكافر في رزق وصحة وأولاد ونعيم ورأس مال ومشاريع وكذا وكذا, وقد يفضل في كثير من الأحوال على المؤمن، بينما المؤمن مبتلى فقير وهكذا؛ لأن الله سبحانه يريد رفع درجات المؤمن في الآخرة، وذلك للحديث الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته) رواه مسلم.
إذاًً: القاعدة العامة أن انتفاع الكافر بالعمل الحسن الذي يعمله مقيد بمشيئة الله، كما قال الله سبحانه وتعالى: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ))، فهذه تقيد ما سبق من الكلام.
أما في الآخرة فالنصوص كثيرة جداًَ، وهي دالة على أنه لا يمكن أن ينتفع الكافر بعمله في الآخرة إذا مات على الشرك والعياذ بالله.(152/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن دونهما جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان)
{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:62 - 69].
قوله: ((وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ)) قيل: جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين.
وقال معظم المفسرين: إن هاتين الجنتين دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن الكريم؛ لأن قوله تعالى: ((ومن دونهما)) يفيد أن هاتين الجنتين أقل من اللتين ذكرتا أولاً في الآيات السابقة، وهذا هو الظاهر من كلام عامة المفسرين، وإن كان بعضهم ذهب إلى العكس وهو تفضيل الجنتين المذكورتين آخراً على المذكورتين أولاً, ثم اجتهد في توجيه كلامه، لكن الصحيح ما ذكرناه من قبل أن الأقرب والله تعالى أعلم: أن الجنتين الأوليين أعظم وأعلى وأفضل من الجنتين اللتين ذكرتا فيما بعد, وذلك لما روي في الحديث: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما) فالأوليان للمقربين، والأخريان لأصحاب اليمين.
وقال أبو موسى: جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من فضة لأصحاب اليمين, وقال ابن عباس: ((ومن دونهما جنتان)) أي: من دونهما في الدرج، وقال ابن زيد: من دونهما في الفضل.
والدليل على شرف الأوليين على الأخريين وجوه: أحدها أنه نعت الأوليين قبل هاتين، والتقديم يدل على الاعتناء, ثم قال: ((ومن دونهما جنتان)) وهذا ظاهر في شرف التقدم وعلوه على الثاني, وقال هنا: ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)) وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ، وقال هنا: ((مُدْهَامَّتَانِ)) أي: سوداوان من شدة الري من الماء.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((مدهامتان)): (قد اسودتا من الخضرة من شدة الري من الماء)، وقال قتادة: خضروان من الري ناعمتان, ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشتبكة بعضها في بعض.
قوله: ((مُدْهَامَّتَانِ)) أي: خضراوان من الري تضربان إلى السواد من شدة الخضرة.
وقيل: قوله تعالى: ((مُدْهَامَّتَانِ)) دلالة على شدة تمكن اللون الأخضر، وأنهما ممتلئتان من الخضرة.
وقال هناك في الجنتين الأوليين: ((فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ)) وقال هنا: ((فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ)).
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((نصاختان)) (أي: فياضتان، والجري أقوى من النضخ).
وقال الضحاك: ((نضاختان)) أي: ممتلئتان لا تنقطعان.
وقال هناك: ((فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)) أي: فيها من جميع أنواع الفاكهة أما هنا فقال: ((فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ))، ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم، ولهذا ليس قوله: ((ونخل ورمان)) من باب عطف الخاص على العام كما قرره البخاري وغيره, وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما.
وهذا كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فالصلوات الخمس والوسطى منها وهي صلاة العصر، لكن هذا لمزيد من الاعتناء بتخصيص صلاة العصر بالذكر، وكذلك قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] قوله: ((وجبريل وميكال)): هما من الملائكة, لكن هذا من باب عطف الخاص على العام.
يقول القاسمي في تفسير قوله تعالى: ((فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ))، وإنما أفردهما بالذكر مع أنهما من الفاكهة لبيان فضلهما.(152/3)
تفسير قوله تعالى: (فيهن خيرات حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان)
{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:70 - 71].
قوله: ((خيرات)) جمع خَيَّرة بالتشديد ثم خففت.
قوله: ((فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ)) يعني: فاضلات في الأخلاق، وإيثار ضمير المؤنث على التثنية مراعاة للفظ المسند إليه بعده؛ لأن المسند إليه بعده فيه الجهة, ((فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ)).
((حسان)) يعني: حسان الوجوه.
إذاً: قوله: ((خيرات)): إشارة إلى أنهن فاضلات في أخلاقهن، وأما ((حسان)) ففيه وصف الخَلْقِ.
يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ((فيهن خيرات حسان)): قيل: المراد ((خيرات)) كثيرة حسنة في الجنة قاله قتادة.
وقيل: ((خيرات)) جمع خيرة أو خيِّرة وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق الحسنة الوجه, قاله الجمهور.
وفي بعض الأحاديث: أن الحور العين يغنين لأزواجهن: (نحن الخيرات الحسان.
خلقنا لأزواج كرام) ولهذا قرأ بعضهم: (فِيهِنَّ خَيَّرَاتٌ حِسَانٌ) بالتشديد, ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).
لقد ناقش المفسرون: أيهما أكثر حسناً الحور العين أو الآدميات؟ فبعض العلماء قال: الحور أفضل من الآدميات لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة بصفات الجمال في الخَلق والخُلق, وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للميت: (وأبدله زوجاً خيراً من زوجه) فهذا يدل على أن التي يتزوجها المؤمن من الحور العين أفضل من زوجه الآدمية.
وإن كان يمكن الجواب عن هذا بأنه إذا مات الرجل وبقيت زوجته بعده فالدعاء له الآن بعد انتقاله إلى الدار الآخرة أو إلى مقدمات الآخرة وهي البرزخ.
القول الثاني: الآدميات أفضل من الحور العين؛ لأن الآدميات مكلفات وقد عملن أعمالاً صالحة في الدنيا وأطعن الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أيضاً: مما ينبغي أن نعلمه أن الحور لسن من نساء الدنيا, بل هن مخلوقات في الجنة, لقول الله عز وجل: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ))، وأكثر نساء الدنيا مطموثات, وحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أقل ساكني الجنة النساء)؛ فإذا كان أقل ساكني الجنة النساء، فالمعنى: أن أهل الجنة من الرجال لا يصيب كل واحد منهم امرأة من المؤمنين في الجنة، مع أن الله سبحانه وتعالى وعد جميع المؤمنين بأنهم سوف يتزوجون الحور العين، فثبت أن الحور العين لسن من نساء الدنيا وإنما هن مخلوقات يخلقهن الله سبحانه وتعالى في الجنة.
فجاء في الحديث أنهن ينشدن: (نحن الخيرات الحسان.
خلقنا لأزواج كرام).(152/4)
تفسير قوله تعالى: (حور مقصورات في الخيام فبأي آلاء ربكما تكذبان)
{حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:72 - 75].
قوله: ((حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)) الحور جمع حوراء، والحوراء البيضاء النقية.
ومعنى قوله: ((مقصورات)) أي: قصرن أنفسهن على منازلهن, لا يهمهن إلا زينتهن ولهوهن.
((الخيام)) يعنى بها البيوت، وقد يسمي العرب هوادج النساء خياماً.
قوله تعالى: ((حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)) أي: محبوسات حبس صيانة وتكرمة وحماية.
وهذا الحبس ليس كما يزعم بعض الناس أنه امتهان للمرأة أو كذا، وإنما هو حبس من أجل الصيانة والحماية والتكريم؛ لأن الشيء الذي له قيمة وهو نفيس فإنه يصان ولا يهان ولا يبذل للناظرين، فمثلاً: حبة اللؤلؤ تصان داخل الصدفة لأنها ثمينة, ومن امتلك جواهر أو أشياء من هذه الأشياء النفيسة فإنه يصونها في مكان يؤمن عليها فيه.
وقوله: ((حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)) هذا في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين, فهناك قال: ((فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ)) أما هنا فقال: ((حُورٌ مَقْصُورَاتٌ)) يعني: قُصِرتْ أطرافهن، ولا شك أن التي قَصَرَتْ طرفها بنفسها أفضل ممن قُصِرتْ، وإن كان الجميع مخدرات، ومخدرات يعني: استترن وراء الخدر، وهو غطاء أو ستارة في كنف البيت تحبس فيه العذراء لشدة حيائها, ولذلك ورد في الحديث: (كان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها)، وهناك كتاب في الفقه الحنبلي اسمه (فقه المخدرات شرح أخصر المختصرات) المخدرات: يعني الأفكار المنقولة المستورة.
والبنت في الصعيد إذا كبرت يقولون عنها: هذه (اتخدرت) يعني: كبرت وهي مخدرة ومستترة داخل البيت.
إذاً: ((حور)) جمع حوراء، والحوراء الشديدة بياض العين الشديدة سوادها.
وقوله: ((مقصورات)) أي: محبوسات حبس صيانة وتكرمة، فالمقصود هنا عدم خروجهن أو نظرهن وتطلعهن إلى غير أزواجهن، ومنه قول كثير مخاطباً عزة: وأنت التي حببت كل قصيرة إلي وما تدري بذاك القصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء البحاتر يعني: أنت التي حببت إلى كل امرأة قارة في بيتها، أعني النساء اللائي يقصرن أنفسهن داخل الخيام أو داخل البيوت أو داخل الخدر ولا يخالطن الرجال.
(شر النساء البحاتر) يعني: القصيرة المجتمعة الخلق.
((حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)) أي: لسن بالطوافات في الطرق.
أما الخيام فقيل: هي خيام اللؤلؤ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ، عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب.
((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)) يعني بهن: حور الجنتين اللتين هما دون الأوليين، أو أنه تكرار لما سبق للتنويه لهذا الوضع، وكونه في مقدمة المشتهيات وطليعة الملذات فقال عز وجل: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ))، إلا أن الله سبحانه وتعالى زاد في وصف الحور الأوائل فقال: ((كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ))، أما هنا فلم يصف هؤلاء الحور بذلك، وإنما قال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).(152/5)
تفسير قوله تعالى: (متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان فبأي آلاء ربكما)
{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:76 - 77].
قوله: ((مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ)) أي: سرر أو مساند أو وسائد خضر ((وعبقري)) أي عتاق الزرابي، ((حسان)) أي: جيادها.
وأصل صفة العبقري هذه لا تقال إلا على الجيد، فهنا كشف عن الصفة بقوله: ((مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ))، فقد يظن ظان أن هناك شيئاً يوصف بأنه عبقري ولا يكون حسناً، فمن ثم قال: الصفة كاشفة؛ لأن كل عبقري لابد أن يكون حسناً.
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: ((مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ)) عن ابن عباس: (الرفرف المحابس)، والمحابس بفتح الميم محبس، والمحبس ثوب يطرح على ظهر الفراش الموضوع على السرير الذي ينام الإنسان عليه.
وقال العلاء بن زيد: الرفرف على السرير كهيئة المحابس المتدلي.
وقال عاصم الجحدري: ((متكئين على رفرف خضر)) يعني: الوسائد.
وعن سعيد بن جبير قال: الرفرف: رياض الجنة، والعبقري هي: عتاق الزرابي، يعني: جيادها.
وقال مجاهد: العبقري: الديباج.
وسئل الحسن البصري عن قوله تعالى: ((وعبقري حسان)) فقال: هي بسط أهل الجنة لا أبا لكم فاطلبوها، وعنه: أنها المرافق.
وقال زيد بن أسلم: العبقري أحمر وأصفر وأخضر.
وقيل: العبقري من ثياب أهل الجنة لا يعرفه أحد.
وقال أبو العالية: العبقري: الطنافس المخملة إلى الرقة ما هي.
وقال القيسي: كل ثوب موشى عند العرب عبقري.
وقال أبو عبيدة: هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي.
وقال الخليل بن أحمد: كل شيء نفيس من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقرياً, ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر: (فلم أر عبقرياً يفري فرية).
والعبقري هنا المقصود به: رئيس القوم وجليلهم.(152/6)
وجه تسمية الشيء النفيس عبقرياً
نلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى خاطب العرب بما يعرفونه, ومما تعارفه العرب أن العبقري هي من أنفس الأشياء, مثل: الزرابي أو البسط أو السجاجيد أو كذا، فالعرب لهم كلام في أصل وصف الشيء بأنه عبقري.
وتزعم العرب أن عبقر بلد يسكنها الجن فينسبون إليه كل شيء فائق جليل.
وقال الخليل: كل شيء نفيس من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري.
إذاً: كلمة عبقري لوحدها تدل على أنها كل جيد ونفيس وفاخر وجليل إلى آخره، يعني: لا يفهم من قوله: ((وعبقري حسان)) أنه يمكن أن يكون هناك عبقري ليس حسناً، وإنما كل عبقري لا بد أن يكون حسناً، فلذلك قال: ((َعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ)).
إذاً: العرب ينسبون إلى عبقر كل شيء يعجبون به من صنعه وجودته وقوته، وأيضاً: يوصف به كل جليل ونفيس وفاضل وفاخر من الرجال والنساء وغيرهم، فالعرب تسميه عبقرياً، وفي الحديث لـ عمر: (فلم أر عبقرياً يفري فريه).
أيضاً: للعقاد سلسلة مؤلفات تسمى العبقريات، منها: (عبقرية محمد) و (عبقرية عمر) و (عبقرية الصديق) وهكذا.(152/7)
حكم إطلاق وصف العبقري على النبي صلى الله عليه وسلم
لقد حصل نوع من الجدل حول إطلاق وصف العبقري على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, أو وصف الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه أعظم الأبطال أو أنه أشجع الشجعان أو أنه أفضل مائة شخصية عرفها العالم, هذا كله يعتبر نوعاً من الرضا بالدون؛ لأنه من الرضا بالدون حينما نقنع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عبقري, ولا يقاس بأنه أكمل البشر في كل صفاته عليه الصلاة والسلام, ومعلوم أن الناس ينقسمون إلى مؤمنين وكفار، وأهل جنة وأهل نار، ليس لأنهم كانوا يؤمنون أن محمداً عبقري أو غير عبقري عليه الصلاة والسلام، أو أنه بطل أو غير بطل.
فالنبي بكل المقاييس البشرية هو أفضل البشر عليه الصلاة والسلام، والحد الفاصل بين الإيمان والكفر فيما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم أنك تشهد أن محمداًَ رسول الله، أما من يبدي إعجابه به فهو على رغم أنفه لابد أن يعجب بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام وسيرته، وكذا وكذا من شئونه، ولذلك رأينا كثيراً من الكفار يمدحونه عليه الصلاة والسلام مدحاًَ كبيراً جداً ومدحاً عظيماً، كـ موسى الشاعر الألماني المعروف والذي له كلام في هذا، وأحد الأدباء الروس أيضاً له كلام في غاية الروعة والاحترام لرسول الله عليه الصلاة والسلام, وهذا ابن الرئيس المدعو غاندي الهندي عابد البقر دخل في الإسلام, فهؤلاء الناس لم يدخلوا في الإسلام بمجرد أن مدحوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, فالرسول عليه الصلاة والسلام بعث كي يؤمن الناس بأن لا إله إلا الله وأنه رسول الله, أما الوقوف عند كلمة عبقري وأن نفخر حينما نجد هؤلاء الناس يمدحونه بكذا وكذا لأنه رسول, الاعتراف بأنه رسول الله لا يهز فينا شعرة.
إذاً: عليه الصلاة والسلام لا يختلف عاقل أنه أكمل البشر, أما الوقوف عند هذا الحد، أو مقارنته بـ نابليون أو فلان أو علان فهذا كلام عجيب، ولكن الحد الفاصل بين الإسلام والكفر هو أن تؤمن أن محمداً نبي الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.(152/8)
الفرق بين فرش الجنتين الأوليين وفرش الجنتين الأخريين
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة فإنه قد قال هناك: ((مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ))، فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظاهرها اكتفاء بما مدح به البطائن بطريق الأولى والأحرى.
وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات، كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان، فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخريين.(152/9)
تفسير قوله تعالى: (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام)
قال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78] أي: ذي العظمة والكبرياء والتفضل بالآلاء.
قوله: ((ذي الجلال والإكرام)) أي: هو سبحانه وتعالى أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى.
يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وذي السلطان المقسط، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه) رواه أبو داود.
وعن أنس مرفوعاً عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام) قوله: (ألظوا) يعني: الزموا هذا الاسم فاثبتوا عليه وأكثروا من الدعاء به.
وعن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد -يعني: بعد الصلاة- إلا بقدر ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام).
قوله هنا: ((تبارك اسم ربك)) الاسم هنا كناية عن الذات العالية، وإلا يكفي أن يقول: تبارك ربك ذو الجلال والإكرام.
كذلك قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] فأنت لا تقول: سبحان اسم ربنا الأعلى بل تقول: سبحان ربنا الأعلى, فالمقصود به الذات العالية؛ لأنه كثر اقتران الفعل المذكور معه، كقول الله تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان:61]، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1]، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] وهذا يقوي القراءة بالرفع, أي: ((تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام)) على أنه صفة للاسم، وسر إيثار الاسم أن الأغلب أن المقصود هو الذات العالية, وللتنبيه على أنه لا يعرف منه تعالى إلا أسماؤه الحسنى لاستحالة معرفة الذات المقدسة، فما عرف الله إلا الله.
فهو اقتصر عز وجل على ذكر الاسم تنبيهاً على أننا لا نعرف من الله سبحانه وتعالى إلا أسماءه الحسنى, وحتى الأسماء الحسنى لا نعرفها كلها وإنما نعرف ما كشف لنا منها, وذلك لما ورد في الحديث: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فأسماء الله لا تنحصر في التسعة والتسعين وإنما هي أكثر من ذلك ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.(152/10)
وجه إدخال لفظة (اسم) في قوله: (تبارك اسم ربك)
قيل: إن لفظة: (اسم) مقحمة, كقول الشاعر لبيد بن ربيعة في قصيدة يخاطب فيها بنتيه: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر ثم قام يوصيهن بماء يفعلان بعد أن يموت: فقوما فقولا بالذي قد علمتما ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر فقولا هو المرء الذي لا خليله أضاع ولا خان الصديق ولا غدر إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر لأن الحداد في الجاهلية كان يستمر سنة كاملة.
قوله: (إلى الحول) يعني: ابكيا ومجداني واذكرا محاسني مدة سنة كاملة.
قوله: (ثم اسم السلام عليكما) هذا شاهد لإقحام لفظة (اسم).
وقول الله تبارك وتعالى هنا في آخر هذه السورة الكريمة: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) يعني: كأنه من باب رد العجز على الصدر؛ لأن السورة افتتحت بالاسم الكريم: ((الرَّحْمَنُ)) واختتمت بقوله: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) فكأن المراد بقوله: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) كأنه يريد الاسم الذي افتتحت به هذه السورة وهو اسم (الرحمن)، فافتتح السورة بهذا الاسم فوصف خلق الإنسان والجن وخلق السماوات والأرض وصنعه، وأنه عز وجل كل يوم هو في شأن، ووصف تدبيره فيه، ثم وصف يوم القيامة وأهواله وصفة النار، ثم ختمها بصفة الجنان، ثم قال في آخر السورة: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) أي: تبارك هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه سبحانه وتعالى يعلمهم أن هذا كله خرج لكم من رحمتي, فمن رحمتي خلقتكم, ومن رحمتي خلقت لكم السماء والأرض, ومن رحمتي خلقت الخلق والخليقة والجنة والنار, فهذا كله لكم من اسم الرحمن، فمدح اسمه ثم قال: ((ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) يعني: أنه جليل في ذاته كريم في أفعاله سبحانه وتعالى.(152/11)
وجوب تعظيم اسم الله تعالى والحذر من امتهانه
إن من مقتضى هذه الآية الكريمة أن يعظم اسم الله سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]، فمن تعظيم الله عز وجل أن يصان عن أي شيء يتنافى مع إكرامه.
يقول عبد الله بن عون رحمه الله تعالى: كان محمد بن سيرين يكره أن يشتري بهذه الدنانير المحدثة والدراهم التي عليها اسم الله.
مع أن هناك بوناً شاسعاً بين امتهان اسم الله عز وجل بأن يكتب على الدنانير الذهبية، وبين ما يحصل الآن من كتابتها على أوراق الجرائد وكذا وكذا ثم يمتهن الاسم الكريم، فهذا يتصادم مع مقتضى قوله تعالى: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ))، وبعض الناس يتساهلون في هذا الجانب، فتجد من يكتب شعار: الله أكبر, أو ما شاء الله إلى آخره على الجدران أو السيارات، وهذا لا ينبغي، فاسم الجلالة لا يستعمل هذا الاستعمال.
فما ينبغي التهاون في مثل هذا الأمر، وأعداء الإسلام والكفرة الآن إذا أرادوا أن يغيظوا المسلمين فإنهم يقومون بإهانة اسم الله سبحانه وتعالى، فما يليق بالمسلم أبداً أن يمتهن اسم الله عز وجل، وإذا تعمد ذلك فإنه يكفر.
وقد نص العلماء على أن من آداب قضاء الحاجة أنه لا يجوز أبداًَ أن يتم الاستنجاء بما هو محترم، ومع ذلك نجد تهاون الناس تهاوناً شديداً جداً في التعامل مع أوراق الجرائد, فتجد من يصلي عليها ويطأ على اسم الله المكتوب على الجرائد، وهذه الجرائد المكتوبة بالعربية لا يمكن أن تخلو من اسم الله، صحيح قد لا يوجد فيها ذكر الله على سبيل الكلام الديني إلا ما ندر، ولكن لن تخلو من اسم وزير أو مسئول أو مدير أو شخص اسمه عبد الله أو عبد الرحمن أو نحو ذلك من أسماء الله، فإذا وطئت عليه كأنك أهنت اسم الله سبحانه وتعالى، كذلك لا ينبغي أن تلف البضائع في الجرائد، وينبغي الاجتهاد في التنزه من هذا الفعل.(152/12)
أقوال العلماء في سر تكرار قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)
يختم القاسمي رحمه الله تعالى تفسيره لسورة الرحمن بهذه الفائدة يقول فيما قاله الأئمة في سر تكرير: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)): قال السيوطي في الإتقان في بحث التكرير: قد يكون التكرير غير تأكيد صناعة وإن كان مفيداً للتأكيد معنى.
يعني: التكرار أو التكرير يستعمل للتوكيد: يا علقمه يا علقمه يا علقمه خير تميم كلها وأكرمه فحينما تكرر شيئاً فأنت تريد التوكيد، لكن أحياناً يراد به شيء غير التأكيد، وإنما وقع فيه الفصل بين المكررين, فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكده.
ثم قال: وجعل منه قوله تعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) فإنها وإن تكررت نيفاً وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها، ولذلك زادت على ثلاثة، ولو كان الجميع عائداً إلى شيء واحد لما زاد على ثلاثة؛ لأن التأكيد لا يزيد عليها, قاله ابن عبد السلام وغيره.
وفي عروس الأفراح: فإن قلت: إذا كان المراد بكل ما قبله, يعني قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) مثلاً بعد قوله: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) يعني: آلاء ربكم المذكورة في هذه الآية بذاتها قبل, فليس ذلك بأسماء بل هي ألفاظ فكل واحد أريد به غير ما أريد به الآخر, الألفاظ هي: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) لكن المقصود بالآلاء هنا غير المقصود بها هناك، وهذا يدعم كلامنا من قبل أن هذا تأكيد بمعنى الجديد.
فإن قلت: يلزم التأكيد, قلت: والأمر كذلك ولا يبدو عليه؛ لأن التأكيد لا يزاد به عن ثلاثة، أما إذا ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع، وقال العز بن عبد السلام في كتابه (الإشارة إلى الإيجاز): وأما قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) فيجوز أن تكون مكررة على جميع أنعمه، ويجوز أن يراد بكل واحدة منهن ما وقع بينها وبين التي قبلها من نعمة، ويجوز أن يراد بالأولى ما تقدمها من النعم، وبالثانية ما تقدمها، وبالثالثة ما تقدم على الأولى، وبالرابعة ما تقدم على الأولى والثانية والثالثة وهكذا إلى آخر السورة فإن قيل كيف يكون قوله: ((سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ)) وقوله: ((يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ))، وقوله: ((هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ)) [الرحمن:43 - 44] وقوله: ((يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ))، كيف يكون ذلك نعمة؟ قلنا: هذه كلها نعم جسام, كأن الله هدد العباد بها استصلاحاً لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى حينما أنزل في الدنيا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الآيات في وصف النار وعذاب النار وهذه الأهوال إنما هي لإصلاح الناس، ولحثهم على الطاعة والاستقامة، فالترهيب نعمة من حيث إنه زاجر عن المحرمات ودافع إلى الاستقامة على شرع الله تبارك وتعالى.
إذاً: هذه كلها نعم جسام؛ لأن الله هدد العباد بها استصلاحاً لهم ليخرجوا من حيز الكفر والطغيان والفسوق والعصيان إلى حيز الطاعة والإيمان والانقياد والإذعان, فإن من حذر من طريق الردى وبين ما فيها من الأذى وحث على طريق السلامة الموصلة إلى المثوبة والكرامة كان منعماً غاية الإنعام ومحسناً غاية الإحسان، ومثل ذلك قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس:52] يعني: هذا فيه مناسبة الربط لذكر صفة الرحمة في ذلك المقام، يعني: نفس المناسبة في ذكر ما يقع من العذاب والأهوال، فلا يستغرب أنه وعد بالعذاب وبيان عذاب المشركين وفي نفس الوقت يوصل إلى الرحمن.
أما قوله: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)) ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) فأين النعمة في هذا الخبر؟ نقول: هذا تذكير بالموت والفناء، وفيه ترغيب في الإقبال على العمل لدار البقاء، وفي الإعراض عن دار الفناء.
وقال البغوي: كررت هذه الآية في واحد وثلاثين موضعاً تقريراً للنعمة وتأكيداً للتذكير بها، ثم عدد على الخلق آلاءه، وفصل بين كل نعمتين بما نبههم عليه ليفهمهم النعم ويقررهم بها، كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع إليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها, فيقول له: ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعزرتك؟ أفتنكر هذا؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب.
وقال في الدرر والغرر: التكرار في سورة الرحمن إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة، فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكرير كما يقول الرجل لغيره: ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا؟ فيحصل فيه التكرير, وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم، كقول مهلهل يرثي كليباً: على أن ليس عدلاً من كليب إذا ما ضيم جيران المجير على أن ليس عدلاً من كليب إذا رجف العظاة من الدبور على أن ليس عدلاً من كليب إذا خرجت مخبأة الخدور على أن ليس عدلاً من كليب إذا ما أعلنت نجوى الأمور على أن ليس عدلاً من كليب إذا حيف المخوف من الثغور على أن ليس عدلاً من كليب غداة تأثل الأمر الكبير على أن ليس عدلاً من كليب إذا ما خار جأش المستجير ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط وهي من نصائح العرب.
وقال شيخ الإسلام في متشابه القرآن: ذكرت هذه الآية ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) إحدى وثلاثين مرة, ثمانية منها ذكرت عشر آيات فيها تعداد عجائب الخلق لله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعاده, ثم تبعت منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنم.
يعني: الآيات التي فيها ذكر النار ذكرت فيها آية: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) سبع مرات بعدد أبواب جهنم.
وحسن ذكر الآلاء عقبها لأن من جملة الآلاء رفع البلاء وتأجيل العقاب.
يعني: رغم أنها آية عذاب لكن يحسن أن يأتي بعدها ذكر الآلاء والامتنان بالآلاء؛ لأن من جملة الآلاء أن هذا البلاء الآن غير واقع بكم، والعقاب لا ينزل بكم حالاً وإنما هو مؤجل إلى أجل يعلمه الله سبحانه وتعالى, ففيه أيضاً نفس هذا المعنى الذي أشرنا إليه من قبل.
وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما.
يعني: في الجنتين الأوليين ذكرت ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) ثمان مرات في وصف الجنتين ونعيمهما، وثمانية هو عدد أبواب الجنة, وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين, أخذاً من قوله: ((وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ))، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله، ووقاه السبعة السابقة.(152/13)
تفسير سورة الواقعة [1 - 14](153/1)
ما ورد في فضل سورة الواقعة
سورة الواقعة سورة مكية، وآيها ست وتسعون آية، وسميت بالواقعة لأنها مملوءة بوقائع القيامة، والقيامة هي الواقعة العظمى؛ لوقوعها في أشد الأحوال.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله! قد شبت! قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وقول أبي بكر رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله! قد شبت) ليس المقصود به أن الشيب قد كثر في شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته، لكنه شيب قليل معدود، فالرسول عليه الصلاة والسلام ما زاد الشيب جداً في لحيته ورأسه، وإنما كانت شعرات معدودة.
وقوله: (شيبتني هود إلخ) أي: شيبتني هذه السور لما فيها من أهوال يوم القيامة.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف، كانت صلاته أخف من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور).
وهناك بعض الأحاديث الضعيفة التي لا تصح بحال عن الرسول عليه الصلاة والسلام، كحديث: (من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً).(153/2)
تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة)
يقول الله تبارك وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:1 - 2].
{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي: نزلت وجاءت.
و (الواقعة) عَلَمٌ بالغلبة على القيامة أو منقول، سميت بذلك لتحقق وقوعها، وكأنه قيل: إذا وقعت التي لابد من وقوعها.
واختيار (إذا) مع صيغة المضي للدلالة على ما ذكر.
{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي: كذب أو تكذيب.
فقد جاء المصدر على زنة (فاعلة) كالعاقبة والعافية، واللام للاشتقاق.
أو المعنى: ليس حين وقعتها نفس كاذبة، أي: تكذب على الله أو تكذب في نفيها، واللام للتوقيت.
قال الشهاب: والواقعة السقطة القوية، وشاعت في وقوع أمر عظيم، وقد تخص بالحرب، ولذا عبر بها هنا.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الذي يظهر لي صوابه أن (إذا) هنا هي الظرفية المضمنة معنى الشرط، وأما قوله الآتي: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة:4] فهي بدل من قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}، وأن جواب (إذا) هو قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة:8]، فالمعنى: إذا قامت القيامة وحصلت هذه الأهوال العظيمة ظهرت منزلة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة.
وقوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي: قامت القيامة، فالواقعة من أسماء القيامة، كالطامة والصاخة والآزفة والقارعة.
وقد بين الله جل وعلا أن الواقعة هي القيامة بقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:13 - 16].
وقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2] فيه أوجه من التفسير معروفة العلل عند العلماء كلها حق، وبعضها يشهد له القرآن: الوجه الأول -وهو أقرب هذه الوجوه- أن قوله تعالى: ((كَاذِبَةٌ)) مصدر جاء بصيغة اسم الفاعل، كالعافية تأتي بمعنى المعافاة، والعاقبة تأتي بمعنى العقبى، ومنه قوله تعالى عند جماعة من العلماء: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية:11]، أي: لا تسمع فيها لغواً.
والمعنى هنا: ليس لقيام القيامة كذب ولا تخلف، بل هو أمر واقع يقيناً لا محالة.
ومن هذا المعنى قولهم: حمل الفارس على قرنه فما كذب.
أي: ما تأخر ولا تخلف ولا جبن، ومنه قول زهير: ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما كذب الليث عن أقرانه صدقا إذا كذب الليث عن أقرانه صدق، فهو لا يفعل الوشاية.
يدل عليه قول الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [النساء:87]، وقال تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} [الحج:7]، وقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران:9]، وقال تعالى: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى:7]، فقوله: (لا ريب فيه) يشبه قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}.
أما الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} فقالوا: إن اللام في قوله: (ليس لوقعتها) ظرفية، و (كاذبة) اسم فاعل صفة لمحذوف، أي: ليس في وقعة الواقعة نفس كاذبة، بل جميع الناس يوم القيامة صادقون بالاعتراف بالقيامة مصدقون بها، ليس فيهم نفس كاذبة بإنكارها ولا مكذبة بها.
وهذا المعنى يشهد له قوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الشعراء:201]، فحينما تقع القيامة سوف يقر بها جميع الناس ولن يرتاب بها أحد؛ لأنهم يعاينونها.
وقال تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:55].
وقال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].(153/3)
تفسير قوله تعالى: (خافضة رافعة)
يقول تعالى: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:3].
أي: تخفض الأشقياء إلى الدركات وترفع السعداء إلى الدرجات؛ لأن دركات النار تذهب نازلة، فكلما نزلت تكون أبعد قعراً، ودرجات الجنة تذهب علواً، فكلما صعدت تكون أعلى وأرقى، فالوقائع العظام تخفض قوماً وترفع آخرين.
وقوله: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}، خبر مبتدأ محذوف، أي: هي خافضة رافعة، ومفعول كل من الوصفين محذوف، قال بعض العلماء: التقدير: (خافضة) أي: هي خافضة أقواماً في دركات النار (رافعة) أقواماً إلى الدرجات العلى في الجنة، كما قال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، وقال أيضاً: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [طه:75 - 76]، وقال تعالى: (وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) [الإسراء:21].
وقال بعض العلماء: تقديره: خافضة أقواماً كانوا مرتفعين في الدنيا، رافعة أقواماً كانوا منخفضين في الدنيا، وهذا المعنى يشهد له قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:29 - 35]، فهم على الأرائك في علو وارتفاع، في حين أن العلو كان في الدنيا للكفار الذين كانوا يسخرون منهم.
وقال بعض العلماء: تقديره: خافضة بعض الأجرام التي كانت مرتفعة؛ لأن القيامة يحصل فيها اضطراب في نظام الكون وينهدم هذا الوجود كله، فهي خافضة بعض الأجرام التي كانت مرتفعة كالنجوم التي تسقط وتتناثر يوم القيامة، وذلك خفض لها بعد أن كانت مرتفعة، كما قال تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} [الانفطار:2]، وقال تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:2].
وكذلك رافعة، أي: رافعة بعض الأجرام التي كانت منخفضة، كالجبال، فالجبال ثابتة على سطح الأرض، لكنها يوم القيامة ترتفع من أماكنها وتسير بين السماء والأرض، يقول تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف:47] أي: لأنه لم يبق على ظهرها شيء من الجبال، وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88]، وذلك على الراجح إنما يكون يوم القيامة، أي: تسير الجبال بين السماء والأرض كسير السحاب الذي هو المزن، وقد صرح تعالى بأن الجبال تحمل هي والأرض أيضاً يوم القيامة في قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [الحاقة:13 - 14].
وعلى هذا القول فالمراد تعظيم شأن يوم القيامة، وأنه يختل فيه نظام العالم، أما على القولين الأولين، فالمراد الترغيب والترهيب؛ ليخاف الناس في الدنيا من أسباب الخفض في الآخرة فيطيعوا الله، ويرغبوا في أسباب الرفع فيطيعوه أيضاً.
وإذا كان في تفسير الآية أقوال عدة غير متناقضة ويحتملها لفظ القرآن الكريم؛ فالصواب حملها على جميع تلك المعاني؛ لأنها لا تتعارض، وفي نفس الوقت كل منها يحتمل ويوجد ما يؤيده من القرآن الكريم، إنما نحتاج للصحيح إذا كان بين الأقوال تعارض.(153/4)
تفسير قوله تعالى: (إذا رجت الأرض رجاً وبست الجبال بساً)
يقول الله تبارك وتعالى: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:4 - 6].
{إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} أي: إذا زلزلت زلزالاً شديداً.
{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أي: فتتت، أو سيقت وأذهبت وسيرت.
((فكانت هباءً منبثاً)) أي: متفرقاً.
والهباء: ما تذروه الريح من حطام الشجر، وقيل: هو ما يرى من الكُوَّة كهيئة الغبار، فإذا كان في الغرفة فتحة ينفذ منها ضوء الشمس فإنك ترى هذا الهباء في ضوء الشمس الداخل في الكوة.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: ((إِذَا رُجَّت)) بدل من قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1] والرج: هو التحريك الشديد.
وما دلت عليه هذه الآية من أن الأرض يوم القيامة ستحرك تحريكاً شديداً جاء في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1]، وقال تعالى: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1].
أما قوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} ففي معناه لأهل العلم أوجه متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً وكلها حق، وكلها يشهد له القرآن.
قال أكثر المفسرين: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أي: فتتت تفتيتاً حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن.
ومنه قول لص من غطفان أراد أن يخبز دقيقاً عنده فخاف أن يعجل عنه، فأمر صاحبيه أن يلتاه ليأكلوه دقيقاً ملتوتاً وهو البسيسة فقال: لا تخبزا خبزاً وبسا بسا ولا تطيلا بمناخ حبسا فهذا الوجه يشهد له قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل:14] يعني: رملاً متهايلاً.
ومنه قول امرئ القيس: ويوماً على ظهر الكثيب تعذرت علي وآلت حلفة لم تحلل ومشابهة الدقيق المفتوت للرمل المتهايل واضحة، الدقيق المفتوت يشبه كثيب الرمل المتهايل، فقوله تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل:14] مطابق في المعنى لتفسير: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:5]؛ لأن بسها هو تفتيتها وطحنها، وما دلت عليه هذه الآيات من أنها -أي: الجبال- تسلب عنها قوة الحجرية وتتصف بعد الصلابة والقوة باللين الشديد كلين الدقيق والرمل المتهايل، يشهد له في الجملة تشبيهها في بعض الآيات بالصوف المنفوش الذي هو العهن، كقوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5]، وقوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:8 - 9] وأصل العهن أخص من مطلق الصوف؛ لأنه الصوف المصبوغ خاصة، ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته: كأن فتاة العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم وقال بعضهم: الجبال منها جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، فإذا دكت وفتتت يوم القيامة وطيرت في الجو أشبهت العهن إذا ذرته الريح في الهواء وهذا الوجه يدل عليه ترتيب كينونتها هباءً منبثاً.
بالفاء على قوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:5 - 6] أي: متفرقاً؛ فوصفها بالهباء المنبث أنسب لكون البس بمعنى التفتيت والطحن.
الوجه الثاني: أن معنى قوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أي: سيرت بين السماء والأرض وعلى هذا فالمراد ببسها سوقُها وتسييرها، من قول العرب: بسست الإبل أبسها، وأبسستها وأبسها لغتان، بمعنى: سُقْتُها.
ومنه حديث: (يخرج أقوام من المدينة إلى اليمن والشام والعراق يبسون، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون).
وهذا الوجه تشهد له آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف:47]، وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88].
أما الوجه الثالث في تفسير قوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} فهو أن المعنى: نزعت من أماكنها وقلعت، وهو راجع للوجه الأول، يقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105]، وقال تعالى هنا: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:6]، وكقوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ:20]، والهباء إذا انبث -أي: إذا تفرق واضمحل- صار لا شيء، كالسراب قال الله تعالى فيه: (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39].(153/5)
تفسير قوله تعالى: (وكنتم أزواجاً ثلاثة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة)
يقول تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة:7 - 9]: يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} أي: ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف: قوم عن يمين العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن، ويؤتون كتبهم بأيمانهم ويؤخذ بهم ذات اليمين، قال السدي: وهم جمهور أهل الجنة.
وآخرون عن يسار العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر، ويؤتون كتبهم بشمائلهم، ويؤخذ بهم ذات الشمال، وهم عامة أهل النار عياذاً بالله من صنيعهم.
وطائفة سابقون بين يديه، وهم أخص وأحرى وأقرب من أصحاب اليمين فهم سادتهم، وفيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء، وهم أقل عدداً من أصحاب اليمين، ولهذا قال: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:8 - 10]، وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، وذلك على أحد القولين في تفسير الظالم لنفسه بأنه الكافر.
وقال ابن عباس: أصنافاً ثلاثة وقال مجاهد: فرقاً ثلاثاً، وقال ميمون بن مهران: أفواجاً ثلاثة، فاثنان في الجنة وواحد في النار.
كما جاء عن عثمان بن سراقة.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27] {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:41] فقبض بيده قبضتين فقال: هذه للجنة ولا أبالي وهذه للنار ولا أبالي).(153/6)
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (وكنتم أزواجاً ثلاثة)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:7] أي: صرتم أزواجاً ثلاثة.
فهي:-أي كنتم- هنا بمعنى (صرتم)؛ لأن العرب أحياناً تطلق (كان) بمعنى (صار)، ومنه قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] يعني: فتصيرا من الظالمين.
ثم بين هذه الأزواج الثلاثة بقوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:8 - 12]: أما أصحاب الميمنة فهم أصحاب اليمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى وضحها بعد ذلك في قوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:27 - 28]، وأصحاب المشأمة هم أصحاب الشمال، وضحهم بقوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة:41 - 42].
قال بعض العلماء: قيل لهم أصحاب اليمين لأنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم.
وقيل: لأنهم يذهب بهم ذات اليمين إلى الجنة.
وقيل: لأنهم عن يمين أبيهم آدم كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ليلة الإسراء.
وقيل: سموا أصحاب اليمين وأصحاب الميمنة لأنهم ميامين، كما تقول: هذا فلان ميمون الطلعة.
أي مبارك، فيقول: وسموا أصحاب اليمين وأصحاب الميمنة لأنهم ميامين، أي: مباركين على أنفسهم؛ لأنهم أطاعوا ربهم فدخلوا الجنة، واليمن: البركة.
وسمي الآخرون أصحاب الشمال قيل: لأنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم.
وقيل: لأنهم يذهب بهم ذات الشمال إلى النار.
والعرب تسمي الشمال شؤماً، ومن هنا قيل لهم: أصحاب المشأمة.
أو لأنهم مشائيم على أنفسهم، فعصوا الله فأبقاهم في النار، والمشائيم ضد الميامين، وقال الشاعر: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا نائب إلا ببين غرابها وبين جل وعلا أن السابقين هم المقربون، وذلك في قوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11].
وهذه الأحوال الثلاثة المذكورة هي وجزاؤها في أول هذه السورة الكريمة جاءت هي وجزاؤها أيضاً في آخرها، وذلك في قوله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:88 - 94].
والمكذبون هم أصحاب المشأمة، وهم أصحاب الشمال، وذكر تعالى بعض صفات أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة في سورة البلد في قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد:13 - 18]، فهذه بعض صفات أصحاب اليمين، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:19 - 20].(153/7)
الدلالة البلاغية في قوله تعالى: (ما أصحاب)
وقول الله هنا: {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}، وقوله: ((مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ)) استفهام أريد به التعجب من فعل هؤلاء في السعادة، والتعجب من فعل هؤلاء في الشقاوة، والجملة فيها مبتدأ وخبر، وهي خبر مبتدأ قبله، وهو (أصحاب الميمنة) في الأول و (أصحاب المشأمة) في الثاني، وهذا الأسلوب يكثر في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 3]، وكذلك قوله: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 2]، والرابط في جملة الخبر في جميع الآيات المذكورة هو إعادة لفظ المبتدأ في جملة الخبر كما لا يخفى.
أما السابقون فلم يذكر فيه استفهام تعجب كما ذكره فيما قبله.
قوله تعالى: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ)، واضح على أنه استفهام تعجبي فهو تعجب بمعنى الخبر، وقوله تعالى: (وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) هذا تعجب بمعنى الخبر أيضاً.
أما في السابقين فقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}، فذكر في مقابله تشريف بعض السابقين، فلم يقل: السابقون وما أدراك ما السابقون! وإنما كرر اللفظ.
والمعنى أنهم لا يحتاجون إلى تعريفهم، كما قال أبو النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري فقوله: شعري شعري يعني: شعري هو الذي بلغك خبره، وانتهى إليك وصفه، فكأنه من شهرته لا يحتاج إلى أن يعرف، ولن أقول في تعريفه أكثر من ذلك.
من شدة الثقة بتمكنه في ذلك، فلا يزيد شيئاً على وصفه بذلك.(153/8)
تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وكنتم أزواجاً ثلاثة)
يقول العلامة القاسمي رحمه الله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:7] أي: أصنافاً ثلاثة.
(فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) تقسيم وتنويع للأزواج الثلاثة، مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها.
وإطلاق الميمنة والمشأمة اللتين هما الجهتان المعروفتان على منزلة السعداء الذين هم الأبرار والمصلحون من الناس وعلى دركة الأشقياء الذين هم الأشرار والمفسدون من الناس، أصله من تيمن العرب باليمين وتشاؤمهم بالشمال كما في السانح والبارح، وقولهم للرفيع: هو مِنِّي باليمين، وللوضيع هو مِنَّي بالشمال، وتجاوزاً به أو كناية به عما ذكر.
وقيل: الميمنة والمشأمة بمعنى اليُمن والشؤم.
فليس بمعنى الجهة، بل بمعنى البركة وضدها، لما غلب عليهم من أنفسهم وأفعالهم، وفي جملتي الاستفهام إشارة إلى ترقي أحوالهم في الخير والشر تعجباً منه.(153/9)
تفسير قوله تعالى: (والسابقون السابقون أولئك المقربون)
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11].
قال القاسمي: أي: الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة بعد ظهور الحق، وأوذوا لأجله، وصبروا على ما أصابهم، وكانوا الدعاة إليه.
فإن قيل: لم خولف بين المذكورين في السابقين وفي أصحاب اليمين، مع أن كل واحد منهما إنما أريد به التعظيم لحال المذكورين؟ أي: لماذا (السابقون) كررها فقط ولم يقل: ما السابقون.
مثلاً؟ فنقول: التعظيم المؤدى بقوله: ((السَّابِقُونَ)) أبلغ من قرينه، أي: من التعظيم في قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}، وذلك أن مؤدي هذا هو أن أمر السابقين وعظمة شأنهم لا يكاد يخفى.
وأما قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} فإنه تعظيم على السامع بما ليس عنده منه علم سابق، ألا ترى كيف سبق وصف حال السابقين بقوله: {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:11]، فأشار إليهم باسم الإشارة الذي يشار به إلى شيء معروف، إذ اسم الإشارة معرفة، فهو إشارة إلى أنهم من المعروفين.
ثم انظر إلى كلمة (الْمُقَرَّبُونَ)، فقد أشار إليهم بإشارة المعروف، وأيضاً جمع إلى ذلك الإخبار عن هؤلاء بقوله: ((الْمُقَرَّبُونَ)) معرفاً بالألف واللام العهدية، وليس مثل هذا مذكوراً في وصف حال أصحاب اليمين.
وقوله: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) الثاني إما خبر، يعني: السابقون هم الذين عرفت حالهم واشتهرت أوصافهم.
على حد قول الشاعر: شعري شعري.
أو أنها تأكيد وإذا قلنا: إن التكرار للتأكيد فالخبر هو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} أي: الذين يقربهم الله منه بإعلاء منازلهم.
(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ).(153/10)
تفسير قوله تعالى: (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين)
قال تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14].
قوله: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ)) أي: هم جماعة كثيرة من الذين سبقوا، لرسوخ إيمانهم وظهور أثرهم في أعمارهم من العمل الصالح والدعوة إلى الله والصبر على الجهاد في سبيله، إلى غير ذلك من المناقب التي كانت ملكات لهؤلاء السابقين.
((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ))، أي: من الذين جاءوا من بعدهم في الأزمنة التي حدثت فيها العبر وتبرجت الدنيا لخطابها ونسي معها سر البعثة وحكمة الدعوة، فما أقل الماشين على قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا جرم أنهم وقتئذ الغرباء لقلتهم.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ)) خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هم ثلة.
والثلة: الجماعة من الناس.
وأصلها القطعة من الشيء، ومن الثل.
وهو الكسر.
وقال الزمخشري: والثلة من الثل وهو الكسر، كما أن الأمة من الأم وهو الشج، كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم.
يعني: جماعة متميزة قطعت من الناس وكسرت عنهم فصارت متميزة.
واعلم أن الثلة تشمل الجماعة الكثيرة، ومنه قول الشاعر: فجاءت إليهم ثلة خندفية بجيش كتيار من السيل مزبد فقوله: (تيار من السيل) يدل على كثرة هذا الجيش الذي عبر عنه بالثلة.(153/11)
اختلاف العلماء في المراد بثلة الأولين وقليل الآخرين
وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذه الثلة من الأولين وهذا القليل من الآخرين المذكورين هنا، كما اختلفوا في الثلتين المذكورتين في قوله: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ)).
فقال بعض أهل العلم: كل هؤلاء المذكورين من هذه الأمة، والمراد بالأولين منهم الصحابة.
ويذكر بعض العلماء معهم القرون المشهود لها بالخير في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
والذين قالوا كلهم من هذه الأمة قالوا: إنما المراد بالقليل ((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)) من بعد ذلك إلى قيام الساعة.
وقال بعض العلماء: المراد بالأولين في الموضعين الأمم الماضية قبل هذه الأمة.
أي: فهنا تفسيران: التفسير الأول: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ)) إما من الصحابة أو من القرون الخيرية الأولى.
((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)) يعني: من غربة الإسلام في الآخرين يقل أهله، فيكون أهل الإيمان والاستقامة قليلين بالنسبة لمن يعيشون في وسطهم.
التفسير الثاني: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ)) يعني: من الأمم الماضية، أي: المؤمنون من الأمم الماضية قبل هذه الأمة المرحومة.
أما ((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)) فالمراد بالآخرين هنا أنهم من هذه الأمة.(153/12)
كلام العلامة الشنقيطي في تفسير ثلة الأولين وقليل الآخرين
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: ظاهر القرآن في هذا المقام أن الأولين في الموضعين من الأمم الماضية.
يعني قوله تعالى: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ)) في الموضعين، و (الآخرين) فيهما من هذه الأمة، يعني قوله: (وقليل من الآخرين) وقوله: (وثلة من الآخرين).
وأن قوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ) في السابقين خاصة؛ لأن هذا واضح من السياق.
فقوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)) هذا في السابقين.
أما قوله: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:39 - 40] فهو في أصحاب اليمين خاصة.
وإنما قلنا: إن هذا هو ظاهر القرآن في الأمور الثلاثة التي هي شمول الآيات لجميع الأمم، وكون قليل من الآخرين في خصوص السابقين، وكون ثلة من الآخرين في خصوص أصحاب اليمين لأنه واضح من سياق الآيات.
أما شمول الآيات لجميع الأمم فقد دل عليه أول السورة؛ لأن قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1]، إلى قوله: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:6] لا شك أنه لا يخص أمة دون أمة، فالسياق في يوم القيامة، فدل على أن قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:7] عام في جميع أهل المحشر.
والأظهر أن السابقين وأصحاب اليمين منهم من هو من الأمم السابقة ومنهم من هو من هذه الأمة.
وعلى هذا فظاهر القرآن أن السابقين من الأمم الماضية أكثر من السابقين من هذه الأمة، وأن أصحاب اليمين من الأمم السابقة ليسوا أكثر من أصحاب اليمين من هذه الأمة؛ لأنه عبر في السابقين من هذه الأمة بقوله: ((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ))، وقال قبلها: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ))، أي فعدد كبير من الأمم الماضية هم السابقون.
وهناك عدد آخر، لكنه عدد قليل من السابقين من هذه الأمة، بدليل قوله: ((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)).
قال: ولا غرابة في هذا.
أي: حينما يقول الله سبحانه وتعالى في السابقين: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)).
قال: لأن الأمم الماضية أمم كثيرة، وفيها أنبياء كثيرون ورسل، فلا مانع من أن يجتمع من سابقيها من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من سابقي هذه الأمة وحدها؛ لأن السابقين هم الصفوة، فتعد إذاً صفوة الأمم من لدن آدم عليه السلام إلى محمد عليه السلام، فالسابقون منهم أكثر من السابقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
أما أصحاب اليمين الذين قال فيهم: (وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ) -أي: من هذه الأمة- فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين من جميع الأمم؛ لأن الثلة تتناول العدد الكثير، وقد يكون أحد العددين الكثيرين أكثر من الآخر مع أنهما كلاهما كثير.
وبهذا تعلم أن ما دل عليها ظاهر القرآن واختاره ابن جرير لا ينافي ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة، ففي الحديث: (والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة.
قالوا: الحمد لله، الله أكبر.
فقال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة) يعني: نصف أهل الجنة.
فهنا المقصود بالثلة النصف أو العدد الكبير، وهذه هي ثلة أصحاب اليمين التي قال الله فيها: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:39 - 40].
فقوله: ((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)) دل ظاهر القرآن على أنه في خصوص السابقين؛ لأن الله قال: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).
ثم أخبر عن حال هؤلاء السابقين المقربين فقال: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)).
وأما كون قوله: {وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:40] في خصوص أصحاب اليمين فلأن الله تعالى قال: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:36 - 40]، والمعنى: هم -أي: أصحاب اليمين- {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:39 - 40]، وهذا واضح كما ترى.
انتهى كلام الشنقيطي، والله تعالى أعلم.(153/13)
تفسير سورة الواقعة [15 - 67](154/1)
تفسير قوله تعالى: (على سرر موضونة)
قال تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:15 - 16].
قوله تعالى: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أي: مصفوفة.
أو مشبكة بالدر والياقوت والذهب.
والوضن هو التشبيك والنسج.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: السرر جمع سرير، وقد بين الله تعالى أن سررهم مرفوعة في قوله تبارك وتعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية:13].
وقوله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ}، فموضونة أي: منسوجة بالذهب.
وبعضهم يقول: منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت.
وكل نسج أحكم ودوخل بعضه في بعض تسميه العرب وضناً -بالضاد- وتسمي المنسوج به موضوناً ووضيناً، ومنه الدرع الموضونة: إذا أحكم نسجها ودوخل بعض حلقاتها في بعض.
ومنه قول الأعشى: ومن نسج داود موضونة تساق مع الحي عيراً فعيراً وهذه السرر المزينة هي المعبر عنها بالأرائك في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف:31]، يعني: على هذه السرر المزينة الموضونة، وقال تبارك وتعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:56].(154/2)
تفسير قوله تعالى: (متكئين عليها متقابلين)
قال عز وجل: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:16].
((مُتَّكِئِينَ)) حال من الضمير في قوله: ((عَلَى سُرُرٍ))، والتقدير: استقروا على سرر في حال كونهم متكئين عليها.
وما ذكره الله جل وعلا هنا في هذه الآية الكريمة من كونهم: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ}، أي: ينظر بعضهم في وجوه بعض، كل يقابل الآخر بوجهه، ذكره في قوله تعالى في سورة الحجر: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، وقوله تعالى في الصافات: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات:41 - 44].
والمعنى: أنهم متقابلون بوجوههم، وهذا يكون أكمل في الأنس والسرور، بخلاف ما يحصل في الدنيا، فالإنسان إذا ركب بعض وسائل المواصلات -كالسيارات- فإنه يجلس وظهره إلى من خلفه، لكن هؤلاء لتمام السرور والأنس بينهم يكونون متقابلين، فالأخوة تكمل حينما تقع هذه المواجهة.
((مُتَقَابِلِينَ)) أي: بوجوههم متساوين في الرتب لا حجاب بينهم أصلاً.(154/3)
تفسير قوله تعالى: (يطوف عليهم ولدان مخلدون مما يشتهون)
قال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:17 - 20].
((يَطُوفُ عَلَيْهِمْ)) يعني: للخدمة.
((وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ)) أي: مبقون على سن واحدة لا يموتون؛ لأن هؤلاء الولدان في الجنة سيبقون ولداناً إلى الأبد، بمعنى أنهم لا يزيدون في العمر ولا يشيبون ولا يهرمون بمرور الزمن.
وهذه الآية كما قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:24].
((بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ)) يعني: حال الشرب يطوفون عليهم بأكواب وأباريق، والكوب هو إناء لا عروة له ولا خرطوم، وأما الإبريق فهو إناء له عروة وله خرطوم.
((وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ)) أي: خمر جارية.
ثم أشار إلى أنها لذة كلها لا ألم معها ولا خمار؛ لأنها ليست كخمر الدنيا النجسة الخبيثة التي تذهب العقول، وإنما هي لذة؛ فقال: ((لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا)) يعني: لا يصدر عنها صداعهم لأجل الخمار كخمور الدنيا، والصداع هو وجع الرأس، وقرئ بالتشديد من التفعل: ((لا يصَّدَّعون)) أي: لا يتصدعون عنها، أي: لا يتفرقون عنها، من التصدع وهو التفرق.
((وَلا يُنزِفُونَ)) تقرأ بكسر الزاي وفتحها ((وَلا يُنزِفُونَ)) أي: لا تذهب عقولهم بسكرها.
{وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي: مما يختارون ويرتضون، وأصله أخذ الخيار والخير.
{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}، أي: مما يتمنون.(154/4)
تفسير قوله تعالى: (وحور عين جزاء بما كانوا يعملون)
قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:22 - 24] أي: أزواج بيض واسعة الأعين.
عطف على ولدان، فقال: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:17]، ثم قال بعد ذلك: {وَحُورٌ عِينٌ} والحور: جمع حوراء، فهو عطف على ولدان، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي: وفيها.
أو: ولهم حور عين.
{كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي: صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي، وأصل المكنون الذي صين وحفظ في كن -أي: مكان- يخبأ فيه ويصان ويحمى.
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: من الأعمال الصالحة.(154/5)
تفسير قوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً سلاماً)
قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26].
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} أي: هذياناً وكلاماً غير مفيد، وباطلاً من القول.
{وَلا تَأْثِيمًا} أي: ما يؤثم من الفحش والكذب والغيبة وأمثالها.
{إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} أي: قولاً هو سلام في نفسه، منزه عن النقائص، مبرأ عن الفضول والزوائد.
وقيل: قولاً يفيد سلامة السامع من العيوب والنقائص، ويوجب سروره وكرامته، ويبين كماله وبهجته؛ لكون كلامهم كله معارف وحقائق وتحيات ولطائف.
وهذا على اختلاف وجهي الإعراب، أي: من كون (سلاماً) بدلاً من (قيلاً) أو مفعوله، فـ (سلاماً) قد يكون مفعول المصدر (قيلا)، وقد يكون بدلاً منه.
والتكرير للدلالة على فشو السلام بينهم وكثرته، كما تقول: قرأت النحو باباً بابا.
أي: باباً بعد باب، فيدل على تكرره وكثرته.
فهكذا السلام تحية أهل الجنة، وهذه من فضائل السلام، ولا توجد في العالم كله تحية هي أفضل من تحية (السلام عليكم ورحمة الله) التي شرف الله بها أهل الإسلام، ولذلك يحسدنا اليهود على السلام وعلى التأمين، وكان الفاسق أو الفاجر أو المبتدع فيما مضى يعاقب بأن يحرم من إلقاء السلام عليه، أو من أن يرد عليه السلام، والآن صار بعض السفهاء من الناس يتكبرون عن أن يحيي بعضهم بعضاً بالسلام، ويؤثرون على ذلك تحية الأنجاس من المشركين والكفار على اختلاف أنواعهم، وربما ينظرون باحتقار إلى من يقول لهم: (السلام عليكم)، فهذا من الهوان الذي صبغ الناس وهم لا يشعرون بما هم فيه.
فعدم التسليم كان عقوبة أساساً، عقوبة يعاقب بها من يخالف الشرع بالمجاهرة بالفسق، أو ببدعة أو ضلالة أو نحو ذلك، فيهجر بأن لا يسلم عليه.
وصار بعض الناس يتأذى حين تسلم عليه، ويريد أن تحييه بأية تحية أخرى من تحايا أولئك القوم، فهم الذين زهدوا فيما شرفهم الله به من تحية أهل الجنة -السلام-، فهل توجد تحية في العالم أفضل من تحية (السلام عليكم)؟! فـ (السلام عليكم) فيها إشاعة السلام والطمأنينة، فكونك تلقي السلام معناه أنك تؤمنه من شَرِّك.
وليس السلام محدداً بوقت كـ (صباح الخير) أو (مساء الخير) في الصباح فقط أو في المساء فقط، كما هي تحية الجاهلية (أنعم صباحاً) و (أنعم مساء)، فهذه تحية أهل الجاهلية، فكيف لعاقل أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويزهد في السلام الذي هو تحية أهل الجنة؛ راغباً في تحية المغضوب عليهم والضالين ممن أبغضهم الله سبحانه وتعالى؟!(154/6)
تفسير قوله تعالى: (وأصحاب اليمين ولا ممنوعة)
قال تبارك وتعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:27 - 33].
{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} أي: أي شيء هم؟ أي: هم شرفاء عظماء كرماء، يتعجب من أوصافهم في السعادة.
{فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} أي: لا شوك له.
أو موقر بالثمار، مثقل من الثمار التي يحملها، والسدر شجر معروف في الدنيا.
{وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} الطلح هو شجر الموز، والمنضود: الذي نضد ثمره من أسفله إلى أعلاه.
قال مجاهد: كانوا يعجبون بود من طلحه وسدره.
و (ود) مكان -أحسبه- كان في الطائف، فكانوا يعجبون من طلحه وسدره؛ لأن فيه شجر الطلح وشجر السدر.
وشجرة الموز ثمرتها حلوة دسمة لذيذة لا نوى لها.
{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} أي: ممتد منبسط لا يتقلص، كالظل الذي يكون في الدنيا ويتبعه الحر والشمس.
{وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} أي: مصبوب دائم الجريان لا ينقطع.
{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي: لا تنقطع عنهم متى أرادوها، لكونها غير متناهية.
((وَلا مَمْنُوعَةٍ)) أي: لا تمنع عن طالبها.
والقصد بيان أن فاكهتها مغايرة لفاكهة الدنيا؛ لأن فاكهة الدنيا موسمية، توجد في موسم ولا توجد في موسم آخر، فيأتي عليها وقت تنقطع فيه تماماً ولا تكون موجودة، كفاكهة الصيف تطلب في الشتاء، وتمتنع أحياناً لعزتها، لكونها غير متوفرة في الأسواق فهذا نوع من الامتناع، بل أحياناً تمتنع بسبب الجدب أو القحط أو الجفاف أو نحو ذلك، وقد تطرأ عليها جائحة أو سبب يترتب عليه أنها تمتنع، أما فاكهة الجنة فلا يعرض لها شيء من هذه الطوارئ والجوائح والانقطاع.(154/7)
تفسير قوله تعالى: (وفرش مرفوعة ثلة من الأولين وثلة من الآخرين)
قال تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:34 - 40].
{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي: مرتفعة في منازلها، أو: فرش مرفوعة على الأرائك للرقود والمضاجعة، وقد يؤيده تأكده بوصف من يضاجع فيها، وهو قوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} إشارة إلى الحور العين.
فهي إما فرش مرفوعة أي: الفرش نفسها مرتفعة في منازلها، أو الفرش مرفوعة فوق الأرائك، وهي تلقى من أجل الرقود عليها.
{إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} أي: إنشاء بديعاً فائق الوصف.
فالضمير يعود على ما فهم من السياق؛ لأن الحور لم يسبق ذكرهن في السياق القريب، وإنما فهم من السياق أن المقصود بهن الحور العين.
وقيل: قد يكنى عن الحور بالفرش، فقوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قد يكون استعملت فيه الكناية عن الحور بالفرش.
فقوله تبارك وتعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} إذا كان معناه: مرفوعة على الأرائك كآية: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:56] فليس فيه كناية.
وقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} يعني: لم يُطمثن.
((عُرُبًا)) جمع عروب، والعروب: هي المتحببة إلى زوجها المحبوبة لتبعلها.
((أَتْرَابًا)) يعني: على سن واحدة.
والترب: هو الموافق لك في السن.
{لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} يعني: أنشأناهن إنشاء لأصحاب اليمين، وجعلناهن أبكاراً لأصحاب اليمين.
{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:39 - 40] أي: جماعة وأمة من المتقدمين في الإيمان وممن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان من هذه الأمة، والكثرة ظاهرة لأصحاب اليمين في أواخرهم دون السابقين كما بينا أولاً عند الكلام في تفسير قوله تبارك وتعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14]، وذكرنا الخلاف في تفسير هذه الآية.(154/8)
تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (إنا أنشأناهن إنشاءً)
يقول العلامة الشنقيطي في قوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً}: الضمير في ((أَنشَأْنَاهُنَّ)) قال بعض أهل العلم: هو راجع إلى مذكور.
وقال بعض العلماء: هو راجع إلى غير مذكور، إلا أنه دل عليه المقام.
فمن قال إنه راجع إلى مذكور قال: هو راجع إلى قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: لأن المراد بالفرش النساء، والعرب تسمي المرأة لباساً وإزاراً وفراشاً إلى آخره.
انتهى كلامه.
وعلى هذا فالمراد بالرفع في قوله تعالى: ((مَرْفُوعَةٍ)) رفع المنزلة والمكانة.
ومن قال إنه راجع إلى غير مذكور قال: إنه راجع إلى نساء لم يذكرن ولكن ذكر الفرش دل عليهن؛ لأنهن يتكئن عليها مع أزواجهن.
وقال بعض العلماء: المراد بهن الحور العين، واستدل من قال ذلك بقوله: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35]؛ لأن الإنشاء هو الاختراع والابتداع.
وقالت جماعة من أهل العلم: إن المراد بهن بنات آدم اللاتي كن في الدنيا عجائز شمطاً، وجاءت في ذلك آثار مرفوعة عنه صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا القول فمعنى قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} نساء الدنيا، أي: زوجاتهم اللائي هن من نساء الدنيا.
فيكون قوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} أي: خلقناهن خلقاً جديداً.
فاللتي شمطت وصارت عجوزاً شمطاء في الدنيا وبلغت من الكبر عتياً، حينما تدخل الجنة ينشئها الله سبحانه وتعالى خلقاً جديداً، فتعود إلى شرخ الشباب.
ويكون قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} يعني: فصيرناهن أبكاراً.
وهو جمع بكر، وهي ضد الثيب.
{عُرُبًا أَتْرَابًا}، والعروب هي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل، التي تجتهد في إرضاء زوجها.
أَتْرَابًا: جمع ترب، والترب هي المرأة الموافق سنها سن من تضاف هي إليه من النساء.
ومعناه في الآية أن نساء أهل الجنة على سن واحدة ليس فيهن شابة وعجوز، ولكنهن كلهن على سن واحدة في غاية الشباب، ودليل ذلك في الحديث في مزاح النبي صلى الله عليه وسلم مع المرأة العجوز حينما قال لها: (لا تدخل الجنة عجوز) وكان إنما يقصد بهذا المعنى أنها ستعود إلى شبابها ولن تبقى عجوزاً بعد ذلك إذا دخلت الجنة.
وبعض العلماء يقول: إنهن ينشأن مستويات في السن على قدر بنات ثلاث وثلاثين سنة.
وكون الأتراب بمعنى المستويات في السن مشهور في كلام العرب، كما قال عمر بن أبي ربيعة: أبرزوها مثل المهاة تهادى بين خمس كواعب أتراب وهذه الأوصاف الثلاثة التي تضمنتها هذه الآية الكريمة من صفات نساء أهل الجنة جاءت موضحة في آيات أخر.
أما كونهن يوم القيامة أبكاراً فقد أوضحه قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، لأن قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} نص في أنهن أبكار.
وأما كونهن (عُرُبًا) -أي: متحببات إلى أزواجهن- فقد دل عليه قوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} [الصافات:48]، لأن معناه أنهن قاصرات العيون على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لشدة محبتهن لهم واقتناعهن بهم، ولا شك أن المرأة التي لا تنظر إلى غير زوجها متحببة إليه حسنة التبعل له.
وقوله تعالى في (ص): {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:52]، وقال تعالى في سورة الرحمن: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56].
وأما كونهن أتراباً فقد بينه قوله تعالى في آية (ص): {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:52]، وفي سورة النبأ: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ:31 - 33]، يعني: في نفس السن من الشباب.
قوله تعالى: {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:38] يعني: إنا أنشأناهن لأصحاب اليمين، {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ}.(154/9)
تفسير قوله تعالى: (وأصحاب الشمال ولا كريم)
قال الله تبارك وتعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:41 - 44].
قوله: ((في سموم)) أي: حر نار ينفذ في المسام.
((وَحَمِيمٍ)) هو الماء المتناهي الحرارة.
{وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} أي: من دخان أسود طبق أهويتهم المردية وعقائدهم الفاسدة، فهذا الدخان الأسود يكون موافقاً لطباعهم السوداء، وعقائدهم الفاسدة، وهيئات نفوسهم المسودة بالصفات والهيئات السود الرديئة.
{لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} أي: ليس له صفة الظل الذي يأوي إليه الناس للراحة، فالناس تأوي إلى الظل لالتماس الراحة، للتفريج على أنفسهم من شدة الحر، فالظل الذي يرغب فيه يكون بارداً ويكون كريماً، أما هذا فهو ظل من يحموم من دخان أسود.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قد قدمنا صفات ظل أهل النار وظل أهل الجنة في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء:57] وبينا هناك أن صفات ظل أهل النار هي المذكورة هنا في هذه الآية: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} وقال في المرسلات: {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:30 - 31].
وقوله: ((مِنْ يَحْمُومٍ)) أي: من دخان أسود شديد السواد، ووزن (يحموم) (يفعول) وأصله من الحمم أو الحمم وهي الفحم، وقيل: من الحم، وهو الفحم المسود لاحتراقه بالنار.(154/10)
تفسير قوله تعالى: (إنهم كانوا قبل ذلك مترفين الحنث العظيم)
قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:45 - 46] أي: كانوا قبل ذلك منهمكين في اللذات والشهوات، منغمسين في الأمور الطبيعية والغواشي البدنية، فبذلك اكتسبوا هذه الهيئات الموبقة والتبعات المهلكة.
{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} الذنب العظيم من الأقاويل الباطلة والعقائد الفاسدة التي استحقوا بها العذاب المخلد والعقاب المؤبد.
وفسره السبكي بالقسم.
يعني أن السبكي فسر الحنث العظيم بالقسم على إنكار البعث في حينما كانوا يحلفون في الدنيا، كما قص الله تعالى عنهم: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:38] فهذا هو الحنث العظيم.
قال الشهاب: وهو تفسير حسن.
قال: لأن الحنث وإن فسر بالذنب مطلقاً أو بالذنب العظيم، فالمعروف استعماله في عدم البر بالقسم.
فكلمة الحنث تستعمل في معنى الذنب العظيم أو الذنب مطلقاً؛ لكنها -أيضاً- تستعمل بصورة مشهورة في عدم البر بالقسم، فيقال: (حنث في يمينه)، أي: لم يبر بقسمه.
ولذلك فسره بما كانوا يعتقدونه من إنكار البعث، فهذا يقوي تفسير قوله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} أنه القسم الذي كانوا يقسمونه في الدنيا، كما أخبر الله تعالى عنهم: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:38] ولذلك أتبع الله قوله: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} بقوله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة:47 - 48] فهذا فيه ربط بين الحنث العظيم وهو القسم المذكور في سورة النحل وشرح له.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: لما ذكر جل وعلا ما أعد لأصحاب الشمال من العذاب بين بعض أسباب هذا العذاب، فذكر منها أنهم كانوا قبل ذلك في دار الدنيا مترفين، أي: متنعمين.
وقد قدمنا أن القرآن دل على أن الإتراف والتنعم والسرور في الدنيا من أسباب العذاب يوم القيامة؛ لأن صاحبه معرض عن الله لا يؤمن به ولا برسله، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:45] وقال تعالى: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:11 - 13]، أي إنه كان يعيش مترفاً ويعيش للتمتع بالدنيا فحسب.
{إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:13] ما بين النوادي والملاهي والأفلام وشرب الخمر والكوميديا وكذا وكذا، يقولون لهم: الفلم الفلاني فيه ساعتان ضحك متواصل، والمسرحية هذه سوف تضحك فيها وتضحك وتضحك حتى يموت قلبك.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إياكم وكثرة الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب) ما كان فرحهم كما قال الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس:58] بالقرآن وبالعلم وبالإيمان! لا.
بل كان فرحهم بمتاع الدنيا، بالمناصب وبالجاه وبالأموال وبالثروات وبالقصور، بهذه الأحوال المعروفة، فلذلك قال تبارك وتعالى: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق:11 - 12] ثم ذكر الأسباب: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:13].
فإذاً الإنسان لا ينبغي له أن ينهمك في الدنيا في مظاهر السرور والابتهاج، وينسى أنه يتقدم نحو نهاية الرحلة.
فالإنسان لابد من أن يصل إلى محطة معينة سوف ينزل فيها، فهو غافل، لكنه ليس مغفولاً عنه، فليحذر الإنسان من الانهماك في متاع الدنيا والانشغال به عن الآخرة، والدليل هذه الآيات الكريمات التي تحتاج منا إلى كثرة تأمل.
فالله تعالى يقول: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق:11 - 12] يعني: يقول: واثبوراه، واثبوراه.
والثبور الهلاك.
يعني: واهلاكاه، ثم قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:13 - 14].(154/11)
تفسير قوله تعالى: (وكانوا يقولون أئذا متنا أو آباؤنا الأولون)
قال تعالى: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة:47 - 48].
دلت هذه الآية الكريمة على كون إنكار البعث سبباً لدخول النار؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنهم {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة:42 - 43] بين أن من أسباب ذلك أنهم قالوا: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة:47 - 48] كما قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد:5].
ثم بين عز وجل لهم أنه يبعث الأولين والآخرين، فعند الله لا فرق بين الأولين والآخرين، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50].
وبين عز وجل أن البعث الذي أنكروه سيتحقق في حال كونهم أذلاء صاغرين حينما قال في الصافات: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات:15 - 18] يعني: وأنتم أذلاء صاغرون.
{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [الصافات:19] نفخة واحدة {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} [الصافات:19] رغماً عنهم.(154/12)
التحذير من قلب همزة (أئنا) هاءً.
العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى عقد بحثاً متوسطاً حول قول الله تبارك وتعالى هنا: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:47] * {أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة:48] فقد أجمع عامة القراء على إثبات همزة الاستفهام في قوله تعالى: ((أَئِذَا مِتْنَا)).
وأثبتها أيضاً عامة السبعة غير نافع والكسائي في قوله: {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:47].
وقرأه نافع والكسائي: (إنا لمبعوثون).
وتعرض رحمه الله تعالى لنوع من الابتداع في القراءة، فقال: اعلم -وفقني الله وإياك- أن ما جرى في الأقطار الأفريقية من إبدال الأخيرة من هذه الهمزة المذكورة وأمثالها في القرآن هاء خالصة.
فبدل (أئنا) يقولون: (أهنا) بهاء خالصة، يقول: فهذا من أشنع المنكر وأعظم الباطل، وهو انتهاك لحرمة القرآن العظيم وتعد لحدود الله، ولا يعذر فيه إلا الجاهل الذي لا يدري، وإنما قلنا هذا لأن إبدال الهمزة فيما ذكر هاء خالصة لم يروه أحد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينزل عليه به جبريل البتة، ولم يرو عن صحابي، ولم يقرأ به أحد من القراء، ولا يجوز بحال من الأحوال.
فالتجرؤ على الله بزيادة حرف في كتابه -وهو هذه الهاء التي لم ينزل بها الملك من السماء البتة- هو كما ترى.
وكون اللغة العربية قد سُمع فيها إبدال الهمزة هاء لا يسوغ التجرؤ على الله بإدخال حرف في كتابه لم يأذن بإدخاله الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ودعوى أن العمل جرى بالقراءة بالهاء لا يعول عليها؛ لأن جريان العمل بالباطل باطل، ولا أسوة في الباطل بإجماع المسلمين، وإنما الأسوة في الحق، والقراءة سنة متبعة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا خلاف فيه.(154/13)
تفسير قوله تعالى: (قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50].
لما أنكر الكفار بعثهم وآباءهم الأولين في الآيات المتقدمة أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم خبراً مؤكداً بأن الأولين والآخرين كلهم مجموعون يوم القيامة للحساب والجزاء بعد بعثهم، كما وضحه قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] وقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [النساء:87] وقال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران:9] وقال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} [هود:103] وقال تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ} [المرسلات:38] وقال تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:47].
وقوله تعالى: {لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي: معين عند الله تعالى، وهو يوم القيامة، يوم معلوم عند الله لكن لا يعلم حقيقته ومتى هو إلا الله تبارك وتعالى.(154/14)
تفسر قوله تعالى: (ثم إنكم أيها الضالون شرب الهيم)
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:51 - 55].
{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} [الواقعة:51].
أي: أيها الجاهلون المصرون على جهالاتهم والجاحدون للبعث {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} وهو من أخبث شجر البادية في المرارة وبشاعة المنظر ونتن الريح، فما يرجى من الشجر والثمر هو إما حلاوة الطعم، وهذا فيه مرارة، وإما المنظر الجميل وهذا بشع المنظر، وإما الريح الطيبة وهذا نتن الريح، فهذا وصف شجر الزقوم.
وإذا قلنا: هو من أخبث شجر البادية فليس المقصود أن هذا هو الموجود في النار، فكما أنه ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء كذلك -أيضاً- ليس في النار مما في الدنيا إلا الأسماء، فالنار فيها شجر الزقوم لكن شتان بين شجر الدنيا وشجر النار، فهذا مجرد اسم فقط، لكن في الحقيقة هناك تفاوت لا يعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالى.
{فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} أي: من ثمراتها الوبيئة البشعة المحرقة.
{فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} الإنسان حين يأكل يستسيغ الأكل عن طريق الشراب، أما هؤلاء فإذا أكلوا من شجر الزقوم فوقفت في حلوقهم فإنهم يستسيغونها ويبتلعونها عن طريق الحميم، وهو الماء الذي انتهى حره وغليانه.
{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} يعني الإبل التي بها الهيام، وهو داء لا ري معه لشدة الشغف والكلب فهو داء يصيب البهيمة فتظل تشرب وتشرب ولا ترتوي مهما شربت.(154/15)
تفسير قوله تعالى: (هذا نزلهم يوم الدين)
قال تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:56].
أي: هذا جزاؤهم في الآخرة، وفيه مبالغة بديعة؛ لأن أصل النزل ما يعد للضيف من الإكرام والطعام والشراب.
فهذا جزاؤهم في الآخرة، فالنزل ما يعد للقادم عاجلاً إذا نزل، أو الضيف حين يصل، فأول شيء يقدم إليه ويعد له ويهيأ له هو النزل لتكريمه به.
فالنزل هو أول ما يعد للقادم عاجلاً إذا نزل، ثم يؤتى بعده بما هو المقصود من أنواع الكرامة، كالذبيحة أو غيرها من الأمور التي تحتاج إلى وقت للإعداد.
فجعل الله تبارك وتعالى ما مر وصفه في قوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:51 - 55]؛ كل هذا جعله نزلاً.
فانظر إلى دقة التعبير في قوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} فهذا هو الترحيب الأولي بهم.
فلما جعل هذا أمراً هيناً كالنزل دل على أن ما بعده لا يطيق البيان شرحه، ولا يمكن أن تتسع لغة لوصف ما يكون بعده من الأهوال، والعياذ بالله.
وجعله نزلاً مع أن النزل هو ما يكرم به النازل؛ تهكماً، كما في قوله: وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلاً يعني: حييناه بالسيوف وقاتلناه.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} النزل -بضمتين- هو رزق الضيف الذي يقدم له عند نزوله إكراماً له، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107] وربما استعملت العرب النزل في ضد ذلك على سبيل التهكم والاحتقار.
وجاء القرآن باستعماله فيما يقدم لأهل النار من العذاب، كقوله هنا في عذابهم المذكور في قوله: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ} [الواقعة:52 - 56] أي: هذا العذاب المذكور هو ضيافتهم ورزقهم المقدم لهم عند نزولهم في دارهم التي هي النار.
يعني أن المقصود به التهكم، كما تقول: هذه تحيتهم.
فهذا تهكم؛ لأن التحية في الأصل إكرام، وهنا نزلهم فيه إهانة وعذاب أليم، كما قال تعالى في حق الكافر الحقير الذليل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49].
وقال تعالى في آخر سورة الكهف: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف:102] ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي السعدي الضبي: وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلاً وقوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أي: يوم الجزاء.(154/16)
تفسير قوله تعالى: (نحن خلقناكم فلولا تصدقون)
قال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} [الواقعة:57].
{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أي: نحن خلقناكم -يا معشر قريش- والمكذبين بالبعث فأوجدناكم بشراً ولم تكونوا شيئاً.
{فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي: بالخلق.
وهم وإن كانوا مقرين به لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38] إلا أنه نزل منزلة العدم والإنكار.
أي: فقوله: ((فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ)) يعني: بأنا خلقناكم.
وقد يقول قائل: فهمنا من آيات أخر أن مشركي قريش كانوا يقرون بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقهم، فما وجه هذا التفسير؟
و
الجواب
أنه لما كان هذا الإقرار بالخالق لم تترتب عليه العبودية له صار بمنزلة العدم.
ففهم أنه يصفهم هنا بأنهم لا يصدقون بأن الله هو الذي خلقهم، ولكن دلت بعض الآيات على أنهم يصدقون بأن الله تعالى خلقهم، فنزل تصديقهم الذي لم يثمر الطاعة والانقياد وتوحيد الله منزلة العدم.
وهناك تفسير آخر، وهو أن المعنى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي: بقدرتنا على بعثكم وإعادتكم مرة أخرى؟! فإن من قدر على الإنشاء قادر على الإعادة.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: لما أنكر الكفار بعثهم وآباءهم الأولين وأمر الله رسوله أن يخبرهم أنه تعالى باعث جميع الأولين والآخرين، وذكر جزاء منكري البعث بأكل الزقوم وشرب الحميم أتبع ذلك بالبراهين القاطعة الدالة على البعث فقال: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أي: هذا الخلق الأول، {فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي: فهلا تصدقون بالبعث الذي هو الخلق الثاني؟! لأن إعادة الخلق لا يمكن أن تكون أصعب من ابتدائه كما لا يخفى.
وهذا البرهان على البعث بدلالة الخلق الأول على الخلق الثاني جاء موضحاً في آيات كثيرة جداً، كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] ولا شك في أن إعادة الخلق هينة على الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] أي: هين عليه.
وليس معنى قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] أنه أسهل عليه.
وإنما هو من باب مخاطبة الناس بما هو معروف لديهم.
لكن ليس هناك سهل وأسهل على الله؛ لأنه سبحانه قادر على كل شيء قدرة متساوية.
فاستعمال هذا التعبير ((وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)) إنما هو بالنسبة لما هو معهود عندكم أنتم أيها المخلوقون، فمن ابتدأ من الخلق شيئاً فلا شك في أن إعادته أسهل عليه من ابتدائه؛ لأنه أعرف بدروبه وبمسالكه.
أما الله سبحانه وتعالى فالكل في قدرته سواء، وليس هناك سهل وأسهل، وإنما كله على الله هين.
قال تبارك وتعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج:5] إلى آخر الآية، وقال تبارك وتعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] وقال تبارك وتعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51].
وقوله: (فلولا) في قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} حرف تحضيض، ومعناه الطلب بحض وشدة، فالآية تدل على شدة حث الله للكفار على التصديق بالبعث لظهور برهانه القاطع الذي هو خلقه لهم أولاً.(154/17)
تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون)
قال تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة:58 - 62].
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} أي: ما تقذفونه في الأرحام من النطف.
((أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ)) بجعله بشراً سوياً.
((أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)) أي: بإضافة الصورة الإنسانية عليه.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:58] يعني: أفرأيتم ما تصبونه من المني في أرحام النساء، فـ (ما) هنا موصولة، يعني: الذي تمنون.
والعائد ضمير محذوف تقديره (تمنونه).
وقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} هذا استفهام تقرير، ولماذا استفهام تقرير؟ لأنه لا يمكن أن يكون جوابهم: نحن الخالقون، بل لابد لهم من أن يقولوا: الله سبحانه وتعالى هو الخالق، وهم ما ادعوا أبداً أنهم خلقوا شيئاً.
وحينئذ سيكون
الجواب
أنتم الخالقون.
خطاباً لله سبحانه وتعالى على التعظيم! فيقال لهم: إذا كنا خلقنا هذا الإنسان الخصيم المبين من تلك النطفة التي تقذف في الرحم، فكيف تكذبون بقدرتنا على خلقه مرة أخرى وأنتم تعلمون أن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من الابتداء؟! والضمير المنصوب في قوله تعالى: ((أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ)) الهاء فيه عائدة على الموصول، أي: أأنتم تخلقون ما تمنونه من النطف علقة ثم مضغة إلى آخر هذه المراحل؟! وهذا المعنى مبين في آيات كثيرة توضح أطوار خلق الإنسان.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذا البرهان الدال على البعث الذي هو خلق الإنسان من نطفة من مني تمنى، يجب على كل إنسان النظر فيه.
يعني أن التفكر في هذا الدليل واجب وفريضة وحتم على كل إنسان، فهو فريضة مثل الصلاة، فشأنه شأن كل الواجبات والفرائض.
يقول: هذا البرهان الدال على البعث الذي هو خلق الإنسان من نطفة تمنى يجب على كل إنسان النظر فيه؛ لأن الله جل وعلا وجه الأمر بالنظر فيه إلى مني الإنسان، والأصل في صيغة الأمر على التحقيق الوجوب إلا لدليل صارف عنه، وذلك في قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5].
ففي الآية أمر؛ إذ الأمر يأتي بصيغ شتى، من ضمنها صيغة فعل مضارع ومعه لام الأمر، كما هنا (فَلْيَنظُرِ) فهذا أمر، والأمر على التحقيق يفيد الوجوب إلا لقرينة.(154/18)
تفسير قوله تعالى: (نحن قدرنا بينكم الموت فلولا تذكرون)
قال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة:60 - 62].
قوله تعالى: ((نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)) أي: كتبنا على كل نفس ذوق الموت.
كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185].
ومن كان سبيله ذلك، وكان موقناً بأنه -لابد- ميت، فشأنه أن يرهب من نزوله، ويتأهب لما يخوف به من بعده، فيستعد للمخاوف التي تكون بعد الموت.
والجملة مقررة لما قبلها بإيذان أنهم في قبضة القدرة.
أي: فالله الذي خلقكم من نطفة من مني يمنى هو سبحانه وتعالى -أيضاً- سوف يقبض أرواحكم بقدرته، فلا تغتروا بالإمهال بدليل ما قدره عليكم من الموت.
وقوله: (بَيْنَكُمُ) فيه زيادة تنبيه، كأن الموت بين ظهرانيكم، فهو موجود في وسطكم قريب جداً منكم.
ثم أكد ما قرره في قوله تعالى: ((وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)) يعني: بمغلوبين.
((عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ)) أي: بعد مهلككم فنجيء بآخرين من جنسكم.
((وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ)) من صور وأشكال أخرى، فكيف نعجز عن إعادتكم؟ فإذا كانت هذه مظاهر من قدرة الله تبارك وتعالى، وهي أنه كتب عليكم الموت، وهو مميتكم لا محالة، وقادر على إماتتكم جميعاً، وأن يستبدل بكم قوماً غيركم، وأن يقلبكم في أطوار وفي أحوال وفي صور وأشكال؛ فكيف يعجز عن إعادة خلقكم مرة ثانية؟! قال الشهاب: والظاهر أن قوله: ((وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ)) المراد به: إذا بدلناكم بغيركم.
لا في الدار الآخرة كما توهم، وهذا كقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء:133].
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى}.
أي أنه أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] فـ (هَلْ) هنا بمعنى (قد)، أي: قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً.
وقوله تعالى: ((فَلَوْلا تَذكَّرُونَ)) أي: فتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهي البداءة، قادر على النشأة الأخرى وهي الإعادة، وأنها هينة عليه تبارك وتعالى.(154/19)
كلام الشنقيطي على قوله تعالى: (نحن قدرنا بينكم الموت)
قوله تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ}.
يقول الشنقيطي قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير ابن كثير: ((نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)) وقرأ ابن كثير بتخفيفها: (نحن قَدَرْنا بينكم الموت).
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها وجهان أو أكثر من التفسير، فيكون كل ذلك صحيحاً، وكله يشهد له القرآن، فنذكر الجميع وأدلته من القرآن، ومن ذلك هذه الآية الكريمة.
فالإيضاح في ذلك أن قوله تعالى: ((نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)) في تفسيرها وجهان من التفسير، وأيضاً فيما يتعلق به قوله تعالى: ((عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ)) وجهان من التفسير.
فقال بعض العلماء -وهو اختيار شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى- قالوا: إن قوله تبارك وتعالى: ((نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)) أي: قدرنا لموتكم آجالاً مختلفة وأعماراً متفاوتة، فمنكم من يموت صغيراً، ومنكم من يموت شاباً، ومنكم من يموت شيخاً.
فقوله تعالى: ((بَيْنَكُمُ)) يعني: بين شتى أصنافكم وأعماركم.
ودل على هذا قوله تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [الحج:5] وقال تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} [غافر:67] يعني: قبل فترة الشيخوخة، فتشمل الشباب وتشمل الطفولة {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر:67] وقال تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] وقال تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11].
وقوله تعالى: ((وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)) أي: ما نحن بمغلوبين.
والعرب تقول: سبقه على كذا، أي: غلبه عليه وأعجزه عن إدراكه.
والمعنى: وما نحن بمغلوبين على ما قدرنا من آجالكم وحددناه من أعماركم.
بمعنى أنه لن يقدر أحد على أن يقدم أجلاً أخرناه ولا أن يؤخر أجلاً قدمناه.
وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة، كقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} [نوح:4] وقال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145] إلى غير ذلك من الآيات.
على تفسير الآيتين السابقتين بالتفسير الذي ذكرناه يكون قوله تعالى: ((عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ)) لا علاقة له بقوله تعالى: ((بِمَسْبُوقِينَ)) بل هو متعلق بقوله: ((نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ))؛ لأن الجملة لها ثلاثة أجزاء: الأول: قوله تعالى: ((نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)).
والثاني: قوله تعالى: ((وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)).
والثالث: قوله تعالى: ((عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ)).
فكأن المعنى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ.
أي: نبدل من الذين ماتوا أمثالاً لهم نوجدهم.
وعلى فمعنى تبديل أمثالهم إيجاد آخرين من ذرية أولئك الذين ماتوا.
وهذا المعنى تشهد له آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام:133] وهذا التفسير هو اختيار ابن جرير، وقراءة ((قَدَّرْنَا)) مناسبة لهذا الوجه، وكذلك قوله تعالى: (بَيْنَكُمُ).
أما الوجه الثاني في تفسير الآية فهو أن (قَدَّرْنَا) بمعنى: قضينا وكتبنا على جميع الخلق.
وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].
وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58].
وعلى هذا القول فقوله تعالى: {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أمثالكم} [الواقعة:61] متعلق بقوله تعالى: ((وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)) أي: ما نحن بمغلوبين.
والمعنى: وما نحن بمغلوبين على أن نبدل أمثالكم إن أهلكناكم لو شئنا، فنحن قادرين على إهلاككم، ولا يوجد أحد يغلبنا ويمنعنا من خلق أمثالكم بدلاً منكم.
وهذا المعنى كقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء:133] وقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} [الأنعام:133] وقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:19 - 20] وقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
قوله تعالى: (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ) قال بعضهم: وننشئكم بعد إهلاككم فيما لا تعلمونه من الصور والهيئات، كأن ننشئكم قردة وخنازير كما فعلنا ببعض المجرمين قبلكم.
وقال بعضهم: ننشئكم فيما لا تعلمونه من الصفات فنغير صفاتكم، فنجمل المؤمنين ببياض الوجوه، ونقبح الكافرين بسواد الوجوه وزرقة العيون.
إلى غير ذلك من الأقوال.(154/20)
تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تحرثون بل نحن محرومون)
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:63 - 67].
ثم انتقل الاستدلال إلى دليل آخر من أدلة البعث والنشور، فقال عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة:63] يعني: أفرأيتم ما تحرثون الأرض لأجله ((أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)) والهاء في قوله: (تَزْرَعُونَهُ) عائدة على (ما تحرثون) وهل نحن نحرث الأرض أم نحرث الحب؟! نحرث الأرض، لكن من أجل أن نضع فيها الحب، فلذلك نقول في التفسير: أفرأيتم ما تحرثون الأرض لأجله، وهو الحب؟! فقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} أي: هذا الحب.
لأن قائلاً قد يقول: لماذا ذكر الحب؟ فنحن في التفسير نقول: المعنى: أفرأيتم ما تحرثون الأرض لأجله وهو الحب.
ثم أتى السياق يتكلم عن الحب نفسه، فقال تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} والحرث شق الأرض للزراعة وإثارتها وإلقاء البذر فيها.
وقوله تعالى: (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أي: تنبتونه (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) يعني: أم نحن المنبتون.
وعن بعض السلف أنه كان إذا قرأ هذه الآية وأمثالها يقول: بل أنت -يا رب- الذي تزرع، وأنت الذي تنميه.
(لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا) يعني هذا الزرع، أي: أيبسناه قبل استوائه واستحصاده، وأصل الحطام ما تحطم وتفتت لشدة يبسه وجفافه.
وقوله تعالى: (فَظََلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أي: تتعجبون من هلاكه ويبسه بعد خضرته.
أي: تندمون على اجتهادكم الذي ضاع فيه.
أو: (تَفَكَّهُونَ) على ما أصبتم لأجله من المعاصي فتتحدثون فيه، والتفكه: التنقل بصنوف الفاكهة، وقد استعير للتنقل بالحديث لأنه ذو شجون.
فالتفكه هنا مقصود به تناقل الحديث في الكلام وفي الحوار.
(إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) يعني: تقولون: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، فهذا مقول قول مقدر.
ومعنى (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أي: ملزمون غرامة ما أنفقنا.
أو: مهلكون لهلاك رزقنا.
من الغرام بمعنى الهلاك؛ قال الشاعر: إن يعذب يكن غراماً وإن يعـ ط جزيلاً فإنه لا يبالي ومن الأول قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] أي: ملازماً.
ومعنى قوله تعالى: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي: حرمنا رزقنا.(154/21)
دلائل البعث في إنبات الزرع
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64] * {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة:63 - 65].
يقول: تضمنت هذه الآيات الكريمة برهاناً قاطعاً ثانياً على البعث وامتناناً عظيماً على الخلق بخلق أرزاقهم لهم، فقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} يعني: أفرأيتم البذر الذي تجعلونه في الأرض بعد حرثها.
(أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أأنتم تجعلونه زرعاً ثم تنمونه إلى أن يصير مدركاً صالحاً للأكل.
(أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) له.
وهذا المعنى لا يتفطن إليه إلا الإنسان المؤمن العاقل، لكن الكافر يعمى عن رؤية قدرة الله على إنبات هذه البذرة، فنحن -البشر- ما علينا غير الأخذ بالأسباب، لكن هل الأسباب حتماً تؤدي إلى النتائج؟! إن القوة التي تنمي وتنبت هي قوة الله سبحانه وتعالى، فنحن إنما نأخذ بالأسباب، نوجد الماء والبذرة، ونحرث الأرض، ونسقي الزرع، لكن من الذي ينبت؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
ولا شك في أن الجواب الذي لا جواب غيره هو أن يقال: أنت -يا ربنا- الزارع المنبت، ونحن لا قدرة لنا على ذلك، فيقال لهم: كل عاقل يعلم أن من أنبت هذا السنبل في هذا البذر الذي تعفن في باطن الأرض قادر على أن يبعثكم بعد موتكم.
وكون إنبات النبات بعد عدمه من براهين البعث قد جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] وقال تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم:50] ورحمة الله هي المطر؛ لأن المطر أحياناً يسمى رحمة، كما قال تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل:63] وهي المطر.
وانظر إلى قوله تعالى: ((آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ)) فكلما ترى زرعاً أو نباتاً أو شجرة فقل: هذا هو أثر رحمة الله، لقوله: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50].
وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:57].
إذاً: الفائدة من الزرع والنبات ليس الأكل أو رؤية مناظر الجنات الجميلة فحسب، وإنما هناك غاية أساسية من خلقها، وهي أنها تدلنا على قدرة الله على البعث والنشور، كما أحيا هذه الأرض بعد موتها.
ثم يقول الشيخ الشنقيطي أيضاً: اعلم أنه يجب على كل إنسان أن ينظر في هذا البرهان الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة؛ لأن الله جل وعلا وجه في كتابه صيغة أمر صريحة عامة في كل من يصدق عليه مسمى الإنسان بالنظر في هذا البرهان العظيم المتضمن للامتنان لأعظم النعم على الخلق، وللدلالة على عظم الله وقدرته على البعث وغيره، وشدة حاجة خلقه إليه مع غناه عنهم، كما في قول الله تبارك وتعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:24 - 33].(154/22)
تفسير سورة الحديد [3](155/1)
تفسير قوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم)
فسر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه المبارك (طريق الهجرتين)، هذه الأسماء الأربعة تحقيقاً، وبين كيفية التعبد عن طريق هذه الأسماء الأربعة، وتكلم بكلام كلام قيم جداً، وهو طويل في الحقيقة، لكن نجتزئ منه ما تيسر.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى مبيناً كيف نعبد الله بالتأمل في اسمه (الأول) قال: فعبوديته باسمه (الأول) تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف أو الالتفات إليها، فإذا حققت في قلبك معنى الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى هو الأول الذي لا شيء قبله كما فسرها النبي عليه الصلاة والسلام: (أنت الأول فليس قبلك شيء) فمعنى ذلك أنه الخالق وهو المسبب لكل شيء.
والأسباب مخلوقة، فإذا حققت الاسم الأول فيقتضي ذلك أن تتجرد من التعلق بالأسباب، وليس معنى هذا أننا لا نأخذ بالأسباب؛ بل نأخذ بالأسباب ولكن لا نتوكل على الأسباب، وإنما التوكل يكون على الله سبحانه وتعالى الذي هو المسبب الحقيقي؛ لأن الإعراض عن الأسباب قدح في الشرع، والتعلق بالأسباب قدح في التوحيد؛ لأن الشرع أمر بالأخذ بالأسباب، والتعلق بالأسباب دون الله سبحانه وتعالى قدح في التوحيد.
يقول: فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته.
فإن الله الأول قبل كل شيء، فهو الذي سبَّب كل شيء، وخلق كل شيء، فتعلق بالمسبب وهو الله سبحانه وتعالى.
قال: وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد، إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كانت هناك؟ وإنما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فمنه سبحانه وتعالى الإعداد ومنه الإمداد، وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده لم تكن بوسائل أخرى، فمن نزل اسمه الأول على هذا المعنى أوجب له فقراً خاصاً وعبوديةً خاصة.
وعبوديته باسمه الآخر تقتضي أيضاً عدم ركونه ووثوقه بالأسباب، فإنها تنعدم لا محالة، وتنقضي في الآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها.
يعني: كل ما عدا الله له آخر؛ لكن الله سبحانه وتعالى هو وحده الآخر الذي لا شيء بعده، فما عدا الله سبحانه وتعالى من الأسباب تنقضي وتفنى بالآخرية لا محالة، ويبقى الدائم الباقي بعدها.
قال: فالتعلق بها -أي: بالأسباب- تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق ألا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به، كذا نظر العارف إليه بسبق الأولية حيث كان قبل الأسباب كلها، وكذلك نظره إليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه.
فتأمل عبودية هذين الاسمين، وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى الله وحده ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه، وأن الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع، فهو أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلا بأن يكون هو وحده غايته ونهاية مقصوده.
فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبوديتها وإرادتها ومحبتها، فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد ويتأله، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ.
فكما كان واحداً في إيجادك فاجعله واحداً في تألهك إليه؛ لتصح عبوديتك، وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه، فاجعله نهاية حبك وإرادتك وتألهك إليه؛ لتصح لك عبوديته باسمه الأول والآخر.
وأكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأول.
يعني: أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، ويقرون باسم الأول الذي بدأ كل شيء: بدأ الخلق، وبدأ الرزق، وبدأ أفعال الربوبية والتنمية والرعاية والإحسان إلى الخلق.
وإنما الشأن في التعبد له باسمه الآخر -يعني: بأن تعبده وحده لا شريك له- فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو رب العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده.
وأما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء).(155/2)
مدار أسماء الله عز وجل: (الأول والآخر والظاهر والباطن)
ثم يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى مبيناً أن هذه الأسماء الأربعة: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، مدارها على الإحاطة الزمانية والإحاطة المكانية، يقول: فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وهي إحاطتان: زمانية ومكانية، فأحاطت أوليته وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إلى أوليته، وكل آخر انتهى إلى آخريته، فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر، فهو الأول، يعني أنه قبل كل شيء، وهو الآخر بمعنى أنه بعد كل شيء بالإحاطة الزمانية.
وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وأي شيء عالٍ فالله سبحانه وتعالى أعلى منه، حتى الجنة التي هي أعلى المخلوقات فإن عرش الله سبحانه وتعالى فوق سقف الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله سبحانه وتعالى فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوق سقفه عرش الرحمن).
وهذا يدل على أن الجنة كروية؛ لأنه ذكر فيها الوسط والأعلى، وهذا معناه أنها كروية، والله تعالى أعلم.
يقول ابن القيم: فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده، فالأول قدمه، والآخر دوامه وبقاؤه، والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه، فسبق كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته، وعلا كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه، فلا تواري منه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا يحجب عنه ظاهر باطناً، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية.
فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد: فهو الأول في آخريته، والآخر في أوليته، والظاهر في بطونه، والباطن في ظهوره، لم يزل أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.(155/3)
مراتب التعبد بأسماء الله عز وجل: (الأول والآخر والظاهر والباطن)
يقول: وللتعبد بهذه الأسماء رتبتان: الأولى: أن تشهد الأولية منه تعالى في كل شيء، والآخرية بعد كل شيء، والعلو والفوقية فوق كل شيء، والقرب والدنو دون كل شيء.
فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه.
يعني: أي شيء أمامك يحجب عنك ما وراءه، فلا تعرف ما وراء الجدار، ولو وقف شخص أمامك فإنك لا ترى ما خلفه وهكذا، وكذلك السحابة لا ترى ما وراءها من شمس، فهذا شأن المخلوق.
قال: فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه، فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب، والرب جل جلاله ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه.
المرتبة الثانية من التعبد: أن يعامل كل اسم بمقتضاه.
فالمرتبة الأولى مرتبة علمية، أن تشهد ذلك بقلبك وتعلمه وتوقن به.
والمرتبة الثانية: عملية، أن تعامل كل اسم بمقتضاه.
قال: فيعامل سبقه تعالى بأوليته لكل شيء، وسبقه بفضله وإحسانه الأسباب كلها، بما يقتضيه ذلك من إفراده وعدم الالتفات إلى غيره والوثوق بسواه والتوكل على غيره.
فما دام أنك مؤمن بأن الله سبحانه وتعالى أول وآخر وظاهر وباطن، وما دمت تؤمن بأنه الأول، بمعنى: أنه سبق كل شيء، وكل ما عداه مخلوق؛ فالله هو الذي أوجدك بأوليته، فتعامل ذلك بما يقتضيه من إفراده بأن توحده، وألا تلتفت إلى غيره؛ لأن كل ما عداه من إله باطل، والأسباب كلها إنما هي مخلوقة، فينبغي أن تلتفت بقلبك وتتوكل على الله سبحانه وتعالى، فتفرده ولا تلتفت إلى غيره، ولا تثق بسواه، ولا تتوكل على غيره.
قال: فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً، حتى سماك باسم الإسلام؟! فأعظم نعمة في الوجود كله هي نعمة الإسلام، فهل شفع لك أحد المخلوقين حتى الأنبياء والمرسلين في الأزل عند الله عز وجل بأن يجعلك أنت مسلماً ويجعل فلاناً كافراً؟! قال عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] فهل سبق شيء منك وأنت لم تكن شيئاً مذكوراً؟! فهذا محض فضل راجع إلى أوليته وإحسانه سبحانه وتعالى إليك في الأزل بدون سبب.
قال: فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بسمة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك في ذلك الغيب عمالات المؤمنين، فعصمك عن العبادة للعبيد، وأعتقك من التزام الرق لمن له شكل ونديد، ثم وجه وجهة قلبك إليه سبحانه دون ما سواه، فاضرع إلى الذي عصمك من السجود للصنم، وقضى لك بقدم الصدق في القدم، أن يتم عليك نعمة هو ابتداها، وكانت أوليتها منه بلا سبب منك، واسم بهمتك عن ملاحظة الاختيار، ولا تركنن إلى الرسوم والآثار، ولا تقنع بالخسيس الدون، وعليك بالمطالب العالية والمراتب السامية التي لا تنال إلا بطاعة الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى قضى ألا ينال ما عنده إلا بطاعته، ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد، فمن أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن تصرف بحوله وقوته ألان له الحديد، ومن ترك لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد مراده الديني أراد ما يريد.
ثم اسم بسرك إلى المطلب الأعلى، واقصر حبك وتقربك على من سبق فضله وإحسانه إليك كل سبب منك، بل هو الذي جاد عليك بالأسباب، كما قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:118]، فسبقت توبته توبتهم، فلولا التوفيق لما تابوا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق إرادة الخير في الخلق، وهذا هو التوفيق.
قال: بل هو الذي جاد عليك بالأسباب، وهيأ لك وصرف عنك موانعها، وأوصلك بها إلى غايتك المحمودة، فتوكل عليه وحده، وعامله وحده، وآثر رضاه وحده، واجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التي لا تزال طائفاً بها، مستلماً لأركانها، واقفاً بملتزمها.
فيا فوزك ويا سعادتك إن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه، وخلع أفضاله، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك.
وأصلح له غيبك فإنه عنده شهادة، وزك له باطنك فإنه عنده ظاهر.
ثم قال رحمه الله: فانظر كيف كانت هذه الأسماء الأربعة جماع المعرفة بالله، وجماع العبودية له، فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومنته، فلا يرى لغيره شيئاً إلا به وبحوله وقوته، وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع ما منه هو مما كان يستند إليه أو يتحلى به، أو يتخذه عدة، أو يراه ليوم فاقته، أو يعتمد عليه في مهمة من مهماته، يعني: من التفت إلى هذه الأشياء- فكل ذلك من قصور نظره، وانعكاسه عن الحقائق والأصول إلى الأسباب والفروع، كما هو شأن الطبيعة والهوى، وموجب الظلم والجهل، والإنسان ظلوم جهول.
فمن جلى الله سبحانه وتعالى صدأ بصيرته، وكمَّل فطرته، وأوقفه على مبادئ الأمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها، أصبح كالمفلس حقاً من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه، يقول: أستغفر الله من علمي ومن عملي، أي: من انتسابي إليهما وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما.
فالعمل الصالح الذي عملته في الحقيقة هو فضل من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لولا توفيقه لما فعلته.
فالأسباب التي أخذت بها، وأوصلتك إلى النتيجة، كان يمكن أن.
لا يهيئها لك الله سبحانه وتعالى، وإذا هيأها لك ربما قضى موانع تمنع مفعولها، فكل هذا إنما هو من فضل الله سبحانه وتعالى.
قال: فيقول المؤمن: أستغفر الله من علمي ومن عملي، يعني: من أن أنتسب إليهما، وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما، وابتدأني بإعطائهما من غير تقدم سبب مني يوجب ذلك، فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبق منته ودوامه، فيثيبه مولاه على هذه الشهادة العالية بحقيقة الفقر الأوسط بين الفقرين الأدنى والأعلى ثوابين: أحدهما: الخلاص من رؤية الأعمال، حيث كان يراها ويتمدح بها ويستكثرها، فيستغرق بمطالعة الفضل غائباً عنها ذاهلاً عنها فانياً عن رؤيتها.
الثاني: أن يقطعه عن شهود الأحوال، أي: عن شهود نفسه متكثرة بها -أي: بهذه الأعمال- فإن الحال محله الصدر، والصدر بيت القلب والنفس، فإذا نزل العطاء في الصدر للقلب ثبتت النفس لتأخذ نصيبها من العطاء، فتتمدح به وتدل به وتزهو وتستطيل.
فإذا وصل إلى القلب نور صفة المنة، وشهد معنى اسمه المنان، وتجلى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه الأول ذهل القلب والنفس به، واشتغل بتحقيق اسم الأول واسم المنان عن أن ينسب إلى نفسه شيئاً، أو أن يرى لنفسه فضلاً، أو أن يتعلق بسبب من الأسباب.
قال: وصار العبد فقيراً إلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأول، فصار مقطوعاً عن شهود أمر أو حال ينسبه إلى نفسه.
يعني: ينسب هذا كله إلى الله سبحانه وتعالى.(155/4)
أثر العلم باسمي الله عز وجل (الأول والآخر)
والعلم بهذه الأسماء الأربعة ومعانيها له أثر عظيم في دفع الوسوسة ورد كيدها، أشار إلى ذلك حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما، فقد أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي زميل قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما فقلت: (ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله! ما أتكلم به)، يعني: وساوس، ومن شدة بغضه لها لا يتجاسر على أن ينطق بها تعظيماً لله سبحانه وتعالى.
فقال لي: (أشيء من شك؟ قال: وضحك، قلت: بلى، قال: ما نجا من ذلك أحد حتى أنزل الله عز وجل: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:94]، قال: فقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]).
لأن كيفية الوسوسة هي كما جاء في حديث آخر: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ يقول النبي عليه السلام: فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله.
ثم لينته) أي: يتوقف عن الاستطراد في التفكير.
كذلك ابن عباس رضي الله عنهما هنا يدلنا على علاج آخر، وهو أن تقول: (هو الأول والآخر)، أي: هو الأول الذي ليس قبله شيء، وإلا لزم التسلسل، فلو أنك قلت: ربنا خلق الكون وخلق المخلوقات، فتقول: من خلق الإله؟ والعياذ بالله! لو أنك افترضت وقلت: خلقه خالق آخر، فالخالق الآخر من خلقه؟ سوف تقول أيضاً: خلقه خالق ثان، وهكذا يلزم التسلسل، وهذا محال! لكن إذا تعبدت باسمه الأول الذي ليس قبله شيء، فهو الذي أوجد ما عداه من المخلوقات سبحانه لم يرد عليك هذا، فالله وحده هو الخالق الذي لم يسبق وجوده عدم، فحينما تقول: آمنت بالله، وتتلو هذه الآية: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]، فأنت ترد على الشيطان وسوسته، ولذلك جاء في بعض الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) واسم الشيطان الوسواس الخناس، فإذا تأملت معنى الوسواس الخناس نجوت من وسوسة الشيطان، ووسوسة صيغة مبالغة.
أي: كثير الوساوس، وهو يوسوس إذا غفل الإنسان عن ذكر الله.
فكما أنه كثير الوسواس فهو كثير الهرب إذا ذكرت الله، فإذا وسوس لك وذكرت الله خنس، أي هرب وانكمش وبعد عنك، فلذلك إذا سمع الأذان يولي ويهرب لأنه يكره الأذان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أذن المؤذن ولى الشيطان وله ضراط).
فأعظم ما يدفع به الوسواس هو ذكر الله سبحانه وتعالى، لا كما قال أحد ملاحدة أطباء النفس في مصر، وكان في حديث مع إذاعة لندن، وأنا سجلته في الحقيقة؛ لأني ذهلت من الكلام، وكان مما قال: إن بعض الناس يرون أن علاج الموضوع هذا أن يتخلص الإنسان أصلاً من فكرة الله! وطبعاً هذا ليس بغريب عليه؛ لأنه في وسط الكلام قال: والحقيقة أن من الناس الذين يثيرون موضوع الوسواس المسلمين وإخواننا اليهود! وهذه أول مرة أسمع واحداً يقول: إخواننا اليهود! فقد قال الناس ما قالوا، وسمعنا كثيراً من يقول: إخواننا كذا، وإخواننا كذا، وإخواننا كذا، لكن ما سمعنا أحداً يقول: إخواننا اليهود! فهذا شيء شاذ جداً.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وأرشد من بلي بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلين، إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ أن يقرأ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3].
كذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لـ أبي زميل سماك بن الوليد الحنفي وقد سأله: (ما شيء أجده في صدري؟ -يعني: من هذه الوساوس- قال: ما هو؟ قلت: والله لا أتكلم به -من قوة الإيمان وتعظيمه لله- قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قلت: بلى، فقال لي: ما نجا من ذلك أحد، حتى أنزل الله عز وجل: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:94]، قال: فقال لي: فإذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]).
وقوله: (ما نجا من ذلك أحد).
يعني: ما نجا من ذلك البلاء أو من ذلك الخاطر أو من ذلك الوسواس الوارد عليك، لكن هل أنت تسعى وراء الشك كما يفعل البعض من الجهلة؟ وأذكر عندما كنت في المدرسة الثانوية أني رأيت إحدى اللافتات وقد كتب فيها الحكمة التالية: كلما ازددت شكاً ازددت يقيناً.
وكأن كاتبها أو قائلها يرغب في الشك، وبعض الناس يقولون لك: لازم أنك تبدأ بالشك، فيظلون يتكلمون عن لخبطة الإمام الغزالي رحمه الله تعالى وعفا عنه! فليس عليك أن تتنقل بين الفرق الضالة بحثاً عن الحق، فإذا كان الله سبحانه وتعالى حفظ لك فطرتك وإيمانك وأضاء قلبك بنور اليقين، فلا تهدم هذا اليقين ثم تعود للشك، فينبغي ألا تبتلعوا السم في هذا الكلام المموه، الذي يقول: إن الشك هو أول مراتب اليقين.
بل الشك في الحق بلاء، ومن نعمة الله أن يحفظ الله سبحانه وتعالى على الإنسان فطرته؛ لأن أي إنسان سليم الفطرة يهتدي للتوحيد بسلاسة؛ لأن الفطرة مغروسة في داخله.
وعن طريق فهم هذه الأسماء الأربعة الواردة في هذه الآية الكريمة: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] تتحقق أنواع من العبودية.(155/5)
معاني اسم الله عز وجل: (الأول)
بالنسبة لاسم الله عز وجل الأول فمعناه اللغوي: الأول نقيض الآخر، والأول والآخر من الأسماء التي تأتي مقترنة بعضها ببعض، مثل المقدم والمؤخر المعز والمذل الظاهر والباطن.
فالأول يأتي مع الآخر، وبعض الناس أحياناً يخطئون في قراءة اسم الله عز وجل (الآخر)، فيقول: عبد الآخَر، فهل هناك إله مع الله؟! فننتبه لهذا، فإن الصواب: عبد الآخِر، إن جاز إطلاق هذا الاسم بهذه الصورة.
فالأول نقيض الآخر، وأصله (أوأل) على وزن (أفعل) قلبت الهمزة واواً ثم أدغم الواو في الواو، يدل على ذلك قولهم: هذا أول منك، والجمع الأوائل والأوالي أيضاً على القلب.
قال ذو الرمة: وما فخر من ليست له أولية تعد إذا عد القديم ولا ذكر يعني: مفاخر آبائه.
وقال الراغب: الأول: هو الذي يترتب عليه غيره، ويستعمل على أوجه: أحدها: المتقدم بالزمان، كقولك: عبد الملك أولاً ثم منصور، يعني: هذا جاء قبل ذاك.
الثاني: المتقدم بالرياسة في الشيء وكون غيره محتذياً به، نحو الأمير أولاً ثم الوزير.
الثالث: المتقدم بالوضع والنسبة، كقولك للخارج من العراق: القادسية أولاً ثم فيد، وتقول للخارج من مكة: فيد أولاً ثم القادسية.
الرابع: المتقدم بالنظام الصناعي، نحو أن يقال: الأساس أولاً، ثم البناء، فيصنع الأساس أولاً ثم بعد ذلك يكون البناء.
وورد هذا الاسم الشريف في القرآن الكريم مرة واحدة في هذه الآية: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3].
ومعنى هذا الاسم في حق الله تبارك وتعالى يقول الفراء: قوله عز وجل: ((هُوَ الأَوَّلُ))، يريد قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، يعني: الباقي بعد فناء كل شيء.
وقال ابن جرير: هو الأول قبل كل شيء بغير حد، فالله سبحانه وتعالى أوليته أزلية، يعني: لا بداية لها، فالأول هو قبل كل شيء بغير حد، فليس هناك زمن لبدايته عز وجل، والآخر بعد كل شيء بغير نهاية، وإنما قيل ذلك لأنه كان ولا شيء موجود سواه، وهو كائن بعد فناء الأشياء كلها، كما قال جل ثناؤه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].
وقال الزجاج: الأول هو موضوع التقدم والسبق، ومعنى وصفنا الله تعالى بأنه أول: هو متقدم للحوادث بأوقات لا نهاية لها، فالأشياء كلها وجدت بعده وقد سبقها كلها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء).
وقال الخطابي: الأول هو السابق للأشياء كلها، الكائن الذي لم يزل قبل وجود الخلق، فاستحق الأولية إذ كان موجوداً ولا شيء قبله ولا بعده.
وقال الحليمي: الأول هو الذي لا قبل له، والآخر هو الذي لا بعد له، وهذا لأن قبل وبعد نهايتان، فقبل نهاية الموجود من قبل ابتدائه، وبعد غايته من قبل انتهائه، فإذا لم يكن له ابتداء ولا انتهاء لم يكن للموجود قبل ولا بعد، فكان هو الأول والآخر.
وقال البيهقي: الأول هو الذي لا ابتداء لوجوده.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: هو أول هو آخر هو ظاهر هو باطن هي أربع بوزان ما قبله شيء كذا ما بعده شيء تعالى الله ذو السلطان ما فوقه شيء كذا ما دونه شيء وذا تفسير ذي البرهان فانظر إلى تفسيره بتدبر وتبصر وتعقل لمعان وانظر إلى ما فيه من أنواع معـ رفة لخالقنا العظيم الشان(155/6)
تفسير الرسول لاسم الله (الأول)
خير ما يفسر به هذا الاسم والأسماء الثلاثة التي تليه هو تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بالله عز وجل، والمعروف أنه إذا صح في تفسير الآية حديث وجب المصير إليه، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول: اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شي، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر) رواه مسلم.
فالله تعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء من الموجودات، فهو المتقدم على كل شيء، فلم يكن معه شيء، كما جاء ذلك في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض).
وقال الطحاوي في عقيدته: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء).
وشرحه ابن أبي العز فقال: فقول الشيخ: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء) هو معنى اسميه الأول والآخر، والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطر، فإن الموجودات لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته، قطعاً للتسلسل.
يعني: لا بد أن نقول: هناك خالق أول لا ابتداء له، لأننا لو قلنا عقلاً: إنها ترجع إلى خالق، والخالق يرجع إلى خالق خلقه -والعياذ بالله- والخالق الثاني يرجع إلى خالق وهكذا، فإن هذا لن يقف عند حد، بل هذا سيقتضي التسلسل، والتسلسل ممتنع، فلذلك نقول: إن الموجودات لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته، وهو الذي يوجد غيره ولا يوجده أحد.
قال: قطعاً للتسلسل؛ فإنا نشاهد حدوث الحيوان والنبات والمعادن، وحوادث الجو كالسحاب والمطر وغير ذلك، فهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة.
فالله سبحانه وتعالى عندما يحدث هذه التغييرات والتقلبات ما بين حر شديد وبرد شديد غيرهما، فإن على الناس أن يتفكروا ويعقلوا أن هذه المحدثات لا بد لها من محدث يغير فيها بقدرته وحكمته، وهو الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يحدث هذه التغييرات، حتى نلتفت إلى قدرة الله، وإلى وجود الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي يغير هذه الأشياء شيئاً بعد شيء كما يشاء عز وجل.
فيقول: وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة، فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها، فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فعدمها ينفي وجودها، ووجودها ينفي امتناعها.
أي: عدمها ينفي وجودها، فكونها يلحقها العدم معناه أنها ليست واجبة الوجود؛ لأن واجب الوجود لذاته لا يمكن أن يلحقه عدم، فكون هذه المخلوقات يقع عليها العدم هذا ينفي وجودها، ووجودها ينفي امتناعها، ويثبت أنها غير مستحيلة؛ لأن المستحيل لا يوجد.
قال: وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35].
ونفس هذا الكلام الذي قلناه هو موجود في هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، أي: هل خلقوا من عدم، أم خلقوا أنفسهم؟! فوجود هذه الأشياء ينفي كونها ممتنعة، وعدمها ينفي كونها موجودة لذاتها، فليس الواجب لذاته إلا لله سبحانه وتعالى.
وقوله هنا: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، معناه: هل أحدثوا من غير محدث، أم هم أحدثوا أنفسهم؟! ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه، فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم، بل إن حصل ما يوجده وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه، وعدمه بدلاً عن وجوده، فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له.(155/7)
حكم تسمية الله عز وجل بالقديم
قال: وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى القديم، وليس هو من أسماء الله الحسنى.
والتزام تسميته بالأول هو الموافق للكتاب والسنة واللغة، فالصحيح أننا لا نعبر عن الله عز وجل باسم القديم، وإنما نعبر عن الله عز وجل باسمه الأول، وهذا هو الموافق للكتاب والسنة واللغة، قال: فإن القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المتقدم على غيره.
فيقال: هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم.
يعني: أن كلمة قديم لا تعبر عن الذي لم يسبقه عدم، وإنما الاسم الذي يعبر عما لم يسبقه عدم هو الأول، أما القديم فيعبر عن المتقدم على غيره.
قال: كما قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39]، والعرجون القديم هو الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول: قديم، وقال تبارك وتعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11] أي: متقدم في الزمان.
وقد أنكر كثير من السلف والخلف منهم ابن حزم تسمية الرب تبارك وتعالى بالقديم، والصواب أن يستعاض عن هذا الاسم بالتسمية الواردة وهي الأول، واتباع ما جاءت به النصوص أولى من اتباع ألفاظ أهل الكلام.
أضف إلى ذلك أن التقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، ولا يفيد التقدم على الحوادث كلها إلا اسم الأول، أما من أطلقه من أهل السنة فلعله أطلقه من باب الإخبار عنه تبارك وتعالى، فباب الإخبار عن الله عز وجل أوسع مما يدخل في باب الأسماء الحسنى والصفات، كالشيء والموجود والقائم بنفسه ونحوها.
كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى، هذا فيما يتعلق بتسمية الله عز وجل بالأول.(155/8)
بيان بطلان التسلسل في الفاعلين
ونكمل كلام ابن القيم رحمه الله تعالى فيما يتعلق بهذا الاسم، يقول: وأرشد من بلي بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلين إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟! أن يقرأ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3].
كذلك قال ابن عباس لـ أبي زميل سماك بن الوليد الحنفي، وقد سأله: (ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قال: قلت: والله لا أتكلم به، قال: فقال لي: أشيء من شك، قلت: بلى، فقال لي: ما نجا من ذلك أحد، حتى أنزل الله عز وجل: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:94]، قال: فقال لي: فإذا وجدت في نفسك شيئاً، فقل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]).
فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلان التسلسل الباطل ببديهة العقل، وأن سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أول ليس قبله شيء، كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء، كما أن ظهوره هو العلو الذي ليس فوقه شيء، وبطونه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء، ولو كان قبله شيء يكون مؤثراً فيه لكان ذلك هو الرب الخلاق.
ولابد أن ينتهي الأمر إلى خالق غير مخلوق، وغني عن غيره.
فإن قيل: هل يوجد خالق يخلقه غيره ف
الجواب
لا؛ لأنه يكون محتاجاً إليه مفتقراً إليه، فلا يصح أن يكون خالقاً أو إلهاً.
قال: ولا بد أن ينتهي الأمر إلى خالق غير مخلوق، وغني عن غيره، وكل شيء فقير إليه، قائم بنفسه، وكل شيء قائم به، موجود بذاته، وكل شيء موجود به، قديم لا أول له، وكل ما سواه فوجوده بعد عدمه، باقٍ بذاته، وبقاء كل شيء به، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء.(155/9)
معنى اسم الله الآخر
ونختم الكلام على اسم الآخر، فنقول: الآخر: خلاف الأول، تقول: جاء آخراً، أي: أخيراً، وتقديره: فاعل، والأنثى آخرة، والجمع أواخر، أما الآخَر بالفتح، فهو أحد الشيئين.
وورد هذا الاسم الكريم أيضاً في القرآن الكريم مرة واحدة في نفس الآية: (هو الأول والآخر).
وأما معناه في حق الله تبارك وتعالى، فيقول الزجاج: الآخر: هو المتأخر عن الأشياء كلها ويبقى بعدها.
يعني: تفنى كل الأشياء ويبقى الله سبحانه وتعالى بعدها.
وقال الخطابي: الآخر: هو الباقي بعد فناء الخلق، وليس معنى الآخر: ما له الانتهاء، كما ليس معنى الأول: ما له الابتداء، فهو الأول والآخر وليس لكونه أول ولا آخر.
وقال البيهقي: الآخر: الذي لا انتهاء لوجوده.(155/10)
معاني اسمي الله عز وجل (الظاهر والباطن)
قال تعالى: {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3].
الظهر لغة: خلاف البطن، والظاهر: خلاف الباطن، يقال: ظهر يظهر ظهوراً فهو ظاهر وظهير.
والظهير: المعين، ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4].
وبعير ظهير بيُّن الظهارة، إذا كان شديداً قوياً، ومن استعمال الظهير بمعنى المعين قول الله تبارك وتعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55].
وقد سبق أن تكلمنا في تفسير سورة الفرقان، وقلنا: إن معناها وكان الكافر معيناً للشيطان وحزبه من الكفرة على عداوة الله ورسله ليقاتل به -أي: الكافر- في سبيل الشيطان أولياء الله الذين يقاتلون في سبيل الله تبارك وتعالى.
وتقول: ظهرت البيت، أي: علوته، وظهرت على الرجل، أي: غلبته، وأظهرت بفلان، أي: أعليت به، والظهر من الأرض ما غلظ وارتفع، والبطن ما لان منها وسهل ورق واطمأن، وظهر الشيء ظهوراً: تبين، وأظهرت الشيء: بينته.
وورد هذا الاسم الكريم في القرآن الكريم مرة واحدة في هذه الآية في سورة الحديد: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3].
أما معنى هذا الاسم الشريف في حق الله تبارك وتعالى فقال الفراء: الظاهر على كل شيء علماً، وكذلك الباطن على كل شيء علماً.
وقال ابن جرير: يقول تعالى: وهو الظاهر على كل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه تبارك وتعالى.
إذاً: هذا أحد معاني الاسم الكريم الظاهر حينما يطلق في حق الله تبارك وتعالى، فالظاهر معناه: أنه ظاهر على كل شيء علماً، يعلم كل شيء تبارك وتعالى، وكذلك الباطن على كل شيء علماً، أو الظاهر على كل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه، وهذا مثل اسمه تبارك وتعالى الأعلى، فهو سبحانه الأعلى على كل شيء، فله الفوقية المطلقة بكل معانيها.
وهناك معنى آخر: أن الظاهر هو الذي ظهر للعقول بحججه وبراهين وجوده وأدلة وحدانيته عز وجل، هذا إذا أخذته من الظهور.
وإن أخذته من قول العرب: ظهر فلان فوق السطح إذا علا، ومنه قول الشاعر: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها فالظاهر أيضاً أنه يثبت لله سبحانه وتعالى صفة الظهور بمعنى العلو، فالله عز وجل يثبت له العلو المطلق من جميع الوجوه، سواء كان علو الذات، أو علو القدر، أو علو الصفات، أو علو القهر.
وقال الزجاج: الباطن: اسم الفاعل من بطن، وهو باطن إذا كان غير ظاهر، والظاهر: خلاف الباطن، فالله سبحانه وتعالى ظاهر باطن، هو باطن لأنه غير مشاهد كما تشاهد الأشياء المخلوقة.
فهو ظاهر بالدلائل الدالة عليه، وبأفعاله المؤدية إلى العلم به ومعرفته، فهو ظاهر مدرك بالعقول والدلائل، وباطن غير مشاهد كسائر الأشياء المشاهدة في الدنيا، عز وجل عن ذلك وتعالى علواً كبيراً.
ويجوز في اللغة أن يكون الباطن العالم بما بطن، أي: بما خفي، كقولك: بطن بفلان، أي: خص به، فعرف باطن أمره، وهؤلاء بطانة فلان، أي: خاصته، فالبطانة هي التي تكون قريبة جداً من الإنسان، فبطانة الإنسان من الرفقاء أو الأصدقاء هو القريب منه بحيث يعرف ما خفي من أسراره.
فالباطن هو العالم بما بطن، يعني: بما خفي.
والظاهر هو القوي، كقولك: ظهر فلان بأمره فهو ظاهر عليه، يعني: قوي عليه، وتقول: جمل ظهير أي: قوي كبير.
وقال الأصمعي: يقال: ظاهر فلان فلاناً على فلان، إذا مالأه عليه.
وقال الخطابي: هو الظاهر بحججه الباهرة، وبراهينه النيرة، وبشواهد أعلامه الدالة على ثبوت ربوبيته وصحة وحدانيته، ويكون الظاهر فوق كل شيء بقدرته.
فيكون الظهور بمعنى العلو، ويكون أيضاً بمعنى الغلبة.
وأما اسمه جل وعلا الباطن، فكما أشرنا آنفاً أن البطن خلاف الظهر، وهو مذكر وتأنيثه لغة، وبطانة الثوب: خلاف ظهارته، والبطنان: جمع البطن وهو الغامض من الأرض، وبطنان الجنة: وسطها، وبطنت الوادي: دخلته، وبطنت هذا الأمر: عرفت باطنه، وبطنت بفلان: صرت من خواصه، وبطانة الرجل: وليجته، وأبطنت الرجل: إذا جعلته من خواصك.
واسم الباطن ورد مرة واحدة في هذه الآية الكريمة في سورة الحديد.
أما معنى هذا الاسم الشريف من أسماء الله بجانب ما ذكرناه آنفاً، فيقول ابن جرير: هو الباطن لجميع الأشياء، فلا شيء أقرب إلى شيء منه، يعني: أن الله سبحانه وتعالى قريب إلى كل شيء، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
وقال الزجاج: الباطن هو: العالم ببطانة الشيء، يقال: بطنت فلاناً وخبرته، إذا عرفته ظاهراً وباطناً، فعلى هذا المعنى يكون الله تعالى عالماً ببواطن الأمور وظواهرها، فهو ذو الظاهر وذو الباطن، يعني: يعلم ما ظهر وما خفي.
وقال الخطابي: الباطن هو: المحتجب عن أبصار الخلق، وهو الذي لا يستولي عليه توهم الكيفية، فمن أصداء اسم الله سبحانه وتعالى الباطن أن تعرف أنه محتجب عن أبصار الخلق، فبالتالي لا يمكن أبداً أن يتوهم أو يتخيل كيف هو.
وقد يكون معنى الظهور والبطون: احتجابه عن أبصار الناظرين وتجليه لبصائر المتفكرين.
كما ذكر نفس الكلام لكن بعبارة أخرى: أنه سبحانه وتعالى باطن؛ لأنه محتجب عن أبصار الخلق، فهم لا يرونه، فلذلك هو باطن، وهو ظاهر؛ لأنه ظاهر بالأدلة على وجوده ووحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته، فهو ظاهر لبصائر وعقول المتفكرين، وهو باطن عن عيون المبصرين، فلا يراه عز وجل أحد في هذه الدنيا.
فيكون المعنى: هو العالم بما ظهر من الأمور والمطلع على ما بطن من الغيوب.
وقال الحليمي: الباطن: الذي لا يحس، وإنما يدرك بآثاره وأفعاله عز وجل.(155/11)
آثار الإيمان باسمي الله عز وجل: (الظاهر والباطن)
أما آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم (الباطن) فهي معرفة أن الله سبحانه وتعالى أعظم الغيب: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، فأعظم الغيب الذي يغيب عن أبصارنا هو الله سبحانه وتعالى.
فالغيب هو ما ليس بمحسوس، وإنما يدرك بالحواس دلائل وحدانيته ودلائل قدرته ودلائل وجوده عز وجل، لا كما يلهج به بعض الملاحدة في هذا الزمان من قولهم: حدثونا عن العلم ودعوكم من الغيبيات! بل بعضهم يكون أصرح في إلحاده وزندقته فيعبر عن الغيبيات بقوله: خزعبلات! وهذا يقتضي الكفر، فأعظم غيب على الإطلاق هو الله سبحانه وتعالى؛ لأننا لا نشاهده، ولأنه هو الباطن في هذا المعنى، فالله سبحانه وتعالى أعظم الغيب، محتجب عن الخلق، لا يراه أحد في الدنيا، ولا تدركه الأبصار في الآخرة.
وهناك فرق بين أن نقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، وبين إنكار المعتزلة وأشباههم رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة.
لأن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، فمثلاً: -ولله المثل الأعلى- أنت إذا نظرت إلى البحر فليس معنى ذلك أنك أدركت البحر، بمعنى: أحطت به علماً، وهو مخلوق! بل أنت لا ترى إلا ما في السطح الظاهر أمامك فقط، فالله سبحانه وتعالى أعظم وأجل وأكبر، قال عز وجل: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، ورؤية الله لا تعني الإحاطة به عز وجل ولا تعني إدراكه، وإنما هي رؤية بدون أن يدرك كنهه تبارك وتعالى.
فالله تبارك وتعالى أعظم الغيب محتجب عن الخلق، لا يراه أحد في الدنيا ولا تدركه الأبصار في الآخرة، ولا نحيط بشيء من علمه إلا بما شاء لنا أن نعلمه عنه، مما وصف به نفسه في كتابه، أو ما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهو سبحانه مع كونه الباطن المحتجب عن أبصارنا، فهو مع ذلك ظاهر لخلقه، بأفعاله وآياته المتلوة والعيانية، كما يقول الشاعر معبراً عن هذا المعنى: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل فكل ما تقع عينك عليه هو آية تدلك على الله سبحانه وتعالى، فالله ظاهر، بمعنى: ظهور آيات وحدانيته، ودلائل قدرته وحججه عز وجل، فمن تأمل وتفكر في السماوات والأرض وما فيها عَلِم عِلْم اليقين أن لهذا الكون خالقاً مدبراً، قال عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
وقد أحسن من قال: فيا عجباً كيف يعصي الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد هذا فيما يتعلق بالآيات الكونية؛ لأن هذه الآيات يظهر بها الله عز وجل، بمعنى: أنها تكشف لنا قدرة الله وعلم الله وحكمة الله تبارك وتعالى ووحدانيته وأنه لا شريك له.
وهذه الآيات نوعان: آيات تبصيرية وآيات تنزيلية.
أما الآيات التنزيلية فهي الآيات المتلوة في كتاب الله تبارك وتعالى، فلا شك أن هذه الآيات نفسها تدل على الله سبحانه وتعالى؛ لأنها كلام الله الملك، وكلام الملك هو ملك الكلام، وكل إنسان ينصت يدرك جيداً أن القرآن لا يمكن أن يكون من كلام البشر، فأي إنسان عاقل ومدرك وعنده بصيرة وعلم باللغة العربية وطرائقها فإنه لا محالة يعلم أنه لا يمكن أن يصدر هذا الكلام عن مخلوق، ويستحيل أن يقدر مخلوق على أن يأتي بكلام مثل هذا الكلام.
فإعجاز القرآن الكريم ظاهر في أنك إذا أتيت القرآن من أي جهة ومن أي جانب ومن أي زاوية سوف تقطع بأنه كلام الله، ويستحيل أن يكون من كلام البشر.
فآيات الله تدل على الله، وتعرفنا بالله عز وجل؛ لأن معرفة الله إنما تكون بالتلقي عن طريق الوحي، وأما ما يقوله بعض الناس من أننا عرفنا الله سبحانه وتعالى بالعقل، فهذا فيه شيء من التجوز، فنحن نعرفه بالعقل بهذا المعنى الذي ذكرناه، أعني: عن طريق التفكر في الآيات التي تدلنا على وحدانيته عز وجل وقدرته وحكمته إلى آخره.
فأساساً لا يستطيع العقل أن يدرك كنه الله، وهل العقل يمكن أن يدلنا على صفات الذات وصفات الأفعال؟! وهل العقل يمكن أن يدلنا على أسماء الله الحسنى عن طريق الاستنباط؟!
الجواب
لا، إنما يكون هذا بالتوقيف، بمعنى: أن الوحي الصادق هو الذي يخبرنا بما لا نراه من صفات الله عز وجل وأفعاله وأسمائه.
فالله سبحانه وتعالى يعرف بالوحي، أما العقل فنحن نتفكر في آيات الله المخلوقة التي هي آياته التكوينية، والتي حثنا الله سبحانه وتعالى على التفكر والتأمل والتدبر فيها، بل أوجب علينا ذلك، كما بينا ذلك مراراً، فهناك آيات تكوينية مبثوثة في السماوات وفي الأرض وفي أنفسنا، وكل شيء تقع عليه عيناك فهو آية من آيات الله، حتى المعجزات الحسية التي أيد بها الأنبياء إنما سميت معجزات لأنها جاءت على خلاف العادة، والعادة في حد ذاتها إذا نظرت فيها وجدت أنها معجزة؛ لأنها تبين لنا قدرة الله تبارك وتعالى، فمثلاً: خروج الفرخ من البيضة معجزة، لكن لأنها هي الأصل صارت كالأمر العادي، لكن إذا خرق هذا الأصل وهو العادة فهذا هو الذي نسميه معجزة، وذلك من حيث دلالتها على أن الله سبحانه وتعالى يؤيد هذا النبي الذي أرسل.
فكل ما تقع عينك عليه هو معجزة، قال عز وجل: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، والتأمل في أي شيء يقودك إلى إن له صانعاً مدبراً، وبعض العلماء أجاد في هذا حينما ناظر بعض الملاحدة، حيث قال الملحد: ما هو الدليل على وجود الله؟ فقال له العالم: بل أنت ما هو الدليل على عدم وجود الله؟ فمن حاول أن ينكر وجود الله فإنه لا يستطيع؛ لأن ذلك شيء لا يطاق، فلذلك نحن نعتقد جزماً أن من يدعي أنه لا يقر بوجود الله فهو كاذب في دعواه، فلم يقص القرآن عن أمة واحدة من أمم الكفر أنها أنكرت وجود الله، وإنما كان النزاع في توحيد الإلوهية، أما إقرار وجود الله عز وجل فهذا لا يستطيع أحد أن ينكره.
فهذا ما تيسر من كلام فيه توضيح معاني هذه الأسماء الأربعة الشريفة من أسماء الله الحسنى.(155/12)
تفسير سورة الحديد [4](156/1)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام)
قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4].
قيل: إن الأيام التي خلق الله سبحانه وتعالى فيها السماوات والأرض هي من الأيام الإلهية، يعني: أنها من الأيام المقصودة بقوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] وهي أيام الآخرة.
وقال بعض العلماء: اليوم هو من طلوع الشمس إلى غروبها، فإن لم يكن شمس فلا يوم.
وذكر الله عز وجل الأيام لتفخيم خلق السماوات والأرض، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق كل هذا الوجود بكلمة (كن) فيكون في الحال، بلا أي تراخ زمني على الإطلاق، بل بمجرد أن يأمره الله سبحانه وتعالى أن يكون فإنه يكون.
وقيل: إن هذه الأيام من أيام الدنيا، قال مجاهد وغيره: أولها الأحد وآخرها الجمعة، وذكر هذه المدة، ولو أراد خلقها في لحظة لفعل؛ إذ هو القادر على أن يقول لها: (كوني) فتكون، ولكنه أراد أن يعلم العباد الرفق والتثبت في الأمور.
يعني أن الله سبحانه وتعالى ذكر هذه المدة التي هي ستة أيام خاصة، سواء قلنا: ستة أيام من أيام الآخرة كما في قوله سبحانه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، أو كانت ستة أيام من أيام الأسبوع مع قدرته على أن يخلقها بكلمة (كن) في الحال بلا أي تراخ، لكنه شاء أن يخلقها في ستة أيام.
أي: لكي يتمهل الإنسان ويتثبت.
وحكمة أخرى: أنه خلقها في ستة أيام؛ لأن كل شيء عنده له أجل، وكل شيء له موعد ومما يبين هذا ترك معاجلة العصاة بالعقاب.
فبعض الناس قد يستغرب ويقول: هؤلاء الذين يعصون الله سبحانه وتعالى من الكفار أو من الفاسقين، لماذا لا يعاجلهم الله بالعقوبة؟
و
الجواب
أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يهلك هذا الوجود في طرفة عين، وأن يوجد من هم أفضل منهم كالملائكة، لكن هذا يتنافى مع حكمة الابتلاء، إذ معنى ذلك أن ننتقل إلى دار الجزاء فوراً، والدنيا ليست هي دار جزاء، وإنما هي دار الابتلاء، فالحكمة من ذلك أن يدرك العباد أن لكل شيء أجله، حتى هؤلاء العصاة أو هؤلاء المحادون لله ورسوله لهم أجل في النهاية، فسوف يأتيهم عذاب الله سبحانه وتعالى، أو يأتيهم الموت، أو يأتيهم ما يشاء الله سبحانه وتعالى.
وقد قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، أي: من تعب ولا نصب، وهذا رد لقول اليهود لعنهم الله الذين ادعوا أن الله عز وجل لما خلق السماوات والأرض في ستة أيام تعب والعياذ بالله! فاستراح في اليوم السابع في زعمهم.
ومن تأمل الآية وما بعدها، وهو قوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] يجد أن فيها إشارة إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام أُمر أن يصبر على الكفار، وأن يوقن أن أجلهم آتٍ في الوقت الذي حدده الله سبحانه وتعالى، وفي الأجل الذي يشاؤه الله.
فكونه أتبع قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] بقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39]، فيه إشارة لهذا الأجل، خاصة أن هذه الآية جاءت بعد قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} [ق:36] وحينما أتاهم العذاب، {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق:36]، أي: ما كان لهم محيص ولا مهرب، يعني: إذا أتى أجل الله فإنه لا يؤخر أبداً، كما قال تعالى: {إنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [نوح:4]، فأثبت أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم قال: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] يعني: لا تجزع، فإذا كنا خلقنا السماوات والأرض في ستة أيام لحكمة أن تعلموا أن لكل شيء أجلاً، فكذلك هؤلاء الكافرون من قريش أو من غيرهم الذين كانوا يحاربون النبي عليه الصلاة والسلام ويؤذونه ويعذبون أصحابه ويصدون عن سبيل الله، الواجب أن تصبر على ما يقولون؛ لأن لكل شيء أجلاً، بدليل: أن الله مع قدرته على خلق السماوات والأرض في لحظة واحدة خلقها في ستة أيام حتى تعلموا أن لكل شيء أجلاً، ومن هذه الأشياء التي يكون لها أجل: تأجيل العصاة والكفار وأعداء الدين.
قوله: ((ثم استوى على العرش)) قال ابن جرير: أي: هو الذي أنشأ السماوات السبع والأرضين، فدبرهن وما فيهن، ثم استوى على عرشه فارتفع عليه وعلا.
وأما كيف استوى؟ فلا يقال لله سبحانه وتعالى: كيف! فهذه من آيات الصفات التي نطبق فيها ما قاله السلف رحمهم الله تعالى: أمروها كما جاءت بلا كيف، يعني: نحن نثبت صفة الاستواء، والاستواء هو العلو، أما كيف استوى فلا يمكن أن يعرف أحد كيف استوى الله على العرش، فالله سبحانه وتعالى لا يقال له: كيف؛ لأنك لا تكيف الشيء إلا إذا أحطت به.
فمثلاً: إذا قلت: طائرة، دبابة، قلم، ولد، بنت، سحاب، فإن من يسمع منها كلمة يكيفها في عقله؛ لأنه رآها من قبل، لكن لو أن طفلاً حديث السن لم يعرف هذه المفردات وقلتها أمامه فهل سيفهمها؟
الجواب
لا؛ لأنه لم يرها، ولم يربط بين الاسم والمسمى، فالله سبحانه وتعالى -ولله المثل الأعلى- لم يره أحد حتى يكيفه، كما قال سبحانه: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110].
فلذلك لا يقال في صفاته عز وجل وذاته: كيف؛ فلا يعلم كيف الله إلا الله، كما قال جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، وقال سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، ولذلك يقول تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74]، ويقول عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، يعني: أننا نثبت له السمع والبصر، لكن هل سمعه كسمعنا؟! الجواب: لا، فسمعنا بآلة، لكن السمع في حق الله سبحانه وتعالى لا تعرف له كيفية.
فقوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))، تفسيره قراءته وتلاوته كما جاء بلا كيف.(156/2)
الفرق التي ضلت في صفات الله عز وجل
وهنا يضل فريقان: الفريق الأول: المشبهة الذين يشبهون الله سبحانه وتعالى بخلقه، فيقولون: استوى كما تستوي المخلوقات على الكرسي.
والعياذ بالله! وهذا ضلال مبين.
والفريق الآخر: المعطلة الذين يعطلون الصفات، فيؤولونها أو يحرفونها، كما ذهب بعضهم إلى تأويل (استوى) بمعنى: استولى، وقال: إن قوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، يعني: استولى على العرش.
فنقول: إذا كان المعنى: استولى على العرش، فهل نازعه أحد فغلبه الله سبحانه وتعالى واستولى على العرش؟ معاذ الله! وعلى قولهم يصح أن يقال أيضاً: استوى على الجبال وعلى الكواكب وعلى الأرض بمعنى: أنه استولى عليها، أي: ملك وقهر، فلماذا خص العرش بالذكر؟! ويستدلون ببيت شاعر نصراني هو الأخطل: قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق فيقال لهم: كيف تصرفون ظاهر القرآن الكريم ببيت شعر لنصراني لا يعرف الله؟! وهذا البحث مهم جداً، ويعتبر من أمور العقيدة التي هي في غاية الأهمية، فقضية فوقية الله سبحانه وتعالى وعلوه على خلقه هي المسألة التي قال بعض العلماء فيها: قام عليها ألف دليل من القرآن والسنة وأقوال الصحابة رضي الله تعالى عنهم والأئمة من بعدهم.
بل حتى الحيوانات والعجماوات، وأهل الجاهلية، فأهل الجاهلية عندهم أشعار تثبت الاستواء على العرش، فهذا الموضوع من الأمور المهمة جداً، ولا بد من أن يصحح كل عقيدته بأن يدرس هذه المسألة دراسة محققة.
وأشهر رسالة ألفت في ذلك هي رسالة: الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكان في زمان لابد لأي سلفي أن يقرأ الفتوى الحموية، أما الآن فلا يكون الرجل سلفياً عند بعض الناس إلا إذا أقام الدنيا وأقعدها حول مسائل معدودة، وللأسف هذا هو فهم الكثير من الشباب الآن للسلفية، فيقيمون الدنيا في مسألة الضم بعد الركوع، وهل يشير بأصبعه في التشهد أم لا يشير؟ ونحو ذلك وكذلك مسألة هل تنزل على الركبة، أم تنزل على الكفين؟ ونحن نقول: مثل هذه المسائل تحقق بالأدلة، لكن بحيث لا تستحوذ على قدر من الاهتمام بحيث تكاد تظهر على أنها جواز المرور إلى السلفية، فقد ترى هؤلاء الشباب يخوضون في هذه المسائل وربما تباغضوا وتنافروا بسبب الخلاف فيها، مع أنهم يهملون كثيراً من أصول العقيدة، كهذه القضية.
فأنصح الإخوة بدراسة الفتوى الحموية الكبرى، وأيضاً كتاب: مختصر العلو للحافظ الذهبي الذي اختصره العلامة الألباني رحمه الله تعالى.(156/3)
ربط صفة الاستواء والمعية بالعلم
قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الحديد:4] يدل على أن صفة الاستواء تربط بصفة العلم؛ حتى يندفع ما قد يتطرق إلى أذهان بعض الناس من أن الآيات تدل على معية الله سبحانه وتعالى بذاته لخلقه، خاصة المعية العامة فقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ:2] يعني: أنه مستوٍ على العرش استواءً يليق بجلاله، ولا يشبه بذلك شيئاً من المخلوقات ومع استوائه على العرش إلا أنه قريب من خلقه فهو معهم بالعلم والسمع والبصر.
قوله: (وهو معكم أينما كنتم) ليس معناه أن الله معنا، بمعنى أنه يحل داخل مخلوقاته والعياذ بالله؟ فحاشا وكلا! ومعاذ الله! فالله سبحانه وتعالى -بإجماع السلف- بائن من خلقه لا يكون داخل المخلوقات، ولذلك أتبع ذكر الاستواء على العرش بقوله: ((يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ)) يعني: ما يدخل في الأرض من خلقه، والذي يلج داخل الأرض هو الأموات، والبذور، والحيوانات، ((وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا))، كالزروع، ((وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ))، كالأمطار والثلوج والبرد والأقدار والأحكام الإلهية، ((وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)) أي: من الملائكة والأعمال وغيرها.
وقد نبهنا مراراً إلى أن التعبير بالفضاء غير صحيح، فليس هناك فضاء، بل هو مليء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما في السماء موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك يسجد لله سبحانه وتعالى ويسبحه).
ولكن نستعمل هذا التعبير تجوزاً، أعني: ما يسمى بالفضاء.
ومن الحقائق العلمية المعروفة الآن أنه لا يوجد خط مستقيم في الفضاء، ولذلك تجد القرآن يستعمل في ذلك عبارة العروج؛ لأنه لا يوجد خط مستقيم، والدارسون في الهندسة يعرفون ذلك جيداً، فدائماً يعبر عن المشي في الفضاء أو السريان فيه بالعروج كما قال هنا: ((وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)) أي: من الملائكة والأعمال وغيرها.(156/4)
معنى معية الله لخلقه وأقسامها
قوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) يعني: هو مستوٍ على العرش وهو معكم أينما كنتم، قال ابن جرير: أي: وهو شاهد عليكم أينما كنتم يعلمكم ويعلم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع.
ونشير إشارة عابرة إلى موضوع المعية، فقد جاءت آيات في القرآن الكريم تدل على أن معية الله سبحانه وتعالى خاصة بالمتقين والمحسنين والمؤمنين، كقوله تبارك وتعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]، وهذا خطاب للمؤمنين، فيفهم منه المعية للمؤمنين.
وكذلك قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].
وقال تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وقال موسى عليه السلام: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].
وقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12].
وقال تعالى حاكياً عن النبي صلى الله عليه وسلم: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
في حين جاءت آيات أخرى تدل على أن المعية عامة لكل المخلوقات، كقوله تبارك وتعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]، وقال تبارك وتعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4].
وقال تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7].
وقال عز وجل: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61].
إذاً: هل الآيات التي دلت على أن المعية عامة لكل الناس وكل المخلوقين، تعارض الآيات التي دلت على معية خاصة بالأنبياء والصالحين؟
الجواب
لا تعارض؛ وبيان ذلك كما يأتي: أن المعية الخاصة من الله تكون بالنصر والتوفيق والإعانة، وهذه لخصوص المتقين المحسنين، ولذلك نلاحظ أن هذه المعية الخاصة أتت مع الأنبياء والصديقين {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
ومع الملائكة: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12].
ومع المؤمنين: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35]، ومن أوضح الأدلة على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].
هذه هي المعية الخاصة بالتوفيق والتسديد والنصر والإعانة.
أما المعية العامة فهي المعية بالإحاطة والعلم؛ لأنه تعالى أعظم وأكبر من كل شيء، وهو محيط بكل شيء، فجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، وله عز وجل المثل الأعلى، وهذه المعية عامة لكل الخلائق كما دلت عليه الآيات التي ذكرناها.(156/5)
لا تعارض بين صفتي: الاستواء والمعية
يقول الله تبارك وتعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))، هذا يدل على أنه مستو على عرشه، عالٍ على جميع خلقه، وقوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))، يوهم خلاف ذلك.
والجواب عن هذا: أنه تعالى مستو على العرش كما قال بلا كيف ولا تشبيه، استواءً لائقاً بكماله وجلاله، فهو مع جميعهم بالإحاطة الكاملة والعلم التام، ونفوذ القدرة؛ سبحانه وتعالى علواً كبيراً، فلا منافاة بين علوه على عرشه ومعيته لجميع الخلائق.
ألا ترى -ولله المثل الأعلى- أن أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل فحين يمسك حبة الخردل ويقبض عليها بيده، هل يكون الذي يحمل الحبة داخلاً فيها؟ لا يكون في داخلها، وليس داخلاً في شيء من أجزاء تلك الحبة، مع أنه محيط بجميع أجزائها، وأنه مع جميع أجزائها! وكذلك السماوات والأرض ومن فيهن، إن هي في إلا كحبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى، فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته، بل من حبل وريده مع أنه مستو على عرشه لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه جل وعلا.(156/6)
كلام ابن القيم على صفة المعية
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7]، إلى آخره، فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية؛ لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.
أيضاً بالنسبة لآيات الأسماء والصفات فإن ظاهرها هو الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، ولا نحتاج للتعطيل، لكن المؤولة وقعوا في خطأ: وهو أنهم بمجرد أن سمعوا آيات الصفات مثل آيات الاستواء على العرش، أول ما تبادر إلى ذهنهم أنه يشبه أفعال المخلوقين، فوقعوا في التشبيه، والتشبيه يؤدي إلى النفور، وبالتالي هربوا من التشبيه إلى التعطيل! فالمعطلة في البداية قالوا: إن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالمخلوقين، وأما أهل السنة فقالوا: إن ظاهر آيات الصفات هو ما يليق بالخالق، فيكفي أن نفوض علم الكيفية للخالق، فالله سبحانه وتعالى له صفات كمال وجمال وجلال، لا يشبهه فيها أحد على الإطلاق؛ لأنه ليس كمثله شيء، فنقول: نثبتها كما جاءت بلا كيفية.
أما التأويل فهو فرع عن التكذيب، لأنك إذا أولت فإنك تكون قد ألغيت وعطلت صفة من صفات الله عز وجل.
يقول ابن القيم: فإن قيل: كيف تصنعون بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]؟
الجواب
أن في الآية قولين: الأول: أن قربه بعلمه، ولهذا قرن علمه بوسوسة نفس الإنسان: (ونعلم ما توسوس به نفسه) يعني أقرب بعلمنا.
القول الثاني: نحن أقرب إليه بملائكتنا.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ لأن في القرآن آيات كثيرة دلت على أن الملائكة يحضرون الإنسان عند الموت، مثل قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50]، وكذلك قوله تبارك وتعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85]، يعني: ملائكتنا، والله سبحانه وتعالى قد قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19 - 20]، وهذا الرسول هو جبريل عليه السلام، فنسب القرآن إلى جبريل على أنه الذي قاله، مع أنه قاله على سبيل التبليغ، وقال الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3]، والذي قصه مباشرة على النبي عليه السلام هو الملك جبريل تبليغاً عن الله، وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]، والذي قرأه جبريل تبليغاً، لكن الكلام من الله سبحانه وتعالى، فنسب إليه لأنه قرأه بأمر الله عز وجل.
على كلٍ فإن موضوع الكلام في آيات الصفات موضوع مهم في الحقيقة، لكن نكتفي الآن بهذه الإشارة.(156/7)
كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على صفة المعية
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لفظ المعية في سورة الحديد والمجادلة في آيتيهما ثبت تفسيره عن السلف بالعلم، قالوا: هو معهم بعلمه، وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولم يخالفهم أحد يعتد بقوله.
وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم.
قال ابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: هو على العرش وعلمه معهم.
وهكذا عمن ذكر معه وقد بسط الإمام أحمد الكلام على المعية في الرد على الجهمية.
يعني: فالسلف ما تكلموا في موضوع الصفات بالطريقة التي وجدت فيما بعد، لكن السبب والمسئول عن ذلك أهل البدع؛ لأنهم هم الذين أنشئوا الكلام ببدعهم، فاضطر العلماء للكتابة وللرد كما فعل الإمام أحمد، وكما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما من أئمة السلف، فإذا كنا نحن في واقع مثل واقع السلف فالأصل ألا نتكلم، لكن إذا كنا محاطين بالشبهات من كل جانب بمذهب الأشاعرة وتأويلاتهم، فنحن نضطر لأن نتعلم ما يدفع عنا شبهات أهل البدع.
يقول: ولفظ المعية في كتاب الله جاء عاماً كما في هاتين الآيتين، وجاء خاصاً كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فلو كان المراد بذاته مع كل شيء؛ لكان التعميم يناقض التخصيص.
يعني: أن آيات المعية العامة تتعارض مع الآيات التي تفيد المعية الخاصة، وقد بين أن هذا التعارض إنما يكون إذا قيل إنها معية بالذات، وقد بين ذلك فقال: فإنه قد علم أن قوله: (لا تحزن إن الله معنا)، أراد به تخصيصه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار.
يعني: هل يفهم أحد من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الغار: لا تحزن إن الله معنا، أن الله مع الرسول عليه السلام وأبي بكر وأبي جهل وكفار قريش ممن كانوا خارج الغار؟ لا.
لأن هذه معية خاصة بالنبي عليه السلام وأبي بكر رضي الله تعالى عنه.
يقول: كذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، لا شك أن هذه معية خصهم بها دون الظالمين والكفار.
كما أن لفظ المعية لم يرد في لغة العرب ولا في شيء من القرآن ويراد به اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى.
يعني أن بعض الناس يقول: إن المعية معناها أن الله موجود في كل مكان، وللأسف الشديد أنهم يقولون ذلك عن غفلة وجهل، وهذا انحراف في العقيدة، فإن الله سبحانه وتعالى بائن من خلقه، بل نحن ننكر على النصارى زعمهم أن الله سبحانه وتعالى حل في بدن المسيح أو أن الله حل في مريم، فكيف نقول إن الله يحل في كل الأماكن أو أن الله موجود في كل مكان؟ هذا من الجهل بالله سبحانه وتعالى، ونسبة ما لا يليق به إليه، لأن ذلك يقتضي أنه يوجد في أماكن النجاسات وفي غيرها من الأماكن التي لا تليق به، فالله سبحانه وتعالى بإجماع السلف بائن من خلقه، لا يحل في شيء من خلقه تبارك وتعالى.
والمعية في لغة العرب وفي لغة القرآن لا يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى، فحينما يقول الله سبحانه وتعالى مثلاً: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29]، هل المعية تفيد اختلاط ذات النبي عليه السلام بذوات الصحابة؟ لا.
بل كل واحد له ذاته! وقال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:146]، وقال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقال: {وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} [الأنفال:75]، ومثل هذا كثير؛ فامتنع أن يكون قوله: (وهو معكم)، يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق.
وأيضاً: فإنه افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم بهم، فكون الله تعالى مع العباد لا يتنافى مع علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد.(156/8)
كلام ابن قدامة على صفة المعية ورده على المؤولة
قال الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى في كتابه ذم التأويل: فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً.
وهذه شبهات يتواصى بها أهل البدع جيلاً بعد جيل، يقولون: أنتم تحاربون التأويل وأنتم تؤولون؛ كما قال: فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً، فقلتم في قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم)، أي: معكم بالعلم، ونحو هذا من الآيات والأخبار، فيلزمكم ما لزمنا.
أي أن أهل البدع يقولون: أنتم تحرمون علينا التأويل وتحلونه لأنفسكم، أولتم هذه الآية؛ فيلزمكم ما يلزمنا؛ فكما أولتم فنحن أيضاً نؤول، وبدلاً من أن نقول: الرحمن على العرش استوى، نقول: الرحمن على العرش استولى، واليد هي القدرة؟ قال ابن قدامة: قلنا: نحن لم نتأول شيئاً، وحمل هذه اللفظات على هذه المعاني ليس بتأويل؛ لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ، بدليل أنه المتبادر إلى الأفهام منها، وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه حقيقة كان أو مجازاً، ولذلك كان ظاهر الأسماء العرفية المجاز دون الحقيقة كاسم الراوية والظعينة، وغيرهما من الأسماء العرفية؛ فإن ظاهر هذا المجاز دون الحقيقة، وصرفها إلى الحقيقة يكون تأويلاً يحتاج إلى دليل.
وكذلك الألفاظ التي لها عرف شرعي وحقيقة لغوية كالوضوء والطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج، ظاهرها هو العرف الشرعي دون الحقيقة اللغوية، فالعرف في الصلاة ليس الدعاء، إنما الصلاة أفعال مخصوصة بشروط مخصوصة، كذلك الزكاة ليس معناها الطهارة أو التنمية، وإنما هي بمعنى: إخراج قدر مخصوص من المال بشروط مخصوصة آخره، كذلك الصيام، فالعرف الشرعي إذاً يقدم على الحقيقة اللغوية.
إذا تقرر هذا: فإن المتبادر إلى الفهم من قولك: إن الله معك، يعني بالحفظ والكلاءة، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى فيما أخبر عن نبيه: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، وقال لموسى: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص؛ لوجوده في حق غيرهم كوجوده في حقهم، ولم يكن ذلك موجباً لنفي الحزن عن أبي بكر ولا علة له؛ فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه، فلم يكن تأويلاً.
ثم لو كان تأويلاً فما نحن تأولناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم الذين ثبت صوابهم ووجب اتباعهم هم الذين تأولوه.
اهـ.
وهنا أمر مهم جداً، وقد نبهت عليه مراراً، وهو أنه لابد أن تكون واثقاً من هذه العقيدة؛ لأنها عقيدة مسندة، ونحن دائماً نشجع الإخوة على أن يدرسوا العقيدة من الكتب المسندة، أي: الكتب التي جاءت بالأسانيد، فذكرت فيها الأحاديث النبوية من البخاري ومسلم والترمذي وغيرها، حتى إذا أتى مشغب يقول لك: أنت سني أو وهابي، ويزعم أن ابن تيمية هو الذي اخترع هذا المذهب السلفي في العقيدة، قلت له: لو افترضنا أن ابن تيمية لم يخلق وابن عبد الوهاب لم يخلق، هل كانت ستضيع العقيدة السلفية؟ لا.
إن ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهما من الأئمة، هم عبارة عن مجددين، أعادوا لنا السنة، ونفضوا عنها الانحرافات والبدع والأكاذيب، وأحدهم لا ينشئ من عنده مذهباً! فحينما نرفع عقيرتنا بهذه العقيدة الحقة، عقيدة السلف، فهذا كلام مسند، ولذلك ينبغي أن يرتبط الشباب دائماً بكتب العقيدة المسندة ككتاب الإمام اللالكائي أصول الاعتقاد، وكتب السنة، وكلمة السنة معناها العقيدة والتوحيد، وهناك الكثير جداً من الكتب التي تحمل هذا الاسم مثل: السنة لـ ابن أبي عاصم وغيره؛ بمعنى العقيدة.
فـ شيخ الإسلام لم يكن له فضل الإنشاء، وما أحدث ولا ابتدع؛ ولذلك تحدى مخالفيه وأعطاهم مهلة، فقال: ائتوني بكلمة واحدة تخالف ما أقوله، وكان حينها في المحنة بسبب الفتوى الحموية الكبرى، فتحدى جميع الأشاعرة، وقال: ائتوني بكلمة واحدة مما في عقيدتي تخالف ما كان عليه السلف، وأمهلهم مدة، ولكن ما استجاب أحد للتحدي.
أقول: إن أعظم مديح مدحت به العقيدة السلفية هو ما أتى في صورة الذم من بعض الفقهاء المعاصرين المشهورين، وهو الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى وعفا عنه؛ لأنه كان مخالفاً للعقيدة السلفية، بل انتصر لعقيدة المعتزلة في موضوع خلق القرآن ضد الإمام أحمد، عفا الله عنه وسامحه، لكن نقول: رام نفعاً فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا ففي كتابه عن تاريخ المذاهب الإسلامية، لما تكلم في تاريخ المذاهب السياسية والعقائدية، قال تحت عنوان السلفيين: (جاء هؤلاء السلفيون وأرادوا أن يعودوا بالعقيدة وفي فهم العقيدة إلى الكتاب والسنة ويتركوا كلام الفلاسفة وعلم الكلام، ويهجروا الأدلة العقلية، ويقتصروا في فهم العقيدة على الكتاب والسنة)، أقول: هذه أعظم عبارة قرأتها فيها مدح للعقيدة السلفية على يد من كان خصماً لها، سامحه الله وعفا عنه.
الشاهد: أن هذا الكلام هو أقصى ما يأخذونه علينا، بل هذا أقصى ما نأخذه عليهم: أنهم يضعون بجانب القرآن والسنة بفهم السلف كلام أخراق المعتزلة والفلاسفة وأهل الكلام.
ثم يقول ابن قدامة: لو كان تأويلاً فما نحن تأولناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم الذين ثبت صوابهم ووجب اتباعهم هم الذين تأولوه، فإن ابن عباس والضحاك ومالكاً وسفيان وكثيراً من العلماء قالوا في قوله: (وهو معكم)، أي: علمه.
ثم قد ثبت في كتاب الله، والمتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع السلف: أن الله تعالى في السماء على عرشه، وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها.
وقولنا: إن الله في السماء، بمعنى: فوق السماء، وقوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2] أي: على ظهر الأرض، لا أن نسيح داخل الأرض ونخترقها، وقوله: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، أي: على ظهرها، وليس في داخل جذوع النخل، فـ (في) بمعنى: على وفوق، والسماء هنا المراد بها العلو.
يقول: جاءت هذه اللفظة -لفظة المعية- مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، فبدأت بالعلم وانتهت بالعلم مع المعية، إشارة إلى أن هذا العلم بالمعية.
ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله تعالى بحالهم، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة، ويجازيهم عليه، وهذه القرائن كلها دالة على إرادة العلم.
فقد اتفقت فيها هذه القرائن ودلالة الأخبار على معناها، وما قاله السلف وتأويلهم، فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟ فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى، وإن خفي فقد كشفناه وبيناه بحمد الله تعالى.
ومع هذا لو سكت إنسان عن تفسيرها وتأويلها لم يخرج ولم يلزمه شيء، فإنه لا يلزم أحداً الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى.
ثم يقول الله تعالى: ((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))، يعني: سيجازيكم عليه.(156/9)
تفسير سورة الحديد [7 - 15](157/1)
تفسير قوله تعالى: (آمنوا بالله ورسوله)
قال الله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد:7].
قوله تعالى: ((آمنوا بالله ورسوله))، أي: آمنوا الإيمان اليقيني ليظهر أثره عليكم، والخطاب هنا للمؤمنين، وجاء أصرح من ذلك في قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136]، فكيف يكونون مؤمنين ثم يخاطبون بالإيمان؟ قال بعض العلماء: إذا قلنا: إنه خطاب للمؤمنين؛ فيكون المراد الثبات على الإيمان إلى الوفاة.
أو كما قال القاسمي رحمه الله تعالى يعني: آمنوا الإيمان اليقيني الكامل الذي يظهر أثره عليكم، فيسهل عليكم الإنفاق من مال الله الذي مولكم إياه.
يعني: فالنفس لا تطاوع الإنسان على أن ينفق النفقة التي يبتغي بها وجه الله سبحانه إلا إذا كان مؤمناً بالله وموقناً بحسن عاقبته وثوابه وجزائه عند الله، فإنه يعرف أن هذا المال ليس غائباً وإنما هو المال الباقي، فما أنفقه الإنسان في سبيل الله هو الذي يبقى له، أما الذي يأكل به ويشرب فهذا هو الذي يضيع منه، يقول الله تعالى عنه: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، فالإيمان هو الدافع، أو هو اليقين في ثواب الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يدفع الإنسان إلى النفقة.
ومما يعظم أيضاً شأن النفقة هنا: أن الله سبحانه وتعالى قرن الأمر بالإيمان بالأمر بالإنفاق؛ فدل على فضل النفقة، وعظم موقعها عند الله تبارك وتعالى.
((مما جعلكم مستخلفين فيه))، أي: بتمكينكم وإقداركم على التصرف فيه بحكم الشرع؛ إذ الأموال كلها لله عز وجل، واختصاص نسبة التصرف إنما هو بحكمه في شريعته.
وقال الشهاب: الخلافة إما عمن له التصرف الحقيقي، وهو الله سبحانه وتعالى.
يعني: إما أن المعنى أننا مستخلفون عن المالك الحقيقي للمال، بل لكل ما في السماوات وما في الأرض، وهو الله سبحانه وتعالى.
قال: عمن سبقكم الذين كان المال في أيديهم يتصرفون فيه، ثم آل إليكم بصورة أو بأخرى، إما بالميراث وإما بالهبة أو غيرها من طرق كسب المال المشروعة.
فمعنى الخلافة في قوله تعالى: ((وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)): إما أنها عمن له التصرف الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى؛ وهذا يناسب قوله في أول السورة: {لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ} [الحديد:2]، فالخلافة عن الله الذي له التصرف الحقيقي والذي له ملك السماوات والأرض.
أو يكون المراد: جعلكم مستخلفين عمن تصرف فيها قبلكم ممن كانت في أيديهم فانتقلت إليكم.
وعلى كل ففيه حث على الإنفاق، وتسهيل لأمره؛ لأن طبيعة النفوس أنها تشح في النفقة، كما قال الله: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، فالله سبحانه وتعالى يسهل على المؤمنين أمر الإنفاق وأمر الجود بهذا المال، فبين لهم أهمية الإنفاق فربطه بالإيمان: ((آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا))، ليس من مالكم ولكن من مال الله الذي آتاكم، كما قال في آية أخرى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33].
وموضع العبرة هنا لتسهيل الإنفاق أن هذا المال كما لم يدم في أيدي من قبلكم فلن يدوم في أيديكم، فإما أن ينتقل عنكم وإما أن تنتقلوا عنه، وهنا مما يهون أن ينفق الإنسان المال.
فمن الجهة الأولى إذا قلنا: إن الخلافة عن الله الذي له التصرف الحقيقي والذي له ملك السماوات والأرض، فهذا تسهيل للإنفاق؛ لأن الإنسان إذا أذن له في الإنفاق من ملك غيره، فلا شك أنه يسهل عليه أن يخرج؛ فلو وكلت من قبل شخص وكنت مسئولاً عن خزانة أمواله، فقال لك: أخرجها أنت فيما شئت، وقد أذنت لك بالتصرف فيها كما شئت، فلا شك أنه يسهل عليك الإعطاء حينئذٍ ويسهل عليك تكثير النفقة! وهذه من المعاني النفسية الدفينة في طبيعة الإنسان؛ فانظر كيف يهون الله سبحانه وتعالى على الإنسان الإنفاق! يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وعلى كل ففيه حث على الإنفاق وتهوين له، أما على الأول فظاهر؛ لأنه أذن له في الإنفاق من ملك غيره، ومثله يسهل إخراجه وتكثيره.
وأما على الثاني فلأن هذا المعنى يذكر الإنسان أنه ما دام أن المال لم يبق لمن قبله فإنه لا يدوم له أيضاً، فيسهل عليه الإخراج.
وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الودائع(157/2)
تفسير قوله تعالى: (وما لكم لا تؤمنون بالله)
قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد:8 - 9].
((وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) أي: وما يصدكم عن الإيمان بالله وقد ظهرت دواعيه واتضحت سبله لذويه.
((وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ))، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوكم بطريق النظر والتفكر إلى الإيمان بالذي رباكم بنعمه، وصرفكم بآلائه؛ فوجب عليكم شكره.
((وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ)) بالإيمان إذ ركب فيكم العقول، ونصب الأدلة، ومكنكم من النظر بل أودع في فطركم ما يضطركم لذلك إذا نبهتم، وقد حصل ذلك بتنبيه الرسول؛ فما عليكم إلا أن تأخذوا سبيله فطرة الإيمان، وهي موجودة وكامنة في قلب كل إنسان، حتى إذا ما علتها الأغشية أو الصدأ فإن التنبيه من الرسول ودعوته إياكم من شأنها أن تنبهكم إلى هذا الرصيد الباقي في نفوسكم من فطرة الإيمان والتوحيد.
((إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) يعني: إن بقي نور الفطرة والإيمان الأزلي فيكم، وإن بقي فيكم نور الفطرة الذي جبلكم الله عليه؛ فإن دعوة الرسول تأتي بنور على نور، نور الفطرة مع نور الوحي فينبهكم ويحثكم على الإيمان.
((هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ))، أي: حججاً واضحة وبراهين قاطعة.
((لِيُخْرِجَكُمْ)) أي: ليخرجكم الله، أو ليخرجكم عبده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بآيات الله ((مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ))، أي: من ظلمات الجهل والكفر والأهواء المتضادة إلى نور الهدى واليقين الذي تشعر به النفوس، وتطمئن به القلوب.
((وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ))، أي: في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهدايتكم، إزاحة للعلل، وإزالة للشبه.
ولما كان إنزال هذه السورة للأمر بالإنفاق في سبيل الله والترغيب فيه؛ أكثر الله سبحانه وتعالى من ذكره في ضروب من البيان وفنون من الأحكام، ولذلك قال الله تبارك وتعالى بعد أن أمرهم بالإيمان: ((وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول)) أي: وقد توافرت الدواعي التي تؤزكم أزاً على هذا الإيمان.
وإن كان قد قال: ((وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه))، فقد قال أيضاً: ((وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، أي: يرث كل شيء فيهما ولا يبقى لأحد مال، وإذا كان كذلك فما أجدر أن ينفق المرء في حياته، ويتخذه له ذخراً يجده بعد مماته و: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، فإذاً علام البخل ولله ميراث السموات والأرض، أي: يئول إليه كل ما في السماوات والأرض، فلماذا تضنون بما هو زائل عنكم لا محالة؟ يقول الشهاب رحمه الله تعالى: هذا من أبلغ ما يكون في الحث على الإنفاق؛ لأنه قرنه بالإيمان أولاً لما أمرهم به، ثم وبخهم على ترك الإيمان في قوله: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} مع سطوع براهينه، ووبخهم أيضاً على ترك الإنفاق في سبيل من أعطاه لهم ((وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله)) أي: لماذا لا تنفقون في سبيل الله المال الذي آتاكم الله إياه، فالله سبحانه هو الذي آتاكم هذا المال وأمركم بإنفاقه؟ فهذا توبيخ على ترك الإنفاق في سبيل الله الذي أعطاهم هذا المال مع أنهم على وشك الموت، وعدم بقائه لهم إن لم ينفقوا، كما يقول العامة: إن الأكفان لا جيوب لها، وإن أغنى أغنياء الأرض لن يدفن بأمواله وبذهبه؛ فلابد أن يترك المال أو يتركه المال.
وقد يصيبه الفقر كما يحصل لكثير من الناس، فمالك هو ما أنفقت وما قدمته بين يديك، ومال وارثك هو ما خلفت، وسبيل الله كل خير يوصلهم إليه.
وقوله: ((ومالكم ألا تنفقوا في سبيل الله)) عام يشمل كل خير يوصل الناس إلى الله سبحانه وتعالى، فهو أعم من الجهاد وغيره، وقصر بعضهم إياه على الجهاد؛ لأنه فرضه الأكمل، ولأنه النوع الأكمل الذي ينطبق عليه قوله: ((في سبيل الله)) من باب قصر العام على أهم أفراده وأشملها، فهو عام يراد به الخصوص؛ باعتبار أن هذا الخاص هو أهم أفراد هذا العام، لا سيما وسبب النزول كان للنفقة في سبيل الله في الجهاد.
((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ))، والفتح يراد به فتح مكة أو صلح الحديبية، وهناك ارتباط وثيق بين فتح مكة وصلح الحديبية؛ لأن صلح الحديبية هو الفتح الأعظم، وهو الذي مهد لكل ما تلاه من فتوحات، كفتح خيبر وفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً؛ لأن صلح الحديبية أوقف الصراع المسلح مع المشركين، ثم إن المشركين بدءوا يعملون عقولهم ويستمعون للأدلة ويقتنعون بالإسلام؛ فمن ثم دخل الناس في دين الله أفواجاً ببركة هذا الفتح الأعظم.
إذاً: الفتح المبين الذي ورد في أول سورة الفتح إنما هو فتح الحديبية، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فقوله تعالى: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ))، يعني: أنفق وقاتل لتعلو كلمة الحق، وجاهد في سبيل الله بماله وبنفسه، فلا يستوي هؤلاء ومن أنفق من بعد وقاتل في حال قوة الإسلام وعزة أهله، فكانت شدة الحاجة إلى نصرة الدين والتضحية في سبيله في ذلك الوقت أعظم وأشد، بخلاف ما بعد الفتح من كثرة الناس الذين دخلوا في دين الله أفواجاً، فحذف الثاني لوضوح الدلالة عليه؛ فإن الاستواء لا يتم إلا بذكر شيئين.
فنقول: لا يستوي من فعل كذا ومن فعل كذا، لكن حذف الثاني هنا لدلالة السياق عليه، أو لوضوح الدلالة عليه: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)) وتكون تقدير الكلام: لا يستوي هو ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، لكن حذف لوضوح الدلالة عليه؛ على أنه أشير إليه بقوله مستأنفاً عنهم زيادة للتنويه بهم: ((أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا))، فبهذا يفهم المحذوف من سياق العبارة السابقة، وهي قوله تعالى: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ))) أي: مع الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا.
((أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا))، أي: لعظم موقع نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم بالنفس وإنفاق المال في تلك الحال، وفي المسلمين قلة وفي الكافرين شوكة وكثرة عدد؛ فكانت الحاجة إلى النصرة والمعاونة أشد بخلاف ما بعد الفتح؛ فإن الإسلام صار في ذلك الوقت قوياً والكفر ضعيفاً، ويدل عليه قوله تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)، وهذا فيه نهي عن سب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإيذان برعاية حرمتهم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
وهذه الآية دالة على فضل من سبق إلى الإسلام وأنفق وجاهد مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهنا مراعاة الأولية والأسبقية في الأعمال الصالحة، وفي بعض الأحاديث في مراعاة أولويات الإمامة في الصلاة، قال (فإن كانوا في السن سواءً فأقدمهم هجرة)، وهذه إشارة إلى نوع من السبق.
وقال في الإكليل: في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق.
فللصحابة مراتب، ولابد أن يشكل هذا جزءاً من اعتقادنا، ولذلك نجد مسألة الإيمان بفضل الصحابة ومراعاة حرمتهم وترتيبهم في الأفضلية مما ينص عليه في كل كتب العقيدة السلفية، وسبق أن نبهنا أن بعض كتب العقيدة كشرح الطحاوية لا تستوعب كل مسائل الإيمان والعقيدة، وإن كانت تستوعبها في الغالب وتركز على المسائل التي جرى فيها الخلاف بين أهل السنة ومن خالفهم من الفرق، ولذلك كل مسألة توضع للرد على فرقة انحرفت في هذا الباب بالذات، فمن ذلك نجد الكلام على مكانة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهذا أصل من أصول العقيدة السلفية؛ لأن الصحابة هم شهود الشرع، فإذا فتح باب الطعن في الشاهد؛ فإن ذلك يفتح باب الطعن في المشهود، وهو القرآن الكريم والسنة، لأن الذين نقلوا إلينا القرآن والسنة هم الصحابة، ففتح باب الطعن فيهم حيلة لإبطال دين الإسلام بالكلية، لأن هؤلاء إذا خانوا -كما يقول الشيعة لعنهم الله وقبحهم الله وكما يقول الخميني الهالك وغيره من أعداء الإسلام الذين يدعون الإسلام- فقد بطلت الشريعة.
وقد كثر الكلام في الفترة الأخيرة على موضوع الصحابة، وخاصة أن بعض الأشرطة انتشرت لتتكلم عن ذلك بالتفصيل، فسبق أن نبهنا إلى أن عموم الناس بل خواصهم أيضاً ينبغي أن ينشغلوا بدراسة مناقب وفضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أما إثارة ما شجر بين الصحابة ابتداءً من غير داع يوجب ذلك، فهذا يخالف منهج السلف في أن واجبنا أن نمسك عما شجر بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لكن إذا وجد الإنسان قوماً يكثرون الطعن في الصحابة ويوردون الشبهات على بعض الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، أو وجد في بعض مناهج التعليم عدوان على بعض الصحابة؛ ففي هذه الحالة ينبغي الرد على هذه الشبهات.
ومن الشبهات تفسير الحديث تفسيراً منحرفاً، أو فهم آية وتأويلها تأويلاً لا يتوافق مع عقيدتنا في الصحابة، أو التزوير الذي حصل في التاريخ؛ فحين يتصدى بعض الباحثين لمثل هذه القضية فليبحثها ضوء منهج أهل الحديث وليس منهج المؤرخين، ومنهج أهل الحديث يعنى بصحة السند والمتن وعقيدة السلف، وعندئذ فلا مانع من ذلك لمن تعرض لشيء من الشبهات.
كذلك يوجد الآن كتاب قيم في هذا الباب،(157/3)
الثمرات المستفادة من الآية
فهذه الآية تدل على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لهم مراتب، وأن ترتيبهم مبني على السبق، فالأسبق أفضل من الذي يأتي بعد ذلك، فالصحابة مراتب، والفضل للسابق إلى الإسلام.
وأيضاً هذه الآية تدل على أدب مهم جداً، وهو تنزيل الناس منازلهم، وهذا وإن جاء فيه حديث ضعيف: (أنزلوا الناس منازلهم)، أو: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم)، إلا أن نفس معنى هذا الحديث ثابت كما في قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85]، فيؤخذ من الآية معنىً عام: أن من استحق مرتبة معينة فلا ينبغي إنزاله عنها، بل ينزل كل إنسان المنزلة اللائقة به.
وأيضاً الآية فيها دليل على أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين، لأن الأجر على قدر النصب، فالإنسان ينبغي أن يتفنن حينما يريد أن ينفق أو يعمل عملاً في سبيل الله، مثلاً: إنسان يريد أن يخرج صدقة جارية، أو أن يعمل عملاً صالحاً، فعليه أن يبحث عن أنفع هذه الأعمال للمسلمين، وللدين، وللدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فيكون فقيهاً إذا أراد أن يتجر مع الله سبحانه وتعالى، وأن يستثمر نفقته في الأعمال الصالحة؛ فينبغي أن يبحث عن السنن الحسنة.
والأحوال القلبية لها تأثير خطير جداً في هذا الباب، لحديث: (سبق درهم ألف درهم)، يعني: تصدق بدرهم والآخر تصدق بألف درهم، فارتفع صاحب الدرهم إلى مقام أعلى من الذي تصدق بألف درهم، بسبب الأحوال القلبية، فهذا الرجل الذي تصدق بدرهم ما كان يملك سوى درهمين، فتصدق بدرهم واستبقى لأهله درهماً، أما الآخر فكان رجلاً غنياً ثرياً أتى إلى زاوية وركن في الخزينة وأخذ منها مبلغاً قدره ألف درهم، وهذا شيء صغير في جانب الثروة الكبيرة، فلم يتصدق بنصف ماله، بل بجزء يسير منه، فهذا هو السبب.
ثم يقول تعالى: ((أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا)) هنا جاء الاستئناف، حيث كانت الآية التي قبلها ((من قبل الفتح)) قبل: مضاف، والفتح: مضاف إليه، أما (من بعد) في الآية التالية فهي مبنية في محل نصب.
قوله تعالى: ((وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) أي بعد أن جاءت المفاضلة من الله سبحانه وتعالى بين الطرفين قال: ((وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) أي: وكل واحد من الفريقين وعد الله الحسنى.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر، فيتوهم متوهم ذمه، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه، مع تفضيل الأول عليه.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، أي: من النفقة في سبيله وجهاد أعدائه وغير ذلك، فيجازيكم على جميع ذلك.
قال ابن كثير: أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذلك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق.(157/4)
تفسير قوله تعالى (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات)
قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:12 - 15].
المقصود بالنور هنا ما كان سبباً لنجاتهم؛ لأنه لو كان نوراً فهذا النور لم يختص بجهة اليمين والأمام دون الشمائل؛ لأن ضياء المؤمنين الذي يؤتونه في الآخرة يضيء لهم جميع ما حولهم، وفي تخصيص الخبر عن سعيه بين أيديهم وبأيمانهم، دون الشمائل ما يدل على أنه معني به غير الضياء وإن كانوا لا يخلون من الضياء؛ فتأويل الكلام إن كان الأمر على ما وصفنا: ((وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) ((يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ))، يعني: يسعى ثواب إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم تتطاير، ويعني بقوله: ((يسعى)) يمضي بين أيديهم ((وبأيمانهم)) أي: في أيمانهم.
((بشراكم اليوم جنات)) أي: يقول لهم ذلك من يتلقاهم من الملائكة، بقرينة آيات أخرى توضح أن الملائكة تتلقى المؤمنين يوم القيامة وتبشرهم بالجنة، وهذا كثير جداً في القرآن، أعني تقدير القول، والمعنى: تقول لهم الملائكة الذين يتلقونهم: ((بشراكم)) -أي: المبشر به ((اليوم جنات))، وقد قيل: إن البشارة تكون بالأعيان فلا حاجة لتقديم مضاف تصحيحاً للحمل.(157/5)
تفسير قوله تعالى: (انظرونا نقتبس من نوركم)
((يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)).
أي: نُصِبْ من نوركم، يقال: اقتبس، إذا: أخذ قبساً وهو الشعلة، وقوله: ((انظرونا))، بمعنى: انظروا إلينا على الحذف والإيصال؛ لأنكم إذا نظرتم إلينا سوف نتمكن من أن نقتبس من نوركم ونصيب منه، والنظر بمعنى الرؤية يتعدى بإلى، فإن أريد التأمل تعدى بفي، وقولهم ذلك إنما هو حينما يساق المؤمنون إلى الجنة زمراً، والمنافقون في العرصات شاخصون إليهم، أو حينما يشرفون من الغرف على المنافقين وهم في ضوضائهم وجلبتهم في جهنم والعياذ بالله، كما قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]، فإما أن يحصل هذا عند نهاية الموقف وحينما يساق المؤمنون زمراً: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73]، فحينئذ يقول المنافقون والمنافقات: ((انظرونا نقتبس من نوركم)) أي: انظروا إلينا لعلنا نقتبس شعلة من نوركم، أو أنهم يقولون ذلك حينما يراهم المؤمنون ويطلعون عليهم من غرف الجنة، فإن هذا من تمام نعيم أهل الجنة؛ لأنهم عانوا في الدنيا، وكان هؤلاء الناس يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم، وكانوا يغيظونهم ويسخرون منهم، فالجزاء أن الله سبحانه وتعالى يجعل العاقبة للمتقين ومن تمام نعيمهم في الجنة أنهم يتمكنون من رؤية أصحاب جهنم والعياذ بالله.
وإذا استطاع الإنسان أن ينقل الصور عن طريق الأجهزة السمعية والبصرية والتلفزيون في الدنيا، أفلا يتمكن الخالق العظيم سبحانه وتعالى من هذا؟ إن الله على كل شيء قدير، فهم في الجنة ينظرون إلى أهل النار بل ويخاطبونهم، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50].
تفسير آخر لقوله تعالى: ((انظرونا نقتبس من نوركم)): ((انظرونا))، بمعنى: انتظرونا، وهو الذي عول عليه ابن جرير، والمراد حينئذ من الانتظار للاقتباس هو رجاء شفاعتهم لهم أو دخولهم الجنة معهم طمعاً في غير مطمع، يقولون لهم ذلك حينما يسرع بهم إلى الجنة، فهؤلاء يقولون: انظرونا نقتبس من نوركم؛ لأن المنافقين يحاولون بكل وسيلة في الآخرة للنجاة، لكنهم يطمعون فيما لا مطمع فيه وفيما لا رجاء فيه، ولذلك يجتهدون حيلهم في التخلص مما هم فيه حتى بالقسم الكاذب، كما في سورة الأنعام: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، فهم يقولون: إذا كان الحلف الكاذب قد ينجينا فلماذا لا نحاول؟ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، وهذا فيه اتهام للملائكة بأنها كتبت عليهم أشياء ما عملوها وافتروا عليهم، فلذلك يستنطق الله سبحانه وتعالى جوارحهم ويجعل أنفسهم شهداء عليهم، كما جاء في الأحاديث والقرآن الكريم.
إذاً: فهناك معنى آخر لقوله: (انظرونا) بمعنى انتظرونا نقتبس من نوركم.(157/6)
معنى قوله: (قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً)
((قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا))، القائل إما الملائكة أو المؤمنون.
قال الزمخشري: فيه طرد لهم وتهكم بهم، أي: ارجعوا إلى موقف يوم القيامة، إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هناك، فمن ثم يقتبس.
أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان.
وهذا تكليف لهم بالذي لا يكون، ففيه نوع من التهكم بهم، فرجوعهم إلى الدنيا غير مستطاع وهو من المحال.
((فالتمسوا نوراً)) أي: اعملوا أعمالاً صالحة حتى تكون عاقبتكم مثل عاقبة هؤلاء المؤمنين.
((ارجعوا وراءكم)) أي: للدنيا ((فالتمسوا نوراً)) هناك، فإن الدنيا للزرع والآخرة للحصاد، ولا يمكن أبداً رجوعهم، فالآخرة دار جزاء والدنيا دار العمل.
قال الزمخشري: أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان، أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا فالتمسوا نوراً آخر فلا سبيل لكم إلى هذا النور، وقد علموا أن لا نور وراءهم، وإنما هو تخييب وإقناط لهم.
وكلامهم يدل على حمل النور على حقيقته، ولا مانع من أنه نور الإيمان والعمل الصالح، أي: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا إيماناً وعملاً طيباً يهديكم في الآخرة، كما أن النور يهدي في الظلمات، والأمر هنا للتحسير والتنديم حتى يندموهم على ما كان منهم.
ونقل الرازي عن أبي مسلم أن المراد بقوله تعالى: ((ارجعوا وراءكم)) منع المنافقين عن الاستضاءة فالمؤمنون لهم نور فيقترب منهم المنافقون أو يريدون أن يقتربوا حتى ينتفعوا بالنور، وربما انتفع الإنسان من ضوء مصباح غيره حينما يقترب منه.
قال الرازي: فعلى هذا القول المقصود من قوله: ((ارجعوا)) أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب ألبتة، لا أنه أمر لهم بالرجوع.(157/7)
تمايز أهل الجنة وأهل النار وتحاورهم
ثم أشار تعالى إلى امتياز الفريقين في المنازل وتباينهما فيها بقوله سبحانه وتعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُور} أي: لما قال لهم: ((ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً)) أو قالت الملائكة ذلك فضرب بينهم بسور، أي: ضرب بين المؤمنين والمنافقين بحائط متين يحجبهم عن أنوار المؤمنين، ويمنعهم من أن ينتفعوا بالنور الذي يكون مع المؤمنين لتتم ظلمتهم؛ حتى يحجب عنهم النور تماماً، ((لَهُ بَابٌ)): جملة في محل جر صفة لسور، أي: لذلك السور باب لأهل الجنة يدخلون منه، ويرى به المنافقون المؤمنين ليكلموهم، وعندما يدخل المؤمنون لا يستطيع المنافقون أن ينتفعوا بالنور، لكن وهم يمرون يستطيعون أن يحاوروهم من خلال هذا الباب كما سيأتي في المخاطبة والمحاورة بينهم: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى} [الحديد:14].
((بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ)) يعني: الجانب الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة، وهو جانب الجنة وما فيها من رضوان الله والنعيم المقيم ((وَظَاهِرُهُ))، وهو الذي يلي المنافقين: ((مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ))، أي: من عندهم العذاب، ومن جهته الظلمة والنار.
((يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ))، يريدون أن يحتموا بلا إله إلا الله كما كانوا يحتمون بها في الدنيا، فقد كانت تحميهم في الدنيا بحيث تجري عليهم أحكام الإسلام حينما يأتون بالشرائع الظاهرة متسترين بمظاهر الإسلام، وأما في الحقيقة فهم كفار مكذبون.
((قَالُوا بَلَى))، رد عليهم المؤمنون بقولهم: بلى، وهذا الحوار كله حصل بعد السور، فمعناه أنهم ما زالوا يكلمونهم، ((وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ))، أي: شحنتموها بالنفاق، وأهلكتموها بأن وضعتموها في الفتنة والبلاء، ((وَتَرَبَّصْتُمْ))، أي: تربصتم بالمؤمنين الدوائر ليظهر الكفر فتظهرون ما في أنفسكم، وكنتم تتمنون أن يكون الخسران للمؤمنين، وأن ينتصر الكفار على المؤمنين.
((وَارْتَبْتُمْ)) أي: في توحيد الله ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو: ارتبتم بالبعث بعد الموت، أو: ارتبتم في قول الله سبحانه وتعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]، ووعده بنصر المؤمنين أو بجميع ذلك من الأشياء المذكورة، سواء التوحيد أو النبوة أو البعث أو وعد الله بنصر دينه على الدين كله.
((وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ))، أي: طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار، أو قولهم: {سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169].
((حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ))، يعني: الموت أو: حتى جاء مصداق وعده بنصره للنبي صلى الله عليه وسلم وإظهار دينه، أو: حتى جاء أمر الله بعذاب النار.
((وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ))، أي: الشيطان الذي مناكم بالفوز والغلبة.
((فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا))، هذا من تتمة قول المؤمنين للمنافقين بعد أن ميز بينهم، أي: ذلك اليوم لا يقبل منكم ما يفتدى به بدلاً من عذابكم وعوضاً من عقابكم.
((وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) الذين جهروا بالكفر من المحادين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
((مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ))، أي: هي أولى بكم، أو: تتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا.
((وَبِئْسَ الْمَصِيرُ))، أي: النار.(157/8)
تفسير سورة الحديد [18 - 24](158/1)
تفسير قوله تعالى: (إن المصدقين والمصدقات)
يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:18 - 19]، أي: لهم ذلك لتصديقهم بجميع أخبار الله وأحكامه، وشهادتهم بحقية جميع ذلك، فكأن الإشارة هنا إلى نوع واحد، فتكون الواو هنا واو العطف، فكأنه إخبار عن الذين آمنوا أنهم هم أنفسهم صديقون وهم أيضاً الشهداء.
يعني: أن المؤمنين يجمعون بين أمرين.
وقوله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ))، هم صديقون؛ لتصديقهم بجميع أخبار الله وأحكامه.
((وَالشُّهَدَاءُ))، وأيضاً هم أنفسهم الشهداء؛ لشهادتهم بأحقية جميع ذلك، يعني: أحقية أخبار الله وأحكامه.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وقد جوز في الشهداء وجهان: أحدهما: أن يكون معطوفاً على ما قبله، أخبر عن الذين آمنوا أنهم صديقون شهداء، وهو الظاهر؛ لأن الأصل الوصل لا التفكيك.
فالأصل في الكلام أنه معطوف ومرتبط ببعضه؛ لأننا إذا قلنا بالقول الثاني -كما سيأتي- فيقتضي ذلك تفكيك الكلام، وهذا خلاف الأصل.
إذاً: الوجه الأول في الشهداء: أن يكون معطوفاً على ما قبله، أي: أنه أخبر عن الذين آمنوا أنهم صديقون شهداء، وهو الظاهر؛ لأن الأصل الوصل لا التفكيك.
الوجه الثاني: أن يكون قوله: ((وَالشُّهَدَاءُ)) مبتدأً، وخبره ((لَهُمْ أَجْرُهُمْ)).
والشهداء حينئذ هم الأنبياء الذين يشهدون على قومهم بالتبليغ، أو الذين يشهدون للأنبياء على قومهم؛ لأن الشهداء لهم وظيفة ثانية، أو أن الشهداء هم الذين قتلوا في سبيل الله عز وجل.
واختار الوجه الثاني ابن جرير رحمه الله تعالى.
قال ابن جرير: لأن الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم شهيد لا بمعنىً غيره، إلا أن يراد به شهيد على ما آمن به وصدقه، فيكون ذلك وجهاً وإن كان فيه بعض البعد.
يعني: أن ابن جرير يرى أن الراجح أن يكون قوله: ((وَالشُّهَدَاءُ)) مبتدأً، ولا تكون الواو واو عطف.
قال: لأن الوصف بمجرد الإيمان لا يستلزم وصف الشهادة، يعني: ليس كل من استحق اسم الإيمان يستحق أن يوصف بأنه شهيد، إلا أن يكون شهيداً على ما آمن به وصدقه، فقوله: ((وَالشُّهَدَاءُ))، يعني: على أن ما آمنوا به هو حق من عند الله تبارك وتعالى، وهذا احتمال، لكن فيه بعض البعد على قول الإمام ابن جرير؛ لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه إذا أطلق بغير وصف، كقوله: {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، فهنا أطلق الشهداء بدون وصف.
فتأويل قوله: ((وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ))، أي: والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، لهم ثواب الله في الآخرة.(158/2)
كلام ابن القيم على آية: (والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون)
يقول القاسمي: ثم رأيت لـ ابن القيم في طريق الهجرتين نصاً لهذين الوجهين في بحث الصديقية، حيث قال رحمه الله في: مراتب المكلفين في الآخرة وطبقاتهم: المرتبة الرابعة: ورثة الرسل وخلفائهم من أممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملاً، ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة.
ولهذا قرنهم الله سبحانه وتعالى في كتابه بالأنبياء فقال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة، وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون في العلم، وهم الوسائط بين الرسول وأمته.
بمعنى: أن العلماء الربانيين العاملين الذين يتصفون بمرتبة الصديقية هم الذين يخلفون الرسول في إقامة الحجة وتبليغ الدين إلى أمتهم.
فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه، وهم الذين لا يزالون على الحق، ولا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
وقوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19].
يقول ابن القيم: الوقف على قوله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ))، ثم يبتدأ: ((وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ))، فيكون الكلام جملتين، أخبر في إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون، والإيمان التام يستلزم العلم والعمل؛ لأنهم إذا آمنوا بالله ورسله الإيمان التام الكامل فإن هذا يستلزم أنهم عالمون عاملون داعون إلى الله سبحانه وتعالى، والإيمان التام يستلزم العلم والإيمان والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه.
وأخبر في الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء؛ ولهذا قدمهم عليهم في الآيتين.
يعني: أنه هنا في سورة الحديد وفي سورة النساء قدم الصديقين على الشهداء.
وهكذا جاء ذكرهم مقدماً على الشهداء في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صعد جبل أحد، وكان معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فتزلزل الجبل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اثبت أحد؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيد)، ولهذا كان نعت الصديقية وصفاً لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتاً له رضي الله تعالى عنه، لكن الواقع أن أفضل وصف وأفضل مرتبة بعد مرتبة النبوة مباشرة هي مرتبة الصديقية، وأفضل الصديقين على الإطلاق هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه.
وقيل: إن الكلام جملة واحدة، أي: أخبر عن المؤمنين أنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم، وعلى هذا: فالشهداء هم الذين يستشهدهم الله على الناس يوم القيامة، كما في قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، فوصفهم بأنهم صديقون في الدنيا وشهداء على الناس يوم القيامة، فهو إخبار عن الذين آمنوا بالله ورسله بأنهم في الدنيا هم الصديقون، وفي الآخرة هم الشهداء عند ربهم، يعني: أنهم في الآخرة سيكونون شهداء على أن الرسل بلغوا أممهم، فيكون الشهداء وصفاً لجملة المؤمنين الصديقين.
وقيل: (والشهداء): هم الذين قتلوا في سبيل الله، وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين، ويكون قوله تعالى: ((وَالشُّهَدَاءُ))، مبتدأً خبره ما بعده؛ لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيداً في سبيل الله، ويرجحه أيضاً: أنه لو كان (الشهداء) داخلاً في جملة الخبر لكان قوله: ((لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ))، داخلاً أيضاً في جملة الخبر عنهم، ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء: أحدها: أنهم -أي: المؤمنون- هم الصديقون.
الثاني: أنهم هم الشهداء.
والثالث: أن لهم أجرهم ونورهم، وذلك يتضمن عطف الخبر الثاني على الأول، ثم ذكر الخبر الثالث مدرجاً بدون عطف.
وهذا كما تقول: زيد كريم وعالم له مال، كذلك قال هنا: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ)) كقولك: زيد كريم وعالم، ثم قال: ((عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)).
فهنا عطف الثانية على الأولى، وأتى بالثالثة بدون عطف.
يقول ابن القيم: والأحسن في هذا تناسب الأخبار؛ بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعاً، فتأمله.
فيستبعد ابن القيم رحمه الله تعالى احتمال العطف هنا؛ لأنه لو كان بالعطف سيبقى مثل قولنا: زيد كريم وعالم له مال، والأنسب أن تقول: زيد كريم عالم له مال، أو تقول: زيد كريم وعالم وله مال.
أما ذكر الخبر الثالث مجرداً عن العطف فإنه يكون قولاً مرجوحاً بالنسبة لما ذكرناه.
يقول ابن القيم: ويرجحه أيضاً: أن الكلام يصير جملاً مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء وهم الصديقون والشهداء والصالحون.
وهذا الكلام من هذا الإمام من الدقائق الرائعة الرائقة النفيسة.
يعني: أنه يذكر هنا مرجحات كون كل جملة مستقلة، وأنه لا عطف.
وإذا قلنا: إن قوله تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ)) [الحديد: 19]، يصبح هنا الكلام انتهى عن الصنف الأول من أصناف السعداء، وهم الأنبياء، ثم تكلم على الصنف الثاني من أصناف السعداء، وهم الصديقون؛ لأن الصنف الأول هم الأنبياء، وقد ذكروا في نفس السورة في موضع آخر.
فذكر من أصناف السعداء الصديقين، ثم عطف عليهم نوعاً آخر مغايراً؛ لأن الواو تقتضي المغايرة.
ويرجح احتمال عدم العطف: أن الكلام يصير جملاً مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء، وهم الصديقون والشهداء والصالحون، وهم المذكورون في الآية، وهم الذين أقرضوا الله قرضاً حسناً.
ثم ذكر الرسل في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد:25]، فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكورة في سورة النساء؛ ففي سورة النساء قال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69].(158/3)
أصناف الناس وموقف الخوارج والمعتزلة من عصاة الموحدين
يقول ابن القيم: ثم ذكر تعالى الأشقياء، وهم نوعان: كفار ومنافقون، فقال: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا))، هؤلاء هم الكفار.
وقد ذكر المنافقين في قوله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} [الحديد:13]، فهؤلاء هم أصناف العالم كلهم.
يقول: وترك سبحانه ذكر المخلط صاحب الشائبتين، على طريق القرآن في ذكر السعداء والأشقياء دون المخلطين غالباً؛ لسر اقتضته حكمته تبارك وتعالى، فليحذر صاحب التخليط؛ فإنه لا ضمان له على الله.
وإذا تأملنا القرآن نجد أنه دائماً يذكر السعداء والأشقياء، والمؤمنين والكفار، والمؤمنين والمنافقين، وهكذا.
أما المخلطون فإن القرآن الكريم يترك ذكرهم غالباً، كما يقول ابن القيم: لسر اقتضته حكمة الله تبارك وتعالى، وهذا السر يحاول أن يبينه بقوله: فليحذر صاحب التخليط؛ فإنه لا ضمان له على الله.
بخلاف المؤمن، والصديق، والشهيد، والصالح، أي: الذي لا يخلط، فالنصوص واضحة تماماً في أن له ضماناً عند الله سبحانه وتعالى بأنه يثيبه على ذلك.
يقول: فليحذر صاحب التخليط؛ فإنه لا ضمان له على الله، ولا هو من أهل وعده المطلق، ولا ييأس من روح الله؛ فإنه ليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب، ولكنه بين الجنة والنار واقف بين الوعد والوعيد؛ كل منهما يدعوه إلى موجبه؛ لأنه أتى بسببه.
أي: أنه أتى بموجب الوعد؛ لأنه وحد الله سبحانه وتعالى، وأتى بموجب الوعيد؛ لأنه عصى الله، فهو بين الوعد والوعيد لا ضمان له في أي الفريقين يلحق.
وهذا هو الذي لحظه المعتزلة القائلون بالمنزلة بين المنزلتين.
فالمعتزلة قالوا: إن الفاسق الملي -يعني: العاصي- في منزلة بين المنزلتين.
وهم خالفوا الخوارج، فالخوارج قالوا: إن العاصي كافر.
والفرق بينهم أن المعتزلة يقولون: نحن لا نقول: مؤمن ولا كافر، لكنه في منزلة بين المنزلتين.
لكن في الآخرة كلاهما متفق على الاعتقاد بأنه يخلد ولا يكون إلا في جهنم مع الكفار.
ونفس الفكرة كان يقول بها جماعة التوقف، فعندهم أن الإنسان مسلم مؤمن، أو كافر، أو متوقف فيه، فهم أعادوا من جديد صيحة: المنزلة بين المنزلتين، إلا أن ابن القيم رحمه الله تعالى يقول: إن كلمة: المنزلة بين المنزلتين يمكن أن نستعملها في حق المخلط الذي يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، لكنهم غلطوا في تخليده في النار.
ولو نزلوه منزلة بين المنزلتين، ووكلوه إلى المشيئة لأصابوا.
قال القاسمي: انتهى كلام ابن القيم، وفيه موافقة لما اختاره ابن جرير رحمه الله تعالى في الآية.
يعني: أنهم نزلوه في منزلة بين المنزلتين، كما عبر عنها علماء العقيدة كالإمام الطحاوي في قوله: إننا نرجو للمحسن من المؤمنين، ونخاف على المسيء، ولا نقطع لمسلم بجنة ولا نقطع لمسيء بالنار.
فهذا معنى المنزلة بين المنزلتين فيما يتعلق بالآخرة، أما في دار الدنيا: فما دام يؤمن بالإسلام فله أحكام الإسلام الظاهرة، كما بينا ذلك.
ولما ذكر تعالى السعداء ومآلهم عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم بقوله: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)).(158/4)
تفسير قوله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر)
قال الله عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
قوله: ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ))، يعني: تفريح، ((وَلَهْوٌ)) يعني: باطل.
((وَزِينَةٌ)) أي: منظر حسن.
((وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ)) أي: في الحسب والنسب.
((وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ))، أي: كمثل مطر.
((أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ))، يعني بالكفار هنا الزراع؛ لأنهم يكفرون البذر والحب داخل أرضه، والكفر بمعنى الستر والتغطية كما في قوله تعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، يعني: يعجب الزراع أن الزرع نما، فيغيظ الكفار أن الجذور ما نمت، فكذلك قوله هنا: ((كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ))، أي: الزراع، يعني: أن الزارع يزرع الحب، فإذا رأى نباتاً مزدهراً مثمراً لا شك أنه يعجبه، كما قال سبحانه: ((أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ))، أي: أن هذا الزرع يهيج، يعني: يجف بعد خضرته ونضرته.
وقوله: ((فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا))، أي: من اليبس، ((ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا))، أي: هشيماً متكسراً، وكذلك الدنيا لا تبقى كما لا يبقى النبات.
وقوله: ((وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ))، أي: لمن ترك طاعة الله، ومنع حق الله.
وقوله: ((وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ))، أي: في الآخرة لمن أطاع الله، وأدى حق الله من ماله.
وقوله: ((وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ))، قال المهايمي: يأخذ صاحبها ملاعب الدنيا بدل ملاعب الحور العين، ولهوها بملاذ الجنة، وزينتها بزينة الجنة، والتفاخر بدل التفاخر بجوار الله والقرب منه، والتكاثر بالأموال والأولاد بدل نعم الله والولدان المخلدين في الجنة.(158/5)
تفسير قوله تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها)
قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
ولما حقر الحياة الحسية النفسية الفانية وصورها في صورة الحقراء السريعة الانقباض دعا إلى الحياة الباقية، فقال عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]، أي: بادروا بالتوبة من ذنوبكم إلى نيل مغفرة وتجاوز عن خطيئاتكم من ربكم.
والعلماء يقولون: إن تأخير التوبة ذنب يجب التوبة منه، فالتوبة تجب على الإنسان في كل لحظة، وفي كل نفس، بل الإنسان مطالب بها في الحال، وقد دلت على ذلك نصوص كثيرة من القرآن والسنة كلها تحث على المسارعة والمبادرة والمسابقة إلى التوبة، فقال هنا: ((سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ))، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وقال تبارك وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50].
إذاً: لا ينبغي تأخير وتسويف التوبة، كقول الإنسان: سوف أتوب، وسوف أصلي، ومن أول يوم السبت سأفعل كذا، أو يقول: سوف أعتمر عمرة أو أحج ومن بعدها سأستقيم، أو نحو ذلك.
فينبغي أن يشاع بين الناس هذا المعنى، وهو أن تأخير التوبة في حد ذاته ذنب جديد، يجب التوبة منه على الفور، وهذه هي عبارة الإمام ابن القيم في مدارج السالكين في الجزء الأول حينما فصل في أحكام التوبة حيث قال: تأخير التوبة أو تسويف التوبة ذنب يجب التوبة منه.
وقوله: ((أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)) يعني: الإيمان اليقيني، ((ذَلِكَ)) يعني: المغفرة والجنة، ((فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)) أي: ممن كان أهلاً له.
((وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)) أي: بما بسط لخلقه من الرزق في الدنيا، ووهب لهم من النعم، وعرفهم موضع الشكر، ثم جزاهم في الآخرة على الطاعة ما وصف أنه أعده لهم.
((ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)).(158/6)
تفسير قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم)
قال تبارك وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].
((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ))، أي: من قحط وجدب وبلاء وغلاء ومرض ونحو ذلك.
((وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ)) من خوف ومرض وموت أهل أو ولد أو ذهاب مال.
وقوله: ((إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا))، يعني: إلا في علم أزلي من قبل خلق المصيبة أو الأنفس، وما علم الله كونه فلابد من حصوله، وبلا شك أن هذا من أعظم ما يفرق بين المؤمن وغيره، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، فالمؤمن عنده ثبات عند البلاء واحتساب عند المصيبة، وهذا من آثار الإيمان بالقدر السابق، كما قال تعالى: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58]، ولذلك طالما يتعزى العلماء والصالحون في بلائهم بهذا الأمر، ومن ذلك أن أحد العلماء سلخه العبيديون الفاطميون لما أبى أن يفتي بالفطر من رضمان اعتماداً على الحساب الفلكي كما هو العيد؛ لأنهم كانوا يعتدون للعيد بالحساب الفلكي، وليس برؤية الهلال، وهذا هو مذهب الباطنية الملاحدة، فقال: لا أتحمل وزر تفطير الناس؛ لأنه لم تظهر الرؤية الشرعية، وإنما أنتم تعتمدون على الحساب، فألح عليه الفاطمية بأن يفعل ذلك فأبى، فأتوا برجل يهودي يسلخ جلده وهو حي، فسلخ كل بشرة رأسه، حتى إذا وصل إلى قلبه رق له اليهودي وهو يسلخ جلده، وجعل العالم يقول: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58]، ويردد هذه الآية، يعزي نفسه بأن هذا قدر سابق ولا يمكن أن يحصل شيء مخالف لما سبقت به المقادير، وهذا من أعظم ما يصبّر المؤمن عند البلاء؛ لذلك تجد المؤمن يتميز تماماً عن الكافر في هذا.
وحكي أن أحد الإخوة الملتزمين كان في حادث اختطاف الطائرة الجابرية التي حصلت في الكويت منذ سنوات طويلة، فكان هذا الرجل في الطائرة وقد اختطفت، والذين فيها مهددون بالقتل كلهم، فكان إلى جواره رجل أمريكي ساحر، والناس كانوا في حالة فزع شديد؛ لأنهم يخافون أن يقتلوا ويؤخذوا رهائن، فينتهي بهم الأمر إلى تفجير الطائرة، فكان الأخ في غاية الثبات، وكأنما يستغيث بالله، ويدعو الله سبحانه وتعالى، ويذكر الله، وظهر عليه الرضا بما يقدره الله، وكان الناس في حالة فزع وهلع وصراخ فتعجب الأمريكي جداً، ولفت نظره حال هذا الأخ، فلم يطق أن يسكت، فقال للأخ: ما بالك لا تخف كما يفعل الناس؟ وما بالي أراك ساكناً ثابتاً مستقراً هادئاً، تذكر الله سبحانه وتعالى؟ فقال له: أنا مسلم، وأنا أؤمن بأن كل شيء يجري بقدر الله عز وجل؛ ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، فأنا راضٍ بقدر الله، ومستعد للقاء الله، فالرجل قال له: إذاً: هذا الإسلام الذي يجعلكم تثبتون عند المحن، ولا شك أنه يكون دين الحق، ثم قال له: نحن لو خرجنا من الطائرة ونجونا فسوف أدخل في الإسلام، لكن للأسف الشديد أن في هذه الحادثة قتل أمريكي واحد كان هو هذا الرجل.
الشاهد: أن هذا يلاحظ جداً في المؤمن، وهذا مما يميز به بين المؤمن بالقضاء والقدر وبين غير المؤمن بذلك، وهذه إحدى ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: أنك تتعزى بأنه مهما كانت هذه المصيبة التي حصلت بك فقد سبق بها القضاء والقدر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف).
فهذه إحدى ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر، وهي ثمرة الثبات عند الابتلاء، فالإنسان لابد أن يراقب هذا، وإذا صادفت شخصاً مبتلىً فتأكد تماماً أن هذا المبتلى حتى لو كان حافظ القرآن كله فإنه يحتاج إلى التذكير، فاذكر هذه الآيات عليه، كقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] وقوله تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا))، إذ لا يستطيع أحد أن يمحو شيئاً مما كتبه الله في اللوح المحفوظ، ولا يمكن أن يحصل هذا كما في الحديث: (رفعت الأقلام وجفت الصحف)، فلا يمكن أن يغير فيها شيء.
وقوله تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ)) (مصيبة) هنا نكرة في سياق النفي، فظاهرها العموم.
((إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا))، يعني: في علمه الأزلي من قبل خلق المصيبة أو الأنفس، وما علم الله كونه فلابد من حصوله، ((إنَّ ذَلِكَ))، أي: حفظه وتقديره على الأنفس، ((عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ))؛ لسعة علمه وإحاطته، فلا يقع الأمر إلا موافقاً لما سبق في علم الله عز وجل.(158/7)
تفسير قوله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم)
يقول تبارك وتعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23].
((لِكَيْلا تَأْسَوْا))، يعني: كي لا تحزنوا.
((عَلَى مَا فَاتَكُمْ))، أي من عافية ورزق ونحوهما، فأي شيء يترتب على أنه فاتك شيء من الأرزاق أو الفسحة ونحو ذلك؟ فالإنسان لا يشتغل بالتحسر على هذا الفائت؛ لأن التحسر لن يعيده.
((وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ))، أي: لا تتبختروا بما آتاكم من نعم الدنيا، والمعنى: أعلمناكم بأنا قد فرغنا من التقدير، فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير، ولا تبديل ولا تغيير، فلا الحزن يدفعه، ولا السرور يجلبه ويجمعه.
قال القاسمي: أي: لتعلموا علماً يقينياً أن ليس لكسبكم وحفظكم وحذركم وحراستكم فيما آتاكم مدخل ولا تأثير، ولا لعجزكم وإيمانكم وغفلتكم وقلة حيلتكم وعدم احترازكم فيما فاتكم مدخل، فلا تحزنوا على فوات خير ونزول شر، ولا تفرحوا بوصول خير وزوال شر؛ إذ كلها مقدرة.
والاحتجاج بالقدر لا يكون إلا في المصائب، فلا تقل: (قدر الله وما شاء فعل) إلا في المصائب التي لا يد منها، كما إذا ابتليت ببلاء أو بمرض أو بفقر، فإن كان هناك مصيبة قدرها الله عليك وامتحنك بها فلك أن تتعزى بالقدر، وتقول: هذا سبق في علم الله، وهذا قضاء سابق من الله سبحانه وتعالى.
أما في المعاصي فلا تقل: (قدر الله وما شاء فعل) إلا إذا علمت أن الله قد عفا عنك، وهذا لا يعلمه أحد إلا آدم، فآدم عليه السلام هو الذي عرف أن الله تاب عليه، كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، فموضوع خطيئة آدم انتهى، إذ قد تاب الله سبحانه وتعالى عليه، أما من عداه فإنه لا يدري ما الله صانع به، فالإنسان في المعاصي يظل على وجل وخوف واستغفار وطلب العفو من الله سبحانه وتعالى إلى أن يموت.
ففي المصائب لك أن تحتج بالقدر، لكن لا تحتج بالقدر في المعائب وفي الذنوب وفي التقصير، بل عليك أن تعاتب نفسك وتظل وجلاً خائفاً من مصيرك عند الله بسبب هذا الذنب.
وقوله: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ))، أي: كل متبختر من شدة الفرح بما آتاه.
وقوله: ((فَخُورٍ))، أي: فخور على الناس بالنعمة التي أعطاه الله إياها؛ لعدم يقينه، ولبعده عن الحق بحب الدنيا واحتجابه بالظلمات عن النور.(158/8)
تفسير قوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل)
قال تعالى: ((الَّذِينَ يَبْخَلُونَ))، يعني: بالإنفاق في سبيل الله؛ لشدة محبة المال.
((وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ))، يعني: لاستيلاء الرذيلة عليهم.
والمقصود: أن لهم وعيداً شديداً؛ لأنهم هم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.
((وَمَنْ يَتَوَلَّ))، أي: يعرض عن ذكر الله وما أمر، ((فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ)) أي: غني عنهم؛ لاستغنائه بذاته.
((الْحَمِيدُ)) لاستقلاله بكماله.
وفي هذا تهديد وإشعار بأن الأمر في الإنفاق هو لمصلحة المنفق، لا لما يعود عليه تعالى، فإنه سبحانه الغني المطلق.
فقوله تبارك وتعالى: ((الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ))، يعني: عن النفقة في سبيل الله، ((فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))، يعني: ومن أقبل فإنه إنما ينفع نفسه، ولن يضر الله شيئاً؛ لأن الله غني عنه، ولا يحتاج منه شيئاً.(158/9)
تفسير سورة الحديد [25 - 29](159/1)
تفسير قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات)
يقول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد:25]، أي: بالحجج والبراهين القاطعة على صحة ما يدعون إليه، فإن الرسل تأتي مؤيدة بالمعجزات والبينات والحجج على صدقهم في دعواهم الرسالة.
((وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ))، أي: التام في الحكم والأحكام.
((وَالْمِيزَانَ))، أي: العدل، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما.
قال ابن كثير: وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة.
((لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ))، أي: بالحق والعدل، وهو اتباع الرسل فيما أمروا به، وتصديقهم فيما أخبروا عنه، فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، فالتنزيل عبارة عن خبر وحكم، أما أخباره فكلها صدق، وأما أحكامه فكلها عدل.
فقوله تعالى: ((لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ))، إشارة إلى أن الحق والعدل لا يمكن أن يكونا فيما يخالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما زين شياطين الإنس دعاواهم بافتراءاتهم الظالمة فيما يوشوش به بعض الشياطين مما يسمونه بحقوق الإنسان أحياناً، ويحاولون إظهار الإسلام كأنه عدو لحقوق الإنسان، وأن العقوبات الشرعية عقوبات وحشية وصارمة إلى آخر هذا الإلحاد! وهذا كفر، ولا يصدر إلا ممن لا يؤمن بمثل هذا الوصف لكتاب الله تبارك وتعالى.
والناس لا يمكن أن يقوموا بالقسط ولا يمكن أن يتحقق بينهم العدل إلا بتطبيق شرع الله تبارك وتعالى؛ ولذلك قال تعالى بعدما ذكر الحدود الشرعية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45]، لأن هذا هو الحد، ثم قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، ففي هذه بالذات وصفهم بالظلم؛ لأن هذا مما يخالف العدل، فالحدود هي العدل، والقصاص فيه المعاملة بالمثل، فمن اعتدى على أرواح الناس وقتل يقتل، ومن قطع أذن غيره تقطع أذنه، فليس لهذا حرمة أعظم من حرمة ذاك، فهذا مقتضى العدل بين الناس؛ فلذلك نقول قطعاً وجزماً: إن كل من يحكم بخلاف شرع الله فهو ظالم مهما وسوس له إخوانه من شياطين الإنس أو الجن بأن هذا هو العدل.
ونقول: كل العدل في كتاب الله تبارك وتعالى.
ويقول تعالى: ((وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ))، يعني: أن هذا الحديد هو الآلة المهمة والأساسية في صناعة أدوات القتال، سواء في القديم أو في الحديث، فقوله: ((فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ))، يعني: القتال به، فإن آلات الحروب متخذة منه.
((وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ))، أي: في مصالحهم ومعايشهم، فما من صناعة إلا وللحديد يد فيها.
فإن قيل: هذه الجمل المتعاطفة لابد فيها من المناسبة؛ ولكن أين هي المناسبة بين قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، وقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}؟ ف
الجواب
أن بينهما مناسبة تامة؛ لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا حتى تنال السعادة في الأخرى، فمن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة، وكذلك من أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم، ومن تمرد وطغى ضرب بالحديد الراد لكل مريد.
فقول الله تبارك وتعالى هنا أولاً: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ))، مع ذكر الحديد فيه إشارة إلى أن العدل في الناس يقوم بأمرين: بالقرآن وبالسلطان، فالناس يدعون بالحجة والبيان، فمن أبى فبالسيف والسنان.
هذا هو المعنى المأخوذ من هذه الآية الكريمة.(159/2)
العقوبة على المعاصي بالغفلة
فالإنسان لا يمكن أبداً أن يجد السعادة في غير شرع الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أبداً أن يوجد إنسان على وجه الأرض ينحرف عما أنزل الله على رسوله عليه الصلاة والسلام من البينات والهدى ويعيش سعيداً بل يحرم من السعادة، ويقاسي التعاسة بقدر بعده عن دين الله.
وحالة الغفلة هي أشد ما يعاقب الله سبحانه وتعالى به عبداً من العبيد، حيث إنه يعاقب وهو لا يحس بأنه يعاقب؛ لأن العقوبات الشرعية كثيرة، فهناك عقوبات كونية قدرية كالزلازل والخسف والأمراض والأوبئة ونحو ذلك.
وهناك عقوبات شرعية كقطع اليد والرجم والجلد ونحو ذلك.
ويوجد نوع آخر من العقوبات وهو تسليط الغفلة على الخلق، ودليله قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، هنا نسي بمعنى ترك.
وقال سبحانه: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19].
وقال عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]، وهذه هي أشد أنواع العقوبات؛ لأن الإنسان يُستدرج حينما يفتح الله عليه، فكلما زاد كفراً وعتواً زاده الله من النعم فتنة له واستدراجاً، كما قال تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام:44]، فالله سبحانه وتعالى يمهل ويملي للظالم، وكلما تمادى في المعاصي وفي الكفر وفي البعد عن الله زاد ما يستحقه من العذاب، كما قال تبارك وتعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178].
وقال تبارك وتعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56]، فهي أشد أنواع العقوبات؛ لأن مثل هذا لا يرجى له توبة إن لم يوفقه الله؛ لأنه يرى عمله صواباً، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8].
فليحذر الإنسان من هذه العقوبة، فأشد أنواع العقوبة أن يفقد الإنسان الإحساس بأنه معاقب، وهذا بخلاف الشخص الذي يشعر ويقول: إن الله ابتلاني بالذنب الذي فعلته، وامتحنني بالمرض بسبب المعاصي، فهذا الشخص كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمن)، بمعنى: أن مثل هذا الإنسان لا زال فيه روح وإحساس، ومعناه أنه قد يستدرك ويفتح صفحة جديدة ويتوب، لكن الميت إذا وخزته وقطعته بالسيف فإنه لا يتألم؛ فما لجرح بميت إيلام.
ففقدان الإحساس علامة خطر، وهذا هو حال الكفار والعياذ بالله! لأنهم لا يحسون بأنهم يعاقبون، فبالتالي يتمادى أحدهم ويلهو في الدنيا حتى تفوت فرصته، ويموت دون أن يتوب؛ لأنه زين له سوء عمله فرآه حسناً، فيرى أن هذه هي السعادة، مع أنه أبعد ما يكون عن شرع الله تبارك وتعالى، لكن السعادة الحقيقية هي في موافقة شرع الله سبحانه وتعالى، فمن أراد اختصار طريق السعادة فليمش على نور الوحي، ولا ينشغل بفلسفات ولا ببحوث، ولا يلتفت لكلام ووساوس الشياطين، وإنما عليه أن يستقيم على طاعة الله، هذا هو أخصر طريق يؤدي إلى السعادة في الدارين.(159/3)
مناسبة عطف إنزال الحديد على ما قبله
يقول: فإن قيل: الجمل المتعاطفة لابد فيها من المناسبة، وأين هي في إنزال الحديد مع ما قبله؟ ف
الجواب
أن بينهما مناسبة تامة؛ لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا، حتى ينال السعادة في الأخرى، ومن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة، ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم، أما من تمرد وطغى وقسى فيضرب بالحديد الراد لكل مريد، وإلى الأولين أشار بقوله: ((وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ))، هذه للناس الذين عندهم عقول، ويعملون عقولهم، ويتدبرون في الحجج والبينات، فجمعهم وأتباعهم في جملة واحدة، حيث جمع العقلاء ومن وافقهم من العامة على الخير، فأشار إليهم بقوله: ((وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)).
وخلاف ذلك فالجبار العنيد الطاغي القاسي القلب لا ينفعه إلا التأديب بالحديد، فقال تبارك وتعالى: ((وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ))، فكأنه قال: أنزلنا ما يهتدي به الخواص وما يهتدي به أتباعهم، وما يهتدي به من لم يتبعهم، فهي حينئذ معطوفة.
قال العتبي في أول تاريخه: كان يحتمل في صدري أن في الجمع بين الكتاب والميزان والحديد تنافراً، وسألت عنه فلم أحصل على ما يزيل العلة وينقى الغلة، حتى أعملت التفكر فوجدت الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية، يتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد حذر فيه التعادي والتظالم، ودفع التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة.
يعني: أن مجرد الوعظ بالأوامر والنواهي الشرعية لا يكفي في إصلاح حال الناس؛ إذ ليس كل الناس ينزجرون بالأدلة الشرعية، وبسلطان الشرع، ولذا فلابد من السلطان مع الحكم، وهذا ليس فقط في الإسلام، بل في كل النظم، يعني: لو أن دولة تريد أن تنفذ قوانينها بالمواعظ والكلام الرقيق والنظيف، والبيان أن هذا صحيح وهذا خطأ، وهيئة المرور تعمل كذا، وهيئة كذا تفعل كذا، فهل يستقيم حال الناس؟
الجواب
لا؛ فمن الناس من يعمل عقله ويستجيب للحجج والبينات، ومنهم من ليس كذلك، وإنما هو مثل المسمار، ولا يمشي إلا إذا كنت تضربه على رأسه كعبد السوء، فإذا صفعته على رأسه بالقوة فإنه يمشي، ومن دون ذلك لا يتحرك، فمن الناس من يقيمه الحجة والبيان، ومنهم لا يقيمه إلا السيف والسنان.
يقول: حتى أعملت الفكر فوجدت الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية يتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد خطر فيه التعادي والتظالم، ودفع التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة؛ فلذا جمع الكتاب والميزان.
وإنما تحفظه العامة على اتباعها بالسيف وجدوة عقابه، وقوة عذابه، وهو الحديد الذي وصفه الله بالبأس الشديد، فجمع بالقول الوجيز معاني كثيرة الشعوب، متباينة الجنوب، محكمة المطالع، مقومة المبادئ والمقاطع.
قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، أي: أنه يستعمل في القتال، وأنه آله السلطان؛ كي يقهر من لا يقتنع بالحجة والبيان بالسيف والسنان.
وقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}، أي: باستعمال الحديد في مجاهدة أعدائه، عطف على محذوف دل عليه ما قبله، يعني: أنزله ليعلم.
وقلنا: إن قوله تعالى: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ))، المقصود به: ليعلم علم شهادة، أما علم الغيب فلا شك أن الله يعلم ذلك منذ الأزل.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ}، أي: على إهلاك من أراد إهلاكه، {عَزِيزٌ}، أي: غالب قاهر لمن شاء.(159/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم)
يقول تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:26].
خص بالذكر الأبوين: الأب الأول وهو نوح عليه السلام؛ لأنه الأب الثاني للبشرية بعد آدم عليه السلام، والأب الثاني هو إبراهيم عليه السلام؛ لأنه أبو الأنبياء، فإبراهيم عليه السلام ما أتى نبي بعده إلا من صلبه.
فقوله: ((وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ))، يعني: ذرية الأنبياء بعد نوح، ولا شك أن الأنبياء بعد نوح كانوا من ذرية نوح، والأنبياء بعد إبراهيم كانوا من ذرية إبراهيم عليهما السلام.
وقوله: ((فَمِنْهُمْ))، أي: من الذرية، {مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، أي: خارجون عن طاعته؛ بترك نصوص كتبه وتحريفها، وتقديم آراء الأحبار والرهبان عليها، واقتراف ما نهوا عنه.(159/5)
تفسير قوله تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا)
قال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:27].
{ثُمَّ قَفَّيْنَا} أي: أتبعنا، {عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}، أي: حناناً ورقة على الخلق؛ لكثرة ما وصى به عيسى عليه السلام من الشفقة وهضم النفس والمحبة.
وأما إعراب رهبانية في قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّة ًابْتَدَعُوهَا} ففيها قولان: القول الأول: أنها معطوفة على ما قبلها، أي: على رحمة، ورحمة معطوفة على رأفة.
القول الثاني: أن الكلام ينتهي عند قوله: ((وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً))، ثم تبدأ الكلام وتقول: {وَرَهْبَانِيَّة ًابْتَدَعُوهَا}، فيكون معناها: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، فتكون مفعولاً به لفعل محذوف تقديره: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها.
وإذا قلنا بالقول الأول: وهو أن رهبانية معطوفة على رحمة، ورحمة معطوفة على رأفة، فالمعنى أن الذي جعل الرأفة والرحمة والرهبانية هو الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا فمن أي قسمي الجعل يكون قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا))؟
الجواب
يكون من الجعل القدري؛ لأن الرهبانية مذمومة عند الله سبحانه وتعالى، وهي بدعة وضلالة ومصادمة للفطرة، حتى لو قلنا: إن الله هو الذي جعل في قلوبهم جانب الرأفة والرحمة.
والجعل الكوني القدري يمكن أن يكون شيئاً مما يبغضه الله، لكن يشاؤه كوناً وقدراً، ولا يأمر به ولا يحبه ولا يرضى بهذا الفعل.
وأما على القول الثاني فيكون الجعل هنا شرعياً إرادياً؛ لأن الرأفة والرحمة مما يحبه الله ويأمر بها.
قوله تعالى: ((وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً))، ونقف هنا، فالمعنى: أن الله سبحانه وتعالى خص قلوب الذين اتبعوا عيسى عليه السلام بالرأفة والرحمة.
ولا يفهم من ذلك أن هذا مدح للكفار الذين ألهوا المسيح أو عبدوه، حيث جعلوه إلهاً أو ابن الله أو نحو ذلك؛ لأن هؤلاء ليسوا أتباع المسيح، بل هم أعداء المسيح عليه السلام، كما قال تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، أي: من المسلمين؛ لأنهم هم الذين اتبعوا المسيح عليه السلام.(159/6)
بعض خصائص دعوة المسيح عليه السلام
قوله: ((وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً))، هذا مدح للذين اتبعوا المسيح على دين الإسلام الذي جاء به.
وهذه من خصائص رسالة المسيح عليه السلام أنه غلب عليها جانب الزهد، والرقة، واللطف، والمسامحة ونحو ذلك.
والمسيح جاء برسالة مكملة لما جاء في التوراة.(159/7)
الرهبانية بدعة نصرانية لا شريعة سماوية
وعلى القول بالوقف عند كلمة: ((وَرَحْمَةً))، فقوله: ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا))، يعني: أنهم هم الذين ابتدعوها، ونحن ما أمرناها بهم، ولا كلفناهم، وليس ذلك من شرعنا.
فقوله: ((مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ))، أي أنها من ابتداعهم، وليست شرعاً شرعه الله لهم.
وقوله تعالى: ((إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ))، قد يحصل إشكال ثانٍ عند بعض الناس؛ حيث قد يفهم منها الشخص العادي الغير متخصص أن الله ما كتب الرهبانية إلا ليبتغوا بها رضوان الله، وهذا ليس صحيحاً؛ لأنه بين أنهم الذين ابتدعوها، وليس لها أصل شرعي من عند الله، فيبقى الجواب عليه أن نقول: إن الاستثناء في قوله: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} استثناء منقطع، كما قال تبارك وتعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف:16]، فإنهم لا يعبدون الله، بل هم اعتزلوا عبادة الله، لكن الاستثناء المنقطع تأتي فيه (إلا) بمعنى (لكن)، فيكون معنى الآية: وابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم؛ لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله.
وقد وضح هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه المبارك (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)، فله فيه بحث وافٍ في تفسير هذه الآية الكريمة.(159/8)
المقصود بالذين اتبعوا عيسى
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً)): حناناً ورقة على الخلق؛ لكثرة ما وصى به عيسى عليه السلام من الشفقة وهضم النفس والمحبة.
وهذه كما قلنا هي في الذين اتبعوه على دين الإسلام والتوحيد، فلا يقال: إن القرآن مدح الوحوش الصربية الذين فعلوا بالمسلمين الأفاعيل، والذين لا يعرفون الرقة والرحمة، أو أصحاب المذابح التي كانت في لبنان، أو المذابح التي حصلت في جزر الملوك في أندونيسيا على يد الصليبيين، من ذبح المسلمين وإحراقهم، فأين هي الرأفة والرحمة من هؤلاء؟ وأين الرأفة والرحمة التي كان يمارسها الأوربيون الأمريكان والكنديون في الصومال في حملة بعث الأمل أو إحياء الأمل، حينما كان يتسلى الجنود بأنهم يأتون بالأخ الصومالي ويشووه على النار وهو حي، ثم يضحكون ويمرحون ويتسلون بآلامه وصراخه؟! فهؤلاء لا يقتدون بالمسيح عليه السلام ولا بدعوته، إنما المقصود هنا الذين اتبعوه من المسلمين، أما الكافر فكيف نقول: إن في قلبه رأفة ورحمة، واسألوا محاكم التفتيش في الأندلس: ماذا فعلوا في المسلمين؟! واسألوا البعوث الصليبية وما فعلوه في فلسطين لما دخلوا القدس وجرت الأنهار من الدماء، فكلام الرقة والرأفة والرحمة مع هؤلاء الناس ومداهنتهم بآيات القرآن مما لا يجوز؛ لأن قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً)) إنما هو في اتبعوا المسيح على الإسلام وعلى الدين الحق.
وكان في عهد المسيح عليه السلام أمتان عظيمتا القسوة والشدة: اليهود والرومان، فالمسيح عليه السلام عانى من هاتين الأمتين اللتين هما من أشد الأمم قسوة وبطشاً: اليهود لعنهم الله، والرومان أيضاً لعنهم الله، والرومان كانوا أشد قسوة؛ لأن اليهود على الأقل كانوا كتابيين، لكن الرومان كانوا وثنيين.
وقد كان لهم أساليب في تعذيب النوع البشري، ومنها تكليف الوحوش المفترسة بالانقضاض على من يريدون تعذيبه، وكانوا يربونها لذلك، وهذا معروف ومشهور؛ حيث إنهم كانوا يأتون إلى الساحات العامة، ويأتون بأسود جائعة ويسلطونها على من يريدون تعذيبه!! وصبغ الأسكندرية بالصبغة الرومانية واليونانية من جديد ما هي إلا مسخرة؛ وصبغ المدن الأخرى بالصبغة الفرعونية شيء يؤسف في الحقيقة، فالله المستعان.
أما الوحشية فما زالت موجودة عند الغربيين عموماً، فالغربيون عندهم تلذذ بهذه الأمور الوحشية، فهم يتلذذون جداً بما يحصل في أسبانيا من مصارعة الثيران، ويتسلون إذا قتل الثور الشخص الذي يصارعه، ويقعدون ينظرون ويتلذذون بذلك؛ لأن في نفوسهم حباً لهذا العنف وهذه الوحشية، وهم أخذوا هذه النفسية الأوروبية أو الغربية من جذور الحضارة اليونانية والرومانية، فالعنف والقتل والإحراق والتخريب والتدمير هذا شيء يتلذذون به جداً.
يقول: وكان في عهده أمتان عظيمتا القسوة والشدة: اليهود والرومان، وهؤلاء أشد قسوة وأعظم بطشاً، لاسيما في العقوبات، فقد كان لهم أفانين في تعذيب النوع البشري، ومنها: تسليط الوحوش المفترسة عليه، وتربيتها لذلك، مما جاءت البعثة المسيحية على أثرها وجاهدت في مطاردتها، وصبرت على منازلتها حتى ظهرت عليها بتأييده تعالى ونصره، كما بينه الله عز وجل في آخر سورة الصف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14]، فكانت العاقبة لأتباع المسيح عليه السلام.
فقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}، أي: ما فرضناها عليهم، وإنما التزموها من عند أنفسهم.
وقوله: ((إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ))، استثناء منقطع، أي: ولكنهم ابتدعوها طلب مرضاة الله عنهم.(159/9)
تعريف البدعة
قوله: ((إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ))، إما أن يكون المعنى: ولكنا كتبناها عليهم، أي: كتبنا عليهم أن يبتغوا مرضاة الله باتباع ما شرعه وليس بالبدع الرهبانية.
أو: ما كتبناها عليهم، لكنهم ابتدعوها طلب مرضاة الله تعالى عنهم، وهذا ركن رشيد في تعريف البدعة؛ لأن البدعة لابد أن يكون فيها ابتغاء المبالغة في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، كما يقول العلماء: البدعة هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى، وهذا مما يميز البدعة عن العادة، فالبدعة لابد أن يريد بها المبتدع تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى.(159/10)
سبب عتاب الله للذين ابتدعوا الرهبانية
وقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}، هذا أيضاً قد يلتبس عند بعض الناس، فيقولون: لو كانت الرهبانية مذمومة فكيف عاتبهم الله سبحانه وتعالى على أنهم لم يحترموا قوانين الرهبانية؟ فنقول: هذا من باب إلزامهم بما ألزموا أنفسهم به، كما نقول: إن الذين يتبنون ميثاق حقوق الإنسان لا يلتزمون به، وهكذا الذين يتبنون ما يسمى بالديمقراطية، فإنهم لا يلتزمون بذلك، ونحن نعرف أنها مخالفة للشرع، وأنها في الشرق والشريعة في الغرب، فلا تلاقي بين الديمقراطية التي هي حكم الشعب للشعب، وبين دين الإسلام الذي ينص صراحة على: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57].
ومع ذلك من حقنا أن نلزم هؤلاء القوم بما ادعوه، ونقول لهم: أنتم تؤمنون بالديمقراطية، ويلزم من هذه الديمقراطية كذا وكذا مما تخالفونه! فالإنسان يعاب إذا ألزم نفسه بشيء ثم لم يحترمه، حتى لو كان هذا الشيء خطأً، ومثل هذا يكون أشد قبحاً ممن لم يلزم نفسه به.
والديمقراطية هذه أعظم تشبيه لها أنها مثل صنم العجوة، حيث كان المشركون في الجاهلية يصنعون الصنم من العجوة فإذا جاع الواحد منهم أكله، فعند الحاجة هؤلاء يبتلعون هذه الديمقراطية، والإنسان يسمع في هذا الباب عجباً، وبالذات من تركيا التي تأتي منها أخبار عجيبة جداً، تركيا الممسوخة التي باءت بالسخطتين، كما يقول الشاعر: باء بالسخطتين فلا عشيرته رضيت ولا عنه أرضى العدى تركيا التي تتذلل وتتمسح بأعتاب الغرب، وتتقرب منه بكل ما تستطيع، ومع ذلك يزيدها هذا ذلاً وهواناً واحتقاراً، بل وصل الأمر إلى أن رئيس الوزراء اقترح أن أي موظف حكومي عنده تعاطف مع المتطرفين أو الانفصاليين -يعني: مع الإسلاميين- يفصل من عمله، وكان فاقع اللون من الذل، لدرجة أن رئيس الجمهورية رفض أن يوقع على هذا الأمر، وقال: هذا يتعارض مع حقوق الإنسان! وهذا شيء عجيب جداً! والآن هناك عالم كبير جداً مسئول اسمه: فتح الله جولان يحاكم بتهمة أنه ينوي إقامة حكم إسلامي.
فتهمته أنه ينوي! ولم يصرح أنه سيرتكب هذه الجريمة، فهو يتكلم في كذا وكذا من الأمور العادية جداً، ويحفّظ الناس القرآن، لكنهم قالوا: هذا ينوي! فالتهمة أنه ينوي، وهذا مثل ما في القانون الجنائي، من أنهم يشقون قلوب الناس ويحاسبونهم على النية، فهذا تهمته أنه ينوي إقامة حكم إسلامي، ومن قبل أربكان عندما كان سيمسك رئاسة الوزراء، في الانتخابات عُمل له فخ، وجاء صحفي خبيث يسأله، قال له: بأي قانون تنوي أن تحكم تركيا إذا مكنت من رئاسة الوزراء؟ فلو قال: القانون الإسلامي، فسيعاقب ويحكم عليه بالسجن على الأقل عشر سنوات، ويمنع من ممارسة ما يسمى بحقه السياسي، فتصور بعدما كانت تركيا عاصمة الخلافة بماذا يجيب أربكان؟ قال: أنوي أن أحكم تركيا بالقانون الذي حكمت به يوم كانت سيدة العالم، ولم يقدر أن يقول كلمة: الإسلام، وظل يردد هذه العبارة حتى لا يمسك عليه أحد كلمة الإسلام، فالله المستعان! لقد وصلت الغربة إلى هذا الحد، فهو خائف أن يقول: بالإسلام؛ لأنه سوف يترتب على ذلك عقوبات؛ لكن رد برد دبلوماسي فقال: أنوي أن أحكم تركيا بالقانون الذي حكمت به يوم كانت سيدة العالم، يعني: يوم أن كنا سادة العالم، فالله المستعان! على أي الأحوال فإن الشخص الذي يلزم نفسه بنظام أو بقانون أو بمبدأ، ثم لا يحترم هذا المبدأ الذي ألزم نفسه به، حتى لو كان خطأً، أولى بالتوبيخ؛ وهو مثل صنم العجوة، الذي يؤكل عند الحاجة!(159/11)
استغلال النصارى للناس باسم الرهبانية
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}، أي: ما قاموا بما التزموه منها حق القيام من التزهد والتخلي للعبادة وعلم الكتاب.
يعني: هم ابتدعوا الرهبانية، وأنهم سينعزلون في الصوامع، ويعبدون الله، ويتعلمون ويقرءون، لكنهم اتخذوها آلة للترؤس والسؤدد وإخضاع الشعب لأهوائهم، فمن درس تاريخ أوروبا خاصة في القرون الوسطى المظلمة يجد ذلك جلياً.
وكل قرونهم مظلمة، وبعضها أشد ظلمة من بعض، لكن هكذا جرى العرف بأن القرون الوسطى هي المظلمة، ويأتي الببغاوات الجهلة عندنا هنا ويقولون على المسلمين: يريدون أن يرجعونا إلى العصور الوسطى، وهذا الغبي الجاهل لا يعرف أن العصور الوسطى كانت أبهى عصور المسلمين، لأن هذه العصور الوسطى كانت مظلمة في الغرب، لكن المسلمين ما عرفوا أي عصر مظلم إلا من بعد أن تخلوا عن الإسلام، فليتنا نرجع إلى العصور الوسطى؛ لأننا كنا في العصور الوسطى سادة الدنيا كلها، وكان المسلمون هم الذين يحكمون العالم، ولم يحصل منهم هذا الظلم الذي يحصل الآن حينما يعلو الكافرون.
فهم بدل أن تكون الرهبانية وسيلة للزهد جعلوها عكس ذلك، والثورة التي حصلت في أوروبا كانت موجهة لطائفتين بلغتا من الطغيان مداه: الطائفة الأولى: كانت من القساوسة والرهبانيين، والطائفة الثانية: كانت من الملوك؛ ولذلك كان شعارهم: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس! فعانى الناس طغيان الكنيسة من محاكم التفتيش والتعذيب، ومحاسبة الناس على الخواطر، حيث كانت متسلطة جداً، بل كانت تتسلط على الملوك أنفسهم، ولو أصدر البابا قرار حرمان، فيا ويل الملك! بل قد يلزم الملك أو الإمبراطور أن يأتي حافي الرأس والقدمين، ويتذلل له، ويقبل الأعتاب، ويظل راكعاً أمام البابا حتى يعفو عنه ويزيل قرار الحرمان.
فالشاهد: أنهم عانوا عناءً شديداً من القساوسة والرهبانيين، ولذلك جاء رد الفعل عكسياً، حيث رفضوا هذا الدين وهذا التسلط، ولكن لم يبحثوا عن الدين الحق، وهذا هو الانحراف الشديد الذي حصل في مسيرة الغرب.
فالشاهد: أنه كان هناك تسلط شديد جداً من رجال الكنيسة على الشعب، وإذلال الناس بالضرائب الباهظة والإقطاعات، بل كان الرهبانيون الذين في الصوامع أشهر إقطاعيين، وكانوا يستذلون الناس، ويمتصون أموالهم، ويعذبونهم، ويقيمون محاكم التفتيش والتعذيب والسجن والقهر إلى آخره.
وقوله: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ}، يعني: الذين آمنوا الإيمان الخالص عن شوائب الشرك والابتداع، ومنه الإيمان بمحمد صلوات الله وسلامه عليه المبشر به عندهم، وهم الذين اتبعوا المسيح على دينه الحقيقي.
وقوله: ((وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ))، أي: خارجون عن الإيمان ومقاصده.(159/12)
تعريف الرهبانية
وقد ذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض التنبيهات فقال: التنبيه الأول: الرهبانية هي المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة والتبتل، وأصلها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، والرهبان: بفتح الراء هو الخائف، فعلان: من رهب، كخفيان من خفي.(159/13)
أوجه الذم للذين ابتدعوا الرهبانية
التنبيه الثاني: قال ابن كثير رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}، ذم لهم من وجهين: أحدهما: في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله، أو أن المبتدعين ابتدعوا ما لم يأذن به الله، وهي بدعة الرهبانية.
ثانياً: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه يقربهم إلى الله عز وجل.(159/14)
ذم بعض علماء النصارى لبدعة الرهبنة
التنبيه الثالث: رأيت في كثير من مؤلفات علماء النصارى المتأخرين ذم بدعة الرهبنة، وما كان لتأثيرها في النفوس والأخلاق من المفاسد والأضرار.
ثم ذكر كلاماً لصاحب (ريحانة النفوس) عن هؤلاء النصارى أنهم يشيعون ذلك في الكتاب المقدس، وذكر هذا الرجل أن الرهبانية عادة سرت في النصارى من الهنود الوثنيين الذين كان لهم أنواع كثيرة من العبادات، وهي تأمر كهنتها بالبتولية -عدم الزواج- والامتناع من أكل اللحم، وأمور أخرى مقرونة بخرافات.(159/15)
موقف قساوسة النصارى من المرأة وأثر ذلك على البيئة النصرانية
والنصارى ينظرون إلى الزواج على أنه نوع من القذارة أو النجاسة؛ لأنهم يرون أن المرأة شر كلها، وأن الاقتراب من المرأة أشد من الاقتراب من الأفاعي! وأعلن القساوسة والبابوات أن الزواج أمر يجب الابتعاد عنه، وأن العزب أكرم عند الله من المتزوج، وأعلنوا أنها -أي: المرأة- باب الشيطان، وأن العلاقة بالمرأة رجس في ذاته، وأن السمو لا يتحقق إلا بالبعد عن الزواج.
قال أحد قديسي الكنيسة: إنها -أي: المرأة- مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، ناقضة لنواميس الله، متوهة للرجل.
وقال آخر ملقب أيضاً بالقديس: إنها شر لابد منه، وآفة مرغوب فيها، وخطر على الأسرة والبيت، ومحبوبة فتاكة، ومصيبة مطلية ملوحة.
وفي القرن الخامس اجتمع بعض اللاهوتيين ليبحثوا ويتساءلوا في مجمع ميكن: هل المرأة جثمان بحت، أم هي جسد ذو روح يناط به الخلاص والهلاك؟ وغلب على آرائهم أنها خلو من الروح الناجية، وليس هناك استثناء بين جميع بنات حواء من هذه الوصمة إلا مريم أم المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام! وعقد الفرنسيون في عام خمسمائة وستة وثمانين -يعني: في فترة شباب النبي صلى الله عليه وسلم- مؤتمراً، كان موضوع هذا المؤتمر: هل تعد المرأة إنساناً أم غير إنسان؟ وهل لها روح أم ليس لها روح؟ وإذا كان لها روح، فهل هي روح حيوانية أم روح إنسانية؟ وكل هذا الكلام للذين يدعون أن الإسلام أهان المرأة واحتقرها، إلى آخر هذه الأراجيف الشيطانية، وانظر كيف كان هؤلاء الناس ينظرون للمرأة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام؟! وإذا كانت روحاً إنسانية، فهل هي على مستوى روح الرجل أم أدنى منه؟ وكان القرار النهائي في المجمع أن قرروا أنها إنسانة، ولكنها خلقت لخدمة الرجل فقط! فيرى هذا الجيل المنحرف أن المرأة ينبوع المعاصي وأصل السيئة والفجور، وأن المرأة للرجل باب من أبواب جهنم من حيث هي مصدر تحركه وحمله على الآثام، ومنها انبجست عيون المصائب على الإنسانية جمعاء.
وهذه مأخوذة من التصور التوراتي؛ فإن التوراة تنسب الخطيئة إلى حواء؛ فهي بزعمهم التي أغرت آدم بالأكل من الشجرة، وهي أتت بكل المصائب للبشرية؛ بسبب إغواء آدم بالأكل من الشجرة؛ ولهذا يقول بعض المصنفين: ولما كانت المرأة - حسب رواية سفر التكوين - هي التي أغرت الرجل بالأكل من الشجرة، فإن النصرانية المحرفة ناصبت المرأة العداء باعتبارها أصل الشر ومنبع الخطيئة في العالم؛ لذلك فإن عملية الخلاص من الخطيئة لا تتم إلا بإنكار الذات وقتل كل الميول الفطرية والرغبات الطبيعية، والاحتقار البالغ للجسد وشهواته.
ومن أساسيات النصرانية المحرفة: التنفير من المرأة وإن كانت زوجة، واحتقار وترذيل الصلة الزوجية وإن كانت حلالاً، حتى بالنسبة لغير الرهبان.
يقول أحد رجال الكنيسة بونافنتورا -الملقب بالقديس-: إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائناً بشرياً، بل ولا كائناً وحشياً، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته، والذين تسمعون منه هو صفير الثعبان.
وهذه الحكايات موجودة في قصة الحضارة.
ويقول آخر: إن القس يجب أن يكرس حياته لله وبني الإنسان، وإن مستواه الأخلاقي يجب أن يعلو على مستوى أخلاق الشعب، وأن يضفي على مستواه هذه المكانة التي لابد منها؛ لاكتساب ثقة الناس وإجلالهم إياه.
وأحد الكتاب الأوروبيين مؤلف كتاب (المشكلة الأخلاقية والفلسفية)، يعلق على كلام القساوسة في هذا الباب فيقول: عظمة وعلاء، ولكنه قضاء قاسٍ على الإنسانية، وإن التصديق الكامل لمثل تلك المبادئ لا يمكن أن يملأ الأرض بأديرة فيها الرجال من جهة، والنساء من جهة أخرى، ينتظرون في طهارة وتأمل الزوال النهائي للنوع الإنساني.
وأصدر البرلمان الإنجليزي قراراً في عصر هنري الثامن ملك انجلترا يحظر على المرأة أن تقرأ كتاب (العهد الجديد)، أي: الإنجيل؛ لأنها تعتبر نجسة!.
وتذكر بعض المصادر أنه شُكل مجلس اجتماعي في بريطانيا خصيصاً لتعبيد النساء، وذلك سنة ألف وخمسمائة ميلادية، وكان من ضمن مواده: تعذيب النساء وهن أحياء بالنار! ونص القانون المدني الفرنسي وهو يدافع عن حقوق الثورة الفرنسية على: أن القاصرين هم: الصبي والمجنون والمرأة، حتى عدل عام ألف وتسعمائة وثمانية وثلاثين، ولا تزال فيه بعض القيود على تصرفات المرأة المتزوجة.
وظلت النساء يُسخرن بالقانون الإنكليزي العام حتى منتصف القرن الماضي تقريباً، وكن غير معدودات من الأشخاص أو المواطنين الذين اصطلح القانون على تسميتهم بهذا الاسم؛ حيث لم يكن لهن حقوق شخصية ولاحق في الأموال التي تحتسب لهن، ولا حق في ملكية شيء، حتى الملابس التي كن يلبسنها، بل إن القانون الإنجليزي حتى عام ألف وتسعمائة وخمسة ميلادية كان يبيح للرجل أن يبيع زوجته! وقد حدد القانون ثمن الزوجة بستة سنتات، يعني: نصف شلن، وقد حدث أن باع إنجليزي زوجته سنة ألف وتسعمائة وواحد ثلاثين بخمسمائة جنيه، وقال محاميه في الدفاع عنه: إن القانون الإنجليزي عام ألف وتسعمائة وواحد يحدد ثمن الزوجة بستة سنتات، بشرط أن يتم البيع بموافقة الزوج، فأجابت المحكمة بأن هذا القانون قد ألغي عام ألف وتسعمائة وخمسة، بقانون يمنع بيع الزوجات أو التنازل عنهن، وبعد المداولة حكمت المحكمة على بائع زوجته بالسجن عشرة أشهر! وجاء في مجلة حضارة الإسلام: حدث في العام الماضي أن باع إيطالي زوجته لآخر على أقساط، فلما امتنع المشتري عن سداد الأقساط الأخيرة قتله الزوج البائع! وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: من الغرائب التي نقلت عن بعض الصحف المنشورة في هذه الأيام- يعني: قبل حوالي ستين سنة- أنه لا زال يوجد في الأرياف الإنجليزية رجال يبيعون نسائهم بثمن بخس جداً، كثلاثين شلناً، وقد ذكرت الصحف الإنجليزية أسماء بعضهم! وهذا الوضع للمرأة هو عند أن كانوا متمسكين بدينهم المحرف، أما الآن بعدما صاروا ملاحدة لا دين لهم فالوضع أخس؛ لأن المرأة أحقر من السلعة، فوضع المرأة في الغرب وضع مشين للغاية.
يقول الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى: وأما المرأة فقد دفع بها الوضع الاجتماعي الذي لا يرحم إلى أنها تطرد من المنزل بعد سن الثامنة عشرة، ولا يستطيع أحد أن يعترض ولا أن يتكلم في مجلس الشعب، إلا إذا حصل اتفاق مع الأخ أو الأم أنها تشارك في كل التكاليف في البيت، فهنا لها أن تبقى! فأصبحت البنت تطرد من المنزل بعد سن الثامنة عشرة؛ لكي تبدأ في الكدح لنيل لقمة العيش، وإذا ما رغبت أو أجبرتها الظروف في البقاء في المنزل مع أسرتها بعد هذه السن، فإنها تدفع لوالديها إيجار غرفتها، وثمن طعامها وغسيل ملابسها، بل تدفع رسماً معيناً مقابل اتصالاتها الهاتفية! وحدث ولا حرج عن ندرة الزواج وكثرة بيوت البغاء وتفشي الفواحش وكثرة اللقطاء وارتفاع نسبة الطلاق!(159/16)
مؤامرة الغرب على المرأة المسلمة
وحقيقة أن الغرب يحسدنا؛ فكلام الغرب في قضية المرأة بالذات هي عملية حسد، وليس أكثر من هذا، فإذا حسدونا على السلام وعلى التأمين، أفلا يحسدوننا على المرأة التي ما زالت عفيفة مصونة محترمة، لها قيمتها ولها احترامها ولها وزنها؟! فهي مؤامرة لإخراج المرأة من بيتها، وهذه أكبر شيء يطعن المسلمين في القلب، ويلحق ديار المسلمين ومجتمعات المسلمين بـ (الغابات) المتحدة الأمريكية وغيرها، فلا ينبغي لنا أن نتأثر بمنهج العولمة الذي يلزم في الوقت الجديد أن تخرج المرأة بأية طريقة، حتى إنه قد يحصل خداع لبعض الأخوات المسلمات، فتريد إحداهن أن تخرج من بيتها، وأن تُرشح في مجلس الشعب، وهذه بدعة وضلالة ما حصلت من قبل، وليس هناك داع أن ننخرط في مناهج هؤلاء الكفار.
فنحن المسلمين حالنا كحال حزب الوفد الذي تحالف مع بعض الأحزاب لما كان ضعيفاً جداً، فلما وصل إلى ما يريد تخلص ممن استعملهم كعامل مساعد، فلا ينبغي لنا أن نتورط في مثل هذا.
وأما خروج مسلمة متدينة فاضلة لانتخابات مجلس الشعب فهذا لا ينبغي، وهل الرجال استطاعوا أن يعملوا شيئاً؟! فالرجال ما عملوا شيئاً حتى تأتي امرأة وتدخل في الانتخابات، فيجب على المرأة أن تقر حيث أمرها الله سبحانه وتعالى، فكيف تخرج في وسط هؤلاء الناس، وفي وسط هذه الأوضاع العجيبة؟! وأي مكسب ستجنيه؟! وماذا فعل الرجال من قبل حتى تصنع مثله النساء؟! فالشرع رفض أن تؤذن المرأة في الصلاة، أو تؤم المصلين، ولا تجب عليها صلاة الجماعة، ولا الجهاد؛ لأن الأصل هو القرار في البيت، كما قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33].
وأيضاً القرار في البيت ليس تعطيلاً لنصف المجتمع كما يرجف الملاحدة ويزعمون، فالمرأة التي في بيتها ليست عاطلة، بل هي العاملة في الوظيفة المقدسة، كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (المرأة راعية في بيت زوجها)، فهذه هي الوظيفة الأساسية للمرأة.
أما المرأة الخارجة هذه فهي امرأة هاربة من مسئوليتها، وهناك حالات استثنائية، يعني: أنه يعفى عن المرأة في بعض الظروف، خاصة في هذا الزمان؛ فبعض النساء قد يكون لهن ظروف تعذرهن في الخروج للعمل؛ لكن القاعدة أن كثيراً من النساء يصرفن المرتب في المساحيق والزينة والملابس، فالله المستعان! يقول الدكتور نور الدين عتر: حدثني صديق أنهى تخصصه العالي في أمريكا حديثاً: أن في الأمريكيين أقواماً يتبادلون زوجاتهم لمدة معلومة، ثم يسترجع كل واحد زوجته المعارة، فيعيرها كما يعير القروي دابته، أو الحضري في بلادنا شيئاً من متاع بيته! يقول الشاعر: إيه عصر العشرين ظنوك عصراً نير الوجه مسعد الإنسان لست نوراً بل أنت نار وظلم مذ جعلت الإنسان كالحيوان فادعوا المساواة، ولكنها مساواة بين الإنسان وأخيه الحيوان.
ونحن نحتاج هنا إلى وقفة، وبالذات إذا ذكرنا قضية الرهبنة، وسوف نشير إشارة لابد منها فنقول: إذا نظرنا إلى شؤم هذه الرهبانية وماذا صنعت في الإنسانية، فسنجد أن الرجل كان يمدح بها عندهم، وكان يقال: فلان الفلاني مكث في بئر نزح ماؤه خمسين سنة، أي: وهو قاعد في بئر نزح ماؤه، ومعتزل فيه؛ كي يقرصه البعوض والذباب وهذه الحشرات، ويتقرب إلى الله بذلك! ويقول الواحد منهم: لقد كنا فيما مضى يمكث الواحد منا عشرات السنين لا يمس جسده الماء، وها نحن الآن ندخل الحمامات! أي أنه يقول: نحن الآن في انحراف عن هذا الهدي؛ لأننا الآن ندخل الحمامات.
ومن دخل ديراً سوف يجد ذلك، ولا أريد أن أدخل في التفاصيل، فسوف يجد الناس في داخل الدير المعتزلين هناك، وسيجد أن التراب الأسود على وجوههم قد أصبح زيادة على سواد الكفر؛ لأنهم لا يتنظفون، ولا ينظفون أنفسهم، بل يزعمون أن هذا يقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
ونحن لا نتكلم على النظافة في الإسلام وسماحة الإسلام؛ فهذا أمر فوق الوصف، فالإسلام جاء بنظافة العقيدة؛ وذلك بتزكية القلب بالتوحيد، وبلا إله إلا الله، والكفر بالأوثان التي يشرك بها مع الله سبحانه وتعالى.
وهكذا جاء بنظافة الأخلاق، ونظافة الأجسام والأبدان، ونظافة السلوك، ونحو ذلك، فهو دين النظافة في كل شيء ولله الحمد، فإن الله جميل يحب الجمال.(159/17)
نظرة الإسلام إلى الزواج
وسنقف هنا على نظرة الإسلام للزواج؛ لنرى أن هذا الإسلام دين حياتي، كما قال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25]، فلا يمكن أن تستقيم حال البشرية إلا بهذا الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى شرع لبني آدم الزواج، وجعل تناسلهم يتم بطريقة شريفة منظمة محفوظة مصونة؛ كي لا تختلط المياه، ولا تشتبك الأنساب، وبهذا مُيز الإنسان عن البهائم والحيوانات.
وانظر إلى واقع الكفار الآن في الغرب، تجد الفوضى التي لا خطام لها ولا زمام، وكثير من الأبناء هناك لا يعرفون آباءهم، ولا يعرفون لهم أمهات، ولذا فإن مستشفيات النساء في أوروبا وفي الغرب إذا جاءت امرأة لتلد في تلك المستشفى فإنهم يذكرون في البطاقة الخاصة بمعاملة الولادة هل له أب أم ليس له أب، وهل تعرف أباه أم لا تعرف الأب، وهذه البطاقة يشرح فيها الطبيب حالة المريض، فأي امرأة تدخل مستشفيات الولادة يكون في بنود هذه البطاقة: متزوجة أم غير متزوجة؟! وهذا شيء عادي جداً عندهم، وليس فيه أدنى حرج.
والمرأة التي لا تنحط في حمأة الفاحشة هذه معقدة نفسياً، ولو وجدت طالبة في الكلية أو في المدرسة ولم يكن لها خليل أو خدن تعاشره سفاحاً، فهذه تحال للطبيب النفسي! لأنها في زعمهم معقدة، فنحمد الله على العافية! فلم تعد المرأة في ظل الإسلام كما كانت عند الآخرين نجسة ومدانة يجب التنزه عنها، ولكن تسامى الإسلام بالمرأة إلى علياء السمو.
فالإسلام لم يعتبر الزواج لعنة وشراً، ولم يجعل صوت المرأة مثل صوت صهيل الثعبان إلى آخره، بل جعل الزواج من أعظم نعم الله عز وجل على عباده، فقال سبحانه وتعالى وهو يمدح الرسل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38]، وهذا جاء في سياق الامتنان.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].
وقال عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ} [الروم:21]، وكلمة (آيات) في القرآن الكريم لا تستعمل إلا في الأمور الجليلة العظيمة التي تعكس قدرة الله سبحانه وتعالى، وقد بلغ من تعظيم الإسلام للزواج أنه قرن آية التكوين الأخرى بتكوين العالم كله، فقال سبحانه وتعالى في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، وقال عز وجل وهو يقرن آياته العظمى في تكوين الأسرة بآياته العظمى في خلق الكون، فقال عز وجل بعدها مباشرة: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22].
فالزوجة نفسها ينظر الإسلام إليها أنها نعمة، فيجب على الإنسان أن يشكر ربه عليها، ولا يكفرها، ويعلم أنه سيسأل يوم القيامة عن هذه النعمة، كما جاء في الحديث: (سيلقى العبد ربه، فيقول الله عز وجل: ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول بلى أي رب! فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني)، رواه مسلم وغيره.
فالشاهد هنا: قوله عز وجل: (ألم أكرمك، وأسودك وأزوجك)، فهذه من نعم الله التي يحاسب عليها، ويسأل عنها يوم القيامة.(159/18)
حث الإسلام على الزواج
أما موضوع الترغيب في الزواج والحث عليه فهذا مما علم بالضرورة من دين الإسلام، فالإسلام اختص بالحث على الزواج.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله فيما بقي)؛ لأن النكاح يعف عن الزنا، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن النبي عليه السلام عليهما الجنة، فقال: (من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة: ما بين لحييه وما بين رجليه).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على الزواج، وكان يقرأ لمن يطلب إباحة التبتل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87]، وقال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ولا تكونوا كرهبانية النصارى).
وأما التبتل فقد أتى عثمان بن مضعون رضي الله عنه يستأذن الرسول عليه السلام في أن يتبتل، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (يا عثمان! إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفما لك فيَّ أسوة؟! فوالله إني أخشاكم لله وأحفظكم لحدوده).
فالتعبد بترك النكاح لا أصل له في الإسلام، فلم تعد رابطة الزوجية دناءة بهيمية، فالإسلام أتى نوره وبدد تلك الظلمات، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تسامى الإسلام بتلك الرابطة، فجعلها ذريعة لواجبات كثيرة رفع الإسلام قدرها.
يقول الإمام الفقيه الحنفي كمال الدين بن الهمام رحمه الله تعالى: ومن تأمل ما يشتمل عليه النكاح من تهذيب للأخلاق، وتوسعة الباطن بالتحمل في معاشرة أبناء النوع.
فالإنسان يجاهد نفسه ويحصل تعديل لسلوكه وأخلاقه السيئة.
يقول: وتربية الولد، والقيام بمصالح المسلم العاجز عن القيام بها، كالنفقة على الزوجة وعلى الأولاد، والنفقة على الأقارب والمستضعفين، وإعفاف الحرم -يعني: إعفاف الزوجة- وإعفاف نفسه، ودفع الفتن عنه وعنهن، ودفع التقتير عنهن بحبسهن لكفايتهن مئونة الخروج -يعني: لأجل طلب الرزق- ثم الاشتغال بتأديب نفسه وتأهلها للعبودية، ولتكون هي أيضاً سبباً لتأهيل غيرها، وأمرها بالصلاة، فإن هذه الفرائض كثيرة لم يكد يقف عن الجزم بأنه أفضل من التخلي.
يعني: أن الزواج أفضل من التخلي للعبادات المستحبة والنافلة، ولو خير رجل بأن يتزوج رغم ما في الزواج من عناء ومشقة، وبين أنه ينفرد في صومعة يؤدي الفرائض، ويعتزل ليتقرب إلى الله بالنوافل فأيهما أفضل؟
الجواب
لا جدال بأن الزواج أفضل، هكذا هي نظرة الإسلام للزواج، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (من أماثل أعمالكم إتيان الحلال)، يعني: من أفضل أعمالكم إتيان الحلال.
وقد يتعجب القارئ أو المستمع كما تعجب الصحابة رضي الله عنهم من قبل عندما قال ناس منهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور -أي الأغنياء- بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان فيها وزر؟ قالوا: بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له فيها أجر).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر في ضمن وصية جامعة له: (ولك في جماعك زوجتك أجر، قال أبو ذر: كيف يكون لي أجر في شهوتي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أرأيت لو كان لك ولد فأدرك ورجوت خيره فمات، أكنت تحتسبه؟ قال: قلت: نعم، قال: فأنت خلقته؟ قال: بل الله خلقه، قال: أفأنت هديته؟ قال: بل الله هداه؟ قال: فأنت ترزقه؟ قال: بل الله كان يرزقه، قال: كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه، فإن شاء الله أحياه، وإن شاء أماته، ولك أجر).
بل تسامى الإسلام بهذه الرابطة، حيث أرشد النبي عليه الصلاة والسلام إلى استصحاب نية طلب الأولاد، والتسمية، وحض على ذلك؛ لما فيه من الخير الكثير، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك اليوم لم يضره الشيطان أبداً).
ونحن نختصر الكلام في هذا الموضع وإن كان يحتاج إلى تفصيل؛ لكن هذه الإشارة العابرة تعكس مدى نظرة الإسلام للزواج وتكريم المرأة بصورة لا تترك لعاقل أي شك في أن هذا هو أعظم تكريم للإنسان، وأعظم تكريم للرجل، وأعظم تكريم للمرأة، بخلاف هذه الحضارة البهيمية التي تريد أن تسوي لا بين الرجل والمرأة كما يزعمون؛ ولكن بين الإنسان والحيوان، بل حتى الحيوانات قد تكون أفضل، وأحوال القوم لا تخفى على مسلم.(159/19)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله)
يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28].
قال ابن كثير: حمل ابن عباس هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين، كما في الآية التي في القصص: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) [القصص:54]، وكما في حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل كتاب آمن بنبيه وآمن بي، فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مولاه، فله أجران، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران) متفق عليه، فانظر إلى حث الإسلام على التأديب وعلى التعليم وعلى التربية، حتى الجارية نفسها أمر بتأديبها.
وهذا التفسير هو اختيار ابن جرير، فقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، المقصود بالآية مؤمنو أهل الكتاب.
وقوله: ((اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)).
قال سعيد بن جبير: لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى هذه الآية في حق هذه الأمة.
والظاهر أن لفظها أعم، وأن المقصود بها حث كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم على الثبات على الإيمان، والرسوخ فيه، والانصياع لأوامره.
ومنه ما حث عليه في الآيات قبلها من الإنفاق في سبيله، وسخاوة النفس فيه، وأن لهم في مقابل ذلك أجراً وافراً، كما قال في أول السورة: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد:7]، وآخر السورة فيه رجوع لأوائلها؛ لتذكير ما أمرت به وما سبق نزولها لأجله.
وقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}، الكفل: الحظ، وأصله ما يكتفل به الراكب فيحبسه ويحفظه عن السقوط، والتثنية في مثله إما على حقيقتها أو هي كناية عن المضاعفة.
(ويجعل لكم نوراً) النور: هو ما يبصر من عمى الجهالة والضلالة، ويكشف الحق لقاصده، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، فكلما اتقيت الله سبحانه وتعالى فإنه ينور قلبك، ويعطيك القوة على التمييز بين الحق والباطل والهدى والضلال.
ومعنى الآية: إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم كفلين، ويجعل لكم كذا وكذا.(159/20)
تفسير قوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء)
قال تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:29].
((لِئَلَّا يَعْلَمَ)) أي: ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا عدم قدرتهم على شيء من فضل الله، وثبوت أن الفضل بيد الله.
والمراد بالفضل ما آتاه المسلمين وخصهم به؛ لأنهم كانوا يرون أن الله فضلهم على جميع الخلق.
فأهل الكتاب كانوا يعتقدون أنهم أفضل الخلق، وزنادقة اليهود يقولون كما حكى الله عنهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، كانوا يحسبون أنهم أفضل من جميع الخلق، فأعلمهم الله جل ثناؤه أنه قد آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة ما لم يؤتهم؛ ليعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، أي: ليسوا هم الذين يوزعون فضل الله على الخلق.
والتفضيل بين الأمم راجع إلى قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، فأنتم لا تقدرون على شيء من فضل الله، فإذا كنتم لا تقدرون على شيء من فضل الله، فكيف تكون لكم قدرة على ما هو أعظم فضل الله.
إذاً فالمراد بالفضل ما آتاه المسلمين وخصهم به؛ لأن أهل الكتاب كانوا يرون أن الله فضلهم على جميع الخلق، فأعلمهم الله جل ثناؤه أنه قد آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة مالم يؤتهم؛ ليعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، فضلاً عن أن يتصرفوا في أعظمه وهو النبوة، فيخص بها من أرادوا، وأن الفضل بيد الله دونهم.
قوله: ((وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ))، يعني: ليس بأيديكم أنتم يا أهل الكتاب! دون غيركم من الخلق، بل الله عز وجل يؤتيه من يشاء من عباده.
(ولا) في ((لِئَلَّا)) صلة، وقال بعضهم: وهو حرف شاعت زيادته.
بل هذا في الحقيقة من أوضح الأدلة على أن (لا) قد تكون أحياناً زائدة، ولا تعني النفي، وهذا أحد الأوجه في قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1].
فهنا قوله تعالى: ((لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ))، تفسيرها: ليعلم أهل الكتاب.
قال ابن جرير: وذكر أن في قراءة عبد الله: (لكي يعلم)، قال: لأن العرب تجعل (لا) في صلة كل كلام دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح، كقوله في البحث السابق الذي لم يصرح به: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12]، وتفسيرها: ما منعك أن تسجد لما أمرتك، وقال تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:109]، يعني: أنهم سوف يؤمنون.
وقال تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95]، في التفسير: أنهم يرجعون؛ فالأمة التي تهلك لا ترجع إلى الدنيا مرة أخرى؛ فهذا حرام بتحريم كوني قدري، أي: حرام عليهم أن يرجعوا إلى الدنيا.
ونقل الثعالبي في فقه اللغة زيادتها في عدة شواهد في فصل (الزوائد والصلات التي هي من سنن العرب) فانظره تزدد علماً.
وهذا آخر تفسير سورة الحديد.
والله أعلم.(159/21)
تفسير سورة المجادلة [1 - 4](160/1)
تفسير قوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وللكافرين عذاب أليم)
قال الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:1 - 4].
قال الجوهري: (قد) حرف لا يدخل إلا على الأفعال، وقال الزمخشري: معنى (قد) التوقع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا متوقعين أن ينزل الله في شكواها ما يفرج عنها.
ومعنى سماع الله تعالى لقولها إجابة دعائها لا مجرد علمه تعالى بذلك، فهذا كقول المصلي: (سمع الله لمن حمده).
قوله تعالى: ((وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ))، هذه الواقعة تدل على أن من قطع رجاؤه عن الخلق فلم يبق له فيما أهمه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك الأمر.
وصيغة المضارع: يسمع: يفيد التجدد: ((وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا))، للدلالة على استمرار السمع، حسب استمرار التحاور وتجدده، ويأتي بالمضارع هنا؛ لأن فيه تحاوراً ومراجعة في الكلام، فكلما ترد الكلام فإن الله سبحانه وتعالى يسمعه، وذكرها مع الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الخطاب في قوله: ((تَحَاوُرَكُمَا))، تكريم لها بهذا الخطاب الكريم، فقد ذكرت مقترنة باسمه الشريف عليه الصلاة والسلام، فهذا بلا شك تكريم عظيم لها، وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لغرض المهابة والروعة في قلوب المؤمنين: ((قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا)).(160/2)
معنى الظهار لغة وشرعاً
قال ابن منظور: كانت العرب تطلق النساء في الجاهلية بهذه الكلمة: أنت علي كظهر أمي، كأنه يحرم نكاحها بهذه اللفظة؛ لأن الظهر ما يركب، وفي بعض الأحاديث: (ما لنا من ظهر سوى هذا البعير)، يعني: من مركوب، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له)، فالمقصود بالظهر المركوب.
وقال الرازي: ليس الظهار مأخوذاً من الظهر الذي هو عضو من الجسد؛ لأنه ليس الظهر أولى بالذكر في هذا الموضع من سائر الأعضاء، بل الظهر هنا مأخوذ من العلو، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] يعني: إن يعلوه، وكل من علا شيئاً فقد ظهر، ومنه سمي المركوب ظهراً؛ لأن راكبه يعلوه.
ويدل على صحة هذا المعنى: أن العرب تقول في الطلاق: نزلت عن امرأتي، أي: طلقتها.
وفي قولهم: أنت علي كظهر أمي: حذف وإضمار؛ لأن تأويله ظهرك علي، أي: ركوبي إياك وعلوي عليك حرام كما أن علوي على أمي وملكها حرام علي.
أيضاً المظاهر شبه الزوجة بالأم، ولم يقل: هي أم، فكيف كان ذلك منكراً وزوراً؟ وأجيب عن ذلك بأن الكذب إنما لزم لأن قوله: أنت علي كظهر أمي، إما أن يكون إخباراً أو إنشاء، فعلى الأول: إن قصد أنها كظهر أمه فقد كذب؛ لأن الزوجة محللة والأم محرمة، وتشبيه المحللة بالمحرمة في ضبط الحل والحرمة كذب، وعلى الإنشاء كان ذلك أيضاً كذب؛ لأن معناه أن الشرع جعله سبباً في حصول الحرمة، فلما لم يرد الشرع بهذا التشبيه كان جعله إنشاء لوقوع هذا الحكم كذباً وزوراً.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر في خلافته على امرأة وكان راكباً على حمار والناس معه، فاستوقفته تلك المرأة طويلاً ووعظته، وقالت له: عهدي بك يا عمر! وأنت صغير تدعى عميراً، ثم قيل لك: يا أمير المؤمنين: فاتق الله يا عمر في الرعية، واعلم أن من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هذه خولة بنت ثعلبة التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟! قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} [المجادلة:2] الخطاب في لفظ: (منكم) فيه مزيد توبيخ للعرب، وتهجين لعاداتهم في الظهار؛ لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة دون سائر الأمم.
أيضاً مما يناسب ذكره عن الكفارة: ما رواه الإمام الترمذي عن سلمة بن صخر البيهقي أنه قال: (كنت امرأً أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً يتابع بي حتى أصبح، فظاهرت منها حتى ينسلخ رمضان، فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء، فما لبثت أن نزوت عليها، فلما أصبحت أخبرت قومي، فقلت: امشوا معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: ليستفتي- فقالوا: لا والله، فانطلقت فأخبرته صلى الله عليه وسلم فقال: أنت بذاك يا سلمة؟! قلت: أنا بذاك يا رسول الله! مرتين، وأنا صابر لأمر الله؛ فاحكم فيَّ بما أراك الله، قال: حرر رقبة.
قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها، وضربت صفحة رقبتي، قال: فصم شهرين متتابعين.
قلت: هل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام.
قال: فأطعم ستين وسقاً من تمر ستين مسكيناً.
فقلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين ما لنا طعام -يعني: مقفرين لا طعام لهم- قال: فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك؛ فأطعم ستين مسكيناً وستين وسقاً من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها، فرجعت إلى قومي أقول: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي، وقد أمرني بصدقتكم).(160/3)
تحريم الظهار
أما ما يتعلق بالأحكام الشرعية؛ فالحكم الأول: هل الظهار مشروع كالطلاق أم هو محرم؟ كان الظهار في الجاهلية طلاقاً، بل كان أشد أنواع الطلاق عندهم؛ لما فيه من تشبيه الزوجة بالأم التي تحرم على التأبيد، وجاء الإسلام فأبطل هذا الحكم، وجعل الظهار محرماً قربان المرأة حتى يكفر زوجها، ولم يجعله طلاقاً كما كانوا يعتبرونه في الجاهلية.
فلو ظاهر الرجل يريد الطلاق كان ظهاراً، ولو طلق يريد به الظهار كان طلاقاً، والعبرة باللفظ لا بالنية؛ فلا يقوم أحدهما مقام الآخر.
قال ابن القيم: وهذا لأن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية فنسخ فلم يجز أن يعاد إلى الحكم المنسوخ، أي: أن يتلفظ بلفظ الظهار وهو يريد به الطلاق، وأيضاً إن نوى به الطلاق فعلى ما كان عليه، وأجري عليه حكم الظهار دون الطلاق، وأيضاً فإنه صريح في حكمه؛ فلم يجز جعله كناية في الحكم الذي قضاه الله بشرعه، وقضاء الله أحق، وحكم الله أوجب.
وقد دلت الآية الكريمة: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]، على أن الظهار حرام، بل قال فقهاء الشافعية إنه من الكبائر، فمن أقدم عليه اعتبر كاذباً معانداً للشرع.
وقد اتفق العلماء على حرمته، فلا يجوز الإقدام عليه لأنه كذب وزور وبهتان؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب:4].
فالظهار محرم بالكتاب والسنة والإجماع، وهو يختلف عن الطلاق؛ فالطلاق مشروع وهذا ممنوع، ولو أقدم الإنسان عليه فيكون قد ارتكب محرماً، ويجب عليه كفارة بالتفصيل الذي ذكرناه.(160/4)
حرمة إتيان الزوجة قبل الكفارة
ما الذي يترتب على الظهار من أحكام؟ إذا ظاهر الرجل من امرأته ترتب على ذلك أمور: فأول ما يترتب على الظهار: حرمة إتيان الزوجة حتى يكفر كفارة الظهار؛ لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3].
أما الثاني فهو وجوب الكفارة بالعود؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:3].
والعود له مبدأ وله منتهى، فمبدأ العود هو العزم على الوطء، ومنتهاه هو: الوطء بالفعل، فمن عزم على الوطء فقد عاد في النية فينطبق عليه قوله تعالى: ((ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا))، فتلزمه الكفارة لإباحة الوطء، ومن وطأ بالفعل تحتم في حقه اللزوم وخالف بالإقدام على الوطء قبل التكفير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فبين أن العزم على الفعل عمل يؤخذ به الإنسان، فمثلاً من ذهب إلى المكان الذي فيه الخمر ليشتري الخمر فهو حريص وعازم لكن وجد المكان مغلقاً، فقد وصلت النية لمرحلة العزم والإصرار.
والنبي عليه السلام قال: (إذا اقتتل المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار.
قيل: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فالعزم مما يؤاخذ به الإنسان.
وكما يحرم المسيس تحرم مقدماته.
وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة.
وقال الثوري والشافعي في أحد القولين: إن المحرم هو الوطء فقط؛ لأن المسيس كناية عن الجماع.
واستدل الجمهور بالعموم الوارد في قوله تعالى: ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا))، فقالوا: إن هذا يعم جميع أوجه الاستمتاع.
واستدلوا أيضاً بمقتضى التشبيه الذي هو سبب الحرمة في قوله: (كظهر أمي).
كذلك استدلوا بأمر النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي ظاهر من زوجته بالاعتزال حتى يكفر، وفي الحديث: (فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به).
أما الشافعي في أحد قوليه والثوري فقد استدلا على قصر الحكم على الوطء بأن الآية ذكرت المسيس، وهو كناية عن الوطء فيقتصر عليه، وأن الحرمة ليست هي معنى يخل بالنكاح، فأشبه الحيض الذي يحرم الاستمتاع فيه فيما بين السرة والركبة.
على أي الأحوال ربما يكون الأحوط هو الأخذ بمذهب الجمهور لما ذكرناه.(160/5)
المراد بالعود في قوله: (ثم يعودون لما قالوا)
اختلف الفقهاء -كما ذكرنا آنفاً- في المراد من العود في قوله تعالى: ((ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا)).
قال أبو حنيفة: العود: هو عبارة عن العزم على استباحة الوطء والملامسة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:6] المقصود: إذا أردتم القيام إلى الصلاة.
وقال أيضاً: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98]، معناها: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله، فكذلك قوله: ((ثم يعودون لما قالوا))، يعني: ثم يريدون أو يعزمون على أن يرجعوا إلى ما قالوا.
وقال الشافعي: العود هو أن يمسكها بعد الظهار مع القدرة على الطلاق فلا يطلق، أي: يمسكها بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه مع القدرة على الطلاق ومع ذلك لا يطلق، فالمعنى: والذين يظاهرون ثم يعزمون على الجماع مع الإمساك فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا.
وقال مالك وأحمد: العود: هو العزم على الوطء والإمساك.
يعني: إمساك الزوجة معه.
وقال أهل الظاهر فقال أبو الظاهر: العود أن يكرر لفظ الظهار مرة ثانية؛ فإن لم يكرر لم يقع الظهار.
والآراء الثلاثة الأولى متقاربة في المعنى؛ لأن العودة إلى الإمساك، أو الوطء، أو إبقاؤها بعد الظهار بدون طلاق كلها تدل على معنى الندم، وإرادة المعاشرة للزوجه التي ظاهر منها، فاللام في (لما) بمعنى: إلى، أي: ثم يعودون إلى ما قالوا، والمعنى: يرجعون إلى تحليل ما حرموا على أنفسهم بالعزم على الوطء إلى آخر الأقوال فيها.
وقال الفراء: معنى الآية: لا يرجعون عما قالوا، وفي نقض ما قالوا.
وقال بعض العلماء: معنى قوله: ((ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا)) أي: ثم يعودون لما قالوا إنه حرام عليهم، وهو الجماع، ونظيره قول الله تبارك وتعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم:80]، من أنه يؤتى مالاً وولداً، عندما قال: {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77].
استدل أهل الظاهر: بأن العود معناه تكرار لفظ الظهار وإعادته، بقوله: ((ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا))؛ قالوا: فلا تلزم الكفارة إلا إذا أعاد اللفظ، وظاهر مرة ثانية، لكن لا تلزم كفارة الظهار لأول مرة، وقالوا: الذي يعقل من قولهم: عاد إلى الفعل أنه فعله مرة ثانية، كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، فإذا لم يتكرر الظهار لا يقع التحريم.
قال الزجاج راداً على أهل الظاهر: هذا قول من لا يدري اللغة، وقال أبو علي الفارسي: (ليس هو كما ادعوا؛ لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن عليه الإنسان قبل وقد سميت الآخرة معاداً ولم يكن فيها أحد، ثم عاد الناس إليها.
قال الهذلي: وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى الحق شيئاً واستراح العواذل وقال ابن العربي راداً على الظاهرية أيضاً: ويشبه أن يكون هذا من جهالة داود وأشياعه، وهو باطل قطعاً؛ لأنه قد رويت قصص المظاهرين، وليس فيها ذكر لعود القول منهم، وأيضاً فإن المعنى ينقضه؛ لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزوراً، فكيف يقال له: إذا أعدت القول المحرم، والسبب المحذور؛ وجبت عليك الكفارة! كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستفصل المرأة التي نزلت فيها آية الظهار، هل كرر زوجها لفظ الظهار أو لا؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال.
فما قاله جمهور الفقهاء من أن المراد بالعود ليس تكرار اللفظ، وإنما هو معاشرتها والعزم على وطئها، هو الصحيح المعقول لغة وشرعاً؛ لأن المظاهر قد حرم على نفسه قربان الزوجة؛ فهو يريد أن ينقض ذلك ويعيدها إلى نفسه، فيلزمه التكفير بهذا العزم.
وأما ما قاله أهل الظاهر فباطل لا يقوم عليه دليل، بل هو من آثار الفهم السقيم الذي تخبط بهؤلاء في كثير من الأحكام الشرعية، ويكفي لبطلانه حديث أوس بن الصامت؛ فإنه لم يكرر الظهار، وقد ألزمه النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة، وحديث سلمة بن صخر؛ فقد أمره صلى الله عليه وسلم بالكفارة، مع أنه لم يكرر اللفظ وقد تقدم ذكرهما، وكفى بذلك حجة قاطعة، ولا رأي لأحد أمام قول المعصوم صلى الله عليه وسلم.(160/6)
حكم ظهار غير المسلم
هل يصح ظهار غير المسلم كالذمي والكتابي؟ ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن ظهار الذمي لا يقع؛ لأن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} [المجادلة:2] وظاهر قوله: ((مِنْكُمْ)): أن غير المسلم لا يتناوله الحكم.
وقالوا أيضاً: إن الذمي ليس من أهل الكفارة؛ لأن فيها إعتاق رقبة وصوماً، ولما كان الصوم عبادة لا تصح من غير المسلم فلا يصح ظهاره، فالظهار لا يكون إلا من الزوج العاقل البالغ المسلم.
وقال الشافعي: كما يصح طلاق الذمي وتترتب عليه أحكامه كذلك يقع ظهاره.
وقالوا: يكفر بالإعتاق والإطعام ولا يكفر بالصوم؛ لأنه عبادة ولا تصح إلا من المسلم.
قال الألوسي: والعجب من الإمام الشافعي عليه الرحمة أن يقول بصحته، مع أنه اشترط النية في الكفارة، والإيمان في الرقبة، والكافر لا يملك المؤمن.
يعني: الشافعية تشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة، وهنا يجيز أن يكفر الذمي بتحرير رقبة، والكافر لا يملك المؤمن فكيف يجيز الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إعتاق هذه الرقبة للذمي.
على أي الأحوال فإن مذهب الجمهور قوي.
أما الاستدلال بمفهوم الصفة في قوله: ((مِنْكُمْ)) فليس بذاك؛ لأن الآية وردت مورد التهجين والتشنيع، لما مر أن الظهار لم يعرف إلا عند العرب، فليس فيها ما يدل عليه، والله تعالى أعلم.(160/7)
حكم ظهار المرأة
هل يقع ظهار المرأة؟ اتفق الفقهاء على أنه ليس للنساء ظهار، فلو ظاهرت امرأة من زوجها بقولها: أنت علي كظهر أمي فلا كفارة عليها، ولا يلزمها شيء، وكلامها لغو.
قال ابن العربي: وهو صحيح في المعنى: بأن الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح من الرجال، ليس بيد النساء منه شيء.(160/8)
ما يقع به الظهار من الألفاظ
هل الظهار مختص بالأم؟ ذهب الجمهور إلى أن الظهار يختص بالأم كما ورد في القرآن الكريم وكما جاء في السنة المطهرة، فلو قال لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي كان مظاهراً، ولو قال لها: أنت عليَّ كظهر أختي أو بنتي لم يكن ذلك ظهاراً.
وذهب أبو حنيفة والشافعي في أحد القولين: إلى أنه يقاس على الأم جميع المحارم، فالظهار عندهم تشبيه الرجل زوجته بإحدى المحرمات عليه على وجه التأبيد بالنسب أو الرضاع إذ العلة هي التحريم المؤبد.
وأما من قال لامرأته: يا أختي أو يا أمي على سبيل الكرامة والتوقير فإنه لا يكون مظاهراً، ولكن يكره له ذلك، واستدل من كره ذلك بما رواه أبو داود عن أبي تميمة الهذلي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول لامرأته: يا أخية! فكره ذلك ونهى عنه) وهذا الحديث مضطرب.
ومما ورد أيضاً في بعض الروايات: (أن رجلاً قال لامرأته: يا أختي! فقال عليه الصلاة والسلام: أختك هي؟).
وقد قال الخليل عليه السلام عن زوجته سارة: (إنها أختي) ثم قال لها: (إن هذا سألني عنك فأنبأته أنك أختي، وإنه ليس اليوم مسلم غيري وغيرك، وإنك أختي في كتاب الله، فلا تكذبيني عنده! وهذا متفق عليه، وهذا من التعظيم.
لكن بعض العلماء قالوا: لو خاطب الرجل امرأته بقوله: يا أختي أو يا أمي صار مظاهراً إذا قصد الظهار، والحديث كما ذكرنا حديث ضعيف مرسل، ولو قلنا بصحته يكون فيه تنبيه بأن يجتنب الإنسان الألفاظ المتشابهة.(160/9)
كفارة الظهار
كفارة الظهار واجبة على الترتيب بلا خلاف، ولابد فيها من النية سواء كانت عتقاً أو صياماً أو إطعاماً.
وفي حالة الصيام لابد أن ينوي في الليل أن صيامه فريضة وأنه واجب عليه، كصيام رمضان.
أما في عتق الرقبة فالنية تكون مع نفس فعل العتق أو قبله.
كذلك في إطعام ستين مسكيناً تكون النية مع الفعل أو قبله؛ لأن النية تفرق بين أنواع الكفارات؛ ولأن النية أيضاً تفرق بين الفرض والنفل، فلذلك لابد لهذه الأفعال من النية.
أول ما يجب في كفارة الظهار الإعتاق، وقد أطلقت الرقبة في الآية، فهل تجزئ أي رقبة ولو كانت كافرة؟ ذهب الحنفية إلى أنه يجزئ في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة والمؤمنة والذكر والأنثى والكبير والصغير ولو رضيعاً؛ لأن الاسم ينطبق على كل ذلك.
وذهب الشافعية والمالكية إلى اشتراط الإيمان في الرقبة، فلا يصح عتق غير المؤمن حملاً للمطلق على المقيد في آية القتل في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] بجامع السبب في كل منهما، أي أن سبب هذا محرم وهو القتل الخطأ، وسبب الكفارة هنا محرم وهو الظهار.
وقال الحنفية: لا يحمل المطلق على المقيد إلا بحكم واحد في حادثة واحدة؛ لأنه حينئذ يلزم ذلك لزوماً عقلياً، إذ الشيء نفسه لا يكون مطلوباً إدخاله في الوجوب مطلقاً ومقيداً، كالصوم في كفارة اليمين ورد مطلقاً ومقيداً بالتتابع في القراءة المشهورة التي تجوز القراءة بمثلها.
أما الإمام أحمد ففي المسألة عنه روايتان على التفصيل الذي ذكرناه.
فمن لم يستطع عتق رقبة ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين، ولابد أن يعتبر الشهر بالهلال، فلا فرق بين التام والناقص، فلو شرع في أول يوم من رجب وكان رجب تسعة وعشرين يوماً، وشعبان مثله، لم يعد ناقصاً؛ لأنه صام شهرين متتابعين، فيعتبر الشهر بالهلال وليس بعدد الأيام، فلا فرق بين التام والناقص.
أما إن صام بغير الأهلة، كأن صام يوم خمسة عشر من شهر جماد الآخر، فلابد من ستين يوماً عند الحنفية، وعند الشافعية والمالكية يصوم إلى الهلال ثم يصوم شهراً بالهلال ثم يتم الأول بالعدد حتى يتم شهرين متتابعين، وبالمعنى الشرعي لا يجوز له أن يفطر فيهما، ولا أن يصوم فيهما عن غير الكفارة، فلو صام أثناء الشهرين تطوعاً أو قضاء أو عن نذر أو غير ذلك انقطع التتابع، فيعيد صيام شهرين متصلين.
وكذلك لو أفطر لغير عذر يعيد الصوم من جديد.
فإن تخلل صومهما صوم شهر رمضان، بأن بدأ صيام الشهرين في شعبان، ثم بدأ بصيام شهر رمضان، ففي هذه الحالة لا ينقطع التتابع لتعين رمضان للصوم الواجب فيه، أو تخلله فطر يجب كعيد وأيام التشريق لم ينقطع التتابع لتعين الفطر فيه؛ لأنه زمن منعه الشرع عن صومه.
وإن أفطر لعذر يبيح الفطر كسفر لم ينقطع التتابع.
هذا باختصار فيما يتعلق بصيام الشهرين متتابعين.
والحالة الثالثة: إن عجز عن عتق رقبة وعن صيام شهرين؛ فيطعم ستين مسكيناً، فمن لم يستطع الصيام أو لم يستطع تتابعه لسبب من كبر أو فرط شهوة أو مرض لا يرجى زواله عادة بقول طبيب فعليه إطعام ستين مسكيناً.(160/10)
حكم إخراج القيمة بدل الإطعام
ولا تجزئ القيمة عند الحنابلة ومالك والشافعي بخلاف أصحاب الرأي.
ودليل القول الأول قول الله: ((إطعام ستين مسكيناً)) وأوله أهل الرأي بأن المعنى: (فقيمة إطعام)، وهذا من التأويل الذي لا يقوم عليه دليل.
قال أبو حيان: والظاهر مطلق الإطعام، وتخصصه ما كانت في العادة في الإطعام وقت النزول وهو ما يجزي من غير تحديد بمدّ.
ولا يجزي عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكيناً.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه.
وإن عجز عن الإطعام، فلم يقدر على أن يعتق رقبة، ولا استطاع أن يصوم شهرين متتابعين، ولا إطعام ستين مسكيناً، سقطت الكفارة.
والعبرة بحالة وقت العود لا وقت المظاهرة؛ لأنه الوقت الذي تجب فيه الكفارة، فربما كان عندما ظاهر يستطيع الصيام؛ لكن طرأ عليه مرض يمنعه من الصيام حينما أراد العود، فالعبرة بحاله عند العود لا حالة المظاهرة.(160/11)
حكم جماع المظاهر قبل التكفير
هل تتغلظ الكفارة بالمسيس قبل التكفير؟ قلنا: إن العود له مبدأ وله منتهى، فالأدنى هو العزم، فإذا عزم على العود وأراد أن يعود ففي هذه الحالة يجب عليه أن يكفر.
وإذا ارتكب الحد الأقصى وهو أنه عاد بالفعل بالمسيس قبل أن يكفر؛ ففيه الآتي: ذهب أبو حنيفة إلى أن المظاهر إذا جامع زوجته قبل أن يكفر أثم وعصى الله، وتسقط عنه الكفارة لفوات وقتها.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه أثم وعصى ويستغفر ويتوب، ويمسك عن زوجته حتى يكفر كفارة واحدة.
ومعنى: ((ثُمَّ يَعُودُونَ)) عند الإمام أحمد كما قلنا: يعود إلى الوطء أو إلى العزم عليه؛ فإن ظاهر وجامع قبل التكفير لزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفر، ويلزم من هذا جواز الجماع الأول قبل التكفير، فهذا الواضح في قوله: ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا))؛ لأن الآية على هذا القول إنما بينت حكم ما إذا وقع الجماع قبل التكفير، وأن وجوب التكفير قبل مسيس آخر، ففي هذه الحالة إذا حصل المسيس قبل التكفير فيجب عليه أن يتوقف عن هذا المسيس إلى أن يكفر.
قال الجصاص: إن الظهار لا يوجب كفارة وإنما يوجب تحريم الوطء، ولا يرتفع التحريم إلا بالكفارة، فإذا لم يرد وطأها فلا كفارة عليه، وإن ماتت أو عاشت فلا شيء عليه، إذ كان حكم الظهار أيام التحريم مؤقتاً بأداء الكفارة، وأنه متى لم يكفر فالوطء محظور عليه، فإن وطئ سقط الظهار والكفارة، وذلك لأنه علق حكم الظهار وما أوجب به من الكفارة بأدائها قبل الوقت لقوله: ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا))، فمتى وقع المسيس فقد فات الشرط فلا تجب الكفارة؛ لأن كل فرض محصور بوقت أو معلق على شرط، فإنه متى فات الوقت وعدم الشرط لم يجب باللفظ الأول، واحتيج إلى دلالة أخرى في الإيجاب مثله في الوقت الثاني.
فهذا حكم الظهار إذا وقع المسيس قبل التكفير، إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً ظاهر من امرأته فوطئها قبل التكفير، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (استغفر الله، ولا تعد حتى تكفر)، فصار التحريم الذي بعد الوطء واجباً بالسنة، وهذا رواه ابن ماجة والنسائي والدارقطني والترمذي وأبو داود.
والظاهر والله تعالى أعلم أن مذهب الجمهور هو الصحيح، وأنه يأثم بهذا الفعل، وأنه تجب عليه كفارة واحدة.(160/12)
خلاصة ما ترشد إليه الآيات في الظهار
خلاصة ما تشير إليه الآية: استجابة الله سبحانه وتعالى دعاء الشاكي الصادق إذا أخلص الدعاء.
عدم جواز تشبيه الزوجة بمحرم من المحرمات على التأبيد.
عدم جواز مس المرأة قبل أداء كفارة الظهار.
الكفارة مرتبة ولا يصار إلى التالية قبل العجز عن التي قبلها.
حدود الله يجب التزامها ولا يجوز تعديها.
وأما عن حكمة التشريع في هذا الموضوع: فإن الإسلام شرع الزواج عقداً دائماً غير مؤقت لا يقطعه إلا هادم اللذات أو أبغض الحلال إلى الله.
وبالزواج يحل للرجل كل شيء من زوجه في حدود ما أباحه الله تعالى له.
فإذا جاء الإنسان يريد أن يغير ما أباحه الله له فيجعل الحلال حراماً فقد ارتكب كبيرة لا محالة وتجاوز بذلك الحدود التي شرعها الله له، فلهذا كان عقابه كبيراً، وكانت أولى أمور الكفارة ما فيه فائدة للمجتمع، ألا وهي تحرير رقاب العبيد، وهذه إحدى سبل تحريرهم، فإذا لم يستطع شراء العبد وعتقه فليصم شهرين متتابعين، والصوم مدرسة تهذب خلقه، وتربي نفسه، وتقوي ما اعوج من تربيته، هذا إذا كان صحيح الجسم موفور الصحة، وإلا فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فالمريض الذي لا يستطيع الصوم ينتقل الواجب في حقه إلى المجتمع أيضاً؛ فيطعم ستين مسكيناً، وهكذا تنتقل خصال الكفارة بين فائدة المجتمع وفائدة الرجل نفسه.(160/13)
تفسير سورة المجادلة [5 - 13](161/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحادون الله ورسوله)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:5].
((إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، أي: في مخالفة حدوده وفرائضه، وأصله من المحادة بمعنى المعاداة؛ لأن كلاً من المتعاديين في حد غير حد الآخر، فالمحادة تعني المعاداة؛ لأن المعاداة تجعلهما ينفصلان، ويكون كل منهما في حد غير حد الآخر.
((كُبِتُوا))، أي: أخذوا، ((كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ))، يعني: من كفار الأمم الماضية، ((وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ))، أي: دلالات مفصلات وعلامات محكمات تدل على حقائق حدود الله عز وجل، ((وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ))، يعني: للكافرين منكري تلك الآيات وجاحديها عذاب مهين.
وفسر بعض العلماء قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، بمعنى: يختارون حدوداً غير حدودهما، وينشئون شرائع وقوانين من عند أنفسهم ومن تلقائها مخالفة لما شرعه الله تبارك وتعالى.
ففيه وعيد عظيم للملوك والحكام وأمراء السوء الذين وضعوا أموراً خلاف ما حده الشرع وسموا ذلك قانوناً.
يقول الإمام القاسمي رحمه الله تعالى: وقد صنف العارف بالله تعالى الشيخ بهاء الدين قدس الله روحه رسالة في كفر من يقول: يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما.
أي: في سياق المساواة بين القانون والشرع، وبيَّن أدلة تكفير من يسوي بين شرع الله عز وجل وشرع من عداه من المخلوقين، فقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا تقبل التكميل، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
وقوله: لأن الدين وفقاً لهذه الآية وصل إلى مرتبة من الكمال لا تقبل التكميل.
يعني: لا يمكن أبداً الزيادة عليه، ولا يمكن أن يوجد فيه نقصان بحيث يجبر باختراع أو ابتداع قوانين ما أنزل الله سبحانه وتعالى بها من سلطان.
ومما يجري على ألسنة الناس اليوم للأسف الشديد الحديث عن المساواة بين القانون والشرع، أو بين القانونيين وغير المنقادين لشرع الله وبين الشرع، فيقال: الشرع والقانون يحكمان بكذا وكذا، على سبيل المقابلة بينهما والاحتجاج بهما على حد سواء.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ولا يخفى أن إطلاق الكفر لمجرد ذلك من غير تفصيل فيه نظر.
وهنا يعقب على ما نقله عن الشيخ بهاء الدين في قوله: بكفر من يقول يعمل بالقانون والشرع، يعني: إذا قابل بينهما، فيشير القاسمي رحمه الله تعالى إلى وجوب الاحتياط في مثل هذه العبارة، فيقول: ولا يخفى أن إطلاق الكفر لمجرد ذلك من غير تفصيل فيه نظر.
أي: لابد أن يستفصل عن حال قائل هذه الكلمة ماذا يقصد بها؟ وما السياق الذي وردت فيه؟ يقول: لأنه من تنطع الغالين من الفقهاء الذين زيف أقوالهم في التكفير كثير من العلماء النحارير، فإن التكفير ليس بالأمر اليسير.
والحق في ذلك أن القانون الذي يهدم نصوص الشرع التي لا تحتمل التأويل ويفسدها وينسخها كفر وضلال.
مثلاً من يصدر قانوناً بمساواة الرجل بالمرأة في ميراثها، هذا لا يحتمل التأويل؛ لقول الله تبارك وتعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، مع العلم بأن هناك حالات تتساوى فيها المرأة مع الرجل، وهناك حالات يفوق فيها نصيب المرأة نصيب الرجل، لكن القاعدة والأساس: أن للذكر مثل حظ الأنثيين.
فمن أبطل هذه الشريعة كما حصل في الصومال من سياد بري الملحد المارق فهذا بلا شك كفر وردة وخروج عن دين الإسلام؛ لأنه محادة لشرع لله عز وجل الواضح البين الذي لا يحتمل التأويل، والله تعالى أعلم.
ولعلكم تذكرون أنه لما حصل ذلك فإن العلماء جزاهم الله خيراً قاموا ضد هذا الملحد المارق وأنكروا عليه هذا الخروج من الدين، فجمع العلماء وأحرقهم في الميادين العامة وهم أحياء، ولعل ما وقع في الصومال من العبر التي هي ممتدة إلى اليوم من الانشقاق والحروب والدمار والمجاعات؛ لعله من شؤم هذا الموقف، ومن شؤم هذه السياسة الظالمة الضالة! ولا يبعد أن يكون ذلك من شؤم هذه المحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومثله أيضاً: القانون الذي صدر في تونس يحرم تعدد الزوجات، في حين أنه يبيح تعدد الخليلات، فهذا القانون حرم تعدد الزوجات مع أن هذا حلال في كتاب الله تبارك وتعالى.
فوقعت قضية لرجل تزوج امرأتين فدافع عنه محاميه بأن هذه الثانية خليلة ومعشوقة له وليست زوجة، فحينئذٍ لم يعاقب؛ لكن لو كانت زوجة فإنه يعاقب طبقاً لهذه القوانين، فكذلك أمثال هذه القوانين الصارخة في مصادمتها لشرع الله تبارك وتعالى، والتي تهدم نصوص الشرع التي لا تحتمل التأويل وتفسدها وتمسحها، فهذا بلا شك كفر وضلال لا يقول به ولا يعول عليه إلا المارقون الجاحدون؛ فمن زعم أن القوانين أفضل من الشرع فهذا كافر كفراً أكبر لا خلاف فيه، ومن زعم أن القوانين الوضعية تحقق العدل بين الناس أكثر من الشرع فهذا لا شك في كفره، ومن ساوى بين الشرع الإسلامي وبين ما خالفه من القوانين الوضعية، فهذا أيضاً لا شك في كفره.
أما من حكم بغير شرع الله تبارك وتعالى في بعض المسائل، كمن اتبع الهوى، بمعنى أنه يرفع راية الشريعة؛ لكنه خالف شرع الله بسبب رشوة أو لمحسوبية أو لغير ذلك من المعاني، فهذا يطلق عليه كفر, ولكنه كفر دون كفر؛ لأن هذا كفر عملي وليس كفراً اعتقادياً، يعني: هو يعتقد وجوب تحكيم شرع الله, ويرفع راية الشريعة, وتحكيم شرع الله، ثم هو في بعض المسائل يحكم بما يخالف شرع الله لهوى أو لرشوة أو لمحسوبية أو نحو ذلك، فهذه معصية، وهذا هو الذي روي فيه عن بعض السلف أنه كفر دون كفر، وليس الكفر الذي يذهبون إليه، على تفصيل في المسألة.
يقول: والحق في ذلك أن القانون الذي يهدم نصوص الشرع التي لا تحتمل التأويل ويفسدها وينسخها؛ فإنه كفر وضلال لا يقول به ولا يعول عليه إلا المارقون الجاحدون.
أما غير المنصوص عليه، أعني: ما لم يأتِ فيه آيات محكمة أو خبر متواتر أو إجماع، والمسائل الاجتهادية المدونة؛ فمخالفتها إلى قانون عادل لا يعد ضلالاً ولا كفراً.
فهو يبين هنا الأشياء التي قد تنسب إلى الشرع وهي ليست من الشرع، كاجتهادات بعض الفقهاء، وهي اجتهادات قد تكون مرجوحة.
فالعدول عن الاجتهاد المرجوح الذي لا يؤيده الدليل إلى قاعدة عدلية تتواءم مع قواعد الشرع في مراعاة العدل والإنصاف بين الناس ليس فيه مخالفة للشرع؛ لأن الشرع الذي نتكلم عنه هو الشرع الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأحكم الأمر فيه، وبين بياناً رفع كل لبس، وليس الشرع ما تخالف فيه الفقهاء، وكان مأخذه من الاجتهاد والرأي؛ فإن ذلك لا عصمة فيه من الخطأ بلغ رائيه من المكانة ما بلغ.
وكثيراً ما تتشابه فروع الفقهاء مع مواد القانون، ولذا ألف بعض المتأخرين كتاباً في مطابقة المواد النظامية للفروع الفقهية؛ لأن مورد الجميع واحد وهو الرأي والاجتهاد، ورعاية المصلحة.
فأيضاً لابد أن ننتبه إلى أن هناك قوانين لا بأس بالعمل بها، وهي القوانين التي تصطبغ بالصبغة الإدارية، أي القوانين واللوائح التي تنظم أحوال الناس من الناحية الإدارية، فهذه ليست داخلة في القانون الذي يذم العمل به، فإن هناك فرقاً بين الأحكام والحدود الشرعية وبين القوانين الإدارية، فإن القوانين الإدارية غالباً ما تدور مع مقاصد الشريعة في رعاية المصالح ودفع المفاسد، وتنظيم أمور العمل ونحو ذلك، فهذه لا تدخل فيما نحن بصدده.
ولـ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى رسالة في هذا المعنى وهي: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية.
ولتلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كتاباً في نفس الموضوع، لكنه أوسع وأجمع وهو: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، أو يسمى أيضاً: الفراسة المرضية في السياسة الشرعية.(161/2)
تفسير قوله تعالى: (يوم يبعثهم الله جميعاً)
يقول الله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6].
قوله تعالى: ((أَحْصَاهُ اللَّهُ))، أي: أحاط به علماً ولم يذهب عنه شيء، ((وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))، أي: رقيب يعلمه ولا يغيب عنه.
وهذه الآية مما ينبغي أن يتدبرها كل مؤمن؛ لأن الإنسان يأتي الذنوب والمعاصي، ثم مع تطاول الأمل ينسى، ولكن الله سبحانه وتعالى لا ينسى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، فإن الذنوب ينساها الإنسان وهي قد دونت في صحيفته، وسوف يذكر بها يوم القيامة حينما يقول الله سبحانه وتعالى له: أتذكر يوم كذا؟ أتذكر يوم كذا؟ ويقرره بذنوبه، وهذا يقع حتى مع المؤمن، إلا أن من نوقش الحساب عذب، فأما العبد المؤمن فإن الله سبحانه وتعالى يقرره بذنوبه كلها، ويذكره بما نسي منها، حتى إذا أُسقط في يده، وظن أنه هالك لا محالة، يقول الله سبحانه وتعالى: (فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها عليك اليوم)، لكن متى ما نوقش الإنسان في الحساب فهذه أمارة على أنه سوف يعذب.
ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7 - 8]، والحساب اليسير هو عرض الأعمال عليه فقط.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق:10 - 11]، يعني: يقول: وا ثبوراه! وا هلاكاه! {وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:12 - 14].
وقوله تعالى هنا: ((أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))، هذه تقدمة للإخبار بسعة علم الله تبارك وتعالى؛ لأن هذه الآية تمهيد لما يأتي بعدها من النهي عن النجوى بالإثم تحذيراً وتنفيراً، وقد أكد ذلك بتفصيل علمه عناية بالمنهي عنه والمحذر منه.(161/3)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات)
قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7].
((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى))، النجوى هنا مصدر معناه: التحدث سراً، مأخوذة من النجوة، وهي ما ارتفع من الأرض؛ لأن السر يصان عن الغير، فكأنه رفع من حضيض الظهور إلى أوج الخفاء.
وقيل: بل سميت النجوى بهذا؛ لأن المتسارين يخلوان بنجوة من الأرض، أو هو من النجاة.
وتخصيص العددين: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ)) إلى آخره، إما لخصوص الواقعة، فكان قوم من المنافقين على هذا العدد اجتمعوا مغايظة للمؤمنين، أو لأن التناجي للمشاورة وأقله ثلاثة، يعني: أن أقل ما تقع به مشورة ثلاثة؛ لأن التشاور لابد له من اثنين يكونان كالمتنازعين، وثالث يرجح إحدى الكفتين.
ومناسبة ضم الخمسة للثلاثة كون الخمسة أول مراتب ما فوقها في اليسرية، فذكرا ليشار بهما للأقل والأكثر، على أنه عمم الحكم بعد ذلك فقال: ((وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ))، كالاثنين، ((وَلا أَكْثَرَ))، كالستة وما فوقها، ((إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا))، أي: يعلم ما يكون بينهم في أي مكان حلُّوا؛ لأن علمه بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة.
يعني: أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يكون بينهم من المناجاة في أي مكان؛ لأن علم الله سبحانه وتعالى بالأشياء ليس نتيجة قرب مكاني، فالمخلوق إذا علم شيئاً عن مخلوق، أو علم ما يتكلم به مخلوق آخر، فيكون بسبب قربه منه في المكان، لكنه يغيب عن الأماكن الأخرى، أما الله سبحانه وتعالى فعلمه ليس ناشئاً عن قرب مكاني حتى يتفاوت هذا العلم باختلاف الأمكنة وتفاوتها، وإنما الله سبحانه وتعالى معهم بعلمه في كل مكان وحيث ما حلو.
روى ابن جرير، عن الضحاك في هذه الآية قال: هو فوق العرش وعلمه معهم أينما كانوا.
وقال ابن كثير: حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك.
ولا شك أن هذا هو التفسير الصحيح للآية، ولا يمكن أبداً أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى بذاته موجود مع المخلوقين، ولذا أجمع السلف على أن الله سبحانه وتعالى عالٍ على عرشه، بائن من خلقه، منفصل عن هذا العالم، ولا يحل فيه كما قال الضالون في ذلك.
وقال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم.
افتتح الآية بالعلم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}، ثم ختمها بالعلم: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، ليلفت نظرنا إلى أن المعية المذكورة هنا إنما هي بالعلم: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7].(161/4)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى)
يقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8].
قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى))، قال مجاهد: هم اليهود لعنهم الله، ((ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ))، أي: يتناجون فيما بينهم ويتسارون بما هو إثم وتعد على المؤمنين، وتواص بمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو السعود: وذكره صلى الله عليه وآله وسلم بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهين إليه لزيادة تشنيعهم واستعظام معصيتهم.
ثم قال تعالى: ((وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ))؛ لأنهم كانوا يلحنون حينما يحيون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإما أنهم كانوا يحيونه بمثل قولهم: السام عليك، يريدون به الموت السام عليك، وكأنهم يدعون على النبي عليه الصلاة والسلام بأن يموت، ولذلك غضبت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حينما قال رجل يهودي ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فقالت: وعليك السام واللعنة، في حين أن الرسول عليه الصلاة والسلام رد عليه وقال: (وعليك)، فبين النبي عليه الصلاة والسلام لـ عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنه رد عليه مثل ما قال، لكن أرشدها إلى الترفق في الخطاب، وفي تأويل ذلك كما قلنا: وعليك مثلما قلت، أو: والسام عليك، يعني: الموت مكتوب علينا جميعاً، وكل مخلوق سوف يموت.
ومن ذلك تحيته صلى الله عليه وسلم بما نسخه الإسلام من تحايا الجاهلية، فالله سبحانه وتعالى حيَّا نبيه عليه الصلاة والسلام بالسلام في قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:181]، فهذا هو الذي يليق أن يحيا به نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما هم فإنهم كانوا يحيونه بهذه اللفظة، وإما أنهم كانوا يحيونه بشيء من تحايا الجاهلية التي نسخها الإسلام.
يذكر بعض العلماء أن تحية أهل الكتاب إذا ألقوا السلام أن يقال لهم: وعليكم.
وللأسف الشديد أن من المسلمين الآن من يقول: السام عليكم؛ فيسقط اللام بغير قصد، ولا يلتفت إلى خطورة هذه اللفظة، وأنه تشبه باليهود فيها، لكن حقيقة السلام: السلام عليكم، حتى قال بعض العلماء: إن العلة في الرد المقتضب على أهل الكتاب إذا حيونا بأن نقول لهم: وعليكم؛ خشية أن يكونوا يلحنون في السلام.
قال بعض العلماء: أما إذا تحققت وتثبت من أن الكتابي لم يلحن وقالها صحيحة صريحة فلا بأس أن ترد عليه السلام بنفس اللفظ الذي قاله، أخذاً بعموم قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86].
((وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ))، يعني: كأنهم يقولون في أنفسهم: ها نحن نسخر من النبي صلى الله عليه وسلم، وها نحن نؤذيه بقولنا: السام عليك، أو بالتحريف في التحية استهزاءً وسخرية، وأيضاً بالتناجي المذموم فيما بيننا مكيدةً للنبي عليه الصلاة والسلام، فلو كان محمد هو عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهلا عجل الله عقوبتنا بذلك.
فرد الله سبحانه وتعالى عليهم قائلاً: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، يعني: يكفي قائلي ذلك تعذيبهم في جهنم.(161/5)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم)
نهى الله تبارك وتعالى المؤمنين وحذرهم أن يجترموا في النجوى ما اجترمه أولئك، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:9 - 10].
((وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ))، أي: بطاعة الله وما يقربكم منه عز وجل، ((وَالتَّقْوَى))، أي: في اجتناب ما يأثم، ((وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ))، يعني: سيجزيكم بما اكتسبتم مما أحصاه عليكم.
ثم شجع الله سبحانه وتعالى المؤمنين على قلة المبالاة بمناجاة أعدائهم، وأرشدهم إلى ألا يبالوا بمناجاة أعدائهم، وبين لهم أنها لا تضرهم ما داموا على وصاياه، متكلين عليه تبارك وتعالى، فقال عز وجل: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ}، أي: النجوى التي ذمها الله سبحانه وتعالى؛ و (أل) هنا للعهد، لأن هناك من النجوى ما هو خير، كما قال عز وجل: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى}.
إذاً: النجوى يمكن أن يتناجى أناس بكلام فيه بر وتقوى وخير، لكن قوله تبارك وتعالى هنا: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ}، هذه (أل) العهدية، والمراد بها النجوى التي سبق ذمها، وليست كل نجوى.
وهي كقول الله تبارك وتعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:16] الرسول (أل) في (الرسول) للعهد؛ لأن الرسول المقصود به هنا موسى عليه السلام.
ومثل قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، فالرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي أنزل عليه القرآن، كذلك هنا: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} أي: التي ذمها الله، والمزين لهذه النجوى بالسر والحامل عليها هو الشيطان.
{وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا} المقصود هنا: إما الشيطان وإما التناجي المذكور، يعني: وليس الشيطان بضارهم شيئاً، أو: وليس التناجي الذي يحصل بأمر من الشيطان بضارهم شيئاً، ((إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))، أي: بمشيئته عز وجل.
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، يعني: بالمضي في سبيله، والاستقامة على أمره، وانتظار النصر على إثره.
قال القاشاني: إنما نهوا عن النجوى لأن التناجي اتصال واتحاد بين اثنين في أمر يختص بهما لا يشاركهما فيه ثالث، وللنفوس عند الاجتماع والاتصال تعاضد وتظاهر يتقوى ويتأيد بعضها ببعض فيما هو سبب الاجتماع، لخاصية الهيئة الاجتماعية التي لا توجد في الأفراد، فإذا كانت شريرة -مجموعة من الناس غلب عليها الشر أو هي من الأشرار- فإنهم يتناجون في السر، ثم اجتماعهم يزيد ملكة الشر عندهم.
ويقوى فيهم المعنى الذي يتناجون به بالاتصال والاجتماع، ولهذا ورد هذا النهي بعد قوله: {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، بالإثم الذي هو رذيلة القوى البهيمية، والعدوان الذي هو رذيلة القوى الغضبية، {وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ}، التي هي القوة النطقية بالجهل وغلبة الشيطانة.
ألا ترى كيف نهى المؤمنين بعد هذه الآية عن التناجي بهذه الرذائل المذكورة وأمرهم بالتناجي بالخيرات؛ لأن هذا يقوي المؤمنين ويؤزهم أزاًً على المزيد من المناجاة بالبر والتقوى، فقال: ((وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى)).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد ورد في السنة النهي عن التناجي حيث يكون في ذلك إيذاء لمؤمن، فقد روى الإمام أحمد بسنده، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما؛ فإن ذلك يحزنه)، وهذا الحديث متفق عليه.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه)، وهذا انفرد بإخراجه مسلم.
وجمهور العلماء على مراعاة الأخذ بهذا الشرط الذي أشار إليه ابن كثير؛ حيث ورد في السنة النهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على المؤمن.
قالوا: إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزن هذا الثالث، فجمهور العلماء على تأويل الحديث بأنه: إذا تأكدتم أن ذلك لا يحزنه فلكما أن تتناجيا دونه.
وأخذ بعض العلماء بظاهره: أن تناجي الاثنين دون الثالث يحزنه، فبالتالي يحمل الحديث على ظاهره ولا داعي لهذا الشرط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك يحزنه، إذاً هو يحزنه حتى لو ظن ظان أنه لا يحزنه.
فالأحوط والله تعالى أعلم الأخذ بظاهر الحديث، فلا يتناجى الإنسان مع أخيه إلا إذا كان العدد أكثر من ثلاثة؛ ففي هذه الحالة يخرج من مخالفة الحديث، فلو كانوا أربعة مثلاً لم ينه من أن يتناجى اثنان دون الاثنين الآخرين.
ومما في معنى هذا الحديث: أن يتكلم الاثنان بصوت عال لكن بلغة لا يفهمها الثالث، فهذا أيضاً في معنى المناجاة؛ نعم هي ليست منجاة لأنها ليست في السر؛ لكنها تؤدي إلى نفس الشيء، لأنه ربما يظن أنهما يدبران له سوءاً، أو يذكرانه بسوء في كلام لا يفهمه، وتوجد حالات مستثناة يمكن استنباطها.(161/6)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا)
يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11].
هذا تعليم منه تعالى للمؤمنين بالإحسان في أدب المجالس، وأدب المجالس باب مستقل من أبواب الأدب، صنف العلماء فيه كتباً مستقلة، وهو موضوع طويل لكن نمر عليه مروراً سريعاً ضمن تفسير الآية.
فهنا يعلم الله سبحانه وتعالى المؤمنين ويؤدبهم على الإحسان في أدب المجالس.
ومن هذه الآداب: أن يفسح المرء لأخيه ويتنحى توسعة له.
وارتباط هذه الآية الكريمة بما قبلها ظاهر؛ لأنه في الآية الماضية نهى عن التناجي والسرار، فلما نهى عن التناجي والسرار علم معه الجلوس مع الملأ، فذكر آدابه.
يعني: أن التناجي لا يكون إلا في مجلس، فذكر آداب هذا المجلس، ورتب على امتثالهم فسحه لهم فيما يريدون من التفسح في المكان والرزق والصدر، فتأمل الفعل وتأمل المكافأة! أما الإفساح فهذا شيء نشعر به من بركات مجالس المسلمين واجتماعهم وتزاحمهم في مجالس الرحمة والذكر، ونلاحظ أن الناس إذا ضيقت على أنفسها وبخلت تضيق عليها الأمور، وربما يريد شخص أن يدخل في الصف فإذا أخذ الناس الأمر بسهولة تجد أن الفسحة تحصل في الصف وذلك من بركة الإسلام وبركة الصلاة وبركة امتثال هذا الأمر، وإذا أتى رجل وحاول أن يدخل في الصف فقد يأتي ثان وثالث مع أن الناس كانوا يتصورون أن أول واحد هذا لن يكفيه المكان، فتجد أن البركة تحصل.
قال ابن كثير: وذلك أن الجزاء من جنس العمل، كما جاء في الحديث الصحيح: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، ولهذا أشباه كثيرة، وقد جمع أحد إخواننا الأفاضل الدكتور سيد حسين وأحفاده قاعدة: الجزاء من جنس العمل في كتاب كبير حافل بهذه الأشباه التي يشير إليها الإمام ابن كثير هنا.
قال قتادة: نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا)).
((وإِذَا قِيلَ انشُزُوا)) أي: انهضوا، يعني أن التوسعة لن تتم إلا إذا قام البعض أو ارتفعوا في المجالس.
أو: انهضوا عن مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أمرتم بالنهوض عنه، ولا تملوه بالارتكاز فيه.
يعني: إذا أمركم الرسول صلى الله عليه وسلم أن تنهضوا عنه وتنصرفوا فانصرفوا، ولا تملوه بالارتكاز في المكان وعدم الحركة.
((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ))، أي: يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، والعالمين بها الجارين على موجبها بمقتضى علمهم، درجات دنيوية وأخروية.
قال الناصر: لما علم أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصهم بالذكر عند الجزاء؛ ليدخل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعاً لله تبارك وتعالى.
نلاحظ هنا أن الأمر والتكليف شمل المؤمنين جميعاً: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا))، ولكنه عند ذكر الجزاء فصّل فقال: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ))؛ لأن أهل العلم في الغالب يصدرون في المجالس وترفع مجالسهم؛ فخصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما خصوا به من الرفعة في المجالس؛ تواضعاً لله تبارك وتعالى.
وهذا كما قال الشهاب: من مغيبات القرآن، لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في رفعة المجالس ومحبة التصدير، يعني: كأن هناك بعض من ينتسب إلى العلم ينشغل كثيراً بموضوع الرفعة في المجالس، وأن يكون له الصدارة فيها، ويحب الظهور على مقعد أو في مكان مميز، وهذا لم يكن معروفاً في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وفي كلام الزمخشري ما يشير إلى أنه من عطف الخاص على العام تعظيماً له بعدّه كأنه جنس آخر.
يعني أن قوله: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ))، يعني: ما عدا أهل العلم، أما أهل العلم فهم فئة مستقلة.
قول الزمخشري: إن هذا من باب عطف الخاص على العام، بمعنى أن قوله تعالى: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ))، هذا عام فيشمل في ضمن ما يشمل أهل العلم، ثم خص من هذا العموم أهل العلم بقوله: ((وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ))، فهذا كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]، فهذا تخصيص بعد تعميم؛ لأن جبريل وميكال من الملائكة، ولذا أعاد الموصول في النظم فقال: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ))، ولم يقل: (يرفع الله الذين آمنوا منكم وأوتوا العلم) وإنما كرر (الذين)، فقال: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)).
والمراد بالعلم: علم ما لابد منه من العقائد الحقة والأعمال الصالحة.
وفي الآية استحباب التفسح في مجالس العلم والذكر وكل مجلس طاعة.
ومن آداب المساجد أن يفسح الإنسان لأخيه، خاصة عند الزحام في بعض التجمعات مثل صلاة العيد والجمعة ودروس العلم، فينبغي أن يحرص المسلمون على التفسح في المجالس والتسامح في هذا الأمر.
ويفهم من الأمر بالتفسح النهي عن إقامة شخص ليجلس أحد مكانه، فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا)، رواه الإمام أحمد والشيخان.
وهذا التعبير من القاسمي رحمه الله تعالى دقيق: إذ إنه يفهم من الأمر بالتفسح النهي عن ضد ذلك، فمن جلس في مجلس فيه زحام وقال للناس: تفسحوا، فليس معنى تفسحوا قوموا، بل: كونوا جالسين ولكن كل واحد يفسح لكي يجد الآتي مكاناً فيجلس فيه، وإلا لو كان يجوز للشخص القادم أن يقيم واحداً ويجلس مكانه لما أمروا بالتفسح.
فإذاً يفهم من الأمر بالتفسح النهي عن إقامة شخص ليجلس أحد مكانه، فهذا ممنوع شرعاً، خاصة في المكان العامر لجميع المسلمين، كالمساجد أو غيرها من الأماكن العامة.
لكن لو كان في بيته وسلطانه، وله مكان خاص فلا يجوز لأحد أن يجلس فيه؛ لأن هذا خاص وفي ملكه، وقال النبي عليه السلام: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه)، فالإنسان إذا دخل عند شخص ضيفاً لا يتحرى مكان الصدارة أو المكان الخاص بصاحب البيت، مثل كرسي المكتب الخاص به، أو مقعد معين له صدارة معينة، بل يترك هذا لصاحب البيت، فإن أذن له فلا بأس.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم)، رواه الإمام أحمد.
وفي رواية بلفظ: (لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه، لكن افسحوا يفسح الله لكم)؛ وهذا الكلام يقودنا إلى موضوع آخر من الموضوعات المتعلقة بآداب المجالس، وهو: حكم القيام للشخص القادم.(161/7)
حكم القيام للقادم
يقول ابن كثير: وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال: فمنهم من رخص بذلك محتجاً بحديث: (قوموا إلى سيدكم)، رواه البخاري.
ومنهم من منع ذلك محتجاً بحديث: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار).
ومنهم من فصل فقال: يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دل له قصة سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكماً في بني قريظة، فلما رآه مقبلاً قال للمسلمين: (قوموا إلى سيدكم)، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه، والله تعالى أعلم، فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن: (أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له، لما يعلمون من كراهته صلى الله عليه وسلم لذلك).
أما القول بمنع القيام للقادم فهو مستنبط من حديث: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، والحكم الذي نستنبطه من هذا الحديث: تحريم محبة الوارد -القادم- أن يقوم الناس له.
وفي هذا دلالة واضحة وصريحة على تحريم حب القادم أن يتمثل له الرجال قياماً، وهذا الأمر في غاية الخطورة.
أما قيام الناس للقادم فهذه فيها الخلاف الذي سنذكره، وبالتالي هذا فيه إنذار خطير جداً للرؤساء والوجهاء والمدراء والنظار والمدرسون إلى آخره إذا وقع في قلبه محبة أن يقوم الناس له، بل ربما شعر أنهم هدموا حقه، وأنهم أساءوا إليه، وأنهم لا يحترمونه؛ لأنهم لم يهبوا قياماً إذ رأوه قادماً.
هذا أولاً.
ثانياً: الاستدلال بها في حق الجالسين.
وفيه التفصيل الآتي: نأخذ بمفهوم الحديث، أو بتعبير أدق: استدلالاً بقاعدة سد الذرائع، نستنبط منها أنه يكره للجالسين القيام للوارد إذا أقبل عليهم إلا في حالات مستثناة، لماذا قلنا: يكره؟ لأن الدليل هنا لا يتعرض لذلك مباشرة، وإنما يكره؛ لأنه قد يكون في تعويده القيام له كلما دخل زرع لمحبة ذلك في قلبه، فإذا توقفوا عن بذل ذلك مرة من المرات سوف يبغض ذلك ويكرهه، ويرى أنهم لم يحترموه، فبالتالي يقع في الوعيد المذكور في هذا الحديث.
أما من أجاز ذلك؛ فقد استدل بقول النبي عليه الصلاة والسلام في سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم).
في الحقيقة هذا الحديث كثير من الناس يستدلون به؛ لأن لفظه يدل على التعظيم، لكن يرد عليهم بقوله: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)، وذلك لأن سعد بن معاذ رضي الله عنه كان مجروحاً، وقد استشهد رحمه الله تعالى من أثر تلك الجراح، وكان قد أتى على دابة، فلما رآه النبي عليه السلام مقبلاً وهو مجروح قال: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)، فهذا القيام كان لأجل إنزاله؛ لأنه كان جريحاً، فأيضاً هذا مما يرد به على من جوز القيام للقادم.
وجاء أيضاً في السنن: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له؛ لما يعلمون من كراهته صلى الله عليه وسلم لذلك، فهذه أقوى حجة بعيداً عن الأحكام الفقهية الدقيقة، لكن يكفي أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يكره ذلك، وأن الصحابة مع أنهم أشد الناس تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك كانوا يتحاشون هذا.(161/8)
حكم المجازفة في المديح
بمناسبة الكلام على هذا الأمر يحصل أحياناً نوع من الترخص أو التجافي من الإخوة في مخالفة بعض الآداب الشرعية في عامة المناسبات الاجتماعية، وخاصة في حفلات الزواج وما شابهها، نجد الإخوة يسنون سنة سيئة جداً وسنة قبيحة، وهي سنة المجازفة في المدح؛ لأننا بهذا المدح نعود إخواننا على هذه الأساليب التي لا تليق بالمسلمين، وإنما هي نفخ في الأشخاص ومجازفة، فلماذا نكذب؟ والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن مثل هذا المدح حيث قال: (إياكم والتمادح فإنه الذبح)، وقال النبي عليه الصلاة السلام: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)، فهذا هو اللائق مع من يجادلون في المدح، ولو أن الناس الذين يجادلون في المدح التفتوا لهذا الحديث لكان خيراً لهم.
ولو أن أحد المادحين حثي بالتراب لكانت موعظة عملية تجعلهم يكفون عن هذا الأمر، وأحياناً الواحد كلما حضر مناسبة لبعض الإخوة يجدهم يتكلمون مع بعض الشيوخ بكلام غريب جداً، هل كل من يتكلم يبدأ بالمديح في كل مناسبة، ينبغي أن نتنزه عن مثل هذا السلوك، وليس هذا من سلوك السلف، وعلينا أن نتذكر قول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49].
فمن كان من عباد الله باراً وتقياً وصالحاً لم ينقصه الله حقه، بل يضمن من عمل أعمالاً صالحة أنها عند الله سبحانه وتعالى، فعلينا أن نعد السيئات ولا ننشغل بالمجازفة في المديح حتى يشيع الدجل والنفاق كما يشيع في الأوساط السياسية، فعلينا أن ننزجر وأن نكف عن المجازفة في المديح؛ لأن ذلك يكون فتنة، فنرجو من الإخوة أن يلتفتوا لهذا الأمر.
فمن لقي عالماً أو رجلاً صالحاً أو شيخاً مسناً فقبل رأسه أو يده خاصة الوالدين، فلا بأس، لكن لا تستبدل هذه التحية بتحية وأدب الإسلام في المصافحة وإلقاء السلام؛ نعم هي رخصة لكننا نبالغ في الرخص ونضاعفها؛ فهذا أيضاً مما يخالف هدي السلف الصالح رحمهم الله تعالى.(161/9)
حكم المعانقة عند اللقاء
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال: فمنهم من رخص بذلك محتجاً بحديث: (قوموا إلى سيدكم).
ومنهم من منع ذلك محتجاً بحديث: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار).
ومنهم من فصل فقال: يجوز عند القدوم من سفر.
وهذا عليه دليل صحيح، وهو قول بعض الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أرأيت إذا لقي أحدنا صاحبه أيلتزمه ويعانقه؟ قال: لا.
قال: أينحني له؟ قال: لا.
قال: يصافحه؟ قال: نعم)، فهذا هو الأدب.
وفي الأثر: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذا تلاقوا صافح بعضهم بعضاً، وإذا قدموا من سفر تعانقوا، فالمعانقة تكون عند القدوم من السفر، أما عند الملاقاة العادية فالأصل هو المصافحة.
فموضوع المعانقة عند كل لقاء مخالف لأدب السلف ولهدي النبي عليه الصلاة والسلام في تأديبه أصحابه، فإذا كنا نحن ننكرها على النساء مع أنها من العادات المتأصلة في مجتمعات النساء؛ لكن الواقع أن المصافحة أدب لكل المسلمين رجالاً ونساء.
أما المعانقة والالتزام فيمكن عند القدوم من سفر، أو كما قال العلماء: إذا غاب عنه مدة طويلة واشتاق إلى أخيه، لكن أن تكون ديدناً وعادةً وشيئاً يستبدل عن الأدب الشرعي الذي هو مجرد المصافحة، فهذا مخالف لآداب السلف رحمهم الله تعالى.(161/10)
تفصيل ابن كثير في حكم القيام للقادم
وبعضهم قال: يجوز للحاكم في محل ولايته، كما دلت عليه قصة سعد بن معاذ، وسبق الجواب عن الاستدلال بها، والعلماء الذين أجازوا ذلك قالوا: القيام له مما يجعل له هيبة وسطوة؛ بحيث يستجيب الناس لحكمه وينقادون له.
يقول: فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار الأعاجم.
ولذلك فإن المجتمعات الإسلامية يتشبهون دائماً بالكفار ويعظمون هذا الأدب، فإذا دخل شخص فالكل يقوم ويصفق.
وعلى قول بعض العلماء: يمكن أن يكون تقبيل اليدين والرأس مثلاً للوالدين كنوع من البر والإكرام، وأنا أعرف رجل أعمال كان ناجحاً جداً رحمه الله تعالى، فكان يحكي لي أن أباه كان يحب أن يقبل يده، فيمد له يده ليقبلها، فعندما ينتهي يقول له: قم وستفلح، وبالفعل قد أفلح هذا الرجل جداً، فالشاهد أن هذا يجوز إذا كان مما يرضي الوالدين، فيدخل تحت قوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لم يكن من عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كما يفعله كثير من الناس.
بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لـ عكرمة، وقال للأنصار لما أتى سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم)، وكان سعد متمرضاً بالمدينة، وكان قد قدم إلى بني قريظة شرقي المدينة.
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم خير القرون، ولا يعقل أن يكون هناك خير حجبه الله عن خير القرون ثم نستأثر نحن بهذا الخير؛ لأن شعارنا الذي نرفعه ونتشدق به ونفخر به: أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أي أمر يرد علينا فنحن نقول: لو كان خيراً لسبقونا إليه، ولا نقول كما قال الكفار: لو كان خيراً ما سبقونا إليه، وحينها فلا يعقل أن يختصنا الله بخير يحجبه ويحرم منه أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وخير القرون.
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أحد عن هدي خير الخلق وهدي خير القرون إلى ما هو دونه.
وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه؛ فهي في الحقيقة مسئولية الرئيس أو الزعيم أو المدير أو المدرس؛ إذ هو الذي ينبغي أن يعلن هذا الأمر عند الناس ويؤدبهم عليه، فيقول لهم: إذا دخلت فلا تقوموا؛ لأني أكره ذلك، ويقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان أحب إنسان إلى الصحابة ومع ذلك كانوا يطيعونه في عدم القيام؛ لأنهم يعرفون أنه يكره ذلك، ويبين لهم أن لنا في ذلك أسوة حسنة إلى آخره.
نعم قد توجد الآن حالات من الاضطراب يحتاج معها بعض المدرسين والمدراء وفي بعض المرافق إلى استخدام القيام، وهذا موضوع آخر يدخل في باب الفتوى، وكل سؤال له جواب خاص به، لكننا نتكلم عن القاعدة العامة.
يقول: وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه؛ بحيث إذا رأوه لم يقوموا له، ولا يقوم لهم إلا في اللقاء المعتاد.
الكلام هنا في موطن يكون والناس فيه جلوس، ثم يدخل عليهم واحد فيقومون له، فهذا هو محور كلامنا الآن، لكن في اللقاء المعتاد هذا أمر آخر.
فأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن.
وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام، ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة؛ فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك إصلاح لذات البين، وإزالة للتباغض والشحناء.
الكلام هنا مقيد بشروط: وذلك بأن تكون هذه عادة عند الناس، وهي إكرام الجائي بالقيام، ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه، أو أنهم يقصدون إهانته، وأنهم لا يحترمونه، وهذا الجائي لم يعلم العادة الموافقة للسنة، فيمكن أن يقوم له لإصلاح ذات البين، ولإزالة البغضاء والتشاحن، لكن نقول: فيقام له ثم يبين له بعد ذلك أن الامتناع سنة إلى آخره.
يقول: وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة، فليس في ترك ذلك إيذاء له.
أي: أما في المجتمعات الملتزمة بالسنة، المعظمين لهدي الرسول عليه الصلاة والسلام وهدي السلف؛ ففي هذه الحالة إذا ترك القيام للقادم لا يحتمل أن يكون ذلك إيذاء أو احتقاراً له أو عدم احترام.
وليس هذا القيام هو القيام المذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فإن ذلك أن يقوم وهو قاعد، وليس أن يقوم لمجيئه إذا جاء.
هذا أيضاً مما يوضحه الإمام ابن كثير، فهو يرى أن القيام في هذه الحالة ليس هو القيام المذكور في الحديث، يقول: لأن القيام المذكور في الحديث ليس القيام للجائي تلقياً له، وإنما هو القيام لمن يدخل المجلس فيقوم الناس له ثم لا يجلسون حتى يجلس، وهذا يظهر جلياً في دواوين الملوك.
هذا رأي ابن كثير، وإن كان قد يكون فيه شيء من النظر، وللعلماء وجهات نظر مخالفة لبعض، لكن هو يرى أن الحديث يشمل من هو قاعد وهم قيام، لهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القيام للقاعد، والقاعد إذا قام للتلقي فهو قائم مساو له، لكن في الصورة التي يذكرها ابن كثير يكون هذا الشخص قاعداً وهم قيام على رأسه.
قال: وقد ثبت في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعداً في مرضه، وصلوا قياما، فأمرهم بالقعود، وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضهم بعضاً)، فقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد؛ لئلا يشبه الأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود.
وجماع ذلك أن الذي يصلح اتباع عادة السلف وأخلاقهم، والاجتهاد بحسب الإمكان، فمن لم يعقل ذلك أو لم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاده الناس من الاحترام مصلحة راجحة، فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما ذكرنا في هذه المسألة: فمن لم يعتد ذلك.
يعني: عادات السلف، أو لم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاده الناس من الاحترام مصلحة راجحة فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما؛ خاصة بالذات لو كان هذا الشخص معظماً عند أتباعه، وخلفه أناس وأتباع كثيرون.
يقول ابن كثير: روي عن ابن عباس والحسن البصري وغيرهما: أنهم قالوا في قوله تعالى: ((إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا)): يعني: في مجالس الحرب، قالوا: ومعنى قوله: ((وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا))، أي: انهضوا للقتال.
وقال قتادة: ((وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا))، أي: إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا.
وقال أبو القاسم: إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا بها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فأرادوا الانصراف أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجاً من عنده، فربما يشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم، وقد تكون له الحاجة، فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن ينصرفوا، كقوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28].
ولا تنافي بين هذه الأقوال؛ لأن كلاً منها تفسير للفظ العام ببعض أفراده وما يصدق عليه إشارة إلى تناوله لذلك؛ لا أن أحدها هو المراد دون غيره، فذلك ما لا يتوهم، فقد كثر مثل ذلك في تفاسير السلف في كثير من الآي، وكله مما لا اختلاف فيه كما بيناه مراراً.
حاصل الكلام: أن الآية إذا وردت فيها أقوال عدة لا تتصادم ويحتملها معنى الآية، فالأصل هو الحمل على هذا العموم؛ إذا قيل لكم: تفسحوا في المجالس، سواء قلنا: في مجالس العلم، أو صلاة الجمعة، أو صلاة العيد، أو الاجتماعات عموماً، أو الحرب ((وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا)) يعني: انهضوا للقتال ((فَانشُزُوا))، أو ((وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا))، بمعنى: أن صاحب الدار أمر الحاضرين بالانصراف ((فَانشُزُوا)) أي: انصرفوا، فتضاف إلى آداب الاستئذان، مثل قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]، فتضاف أيضاً على هذا القول إلى المعنى العام.(161/11)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول)
قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة:12].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ))، يعني: إذا ساررتم الرسول صلى الله عليه وسلم، ((فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً))، أي: قبل مسارته في بعض شئونكم قدموا صدقة لله تبارك وتعالى.
وفي ذلك تعظيم لمقام النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه إحسان إلى الفقراء والمساكين ببذل الصدقة قبل مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تمييز بين المؤمن والمنافق.
((ذَلِكَ))، أي: ذلك التقديم ((خَيْرٌ لَكُمْ))، أي: لأنفسكم؛ لما فيه من مضاعفة الأجر والثواب، والقيام بحق الإخاء بالعون لذوي المسكنة بالمواساة والمؤنة.
((وَأَطْهَرُ))، أي: أطهر لأنفسكم من رذيلة البخل والشح، ومن حب المال وإيثاره الذي قد يكون من شعار المنافقين.
وكأن الأمر بالتصدق المذكور نزل ليتميز المؤمن من المنافق؛ فإن المؤمن تسخو نفسه بالإنفاق كيفما كان، والثاني يغص به ولو في أضر الأوقات، ومعظم أوامر السورة هو التصدق.
((فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا))، ما تتصدقون به أمام مناجاتكم الرسول صلوات الله عليه.
((فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ))، لمن لم يجده، إذ لم يحرجه ولم يضيق عليه رحمة منه.(161/12)
تفسير قوله تعالى: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات)
قال تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة:13].
هذا الاستفهام معناه التقريع، يعني: أخفتم من تقديم الصدقات الفاقة والفقر؟ وهذا توبيخ بأن مثله لا ينبغي أن يشفق منه، فمثل هذا التقديم، وهو تقديم الصدقة والإحسان إلى الفقراء، ليس مما يشفق الإنسان منه، للزوم الخلف للإنفاق لزوم الظل للساقط بوعد الله الصدق.
وهذه هي سنة الله الجارية: أن كل من أنفق يخلف الله عليه، وهذه الدعوة التي يدعوها الملكان في كل صباح: (اللهم أعط منفقاً خلفاً، اللهم أعط ممسكاً تلفاً).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث أحرص عليهن: منها: ما نقص مال من صدقة).
بما أن الإخلاف يلازم الإنفاق لزوم الظل للساقط فالنفقة في سبيل الله والصدقة لا ينبغي أن يشفق منها الإنسان، فالإنسان قد يشفق ويخشى الفاقة والفقر إذا أنفق؛ ولكن الله سبحانه وتعالى ضمن للمنفق أن يخلف عليه، وضمن له الثواب الجزيل، والفضائل الكثيرة المعروفة في ثواب الصدقة، فهل مثل هذا يشفق الإنسان منه؟ ((فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا))، يعني: إذ لم تفعلوا ما ندبتم إليه من تقديم الصدقة، وشق ذلك عليكم، ((وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ))، بأن رخص لكم ألا تفعلوا ذلك رفعاً للحرج عنكم ((فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، يعني: فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات؛ فإن ذلك يكسبكم ملكة الخير والفضيلة.
((وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))، فيجزيكم بحسبه.
وقوله تعالى: ((إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ)) إلى آخر الآية، منسوخة بالتي بعدها، وفيه دليل على جواز النسخ بلا بدل خلافاً لمن أبى ذلك، وقد كانت تكاد تتفق كلمة المفسرين على أن هذه الآية نسخت بالتي بعدها، ولا يشترط أن يكون المقصود بالنسخ نسخ الحكم ورفعه بالكلية، فهذا أحد معاني النسخ.(161/13)
نقل عبارات السلف في معنى الآية
أما عبارات السلف فهم يطلقون النسخ ويريدون به عدة معان، من ضمنها الإفهام بعد الإيهام، وهو أن يأتي نص فيه نوع من الإيهام غير واضح في دلالته، فيأتي نص آخر يوضحه ويبينه، فيقول بعض السلف في مثل هذا: هذه الآية نسختها آية كذا، يعني: وضحتها وبينت المقصود منها.
أما المعنى الأصولي للنسخ، وهو أن يرد دليل شرعي متراخياً عن دليل شرعي آخر مقتضياً خلاف حكمه، فهذا المعنى أحياناً يكون هو المراد وأحياناً لا يكون هو المراد من النسخ، كما سبق أن بينا ذلك مراراً.
فاشتهر القول بالنسخ في كتب التفسير كلها تقريباً.
فقد روى ابن جرير عن مجاهد قال: قال علي رضي الله عنه: إن في كتاب الله عز وجل لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12]، قال علي رضي الله تعالى عنه: كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم، فكلما ناجيت الرسول صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد.
وروي عن ابن عمر أنه قال: ثلاث فضل بهن علي رضي الله تعالى عنه: ما يسرني أن لي بها الدنيا، وذكر منها آية النجوى هذه، وذكر منها: إعطاءه الراية في خيبر، وذكر منها: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم إياه من فاطمة رضي الله تعالى عنها.
يقول القرطبي: ما روي عن علي رضي الله عنه في هذه الآية ضعيف؛ لأن الله تعالى قال: ((فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا))، وهذا يدل على أن أحداً لم يتصدق بشيء، والله تعالى أعلم.
فهنا يرد القرطبي الخبر المروي عن علي بنفس هذه الآية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا))، فظاهرها أن أحداً لم يتصدق بشيء.
وقد اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ: فقيل: بقي التكليف عشرة أيام ثم نسخ، وقيل: ما بقي إلا ساعة من النهار ثم نسخ.
وعن مجاهد قال: نهاهم عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا.
فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قدم ديناراً فتصدق به، ثم أنزلت الرخصة في ذلك.
وعن قتادة: أنها منسوخة ما كانت إلا ساعة من نهار.
وعنه أيضاً قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، أي: أحرجوه وشقوا عليه، فوعظهم الله بهذه الآية، وكان الرجل تكون له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك: ((فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [المجادلة:12].
وعن الحسن وعكرمة قالا: ((إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ))، نسختها التي بعدها: ((أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)) إلى آخر الآية.(161/14)
الكلام على نسخ الصدقة بين يدي المناجاة
هذه الآثار وأمثالها هي مستند مدعي النسخ وقوفاً مع ظاهرها، وقد أسلفنا في مقدمة التفسير ومواضع أخرى أن النسخ في كلام السلف أعم منه في اصطلاح الخلف، كما أن المراد من سبب النزول مما يتبادر إليه الفهم، فحينما يقال: نزلت هذه الآية في كذا، ليس المقصود في كل الأحوال أنها بالفعل كذا، وتكون قد نزلت الآية، وإنما المقصود: أن هذه الآية يشمل حكمها الواقعة المذكورة، وسبق التنبيه إلى ذلك مراراً.
كذلك كلمة النسخ أعم من المعنى الضيق الذي هو: رفع الحكم وإزالته بالكلية حتى لا يجوز امتثاله.
فقول قتادة هنا: (فأنزل الله الرخصة بعد ذلك)، ليس مراده إبانة أن الأمر ليس بعزيمة في الآية الثانية، لا أن نزولها كان متراخياً عن الأولى، فإن ذلك مستحيل على رونق نظمها الكريم.
يعني القاسمي رحمه الله تعالى يستبعد القول بالنسخ بمعنى الإزالة ورفع الحكم الذي هو النسخ الأصولي المعروف؛ لأن هذا مستحيل على رونق الآية، ولو تأملنا سياق الآيات، على القول أنها نزلت الأولى أولاً، ثم بعد عشرة أيام أو حتى بعد ساعات يأتي ما يتنافى معها، فهذا لا يتناسب مع رونق هذه الآية، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة:12]، ثم قال تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة:13].
فإن القول بتراخي النزول مستحيل على رونق نظمها الكريم، والأصل في الآي المقررة لحكم النسخ هو اتصال جملها وانتظام عقدها، إذ به يكمل سحر بلاغتها، وبديع بيانها، وتمام فقهها.
والذين ذهبوا إلى عدم وقوع النسخ في التنزيل لهم في الآية وجوه: الوجه الأول: منها قول أبي مسلم إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات، وإن قوماً من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقياً، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى؛ ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيماناً حقيقياً عمن بقي على نفاقه الأصلي، وإذا كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة بذلك الوقت، فلا جرم أن يقدر هذا التكليف بذلك الوقت.
يقول الرازي: وحاصل قول أبي مسلم: أن ذلك تكليف كان مقدراً بغاية مخصوصة، -يعني: التكليف بالصدقة قبل مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم كان له أمد محدود وغاية مخصوصة- فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة، فلا يكون هذا نسخاً.
وهذا الكلام حسن ما به بأس.
انتهى كلام الرازي.
الوجه الثاني: أن شبهة مدعي النسخ ذهابهم إلى أن الأمر بتقديم الصدقة للوجوب، يعني: أن الذين قالوا إن النسخ هنا هو النسخ الأصولي، استندوا إلى أن الأمر بالصدقة على سبيل الوجوب، ودفعهم إلى أن يقولوا بالوجوب قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة:12]، ففهموا منه أن من وجد ولم يقدم صدقة يكون آثماً، أما من لم يجد ((فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)).
وقال تعالى: ((فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ))، فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه.
و
الجواب
أن لا قاطع في كون الأمر للوجوب، بل الظاهر أنه للندب، والدليل أن الله تعالى قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة:12]، وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض.
والثاني: أنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه بكلام متصل به؛ لأن الله قال: ((أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ)) إلى آخر الآية.
فهذا يزيل ما في الأمر الأول من احتمال الوجوب، ويبقى الأمر للندب، فإذا قلنا: إنه على الندب فحينئذ لا نحتاج إلى الكلام في قضية النسخ بالمعنى الأصولي، وإنما النسخ بمعنى التبيين والتوضيح ونحو ذلك.
الثالث: الذي يدل على أنه للندب أن قول الله تبارك وتعالى: ((فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ))، معناه: إن لم تفعلوا ما ندبتم إليه من تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والحال أن الله قد رجع إليكم بالتخفيف والتسهيل فيما شرعه لكم، فلم يعاملكم كما كان يعامل الأمم السابقة، ولم يعنتكم بشيء مما أوجبه عليكم؛ فإذا ندبكم إلى هذا الأمر ولم يجعله عليكم فرضاً كما هي سنته في معاملتكم بالرأفة والرحمة؛ فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله.
فقوله: ((وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)) معناه هنا: الرجوع إلى التخفيف والتسهيل على هذه الأمة، والعدول عن معاملتها كسابقيها.
وقوله: ((وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)) ليس معناه التجاوز عن السيئات وغفران الذنوب، وإنما معناه الرجوع إلى التخفيف والتسهيل، ورفع الحرج عن هذه الأمة، والعدول عن معاملتها كسابقيها من الأمم، كما قال الله تعالى في سورة المزمل: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20]، يعني: رجع إليكم بالتخفيف، ورفع عنكم ما يشق عليكم، وليس معناه في هاتين الآيتين: العفو عن الذنب؛ إذ لم يصدر منهم هنا ذنب أصلاً حتى يقال إن الله تاب عليهم.(161/15)
تفسير سورة المجادلة [14 - 22](162/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين تولوا قوماً)
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14].
((ما هم منكم)) يعني: ليسوا أهل دين فيكونوا من المسلمين، ((ولا منهم)) يعني: من اليهود، كقوله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143] وهذا شأن هؤلاء المنافقين في كل زمان ومكان، عندما يسارعون في موالاة الكفار يقولون: إذا تغلب هؤلاء نقول لهم: كنا معكم، وإذا تغلب هؤلاء ندلي إليهم بما كان من مودة من قبل، فهم لا يلتمسون رضا الله، وإنما يلتمسون هذا الأمر عند هؤلاء وعند هؤلاء، فكل من عمل عملاً لا يريد به وجه الله سبحانه وتعالى فإنه ينقلب عليه بعكس ما أراد ويعامله الله بنقيض قصده، فالذي يريد أن الكفار يرجعون أعزة لا يرجع إلا في ذل وهوان، فيقول الشاعر: جاء بالسخطتين فلا عشيرته رضيت عنه ولا أرضى عنه العدا يقول تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وذلك قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم (نشهد إنك رسول الله)، يحلفون ويستجنون بالأيمان فيجعلون الأيمان الكاذبة وقاية وجُنة تحميهم من العقاب الدنيوي.
فهم في الحقيقة كاذبون غير مصدقين بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يحلفون أنهم يشهدون أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
((وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) يعني: وهم يعلمون أن المحلوف عليه كذب بحت.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: قال بعض أهل العلم: معنى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) يعني: ألم ينته علمه إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم؟ فالرؤية هنا رؤية علمية.
ولفظة: ((أَلَمْ تَرَ)) يزعم البعض أنها لا تعدى إلا بحرف الجر الذي هو إلى، لكن الراجح أنها في الغالب لم تأت في القرآن الكريم إلا متعدية بإلى، لكن تعديتها إلى المفعول بنفسها صحيح بدون حرف جر، وهذا يقع في اللغة العربية، ومن شواهد ذلك قول امرئ القيس: ألم ترياني كلما جئت طارقاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيب والمراد إنكار الله على المنافقين توليهم القوم الذين غضب الله عليهم وهم اليهود والكفار، وهذا الإنكار يدل على شدة منع ذلك التولي، وأن هذا الشيء من كبائر المحرمات، وقد صرح الله بالنهي عن ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الممتحنة:13]، ((مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ))، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون المنافقين ليسوا من المؤمنين ولا من القوم الذين تولوهم وهم الذين غضب الله عليهم من اليهود، جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:142 - 143].(162/2)
تفسير قوله تعالى: (أعد الله لهم عذاباً فلهم عذاب مهين)
قال تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة:15 - 16]، ((جنة)) أي: وقاية وعصمة لأنفسهم، فهم يستجنون بالأيمان يعني: يتخذونها جنة ووقاية يحتمون وراءها حتى لا يعاقبوا، ((فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: فحالوا بأيمانهم عن حكم الله في أمثالهم وهو القتل، إراحة للمؤمنين من فسادهم.
هذا أحد التفسيرين.
يعني: عطلوا حكم الله في قتلهم إراحة للمؤمنين من شرهم بسبب الاستجنان وراء الأيمان الكاذبة، أو ((فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) صدوا الناس في خلال أمنهم وسلامتهم عن الإيمان ((فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)) أي: مذل لهم في الآخرة.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله عز وجل هنا: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:16]: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المنافقين اتخذوا أيمانهم جنة، والأيمان جمع يمين، وهي الحلف، والجنة: هي الترس الذي يتقي به المقاتل وقع السلاح، والمعنى: أنهم جعلوا الأيمان الكاذبة وهي حلفهم للمسلمين أنهم معهم وأنهم مخلصون في باطن الأمر، ترساً لهم يتقون به الشر الذي ينزل بهم لو صرحوا بكفرهم.
وقوله تعالى: ((فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، الظاهر أنه من (صد) المتعدية؛ وأن المفعول محذوف أي: فصدوا غيرهم ممن أطاعهم؛ لأن صدودهم في أنفسهم دل عليه قوله: ((اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً))، والحمل على التأسيس أولى من الحمل على التوكيد كما أوضحناه مراراً.
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة وهما: كون المنافقين يحلفون الأيمان الكاذبة لتكون لهم جنة، وأنهم يصدون غيرهم عن سبيل الله، جاءا موضحين في آيات أخر من كتاب الله.
أما أيمانهم الكاذبة فقد بينها الله جل وعلا في آيات كثيرة، كقوله هنا في هذه السورة: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] يعني: أنهم كاذبون، وقال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62]، وقال تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [التوبة:95]، وقال تعالى: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:42].
وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون:2].
وأما صدهم من أطاعهم عن سبيل الله فقد بينه الله في آيات من كتابه، كقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:18 - 19] إلى آخره.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156]، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168]، وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:72] إلى آخرها.
وقوله هنا في هذه الآية: ((فلهم عذاب مهين))؛ لأجل نفافقهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145].(162/3)
تفسير قوله تعالى: (لن تغني عنهم أموالهم هم الخاسرون)
يقول الله عز وجل: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:17 - 19].
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي: من عذابه شيئاً ما، كما كانوا يفسدون بذلك في الدنيا.
{أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ}، كما يحلفون لكم في الدنيا كاذبين مبطلين، فهذا الحلف الكاذب مرنوا عليه، أي: صار عادة لازمة لهم، حتى إنهم يوم القيامة أيضاً يحلفون بالله كاذبين، كما قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23].
فقوله تعالى: ((يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)) يعني: السبب هنا الكذب في الحلف سواء في الدنيا أو في الآخرة: ((كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ))، في الدنيا كاذبين مبطلين؛ إشارة إلى مرونهم على النفاق ورسوخهم فيه حتى لدى من لا تخفى عليه خافية.
قد يروج كذبهم على الناس في الدنيا بأن الناس لا يصلون إلا إلى الظواهر، أما البواطن فالله وحده يعلمها، وفي الآخرة مع أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما في قلوبهم لكنهم أيضاً يستجنون بالأيمان الكاذبة.
{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} يعني: من النفع أو من الحق، ((أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ)) فيما يحلفون عليه في الدارين.
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} أي: استولى عليهم حتى صار الكذب والفساد ملكة لهم، {فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ}، أي: بتصوير اللذات الحسية والشهوات البدنية لهم، وتزيين الدنيا وزخرفها في أعينهم: وأسند إنساء ذكر الله إلى الشيطان كما قال: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، وقال تعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف:42]، وقال أيضاً في الكهف: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63]، فكذلك هؤلاء المنافقون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله.
{أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} أي: أتباعه في الفساد والإفساد، {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي: الخسارة في الدارين.
والأحزاب في الإسلام نوعان: حزب الله وأحزاب الشيطان، فأحزاب الشيطان يجمعها دعوة واحدة، أما حزب الله فسوف يأتي ذكر وضعهم في آخر هذه السورة الكريمة، وكل من لم يرفع بالإسلام رأسه فهو من حزب الشيطان.(162/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحادون الله قوي عزيز)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:20 - 21].
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} يعني: في أهل الذلة؛ لأن الغلبة لله ولرسوله، كما قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
فقوله: (فِي الأَذَلِّينَ) لا يعني فقط الذين فيهم وصف الأذلين، وإنما ينسب إليهم أنهم أعظم الناس ذلاً.
والأذلون: جمع الأذل أي: الذين هم أعظم الناس ذلاً، والذل: هو الصغار والهوان والحقارة.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الذين يحادون الله ورسوله هم أذل خلق الله ذكره تعالى وبينه في غير هذا الموضع، وذلك بذكره أنواع عقوبتهم المفضية إلى الذل والخزي والهوان، كقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة:63]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة:5]، وقال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:3 - 4]، وقال تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال:13 - 14].
((لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي))، المفعول مقدر، أي: لأغلبن أنا ورسلي حزب الشيطان المحادين.
((إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ))، أي: قوي على إهلاك من حاده ورسله، عزيز فلا يغلب في قضائه تبارك وتعالى.
وقد دلت هذه الآية الكريمة كما يقول الشنقيطي رحمه الله على أن رسل الله غالبون لكل من غالبهم.
وقوله: ((أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ))، تحمل نفس المعنى الوارد في جملة من الأحاديث، كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري).(162/5)
تفسير قوله تعالى: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي)
قال تعالى: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي))، فالرسل غالبون لكل من غالبهم، والغلبة نوعان: غلبة بالحجة والبيان وهي ثابتة لجميع الرسل، وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لمن أمر بالقتال منهم دون من لم يؤمر بها.
وقد دلت هذه الآية الكريمة وأمثالها كقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، على أنه لم يقتل نبي في جهاد قط على الإطلاق؛ لأن المقتول ليس بغالب، فالقتل في جانب والغلبة في جانب آخر، بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء:74]، هي واحدة من الاثنتين فقط: إما أن يقتل وإما أن يغلب، فدل على أن القتل غلبة.
وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، وقد نفى الله عن الشخص المنصور أن يكون مغلوباً نفياً باتاً في قوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160]، وبهذا تعلم أن الرسل الذين جاء في القرآن أنهم قتلوا كقوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87] وقوله تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183] لم يقتلوا في جهاد، وإنما قتلوا صبراً كما حصل لزكريا وغيره من الأنبياء الذين قتلتهم بنو إسرائيل.
وقد بين العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى هذا المعنى بصورة مفصلة في أثناء تفسير سورة آل عمران عند تفسير قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران:146].
يقول: هذه الآية الكريمة على قراءة من قرأ (قُتل) للمفعول: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ))، لا تدل على أن النبي قد يقتل، لكن على قراءة أخرى يحتمل ذلك، فالآية: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146].
فعلى قراءة من قرأ: (قتل معه) بالبناء للمفعول يحتمل أن نائب الفاعل يكون لفظة: (ربيون)، يعني: قتل ربيون معه، وعليه فليس في (قتل) ضمير أصلاً؛ لأن نائب الفاعل اسم ظاهر.
وهناك احتمال آخر: أن يكون نائب الفاعل ضميراً عائداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتل)، وفي هذه الحالة تعرب جملة: ((مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)) بأن (ربيون) مبتدأ مؤخر مرفوع بالواو، و (معه): شبه جملة في محل رفع خبر مقدم.
أما بالنسبة للفعل: (قتل)، فنائب الفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) يعود إلى النبي.
يقول: ويحتمل أن يكون نائب الفاعل ضميراً عائداً إلى النبي، وعليه فمعه خبر مقدم، و (ربيون): مبتدأ مؤخر سوغ الابتداء به اعتماده على الظرف قبله ووصله بما بعده، والجملة حالية والرابط الضمير، وسوغ إتيان الحال من النكرة التي هي نبي وصفه بالقتل ظلماً، وهذا هو أجود الأعاريب المذكورة في الآية على هذا القول.
يقول: وبهذين الاحتمالين في نائب الفاعل المذكور يظهر أن في الآية إجمالاً، والآيات القرآنية مبينة أن النبي المقاتل غير مغلوب بل هو غالب، كما صرح تعالى بذلك في قوله: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي))، وقال قبل ذلك: ((أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ))، ثم قال: ((إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)).
وأغلب معاني الغلبة في القرآن: الغلبة بالسيف والسنان، كقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:65]، وقال تعالى بعدها: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال:66]، وقال تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1 - 4]، وهذه الغلبة بالسيف والسنان في القتال، وقال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] أي: بالسيف والسنان، وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران:12]، إلى غير ذلك من الآيات.
يقول: وبين تعالى: أن المقتول ليس بغالب بل هو قسم مقابل للغالب بقوله: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء:74]، فاتضح من هذه الآيات أن القتل ليس واقعاً على النبي المقاتل؛ لأن الله كتب وقضى له في أجله أنه غالب، وصرح بأن المقتول غير غالب.
وقد حقق العلماء أن غلبة الأنبياء على قسمين: غلبة بالحجة والبيان، وهي ثابتة لجميعهم.
وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لخصوص الذين أمروا منهم بالقتال في سبيل الله.
قال: وتصريحه تعالى بأنه كتب أن رسله غالبون شامل لغلبتهم لمن غالبهم بالسيف، كما بين أن ذلك معنى الغلبة في القرآن، وشامل أيضاً لغلبتهم بالحجة والبيان، فهو مبين أن نصر الرسل المذكور في قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصافات:171 - 172]، نصر غلبة بالسيف والسنان للذين أمروا منهم بالجهاد؛ لأن الغلبة التي بين أنه كتبها لهم أخص من مطلق النصر؛ لأنها نصر خاص، والغلبة لغة الثقل، والنصر لغة إعانة المظلوم، فيجب بيان هذا الأعم بذلك الأخص.
وبهذا تعلم أن ما قاله الإمام الكبير الحافظ ابن جرير رحمه الله تعالى ومن تبعه في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر:51] إلى آخره، من أنه لا مانع من قتل الرسول المأمور بالجهاد، وأن نصرة المنصوص في الآية حينئذ يحمل على أحد أمرين: أحدهما: أن الله ينصره بعد الموت، بأن يسلط على من قتله من ينتقم منه، كما فعل بالذين قتلوا يحيى وزكريا وشعيبا من تسليط بختنصر عليهم ونحو ذلك.
إما أن يسلط الله على من قتل النبي في الجهاد بأن يقتل وينكل به انتقاماً.
الثاني: حمل الرسل في قوله تعالى: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا))، على خصوص نبينا صلى الله عليه وسلم.
لا يجوز حمل القرآن عليه لأمرين: أحدهما: أنه خروج بكتاب الله عن ظاهره المتبادر منه بغير دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع، والحكم بأن المقتول من المتقاتلين هو المنصور بعيد جداً غير معروف في لسان العرب، فحمل القرآن عليه بلا دليل غلط ظاهر، وكذلك حمل الرسل على نبينا وحده صلى الله عليه وسلم بعيد جداً أيضا، والآيات الدالة على عموم الوعد بالنصر لجميع الرسل كثيرة لا نزاع فيها.
أيضاًً الله سبحانه وتعالى لم يقتصر في كتابه على مطلق النصر الذي هو في اللغة: إعانة المظلوم؛ لأن النصر كما قلنا في اللغة: هو إعانة المظلوم، أما الغلبة لغة فهي القهر.
فالله سبحانه وتعالى لم يقتصر على مطلق النصر الذي هو في اللغة: إعانة المظلوم بل صرح بأن ذلك النصر المذكور هو للرسل هو نصر غلبة وقهر، وليس النصر بمعنى إعانة المظلوم؛ لأن الله قال: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي))، فلابد أن يحمل النصر على هذه الغلبة والقهر كما ذكرنا.
يقول: (وقد رأيت معنى الغلبة في القرآن، ومر عليك أن الله جعل المقتول قسماً مقابلاً للغالب في قوله: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء:74]، وصرح تعالى: بأن ما وعد به رسله لا يمكن تبديله بقوله جل وعلا: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34]، ((وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)) ومن كلمات الله الكونية القدرية: أن الرسول لا يمكن أن يقتل في الجهاد أبداً، ولا شك أن قوله تعالى: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)) من كلماته التي صرح بأنها لا مبدل لها، وقد نفى الله جل وعلا عن المنصور أن يكون مغلوباً نفياً باتاً بقوله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160].
وذكر مقاتل: أن سبب نزول قوله تعالى: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)): أن بعض الناس قال: أيظن محمداً وأصحابه أن يغلبوا الروم وفارس كما غلبوا العرب، زاعماً أن الروم وفارس لا يغلبهم النبي صلى الله عليه وسلم لكثرتهم وقوتهم فأنزل الله الآية، وهو يدل على أن الغلبة المذكورة فيها غلبة بالسيف والسنان؛ لأن صورة السبب لا يمكن إخراجها).
وسبب النزول يكون دخولاً في حكم الآية قطعياً، ويدل له قوله قبله: ((أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ))، وقوله بعده: ((إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)).
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: (أضواء البيان) أننا نستشهد للبيان بالقراءة السبعية بقراءة شاذة فيشهد للبيان الذي بينا به أن نائب الفاعل: (ربي(162/6)
تفسير قوله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله)
قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] إلى آخره.
((مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، أي: شاقهما وخالف أمرهما، يعني: لا تجد قوماً جامعين بين الإيمان بالله واليوم الآخر وبين مودة أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمراد بنفي الوجدان نفي الموادة على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك، وحقه أن يمتنع، ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراز من مخالطتهم ومعاشرتهم.
يعني: ((لا تجد قوماً)) أسلوب خبري؛ لأن (لا) هنا نافية وليست ناهية؛ لكنه ظاهره النفي ومراده النهي، كقوله: (لا ضرر ولا ضرار) وقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] فهذا خبر لكن المقصود به: (لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا) فالمقصود هنا: أن هذا من شدة تأكده ولزومه على المؤمنين، كأنه لا يمكن أن تجد مؤمناً يحب الله ورسوله يجمع بين الإيمان ومودة أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمراد بنفي الوجدان نفي المودة، يعني: لا توادوهم أبداً، على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتوصية في التصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراز من مخالطتهم ومعاشرتهم.
وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله: ((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ)) إلى آخره.
((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ)) يعني: آباء الموادين، والضمير في (كانوا) لمن حادوا الله ورسوله، يعني: ولو كان هؤلاء الذين حادوا الله ورسوله آباءهم أو أبناءهم إلى آخره، ونلاحظ هنا جمعاً وإفراداً، الإفراد بقوله: (حاد الله) وفاعله ضمير تقديره هو، يعود إلى (من) فالإفراد بالنظر إلى اللفظ، ثم باعتبار المعنى فقال: ((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ)) فلذلك يقول القاسمي رحمه الله تعالى: والجمع باعتبار معنى (من)، كما أن الإفراد فيما قبله باعتبار لفظها، فإن قضية الإيمان هجر المحادين.
((أُوْلَئِكَ)) إشارة إلى الذين لا يوادونهم ((كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ)) أي: أسسه فيها ((وأيدهم بروح منه))، أي: بنور وعلم ولطف حيت به قلوبهم في الدنيا، وأشار إلى مآلهم في الآخرة بقوله: ((وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))، أي: الناجحون الفائزون بسعادة الدارين.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وردت هذه الآية الكريمة بلفظ الخبر: ((لا تَجِدُ قَوْمًا)) والمراد بها الإنشاء، وهذا للنهي البليغ والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله، وإيراد الإنشاء بلفظ الخبر أقوى وأوكد من إيراده بلفظ الإنشاء كما هو معلوم بمحله.
ومعنى قوله: ((يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، أي: يحبون ويوالون أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وما جاء في هذه الآية من النهي والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله جاء موضحاً في آيات أخر، كقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].
أكاد أجزم والله تعالى أعلم لو أن هؤلاء المؤمنين إبراهيم والذين معه عاشوا في عصرنا لقيل لهم: أنتم متطرفون وإرهابيون إلى آخر هذه القائمة من الشتائم المعروفة.
فحقيقة ما يحصل الآن هو غسيل مخ للمسلمين في ظل نظام العولمة، وهذا يهدم أصلاً أصيلاً من أصول الإيمان بعد التوحيد مباشرة، وهو حق من حقوق التوحيد، ألا وهو قضية الولاء والبراء؛ فالآن تجري عملية تغريب عن طريق بث هذه الأفكار المسمومة، وليس التغريب بمعنى التبعية للغرب كما هو شائع، لكن التغريب زيادة غربة الإسلام بين أهله، حتى أن الذي يقول هذا الكلام أصبح إنساناً شاذاً متطرفاً مهووساً مجنوناً يريد الفتنة، ويريد كذا وكذا.
فهذه زيادة غربة الإسلام بإشاعة المفاهيم المسمومة حتى تزداد غربة المفاهيم الصحيحة، ويصبح القائم بها هو الشاذ المتطرف الإرهابي.
ويقول تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، الآن نحل محلها الأخوة الإنسانية، وحقوق الإنسان، إلى آخر هذه المصطلحات.
ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73].
وقوله هنا في هذه الآية الكريمة: ((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ)) زعم بعضهم أنها نزلت في أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قائلاً: إنه قتل أباه كافراً يوم بدر أو يوم أحد.
وقيل نزلت: في عبد الله بن عبد الله بن أبي وزعم من قال ذلك أن عبد الله استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه عبد الله بن أبي فنهاه.
وقيل نزلت: في أبي بكر، وزعم من قال ذلك أن أباه أبا قحافه سب النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه فضربه ابنه أبو بكر حتى سقط.
((أَوْ أَبْنَاءَهُمْ)) زعم بعضهم أنها نزلت في أبي بكر حين طلب مبارزة ابنه عبد الرحمن يوم بدر.
((أَوْ إِخْوَانَهُمْ)) زعم بعضهم أنها نزلت في مصعب بن عمير، قالوا: قتل أخاه عبيدة بن عمير؛ وقال بعضهم: مر بأخيه يوم بدر وقد كان يأسره رجل من المسلمين، فقال: شدد عليه الأسر، فإن أمه ملية وستفديه.
((أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)) قال بعضهم: نزلت في عبيدة بن الحارث بن المطلب وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم لما قتلوا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة في المبارزة يوم بدر وهم بنو عمهم؛ لأنهم أولاد ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف وعبد شمس أخو هاشم كما لا يخفى.
((أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ))، أي: ثبته في قلوبهم بتوفيقه.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تثبيت الإيمان في قلوبهم جاء موضحاً في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7 - 8].(162/7)
وجوب التصلب في الدين في مقابلة المبطلين
يقول القاسمي في تفسير هذه الآية الكريمة: من أشباه هذه الآيات قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28].
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].
ثم نقل عن ابن كثير ما نقلناه آنفاً عن سبب نزول هذه الآيات: أن آية كذا نزلت في فلان قتل أخاه، وفلان قتل أباه إلى آخره.
قال القاسمي: وقد بينا مراراً أن المراد بسبب النزول في مثل ذلك: صدق الآية على هؤلاء، وما أتوا به من التصلب في دين الله في مقابلة المبطلين، ولو كانوا من أقرب الأقربين.
قال ابن كثير: ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر، فأشار الصديق بأن يفادوا، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين وهم بنو العم والعشيرة، ولعل الله تعالى أن يهديهم؛ وقال عمر: لا أرى ما يرى يا رسول الله، إلا أن تمكني من فلان، وتمكن علياً من عقيل، وتمكن فلاناً من فلان ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين.
وقال ابن كثير: في قوله تعالى: ((رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)) سر بديع، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله تعالى، عوضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم والفوز العظيم والفضل العميم.(162/8)
أهل الذمة لا يدخلون في حكم المحادين لله ورسوله
يقول أيضاً: يفهم من قوله تعالى: ((مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) وقوله في آية أخرى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]: أن المراد به المحاربون لله ولرسوله، الصادون عن سبيله، المجاهرون بالعداوة والبغضاء، وهم الذين أخبر عنهم قبل بأنهم يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، فتشمل الآيات المشركين وأهل الكتاب المحاربين المحادين لنا، أي: الذين هم على حد منا ومجانبة لشئوننا، تحقيقاً لمخالفتنا، وترصداً للإيقاع بنا.
أي: فالمقصود من قوله: ((من حاد الله ورسوله)) وقوله: ((لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)) المجانبون لنا من أهل الكتاب والمشركين الذين هم على حد منا، نحن في جهة وهم في جهة، وهم في مجانبة لشئوننا تحقيقاً لمخالفتنا وترصداً للإيقاع بنا.
وأما أهل الذمة الذين هم بين أظهرنا ممن رضي بأداء الجزية لنا وسالمنا واستكان لأحكامنا وقضائنا، فأولئك لا تشملهم الآية؛ لأنهم ليسوا بمحادين لنا بالمعنى الذي ذكرناه، وإذا كان لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وجاز التزوج منهم ومشاركتهم، والاتجار معهم، وعيادة مرضاهم؛ فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم يهودياً وعرض عليه الإسلام فأسلم، كما رواه البخاري، وعلى الإمام حفظهم، والمنع من أذاهم واستنقاذ أسراهم؛ لأنه جرت عليهم أحكام الإسلام.
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان في الرد على المتنطعين الذين لا تطيب نفوسهم في كثير من الرخص المشروعة ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب من دعاه فيأكل طعامه، وأضافه يهودي بخبز شعير وإهالة سنخة، وكان المسلمون يأكلون من أطعمة أهل الكتاب، وشرط عمر رضي الله عنه ضيافة من مر بهم من المسلمين، فقال: أطعموهم مما تأكلون.
وقد أحل الله عز وجل ذلك في كتابه، ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام صنع له أهل الكتاب طعاماً فدعوه فقال: أين هو؟ قالوا: في الكنيسة.
فكره دخولها؛ وقال لـ علي رضي الله عنه: اذهب بالناس، فذهب علي بالمسلمين فدخلوا وأكلوا، وجعل علي رضي الله عنه ينظر إلى الصورة، وقال: ما على أمير المؤمنين لو دخل وأكل، والأصل في هذا قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9].
وعن الإمام محمد بن المطهر: أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي أن تحب الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته لا لسبب آخر من جلب نفع أو دفع ضر، أو خصلة خير فيه.
فهذا آخر تفسير سورة المجادلة وهي هذه الآية الكريمة: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].(162/9)
بشائر ومبشرات لأهل القرآن
من البشريات للإمام العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: أن هذه الآية هي آخر آية في تفسيره المبارك أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، فقد وقف عند تفسير هذه الآية؛ لأنه أتى موسم الحج سنة ألف وثلاثمائة وثلاثة وتسعين هجرية، فخرج من الموسم ثم رجع فمرض ومات بعد أيام قليلة من موسم الحج رحمه الله تعالى، فكانت آخر آية فسرها في كتابه المبارك هي هذه الآية التي تنتهي بقوله: ((أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))؛ فلعل هذه علامة حسن خاتمة بإذن الله لهذا الإمام القرآني الفذ، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.
ونظير ذلك أيضاً: أن تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى توقف عند قوله تبارك وتعالى في سورة يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].
وذات يوم جافاني النوم فأخذت ملزمة مقدمات سكب العبرات للموت والقبر والسكرات وقرأت مقدمة الشيخ محمد صفوت نور الدين، وكان مما قال فيها: شهدت أحد أعمامي وهو في موته يحتضر، وكان قد طال به المرض وكان يتأوه كثيراً، وقد أصيب بالاستسقاء، وكان من أول من دعا للسنة في البلدة التي كان يعيش فيها، وكان جهاده فيها رغم ضعفه وفقره جهاداً عظيماً متصلاً، فإذا به يقرأ قبل موته: {َيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5] لا يتعداها ويكررها وهكذا، وقد ذهب عنه كل شكوى كان يشتكي بها، ثم أخذ ينادي على بعض من مات منذ عشرات السنين، وأخذ يردد كلمات قال فيها: فرح فرح فرح، ما هو هذا الكرم كله يا رب ويكررها.
كل ذلك وأنا أنظر إليه متعجباً وأقول في نفسي: سيفيق، فأسأله عن ذلك، لكن اتصل هذا بخروج روحه، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.
فالشاهد من القصة: لما قرأت قوله: ثم أخذ يردد كلمات قال فيها: فرح فرح فرح، ما هو الكرم هذا كله يا رب، في نفس هذه اللحظة دق جرس التليفون فرفعت الهاتف فإذا به أحد الإخوة يخبرني بوفاة الشيخ محمد صفوت رحمه الله تعالى رحمة واسعة، والشيخ له جهد مشكور في الدفاع عن السنة والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى على بصيرة.
وكان بعدما عاد من العمرة بأيام قليلة أخذ أولاده جميعاً وأهله وذهب لزيارة بعض أهله، وبعد ما صلى هناك صلاة المغرب إذا به تحصل له حادثة في الطريق فيموت فيها رحمه الله تعالى؛ وكانت زوجته رأت قبل وفاته أنه يزف إلى عروس جميلة، فلعلها من الحور العين إن شاء الله تعالى.
كذلك الرجل الذي كان يقرأ سورة يس، فعندما وصل إلى قوله تعالى: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]، فاضت روحه.
والله أعلم.(162/10)
تفسير سورة الحشر [1 - 5](163/1)
بين يدي سورة الحشر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: نشرع بإذن الله تعالى في تفسير السورة التاسعة والخمسين من سور القرآن الكريم، وهي: سورة الحشر.
قال المهايمي: سميت به لدلالة إخراج اليهود عنده على لطف الله وعنايته برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، وقهره وغضبه على أعدائهم، فهو من أعظم مقاصد القرآن، وكان ابن عباس يقول: سورة بني النضير، وبنو النضير: هم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد نزلوا في المدينة في فتن بني إسرائيل؛ انتظاراً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان من أمرهم ما قص الله عليه هنا في هذه السورة.
وسبب وجود اليهود في المدينة وفي بلاد المغرب الإسلامي هو أنهم كانوا دائماً لا يجدون مأمناً إذا نزل بهم الفزع إلا في ظل الحكم الإسلامي، فلما حصل الاضطهاد والقتل لهم في الأندلس فزعوا إلى المغرب الإسلامي، وما زالوا موجودين فيه إلى الآن، بل ولهم فيه ثقل.
وكذلك كانوا يفرون من الفتن التي تعرض لهم إلى المدينة؛ انتظاراً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا حصل بينهم وبين المشركين نزاع فإنهم يقولون: نحن في انتظار نبي سوف يبعث، فإذا بعث لنؤمننّ به ولنتبعنّه، ثم نقاتلكم فنغلبكم، وقد ذكر الله تعالى عنهم ذلك في سورة البقرة: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89].
روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لـ ابن عباس: سورة الحشر، قال: سورة بني النضير.
يعني: سمِّها سورة بني النضير.
وعنه قال: قلت لـ ابن عباس: سورة الحشر، قال: سورة بني النضير، وهم قوم من اليهود كما ذكرنا.
وهذه السورة مدنية، وآيها أربع وعشرون بلا خلاف.
قال الله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد:1].
تقدم القول في تأويل نظيره في القرآن الكريم، وهنا سنتجاوزه اختصاراً، وقد بدأ الشيخ عطية سالم رحمه الله -وهو أخص تلامذة العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى- تتمة (أضواء البيان) ببحث مفصل جداً عن التسبيح.(163/2)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر)(163/3)
المقصود بالحشر هنا
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2].
أشار الله تبارك وتعالى بعدما وصف نفسه بقوله: ((وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) إلى بيان بعض آثار عزته تعالى، وإحكام قسمته، وذلك إثْرَ وصفه بالعزة القاهرة، والحكمة الباهرة على الإطلاق، فهو العزيز الحكيم، فبيّن وفصّل آثار هذه العزة والحكمة، فقال: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) يعني: بني النضير من اليهود، ((مِنْ دِيَارِهِمْ)) أي: من مساكنهم التي جاورا بها المسلمين حول المدينة؛ لطفاً بالمسلمين.
وقوله: ((لِأَوَّلِ الْحَشْرِ)) يقول القاسمي: أي: لأول الجمْع؛ لقتالهم، يعني: أن الله سبحانه وتعالى أخرجهم بقهره لأول الحشر، فكأن القاسمي ينتحي منحى من ذهب إلى أن أول الحشر هنا توقيت زماني، وقال بعض المفسرين: إنه حشر مكاني، وأنه يقصد به الأحساء أو غير ذلك كما سيأتي، فـ القاسمي يرى أن أول الحشر توقيت زماني، والتوقيت به إشارة إلى شدة الأخذ الرباني لهم، وقوة البطش والانتقام بقذف الرعب في قلوبهم، حتى اضطروا في أول الهجوم عليهم إلى الجلاء والفرار، فأول ما حشر وجمع الجيش الإسلامي لمواجهتهم لم يحتج الأمر إلى حشر ثانٍ وثالث، بل قذف الرعب في قلوبهم، ففروا وهربوا، هذا هو الذي اختاره العلامة القاسمي رحمه الله تعالى.
وأما القرطبي فيقول: إن ((الْحَشْرِ)): هو الجمع، وهو على أربعة أوجه: حشران في الدنيا، وحشران في الآخرة.
فأما اللذان في الدنيا: فالأول: حشرهم للقتل، كقوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ))، قال الزهري: كانوا من سبط لم يصبهم جلاء، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء، فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا، وكان أول حشر حشروه في الدنيا إلى الشام، وقال ابن عباس وعكرمة: من شك أن المحشر في الشام فليقرأ هذه الآية، يعني: ((لِأَوَّلِ الْحَشْرِ)) أي: لأول مكان يحصل منه حشر الناس يوم القيامة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (اخرجوا، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر).
قال قتادة: هذا أول المحشر، وقال ابن عباس: هم أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من ديارهم.
وقيل: إنهم أخرجوا إلى خيبر، وأن معنى: (لأول الحشر) إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخره: إخراج عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إلى نجد وأذرعاء، وقيل: شيما وأريحاء -وأريحاء ما زالت تسمى إلى الآن أريحاء-؛ وذلك لكفرهم، ونقضهم عهدهم.
وأما الحشر الثاني: فحشرهم قرب القيامة، قال قتادة: تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل منهم من تخلف.
وهذا ثابت في الصحيح.
وقال ابن وهب لـ مالك: هو جلاؤهم من ديارهم، فقال لي: الحشر يوم القيامة حشر اليهود، قال: وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى خيبر حين سئلوا عن المال فكتموه، فاستحلهم بذلك.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: في الحشر أولٌ ووسطٌ وآخر.
فالأول: إجلاء بني النضير، والأوسط: إجلاء خيبر، والآخر: حشر يوم القيامة.
وفصّل ذلك أيضاً الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى -وقد توفي في عام الحزن، وذلك في السنة الماضية التي شهدت وفاة جمع كبير من العلماء وأهل الخير- فيقول رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ)): أجمع المفسرون أنها في بني النضير، إلا قولاً للحسن إنها في بني قريظة، ورُدَّ هذا القول: بأن بني قريظة لم يخرجوا ولم يجلوا، ولكن قتلوا.
ويسمي الناس هذه السورة بسورة بني النضير.(163/4)
سبب نزول سورة الحشر
اتفق المفسرون على أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر، قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة، فإنه لا ترد له راية، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة، فحالفوا عليه قريشاً عند الكعبة، فأخبر جبريل الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فأمر بقتل كعب، فقتله محمد بن مسلمة غيلة وكان أخاه من الرضاعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمَين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة، فهموا بطرح الحجر عليه صلى الله عليه وسلم، وأرادوا اغتياله صلى الله عليه وسلم، فأوحي إليه بذلك، وعصمه الله تعالى منهم، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
ولما قتل كعب أمر صلى الله عليه وسلم بالمسيرة إليهم، وطالبهم بالخروج من المدينة، فاستمهلوه عشرة أيام كي يتجهزوا للخروج، فأرسل إليهم عبد الله بن أبي رأس المنافقين سراً ألا تخرجوا من الحصن، ولا تمتثلوا أمره بالجلاء، ووعدهم بنصرهم بألفي مقاتل من قومه، ومساعدة بني قريظة وحلفائهم من غطفان أو الخروج معهم، فتآمروا مع رأس النفاق في المدينة عبد الله بن أبي، فدربوا أنفسهم، وامتنعوا بالتحصينات الداخلية، فحاصرهم صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة.
وقيل: أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: اخرج في ثلاثين من أصحابك، ويخرج إليك ثلاثون منا؛ ليسمعوا منك، فإن صدّقوا آمنا كلنا، ففعل، فقالوا: كيف نفهم ونحن ستون؟ أي كيف نفهم دعوة الإسلام، وأدلة النبوة، ونحن ستون: أنتم ثلاثون، ونحن ثلاثون؟! اخرج في ثلاثة، ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا يناظرونك، يناظرونك عن الإسلام، ففعلوا، فاشتملوا على الخناجر، أي: أخفوا الخناجر، وأرادوا الغدر، فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها -وكان مسلماً- فأخبرته بما أرادوا، فأسرع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فساره بخبرهم قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين الذي وعدهم به ابن أبي، فطلبوا الصلح، فأبى عليهم صلى الله عليه وسلم إلا الجلاء، على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع إلا الحلقة -وهي أدوات السلاح- فكانوا يحملون كل ما استطاعوا عليه ولو أبواب المنازل، فكانوا يخلعون أبواب المنازل ويحملونها معهم، كما قال تعالى: ((يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ))، فكانوا يحملون ما استطاعوا معهم، فانظر إلى العبرة، والى مشيئة سبحانه وتعالى الذي جعلهم يخربون بيوتهم، فينقضونها ويهدمونها بأيديهم بعد أن كان المسلمون ينظرون إليهم على أنهم قوة قوية ومنعة منيعة، وحصون لا تُهد.
يقول الشيخ عطية رحمه الله: وقد ذكرنا هذه القصة في سبب نزول هذه السورة؛ لأن عليها تدور معاني هذه السورة كلها، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته في أصول التفسير: إن معرفة السبب تعين على معرفة التفسير، وليعلم المسلمون مدى ما جُبل عليه اليهود من غدر، وما سلكوه من أساليب المراوغة، فما أشبه الليلة بالبارحة، وهنا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى أسند إخراجهم إلى نفسه عز وجل، فقال: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) مع وجود حصار المسلمين لهم، وقال الله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب:25]، فذكر عز وجل أنه هو الذي رد الذين كفروا بغيظهم، ولم يبين السبب الذي ردهم به.
أي: أن الإرادة والمشيئة الحقيقة هي إرادة الله، وأما السبب الذي به تنفذ إرادة الله فهم جند الله كالريح والملائكة وغير ذلك من جنود الله، ولذلك قال عز وجل في شأن هؤلاء الأحزاب الذين قال فيهم: ((وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ)) [الأحزاب:25]، قال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9]، فرد الله غيظهم بأسباب كالريح والجنود التي لم يرها المؤمنون، وكذلك هنا: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ)) فأسند إخراجهم إليه تعالى مع حصار المسلمين إياهم، وقد بين الله سبحانه وتعالى السبب الحقيقي لإخراجهم في قوله عز وجل: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ))، فهذا من أهم أسباب إخراجهم، وسبب قذف الله تعالى الرعب في قلوبهم أنهم كانوا في موقف القوة وراء الحصون، ولم يتوقع المؤمنون خروجهم، ((وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا))، وقد كان هذا الإخراج من الله لهم بوعد سابق من الله لرسوله، وهو في قوله عز وجل: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137]، فقوله: ((فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ)) خبر ووعد من الله سبحانه وتعالى أنه سوف يكفيه إياهم، وبهذا الإخراج تحقق كفاية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم إياهم، فقد كفاه إياهم بإخراجهم من ديارهم، فكان إخراجهم حقاً من الله تعالى، وكان بوعد مسبق من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أكد هذا بقوله تعالى مخاطباً المسلمين في خصوصهم في أوقات الجلاء، فقال الله عز وجل للمؤمنين: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:6]، وتسليط الرسول صلى الله عليه وسلم هو بما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، فإذا كان ينصر بالرعب من مسيرة شهر فما ظنك بمسيرة ميلين من المدينة، فلا شك أنه أولى أن يُقذف الرعب في قلوبهم، وهذه من خصائص النبي عليه الصلاة السلام على غيره من الأنبياء فضلاً عن سائر البشر.
إذاً: فالذي أخرجهم في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى كما قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر:6]، وسلط عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرعب، (نصر بالرعب مسيرة شهر)، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)) أي: من قلوبهم، فقد أُلقيتْ الهزيمة في قلوبهم، وقد كانوا يظنون أنهم مانعتهم حصونهم من الله، بل كان المؤمنون أنفسهم يظنون ذلك كما قال الله: ((مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا))، فالمؤمنون أنفسهم كانوا يظنون أنهم لا يستطيعون أن يخرجوهم؛ لشدة تحصنهم في هذه الحصون المنيعة، وكذلك كان اليهود أنفسهم في غاية الثقة بما هم عليه من الحصون، ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)) أي: من جهة قلوبهم، فألقى الرعب في قلوبهم، ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم.
ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6]، وذلك أن المسلمين تطلعوا إلى حظهم من هذا المال الذي غنموه من اليهود، فبين الله سبحانه وتعالى لهم وأفتاهم أن هذا إنما هو للرسول عليه الصلاة السلام خاصة يتصرف فيه بما يشاء، وليس غنيمة للمسلمين؛ لأنه لم يكن لهم أي فضل في إخراج اليهود، {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6] أي: أنكم ما أسرعتم بالخيل، ولم تقاتلوا، ولم تفعلوا شيئاً، وسيأتي ذلك بتفصيل إن شاء الله تعالى.
إن السياق هنا في هذه السورة في شأن اليهود لعنهم الله، وهو يتفق مع السياق في سورة الأحزاب في شأن بني قريظة سواء بسواء، وذلك في قول الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:26 - 27]، وعليه ظهرت حقيقة إسناد إخراجهم لله تعالى: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)).
كما أنه تعالى هو الذي ردَّهم فقال: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب:25]، وذلك بما أرسل عليهم من الرياح والجنود، وهو الذي كفى المؤمنين القتال كما في قصة الأحزاب {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25]، وهو تعالى أيضاً الذي أنزل بني قريظة من صياصيهم، وأورث المؤمنين ديارهم وأموالهم، وكان الله على كل شيء قديراً، ورشح لهذا كله التذييل في آخر الآية.
أي: أن التذييل في آخر الآية هو الذي يقوي هذا المعنى من أن الإخراج في الحقيقة هو إخراج الله سبحانه وتعالى، وقد يجعل الله بعض الأشياء في الظاهر هي سبب هذا الإخراج كالملائكة أو الريح كما حصل في غزوة الأحزاب، أو كإلقاء الرعب في قلوب اليهود لعنهم الله كما حصل في بني النضير.
ولذلك جاء التذييل هنا بقوله تبارك وتعالى: ((فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ))، فهذا التذييل يطلب الاعتبار والاتعاظ بما فعل الله بهم، أي: اعتبروا واتعظوا بإخراج الذين كفروا من حصونهم وديارهم ونواصي قوتهم، ((مَا ظَن(163/5)
آثار الرعب وآثار الطمأنينة
قوله تعالى: ((وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ))، يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: منطوقه أن الرعب سبب من أسباب هزيمة اليهود، ومفهوم المخالفة يدل على أن العكس بالعكس، أي: أن الهزيمة تكون بسبب الرعب، وأيضاً فالطمأنينة التي هي ضد الرعب تكون سبباً من أسباب النصر كما قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]، وقال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة:25 - 26].
ومنها قوله تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]، فهذا الأمر لا شك أنه آية من آيات الله، وهذه الآية أيضاً دليل على هذا المعنى الذي نذكره وهو: أن السكينة سبب النصر، والرعب سبب الخوف، فاثنان أعزلان يتحديان قريشاً بكاملها بعددها وعُددها، فيخرجان تحت ظلال السيوف، ويدخلان الغار في سدفة الليل، وتأتي الأصنام على فم الغار بقلوب حانقة، وسيوف مصمتة، وآذان مرهفة، حتى يقول الصديق رضي الله عنه: والله يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غاية الطمأنينة والسكينة: (ما بالك باثنين الله ثالثهما!).
ووقع نفس الأمر أيضاً في غزوة بدر، قال الله تبارك وتعالى: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) [الأنفال:9 - 11] إلى آخره، وقد كان الإمداد بالملائكة؛ لتطمئن به قلوبهم، وإنزال النعاس بهم أمنة منه تبارك وتعالى، وتم كل ذلك بما ربط على قلوبهم كما ربط على قلوب أهل الكهف: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14] إلى آخر الآية.
فهذه آثار الطمأنينة والسكينة والربط على القلوب التي نستدل عليها بمفهوم المخالفة في قوله هنا: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ)).
وقد جمع الله سبحانه وتعالى المنطوق والمفهوم في قوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12]، فنص على الطمأنينة بالتثبيت في قوله: ((فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا))، ونص على الرعب فقال: ((سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ))، فكانت الطمأنينة تثبيتاً للمؤمنين، والرعب زلزلة للكافرين.
وفي حديث جبريل لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوجه إلى بني قريظة، قال: (إني متقدمكم لأزلزل بهم الأقدام)، وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] * {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]، وهذا المعنى الذي ندندن حوله الآن هو أثر التأثير في الحالة النفسية والإيمانية والقلبية على الإنجاز في ساحة القتال، ومن ثَم نجد في الحروب الحديثة استخدام هذا السلاح، وكما هو معلوم أن السلاح ليس بذاته، وإنما هو بضاربه، وضاربه نفسه لا قيمة له إلا إذا كان عنده شجاعة وقوة وطمأنينة.
فالآن تجدون ما يسمى بالحرب الباردة، فإنهم يستخدمون الحرب النفسية، وذلك ببث الدعايات، وإلقاء المنشورات، ففي بعض الحروب تلقى منشورات تدعو الناس إلى الاستسلام، وإلى عدم المقاتلة، وأنهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، وأنهم لا محالة مهزمون، فما عليهم إلا أن يستسلموا، وكذلك يلجأ إليها أيضاً المتصارعون في حلبات الملاكمة، فيلقي بعض التصريحات حتى يلقي الرعب في قلب من يريد أن يوهن عزيمته بالحرب الباردة.
ومن الحرب الباردة أيضاً ما سلكه أهل الكتاب: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران:72 - 73]، فهذه حرب نفسية أيضاً، وهي حرب باردة، فيأمرون بعضهم أن يدخل في الإسلام في أول النهار، ثم يرتد عنه في آخر النهار، ثم يقول: دخلنا في هذا الدين فما وجدنا فيه خيراً، وهذا نوع من الحرب النفسية، ففيه زلزلة قلوب المؤمنين.
ويقول الله تبارك وتعالى محذراً من هؤلاء، ومحذراً من هذا النوع من الحرب؛ {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18]، و ((الْمُعَوِّقِينَ)) هم المنافقون الذين يندسون وسط المسلمين، فيلقون فيهم الإرجاف والشبهات والتشكيك وروح الانهزامية، ولذلك حذر الله سبحانه وتعالى من الإنصات لهذا الإرجاف؛ لأن الإرجاف والتعويق والتثبيط له أثر خطير على المسلمين، يقول تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].
ولما اشتد الأمر على المسلمين في غزوة الأحزاب، وبلغ الرسولَ عليه الصلاة والسلام أن اليهود نقضوا عهدهم، أرسل إليهم من يستطلع له خبرهم، وأوصاهم إن هم رأوا غدراً ألا يصرحوا بذلك، أي: ألّا ينشروا الخبر في أوساط المسلمين، ولكن عليهم أن يعرِّضوا بالكلام ويلحنوا به لحناً؛ حفاظاً على طمأنينة المسلمين، وإبعاداً للإرجاف عن صفوفهم.
ثم بيّن الله سبحانه وتعالى أثر الدعاية الحسنة، والإعلام الخيّر في قوله تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} [الأنفال:60]، فهذا وإن كان استعداداً مادياً إلا أن الهدف منه الإرهاب النفسي، فهذه حرب باردة أيضاً، وحصل بالفعل هذا الاستعداد، فخرج جيش أسامة بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وعند تربص الأعراب، فكان لهذا الخروج الأثر الكبير في إحباط نواي المتربصين بالمسلمين، وقالوا: ما أنفذوا هذا البعث إلا وعندهم الجيوش الكافية، والقوة اللازمة.
وأيضاً ما أجراه الله سبحانه وتعالى في غزوة بدر كان من هذا القبيل، وهو أكبر دليل عملي، فقد قلل الله سبحانه وتعالى كل فريق في أعين الآخرين، يقول تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال:43 - 44].
وفاتنا أن ننبه على أمر يتعلق بقراءة قوله تعالى: ((يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ))، فعامة القراء قرءوها: ((يُخْرِبُونَ))، بالتخفف، من أخرب، أي: يهدمون، وقرأ السلمي والحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية وقتادة وأبو عمرو: (يُخْرِّبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) بالتشديد، من التخريب، قال أبو عمرو: إنما اخترت التشديد؛ لأن الخراب ترك الشيء خراباً بغير ساكن، وبنو النضير لم يتركوا خراباً وإنما خربوها بالهدم، ويؤيده قوله تعالى: ((بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ))، وقال آخرون: التخريب والإخراب بمعنى واحد، والتشديد بمعنى التخريب.
وقال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلّت الإبل كانوا يستحسنون الخشبة والعمود، فيهدمون بيوتهم، ويحملون ذلك على إبلهم، ويخرب المؤمنون باقيها.
وعن ابن زيد أيضاً قال: كانوا يخربونها؛ لئلا يسكنها المسلمون بعدهم.
وهذا كما فعلوا في سيناء وغيرها، فأي مكان ينسحبون منه فإنهم يخربونه؛ حتى لا ينتفع بها م(163/6)
تفسير قوله تعالى: (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا)
قال الله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر:3] أي: ولولا أنه قضى أنه سيجليهم عن دارهم، وأنهم سيبقون مدة فيؤمن بعضهم، ويولد لهم من يؤمن، فهذه حكمة استبقائهم، وأما غيرهم فقد أبيدوا وقتلوا.
{وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر:3] أي: بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة، والجلاء: هو مفارقة الوطن، يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء، والفرق بين الجلاء والإخراج -وإن كان كلاهما فيه معنى الإبعاد- من وجهين: الأول: أن الجلاء يكون مع الأهل والولد، والإخراج: قد يكون مع بقاء الأهل والولد، أي: أنه ينفى ويبقى أهله وولده في البلد.
الفرق الثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لواحد ويكون لجماعة، قاله الماوردي.(163/7)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله)
قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:4] أي: خالفوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما نُهوا عنه من الفساد ونقض الميثاق.
قوله: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:4] أي: شديد العقاب له في الدنيا وفي الآخرة.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:4]، المشاقة: العصيان، ومنه شَقُّ العصا، بمعنى المخالفة، وهذا يدل على أن الله تعالى أوقع ما أوقعه ببني النضير من إخراجهم من ديارهم، وتخريب بيوتهم بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله، فالمشاقة المذكورة هي علة العقوبة الحاصلة بهم، ولا شك أن مشاقة الله ورسوله من أعظم أسباب الهلاك التخريب.
ويقول أيضاً: وهكذا اليهود، فإن داءهم الدفين هو الحسد والعجب بالنفس، فجرّهم إلى الكفر، ووقعوا في الخيانة، وكانت النتيجة القتل والطرد.
فمشاقة اليهود هذه هي من الإفساد في الأرض الذي نهاهم الله عنه، وعاقبهم عليه مرتين، وتهددهم إن هم عادوا للسالفة عاد للانتقام منهم، {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8]، {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا} [الإسراء:4 - 7] أي: الثانية من المرتين، {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:7] * {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8] أي: إن عدتم للإفساد في الأرض عدنا لتسليط عباد لنا أولي بأس شديد عليكم، فينتقمون منكم، وهاهم قد عادوا إلى الخيانات كما حصل منهم مع النبي عليه الصلاة والسلام، وشاقوا الله ورسوله، فسلط الله عليهم رسوله والمؤمنين.
فقوله تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} لم يبين هل عادوا للإفساد في المرة الثالثة أم لا، لكن هناك آيات أخرى تدل على أنهم عادوا فعلاً للإفساد، فقد عادوا للإفساد بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتْم صفاته، ونقْض عهوده، ومظاهرة عدوه عليه، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة، فعاد الله جل وعلا للانتقام منهم تصديقاً لقوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}، فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وجرى على بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع وخيبر ما جرى من القتل، والسلب، والإجلاء، وضرب الجزية على من بقي منهم، وضرب الذلة والمسكنة وغيرها، ومن الآيات التي تدل على أنهم عادوا للإفساد قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:89 - 90]، فقال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100]، وقال تعالى: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة:13].
ومن الآيات التي تدل على أن الله سبحانه وتعالى عاد إلى الانتقام منهم لما عادوا إلى الإفساد بمحاولة اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام، ونقض العهود، وموالاة المشركين، والاتفاق السري مع المنافقين في المدينة، هذه الآيات التي في سورة الحشر: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ)) إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]، وقال تعالى أيضاً يبين أنه عاد إليهم بالانتقام لما عادوا إلى الإفساد: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8]، وقال: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب:26 - 27]، إلى آخر الآية.
فالمشاقة التي وقعت من اليهود تخالف المشاقة التي وقعت من غيرهم، فكان تخلف الحكم عمن شاقوا الله ورسوله من غير اليهود بسبب تخلف بعض العلة في الحكمين، فليس كل من شاق الله ورسوله يخاطب بهذا التقريع، لكن المقصود هنا أن اليهود صدرت منهم مشاقة تقتضي هذه العقوبات.(163/8)
تفسير قوله تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها)
قال الله تبارك وتعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5].
(ما) في قوله: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ)) في محل نصب مفعول به، والناصب له (قطعتم)، والمعنى: أي شيء قطعتم، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم على حصون بني النضير وهو غضبان عليهم حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد، فأمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فقام الصحابة بقطع هذا النخل بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، أو أنهم فعلوا ذلك وأقرهم عليه، وكان هذا الفعل إما لإضعاف اليهود وإلقاء الهيبة في قلوبهم، وإما لتوسيع المكان؛ حتى يتمكنوا من مقاتلتهم، فشق ذلك عليهم، فقال اليهود: يا محمد! ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح؟ أفمن الصلاح قطع النخل، وحرق الشجر؟ وهل وجدت في ما أنزل الله عليك إباحة الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، ووَجد المؤمنون في أنفسهم حتى اختلفوا، فقال بعضهم: لا تقطعوا مما أفاء الله علينا، يعني: هذا النخل بكل الأحوال هو لنا، فإذا كان لنا فلماذا نقطعه؟! وقال بعضهم: اقطعوه؛ لنغيظهم بذلك، فنزلت الآية بتصديق من نهى عن القطع، وتحرير من قطع من الإثم، وذلك لبيان أن كل الفريقين اجتهد وأصاب، فأخبر أن قطْعه وترْكه إنما هو بإذن الله وإباحته تبارك وتعالى، وهذا يرفع عنهم الشعور بالحرج.
قوله: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ)) اللينة تطلق على كل النخل ما عدا العجوة، وقد كان هذا النخل في مكان يسمى البويرة، وهو بستان يقع في الجنوب الغربي من مسجد قباء.
وقال ابن كثير في قوله تبارك وتعالى: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ)) يعني بالإذن: القدري والمشيئة الإلهية، كما في قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:166]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران:152]، إذاً: فـ ابن كثير يرى أن هذا الإذن إذن كوني قدري.
ويقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن الإذن المذكور في الآية هو إذن شرعي إرادي، وهو ما يؤخذ من عموم الإذن في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، فيكون المقصود من قوله: (فبإذن الله)، أي: بإباحة الله لكم أن تغيظوا هؤلاء اليهود بحرق نخيلهم.
يقول: فلأن الإذن بالقتال إذن بكل ما يتطلبه القتال بناء على قاعدة الأمر بالشيء أمر به، وأن ما لا يتم إلا به فإنه يؤمر أيضاً به، والحصار نوع من القتال، ولعل من مصلحة الحصار قطع بعض النخيل؛ لتمام الرؤية، أي: أنهم قد يتخفون فيها ويفرون، فربما كانت هناك مصلحة في قطع النخيل؛ حتى تكون المنطقة مكشوفة فتسهل الرؤية، أو لإحكام الحصار عليهم، أو لإذلال وإرهاب العدو بحصاره، وإشعاره بعجزه عن حماية أمواله وممتلكاته، وقد يكون فيه إشارة له ليندفع بحمية للدفاع عن ممتلكاته وأمواله، فينكشف عن حقوله، ويسهل القضاء عليه، إلى غير ذلك من الأغراض الحربية التي أشار الله تعالى إليها بقوله: ((وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ)) أي: بعجزهم وإذلالهم وحسرتهم وهم يرون نخيلهم يقطع ويحرق فلا يملكون له دفعاً.
وعلى كل؛ فالذي أذن بالقتال، وسفك الدماء، وإزهاق الأنفس ألا يأذن بإحراق أموالهم، وما يترتب على هذا القتال من سبي وغنائم لا يمنع في مثل قطع النخيل إن لزم الأمر.
ويمكن أن يقال: إن ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبإذن الله أذن، ويكون هذا قريباً مما فعل الخضر بالسفينة، ففي الظاهر أن الخضر كان يتلف السفينة، {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71]، مع أن الخضر أراد من خرقها أن يعيبها بإتلاف بعضها، ليستخلصها من التقاط الملك إياها، وقال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82].
واعترض أيضاً المشركون على المسلمين حينما حصل منهم القتال في شهر من الأشهر الحرم كما اعترض اليهود على المسلمين في قطع النخيل، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217]، فتعاظم المشركون قتل المسلمين لبعض المشركين في وقعة نخلة، ولم يتحققوا دخول الشهر الحرام، أي: أن المسلمين لم يكونوا متثبتين من دخول الشهر الحرام، فاتُّهموهم بالاعتداء على حرمة الأشهر الحرم، ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ)) أي: تقاتلون أيها المسلمون! في الشهر الحرام؟ فأجابهم الله تعالى بموجب ما قالوا: بأن القتال في الشهر الحرام كبير، فقال: ((قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)) أي: أنه أمر عظيم وخطير.
وهنا تنبيه وهو: أننا مقبلون في هذه الليلة على أول ليلة في شهر رجب، وهو من الأشهر الحرم، فينبغي الحذر الشديد من أي معصية؛ لأن الله سبحانه تعالى يقول: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، فينبغي الاحتراز الشديد من أي نوع من أنواع الظلم والمعاصي وخصوصاً القتال؛ مراعاة لحرمة الأشهر الحرم، فالمعاصي فيها قد تضاعف عقوبتها؛ لحرمة هذه الأشهر عند الله، وبسبب هجرنا الآن للتقويم الهجري فإن الناس لا يفرقون بين شهر الحرام وغيره، فالمؤمن الذي يفقه عن الله كلامه ينبغي أن يحترس في الأشهر الحرم عن أي معصية كما قال تعالى: ((فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ))، فالنهي عن ظلم النفس بالمعاصي وغيرها، وكذلك النهي عن ظلم الآخرين حاصل في كل وقت، لكنه يزداد حرمة بحرمة الزمان، كما في هذه الأشهر الحرم، فلنلتفت جميعاً إلى هذا المعنى.
يقول: فأجابهم الله تعالى بموجب ما قالوا: بأن القتال في الشهر الحرام كبير، ولكن ما ارتكبه المشركون من صد عن سبيل الله، والكفر بالله، والصد عن المسجد الحرام، وإخراج أهله منه أشد من القتال الذي ارتكبه المسلمون في الأشهر الحرام، والفتنة عن الدين أكبر من القتل الذي تستنكرونه من المسلمين.
وهكذا هنا أيضاً؛ فقد تعاظم اليهود على المسلمين قطع بعض النخيل، وعابوا على المسلمين إيقاع الفساد بإتلاف بعض المال، فكيف بغدرهم وخيانتهم ونقضهم للعهود؟ وكيف بممالأتهم على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سجل هذا المعنى كعب بن مالك وهو يذكر إجلاء بني النضير، وقتل ابن الأشرف فيقول: لقد خزيت بغدرتها الحبور كذاك الدهر ذو صرف يدور وذلك أنهم كفروا برب عظيم أمره أمر كبير وقد أوتوا معاً فهماً وعلماً وجاءهمُ من الله النذير إلى أن قال: فلما أشربوا غدْراً وكفراً وجد بهم عن الحق الثغور أرى الله النبي برأي صدق وكان الله يحكم لا يجور فأيده وسلطه عليهم وكان نصيره نِعم النصير إذاً: فالأقرب في الإذن بقطع النخيل أنه إذن شرعي، ويمكن أن يقال: هو عمل تشريعي إذا دعت إليه الحاجة.
قوله: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ)) أي: من نخلة من نخيلهم؛ إغاظة لهم، ويطلق كما ذكرنا على النخل كله إلا العجوة، ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا)) أي: سواء ما قطعتم وما تركتم من النخيل، ((فَبِإِذْنِ اللَّهِ)) أي: بأمر الله ورضاه، وذلك ليس للعبث ولا للإضرار، بل لتأييد قوة الحق، وتصلب أهله، وإرهاب المبطلين وإذلالهم، كما قال تعالى: ((وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ))، لما فيه من إهانة العدو وإضعافه ونكايته.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ذكر علماء الأخبار وأئمة السير أن سبب الأمر بجلاء بني النضير هو نقضهم العهد، قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه، ولا يظاهروا ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم.
وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة.
وقسم تاركوه، فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يئول إليه أمره وأمر أعدائه صلى الله عليه وسلم.
ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن؛ ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون، فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى، فصالح يهود المدينة، وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريضة، فكان بنو قينقاع أول من نقض ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، ثم نقض العهد بنو النضير، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم، فتآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم، وأن يعلو رجل فيلقي صخرة عليه، فانتدب لذلك عمرو بن جحش بن كعب أحدهم، وصعد ليلقي عليه صخرة، فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أراد القوم، فقام ورجع بمن معه من أصحابه إلى المدينة، وأمر بالتهيؤ لحربهم، ثم سار بالنا(163/9)
تفسير سورة الحشر [6 - 8](164/1)
تفسير قوله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم)
قال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:6].
الضمير في قوله تعالى هنا: ((مِنْهُمْ)) يعود إلى بني النضير، والفيء: هو المال الذي يؤخذ من الكفار بدون قتال، سواء فروا وتركوه، أو أُجلوا عنه.
وقد قال بعض العلماء: إن كلمة الفيء معناها الرجوع، من فاء بمعنى رجع، والمعنى: أن هذا المال إنما خلقه الله سبحانه وتعالى ليعبد به، وليستعمل في طاعته وفيما أحله، لا فيما حرمه، فبما أن هذا المال رجع إلى المسلمين الموحدين المجاهدين، فقد رجع إذن إلى أهله الذين يستحقونه، ويستدل على ذلك بقرآن منسوخ وهو: (إنما أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة).
إلى آخره.
قوله: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} أي: لما كان إخراج اليهود مردُّه إلى الله تعالى بما قذف في قلوبهم من الرعب، وبما سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاركه فيه غيره، ففي حادثة بني النضير لم يقاتل المسلمين قتالاً حقيقاً، وربما كانت هناك مبادئ قتال، إلا أنه لم يحصل قتال، فكان اليهود في غاية اليقين بأنهم مانعتهم حصونهم من الله، وكان المسلمون أنفسهم لا يؤمِّلون على الإطلاق أن يهزموا اليهود؛ لشدة منعتهم، وكثرة عدتهم وقوتهم، فهزمهم الله سبحانه وتعالى بأن قذف في قلوبهم الرعب، وبأن سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا المال بالذات لا يقسم إلا وفق ما يشاءه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يشاركه فيه غيره.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في سورة الأنفال: اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير لا من الغنائم، وساق حديث أنس بن أوس المتفق عليه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة مطالبة علي والعباس ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال لهما: إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا لشيء ولم يعطه أحداً غيره، فقال عز وجل: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ)) أي: لم تتعبوا أنتم فيه، {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:6]، والنبي صلى الله عليه وسلم والله! ما احتجبها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، مع أن الله أباحها له، وفوض الأمر إليه، فقد أعطاكموها وبثها فيكم، ووزعها في المهاجرين حتى بقي منها هذا المال، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي فيجعله في الفقراء.
فكانت هذه خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء بعدها ما هو أعم من ذلك في قوله تعالى: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)) وهذا عام في جميع القرى، إلا أن الفيء الذي حصل من بني النضير خصوصاً كان خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية مع عمومها مصدراً ومصرفاً فقد اشتملت على أحكام ومباحث عديدة.
فقوله عز وجل هنا: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ)) أي: ما أعاد عليه من أموال بني النضير، ((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ)) أي: فما أجريتم على تحصليه خيلاً ولا ركاباً، ولا تعبتم في القتال عليه، والإيجاف مأخوذ من الوجيف، والوجيف: هو سرعة السير.
فقوله: ((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ)) أي: ما أجريتم على تحصيله خيلاً ولا ركاباً، ولا تعبتم في القتال عليه، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم، ولم تحتاجوا إلى أن تركبوا الخيل وتسرعوا بها، ولا إلى أن تبذلوا جهداً في ذلك، والإيجاف: من الوجيف، وهو سرعة السير، والركاب: ما يركب من الإبل، وقد غلب فيه كما غلب الراكب على مركوبه، ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ))، أي: من أهل الفساد والإفساد؛ ليقوم الناس بالقسط، ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).
يقول الزمخشري: المعنى: أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير شيء لم يحصلوه من القتال والغلبة، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم، فالأمر فيه مفوَّض إليه صلى الله عليه وسلم يضعه حيث شاء، أي: أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها، وأخذت عنوة وقهراً، فلما طلبوا القسمة نزلت: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)) إلى آخره، وهذا الحكم عام في جميع القرى، لكن المعني به هنا حادثة بني النضير، فهو خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ويقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ)) يعني: ما رده الله على رسوله، وهي أموال بني النضير، ((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ))، يعني: فما أوضعتم عليه، والإيجاف: هو الإيضاع في السير، أي: الإسراع في السير، يقال: وجف الفرس إذا أسرع، وأوجفته أنا أي: حركته وأتعبته، ومنه قول تميم بن مقبل: مذاويد بالبيض الحديد صقالها عن الركب أحياناً إذا الركب أوجفوا يعني: أسرع، والركاب: الإبل، واحدها راحلة.
يقول: لم تقطعوا إليها شقة، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإنما كانت من المدينة على ميلين، قاله الفراء، فمشوا إليها مشياً ولم يركبوا خيلاً ولا إبلاً، إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ركب جملاً، وقيل: حماراً مخطوماً بليف، فافتتحها صلحاً وأجلاهم، وأخذ أموالهم، فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم لهم فنزلت: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ)) إلى آخر الآية، فجعل أموال بني النضير للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين.(164/2)
تفسير قوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى)
قال الله تبارك وتعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
قوله: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)) أي: من أموال محاربيها، فهذا بيان للأول، فالآية الأولى فيها: ((وَمَا)) بالواو، والآية الثانية لما كانت بياناً للأولى لم يأت فيها الواو، فتأملوا ذلك.
قوله: ((فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً))، ((كَيْ)) أي: أن فيء بني النضير حقه أن يكون لمن ذكر، ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)) أي: يتداولونه وحدهم دون من هم أحق به، وهي دولة جاهلية؛ إذ كان من عوائدهم استئثار الرؤساء والأغنياء بالغنائم دون الفقراء، ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)) أي: ما آتاكم الرسول من قسمة غنيمة أو فيء فخذوه، ((وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ)) أي: عن أخذه منها ((فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) أي: لمن خالفه إلى ما نهاه عنه.
يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً))، وفي قراءة أخرى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةٌ) بالرفع، أي: كي لا تقع دولة، على أن (كان) تامة.
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة: الظَّفَر في الحرب وغيره، وهي المصدر، وبالضم: اسم الشيء الذي يُتَداول من الأموال، وقال أبو عبيدة: الدُّولة اسم الشيء الذي يتداول، والدَّولة الفعل، والمعنى: فعَلنا ذلك في هذا الفيء كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع، ثم ينتقي منها أيضاً بعد المرباع ما يشاء، وفيها يقول شاعرهم وهو عبد الله الضبي يخاصم بسطام بن قيس ويقول له: لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول فالنشيطة: هي ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصل إلى مجتمع الحي، أي: قبل أن يرجع إلى البلد، والفضول: هو ما فَضُل من القسمة مما لا تصح قسمته على عدد الغزاة، كالبعير والفرس ونحوهما.
فالمقصود من قوله: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً)) على هذا كي لا يُعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية، فجعل الله هذا لرسوله صلى الله عليه وسلم يقسمه في المواضع التي أمر بها، وليس فيه خمس، فإذا جاء الخمس وقع بين المسلمين جميعاً.
وقد عقد الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى رحمة واسعة هنا بحثاً؛ لأن هذا الجزء من الآية له ذكريات، فقد كان في عهد عبد الناصر كل من يريد أن يتزلف إليه بمدح الاشتراكية والنظام الاشتراكي فإنهم يستشهدون بهذا الجزء من الآية: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ))، فكانوا يتلقطون أشياء من الإسلام ويجعلون منها عباءة يتغطى بها الاشتراكيون، فالشاهد من الكلام: أن هذه المبادئ هي مبادئ الإسلام، وبعض الناس كانوا يقولون: إن أبا ذر هو أول شيوعي في الإسلام!! فهذا ديدن بعض الناس فإنهم يحاولون أن يلفقوا هذه المذاهب بالإسلام كنوع من الانهزامية، أو ربما أكره بعضهم على ذلك في وقت من الأوقات حتى ألف كتاب (اشتراكية الإسلام)، والشاعر الآخر يقول لهم: الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوى القوم والغلواء فلا نطيل في ذلك فقد عقد الشيخ عطية بحثاً طويلاً في الرد على هؤلاء الناس، ورد فيه على من كانوا يستدلون بهذا الجزء من الآية على إباحة العدوان على أموال الناس بالغصب والمصادرة ونحو ذلك، وهذا من شؤم عهد عبد الناصر، فكانت هناك محاربة للملكية الخاصة، وهناك ما سموه بالإصلاح الزراعي، وغير ذلك من ظلمه وعدوانه على ملكية الناس، فقد عقد بحثاً طويلاً في بيان أن الملكية الفردية محترمة في الإسلام، وما دام أن الإنسان يجلب هذا المال من الحلال، ويؤدي زكاته، فلا يجوز أن ينتزع منه قهراً وغصباً.
وأشار أيضاً إلى أن الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى ناقش هذه المسألة أيضاً في تفسير قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] رداً على هؤلاء الاشتراكيين، وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل:71].
يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله: دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا وهي قوله تعالى: ((نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل:71] ونحو ذلك من الآيات على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية.
وأقول: إن كلامنا الآن في هذا الموضوع لم تعد له فعالية كبيرة؛ لأن الزمن والأيام قد فضحت الشيوعية، وبينت إفلاسها، وأنها من أشد المذاهب عداوة للتراحم الإنساني، فهي توزع الفقر بالتساوي، وأما الرأسمالية فتترك بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، وإن كانت أيضاً لها عوراتها وجرائمها، وفيها استعباد للناس، والإسلام بلا شك هو المنهج الوسط، والمنهج العدل.
يقول: فتفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية، فلا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها إلى وجه من الوجوه، يقول تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، وبذلك يتحقق أن ما تذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله، ولجميع النبوات، والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس؛ لينعموا بها، ويتصرفوا فيها كيف شاءوا، حتى نشأ ستار كثيف من أنواع الكذب والغرور والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم، فالطغمة القليلة الحاكمة، ومن ينضم إليهم هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير، مظلومون في كل شيء حتى ما كسبوه بأيديهم، يُعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير، وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه سيأتي أناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير وهذا غني، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك، فقال تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135]، وهذا وعيد شديد تجده لمن فعل ذلك.
ثم يقول الشيخ عطية سالم: والحق أن الأرزاق قسمة الخلاق، فهو أرأف بالعباد من أنفسهم، وليس في خزائنه من نقص ولكنها الحكمة لمصلحة عباده، وفي الحديث القدسي المروي: (إن من عبادي لمَن يصلح له الفقر، ولو أغنيته لفسد حاله، وإن من عبادي لمَن يصلح له الغنى، ولو أفقرته لفسد حاله)، ولم يخرِّج الشيخ هذا الحديث.
فهو سبحانه يعطي بقدَر، ولا يمسك عن قَتَر، لكن مراعاة لما يصلح العباد، فالإنسان لا يدري ما الذي يصلحه.
وقوله تعالى: ((نَحْنُ قَسَمْنَا)) هذا الضمير للتعظيم والتفخيم، ((نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ)) أي: فلا مجال لتدخل المخلوق، ولا مكان لغير الله تعالى في ذلك، والقسمة إذا كانت من الله تعالى فلا تقوى قوة في الأرض على إبطالها، ثم إن واقع الحياة يؤيد ذلك، بل يتوقف عليه، كما قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32]، وهؤلاء المعتدون على أموال الناس يعترفون بذلك، ويقرّون نظام الطبقات عمال وغير عمال إلى آخر.
يقول الشيخ: ولا دليل لهم في سورة الحشر وهي قوله تعالى: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ))، ولا حق لهم فيما فعلوا في أموال الناس بهذا المبدأ الباطل، والله تعالى أعلم.
يقول الله تبارك وتعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
قال السيوطي في (الإكليل): استُدل بالآية على أن الفيء ما أخذ من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب، ومنه ما جلوا عنه خوفاً، أي: أن الكفار إذا رأوا جيوش المسلمين ففروا وتركوا المال فهذا أيضاً يدخل في الفيء، والغنيمة ما أخذ منهم بقتال، كما قال تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ))، خلافاً لمن زعم أنهما بمعنى واحد، أو فرق بينهما بغير ذلك الفرق.
وكأن الذي زعم أنهما بمعنى واحد رأى أن مجمل هذه الآية بينته آية الأنفال، حتى زعم قتادة أن هذه منسوخة بتلك، فقال فيما رواه عنه ابن جرير: كان الفيء في هؤلاء ثم نس(164/3)
تفسير قوله تعالى: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم)
قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8].
يقول القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)) أي: الفيء والغنائم للفقراء المهاجرين.
وقيل: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ))، ولكن يكون للفقراء المهاجرين.
وقيل: هو بيان لقوله تعالى: ((وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) فلما ذكروا بأصنافهم قيل: المال لهؤلاء؛ لأنهم فقراء ومهاجرون وقد أخرجوا من ديارهم فهم أحق الناس به.
وقيل: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ)) للفقراء المهاجرين؛ لكيلا يكون المال دولة للأغنياء من بني الدنيا.
قول آخر: أن الآية التي قبلها تنتهي بقوله تعالى: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)) [الحشر:7 - 8] يعني: من أجل الفقراء المهاجرين أو بسبب الفقراء المهاجرين، أي: هو شديد العقاب لمن أخرجهم من ديارهم، ولمن آذاهم، والمهاجرون هنا: هم من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حباً فيه، ونصرة له.
قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والأهلين والأوطان حباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، حتى إن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه؛ ليقيم به صلبه من الجوع، وهذه طريقة من طرق تلافي الإحساس بالجوع، لأن الضغط بالحجر على المعدة يقلل حجمها فبالتالي لا يشعر الإنسان بالجوع، وهذه الطريقة موجودة حتى الآن بأجهزة حديثة لمحاولة علاج الذين يبتلون بالسمنة، فسبحان الله! هؤلاء يبحثون عن ربط هذه الأشياء على بطونهم من شدة الترف والسمنة، والمهاجرون الأولون كانوا يعصبونها لشدة الجوع والجهد الذي كانوا يلقونه رضي الله تعالى عنهم، فكان الرجل منهم يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها، قال عبد الرحمن بن أبزى وسعيد بن جبير: كان ناس من المهاجرين لأحدهم العبد والزوجة والدار والناقة يحج عليها ويغزو، فنسبهم الله إلى الفقر، وجعل لهم سهماً من الزكاة.
ومعنى قوله تعالى: ((أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ)) أي: أخرجهم كفار مكة، وذلك أنهم أحوجوهم إلى الخروج، وكانوا مائة رجل.
((يَبْتَغُونَ فَضْلًا وَرِضْوَانًا)) أي: من الله تعالى: ((وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) أي: في الجهاد في سبيل الله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] أي: في فعلهم ذلك.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بالجابية -وهي بلدة في دمشق- فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض -أي: المواريث- فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله تعالى جعلني له خازناً وقاسماً، ألا وإني بادٍ -أي: بادئ- بأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمعطيهن، ثم المهاجرين الأولين أنا وأصحابي أخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا.(164/4)
تفسير سورة الحشر [9 - 10](165/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم)
قا الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ)) أي: توطنوا دار الهجرة وهي المدينة.
((وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: من قبل مجيء المهاجرين إليهم، فالكلام هنا في الأنصار، وعطْف الإيمان على الدار بتقدير عامل، والعامل هنا فعل، أي: والذين تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان.
وقيل: استُعمل التبوّء في لازم معناه، وهو اللزوم والتمكّن، والمعنى: لزموا الدار والإيمان.
فالمقصود: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ)) أي: لزموا الدار، وهي دار الهجرة بالإقامة فيها والاستقرار، ولزموا أيضاً الإيمان بأن ثبتوا عليه ولم يتحولوا، وجُوَّز أيضاً تنزيل الإيمان منزلة المكان الذي يتمكن فيه، وكأن الإيمان نفسه مكان يستقر فيه الإنسان.
قوله: ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)) أي: لوجود الجنسية في الصفاء والموافقة في الدين والإخاء؛ وذلك لأن المحبة لا تكون إلا عن تناسب، وكلما كثرت وجوه المناسبة والائتلاف والتوافق ازدادت هذه المحبة، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، فلم يجعل الله تعالى هؤلاء الأزواج من الجن مثلاً، أو من خلق غير الإنس، وإلا لما وجد هذا التناسب، فقوله: ((مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)) يشير إلى هذا التناسب وهذه الموافقة، وكذلك كل محتابين تزداد المحبة بينهما كلما ازداد هذا التناسب والتوافق.
وكذلك هنا؛ فهؤلاء الأنصار إنما أحبوا المهاجرين لوجود أعظم أسباب الجنسية والتناسب والموافقة، ألا وهي أخوّة الإيمان.
((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)) مع أنهم من غير بلادهم، ولا يكون ذلك إلا بسبب أخوّة العقيدة.
وتأملوا فيما حصل بعد ما يقارب خمسين سنة من الحرب العالمية الثانية، وما حصل من تقسيم برلين إلى نصفين، فحصل انقطاع بين الأسر في هذه المدة البعيدة، ثم بعد ذلك هللوا لتحطيم سور برلين وتوحيد ألمانيا، ولكن تعجب بعد ذلك مما فعلوه -كما سمعنا من بعض إخواننا ممن يقيمون في ألمانيا- فقد قيل: إن الذين كانوا في ألمانيا الشرقية التي ابتليت بالشيوعية ذهبوا وهرعوا عند ذلك إلى أقاربهم الذين هم من نفس الأسر في برلين الغربية، فما كانوا يفتحون لهم الأبواب أصلاً! ويرفضون أن يدخلوهم، ويردوهم عن أبوابهم كأنهم متسولون! وهذا شيء لا يستغرب في العلاقات الاجتماعية في الغرب، بل أوضاعهم أشنع من ذلك.
فالشاهد: أن الذي حدا بهؤلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الأنصار، وجعلهم يرحبون بإخوانهم المهاجرين ويؤثرونهم على أنفسهم، ولا يحسدونهم على نعمة أنعمها الله عليهم أو على عطاء قد خصوا به -إنما هو غاية الإيثار مع شدة الحاجة إلى هذه الأموال، وأخبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ذلك كثيرة مما لا تجد له مثلاً في التاريخ كله على الإطلاق، فلم يوجد جيل مثل هذا الجيل الفذ الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم على عينه.
قوله: ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)) لوجود الجنسية -أي: التجانس-، والتوافق في الصفاء وطهارة القلوب، والموافقة في الدين والإخاء؛ لأن أقوى رابطة على الإطلاق هي رابطة الدين، فالله سبحانه وتعالى ربط المسلم بأخيه المسلم كما ربطت الكف بالمعصم، وكما ربطت القدم بالساق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ونحن نعجب أشد العجب أنه في الوقت الذي يُنكَّل فيه الأقذار الأنجاس الأخباث أرذل خلق الله من اليهود -لعنهم الله سبحانه وتعالى- بإخواننا المستضعفين، ونحن هنا نحتفل بالنصر عن طريق الأغاني والرقص وغيرها، فهل هذه هي المشاركة الإيمانية؟! فتجد برامج اللهو واللعب والكرة والعبث وإخواننا ينكَّل بهم على يد هؤلاء الأنجاس أخبث خلق الله من أحفاد القردة والخنازير وعبدة الطاغوت.
فما يحصل الآن مع الإخوة في فلسطين شيء لا يتصوره العقل، فأين حقوق الإنسان؟! وأين الأمم المتحدة؟! وأين هذا السراب كله؟! وأين أثر تلك الصورة التي يقولون: إنها هزت ضمير العالم؟ أعني صورة الأب وابنه اللذي كانا يحتميان وراء البرميل، فقتلوا الطفل الصغير عن سبق إصرار وتعمد، وهذا كان واضحاً في الصورة! مع أنه لم يشارك في المظاهرة، ولا كان يحمل سلاحاً ولا غيره!! وهكذا تقوم الطائرات المروحية بقصف الفلسطينيين بصواريخ مضادة للدبابات!! وكل ذلك يقوم به المجرم السفاح شارون، الذي هو مجرم دولي معروف، وهو الذي كان وراء مجزرة صبرة وشاتيلا، ومثل هؤلاء لا يقال عليهم: إرهابيون! لكن الإرهابية صارت حكراً على المسلمين إذا دافعوا عن دينهم وبلادهم وأوطانهم! فالله المستعان! فينبغي أن نتذكر ونحن نتكلم عن ترحيب الرعيل الأول والتعاطف والمجانسة والمناصرة التي كانت بين المهاجرين والأنصار؛ ما نحن عليه الآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا))، قال الشهاب: المراد بمحبة المهاجرين هنا مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم، ((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ)) أي: في أنفسهم: ((حَاجَةً)) أي: طلباً أو حسداً، ((مِمَّا أُوتُوا)) أي: مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره؛ لسلامة قلوبهم وطهارتها عن دواعي الفرك، ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) أي: حاجة وفاقة.(165/2)
الإيثار في حظوظ النفس لا في الطاعات
يقول السيوطي في (الإكليل): في الآية مدح الإيثار في حظوظ النفس والدنيا.
وإنما قيد السيوطي مدح الإيثار بأن يكون في حظوظ النفس والدنيا؛ لأن الإيثار في الطاعات لا يمدح، بل نحن في الطاعات مطالبون بالتنافس والمسابقة، وقد عكس الناس الآن هذا الأمر، فصاروا يتنافسون في الدنيا ولا يتنافسون في الدين، والصواب أن يكون هناك إيثار في حظوظ الدنيا كما ستأتي آثار عن الصحابة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم في ذلك، فتؤثر أخاك المسلم بالطعام وبالملبس وبالأموال وتواسيه بذلك، لكن إذا كانت هناك مسابقة في الآخرة فلا إيثار، فمثلاً تجد بعض المسلمين بسبب قلة الفقه في الدين كل واحد منهم يعزم على صاحبه أن يتقدم إلى الصف الأول فيقول له: تفضل تفضل، فيقول الثاني: لا، تفضل أنت!! فالطاعات ليس فيها إيثار؛ لأننا أمرنا بالتنافس في أمر الآخرة، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الناس ما في الأذان والصف الأول لاستهموا على ذلك)، أي: لحصل بينهم من المشاكل ما لا ينهيها إلا القرعة! وقد كان الصحابة يبتدرون السواري إذا أُذن لصلاة المغرب، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، ومعنى المسابقة أن كل واحد يريد أن يكون هو الأول، فكذلك المسابقة في أعمال الآخرة، فإنه يكره ولا يستحب الإيثار فيها، وقد اختلف أحد الصحابة مع ابنه فيمن يخرج للجهاد، وفيمن يمكث عند النساء والأولاد يرعاهم، فقال له ابنه: والله يا أبي! لولا أنها الجنة لآثرتك على نفسي!! فهكذا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفقهون هذا المعنى، فالإيثار إنما يكون في أمور الدنيا، وأما أمور الدين فلا، فمثلاً عندما تسمِّع القرآن على الشيخ لا تضحي بدورك وتعطيه لشخص آخر، بل تسابق ولا تتنازل عن دورك؛ لأن تنازلك هذا فيه معنى الإعراض والزهد في ذلك، فالإنسان في أمور الطاعات والعبادات لا يؤثر على نفسه؛ لأننا -كما قلنا- أمرنا بالتنافس في الآخرة، وأما أمور الدنيا وحظوظها من المال والطعام ونحو ذلك فهذا هو محل الإيثار المستحب؛ فلأجل هذا قال السيوطي هذه العبارة: في الآية مدح الإيثار في حظوظ النفس والدنيا.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا المقام أعلى من حال الذين وصفهم الله بقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]، وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة:177] إلى آخره، فهاتان الآيتان دلتا على أنهم يحبون ما تصدقوا به، وكقوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، فهم يحبونه لكنهم غير محتاجين إليه، وليسوا في حالة اضطرار ولا فقر ولا عَوز، وأما هؤلاء المذكورون هنا في هذه الآية فإنهم آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وشدة الحاجة، فهم بلا شك يحبون هذا المال، لكن يزيدون على المذكورين في الآيات الأولى بأنهم محتاجون إلى هذا المال، فقد آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوا، ومن هذا المقام تصدُّق الصديق رضي الله تعالى عنه بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟ فقال رضي الله تعالى عنه: أبقيت لهم الله ورسوله).
ومثل ذلك الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكان كل واحد منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثالث فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يشرب أحد منهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.(165/3)
المعاملة بالمال تكشف حقيقة الإنسان
قوله تعالى: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) يعني: فيخالفها فيما يغلب عليها من حب المال، وبغض الإنفاق، فالإنسان إذا ترك الأمر لنفسه فالنفس شحيحة في المال، والمال أعز شيء على الإنسان؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: ((إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا)) يعني: الأموال: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37] فالمال يفضح الإنسان؛ ولذلك فإن أدق الموازين التي تستطيع أن تحكم به على خلق الإنسان وأمانته هو التعامل معه بالمال؛ ولذلك لا تشهد لأحد لم يتم بينك وبينه تعامل بالمال؛ لأن المال هو الذي يفضح النفوس؛ ولذلك كان الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى إذا قرأ هذه الآية من سورة القتال: {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36] * {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} [محمد:37] أي: يحرجكم، ((تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ)) قال: اللهم لا تبلنا! فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.
فالشخص الذي تريد أن تحكم عليه، أو أن تعرف حقيقة أخلاقه وأمانته، إذا شهد له بحسن المعاملة في المال فهذا جزء كبير جداً من مقومات الشهادة له أو عليه؛ لأن المال هو الذي يخرج ضغائن النفس، والتنافس على المال هو سبب أكثر الصراعات بين الناس في هذه الدنيا، وهو السبب في قطع الأرحام، وفي الشحناء بين الناس، والبغي وغير ذلك مما يحصل، فلا تشهد لأحد إلا إذا كنت قد تعاملت معه بالمال، ولا تشهد لأحد إلا إذا سافرت معه؛ لأن الإنسان في الأحوال العادية يستطيع أن يضبط نفسه، ويتحكم في خلقه ودينه؛ لأنها معاملات مؤقتة، وتكون تحت جو من الرفاهية والراحة والاستيطان في بلده ووطنه، فهو يلقى أخاه أو صديقه ساعات ثم يفترقان وكل واحد في حاله، وأما في حال السفر وما يكون فيه من مشقة وعناء فإن هذا مما يكشف حقيقة أخلاق الإنسان، ولذلك سمي سفراً؛ لأنه يسفر ويكشف حقيقة أخلاق الإنسان، فمن عاشرته وتعاملت معه في السفر فهو الذي تستطيع أن تشهد له، وأما أن ترى رجلاً رائحاً غادياً إلى المسجد، وكل معلوماتك عنه أن يصلي في المسجد فهذه لا تكفي في الشهادة له بأكثر مما تراه، وبعض الناس يقول: هذا ملتحي! وكأن اللحية هذه ختم التوثيق، لا، فاللحية تساوي رجلاً في وجهه شعر فقط، لكن لا يلزم من وجودها أنه يكون شخصاً أميناً مثلاً!! لكن هذا يظن فيه بالذات في عصرنا هذا وفي مجتمعنا؛ لأن هذا سيترتب عليها ثمن ومعاناة واضطهاد وأشياء كثيرة، فمن ثبت عليه فهذه أمارة تدل على أنه متمسك بدينه، وهناك من قد يتخذ اللحية ليخدع الناس من أجل غرض دنيوي مثلاً؛ فلذلك قد يوجد شخص له لحية ومع ذلك يخون الأمانة.
إذاً: فلا تشهد لشخص في وجهه شعر أو ملتحٍ بأنه أمين أو غير ذلك، فتربية اللحية شيء وكونه يحافظ على الأمانة مثلاً شيء آخر، فالأمانة لها مقاييس أخرى.
فقوله: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) أي: فيخالفها فيما يغلب عليها من حب المال، وبغض الإنفاق، ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أي: الفائزون بالسعادتين، ونلاحظ هنا في قوله تعالى: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) أن الوقاية من شح النفس ليست بيد وشطارة الإنسان، وليست بجهد منه، بل هي بتوفيق من الله سبحانه وتعالى ووقاية؛ ولذلك قال هنا: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ))، فالله سبحانه وتعالى يحميه من شر نفسه، فإذا رفعت عنه عناية الله صدر عنها كل سوء وشر، ولولا عناية الله وحمايته وحفظه لعبده المؤمن لتصرف على مقتضى طبائع هذه النفس الشحيحة الضنينة البخيلة، ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) فيخالفها وخصوصاً في جانب المال، فإنه يغلب عليها حب المال، وبغض الإنفاق، ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أي: الفائزون بالسعادتين.(165/4)
خطورة الشح
إنّ إضافة الشح إلى النفس كما في قوله تعالى أيضاً: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، وفي قوله: ((شُحَّ نَفْسِهِ)) إشارة إلى أن النفس مأوى كل شر ووصف رديء، وموطن كل رجس وخلق دنيء، والشح من غرائزها المعجونة في طينتها؛ لملازمتها الجهة السفلية، ومحبتها الحظوظ الجزئية، فلا ينتفي منها إلا عند انتفائها، ولكن المعصوم من تلك الآفات والشرور من عصمه الله سبحانه وتعالى.
يقول ابن جرير: الشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل من المال.
وعن ابن زيد قال: ومن وقي شح نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئاً ولم يقربه، ولم يدعه الشح أن يحبس من الحلال شيئاً فهو من المفلحين.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح؛ فإنه أهلك من قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا).
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً) أي: أن صفة الشح تتنافى مع صفة الإيمان وتضادها.
يقول القرطبي في قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)): لا خلاف أن الذين تبوءوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها، ((وَالإِيمَانَ)) نصب بفعل غير تبوأ، أي: استوطنوا الدار، وهي دار الهجرة، (والإيمان) أي: وأخلصوا الإيمان، أو ولزموا الإيمان، يقول: لأن التبوء إنما يكون في الأماكن، لكن الإيمان ليس بمكان، ((مِنْ قَبْلِهِمْ))، والمعنى: والذين تبوءوا الدار من قبل المهاجرين، واعتقدوا الإيمان وأخلصوه؛ لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ، وهذا كقوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس:71] أي: فأجمعوا أمركم، وادعوا شركاءكم، وهذا كله من باب قولهم في الشاهد المشهور في الشواهد العربية: علفتها تبناً وماءً بارداً، أي: علفتها تبناً، وسقيتها ماءً بارداً، فهذا من أساليب اللغة العربية، ويجوز حمله على حذف المضاف كأنه قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ، ومواضع الإيمان، أو لزموا الدار، ولزموا الإيمان فلم يفارقوهما.
ويجوز أن يكون (تبوأ الإيمان) على طريق المثل كما تقول: تبوأ من بني فلان الصميم، والتبوّء: التمكن والاستقرار، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد أنهم آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: من قبل هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إليهم.(165/5)
هل هذه الآية معطوفة على ما قبلها أم مقطوعة؟
اختلف المفسرون هل هذه الآيات مقطوعة عما قبلها أو معطوفة عليها، فقال بعضهم: إنها معطوفة على قوله تعالى: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ))، وإن الآيات التي في الحشركلها معطوفة بعضها على بعض، ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن الله تعالى يقول: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:2] إلى قوله تعالى: {الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5] , فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع، ثم قال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر:6]، فأخبر أن ذلك الفيء هو للرسول صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأنه لم يوجف عليه حين خلوه، وما تقدم فيه من القتال وقطع الشجر منه فقد كانوا رجعوا عنه، وانقطع ذلك الأمر، وقد سبق أن شرحنا ذلك.
ثم قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر:7]، وهذا كلام غير معطوف على الأول بل هو كلام مستأنف، وكذلك أيضاً قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ)) هو ابتداء كلام في مدح الأنصار والثناء عليهم، فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين، وكأنه قال: الفيء للفقراء المهاجرين، ثم استأنف مدح الأنصار فقال: وأما الأنصار فإنهم يحبون هؤلاء المهاجرين، ولم يحسدوهم على ما صفى لهم من الفيء.
وكذلك أيضاً قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ))، وهذا ابتداء كلام، والخبر: ((يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ))، فالراجح أن آيات سورة الحشر ليست معطوفة.
وقال مالك بن أوس: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60] فقال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] فقال: هذه لهؤلاء، ثم قال: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ)) حتى بلغ: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ))، ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ))، ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ))، ثم قال: لأن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير -وهي: منازل حمير بأرض اليمن، والسرو من الجبل: ما ارتفع عن مجرى السيل، وانحدر عن غلظ الجبل- ليأتين الراعيَ وهو بسرو حمير نصيبُه منها لم يعرق فيها جبينه.
وقيل: إنه دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه من ذلك، وقال لهم: تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليّ، ففكر في ليلته فتبين له أن هذه الآيات أنزلت في ذلك، فلما غدا عليهم قال: قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة الحشر وتلا: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)) إلى قوله: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ))، فلما بلغ قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] قال: ما هي لهؤلاء فقط، وتلا قوله: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)) إلى قوله: ((رَءُوفٌ رَحِيمٌ))، ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك، وذلك لأن اللفظ على هذا التفسير فيه عطف في هذا الجزء، أي: أنه جعل مال الفيء مستحقاً لثلاث طوائف وهي: المهاجرون والأنصار، ثم من يأتي بعد المهاجرين والأنصار بشرط أن يحب المهاجرين والأنصار، فدل هذا على أن المبغضين للصحابة رضي الله تعالى عنهم لا حظ لهم في ذلك الفيء.
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه قال: لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر.(165/6)
المفاضلة بين مكة والمدينة
من المسائل المعروفة التي هي محل نزاع بين العلماء: مسألة التفضيل بين مكةوالمدينة، يقول ابن وهب: سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق، فقال: إن المدينة تبوأت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)) وهذه المسألة لها موضع آخر تناقش فيه، وليس الوقت وقت التفصيل فيها، وفي المقابلة بين مكة والمدينة، وهناك قدر متفق عليه بين أصحاب القولين وهو: أن أفضل بقعة على وجه الأرض هي البقعة التي ضمت الجسد الشريف؛ جسد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه مسألة أخرى غير مسألة تفضيل الحرم المكي على الحرم المدني، فأطهر وأشرف بقعة على وجه الأرض هي البقعة التي ضمت جسد الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك يقول الشاعر: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه الفداء وفيه الجود والكرم قوله تعالى: ((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا)) أي: لا يحسدون المهاجرين على ما خُصُّوا به من مال الفيء وغيره، فقد ذكرنا سابقاً أن هذا المال كان لرسول عليه الصلاة والسلام خاصة يتصرف فيه كيف يشاء، وذكرنا العلة: ((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ))، فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم في فقراء المهاجرين، وأعطى اثنين من الأنصار اشتكيا الفاقة، فقوله هنا: ((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا)) أي: لا يحسدونهم على اختصاصهم بمال الفيء وغيره.
وقيل في تفسيرها: يقدر فيها حذف مضافين، أي: ولا يجدون في صدورهم مس حاجة من فقد ما أوتوا، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة، وكان المهاجرون في دُور الأنصار، فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم لهم في أموالهم، ثم قال: (إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم فخرجوا من دوركم، فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ رضي الله عنهما: بل نقسمه بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحم الأنصار! وأبناء الأنصار) رضي الله تعالى عنهم، وقال أيضاً في الأنصار: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بعض الأنصار)، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين، ولم يعط الأنصار شيئاً إلا من ذكرنا من قبل.(165/7)
من الصور المشرقة في الإيثار
قوله تعالى: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))، جاء في الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نوَّمي الصبية، وأطفئي السراج، وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وخرجه مسلم أيضاً.
وخرج أيضاً عن أبي هريرة رضي عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود -أي: متعب من شدة الجوع والفقر- فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق! ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق! ما عندي إلا ماء، فقال: من يضيف هذا الليلة رحمه الله، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله! فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء -أي: أشغليهم ووليهم عن الجوع بشيء آخر-، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل -لأن الطعام لا يكفي الثلاثة- قال: فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم، قد عجب الله عز وجل من صنيعكما بضيفكما الليلة).
وفي رواية عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه، فلم يكن عنده ما يضيفه، فقال: ألا رجل يضيف هذا رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فانطلق به إلى رحله) وساق نحو الحديث، وذكر فيه نزول هذه الآية.
وذكر المهدوي عن أبي هريرة: أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار نزل به ثابت يقال له: أبو المتوكل، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: أطفئي السراج، ونومي الصبية، وقدم ما كان عنده إلى ضيفه، وهكذا ذكر النحاس.
وقيل: إن فاعل ذلك أبو طلحة رضي الله تعالى عنه، وقال ابن عمر: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا فبعثه إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك.
أي: ظل كل واحد يقع في يده يقول: أخي أو جاري أحوج إليه مني فيعطيه إياه، والثاني يقول نفس الشيء، فطاف على سبعة أبيات، حتى رجع إلى الأول فنزل قوله تعالى: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)).
وعن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهوداً فتوجه به إلى جار له فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول فنزلت: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)).
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه: (أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم المخلاف من أرضه حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه)، وهذا لفظ مسلم.
وقال الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن يعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمئونة، وكانت أم أنس بن مالك تدعى أم سليم، وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة، وكان أخاً لـ أنس لأمه، وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقاً لها -أي: نخلة- فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته، وهي أم أسامة بن زيد.
قال ابن شهاب: فأخبرني أنس بن مالك: (أن رسول صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم، قال: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه).(165/8)
مدح التنافس في الآخرة وذمه في أمور الدنيا
قال القرطبي رحمه الله عند تفسير هذه الآية: الإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الدينية.
وهذا كما قلنا من قبل: إن الإيثار يكون في الحظوظ الدنيوية؛ رغبة في الثواب وفي الحظ الأخروي، لذلك؛ فإن الحظ الأخروي ليس محل إيثار، بل هو محل تنافس، والتنافس في الدنيا مذموم، وأما التنافس الأخروي فمأمور به؛ لأن الدنيا ضيقة تضيق على أصحابها، فمن ثم يتنافسون فيها، وأما الآخرة فواسعة، والجنة واسعة عرضها كعرض السموات والأرض، وأدنى أهل الجنة منزلة له مثل ما في الأرض مرتين، فالجنة واسعة جداً، فمن ثَم فالتنافس على الجنة لا يورث البغضاء، بل العكس فإن المؤمن يحب للناس كلهم أن يكونوا مثله في الإيمان والعمل الصالح، إلا شواذ من الناس قد يحصل على الأمور الدينية وهو في هذه الحالة لا يحصل على الدين وإنما في الغالب يحصل على الدنيا، ومتى ما دخلت الحظوظ في الأعمال الدينية خرجت إلى التنافس على الدنيا كالتنافس على الشهرة والجاه وغيرها، فهذه دنيا في أمور وليست في أمور الدين، فالمفروض أنك تحب للآخرين أن يكونوا أيضاً طائعين لله سبحانه وتعالى، وهذه هي نفسية الداعية الذي يدعو الناس ويرشدهم إلى الخير؛ لأنه يحب لهم هذا الخير ويرجو لهم النجاة في الآخرة، فقد توجد في بعض طلبة العلم نوع من الأنانية أو الأثرة، فمثلاً قد يكون أخوه في حاجة ماسة إلى الكتاب وهو يخفيه عنه ولا يدله عليه، هذا نوع من الأنانية والأثرة التي لا تليق بطالب علم، وهذا خروج من التنافس على الطاعات إلى التنافس على حظوظ الدنيا، فينبغي إحياء خلق الإيثار وبالذات في الحظوظ، فمتى ما أحسست أن أي أخ لك في الله، أو زميل لك في العمل، أو زميل في الدراسة يحتاج إلى مذكرات، أو يحتاج إلى كتب، أو يحتاج إلى نصيحة، واطلعت أنت على شيء مما يفيده وهو لم يطلع عليه فلا تكتم عنه هذا الشيء، بل ينبغي أن نعيد سيرة السلف في الإيثار وعدم حجب أي شيء عن المؤمن إذا كان ينفعه.
يقول القرطبي: الإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا أي: خصصته به وفضلته، ومفعول الإيثار محذوف: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)) يعني: يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم لا عن غنىً، بل مع احتياجهم إليها.(165/9)
سخاء أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
جاء في موطأ مالك: أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن مسكيناً سألها وهي صائمة، وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه، فقالت: أعطيه إياه، قالت: ففعلت، قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت -أو إنسان- ما كان يهدى لنا شاة وكفنها -أي: أن الشاة كانت ملفوفة بالرغف- فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت -أو إنسان- ما كان يهدى لنا شاة وكفنها، فدعتني عائشة فقالت: كُلي من هذا، فهذا خير من قرصك، أي: القرص الذي كانت أعطته.
ففي هذا أن عائشة كانت قوية التوكل على الله سبحانه وتعالى، وأن الله عوضها وأبدلها خيراً مما بذلته لوجه الله عز وجل، ورزقها من حيث لا تحتسب.
يقول القرطبي: قال علماؤنا هذا من المال الرابح، والفعل الزاكي عند الله تعالى، يعجل منه ما شاء، ولا ينقص ذلك مما يدخر عنه.
يعني: أن مثل هذا الفرج هو سنة ماضية من سنن الله سبحانه وتعالى، فمن أعطى شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومع ذلك فإن هذا لا ينقص شيئاً من أجره المدخر على ما أنفقه في سبيل الله تبارك وتعالى، ومن ترك شيئاًَ لله لم يحسن بفقده؛ لأن الله سبحانه وتعالى أن يعقبه غنى النفس وهو أعلى درجات الغنى على الإطلاق، وإما أن يعقبه ما هو خير منه، وهناك كتاب مؤلف يحتوي على من بذل شيئاً لله فعوضه الله خيراً منه، وهناك كتب كثيرة جداً في هذا المجال.
وعائشة رضي الله تعالى عنها في شأنها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة، وأن من فعل ذلك فقد وُقي شح نفسه، وأفلح فلاحاً لا خسارة بعده، وفي بعض المناسبات الأخرى: أن عمر بعث إليها بعشرة آلاف من الدراهم، فأخذت تأمر الخادمة أن توزع: أعطي آل فلان، وأعطي بني فلان، فوزعته حتى لم تُبقِ درهماً واحداً، فلما أتى وقت إفطارها لم تجد شيئاً تفطر عليه، فقالت لها الخادمة: هلا استبقيت لنا مالاً نشتري به شيئاً نفطر عليه؟ فقالت لها: لا تعنفيني أو لا توبخيني، لو أذكرتني لفعلت.
فهكذا عائشة رضي الله تعالى عنها، فذلك الجوع والنصب قد انتهى، فليست الآن حية حتى تعاني منه، لكنها إن شاء الله الآن في نعيم لا ينقطع، ورضا من الله سبحانه وتعالى، فهكذا العمل الصالح يُذهب النصب، ويبقى الأجر والنعيم، بخلاف السيئات.
يقول: ومعنى: شاة وكفنها: أن العرب أو بعض وجوه العرب كان هذا من طعامهم، فيأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه فيغطونه كله بعجين البر ويكفنونه به، ثم يعلقونه في التنور، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيب الطعام عندهم.(165/10)
سخاء بعض الصحابة
روى النسائي عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما اشتكى واشتهى عنباً فاشتري له عنقود بدرهم، فجاء مسكين فسأل فقال: أعطوه إياه، قال: فخالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إلى ابن عمر، فجاء المسكين فسأل، فقال: أعطوه إياه، ثم قال: فخالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إليه، فأراد السائل أن يرجع فمُنع، ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه؛ لأن ما خرج لله لا يعود فيه.
وذكر ابن المبارك بسنده عن مالك الدار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربع مائة دينار فجعلها في صرة، ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، ثم تلكأْ ساعة في البيت، -أي: أنه أمر الخادم أنه يتلكأ في البيت- ثم تلكأْ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها، فذهب بها الغلام إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية! اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى انفذها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فوجده قد أعد مثلها لـ معاذ بن جبل فقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل وتلكأْ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع، فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، وقال: يا جارية! اذهبي إلى بيت فلان بكذا، وبيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله! مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا دينارين قد جاء بهما إليها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فسر بذلك عمر وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها وكان عشرة آلاف، وكان المنكدر هو الذي دخل عليها.(165/11)
حكم التصدق بجميع ما يملكه الإنسان
فإن قيل: قد وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء، قيل: إنما كُره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة:177]، فكانوا يصبرون على الفقر ولا يلجئون إلى سؤال الناس، وكانوا لا يتسخطون في الصبر على الفقر، وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يصبر، ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار، فالذي لا يضمن نفسه ويخشى ألا يصبر، أو أنه سيتعرض لسؤال الناس فإنه يترك في جيبه ما يغنيه عن ذلك، لكن إن كان على ثقة من أنه سيصبر، ففي هذه الحالة له أن يتصدق بما فضل عن النفقة الواجبة عليه، فلا يتصدق بكل ماله ويترك أولاده مثلاً جوعى وعراة ولا ينفق عليهم، ثم يضطر للسؤال بعد ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219]، والعفو: هو ما فضل وما زاد عن النفقة الواجبة.
وروي: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب، فقال: هذه صدقة، فرماه بها وقال: يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس؟)، والله تعالى أعلم.(165/12)
أعلى درجات الإيثار: الإيثار بالنفس
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس، يعني: أن المال لا يراد لذاته، وإنما يراد لإشباع حاجات النفس من الطعام أو الكسوة أو غيرها، لكن أقوى من ذلك الإيثار بالروح وبالنفس، وقد رأيتم صورة الأخ الفلسطيني وهو يذب عن ابنه، وهو شيء لا يستغرب ففيه حنان الأبوة وإيثارها، فالرجل كان هو وابنه قاعدين على الأرض في العراء إلى جانب برميل، وقد ضم الولد إليه، واليهود لعنهم الله وأذلهم، ونكس راياتهم وراية من يوالونهم يضربون النار بصورة متتابعة على المكان، والمكان خالٍ تماماً!! وهما بعيدان تماماً عن المظاهرة!! وهذا من جبن اليهود ونتنهم، فهم قد علو في الأرض وأفسدوا فيها كما أخبر الله سبحانه وتعالى، وكانوا قبل هذا يستعملون الرصاص المسمى الرصاص المطاطي، وأما الآن فيستخدمون رصاصات تدخل داخل الجمجمة ثم تنفجر، وهذه محرمة دولياً، ومع ذلك فإنهم يضربون بها المدنيين، فهل هذه أخلاق الرجال؟! وهل هذا ما يسمونه بحقوق الإنسان: أن يُضرب هؤلاء المدنيون الذين لا يملكون إلا الحجارة من قبل هؤلاء الأنذال أخس خلق الله لعنهم الله بالصواريخ والدبابات والطايرات الهيلوكبتر.
والشاهد منظر الأخ الفلسطيني وهو يذب عن الولد ويحاول أن يحميه بقدر الاستطاعة، ثم إذا بالرصاصة تصيب قدم الطفل ابن اثني عشر سنة ويتمدد على الأرض بعد أن قتله اليهود، والصورة الأخيرة للأب وقد أغمي عليه من الذهول من هذا الموقف، فهذه الصورة التي هزت ضمير العالم! أهي أول مرة يحصل ذلك بضمير العالم؟! إن المسافر والذاهب إلى إمريكا قد يسمع أصوات سيارات الإسعاف فيجد المرور متوقفاً، ويرى حالة من الفزع لا تتصور، ويرى التحقيقات والتدقيقات من أجل قطة صدمت بالسيارة! فيا لها من رحمة ورقة؟! هكذا تكون رقة القلب الأوروبي الرحيم مع القطط والكلاب!! وقد تصل إلى أن يستعملوا الطيارات أحياناً لإنقاذ طائر محبوس في مكان معين! وهكذا تفيض قلوبهم رقة على هذه الأشياء، وتجد الملايين من الدولارات تكتب في الميراث للكلاب، فالرجل عندهم قد يخلف الملايين من الدولارات، فيكتبها ميراثاً للكلب، ويحرم أولاده من صلبه! فالذي حصل من هذا الأخ الفلسطيني هي صورة من صور الإيثار بالنفس، وهذا من رحمة الأبوة التي وضعها الله في قلوب الخلق بجانب أخلاق الإيمان والإسلام، وهذا لا يستغرب في تراثنا، وكذلك الأم دائماً تضحي من أجل ابنها، وقد تغرق هي حتى ينجو كما هو مذكور في كثير من القصص.
إن الإيثار بالنفس أقوى من الإيثار بالمال قال الشاعر وهو ابن الوليد: تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود ومن العبارات الرشيقة في تعريف المحبة: أنها الإيثار، يقول: ألا ترى أن امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام آثرته على نفسها فقالت: {أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51] وأفضل الجود بالنفس ما يجود فيه الإنسان بالنفس لحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الشيء كان في الصحابة معروفاً، وهذا أعلا أو أغلا ما يبذله الإنسان أن يفدي رسول الله عليه الصلاة والسلام بنفسه.
ففي الصحيح: (إن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد) أي: أنه جعل جسده مثل الترس أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إذا جاء سهم أصابه هو وبخا الرسول عليه السلام.
يقول: ففي الصحيح: (أن أبا طلحة رضي الله عنه ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله! لا يصيبونك، نحري دون نحرك، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت يده رضي الله تعالى عنه).
وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته فإذا أنا به، فقلت له: أسقك؟ فأشار برأسه: أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه آه، فأشار إلي ابن عمي: أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار: أن نعم، فسمع آخر يقول: آه آه، فأشار هشام: أن انطلق إليه، فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وقال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم علينا حاجاً، فقال لي: يا أبا يزيد! ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إن وجدنا أكلنا وإن فقدنا صبرنا، فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا، أي: ما هو الفرق؟ فقلت: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا، وإن وجدنا آثرنا.
وسئل ذو النون المصري: ما حد الزاهد المنشرح صدره؟ قال ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت.
وتفريق المجموع هو أن يجتمع لديه مال فيفرقه في أوجه الخير، وترك طلب المفقود: هو ألا يشتت نفسه في تتبع المفقود الذي لم يوجد، والإيثار عند القوت.
وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى الري -والري هي طهران حالياً، وإليها ينسب الرازي - أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى الري ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم، فكسروا الرغفان، وأطفئوا السراج، وجلسوا للطعام، فلما فرغوا من الطعام أُضيء السراج فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئاً؛ إيثاراً لصاحبه على نفسه.
قوله تعالى: ((وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) الخصاصة: الحاجة التي تختل بها الحال، وأصلها من الاختصاص وهو الانفراد بالأمر، فالخصاصة الانفراد بالحاجة، فمعنى: (ولو كان بهم خصاصة) أي: لو كان بهم فاقة وحاجة, ومنه قول الشاعر: أما الربيع إذا تكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المكثر(165/13)
الفرق بين البخل والشح
قوله تعالى: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) الشح والبخل سواء، يقال: رجل شحيح، من الشُحّ والشَحْ والشحاحة، وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل، وفي الصحاح: الشح: البخل مع حرص.
والمراد من الآية: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) الشح بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام، والضيافة وما شاكل ذلك، فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه، ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يوق شح نفسه.
وروى الأسود عن ابن مسعود: أن رجلاً أتاه فقال له: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: سمعت الله عز وجل يقول: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئاً، فقال ابن مسعود: (ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن، إنما الشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل).
ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل.
وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام ولا يقنع.
وقال ابن جبير: الشح: منع الزكاة، وادخار الحرام.
وقال ابن عيينة: الشح: الظلم.
وقال الليث: هو ترك الفرائض، وانتهاك المحارم.
وقال ابن عباس: من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان فذلك الشحيح.
وقال أبو الهياج الأسدي: رأيت رجلاً في الطواف يدعو: اللهم! قني شح نفسي، لا يزيد على ذلك شيئاً، فقلت له: لماذا تصر على هذا الدعاء؟ فقال: إذا وُقيتُ شح نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أفعل، فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
ويدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم: حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم).
وقال كسرى لأصحابه: أي شيء أضر لابن آدم؟ قالوا: الفقر، فقال كسرى: الشح أضر من الفقر؛ لأن الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبداً.(165/14)
تفسير قوله تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفرلنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان)
قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] يعني: بالذين جاءوا من بعدهم الذين هاجروا حين قوي الإسلام من بعد الذين هاجروا مخرجين من ديارهم، فالسابقون الذين مر ذكرهم في الفقراء المهاجرين هم الذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم على الصفة التي ذكرنا، وأما هؤلاء: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)) فيقال: إنهم الذين هاجروا بعدما قوي الإسلام من بعد الذين هاجروا مخرجين من ديارهم.
فالمراد مجيئهم إلى المدينة بعد مدة، والمجيء هنا حسي حقيقي.
وقيل: هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة؛ لأن هذه صريح في هذه الآية: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا)) إلى آخره، فهذه الآية تتناول كل مؤمن يأتي بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة.
إذاً فالمجيء هنا إما إلى الوجود أو إلى الإيمان، (والذين جاءوا من بعدهم) أي: الأجيال الأخرى التي توجد في الدنيا بعد ذلك، أو جاءوا إلى الإيمان، ونظير هذه الآية قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100].
وقال الشهاب: والمراد بدعاء اللاحق للسابق -وهم الخلف للسلف-: أنهم متبعون لهم، أو هو تعليم لهم بأن يدعو لمن قبلهم ويذكرونهم بالخير.
ثم بين تعالى حال من يجيء بعدهم بأنه يثني على من سبقه ويدعو له، ابتهاجاً بما أتوا، واغتباطاً بما عملوا؛ لأنهم بين مهاجر عن أهله وأمواله محبة في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبين محب لمن هاجر مكرِم له بل مؤثر إياه، مما أسفر عن قوة الإيمان والإخلاص في تدعيم روابط الإخاء.
أي: أنك لا تدع للمهاجرين والأنصار إلا إذا كنت معجباً وراضياً ومقدراً لهم ما فعلوه، سواء كان المهاجرين أو الأنصار.
يقول: لأنهم بين مهاجر عن أهله وأمواله محبة في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبين محب لمن هاجر مكرِم له بل مؤثر إياه، مما أسفر عن قوة الإيمان والإخلاص في تدعيم روابط الإخاء، فهذا هو الظاهر من لفظ الآية الكريمة وذوق سوقها، وأما فقراء الصنفين الآخرين فإنهم يستحقون من الفيء قياساً على الصنف الأول لاشتراكهم في الفقر، إلا أنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يشكُ أحد من الأنصار في تلك الواقعة فقراً إلا سهل بن حنيف سهلاً وأبا دجانة كما تقدم، فأعطاهما صلى الله عليه وسلم، وأما في غيرها من الوقائع التي كثرت فيها الغنائم فقد كان حظهم منها ما هو معروف ومبيّن في آيات أخر.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)) يعني: التابعين ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة.
قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجهد أن لا تخرج من هذه المنازل.
يعني: كن مهاجراً، فإن لم تستطع أن تكون مهاجراً الآن فافعل ما فعله المهاجرون، فإن لم تستطع فكن أنصارياً، فإن لم تستطع فكن محباً للمهاجرين والأنصار، ومستغفراً وداعياً لهم.
وقال بعضهم: كن شمساً، فإن لم تستطع فكن قمراً، فإن لم تستطع فكن كوكباً مضيئاً، فإن لم تستطع فكن كوكباً صغيراً، ومن جهة النور لا تنقطع، ومعنى هذا: كن مهاجرياً، فإن لم تستطع فكن أنصارياًً، فإن لم تستطع فاعمل بأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله.
وروى مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت.
وعن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا أخي! أنت من قوم قال الله فيهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:8] إلى آخر الآية؟ قال: لا، قال: فوالله! فإن لم تكن من أهل هذه الآية فأنت من قوم قال الله فيهم: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ))؟ قال: لا، قال: فوالله! فإن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، فمن وجد في قلبه غلاً وحقداً على أي أحد من الصحابة: مهاجرياً أو أنصارياً فليتهم إيمانه، فهذه علامة النفاق في قلبه؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] أي: أنه اشترط الإحسان فيمن يأتي بعدهم، أما هم فهم محسنون بطبيعة الحال؛ ولذلك لم يشترط فيهم الإحسان، وإنما يشترط الإحسان فيمن يأتي بعدهم.
وقد قيل: إن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم روى عن أبيه: أن نفراً من أهل العراق جاءوا إليه فسبوا أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، ثم عثمان رضي الله عنه فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا: لا، قال: أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم؟ فقالوا: لا، فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين -أي: لستم من المهاجرين ولا الأنصار- وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، قوموا فعل الله بكم وفعل، أي: يدعو عليهم.
ففي هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظاً من الفيء ما أقاموا على محبتهم، وموالاتهم، والاستغفار لهم، وأن من سبهم، أو سب واحداً منهم، أو اعتقد فيه شراً فلا حق له في الفيء، وروي ذلك عن مالك وغيره.
قال مالك رحمه الله تعالى: من كان يبغض أحداًَ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)).
يعني: أن الفيء يكون للمهاجرين المذكورين في قوله: (للفقراء)، أو الأنصار الذين تبوءا الدار والإيمان، أو لمن يأتي بعدهم بشرط أن يلتزم هذا الخلق: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا))، وهذا: من شدة الحب كما قلنا، وهذه الدعوة لا تنطلق من اللسان فقط، بل لابد أن يكون هناك إعجاب وغبطة بما فعله الصحابة فتدعو لهم، وهذا هو الذي تستطيع أن تفعله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
كما قال الله سبحانه وتعالى أيضاً في آخر سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] يعني: التواضع والمسكنة والخشوع، ((ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ)) أي: أنهم قوم رضي الله سبحانه وتعالى عنهم ومدحهم وأثنى عليهم قبل أن يخلقوا في التوراة، أي: أن التوراة فيها هذا النص: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، ومن هنا ذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى إلى تكفير من في قلبه غيظ وغل وحقد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان في هذا نقاش واختلاف، لكن هذا ما استنبطه الإمام مالك من هذه الآية، فهذا يدل وجوب محبة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإذا وجب علينا محبتهم فإنه يجب علينا أن نبغض من أبغضهم.
والحديث في هذا الأمر ذو شجون، ولا نستطيع أن نفصل فيه الآن، ولكن هذه إشارة عابرة إلى حال رافضة إيران وغيرها من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه، وأغلب الناس إلى الآن رغم أن الرافضة قد فضحوا، وفُضحت مؤامراتهم وعداءهم لأهل السنة وأهل الحق، لكن مع ذلك هناك أناس ليسوا مستعدين أصلاً حتى الآن لسماع صوت الحقيقة، ويعبر موقفهم على الأقل عن الموقف القلبي عن الموالاة لهؤلاء الشيعة المجرمين الذين يعتقدون تحريف القرآن، والذين يكفرون الصحابة، فالصحابة عند هؤلاء كلهم مرتدون إلا عدد قليل قد يصل إلى خمسة من الصحابة، فهؤلاء هم الذين بقوا على الإسلام! ومن إجرامهم أيضاً اتهام أبي بكر وعمر بأنهم زنادقة ومنافقون وكفار إلى آخر هذا الكلام الفاحش، فمثل هؤلاء لا يمكن أبداً أن يجتمع في قلب أحد محبة الصحابة مع محبتهم، وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد قال في علامة الفرقة الناجية: (هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فهل يعقل أن تكون الفرقة الناجية ف(165/15)
تفسير سيد قطب لقوله تعالى: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا)
قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] ثم ثنى بالأنصار فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
يقول صاحب (الظلال) في تفسير هذه الآيات: وهي صورة صادقة تبرز فيها أهم الملامح الممِّيزة للمهاجرين، فقد أُخرجوا إخراجاً من ديارهم وأموالهم، وأكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد والتنكر من قرابتهم وعشيرتهم في مكة، وذلك لا لذنب إلا أن يقولوا: ربنا الله، وقد خرجوا تاركين ديارهم وأموالهم؛ يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، اعتماداً على الله في فضله ورضوانه لا ملجأ لهم سواه، ولا جناب لهم إلا حماه، وهم مع أنهم مطاردون قليلون فإنهم ينصرون الله ورسوله بقلوبهم وسيوفهم في أحرج الساعات، وأضيق الأوقات، فأولئك هم الصادقون الذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وصدقوها بعملهم، وكانوا صادقين مع الله في أنهم اختاروه، وصادقين مع رسوله صلى الله عليه وسلم في أنهم اتبعوه، وصادقين مع الحق في أنهم كانوا صورة منه تدب على الأرض، ويراها الناس.
((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ))، وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار؛ هذه المجموعة التي تفرغت لصفة وبلغت إلى آفاق، ولولا أنها وقعت بالفعل لحسبها الناس أحلاماً طائرة، ورؤىً مجنحة، ومُثُلاً عليا قد صاغها خيال محلِّق.(165/16)
تفسير سيد قطب لقوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان)
قال الله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: دار الهجرة، وهي يثرب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، كما تبوءوا فيها الإيمان وكأنه منزل لهم ودار، وهو تعبير ذو ظلال، وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان الإيمان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه، ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.
((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا))، ولم يَعرف تاريخ البشرية كله حادثاً جماعياً كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليُروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بسرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء، والمتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين.
قوله: ((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا)) أي: مما ناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع، ومن مال يختصون به كمال الفيء، فلا يجدون في أنفسهم شيئاً من هذا، ولم يقل تعالى: (ولا يجدون في صدورهم حسداً ولا غلاً ولا ضيقاً)، وإنما قال: (حاجة) يعني: شيئاً، مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم، والبراءة المطلقة لقلوبهم، فلا تجد شيئاً أصلاً.
قوله: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))، والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا، وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيراً، وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديماً وحديثاً.
قوله: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))، فشح النفس هو المعوِّق عن كل خير؛ لأن الخير هو بذل في أي صورة من الصور: بذل في المال، وبذل في العاطفة، وبذل في الجهد، وبذل في الحياة عند الاقتضاء، ولا يمكن أن يصنع الخير أبداً من يهمّ دائماً أن يأخذ، ولا يهمّ مرة أن يعطي، ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) [الحشر:9] فقد وقي هذا المعوِّق عن الخير، فانطلق إليه معطياً باذلاً كريماً، وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه.(165/17)
تفسير سيد قطب لقوله تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، وهذه هي الصورة الثالثة النظيفة الرضية الواعية، وهي تبرز أهم ملامح التابعين، كما تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان، فهؤلاء هم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار، ولم يكونوا قد جاءوا بعدُ عند نزول الآية في المدينة، وإنما كانوا قد جاءوا في علم الله، وفي الحقيقة القائمة في هذا العلم المطلق من حدود الزمان والمكان، وقيمة نفوسهم أنها تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة لا لذاتها فحسب، ولكن أيضاً لسلفها الذين سبقوا بالإيمان، وفي طلب براءة القلب من الغل للذين آمنوا على وجه الإطلاق ممن يربطهم معهم رباط الإيمان، مع الشعور برأفة الله ورحمته، ودعائه بهذه الرحمة وتلك الرأفة ((رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)).
وتتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها، وآخرها بأولها، في تضامن، وتكافل، وتواد، وتعاطف، وشعور بوشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب، وتتفرغ وحدها في القلوب؛ لتحرك المشاعر خلال القرون الطويلة، فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة كما يذكر أخاه الحي أو أشد، في إعزاز وكرامة وحب، ويحسب السلف حساب الخلف، وينفي الخلف على آثار السلف، صفاً واحداً، وكتيبة واحدة على مدار الزمان، واختلاف الأوطان، تحت راية الله تغذ السير صعداً إلى الأفق الكريم، متطلعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم.
إنها صورة باهرة تمثل حقيقة قائمة، كما تمثل أرفع وأكرم مثال للبشرية يتصوره قلب كريم، صورة تبدو كرامتها وبراءتها على أتمها حين تقرن مثلاً إلى صورة الحقد الذميم، والهدم اللئيم التي تمثلها وتبشر بها الشيوعية في إنجيل (كارل ماركس)، وصورة الحقد الذي ينزل في الصدور، وينشر في الضمير على الطبقات، وعلى أجيال البشرية السابقة، وعلى أممها الحاضرة التي لا تعتنق الحقد الطبقي الذليل، وعلى الإيمان والمؤمنين من كل أمة وكل جيل.
صورتان لا التقاء بينهما في لمحة ولا سمة، ولا لمسة ولا ظل: صورة ترفع البشرية إلى أعلى مراتبها، وصورة تهبط بها إلى أدنى دركاتها، صورة تمثل الأجيال من وراء الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة والنسب، متضامنة، مترابطة، متكافلة، متوادة، متعارفة، صاعدة في طريقها إلى الله عز وجل، بريئة الصدور من الغل، طاهرة القلوب من الحقد، وصورة تمثل البشرية أعداء متناحرين، يلقى بعضهم بعضاً بالحقد والدخل والدغل والغش والخداع والالتواء، وحتى وهم في المعبد يقيمون الصلاة، فالصلاة ليست سوى أحبولة، والدين كله ليس إلا فخاً ينصبه أصحاب رأس المال للكادحين.
قال تعالى: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))، فهذه هي قافلة الإيمان، وهذا هو دعاء الإيمان، وإنها لقافلة كريمة، وإنه لدعاء كبير.(165/18)
تفسير سورة الحشر [11 - 24](166/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم)
يقول الله سبحانه وتعالى تعجباً من اغترار اليهود بما وعدهم المنافقون به من النصر، مع علم اليهود أن هؤلاء المنافقين لا يعتقدون ديناً ولا كتاباً، فكيف صدقوهم واغتروا بهم؟! فقال تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:11] وهم بنو النضير المتقدم ذكرهم، وأخوتهم معهم ليست أخوة نسب، وإنما هي أخوة دين واعتقاد، أو أخوة صداقة وموالاة؛ لأنهم كانوا معهم سراً على المؤمنين، فانظر كيف وصف هؤلاء المنافقين بأنهم إخوان لليهود أهل الكتاب! هذا خبر من الله سبحانه تعالى الصادق أن هؤلاء الكفار جميعهم على المؤمنين، وأنهم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] فقوله: (ولا يزالون) تفيد الاستمرار، والعالم كله يشاهد انحياز الشيطان الأكبر أمريكا إلى جانب اليهود لعنهم الله سبحانه وتعالى وأذلهم، فرغم كل هذا الظلم ترى التكاتف العجيب الغريب من هؤلاء الكفار مع إخوانهم الذين كفروا.
فاليوم هناك مظاهرة يهودية في نيويورك يقوم بها جماعات يهودية تساند عصابة اليهود، وتتزعم وتشترك في هذه المظاهرة زوجة كلينتون؛ لأنها رشحت نفسها لعمدة مدينة نيويورك، فتخرج لتؤيد اليهود مع كل جرائمهم التي أجمع كل العقلاء من البشر أنها عدوان وحشي، وليس هذا فحسب، بل حصل اليوم في رام الله أن قتل الفلسطينيون جاسوسين مجرمين دخلا متنكرين، فانهالت عبارات الاحتجاج، وحصل القصف بالطائرات والصواريخ للمدينة، وقصفوهم أيضاً من البحر، وقصفوا مدينة غزة أيضاً، فالدمار شامل للمدينتين، وهو في مدينة غزة بالذات، ويقول اليهود: إن ما فعله هؤلاء الفلسطينيون بالجنديين الإسرائيليين هو منتهى الوحشية، وهذه أشياء لا تفعلها حتى الحيوانات، وأنه لا مكان لهذه التصرفات في العالم المتحضر، فنقول: نحن الآن صرنا وحوشاً! وصرنا نفعل فعل الحيوانات! وأنه لا مكان لهذه التصرفات في العالم المتحضر! فماذا تقولون فيما حصل مع الطفل رامي أو محمد بن الدرة وأبيه، وفيما حصل بالأمس في تل أبيب، فقد تجمع اليهود على ثمانية من العرب وضربوهم ضرباً مبرحاً، وكلهم موجودون حتى الآن في العناية المركزة، وحصل قبل يومين أن ما يسمى بالمستوطنين أخذوا رجلاً وعذبوه بالإحراق والضرب، حتى أحرقوا عينيه وكل جسده بالسجائر، حتى قتلوه ثم ألقوه، أليست هذه وحشية من اليهود أم أنها شيء جائز عندهم؟! وأما إذا صدر رد فعل من المسلمين فهذه وحشية وهمجية، وهذا يذكرنا تماماً بنفس منطق بعض المستعمرين الأوروبيين في إحدى الدول الإسلامية، فقد كانت مجموعة منهم تحاول قتل أو ذبح مسلم، فبعدما فرغوا من ذبحه وتقطيع جثته التفت واحد منهم إلى من حوله وقال: هؤلاء أناس متوحشون، لماذا متوحشون؟ لأنه وهو يحاول أن يذبحه عض يده!! فهكذا حضارة الغرب المجرمة، تتمسح بالكلاب، والكلاب هناك تعظم وتوقر، وتوهب لها الهبات، وتعيش حياة في غاية الترف، فهذه هي الحضارة الغربية، وقد بدت كل سوءاتها، حتى لم يعد شيء يرغِّب فيها.
فنحن بلا شك في وضع مؤلم، خاصة وأننا منذ هذه المعاهدات ونحن في ذلّ، ونحارَب بكل الصور: في عقيدتنا، وفي أخلاقنا، وفي كل شيء، وأما اليهود فقد حوّلوا أماكنهم إلى ترسانة من الأسلحة النووية والذرية ونحو ذلك، ومع ذلك فنحن على ثقة بوعد الله سبحانه وتعالى؛ لأن الهزيمة ليست حالة عسكرية، وإنما هي حالة نفسية، فالله سبحانه وتعالى قد تكفل بأنه يبعث على اليهود من يسومهم سوء العذاب، وهذا الضمان إلهي: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167]، فاليهود لن يستريحوا أبداً، ولن يذوقوا طعم الراحة حتى ولو قامت لهم دولة، ورُفع فوق رءوسهم علم، فهذه آية من آيات الله، فإنهم مع ما هم فيه من العتاد العسكري، والقوة العسكرية الشديدة إلا أنهم في حالة ضعف وخور وجبن وهلَع كما هو معلوم، فهذه سنة ماضية من الله سبحانه وتعالى، ولن ينعم اليهود أبداً بهذا السلام الذين يزعمون أو يتطلعون إليه، وعزاؤنا في ما يلقاه إخواننا الآن في فلسطين هو ما فعله المشركون بالصحابة من قبل في غزوة أحد حينما قالوا للمشركين: (قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار)، فمن يقتل من المسلمين فهو إلى الجنة بإذن الله، وقتلاهم في النار، ونقول لهم أيضاً: الله مولانا ولا مولى لكم، فهم يحتمون وراء أمريكا، ووراء الغرب الكافر الظالم، وينبغي لنا أن نأوي إلى الله سبحانه وتعالى، وأن نعتصم بحبله من شر هؤلاء أجمعين.
فقول الله تعالى هنا: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:11] وهم بنو النضير، وأخوتهم معهم أخوة دين واعتقاد، أو أخوة صداقة وموالاة، فقد كانوا معهم سراً على المؤمنين.
قوله: ((لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ)) أي: من دياركم، ((لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا)) لا نطيع في خذلانكم أحداً أبداً، يعني: سواء الرسول صلى الله عليه وسلم أو المؤمنين، ((وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ)) أي: لنعاونّنكم.
قال ابن جرير: ذُكر أن الذين نافقوا هم: عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة ومالك ابنا نوفل وسويد وداعس، فقد بعثوا إلى بني النضير حين نزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للحرب: أن اثبتوا وتمنعوا فإنّا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا لذلك من نصرهم -أي: ترقبوا أن يأتوا لينصروهم ضد الرسول عليه الصلاة والسلام- فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يجليهم، ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، وهي السلاح كما تقدم بيان ذلك.(166/2)
تفسير قوله تعالى: (لئن أخرجوا لا يخرجون معهم)
قال الله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:11] لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك، كما قال: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:12] وقوله: (ليولن الأدبار) أي: منهزمين، (ثم لا ينصرون) أي: بنوع ما من أنواع النصر.
ففي هذه الآية دليل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة علم الغيب؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم، (والله يشهد إنهم لكاذبون)، والضمير هنا في قوله تعالى: (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) يعود إلى المنافقين أو إلى اليهود.(166/3)
تفسير قوله تعالى: (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله)
قال الله تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13] أي: أنهم يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله عز وجل؛ لاحتجابهم بالخلق عن الحق، وذلك بسبب جهلهم بالله، وعدم معرفتهم له، إذ لو عرفوه لشعروا بعظمته وقدرته وعلمه، ولم يستخفوا بمعاصيه، ولم يستخفوا بأوامره، والضمير هنا يعود إلى المنافقين أو إلى اليهود.
ومن هذه الآية نستنبط: أن الفقيه هو من يخشى الله سبحانه وتعالى، وليس من يحشد المعلومات في ذهنه، والدليل على ذلك هذه الآية الكريمة: ((لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ))، ثم علل ذلك بقوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ))؛ لأنهم لا يخشون الله سبحانه وتعالى حق الخشية.
والمقصود بقوله تعالى: ((وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ)) أي: ولئن قُدِّر وجود نصرهم، لكن لا يمكن أن يكون نصراً حقيقياً، فالاحتمال هنا في هذه الآية ليس على ظاهره، وبفرض أنهم ينصروهم: ((وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ)).
إذاً: فلابد أن نفهم قوله وتعالى: ((وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ)) أنه على سبيل التقدير فقط، ولا يمكن أن يقع؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ))، فالله تعالى نفى نصرهم، فلا يجوز وجوده.(166/4)
تفسير قوله تعالى: (لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرىً محصنة)
قال الله تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14].
قوله: ((لا يُقَاتِلُونَكُمْ)) أي: اليهود وإخوانهم، ((جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ)) أي: في الحصون، فلا يبرزون إلى البراز وهو المكان الفضاء، ((لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ)) أي: من خلف حيطان؛ لفرط رهبتهم منكم، فهم لابد أن يستتروا بالحيطان والدور؛ لجبنهم ورغبتهم في الحياة، وهذه الصفة تكاد تكون صفة لازمة من صفات اليهود، والذي نسمعه جميعاً من العسكريين خاصة الذين حاربوا اليهود في حرب رمضان يدلنا على هذه الصفة الملازمة لليهود، فقد كانوا -خاصة في الريف- يتحصنون انطلاقاً من هذه الطبيعة التي لا تتخلف عنهم أبداً.
قوله: ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)) أي: أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا، فإنهم إذا اقتتلوا فيما بينهم يكونون ذوي بأس شديد على بعضهم البعض، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة؛ لأن الشجاع يجبن، والعزيز يذل عند محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذه العبارة في غاية القوة وهي للزمخشري.
قوله: ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى)) أي: تظنهم مجتمعين لاتفاقهم في الظاهر، والحال أن قلوبهم متفرقة لاختلاف مقاصدها، وتجاذب أدوائها، وتفرقها عن الحق بالباطل، فأهل الباطل تفرقهم الأهواء شتى، وآية ذلك: أن هذا الخبيث المدعو باراك حينما دعا إلى حكومة وحدة وطنية ويسمونها حكومة طوائف رفض ذلك زعيم المعارضة الخبيث السفاح شارون، وتتكلم الأحزاب اليهودية الآن وتقول: لا يُعقل أن نقعد معهم! فلا يمكن أن يجتمع هؤلاء أبداً مع بعضهم في ساعة واحدة، وذلك من شدة العداوة التي بينهم.
ونرجو ألا ينطبق هذا الوصف على حكام العرب: ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى))، فالذي يجمع ويوحد هي وحدة العقيدة، وعلل الله سبب تفرقهم بقوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ))، فمتى ما تخلف العقل والحكمة وجد التفرق، فدل هذا على أن الذين يتفرقون هم قوم لا يعقلون.
فمعنى قوله: ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى)) أي: تظنهم مجتمعين لاتفاقهم في الظاهر، والحال أن قلوبهم متفرقة؛ لاختلاف مقاصدها، وتجاذب دواعيها، وتفرقها عن الحق بالباطل، ((ذَلِكَ)) أي: ذلك الاجتماع في الظاهر مع افتراق البواطن ((بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)) أي: أن ذلك يوجب جبنهم المفضي إلى الهلاك الكلي.
وفي هذه الآيات الثلاث تشجيع للمؤمنين على منازلتهم والحمل عليهم، وتذكير لهم بأنهم المنصورون الغالبون.
وانظروا إلى الحزب المسمى: بحزب الله، فعلى ما هم فيه من الضلال المبين إلا أنهم يرغمون أنف اليهود في التراب، وباللغة التي يفهمها اليهود جيداً، ونحن نسمع الأخبار في ذلك، وكيف أنهم أجبروهم على الخروج من الجنوب اللبناني بدون مقابل، وبدون أي اشتراط، فهرعوا كالجرذان الهاربة خوفاً من هؤلاء مع بدعتهم وضلالتهم، فكيف يكون الأمر لو كان الذين يقاتلونهم هم أهل الحق وأهل السنة؟! فلا يستطيع أن يرد للأمة المسلمة اعتبارها إلا المجاهدون الذين ينطلقون من عقيدة التوحيد، وعقيدة القتال في سبيل الله، فلا ينفعنا شيء آخر: لا وطنية، ولا قومية، ولا هذه الشعارات الرنانة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تدخل الجنة ولا تنقذ من النار، وإنما يكون ذلك بأن ترفع راية لا إله إلا الله، وقبل ذلك بأن نعود إلى ديننا عوداً جميلاً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام حينما توعدنا إذا تخلينا عن ديننا: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلّاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، فهذا شرط يشترطه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حتى تتألف وتجتمع هذه الأمة، وهو: أن تراجع الأمة دينها، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، فالمطلوب من جميع من حاربوا المسلمين أن يكفروا عما مضى، وأن ينووا في المستقبل الكف عن محاربة الدين، فقد حورب هذا الدين بشتى الطرق التي فيها إضعاف لقوة هذه الأمة، وذلك منذ بداية هذه المعاداة المشئومة مع أعداء الله اليهود الذين لا يعرفون إلا الغدر والخيانة، وهذا كله من الوحشية.(166/5)
تفسير قوله تعالى: (كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم)
قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر:15].
أي: مَثل هؤلاء اليهود من بني النضير فيما نزل بهم من العقوبة كمثل من نال جزاء بغيهم من قبلهم، وهم كفار قريش في وقعة بدر، أو بنو قينقاع، قال ابن كثير: والثاني أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا، قال قتادة: إن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوه فيما بين بدر وأحد.
وكان من أمرهم -فيما روي- أن أمرة من العرب قدمت بجلَب لها فباعته بسوق بني قينقاع، فجلست إلى صائغ، فجعلوا -أي: اليهود- يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها -وهي جالسة على الأرض- فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهودياً، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستطرق أهلُ المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الثأر بينهم وبين بني قينقاع، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى الشام.
وقال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال إن الله عز وجل مثّل هؤلاء الكفار من أهل الكتاب مما هو مذيقهم من نكاله بالذين من قبلهم من مكذبي رسوله صلى الله عليه وسلم الذين أهلكهم بسخطه، وأمْر بني قينقاع ووقعة بدر كانا قبل جلاء بني النضير، وكل أولئك قد ذاقوا وبال أمرهم، فمن قربت مدته منهم قبلهم فهم ممثلون بهم فيما عنوا به من المثل.
أي: أن ابن جرير -وهو إمام المفسرين وشيخهم- يرى تعميم الآية وعدم تخصيصها ببني قينقاع، بل هي تشمل بني قينقاع، وتشمل أيضا المشركين في بدر، ((كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ)) يقول كل ذائق وبال أمره ممن قربت مدته منهم قبلهم فهم ممثلون به فيما عنوا به من المثل.
يقول صاحب (الظلال) رحمه الله تعالى: وحين ينتهي السياق من رسم هذه الصورة الوضيئة، ورفعها على الأفق في إطار النور يعود إلى الحادث الذي نزلت فيه السورة؛ ليرسم صورة لفريق آخر ممن اشتركوا فيها: فريق المنافقين.
قال تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا} [الحشر:11] يقول: وهي حكاية لما قاله المنافقون ليهود بني النضير، ثم لم يفوا به، وخذولهم فيه حتى أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، ولكن في كل جملة قرآنية لفتة تقرر الحقيقة، وتمسّ قلباً، وتبعث انفعالاً، وتقرّ مقوِّماً من مقومات التربية والمعرفة والإيمان العميق، وأول لفتة هي تقرير القرابة بين المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب، ((أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ))، فأهل الكتاب كفار، والمنافقون إخوانهم ولو أنهم لبسوا رداء الإسلام.
ثم هذا التوكيد الشديد في وعد المنافقين لإخوانهم ((لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ))، فاللام لام القسم، ((لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ))، فالله الخبير بحقيقتهم يقرر غير ما يقررون، ويؤكد غير ما يؤكدون ((وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ))، ((لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ)) أي: لو احتُمل وقُدّر نصرهم هذا مع أنه لا يقع، ((لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)) وكان ما شهد به الله، وكذَب ما أعلنوه لإخوانهم وقرروه.
ثم يقرر حقيقة قائمة في نفوس المنافقين وإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب، {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13]، فهم قوم يرهبون المؤمنين أشد مما يرهبون الله، ولو خافوا الله ما خافوا أحداً من عباده، فإنما هو خوف واحد ورهبة واحدة، ولا يجتمع في قلب خوف من الله وخوف من شيء سواه، فالعزة لله جميعاً، وكل قوى الكون خاضعة لأمره، {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56]، فمم يخاف إذن ذلك الذي يخاف غير الله، ولكن الذين لا يفقهون يخافون عباد الله أشد مما يخافون الله، ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ))، وهكذا يكشف عن حقيقة القوم الواقعة، ويقرر في الوقت ذاته تلك الحقيقة المجردة، ويمضي يقرر حالة قائمة في نفوس المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب تنشأ من حقيقتهم السابقة، ورهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله، وهي أنهم {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14]، وهذا وصف لحالة مستقرة، وصفة لازمة من صفاتهم، فقد أتت هذه الصفة بصيغة الخبر: ((لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ))، ثم يقول: ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)) وهذا مبتدأ وخبر، وهذا الخبر حقيقة واقعة لا تتغير أبداً، ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى))، والفعل المضارع يفيد الاستمرار أيضاً، ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)) يقول -وما أعجب ما يقول! فإنه قال هذا من عدة عقود رحمه الله- يقول: وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في تشخيص حالة المنافقين وأهل الكتاب حيثما التقى المؤمنون بهم، في أي زمان وفي أي مكان، بشكل واضح للعيان.
ولقد شهدتْ -ولا أدري هل هذا الكلام كان في سنة ثمانٍ وأربعين مثلا- الاشتباكات الأخيرة أو بعدها في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة، فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين، فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولّوا الأدبار كالجرذان، حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء، وسبحان العليم الخبير.
وتبقى الملامح النفسية الأخرى ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى))، على خلاف المؤمنين الذين تتوحد أجيالهم، وتربط بينهم العقيدة، وتقفز وراء حدود الزمان والمكان والجنس والنوع والانتماء لتوحد قلوبهم، فتتضامن أجيالهم حتى إن الخلَف ليدعون للسلف الأول: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا)).
وعلى خلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم، وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء فواصل الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة.
قوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ))، والمظاهر قد تخدع، فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم، ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض، كما نرى تجمع المنافقين أحياناً في معسكر واحد، والناس الذي يتابعون الأخبار منذ مدة يحكون كيف أنهم في مجلس الكنيسة يضربوا بعض نساءهم ضرباً حقيقياً، وهذا شيء سهل معتاد عندهم، فهذا كله يعكس ظلال هذه الآية: ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا)) في الظاهر، وأما في الخفاء: ((وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)).
يقول: والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم، ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض، كما نرى تجمع المنافقين أحيانا في معسكر واحد، ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم، إنما هو مظهر خارجي خادع، وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخدّاع، فيبدو من وراءه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور، وينكشف الحال عن نزاع في داخل معسكر واحد قائم على اختلاف المصالح، وتفرق الأهواء، وتصادم الاتجاهات.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل بأسهم بينهم شديداً، وما صدَق المؤمنون مرة وتجمعت قلوبهم إلّا وقُذف في قلوب أعدائهم الرعب، فإنه من أعظم جنود الله، ولنا في هذه السورة عبرة، قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2].
فالله سبحانه وتعالى قال للمؤمنين في هذه الغزوة: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5]، فهم لم يفعلوا شيئاً، وإنما الذي فعل هذا هو الله، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2] أي: أن القوة في الحقيقة هي القوة القلبية، وهذا من آيات الله سبحانه وتعالى، فنحن نرى هذا الجيش المدجج بالسلاح أمام أناس عُزَّل، فأقصى شيء يملكه الشباب والأطفال الفلسطينيون هي الحجارة، ومع ذلك فانظر إلى الفزع والهلع الذي هم فيه، وانظر إلى سعيهم لإدخال القريب والبعيد، وقد أعلنت إسرائيل اليوم عن غضبها من أمريكا؛ لأن أمريكا لم تضغط على الفلسطينيين بالصورة الكافية حتى يكفوا عن هذه العمليات، فماذا يصنع أطفال وشباب بالحجارة إزاء هذا الجيش المدجج بالسلاح؟! يقول: وما صدق المؤمنون مرة، وتجمعت قلوبهم على الله حقاً إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات فهذا التضارب، وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال، وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار، وينكشف عن الخلاف الحاد، والشقاق والكيد، والدس في القلوب الشتيتة المتفرقة.
إنما ينال المنافقون والذين كفروا من أهل الكتاب من المسلمين عندما تتفرق قلوب المسلمين، فلم يعودوا يمثلون حقيقة المؤمنين الذي عرضتها الآية في المقطع السابق في هذه السورة، فأما بغي(166/6)
تفسير قوله تعالى: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر وذلك جزاء الظالمين)
قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16 - 17].
وصورة الشيطان هنا ودوره مع من يستجيب له من بني الإنسان، تتفقان مع طبيعته ومهمته، فأعجب العجب أن يجتمع إليه الإنسان وحاله هو هذا الحال، وهي حقيقة دائمة ينتقل السياق القرآني إليها من تلك الواقعة العارضة، فيربط بين الحادث المفرد والحقيقة الكلية في مجال حي من الواقع، ولا ينعزل بالحقائق المجردة في الذهن، فالحقائق المجردة لا تؤثر في المشاعر، ولا تستجيش القلوب للاستجابة، وهذا فصلُ ما بين منهج القرآن في خطاب القلوب ومنهج الفلاسفة والدارسين والباحثين، وتنتهي قصة بني النضير وقد ضمت في ثناياها وفي أعقابها هذا الحشد من الصور والحقائق والتوجيهات، واتصلت أقداسها المحلية الواقعة بالحقائق الكبرى المجردة الدائمة، وكانت رحلة في عالم الواقع وفي عالم الضمير تمتد إلى أبعد من حدود الحادث ذاته، وتختلف روايتها في كتاب الله عن روايتها في كتب البشر، فكم ما بين صنع الله وصنع البشر من فوارق لا تقارن.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16 - 17]، (كمثل الشيطان) أي: مثَل المنافقين في إغراء بني النضير على القتال، ووعدهم النجدة أو الصمود معهم، ومثَل انخداع بني النضير لوعد أولئك الكاذب كمثل الشيطان، ((إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ)) أي: إذ غر إنساناً ووعده على اتباعه وكفره بالله النصرة عند الحاجة إليه، ((فَلَمَّا كَفَرَ)) أي: بالله، واتبعه وأطاعه ((قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ)) أي: مخافة أن يسنده في عذابه متيماً له، ((إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ)) أي: فلا أعيذك، ((إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)) أي: في نصرتك، فلم ينفعه التبرؤ كما لم ينفع الأول وعده الإعانة، {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:17] أي: في حق الله تعالى، وحق العباد، وهكذا جزاء اليهود من بني النضير والمنافقين الذين وعدوهم النصرة، وكل كافر بالله ظالم لنفسه على كفره به؛ إنهم في النار مخلدون.
وقيل: إن المقصود بهذه الآية: ((كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ)) هو راهب تُركت عنده امرأة، فزين له الشيطان وطأها فحملت، ثم قتلها خوفاً من أن يفتضح، فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه، فجاء الشيطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم، فسجد له، فتبرأ منه وأسلمه، وهذه القصة مذكورة في كتب التفسير بطولها، وهي في حديث صححه الحاكم وسلم له الذهبي هذا التصحيح، وقال ابن الجوزي: إن الصحيح أن هذه القصة موقوفة على علي رضي الله تعالى عنه، وهذا خلاف قول ابن عطية، فإنه لما علقها قال: منسوبة للقصاص ضعيفة، وقال بعض العلماء: لعلها من الإسرائيليات.
قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: ((إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)): المعروف أن إبليس مُنظَر ومؤجّل، فقد سأل الله سبحانه وتعالى أن ينظره ويؤجله إلى يوم القيامة، قال: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:14 - 15]، فإبليس ما زال حياً إلى الآن، وهو الآن ليس في النار، بل لا يزال يمارس مهمته في إغواء البشر، ((إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)) قال بعض المفسرين: يعني: إني أخاف أن يعجل لي عذابي الآن في الدنيا، فهو الآن ما زال موجوداً في الدنيا كما هو معلوم.(166/7)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد)
قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أي: بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، قال المهايمي: يعني: أن مقتضى إيمانكم ألا تأمنوا مكر الله، فاتقوه أن يسلط عليكم الشيطان ليغويكم بالكفر، ثم يتبرأ منكم، ((وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)) أي: لما بعد الموت من الصالحات، ((وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) يعني: فيجازيكم بحسبها.
يقول صاحب (الظلال): وعند هذا الحد من رواية الحادث والتعقيب عليه، وربطه بالحقائق البعيدة المدى، يتجه الخطاب في السورة إلى المؤمنين، فيهتف بهم باسم الإيمان، ويناديهم بالصفة التي تربطهم بصاحب الخطاب، وتيسر عليهم الاستجابة لتوجيهه وتكليفه، ويتجه إليهم ليدعوهم إلى التقوى، والنظر فيما أعدوه للآخرة، واليقظة الدائمة، والحذر من نسيان الله كالذين نسوه من قبل، ممن رأوا مصير فريق منهم، وممن كتب عليهم أنهم من أصحاب النار.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:18 - 20].
والتقوى حالة في القلب يشير إليها اللفظ بظلاله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ))، ولكن العبارة لا تبلغ تصوير حقيقتها، فهي حالة تجعل القلب يقظاً حساساً، شاعراً بالله في كل حالة، خائفاً متحرجاً مستحيياً أن يطلع عليه الله في حالة يكرهها، وعين الله على كل قلب في كل لحظة، فمتى يأمن ألّا يراه؟! وقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)) تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه، ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله، بل صفحة حياته، ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها، وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته؛ لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة.
وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع خطأ، ومواضع نقص، ومواضع تقصير مهما يكن قد أسلف من خير، وبذل من جهد، فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً، ونصيبه من البر ضئيلاً؟! إنها لمسة لا ينام عن معناها القلب أبداً، ولا يكف عن النظر والتقليب، ولا تنتهي الآية التي تثير كل هذه المشاعر حتى تلح على القلوب المؤمنة بمزيد من الإيقاع.
قوله: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))، فتزيد هذه القلوب حساسية ورهبة واستحياء، والله خبير بما يعملون، وبمناسبة ما تدعو إليه هذه الآية من يقظة وتذكُّر يحذرهم في الآية الثانية من أن يكونوا ((كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ))، وهي حالة عجيبة، ولكنها حقيقة، فالذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى، وفي هذا نسيان لإنسانيته، وهذه الحقيقة تنشأ عنها حقيقة أخرى وهي: نسيان هذا المخلوق لنفسه، فلا يدخر لها زاداً للحياة الطويلة الباقية، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد.(166/8)
تفسير قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم)
قال الله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] أي: المنحرفون الخارجون، وهذه الآية إحدى الآيات التي يستدل بها في حظر التشبه بالكفار.
وفي الآية التالية يقرر أن هؤلاء هم أصحاب النار، ويشير للمؤمنين ليسلكوا طريقاً غير طريقهم، وهم أصحاب الجنة، فطريق أصحاب الجنة غير طريق أصحاب النار {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] لا يستويان طبيعة وحالاً، ولا طريقاً وسلوكاً، ولا وجهة ومصيراً.
فهنا على مفرق طريقين لا يلتقيان أبداً في طريق، ولا يلتقيان أبداً في سمة، ولا يلتقيان أبداً في خطة، ولا يلتقيان أبداً في سياسة، ولا يلتقيان أبداً في خط واحد في دنيا ولا آخرة، ((أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ))، فيثبت مصيرهم، ويدع مصير أصحاب النار مسكوتاً عنه معروفاً وكأنه ضائع لا يُعنى به التعبير.
ويقول القاسمي في تفسير قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:18 - 19]، قال ابن جرير أي: لا تكونوا كالذين تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم فأنساهم فضول أنفسهم من الخيرات، وأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيراً.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (مفتاح دار السعادة): تأمل هذه الآية تجد تحتها معنى فريداً عظيماً، وهو: أن من نسي ربه أنساه ذاته ونفسه، فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نسي ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده، فصار معطلاً مهملاً بمنزلة الأنعام السائبة، بل ربما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه؛ لبقائها على هداها الذي أعطاها أياه خالقها، وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها، فنسي ربه، فأنساه نفسه وصفاتها، وما تكمل وتزكو وتسعد به في معاشها ومعادها، يقول تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، فغفل عن ذكر ربه فانصرف عليه أمره وقلبه، فلا التفات له إلى مصالحه وكماله وما تزكوا به نفسه وقلبه، بل هو مشتت القلب مضيعه، مفرط الأمر حيران لا يهتدي سبيلاً.
فالعلم بالله أصل كل علم، وهو أصل علم العبد لسعادته، وكماله، ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مستديم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها، وما تزكوا وتفلح به، فالعلم به سعادة العبد، والجهل به أصل شقاوته، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] أي: الذين خرجوا عن الدين القيم الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وقالوا وغدروا ونبذوا عهد الله وراء ظهورهم فخسروا.
ومن المعلوم أن عقوبات الله سبحانه وتعالى تتنوع، فمن العقوبة ما يكون ظاهراً ملموساً محسوساً، ومنها ما يكون خفياً وهو أخطر، والعقوبات الظاهرة: منها عقوبات كونية قدرية كالزلازل والمكر والخسف والصواعق ونحو ذلك، ومنها عقوبات شرعية: كالحدود الشرعية: من رجم وجلد وقطع، ونحو ذلك.
ومنها ما يصيب الإنسان في بدنه، ومنها ما يصيبه في ماله أو في عافيته وهكذا، فقد يعاقب الله سبحانه وتعالى العبد على ذنوبه بمثل هذه العقوبات، وهذه العقوبات ظاهرة واضحة.
وهناك نوع آخر من العقوبات، وهي أخطر العقوبات على الإطلاق وهي: العقوبات الخفية التي لا تظهر ولا يحس صاحبها أنه معاقب، فالإنسان إذا عوقب ربما انتبه، وإذا أحس أن هذا العذاب من الله سبحانه وتعالى إنما هو من جراء ما هو فيه فربما أقلع، وهذا كالزلزال مثلاً الذي حصل هنا في مصر، أو الذي حصل في تركيا، فهذه الأشياء إشارة بلا شك من الله سبحانه وتعالى إلى عدم رضاه عن أفعال العباد، فهذه عقوبة لهم؛ لتذكرهم وتنبههم، قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42] أي: لعلهم يتوبون، فهذا تنبيه وإيقاظ، وهذه رسائل من الله سبحانه وتعالى إلى العباد.
فأقسى العقوبات ما كان خفياً كهذه العقوبة المشار إليها هنا في هذه الآية: ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)) أي: عن أن ينظروا فيما يصلحها، فيزين لهم سوء أعمالهم، فإذا زُيِّن للعبد سوء عمله فرآه حسنا فممَ يتوب؟! فإنه لن يستقبح فعلاً يراه حسنا، فبالتالي يتمادى فيه ولا يستيقظ منه حتى يستدرك، ولذلك تجد الله سبحانه وتعالى كلما أمعن العبد في المعاصي زاده من النعم استدراجاً، حتى إذا أخذه لم يفلته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، فالله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل، وأخذه أخذ عزيز مقتدر.
فيسلط الله النسيان على العبد حتى ينسى مصالح نفسه، فينسى الآخرة فلا يراجع نفسه ولا يحاسبها؛ لأن هذه وسيلة التصحيح، فلذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد على معاصيه) أي: على تماديه في المعاصي، والله سبحانه وتعالى يعطيه ويعطيه ويعطيه فاعلم أنه استدراج، ثم تلى قوله تعالى {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44].(166/9)
تفسير قوله تعالى: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة)
قال الله تبارك وتعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20].
كما قال أيضا: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة:100]، وقال تعالى {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28].
قوله: ((لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ)) وهم الناسون الغادرون، ((وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ)) وهم المؤمنون المتقون الموفون بعهدهم، ((أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)) أي: بالنعيم المقيم.
وقد استدل أصحاب الشافعي بهذه الآية الكريمة على أن المسلم لا يقتل بالكفار، لأنهما لا يستويان.
ونوقش هذا: بأنه لم يسوّ أحد العلماء بينهما، فهل أبو حنيفة الذي يقول بقتل المسلم بالكافر يساوي بين المسلم والكافر؟
الجواب
لا يسوي بينهما، فإيجاب القصاص ليس بتسوية؛ لأنه ما من متباينين من وجوه إلا وقد استويا في وجه أو وجوه، فلا يكون إيجاب القَوَد استواء، كما لا يكون إيجاب الدية والكفارة استواءً.(166/10)
تفسير قوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً)
قال الله تبارك وتعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].
قوله: ((لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ)) أي: الجامع للمواعظ، والموجب للنظر والتقوى لكل حال، ((عَلَى جَبَلٍ)) أي: بأن يفهمه الجبل ويكلف بما فيه، ((لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا)) أي: متذللاً لعظمة الله، ((مُتَصَدِّعًا)) أي: متشققاً، ((مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)) وذلك مع عظم مقداره، فالجبل على صلابته وتناهي قساوته وقوته لو أنزل عليه القرآن لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله عز وجل.
يقول القاشاني: أي: أن قلوب هؤلاء الكافرين أقسى من الحجر في عدم التأثر والقبول؛ إذ الكلام الإلهي بلغ من التأثير ما لا إمكان للزيادة وراءه، حتى لو فرض إنزاله على جبل لتأثر منه بالخشوع والانصداع.
فهذه الآية الكريمة تدل على أنه لا عذر لأحد في ترك تدبر القرآن الكريم، فالقرآن هو هو كما أنزله الله سبحانه وتعالى، لكن القلوب هي التي تغيرت، وهي التي اختلفت، وأما لو سلم القلب من الحجب والحواجز لكان بلا شك أشد انفعالاً بالقرآن الكريم من هذا الجبل.
يقول ابن الجوزي في تفسير هذه الآية الكريمة: وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن، ولا يؤثر في قلبه مع الفهم والعقل.
قوله: ((وَتِلْكَ الأَمْثَالُ)) أي: وتلك الأمور ((نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) أي: ليعلموا أنهم أولى بذلك الخشوع والتصدع، والغرض من ذلك توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشعه عند تدبر القرآن، وتدبر قوارعه وزواجره، فهذا هو التفسير المشهور لهذه الآية، وهو المعتمد فيها.
وهناك تفسير آخر في الآية وهو: أن المخاطب بهذه الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله سبحانه وتعالى يمتن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذا القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، ومع ذلك امتن عليك يا محمد! بأن ثبتك لما لا تثبت له الجبال، فثبتك لنزول الوحي والقرآن عليك.
ثم أشار تعالى إلى أنه كيف يترك العباد الخشوع لكلام الله الذي يحتوي على أسمائه وصفاته، مع أنه عز وجل هو الله الذي لا إله إلا هو؟! أي: كيف لا تخشعون لهذا الكلام الذي يحتوي على أسماء الله وصفاته وأفعاله مع أن مُنزله {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22]؟! يقول صاحب (الظلال): ثم يجيء الإيقاع الذي يتخلل القلب ويهزه، وهو يعرض أثر القرآن في الصخر الجامد لو تنزل عليه، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] وهي صورة تمثل حقيقة، فإن لهذا القرآن ثقلاً وسلطاناً وأثراً مزلزلاً لا يثبت له شيء يتلقاه في حقيقته، ولقد وجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما وجد عندما سمع قارئاً يقرأ: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:1 - 8]، فارتكن إلى الجدار، ثم عاد إلى بيته يعوده الناس شهراً مما ألمّ به.
واللحظات التي يكون فيها الكيان الإنساني متفتحاً لتلقي شيء من حقيقة القرآن فإنه يهتز فيها اهتزازاً، ويرتجف ارتجافاً، ويقع فيه من التغيرات والتحولات ما يمثله في عالم المادة فعل المغناطيس والكهرباء بالأجسام أو أشد، والله خالق الجبال ومنزل القرآن يقول: ((لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)).
والذين أحسوا شيئاً من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقاً لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع بالوحي: ((وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ))، وهي خليقة بأن توقظ القلوب للتأمل والتفكر.(166/11)
تفسير قوله تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة)
قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22].
وأخيراً تجيء تلك التسبيحة المجيدة بأسماء الله الحسنى، وكأنما هي أثر من آثار القرآن في كيان الوجود كله، ينطلق بها لسانه، وتتجاوب لها أرجاؤه، وهذه الأسماء واضحة الآثار في صميم هذا الوجود، وفي حركته وظواهره، فهو إذ يسبح بها يشهد كذلك بآثارها، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22].
ولكل اسم من هذه الأسماء الحسنى أثر في هذا الكون ملحوظ، وأثر في حياة البشر ملموس، فهي توحي إلى القلب بفاعلية هذه الأسماء والصفات، فاعلية ذات أثر وعلاقة بالناس والأحياء، وليست هي صفات سلبية أو منعزلة عن كيان هذا الوجود وأحواله وظواهره المصاحبة لوجوده.
((هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))، فتقرر في الضمير وحدانية الاعتقاد، ووحدانية العبادة، ووحدانية الاتجاه، ووحدانية الفاعلية من مبدأ الخلق إلى منتهاه، ويقوم على هذه الوحدانية منهج كامل في التفسير، والشعور، والسلوك، وارتباطات الناس بالكون وبسائر الأحياء، وارتباطات الناس بعضهم ببعض.
((عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)) فيستقر في الضمير الشعور بعلم الله للظاهر والمستور، ومن ثَم تستيقظ مراقبة هذا الضمير لله في السر والعلانية، ويعمل الإنسان كل ما يعمل بشعور المراقَب من الله المراقِب لله، ويتكيف سلوكه بهذا الشعور الذي لا يغفل بعده قلب ولا ينام.
((هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)) فيستقر في الضمير شعور الطمأنينة لرحمة الله والاسترواح، ويتعادل الخوف والرجاء، والفزع والطمأنينة، فالله في عقيدة المؤمن لا يطارد عباده ولكنه يراقبهم، وهو لا يريد الشر بهم بل يحب الهدى، ولا يتركهم بلا عون وهم يصارعون الشرور والأهواء.(166/12)
تفسير قوله تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن)
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23].
قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، فيعيدها في أول التسبيحة الثانية؛ لأنها القاعدة التي تقوم عليها سائر الصفات، ((الْمَلِكُ)) فيستقر في الضمير أن لا مُلك إلا لله الذي لا إله إلا هو، وإذا توحدت الملكية لم يبقَ للمملوكين إلا سيد واحد يتجهون إليه، ولا يخدمون غيره، فالرجل لا يخدم سيّدين في وقت واحد، {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4].
((الْقُدُّوسُ)) وهو اسم يشع القداسة المطلقة، والطهارة المطلقة، ويُلقي في ضمير المؤمن هذا الإشعاع الطهور، فينظف قلبه ويطهره؛ ليصبح صالحاً لتلقي قيود الملك القدوس، والتسبيح له والتقديس.
((السَّلامُ)) وهو اسم كذلك يشيع السلام والأمن والطمأنينة في جنبات الوجود، وفي قلب المؤمن تجاه ربه؛ فهو آمن في جواره، سالم في كنفه، وحيال هذا الوجود وأهله من الأحياء والأشياء، ويعود القلب من هذا الاسم بالسلام والراحة والاطمئنان وقد هدأت شرّته، وسكن بلباله، وجنح إلى الموادعة والسلام.
((الْمُؤْمِنُ)) واهب الأمن وواهب الإيمان، ولفظ هذا الاسم يشعر القلب بقيمة الإيمان حيث يلتقي فيه بالله، لأن المؤمن يسمى مؤمناً، والله سبحانه وتعالى من أسمائه الحسنى المؤمن، ويتصف بإحدى صفات الله، ويرتفع إلى الملأ الأعلى بصفة الإيمان.
(({الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ} صفات تتعلق مجردة بذات الله، وأما هذه فتتعلق بذات الله فاعلة في الكون والناس، وتوحي بالسلطان والرقابة، كذلك {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} فهي صفات توحي بالقهر والغلبة والجبروت والاستعلاء، فلا عزيز إلا هو، ولا جبار إلا هو، ولا متكبر إلا هو، ولا يشاركه أحد في صفاته هذه، ولا يتصف بها سواه، فهو المنفرد بها بلا شريك.
ومن ثَم يجيء ختام الآية: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23].(166/13)
تفسير قوله تعالى: (هو الله الخالق البارئ المصور)
قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:24].
ثم يبدأ المقطع الأخير في التسبيحة المجيدة ((هُوَ اللَّهُ))، فهي الألوهية الواحدة، وليس غيره بإله، {الْخَالِقُ الْبَارِئُ}، الخلق هو التصميم والتقدير، والبرء هو التنفيذ والإخراج، فهما صفتان متصلتان، والفارق بينهما لطيف دقيق.
قوله: {الْمُصَوِّرُ}، وهي صفة مرتبطة بالصفتين قبلها، ومعناها إعطاء الملامح المتميزة والسمات التي تمنح لكل شيء شخصيته الخاصة، وتوالي هذه الصفات المترابطة اللطيفة الفروق يستجيش القلب لمتابعة عملية الخلق والإنشاء والإيجاد والإخراج مرحلةً مرحلةً، حسب التطور الإنساني، فأما في عالم الحقيقة فليست هناك مراحل ولا خطوات، وما نعرفه عن مدلول هذه الصفات ليس هو حقيقتها المطلقة، فهذه لا يعرفها إلا الله، وإنما ندرك شيئاً من آثارها، فهو الذي نعرفها به في حدود طاقتنا الصغيرة، {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أي: الحسنى في ذاتها بلا حاجة إلى استحسان من الخلق، ولا توقف على استحسانهم.
والحسنى هي التي توحي بالحسن للقلوب وتفيضه عليها، وهي الأسماء التي يتدربها المؤمن ليصوغ نفسه وفق إيحائها واتجاهها؛ إذ يعلم أن الله يحب له أن يتصف به، وأن يتدرج في مراقيه وهو يتطلع إليها.
وخاتمة هذه التسبيحة المجيدة بهذه الأسماء الحسنى، والسفحة البعيدة مع مدلولاتها الموحية وفي فيوضاتها العديدة هي مشهد التسبيح لله يشيع في جنبات الوجود، وينبعث من كل موجود، {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:24] وهو مشهد يتوقعه القلب بعد ذكر تلك الأسماء، ويشارك فيه مع الأشياء والأحياء، كما يتلاقى فيه المطلع والختام، في تناسق والتئام، وهذا من باب رد العجز على الصدر، ففي الأول السورة: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:1] وفي آخرها: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:24].
فهذا أنموذج من خصائص (الظلال)؛ وهو الاهتمام بموضوع الوحدة الموضوعية، ويعتبر هذا المرجع أفضل مرجع تقريباً في جانب موضوع الوحدة الموضوعية لسور القرآن الكريم وآياته.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ثم أشار تعالى إلى أنه كيف يترك الخشوع لذات الله وأسمائه مع أنه ((هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) أي: المعبود التي لا تنبغي العبادة والألوهية إلا له.
وقوله: ((عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)) أي: ما غاب عن الحس وما شوهد، ((هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)) أي: المنعم بالنعم العامة والخاصة، ومن كان مطلعاً على الأسرار يحب أن يُخشع له، ويخشى منه لاسيما من حيث كونه منعماً، إذ حق المنعم أن يخشع له، ويخشى أن تسلب نعمه.
قوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ} [الحشر:23] أي: الغني المطلق الذي يحتاج إليه كل شيء، المدبر للكل في تركيب نظام لا أكمل منه، ((الْقُدُّوسُ)) [الحشر:23] أي: المنزه عما لا يليق بجلاله تنزهاً بليغاً، ((السَّلامُ)) قيل: هو ذو السلامة من كل عيب ونقص، وذو السلامة أي: سلم الخلق من ظلمه، أو السلام: المسلِّم على عباده في الجنة، وذلك إشارة إلى قوله تعالى {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58].
يقول القاسمي: ((السَّلامُ)) أي: الذي يسلم خلقه من ظلمه، أو السلام المبرأ عن النقائص كالعجز، ((الْمُؤْمِنُ)) أي: لأهل اليقين بإنزال السكنية، ومن فزع الآخرة، أي: أنه يؤمنهم، {الْمُهَيْمِنُ} أي: الرقيب على كل شيء باطلاعه واستيلاءه وحفظه، ((الْعَزِيزُ)) أي: القوي الذي يغلب ولا يغلب، ((الْجَبَّارُ)) أي: الذي تنفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل أحد، ولا تنفذ فيه مشيئة أحد، والذي لا يخرج أحد عن قبضته عز وجل.
وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية: وكذلك الجبار من أوصافه والجبر في أوصافه قسمان جبر الضعيف وكل قلب قد غدا ذا كثرة فالجبر منه دان والثاني جبر القهر بالعز الذي لا ينبغي لسواه من إنسان وله مسمى ثالث وهو العلـ وفليس يدنو منه من إنسان من قولهم جبارة للنخلة ال عليا التي فاتت لكل بنان(166/14)
معنى اسم الله: المتكبر
قوله تعالى: ((الْمُتَكَبِّرُ)) أي: الذي يرى الكل حقيراً بالإضافة إلى ذاته، ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه، فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد، فالكبرياء إذا نسب إلى الله سبحانه وتعالى فهو صفة مدح، وإذا نُسب إلى المخلوق فهو ذم، وجاء في الحديث القدسي: (العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني في واحد منهما قصمتة).
قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: من الأوثان والشفعاء.
وقوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} أي: المقدر للأشياء على مقتضى حكمته، ((الْبَارِئُ)) أي: الموجد لها بعد عدم، {الْمُصَوِّرُ} أي: مصور الكائنات كما شاء سبحانه وتعالى، {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أي: الدالة على محاسن المعاني، وأحسن الممادح، {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:24] أي: في تدبيره خلقه، وصرفهم فيما فيه صلاحهم وسعادتهم.
وهنا نقف عند واحد فقط من هذه الأسماء المذكورة وهو: (المتكبر والكبير)، فهما متقاربان من حيث المعنى، يقال: كبر يكبر، أي: عظم فهو كبير.
وقال ابن سيده: الكِبَر نقيض الصغر، وكبّرَ الأمر، أي: جعله كبيراً، واستكبره: رآه كبيراً، كقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف:31] أي: أعظمنه، والتكبير: التعظيم، والتكبر والاستكبار: التعظم، والكبر: الرفعة في الشرف، والكبرياء: الملك، كقوله تعالى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس:78]، والكبرياء أيضاً: العظمة والتجبر، والتاء التي في المتكبر ليست تاء التعاطي والتكلف كما يقال: فلان يتعظم، أي: يتكلف العظمة وهو ليس بعظيم، ويتسخّى وليس بسخي، وإنما هي تاء التفرد والتخصص.
قال الأزهري: التفعّل قد يجيء لغير التكلف، ومنه قول العرب: فلان يتظلم، أي: يظلم، وفلان يتظلم، أي: يشكو من الظلم، وهذه الكلمة من الأضداد، فثبت أن هذا البناء غير مقصور على التكلف.
وقال الرازي بعد أن ساق كلام الأزهري: وأنا أقول: إنه يمكن أن يجاب بوجه آخر وهو: أن المتفعل هو الذي يحاول إظهار الشيء ويبالغ في ذلك الإظهار، ثم إن كان صادقاً فيه كان ذلك الإظهار منه صفة مدح، وإن كان كاذباً فيه كان صفة ذم، وقد سمى الله سبحانه وتعالى نفسه بالمتكبر في آية واحدة من القرآن الكريم، في قوله: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} وأما اسمه الكبير فقد ورد في ستة مواضع من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9]، وقال {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]، وقد جاء مقترناً باسمه العلي والمتعال.
وأما معنى المتكبر والكبير، فقد قال قتادة: المتكبر أي: تكبر عن كل شر، وقيل: المتكبر: هو الذي تكبر عن ظلم عباده، وهذا يرجع إلى المعنى الأول.
وقال الخطابي: هو المتعالي عن صفات الخلق، ويقال: هو الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة.
وقال القرطبي المتكبر: الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله.
وقيل: المتكبر عن كل سوء، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدَث والذم، وأصل الكبر والكبرياء: الامتناع وقلة الانقياد.
قال حميد بن ثور: عفت مثلما يعفو الفصيل فأصبحت بها كبرياء الصعب وهي ذلول وقال عبد الله النسفي: هو البليغ الكبرياء والعظمة.
وكذلك قال العلماء في معنى الكبير، فقال ابن جرير: الكبير يعني: العظيم الذي كل شيء دونه، ولا شيء أعظم منه.
وقال الخطابي: الكبير: هو الموصوف بالجلال وكبر الشأن، فَصَغُر دون جلاله كلُّ كبير.
ويقال: هو الذي كبر عن شَبَه المخلوقين.
إذاً: فمعاني المتكبر والكبير: أولاً: الذي تكبر عن كل سوء وشر وظلم.
ثانياً: الذي تكبر وتعالى عن صفات الخلق، فلا شيء مثله.
ثالثاً: الذي كبر وعظم، فكل شيء دون جلاله صغير وحقير.
رابعاً: الذي له الكبرياء في السماوات والأرض، أي: السلطان والعظمة.
وأما آثار الإيمان بهذين الاسمين الشريفين: الكبير والمتكبر فالآتي: فأولاً: أن الله سبحانه وتعالى أكبر من كل شيء، وأكبر من أن يُعرف كنه كبريائه وعظمته، وأكبر من أن يحاط به علماً، كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، فالله جلت عظمته أكبر من أن نعرف كيفية ذاته أو صفاته، ولذلك نهينا عن التفكر في الله؛ لأننا لن ندرك ذلك بعقولنا الصغيرة القاصرة المحدودة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله عز وجل).
وقد وقع الفلاسفة في ذلك، فحاولوا أن يدركوا كيفية وماهية ربهم بعقولهم، فتاهوا وضلوا ضلالاً بعيداً، ولم يجنوا سوى الحيرة والتخبط والتناقض فيما سطروه من الأقوال والمعتقدات، فمن أراد معرفة ربه وصفاته فعليه بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أعلم الخلق بالله وصفاته، فعليه أنزل الكتاب العزيز الذي لا تكاد الآية منه تخلو من صفة لله عز وجل، وعليه أنزلت أيضاً السنة الشريفة الشارحة للكتاب.
فالتكبر لا يليق إلا بالله سبحانه وتعالى، فصفة السيد: التكبر والترفّع، وأما العكس فصفته التذلّل والخشوع والخضوع، وقد توعد الله سبحانه وتعالى المتكبرين بأشد العذاب يوم القيامة؛ لأنهم ينازعون سبحانه في صفة من صفاته، فهو السيد، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف:20]، وقال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60]، واستكبارهم هذا هو رفضهم الانقياد لله وأوامره، ورفضهم عبادة ربهم، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية:31].
ومن تكبُّر المشركين قولهم: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111]، فكان الكبر سبباً للطبع على قلوبهم كما قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35]، وكذلك هلاك إبليس نفسه كان بسبب التكبر، قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، ولا يكاد يخلو طاغية في الأرض من هذا المرض العضال الذي كثر التحذير منه في القرآن والسنة.
إن الكبر أيضاً يمنع من طلب العلم والسؤال عنه؛ لأن المتكبر يترفع عن الجلوس بين يدي العالم للتعلم، ويرى أن ذلك فيه مهانة له، فيؤثر البقاء على الجهل، فيجمع بين الكبر وبين الجهل، بل قد يجادل ويناقش ويخوض في المسائل بدون علم؛ حتى لا يقال إنه لا يعلم، فيصغر عند الناس، قال تعالى ذكره: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:8 - 9]، وقال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18]، ونحو ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56].
وقد ذم السلف الكبر في العلم فمن أقوالهم: من أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ، ومن تكبر على الناس ذلّ، ومن خالط الأنذال حُقر، ومن جالس العلماء وُقر.
وقال إبراهيم بن الأشعث سألت الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: أن تخضع للحق، وأن تنقاد له ممن سمعته.
أي: ولو كان أجهل الناس؛ فإنه يلزمك أن تقبله منه.
وقال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالماً ما تعلم، فإذا ترك التعلم، وظن أنه قد استغنى، واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون.
ونبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لم تمنعه منزلة النبوة من أن يطلب العلم ممن هو دونه، فقال للخضر عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66].(166/15)
معنى اسم الله: الجبار
وأما معنى اسم الله (الجبار)، فجبر الرجل على الأمر يجبره جبراً وجبوراً، وأجبره أي: أكرهه عليه، والجبر خلاف الكسر، تقول: جبر العظم يجبر جبراً.
والجبر: أن تغني الرجل من الفقر، أو يُجبر عظمه من الكسر.
وتجبر النفس والشجر: أي اخضر وأورق.
والجبار: العظيم القوي الطويل، قال الله تعالى {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة:22] أرادوا طول القوة والعظم، فكأنه ذهب به إلى الجبار من النخيل، فالنخلة الجبارة: هي الطويلة التي تفوت يد المتناول، ونخلة جبارة، أي: عظيمة سمينة، وتجبّر الرجل إذا تكبّر، قال تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32] أي: متكبراً على عبادة الله تعالى.
وهذا الاسم (الجبار) ورد في القرآن مرة واحدة في هذه الآية {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:23] ومعناه: المصلح أمور خلقه، الذي يصرّفهم فيما فيه صلاحهم.
وقال قتادة: جبر خلقه على ما يشاء من أمره.
وقال الخطابي (الجبار): هو الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه.
وقيل: هو الذي جبر مفاقر الخلق، أي: كفاهم أسباب المعاش والرزق، ويقال: بل الجبار: العالي فوق خلقه، من قولهم: تجبر النبات، إذا علا واستهل، ويقال للنخلة التي لا تنالها اليد طولاً: الجبارة؛ لأنها لا تصل إليه اليد.
وقال الشوكاني (الجبار): جبروت الله وعظمته، والعرب تسمي الملك: الجبار.
وقال السعدي (الجبار): هو بمعنى: العلي الأعلى، وبمعنى: القهار، وبمعنى: الرءوف الجابر للقلوب المنكسرة، وللضعيف العاجز، ولمن لاذ به ولجأ إليه.
إذاً: فخلاصة الكلام في معنى اسم الله عز وجل (الجبار): أنه العالي على خلقه، لأن (فَعّال) من أبنية المبالغة، والجبار: هو المصلح للأمور، من جَبَر الكسر، إذا أصلحه، وجبر الفقير، إذا أغناه، والجبار: هو القاهر خلقه على ما أراد من أمر أو نهي، كما قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45] أي: لست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى، ولم تكلف ذلك.(166/16)
تفسير سورة الممتحنة [1 - 7](167/1)
تسمية سورة الممتحنة وسبب نزولها وما يتعلق به
نشرع بإذن الله تعالى في تفسير السورة الستين من القرآن الكريم، وهي سورة الممتحنة بفتح الحاء، وقد تكسر؛ فعلى الفتح هي صفة للمرأة التي نزلت فيها هذه السورة، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.
قال الله تعالى: {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة:10]، فهذه المرأة التي نزلت فيها السورة ممتحَنة تصديقاً لهذه الآية، وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف، وقد ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن.
وأما بالكسر فهي بمعنى المختبِرة، فهي صفة للسورة نفسها، أي: السورة المختبِرة، كما سميت سورة براءة: المبعثرة والفاضحة؛ لأنها كشفت عن عيوب المنافقين.
قال المهايمي: سميت بها لدلالة آية الامتحان على أنه لا يكتفى في باب الصحة بظواهر الأدلة كالهجرة، بل لابد من اختبار البواطن، فدلائل الاعتقادات أولى بذلك، وهذا من أعظم مقاصد القرآن.
وفي اصطلاح القراء أنها تسمى سورة الامتحان، وسورة المودة.
وهي سورة مدنية كلها بإجماعهم، وآيها ثلاث عشرة آية.(167/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)
بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1].
قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) أي: أنصاراً، فهذا نهي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن موالاة مشركي مكة المحاربين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقتئذ، لما فيها من الفتنة بالدين وأهله كما يأتي.(167/3)
لفظ (العدو) معناه وإطلاقه
وقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) لفظ العدو مفرد، ويطلق على الفرد وعلى الجماعة، فمن إطلاقه على الفرد قول الله سبحانه وتعالى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، ومن إطلاقه على الجمع قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50].
والمراد بلفظ (العدو) في قوله: ((لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) الجمع؛ لأن في سياق الآية قرائن تؤكد أن المراد الجمع، مثل كلمة (أولياء)، فهي جمع، وقوله أيضاً: ((تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ)) وقوله أيضاً: ((تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)) وقوله أيضاً: ((إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً)) إلى آخره، فهذا كله مما يرجح أن المراد بلفظة (العدو) الجمع.(167/4)
سبب تقديم قوله تعالى: (عدوي) على (عدوكم)
يلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى قدم ذكر عداوته على عداوة المؤمنين: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ)) فذكْرُ المقابلة هنا بين: عدوي وعدوكم فيه إبراز صورة الحال وتقبيح الفعل؛ لأن العداوة تتنافى مع الموالاة، وتتنافى أيضاً مع المسارة للعدو بالمودة.
قال الفخر الرازي في سر تقديم (عدوي) على (عدوكم): سر التقديم أن عداوة العبد لله بدون علة، فالذي يعادي الله سبحانه وتعالى ليس له علة تعلِّل هذه العداوة، أما عداوة العبد للعبد فإنما تكون لعلة.
يقول: وما كان بدون علة -يعني: كعداوة الكفار لله- فإنه يقدم على العداوة التي تكون لِعلة، وهي عداوة الناس بعضهم لبعض.
ويقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن التقديم لغرض شرعي وبلاغي، وهو أن عداوة العبد لله هي الأصل، يعني: أن من عادى الله فإنه بعد ذلك يعادي أولياء الله، وعداوة العبد لله أشد قبحاً من عداوته لعبد مثله؛ فلذا قدمت، وقبحها في أنهم عبدوا غير خالقهم، وشكروا غير رازقهم، وكذبوا رسل ربهم، وآذوهم، فلا يتصور أن يعادي عبدٌ الله سبحانه وتعالى وهو مفتقر في وجوده إلى الله، فهو الذي خلقه، ورزقه، ووهبه الحياة، وأسبغ عليه النعم ظاهرة وباطنة، فلم يأته من الله سبحانه وتعالى إلا كل خير، فمقابلة هذا الإحسان الذي لا إحسان مثله بالعداوة لا شك أنه أقبح ما يكون، ولذلك روي في بعض الأحاديث الإلهية: (إني والجن والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر غيري)، وفيه أيضاً: (خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي!) وهذا الحديث وإن لم يصح فإن معناه صحيح.
كما أن تقديم عداوة الله سبحانه وتعالى على عداوة الخلق يؤكد بأنها هي السبب في العداوة بين المؤمنين والكافرين، فإن العداوة التي تقع بين المؤمنين والكافرين إنما هي ناشئة عن عداوة الكفار لله تبارك وتعالى، فتراهم يسبون الله، ويشركون به، ويكذبون أولياءه، فلما كانوا أعداء لله وجب على المؤمنين أن يتخذوهم أيضاً أعداء.
والدليل على تقديم عداوة الله على عداوة المؤمنين، وأنها هي الأصل: أن الكفار لو آمنوا بالله وانتفت عداوتهم لله لأصبحوا إخواناً للمؤمنين كما قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فبمجرد التوبة، والدخول في الإسلام، والانقياد لشرع الله؛ يصبحون إخواناً للمؤمنين، وتنتفي العداوة بينهما، فقد جعل هذا الأمر مغياً لغاية في قوله تعالى: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:89]، ومثله أيضاً قول الله تعالى في قوم إبراهيم: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] فإذا آمنوا بالله صاروا بالتبع إخواناً لهم، وانتفت هذه العداوة، فإذا هاجر المشركون وآمن الكافرون انتفت العداوة، وحلت محلها الموالاة، فسبب النهي عن موالاة الأعداء هو الكفر.(167/5)
بيان أنه ليس كل عداوة تقتضي المقاطعة وعدم الموالاة
إذا وجدت عداوة لا لسبب الكفر فلا ينهى عن تلك الموالاة، فقد توجد عداوة لكن لسبب آخر غير سبب الكفر، فلا تعامل نفس المعاملة التي في معاداة سببها الكفر، فمن الممكن أن تحصل عداوة بين اثنين من المسلمين بسبب محاقة أو مخاصمة أو اختلاف، فمثل هذا لا يوجب نفس النوع من العداوة، ولا يترتب عليه ما يترتب على المعاداة التي يكون سببها الكفر.
فمثال ذلك قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] فهنا وصف الأولاد والأزواج بأنهم قد يكونون أعداء، وهذه العداوة تختلف تماماً عن العداوة التي سببها الكفر، لأن عداوة الشخص المحبوب كائنة في أن يفتنك لترضيه، مثل أن تحرض الزوجة زوجها على أن يأتي بالمال ولو من الحرام، وأن تشغل محبة الولد الأب عن العبادة مثلاً كما قال تعالى: {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9]، فإذا حرضت الزوجة أو الأولاد الرجل على معصية الله، أو على الكسب الحرام، أو على أي مخالفة شرعية، فهذه هي العداوة المقصودة هنا في هذه الآية.
وهذه الآية التي فيها العداوة لسبب غير الكفر: ((إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)) قال الله سبحانه وتعالى بعدها مباشرة: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14] فانظر كيف أتبعها الله سبحانه وتعالى بالتحريض على العفو والغفران والمسامحة، فلما تخلف السبب الأساسي في النهي عن موالاة الكفار الذي هو الكفر، جاء الحث على العفو والصفح والغفران؛ لأن هذه العداوة لسبب آخر بينه قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] فكان مقتضاها الحذر من أن يفتنوه أو يؤزوه على المخالفات الشرعية، لا أن يتخذ الرجل زوجته وأولاده أعداء، فإن مقتضى الزوجية حسن العشرة وليس المعاداة؛ لأن السبب هنا ليس هو الكفر.
وقد نص صراحة على عدم النهي المذكور في خصوص من لم يعادهم في الدين فقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8].
وإعراب (أولياء) من قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)): مفعول ثانٍ، والمفعول الأول هو: (عدوي)، ومعنى أولياء: أنصار كما ذكرنا سابقاً.
فهذا نهي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن موالاة مشركي مكة المحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وقتئذ؛ لما فيها من الفتنة بالدين وأهله.(167/6)
تفسير قوله تعالى: (تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم)
قوله: ((تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)).
قيل: بصميم المحبة، والمعنى: تلقون إليهم المودة، وقال بعض العلماء: المقصود بالمودة المودة الظاهرة؛ لأن هذه السورة نزل جزء منها في شأن حاطب بن أبي بلتعة لما دل قريشاً على أخبار النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه قد أعد جيشاً ليغزوهم كما سنبين إن شاء الله تعالى بالتفصيل.
وقد اعتذر حاطب للنبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفعل، وذكر أنه محب لله ورسوله، وموال لله ورسوله، وأنه مبغض للكافرين، وإنما عذره كذا وكذا مما تأوله، فمن ثم قيد بعض المفسرين المودة هنا بأنها المودة الظاهرة، وليست المودة القلبية؛ لأن قلب حاطب كان سليماً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة بعدما اعتذر إليه حاطب: (أما صاحبكم فقد صدق) يعني: أنه تأول ولم يكن فعله عن كفر، أو عن حب للكفار والعياذ بالله.
والباء في قوله: ((بِالْمَوَدَّةِ)) زائدة كما في قوله تعالى: {َومَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] أي: ومن يرد فيه إلحاداً بظلم.
أو أن الباء ثابتة، ويكون الضمير متعلقاً بقوله: تلقون، تقول: ألقيت إليه بكذا، والمراد: تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن الباء هنا سببية، أي: تلقون إليهم بسبب المودة التي بينكم وبينهم.
والواو في قوله: ((وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ)) هي واو الحال؛ أي: والحال أنهم قد كفروا بما جاءكم من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكتابه الذي هو نهاية الهدى وغاية السعادة.
ثم أشار إلى أن هؤلاء الذين توالونهم، أو تودونهم، أو تلقون إليهم بالمودة، لم يكتفوا بالكفر بما جاءكم من الحق، بل آذوا المؤمنين، فأضافوا إلى الكفر أذية المؤمنين، وهذا الأمر يقتضي قطع العلائق معهم بأي نوع من المودة.
فانظر إلى الجريمة الثانية بعد الكفر بالله والكفر بالقرآن، ((يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ)) فقد آذوا الرسول، وآذوا المؤمنين، فهذا الأمر يستوجب قطع العلائق معهم رأساً، والمعنى يخرجون الرسول وإياكم من أرضكم ودياركم.(167/7)
تفسير قوله تعالى: (أن تؤمنوا بالله ربكم)
قوله: ((أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)).
أي: ما يخرجونكم إلا لأنكم آمنتم بالله ربكم، فلم تظلموهم، ولم تبخسوهم حقاً، ولم تؤذوهم في شيء، وإنما الأمر كما قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] فالجريمة إذاً هي الإيمان بالله عز وجل، والمعنى: يخرجونكم لإيمانكم بالله الجامع للكمالات المقتضية انقياد الناقص له، لاسيما باعتبار اتصافه بكونه رباكم بالكمالات، فهي في الحقيقة عداوة مع الله عز وجل، فقوله: ((أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)) أي: ربكم الذي أحسن إليكم، وغذاكم بنعمه، وأفاض عليكم من خيراته، فهم ما نقموا منكم إلا أن تؤمنوا بالله ربكم.
قال ابن كثير: هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم، فهذه الأسباب الثلاثة المذكورة في الآية كلها مما يهيج المؤمنين ويوقظ في قلوبهم عداوة الكفار، وعدم موالاتهم، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ)) هذه واحدة، ((يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ)) وهذه الثانية، وثالثاً: ((أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)) بسبب إيمانكم؛ لأنهم أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده؛ ولهذا قال تعالى: ((أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)) أي: لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]، وكقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40].
ثم يقول تبارك وتعالى: ((إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي)) أي: بالجهاد في طريقي الذي شرعته لكم، وديني الذي أمرتكم به، والتماس رضائي عنكم الذي لا ثواب فوقه، والشرط متعلق بقوله: ((لا تَتَّخِذُوا)) أي: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي.
فقوله هنا: ((إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي)) هذا شرط، وجوابه متقدم، أي أن الكلام فيه تقديم وتأخير، فيكون تفسير الآية هكذا: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.
وهناك قول آخر: وهو أن في الكلام حذفاً، أي: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تلقوا إليهم بالمودة.
وقوله تعالى: ((تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)) الباء في قوله: (بالمودة) كالباء في لفظة (بالمودة) السابقة في قوله: ((تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ))، فـ (تسرّون) بدل من قوله تبارك وتعالى: ((تُلْقُونَ))؛ لأن الأفعال تبدل من الأفعال، وذلك مثل قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:68 - 69] وقول الشاعر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا ((تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ)) أي: من المودة معهم وغيرها، ((وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ)) والهاء تعود إلى المصدر نفسه وهو الإسرار، فمع أن المذكور هو الفعل لكن يفهم منه المصدر، ((وَمَنْ يَفْعَلْهُ)) أي: الإسرار والإلقاء إليهم بالمودة، أو الإسرار إليهم واتخاذهم أولياء.
((فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)) أي: جار عن السبيل السوي الذي جعله الله سبحانه وتعالى هدى ونجاة.
وقد أشرنا أن هذا السياق كله نزل في شأن حاطب بن أبي بلتعة، فقد وقع منه هذا الأمر، وهو إخبار الكفار بسر الرسول عليه الصلاة والسلام لعلة سوف نبينها، مع أن حاطباً رضي الله عنه من أهل بدر، وله فضل عظيم جداً، لكن كل هذا السياق كما نلاحظ يؤخذ منه معاتبة حاطب رضي الله تعالى عنه.
فقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) خطاب للمؤمنين، لكن سبب نزولها في حاطب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1] فالمعاتبة من الله سبحانه وتعالى لـ حاطب رضي الله عنه، وهي في حد ذاتها تدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق إيمانه؛ لأن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيبه، وأما الشخص الذي تيئس منه فإنك تطرحه ولا تبالي بما فعل؛ لأن شأنه لا يهمك، أما الشخص الذي بينك وبينه مودة فهذا الذي يستحق أن تعاتبه، ولذلك يقول الشاعر: أعاتب ذا المودة من صديق إذا ما رابني فيه اجتناب إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتاب يعني: يبقى الود إذا كان هناك أمل في هذا الشخص ومحبة، فيستحق أن تعاتبه، أما إذا ارتفع العتاب فهذا يعني ارتفاع المحبة أصلاً.(167/8)
تفسير قوله تعالى: (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءً ويبسطوا إليكم أيديهم)
ثم يقول تبارك وتعالى مبيناً حال الكافرين مع المؤمنين: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2].
قوله: ((إِنْ يَثْقَفُوكُمْ)) أي: إن يدركوكم ويظفروا بكم، وتقول: رمح ثقيف أي: صنع بحذق ومهارة ودقة، واستعمل هنا للإدراك.
فـ ((إِنْ يَثْقَفُوكُمْ)) أي: إن يدركوكم ((يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً))؛ لأنهم لا يصلون إلى المؤمنين بسبب الهجرة، فالمؤمنون لا يقيمون معهم في مكة، لكن إن ظفر المشركون بهم، يكونون لكم أعداء، أي: حرباً، فواجبكم أن تقابلوا هذه العداوة بعداوة مثلها، ولا ينفعكم إلقاء المودة إليهم، ولا يجدي معهم أن تلقوا إليهم المودة.
((وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ)) أي: يبسطوا إليكم أيديهم بالقتل أو الضرب، وألسنتهم بالشتم بالسوء.
((وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)) بما جاءكم من الحق وترجعون عن دينكم إلى دينهم.
وقد بين الله سبحانه وتعالى السبب في أنهم يودون لو تكفرون، وهو أنهم يحسدون المؤمنين على نعمة الإيمان، ونحن نعرف أن اليهود كانوا يعرفون أن الرسول عليه الصلاة والسلام حق من عند الله، وكانوا يعلمون أنه نبي مرسل من الله سبحانه وتعالى، لكن ما الذي منعهم من الإيمان؟ إنه الحسد.
فالحسد يعمي قلوبهم عن أن يدركوا أن هذا الأمر سيئول بهم إلى نار جهنم؛ لأنه مادام أنه رسول حقاً من عند الله، وأنه أتى بما ينسخ شريعتهم ودينهم، فمن خالفه فلا شك أن مأواه جهنم، ولكن لتمكن صفة الحسد في قلوبهم عموا وأصروا على كفرهم واستكبارهم.
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] ويقول الله تبارك وتعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء:88] إلى قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89].
وهذا معروف حتى على مستوى أقل من قضايا الكفر والإيمان، فتجد الشخص المنحرف أو الفاسد يحب جداً أن يفسد الناس مثله، وأن يصيروا كلهم منحرفين؛ لأن هذا يحدث له نوعاً من الألفة، وأنه لم يكن ضائعاً بمفرده، لذلك فإنه يفرح بتضييع من حوله؛ لأن هذا يؤنسه في هذه الوحدة، فكذلك هؤلاء: ((وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)) حسداً من عند أنفسهم.(167/9)
تفسير قوله تعالى: (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة)
قال تعالى: {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة:3].
((لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ)) يعني: قراباتكم، وليست على ظاهرها، فالأرحام هنا ليس المقصود بها الأرحام نفسها، لكن المقصود ذوو الأرحام، يعني: لن تنفعكم ذوو أرحامكم، أي: قراباتكم، ((وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وجاء هذا السياق لأن السورة نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وحاطب إنما أراد أن تكون له يد -أي: جميل- عند أهل مكة المشركين؛ لأنه لم يكن له في مكة من يحمي عشيرته من أذى المشركين، فأراد أن يسدي إليهم جميلاً حتى يكفوا الأذى عن أهله وعشيرته، فالله سبحانه وتعالى يبين أنه يوم القيامة لن تنفعكم هذه القرابات، أي: القرابات التي ارتكب حاطب هذه الكبيرة بسببها: ((لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ)) بإثابة المؤمنين، ومعاقبة العاصين.
وقوله: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فيه عدة قراءات، منها: (يوم القيامة يُفصَل بينكم)، وقرئ: (يوم القيامة يُفصَّل بينكم)، وفي قراءة: (يوم القيامة يُفصِّل بينكم)، وقرئت: (يوم القيامة نُفصِّل بينكم) على العظمة، وقرئت أيضاً: (يوم القيامة نَفصِّل بينكم).
وقال القاشاني: أي لا نفع لمن اخترتم موالاة العدو الحقيقي لأجله؛ لأن القيامة مفرِّقة، ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ)) فهؤلاء الذين اختاروا موالاة العدو الحقير لأجلهم، وهو حاطب والى العدو الحقير لأجل قرابته الذين في مكة، فهؤلاء القرابة الذين تهلكون أنفسكم بسببهم لن ينفعوكم يوم القيامة، ولن يغنوا عنكم شيئاً؛ لأنه يوم القيامة يفصل بينكم: أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار؛ لأن القيامة مفرقة، وهذا معنى قوله تعالى: ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ)) أي: يفصل الله بينكم وبين أرحامكم وأولادكم كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36].
وهذا تأويل جيد.
أما فيما يتعلق بالقراءة في قوله تعالى: ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) فيجوز في قوله تعالى: ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) وجهان: الأول: أن يتعلق بما قبله أي: لن تنفعكم أرحامكم يوم القيامة، فيوقف عليه هنا، ويبتدأ بقوله: (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ).
والوجه الثاني: أن يتعلق (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بما بعده، أي: يفصل بينكم يوم القيامة، فيوقف على أولادكم، ويبتدأ بيوم القيامة.
وقوله: ((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) يعني: فيجازيكم عليه.(167/10)
قصة حاطب بن أبي بلتعة مع المشركين
يقول شيخ المفسرين وإمامهم الحافظ ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: ذكر أن هذه الآيات من أول هذه السورة نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وكان كتب إلى قريش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم.
روى البخاري هذه القصة عن علي رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها) وروضة خاخ مكان بين المدينة ومكة على بعد اثني عشر ميلاً من المدينة، الظعينة: هي المرأة داخل الهودج، أم إذا كانت خارج الهودج فلا يقال عنها ظعينة.
قال: (فذهبنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب! فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها -أي: من ظفائرها- فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه سلم: ما هذا يا حاطب؟! قال: لا تعجل علي يا رسول الله! إني كنت امرأً من قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم، فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه! فقال عليه الصلاة والسلام: إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
ومعنى هذه العبارة الأخيرة: أن الله سبحانه وتعالى علم من شأن أهل بدر أنهم كلما أذنب الواحد منهم ذنباً أحدث بعده توبة فيغفر الله عز وجل له.
قال عمرو بن دينار راوي الحديث: ونزلت فيه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ)) إلى آخر الآيات.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: كان حاطب هذا رجلاً من المهاجرين، ومن أهل بدر، وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفاً لـ عثمان رضي الله عنه، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهز لغزوهم، فقال: (اللهم عَمِّ عليهم خبرنا، فعمد حاطب فكتب كتاباً إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم؛ ليتخذ بذلك عندهم يداً) كما ذكر في الحديث.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: يعني بقوله عز وجل: ((لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله والمؤمنين، الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، ((وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)) يعني: من يحبهم بقلبه ويواليهم فإنه يصير كافراً مثلهم.
وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144]، وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]؛ ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش؛ لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.(167/11)
منزلة الولاء والبراء في الدين
إن هذه السورة كلها أصل في النهي عن موالاة الكفار، فضلاً عما أشرنا إليه وما لم نشر إليه من الآيات؛ لأن قضية موالاة الكفار تحتل في الإسلام المرتبة الثانية من حيث كثرة الأدلة عليها بعد قضية التوحيد، فما عرفت قضية تكثر أدلتها بعد قضية التوحيد مثل قضية الولاء والبراء، وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، بل إنها في الحقيقة من حقوق التوحيد، ولذلك فإن أي خلل في قضية الولاء والبراء فأمره خطير، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73].
فإذا ذاب هذا الحاجز النفسي بين المؤمنين والكافرين ترتب على ذلك اختلاط الأمور على الناس، فمثلاً: ياسر عرفات زوجته نصرانية، وأعلنت أنها ترغب في أن تدخل في الإسلام، فقال لها: لا داعي لذلك؛ فإن هذه الأديان كلها شيء واحد! والله المستعان.
فانظر إلى الخلل في الولاء والبراء، فإنه أوصل إلى تسوية الإسلام بالكفر وصدور هذا التصرف الخطير، هذا أنموذج عملي واحد وإلا فكل ما نحن فيه من خلل واختلال في أحوالنا وأمورنا هو بسبب الاختلال في قضية الولاء والبراء، ولذلك تجد الآن من يحملون أسماء المسلمين وهم أشد عداوة للإسلام وأهله من أبي جهل وأبي لهب؛ بسبب الخلل في قضية الولاء والبراء، فإذا أردت أن تفتش عن سبب هذا الفساد فاقرأ قوله تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] أي: فتنة الناس في دينهم؛ لأنه حينئذ يتلاشى الخط الفاصل بين الكفر والإيمان، بين النور الظلام، بين الهدى والضلال.
وكان ينبغي أن نقف وقفة طويلة عند قضية الولاء والبراء، لكن الوقت يضغط علينا، فإننا نريد أن ننجز ما نحن فيه بقدر المستطاع، وسوف نقف عند هذا الأمر المهم ونعطيه أو نوفيه حقه لاحقاً إن شاء الله تعالى.
وقد قبل الله سبحانه وتعالى عذر حاطب لما قام في ظنه من كون ذلك ليس بكبيرة وإن أخطأ، والمجتهد المخطئ معذور، وقد تبين خطؤه بصريح النهي عن معاودة مثله، ولأجله نزلت السورة، فقد كان متأولاً في أن هذا جائز، وقال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام بأي حال من الأحوال سوف ينصره الله على هؤلاء المشركين، فأنا أسدي إليهم هذا الجميل حتى يدفعوا عن أقاربي في مكة.
وقد أخطأ في هذا الاجتهاد، لكن قلبه عامر بالإيمان، ومحب لله ولرسوله، وموال للمؤمنين، ولذلك ذكر أن حاطباً لما سمع صدر السورة: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان، أي: أنه سر جداً بأن الله ما زال يخاطبه بوصف الإيمان.(167/12)
الاعتدال في الحكم على الأشخاص والمناهج
يستفاد من هذه السورة أن الإنسان إذا أراد أن يحكم على شخص فلابد من الاعتدال والموازنة؛ لأن من الخلل عند الحكم على الأشخاص، أو على المناهج، أو على المواقف من خلال موقف واحد، فنهدر كل ما عند الشخص من الحسنات، فلا نذكر عنه إلا المساوئ.
فترى بعضهم يقول: إن هذا العالم أخطأ في قضية كذا، وأخطأ في الموضوع الفلاني، ويحبط كل حسناته بسبب هذا الخطأ، فهذا غير صحيح؛ فانظر إلى حاطب بن أبي بلتعة تحصل منه هذه المصانعة للمشركين، ومع ذلك عرف له الرسول عليه الصلاة والسلام حقه، فكون الرجل بدرياً شرف وفضل عظيم جداً لا يمكن أن يقارن: (وما يدريك يا عمر! لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
فموقعة بدر وقع فيها الفرقان ونصرة الحق، وكانت فيها بداية انطلاق الدعوة إلى الأمام، وهي موقعة أذل الله فيها الكفار وأعز المسلمين، وهؤلاء البدريون لاشك أنهم أعلى طبقة في الصحابة، ففي هذا مراعاة مقام الناس والإحسان، وعدم نسيان حسناتهم إذا ما أساءوا.
وقد أحزنني كثيراً الحوار الذي يجري بين بعض الشباب حول الدكتور طارق سويدان، فإنه أخ فاضل على خير، وقد فتح الله على يديه خيراً كثيراً، فكم رأيته في أمريكا، فإنه في غاية النشاط في الدعوة إلى الله تعالى، فله محاضرات كثيرة جداً باللغة الإنكليزية، فالرجل له نشاط وهمة عالية في الدعوة إلى الله، وكذلك أشرطته يغلب عليها الخير، وموضوع أشرطة السيرة جيدة ونقول للمثبطين: أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا أما كلامه في قضية الفتنة بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد أوضحناه أكثر من مرة، وقلنا: إن فيه نوعاً من الخطأ، وهو خطأ محدد في أن هذه القضية لا ينبغي أن تثار للعامة، بل ينبغي أن نشغل العامة بمناقب الصحابة وفضائلهم، ولا نفتح عليهم الكلام فيما شجر بين الصحابة، وهذا منهج أهل السنة.
والرجل -إن شاء الله- لعله يكون قد انتفع بهذه النصيحة، وهذا هو الظن به، وقد بلغني أنه أمر بإيقاف هذه الأشرطة بالذات، وبلغني بعض الشباب أنه الآن -عافاه الله وعافى سائر المسلمين- مصاب بالسرطان، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفيه ويعافيه، وأن يصرفه عنه وعن سائر المسلمين.
فيخوض بعض الشباب ويقول: أليس هذا الذي فعل كذا، أليس هذا الذي عمل الأشرطة التي فيها كذا!! فما هذا أيها الإخوة؟! الرجل مسلم وداعية إلى الله سبحانه وتعالى، وهو ليس من كبار علماء المسلمين، إلا أنه داعية ناصح، وقد خدم الدعوة كذا وكذا، فينبغي أن نعتزل عند نزال الأقران، ونستحضر موقف حاطب بن أبي بلتعة، وأن كونه بدرياً هو الذي أنقذه من وصف النفاق، ومن معاقبته بسبب تجسسه لصالح الأعداء كما بينا.(167/13)
الخوف على المال والولد لا يبيح التقيّة بإظهار الكفر
قال القاضي أبو يعلى: في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة ولم يأمرهم بالتخلف لأجل أموالهم وأولادهم.
فالعذر المعتبر للإنسان في النطق بكلمة الكفر هو إنقاذ نفسه من القتل كما قال الله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28].
ففي حالة الخوف على النفس من العطب والقتل يجوز للإنسان أن ينطق بكلمة الكفر، ولو صبر فهو أولى وأفضل، لكن هل الخوف على المال والولد يبيح له التقية في إظهار الكفر؟ يقول القاضي أبو يعلى: لا؛ لأن في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر كما يبيح ذلك في الخوف على النفس، فلو كان الخوف على المال والأولاد عذراً في إظهار التقية لجاز للمؤمنين الذين هاجروا إلى المدينة أن يبقوا في مكة ويظهروا التقية، ويبقوا على إيمانهم خفية؛ حفاظاً على أموالهم وعلى أولادهم، ولكن لم يحصل هذا لأن الله أوجب عليهم الهجرة، فدل على أنه لا تقية في حالة الخوف على المال والولد.
يقول: ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة، ولم يأمرهم بالتخلف لأجل أموالهم وأولادهم.
وقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق؛ لأنه ظن أنه فعل ذلك من غير تأويل.
فقبل الرسول عليه الصلاة والسلام عذره فيما قام في ظنه من كون ذلك ليس بكبيرة وإن أخطأ، والمجتهد المخطئ معذور، وقد تبين خطؤه بصريح النهي عن معاودة مثل الذي لأجله نزلت السورة، ولذا قال الإمام ألكيا الهراسي: يؤخذ من الآية أن الخوف على المال والولد لا يبيح الفتنة في دين الله، وهو ظاهر، وليس هذا من التقية؛ لأنها في موضوع آخر.(167/14)
أنواع الموالاة للناس
بسط الكلام في موضوع الولاء والبراء المتعلق بهذه الآية ابن الوزير في إيثار الحق على الخلق، في المسألة الثامنة، وبعدما أورد الآيات والأحاديث في هذا قال: هذا كله في الحب الذي هو في القلب والمخالطة لأجل الدين؛ وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم عند أهل السنة.
وأما المخالقة، والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك؛ فيستحب بذله لجميع الخلق.
هو هنا يتكلم على قضية الموالاة لمن تكون فيقول: الموالاة التي هي بمعنى الحب الخالص في القلب والإخلاص الشديد في هذا الحب من أجل التوحد في الدين، ومن أجل وحدة العقيدة، فهذه الموالاة مختصة بالمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم، وأما المخالقة، أي: حسن الخلق، وتبادل المنافع، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك؛ فيستحب بذله لجميع الخلق، أي: أن الإنسان مطالب بحسن الخلق مع كل خلق الله، حتى مع الكافرين، وليس معنى حسن الخلق أنه يحبه بقلبه، بل لابد أن يبغضه بقلبه، لكن حسن الخلق في المعاملة وأداء الحقوق ونحو ذلك.
يقول: وأما المخالقة، والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك؛ فيستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة، فلا يبذل للعدو في حال الحرب كما أشارت إليه الآية.
أي: إذا كان الوضع كحالة الحرب فإنه لا يصلح أن تسلك هذه المسالك؛ لأنها في حالة الحرب تكون بمعنى التذلل للعدو، والمسلم لا يذل، وأما الشخص الذي لا يكون محارباً للمسلمين فإنه يتعامل معه معاملة حسنة، ولو كان كافراً، وأما المحارب الذي يحارب الله ورسوله، ويقاتل المسلمين فهذا لا يستحق هذه المعاملة، فالمعاملة بحسن الخلق ونحوه إنما تكون لمن لا يحاربوننا في الدين.
قال: وإليه أشارت الآية الكريمة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} [الممتحنة:8 - 9].
قال: أما التقية فتجوز للخائف من الظالمين القادرين.
أي: لأنه قد يكون الإنسان ظالماً ولكنه لا يقدر على إنفاذ ظلمه، أما إذا كان ظالماً وقادراً على الأذية فهذا لك أن تتقي منه.
قال: وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء: فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز، وهو المنافعة، وربما عبروا عنه بالمداهنة والمداراة والمخالقة، وما كان من أمر الدين فهو الرياء المحرم.
ومن كلام الإمام يحيى بن المحسن في كتابه (الرسالة المخرسة لأهل المدرسة)، يقول: لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه؛ لأن كثيراً من أهل البيت عُرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك، فتولى الناصر الكثير منهم وصلى بهم الجمعة جعفر الصادق، وصلى الحسن السبط على جنائزهم، وذكر المهدي أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي موالاة الكافر لكفره والعاصي لمعصيته ونحو ذلك.
والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثرة: منها قول الله تعالى في الوالدين المشركين بالله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فأمر الله سبحانه وتعالى ببر الوالدين وإن كانا مشركين، وقال عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فانظر إلى هذين الوالدين: فهما مشركان، ويدعوان ولدهما إلى الإشراك، بل ويجاهدانه في سبيل الإشراك، ويبذلان أقصى ما في وسعهما لأجل فتنته عن دينه وإدخاله في الشرك، ومع ذلك يقول الله تعالى: ((فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا))، وقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] إلى آخر الآية.
وفي الحديث أنها نزلت في قتيلة أم أسماء بعد آيات التحريم، وسوف يأتي ذلك بالتفصيل.(167/15)
إشكال وجواب
فإن قيل: قد دلّ القرآن على أن حاطباً أذنب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)) فكيف يقبل ما ذكره من العذر؟ ف
الجواب
إنما قبل عذره في بقائه على الإيمان، وعدم موالاة المشركين لشركهم، أي: أن هذا الذي حصل ليس لمودة ومحبة وموالاة موجودة في قلبه، ولذلك خاطبه الله بالإيمان فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) والعموم نص في سببه، فاتفق القرآن والحديث، وأما ذنبه فإنه لا يحل، فهو مثل ذنب فعله أحد الجيش بغير إذن أميرهم، قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء:83] إلى آخر الآية؛ ولأن تحريم مثل ذلك بغير إذن الأمير إجماع، ومع إذنه يجوز، فقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الحيل لحفظ المال، فلو كان مثل ذلك موالاة لم يأذن فيه صلى الله عليه وسلم، فدل على أن ذنب حاطب هو الكتم؛ لما فيه من الخيانة، فلو تجرد نفس الفعل من الكتم والخيانة لجاز، والله تعالى أعلم.
ويضاف إلى الكتم والخيانة ما أفادته الآية من التودد بذلك إليهم، والمناصحة لهم، مما يشف عن كون الآتي بذلك متزلزلاً في عقله، مضطرباً في حقه، فيصبح عمله حجة على دينه، ويكون ذلك سبباً لافتتان المشركين المفسدين بصحيح الدين القويم، وهذا هو السر في هذا الأمر الخطير.
أي: لأن المشركين يرون حاطباً وهو يفعل هذا، فيزيدهم ذلك فتنة بما هم عليه من الشرك، ويظنون أنه ترك دينه، أو أنه متشكك في دينه وعقيدته؛ فلذلك يواليهم، فهذا السلوك مما يزيدهم فتنة أو يكون سبباً لفتنتهم وإعجابهم بما هم عليه من الشرك، وذلك يبينه قوله تعالى: ((رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا)).(167/16)
تفسير قوله تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه)
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4].
ثم علم الله تعالى عباده المؤمنين التأسي بإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في البراءة من المشركين ومصارمتهم ومجانبتهم؛ فقال تبارك وتعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4].
قوله تعالى: ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ)) أي: قدوة، ((حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)) يعني: أتباعه الذين آمنوا معه، لكنها نزلت أساساً في حاطب، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول: أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم وقومه، فتبرأت من أهلك كما تبرءوا هم من قومهم؟ وأتباع إبراهيم عليه السلام هم الذين آمنوا به، ولوط عليه السلام أيضاً.
((إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ)) أي: الذين أشركوا بالله وعبدوا الطاغوت، ((إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ)) برآء: جمع بريء، كظريف وظرفاء، ((إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ)) أي: بدينكم ومعبودكم، قال ابن جرير: أي أنكرنا ما أنتم عليه من الكفر بالله، وجحدنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله أن تكون حقاً.
((كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)) فهذه غاية العداوة، فإذا آمنتم بالله وحده تنقلب المعاداة موالاة أي: لا صلح بيننا ولا مودة إلى أن تؤمنوا بالله وحده، أي: توحدوه وتفردوه بالعبادة.
((إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)) هذا استثناء من قوله تعالى: ((أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)) يعني: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم إلا في قوله لأبيه: لأستغفرن لك، فليس لكم في ذلك أسوة؛ لأن ذلك كان من إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه قبل أن يتبين له أنه عدو لله، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
يقول تعالى ذكره: فكذلك أنتم -أيها المؤمنون بالله- تبرءوا من أعداء الله المشركين به، ولا تتخذوا منهم أولياء، وأظهروا لهم العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده.
روي عن مجاهد أنه قال في الآية: نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم فيستغفروا للمشركين، وفي سورة التوبة بيان علة ذلك، وأن إبراهيم ما استغفر لأبيه إلا أنه وعده بذلك، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
فقوله تعالى: ((إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)) يعني: لا تأتسوا به في ذلك.
وهذا فيه دلالة على تفضيل نبينا على سائر الأنبياء؛ لأن الله سبحانه وتعالى حين أمرنا بالاقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم أمرنا به أمراً مطلقاً فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ولم يستثن، وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثنى بعض أفعاله فقال: ((إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)).
وهناك قول آخر في الآية: وهو أن الاستثناء هنا منقطع، فتكون (إلا) بمعنى (لكن)، والمعنى: لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك إنما جرى لأنه ظن أنه أسلم، فلما تبين له أنه لم يسلم تبرأ منه، وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظن، فلِمَ توالونهم؟ فهل وجد حاطب ظن إسلام هؤلاء المشركين؟ ما وجد هذا الظن، فإذاً: لماذا والاهم، وأسر إليهم بهذا الكتاب؟ قوله: ((وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)) أي: وما أدفع عنك من عقوبة الله شيئاً إن أراد عقابك، والجملة من تمام المستثنى، فهذا كله من قول إبراهيم عليه السلام، إلا أنه لا يلزم من استثناء المجموع استثناء عموم أفراده.
أي: فكون الاستثناء يأتي على لفظة: ((لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)) لا يعني الاستثناء أيضاً في قوله: ((وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ))، فلا يلزم من استثناء المجموع استثناء عموم الضمير، ولذلك قال الزمخشري: والقصد إلى موعد الاستغفار له، وما بعده مبني عليه وتابع له، كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار.
انظر كيف فهم الزمخشري قوله تعالى: ((إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)) فكأنه قال: سأستغفر لك، وما في طاقتي إلا الاستغفار، فعبر عن هذا المعنى الأخير بقوله: ((وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)).
قوله: ((رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا)) هذا مما يدل على أن هذا الدعاء من دعاء إبراهيم وأصحابه، وهو من جملة الأسوة الحسنة، وهو متصل بما قبل الاستثناء، يعني لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ((إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ))، و ((رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ))، لكن اعترض السياق للاستثناء.
وقيل: هو أمر منه تعالى للمؤمنين بأن يقولوا ذلك تسليماً لما وصاهم به من قطع الصلات المضرة بينهم وبين المحاربين لهم.
ومعنى (إليك أنبنا) أي: رجعنا بالتوبة مما تكره إلى ما تحب وترضى.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في تتمة أضواء البيان: وقد بين تعالى هذا التأسي المطلوب وذلك بقوله: ((إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) فالتأسي هنا في ثلاثة أمور: أولاً: التبرؤ منهم ومما يعبدون من دون الله.
ثانياً: الكفر بهم.
ثالثاً: إبداء العداوة والبغضاء وإعلانها وإظهارها أبداً إلى الغاية المذكورة، أي: حتى يؤمنوا بالله، وهذه غاية في القطيعة بينهم وبين قومهم، وزيادة عليها إبداء العداوة والبغضاء أبداً، والسبب في ذلك هو الكفر، فإذا آمنوا بالله وحده انتفى كل ذلك بينهم.
وموضع الأسوة إبراهيم والذين معه، بدليل العطف بينهما، فقوله تعالى في إبراهيم والذين معه: ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ)) فقائل القول لقومهم: إبراهيم والذين مع إبراهيم، وهذا محل التأسي بهم فيما قالوه لقومهم، وقوله تعالى: ((إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)) هو هذا القول من إبراهيم ليس من موضع التأسي، وموضع التأسي المطلوب بإبراهيم عليه السلام هو ما قاله مع قومه المتقدم، وهو ما فصله تعالى في موضع آخر في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27] وهذا معنى: لا إله إلا الله، وهو موضع الأسوة، وهذا التبرؤ جعله باقياً في عقبه كما قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28].
قوله: ((إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)) لم يبين هنا سبب هذا الاستثناء، وقد بينه تعالى في موضع آخر في قوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114] تلك الموعدة التي كانت له عليه في بادئ دعوته حينما قال له أبوه: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:46 - 47] فكان قد وعده ووفى بعهده، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، فكان محل التأسي في إبراهيم في هذا التبرؤ من أبيه لما تبين له أنه عدو لله، فإذاً: يكون التأسي بإبراهيم هنا بأن نتبرأ من الكافر ولو كان أقرب الأقربين إذا ظهر منه أنه عدو لله.
وقد جاء ما يدل على أنها قضية عامة وليست خاصة بإبراهيم عليه السلام، فقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].
وفي هذا أقوى دليل على أن دين الإسلام ليس فيه تبعية لأحد، بل كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِم(167/17)
بعض ضلال النصارى
أشير إشارة جزئية إلى ما يعتقده النصارى من أن آدم لما أكل من الشجرة فكان أثر هذه المعصية موروثاً في ذريته، وبنوا عليه أساطير في سبب الصلب، وأنه لتطهير البشرية من ذنب آدم! وهذا ضلال مبين، وعندهم أن أشد الأيام سواداً في حياة الإنسان هو يوم أن يولد، وأنه ملوث بخطيئة آدم بسبب أكله من الشجرة، ولذلك يعملون عملية التعميد؛ ليطهره من خطيئة آدم ويدخله في ملتهم، وعندهم بعض الكنائس لها أوقاف يدفن فيها الموتى، ويمنعون دفن أي ميت لم يتم تعميده.
الشاهد: أن خطيئة آدم عليه السلام قد غفرت له قبل أن يهبط إلى الأرض، كما قال الله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيه} [البقرة:37]، فزعم أن آدم نزل إلى الأرض ملوثاً بالخطيئة غير صحيح، وهذا من خرافاتهم وافترائهم على الله، فآدم عليه السلام طهر تماماً من الخطيئة، وشاء الله أن ينزل إلى الأرض لحكم جليلة وعظيمة، والخطيئة قد عفا الله عنها كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، ولا يوجد ميراث للخطيئة كما يزعم النصارى، حتى أنهم يعتقدون أن الأنبياء كانوا محبوسين في سجن جهنم قبل المسيح عليه السلام، لأنهم كانوا ملوثين بخطيئة آدم عليه السلام! وهذا من ضلالهم الذي اقتبسوه من عقائد الهندوس والوثنيين والفراعنة، أما عندنا في الإسلام فإن الرسول عليه الصلاة والسلام جعل ثواب بعض الأعمال الصالحة أن الإنسان يخرج منها بلا ذنب كيوم ولدته أمه، من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، والمسئولية في الإسلام مسئولية فردية، فكل إنسان يحاسب على عمله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: ومن عجب أن يأتي نظير موقف إبراهيم من أبيه في مواقف مماثلة في أمم متعددة منها: موقف نوح عليه السلام من ابنه لما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45] فلما تبين له أمره تركه أيضاً كما في قوله تعالى: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وفي قراءة: (إنه عَمِل غيرَ صالح).
وقوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ليس المراد بذلك: أنه من غير صلبه معاذ الله، بل المقصود ليس من أهلك المؤمنين، وأما من حيث النسب فهو ابنه من صلبه قطعاً، وكذلك قوله تعالى: {فََخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10] فنُسبت الخيانة إلى امرأة نوح؛ لأنها لم تدخل معه في دين الإسلام ولم تتابعه على الإسلام، فهذه هي الخيانة، ولا يمكن أبداً أن تفجر زوجة نبي، فزوجات الأنبياء محفوظات من الفاحشة، فتجويز مثل هذا طعن في الله سبحانه وتعالى نفسه كما سبق أن بينا في سورة النور، ولذلك أنزل الله في قصة الافتراء ما أنزل، فزوجة نوح كانت كافرة، وزوجة لوط كانت كافرة، فالخيانة التي نسبها الله إليهما إنما هي خيانة في العقيدة وعدم الموافقة على الدين، وليست الخيانة المعروفة، فأبناؤهما من صلبيهما ولا شك في ذلك.
وهذا مما يرينا خطورة قضية الولاء والبراء، فلما لم يتابعه على عقيدته قال الله له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] فلما تبين له الأمر: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود:47]، فكان موقف نوح من ولده كموقف إبراهيم من أبيه.
ومنها: موقف نوح ولوط من أزواجهما كما قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [التحريم:10].
ومنها: موقف زوجة فرعون من فرعون في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فتبرأت الزوجة من زوجها.
فهذا التأسي قد بُيِّن تمام البيان في قول الله سبحانه وتعالى: ((لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، وفي هذه الآية إشارة إلى أن قراباتك يا حاطب! الذين ارتكبت من أجلهم هذه المخالفة لن يغنوا عنك شيئاً يوم القيامة، وإنما ستحاسب على فعلك أنت، فقوله: ((لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ)) أي: ولا آباؤكم ولا أحد من أقربائكم، ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ)).
وقول إبراهيم لأبيه: ((وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)) بينه ما قدمنا من أن الإسلام ليس فيه تبعية كما في قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، وقوله تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19].(167/18)
تفسير قوله تعالى: (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا)
قال تعالى: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:5].
قال مجاهد: قوله تعالى: ((رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: لا تعذبنا بأيديهم؛ لأن الفتنة تطلق على العذاب كقوله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات:14] يعني: عذابكم، فالمعنى: لا تعذبنا على أيدي الكفار، ولا بعذاب من عندك فيفتن الكفار ويقولون: لو كانوا على حق لما أنزل الله بهم العذاب، وكذا قال قتادة: لا تظهرهم علينا فيفتتنوا بذلك، ويرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه.
ومآل هذا الدعاء هو التعوذ من مثل صنع حاطب مما يورث افتتان المشركين بالدين؛ إذ يكون ذلك مدعاة لقولهم: لو كان هؤلاء على حق، وما يزعمون به من الظفر بالحق، لما صانعنا مؤمنهم.
إذاً: ما هم عليه أماني، فانتبهوا لهذا الفرق بين هذه الدعوة وبين غيرها من الدعوات، فهذا الدعاء حينما نفهمه ونفقهه يئول إلى التعوذ من مثل فعل حاطب؛ لأن الذي فعله حاطب قد يكون من عواقبه وآثاره أن يصير سبباً لفتنة الذين كفروا فيقولون: لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه على حق، ولو كان الوعد الذي وعدوه من الغلبة والظفر حقاً؛ لما صانعنا هذا المؤمن ولما داهننا، ولما جاملنا، فيتمسكون بما هم عليه.
ففي الآية معنى كبير، وتأديب عظيم، أي: ربنا لا تجعلنا نهمل من ديننا ما أمرنا به، أو نتساهل فيما عزم علينا منه، حتى لا تنحل بذلك قوتنا، ويتزلزل عمادنا، ويُفتح لعدو الدين الافتتان به؛ لأن المؤمنين إذا ما زالوا متمسكين بآداب الدين، ومحافظين عليها، وقائمين بها حق القيام، فإن النصر قائدهم، والظفر رائدهم، ولذلك أصبح المسلمون في القرون الأخيرة بحالهم السيئ حجة على دينهم أمام عدوهم، ولا مسترد لقوتهم، ولا مستعاد لمجدهم إلا بالرجوع إلى كتابهم، والعمل بآدابه، والمحافظة على أحكامه، ونبذ ما ألصق به مما يحرف كلمه، ويجافي حقيقته.(167/19)
تصرّف المسلمين السيئ وأثره على هذا الدين
إن السلوك السيئ لبعض المسلمين قد يكون فتنة للذين كفروا، فتخيل مثلاً بعض الملوك أو الرؤساء الكفرة حينما يتعاملون مع عيّنة من الناس في حلبة السياسة، ويرونهم يبيعون أوطانهم، ويخونون شعوبهم، ومع ذلك ينتسبون للإسلام، فهل سيرغب هؤلاء في الإسلام؟!! وقد سبق أن تكلمنا في تفسير سورة النحل، عند قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل:94] إلى آخر الآية، أن قوله: ((وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ)) يعني: لا تخادعوا الناس، وتستغلوا اسم الله والحلف به، فتقول: والله العظيم هذا الشيء ما كسبت فيه كذا، ووالله سأكون خاسراً في البيعة الفلانية، أو يعقد عقداً ويغش ويخدع، والرجل يصدقه؛ لأنه حلف، ثم يكتشف بعد ذلك أنه ما انخدع إلا بسبب تصديقه له لما حلف، ويترتب على فعل ذلك أمران خطيران: الأول: أنكم بعد أن كنتم توصفون بالاستقامة سوف توصفون بالفسق والخروج عن طاعة الله: ((فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)) أي: إذا انحرفتم عن الاستقامة وخادعتم الناس بالأيمان الكاذبة فحينئذ ستزل قدم بعد ثبوتها.
الثانية: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} يعني: أن هذا السلوك يترتب عليه فتنة الناس عن الدخول في الدين؛ لأنهم يقولون: لو كان ما هم عليه حقاً لزجرهم عن الغش، ولزجرهم قرآنهم عن الحلف بالله وهم كاذبون.
فإذاً: هذا الأمر ليس أمراً سهلاً، بل فيه عذاب وفيه عقاب، فالسلوك الذي يترتب عليه فتنة الكفار عن الدخول في الدين تشويه لجمال الإسلام، وصد عن سبيل الله، فعلى فاعل ذلك إثم كبير، ووزر عظيم، ولذلك قال تعالى: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فهذا لفت إلى خطورة أن نكون نحن فتنة للكفار بأن ننفرهم من الدين بسبب سوء سلوكنا.
فهناك بلاد عظيمة جداً وتعدُّ أكبر بلاد العالم الإسلامي من حيث عدد السكان وهي إندونيسيا، وهي في شرق آسيا، وكل هذه المناطق دخل الملايين من أهلها في دين الله عز وجل، ولم تفتح بالسيوف ولا بالجهاد، بل فتحت عن طريق تجّار كانوا يخرجون للتجارة، وقد كانوا دعاة يتقمصون زي التجار، فكانوا يخرجون ويتعاملون مع هذه الشعوب معاملة حسنة، فكان أبناء تلك الشعوب ينبهرون جداً بخلق المسلمين، وبأمانة المسلمين، وبتقواهم لله سبحانه وتعالى، فكل هذه البلاد إنما فتحت بالأسوة الحسنة فقط، فلم تُفتح بسيف ولا بجهاد.
وهذا الكلام قاله أناس ليسوا من المسلمين كصاحب كتاب: (دعوة الإسلام) واسمه أرنلد كونجي، وهو بريطاني له باع كبير جداً في معرفة حقائق الدعوة الإسلامية، فكان مما قاله هذه العبارة: إن هؤلاء كانوا دعاة في زي تجار، وهم الذين فتحوا هذه البلاد بالدعوة فقط، ولم يرفعوا السيوف أمامهم قط!(167/20)
تفسير قوله تعالى: (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة)
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة:6] يقول الله تبارك وتعالى وهو يعيد الكلام في ذكر الأسوة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فأسوة هنا: اسم كان، وهذا التأنيث جائز، بدليل أنه جاء في الآية التي قبلها: ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)) فكانت للتأنيث، أما هنا فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فهذا يدل على أن التأنيث جائز.
((لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ)) وإعراب (لِمَن) بدل من قوله تعالى: (لَكُمْ).
وهذا الأمر بالتأسي بإبراهيم وأصحابه لمزيد الحث على التبرؤ من المشركين، فإن محبة المفسدين فيها تخريب لمباني الحق، وتوهين لقوى أهله، وتشكيك لضعفاء القلوب، مما يفسد عمل المصلحين، ويزلزل مساعيهم، ويفتن أعداءهم بهم، لذلك كان البغض في الله من شعب الإيمان، فإن الحق لا يقوى إلا باعتصام أهله على كلمته، ورمي أعدائه عن قوس واحدة، وفي إبدال: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} من (لكم) دلالة على أنه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسي بهم، وأنّ ترْكه مؤذن بسوء العاقبة.
إذاً: فمعنى ما سبق: أن من تورط وتلطخ بموالاة الكفار فإنه ليس ممن يؤمن بالله واليوم الآخر، فإن الذي يرجو الله واليوم الآخر ويؤمن بذلك، ويخاف الحساب، ويذكر الله، ويستقيم على دينه؛ يلزمه أن يبغض أعداء الله، ويتبرأ من الكفار، فإذا وقع ذلك من شخص فإنه يشير إلى سوء عقيدته، ومعنى ذلك أنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.
ولذلك عقبه الله بقوله تبارك وتعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة:6] أي: من يتول عما أمر به، ويوالي أعداء الله عز وجل، ويلقي إليهم بالمودة، فإنه لا يضر إلا نفسه، والله عز وجل غني عن إيمانه به وطاعته، وهو المحمود على كل حال.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} التولي هنا الإعراض عن أوامر الله عموماً، ويحتمل أنه تولي الكفار وموالاتهم.
وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
قال ابن عباس: غني: كمل في غناه، ومثله قوله تعالى: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن:6]، وقد جاء بيان استغناء الله عن طاعة الطائعين عموماً وخصوصاً: فجاء في خصوص الحج قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، فالله لا ينتفع بعبادة الناس، ولا يحتاج إليها.
وجاء في العموم قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:8] لأن أعمال العباد لأنفسهم والله لا ينتفع بها شيئاً كما قال عز وجل: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6]، وكما جاء أيضاً في الحديث القدسي الصحيح: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً).
وقال تعالى مبيناً غناه المطلق: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان:26].(167/21)
تفسير قوله تعالى: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة)
يقول الله تبارك وتعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:7].
هذا وعد من الله سبحانه وتعالى؛ لأن (عسى) في القرآن واجبة، وهي للترجي، وهي من الله واجبة الرجاء، فهذا وعد من الله، وقد أنجزه بأن أسلم كثير منهم بعد وصاروا لهم أولياء وأحزاباً، والآية من معجزات القرآن، لما فيها من الإخبار عن مغيب وقع مصداقه.
((وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) غفور لهمرحيم بهم بعدما أسلموا، فإن الإسلام يجب ما قبله.
وقيل في تفسير ذلك: إن الضمير يعود إلى كفار مكة.
وقيل: المودة هي تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فإنه لما تزوج الرسول عليه الصلاة والسلام أم حبيبة بنت أبي سفيان لانت عريكة أبي سفيان يعني: طبيعته ونخوته، واسترخت سكينته في العداوة حتى دخل هو نفسه في الإسلام.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: لم يبين هنا هل جعل المودة بالفعل بينهم وبين من عادوهم وأمروا بمقاطعتهم وعدم موالاتهم من ذوي أرحامهم أم لا؟ ولكن (عسى) من الله للتأكيد، يعني: أن (عسى) فيها فتح باب الرجاء والتأليف بأن يهدي الله منهم من يشاء، وهذه كأنها مكافأة من الله سبحانه وتعالى، أي: إن أنتم صارمتم وقطعتم وتبرأتم من هؤلاء مع كونهم من ذوي قرابتكم، فإن الله يكافئكم على ذلك أن يجعل بينكم وبينهم مودة.
وقوله: ((وَاللَّهُ قَدِيرٌ)) تشعر بأن الله فاعل ذلك، وأن هذا الوعد سوف يتحقق، وقد جاء ما يدل على أنه فَعله كما في سورة النصر حين قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2]، وقد فتح الله عليهم مكة وكانوا خلفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أسلم أبو سفيان وغيره، وجاء الوفود في عام الوفود إلى المدينة بعد الفتح.
وقوله تعالى: ((وَاللَّهُ قَدِيرٌ)) يشعر بأن تأليف القلوب ومودتها إنما هو من قدرة الله تعالى وحده كما قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63]، ولأن المودة المتوقعة بسبب هداية الكفار لن تحصل حتى يؤمنوا بالله وحده، فلذلك يفهم من قوله تعالى: ((عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً)) أن منهم من سيدخل في الإسلام، فيترتب عليه أن تكون بينكم وبينهم مودة بعد العداوة؛ لأن هذه العداوة نشأت أساساً بسبب الكفر، فلا يزيلها إلا أن يؤمنوا بالله وحده، فلذلك يفسر هنا قوله: ((عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً)) بدخولهم في دين الإسلام؛ لأن الهداية منحة من الله كما قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].(167/22)
تفسير سورة الممتحنة [8 - 11](168/1)
تفسير قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين فأولئك هم الظالمون)
{لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9].
قال بعض العلماء في تفسير: (المقسطين) هنا: إنه مأخوذ من القسط وهو العدل، أي: إن الله يحب أن يحكم بين الناس بالعدل، إلا أن الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى فسرها بمعنى آخر، فقال: أن تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة خاصة، إذ تضمن ذلك سبب نزول هذه الآيات، وهو مجيء قتيلة أُم أسماء راغبة في صلتها.
فالله سبحانه وتعالى يقول: ((لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ)) عن الكفار، ((الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)) مع أن هناك كفاراً هم من أعداء الله، لكن الكفار نوعان: كافر منشغل بحاله، ويمكن أن يحصل نوع من حسن الخلق معه كما بينا، وكافر يحارب الله والرسول والإسلام، ويقاتل المسلمين، فهذا محارب لا يدخل في هذا القسم، إنما تتناول هذه الآية الكافر الذي تنتفي عنه صفة العداوة، فيجوز الإحسان إليه والبر والصلة، فقوله تعالى: ((أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)) أي: تعطوهم قسطاً أي: نصيباً من أموالكم على وجه صلة الرحم، أو الإحسان، وليس المقصود بها أن تعدلوا، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل، فلا يختص بأناس دون أناس، كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] فيجب العدل حتى مع الكافر.
وهناك مواقف كثيرة جداً في التاريخ الإسلامي تبيِّن عدل المسلمين، فما ملكت أمة قط وحققت العدل كما حققه المسلمون، فالعدل واجب فيمن قاتل، وواجب أيضاً فيمن لم يقاتل، لذلك جاء في تفسير قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190] أي: ولا تظلموا.
وقد دخل ذمي على إسماعيل بن إسحاق القاضي فأكرمه، فأخذ عليه الحاضرون ذلك، فتلا عليهم هذه الآية: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] أي: أن هذا ذمي وليس محارباً، ثم بين الله من الذين ينهانا عن فعل ذلك معهم فقال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9].
فهذا ترخيص من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين، ولم يقاتلوهم، فهو في المعنى تخصيص لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أوْلِيَاء} [الممتحنة:1] فقوله هنا: ((لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ)) أي: من أهل مكة ((وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)) وذلك بالبر والإحسان إليهم.
فهذا القدر من الموالاة -إن سميناه موالاة- من الإحسان إليهم، والصلة بالمال أو بنحو ذلك، وحسن الخلق، هذا لا حرج فيه، بل مأمور به في حقهم، والخطاب وإن كان في مشركي مكة إلا أن العبرة بعموم لفظه، وقد حاول بعض المفسرين تخصيصه، فرد ذلك الإمام ابن جرير بقوله: والصواب قول من قال: عنى بقوله تعالى: ((لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ)) من جميع أصناف الملل والأديان أياً كان، أن تبروهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، فإن الله عز وجل عمَّ بقوله: ((الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)) وهذه صيغة عموم عمَّ بذلك جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضاً دون بعض.
ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ -أي: أن بعض الناس قالوا: إن هذه الآية نسخت بآية السيف- لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب، غير محرم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له أو لأهل الحرب على عورات لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح.
ومما يوضح المعنى الذي نقصده أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: (قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدت -تعني: في فترة صلح الحديبية- فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمك) ويفهم من بعض الروايات أن قولها: (أفأصلها؟) تعني: هل أعطيها مالاً وغيره، ويحتمل أن المعنى: أصلها بقبول ما جاءت به معها من هدايا.
وهذا الحديث رواه أحمد والشيخان، وفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم، صلي أمك).
وعن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة -وهي: بنت عبد العزى - على ابنتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بهدايا: ضباب وأقط وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها، وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها.
وقال الرازي: قوله تعالى: ((أَنْ تَبَرُّوهُمْ)) بدل من: (الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ)، وكذلك قوله: ((أَنْ تَوَلَّوْهُمْ)) بدل من قوله: (الذين قاتلوكم)، والمعنى: لا ينهاكم عن برّ هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وهناك فرق بين البر وبين التولي والموالاة، فالموالاة للكافر لا تحل بحال من الأحوال، كما قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28]، وقوله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51] إلى آخر الآيات.
فالموالاة التي هي بمعنى المحبة القلبية لا تكون على الإطلاق بين مسلم وكافر، فيقول: والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وهذا رحمة لهم لشدتهم في العداوة.
وهذه الآية تدل على جواز البر بين المسلمين والمشركين الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وإن كانت الموالاة منقطعة، لكن البر والإحسان جائز.(168/2)
أهمية الولاء والبراء في هذا الدين
وقبل أن نختم الكلام على أن أي خلل في قضية الولاء والبراء، يؤدي إلى فتنة في الأرض كما قال الله سبحانه وتعالى فيه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] فنجد الآن أن كل من صوب سهامه تجاه المسلمين فإنهم يصبونها في قضية الولاء والبراء خصوصاً، فتجد التشويش لجودة الدين ولبِّه، فإن من أعظم حقوق لا إله إلا الله موالاة من والى الله، ومعاداة من عادى الله، ففي الإسلام عبادات قلبية وقولية ومالية وبدنية، ومن أعظم العبادات القلبية عبادة الحب والبغض.
فالحب عبادة، والبغض عبادة، فحب الله ورسوله والمؤمنين عبادة كما قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]، والبغض عبادة كما قال صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله)، فمن عادى الله، وعادى الرسول، وعادى الإسلام فلابد أن تعاديه، وأن تبغضه من قلبك.
وأما الكلام في السموم التي تنفث في كل مكان: في مناهج التعليم، وفي الإعلام ليل نهار، فهي محاولة لكسر هذا الحاجز، وقد فُتح على الناس باب فتنة، وشر كبير، والمشكلة أن بعض الناس لا يسمي الأشياء بمسمياتها، فهناك تلاعب كبير في المصطلحات، ومن أخطر هذه المصطلحات الذي تروج لهذه الأفكار مصطلح التعصب، وأن هذا من التعصب، فإذا وجدت رجلاً يدعو بالرحمة لكافر مثلاً فقلت له: لا تدع لكافر، فإنهم يقولون لك: لا داعي للتعصب، الإسلام دين التسامح! أقول: لا، لن يجد في الإسلام دليلاً واحداً على ذلك لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من سيرة السلف، ولا حتى الخلف إلا خلفنا الذين نعيش بينهم الآن، فلن يجد أبداً تسامحاً بمعنى أنه يصف الكافر بأنه مسلم، أو بتعبير أدق أن يجعل الكفر سواسية مع الإيمان، فهذا لا يحصل أبداً، وهذا تحريف للدين، فعدم التمييز بين الأمرين يأتي بكثير من الخلط بين الأوراق وبين الأمور، فهناك فرق بين التعصب والتسامح.(168/3)
الفرق بين التعصب والتسامح
فالتعصب والتسامح له مجال معين، فليس من مجال التعصب والتسامح مجال العقيدة، أو المفاهيم التي تستقر في قلب الإنسان، فهذه الأمور لا يوجد فيها تعصب ولا تسامح، حتى عند الكفار فإنهم يسمونها حرية الاعتقاد، فكل واحد حر يعتقد بقلبه ما شاء عندهم، لكن التعصب والتسامح له منطقة معينة وهي: منطقة المعاملة، فتكون متعصباً إذا ظلمت أحداً، أو بخسته حقه، أو آذيته بدون وجه حق.
أما إذا اعتقدت بقلبي أن أحداً من الناس كافر بالله ورسوله، وأنه مكذب فأبغضته لذلك، فهذا ليس من التعصب في الدين، بل هذا من واجبات الدين وأركانه الركينة، فإن محبة الكافر وموالاته، واعتقاد أنه متساوٍ مع المسلم خروج من الملة كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد:24].
إن بعض الناس يخلطون بين لفظة التعصب ولفظة التسامح خلطاً معيباً يؤدي إلى خلل في دينهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فإذا سمعك أحدهم وأنت تقول: لا يجوز الترحم على اليهودي أو النصراني مثلاً؛ لأنه لا يدخل الجنة، اعتبر هذا تشدداً وتعصباً، وتشدق بأن رحمة الله واسعة، وعد نفسه متمسكاً بسماحة الإسلام، وأنه أولى بالإسلام منك، فالإسلام دين السماحة، وأنت متشدد متعصب متطرف؛ لأنك تصف الكفار بأنه كافر! فنقول له: إن التعصب والتسامح لا يكونان إلا في المعاملة فقط، فالتعصب أن تعامل الذمي مثلاً -يهودياً كان أو نصرانياً- فتظلمه أو تبخسه حقه، فالشرع يأبى ذلك ولا يرضاه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من ظلم معاهداً، أو كلفه ما هو فوق طاقته، فأنا خصيمه يوم القيامة)؛ ولأن هؤلاء لهم عهد الله وعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهم هذه الحقوق، فالمتعصب هو الذي يبخسهم حقهم أو يظلمهم، والتسامح هو أن تعامل الكافر بعدل بشرط ألا يكون محارباً.(168/4)
أحوال اليهود وأذنابهم في حرب الإسلام والمسلمين
من غير المعقول أن آتي إلى الإخوة الفلسطينيين وأقول لهم: لابد من التسامح وحسن الجوار، مع أناس فعلوا بالمسلمين الأفاعيل، فاليهود المحاربون لله ولرسوله وللمؤمنين، يفتعلون الحرب، ومع ذلك هي حرب ليس فيها أدنى قدر من التكافؤ، حرب بين مدنيين عزّل وبين جيش مزود بالطيارات والدبابات والقذائف.
فهؤلاء اليهود الجبناء الأنذال يفعلون ذلك مع أناس لا يملكون إلا الحجارة، ومع ذلك يفعلون بهم ما يفعلون، ولذلك تجد ما يسمونه بالمجتمع الدولي وعلى رأسهم الفتوة العالمي أمريكا الظالمة الباغية، يتلاعبون بالألفاظ، فبدلاً من أن يقولوا: نريد وقف إطلاق النار من قبل اليهود، فإنهم يقولون: نريد وقف إطلاق النار! فهلا استحوا على أنفسهم؟ فإنه أمر مخجل عندما يقولون: وقف إطلاق النار، أيّ نار يعنون؟! فليس هناك إلا شباب وأطفال مساكين لا يملكون إلا الحجارة، فهم لما أحسوا أن كلمة وقف إطلاق النار لا تركب، وأن النار لا تطلق إلا من طرف واحد فقط، أتوا بكلمة جديدة، وهي من ألاعيب السياسة، فقالوا: وقف أعمال العنف! فينبغي أن ننتبه لمثل هذه المصطلحات، فيقولون لك: وقف أعمال العنف.
والحقيقة هي أن الموضوع أخطر مما نتصور، فاليهود يتدرجون في سبيل هدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل على أنقاضه، فهذه هي القضية، وقد أعطت السلطات اليهودية تصريحاً لجماعة بناء الهيكل بوضع حجر الأساس لهيكل سليمان بجوار قبة الصخرة، لكن فيما يبدو أن المظاهرات التي حصلت في نفس اليوم صوروها لنا على أنّها إما مؤيدة أو معارضة لشرم الشيخ، وهي ليست من أجل موضوع شرم الشيخ في الحقيقة، بل كانت من أجل موضوع الهيكل، لكن لو أنهم أذاعوا هذا الكلام فإن العالم الإسلامي سيثور من جديد، فأرادوا تهدئته، فسحبوا الترخيص بوضع حجر الأساس للهيكل إلى حين؛ لأن هذا هو المعهود من مكر اليهود وخداعهم أنهم يؤجلوا القضية شيئاً فشيئاً.
وسوف يجتمع المحامون عن قضية فلسطين في قمة، فنرجو منهم ألا يخيبوا أملنا، فقد كشفت لنا الحقائق وكشف لنا التاريخ فيما مضى أن هؤلاء الحكام هم أفشل محامين في أعدل قضية على الإطلاق، فنرجو ألا يخيبوا أمل المسلمين، وأن يعلنوا توبتهم ورجوعهم إلى تطبيق شرع الله، وإلى معاهدة سلام مع الإسلام، ونقول لهم: ساوونا باليهود على الأقل، واعملوا معاهدة سلام مع الإسلام، وكفوا عما فعلتموه من الصد عن سبيل الله، وتشويه الدين، وقولكم إن هذا الدين هو دين تطرف، إلى آخر هذا الكلام، ونقول: كفوا عن حرب الإسلام، وسووا بين المستقيمين وبين الفنانين والفسقة والرياضيين، فكل الناس قد تركت لهم الحرية، فسوونا بهم فقط، وارفعوا عنا الظلم الذي نعانيه ليل نهار، والمحاولات الدءوبة لإطفاء نور الله عز وجل، وإطفاء نور الإسلام في بلاد المسلمين.
والحديث في هذا الأمر ذو شجون، لكن إن لم يعودوا إلى موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين وبقوا في أحضان الكفار، واستمروا في حربهم للإسلام؛ تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
وأما بالنسبة لهؤلاء الأشاوس فإن آخر شيء كنت قرأته: أن مجموعة من المثقفين يسمونهم: (مثقفين يهود) تكلموا في الإذاعة الإسرائيلية فيما يبدو عن الاستغراب الشديد الذي عمهم حينما حصل رد الفعل الغريب من هذه الأمة الإسلامية، فقد ظنوا أنها قد خمدت أنفاسها إلى الأبد، فقال بعضهم -وهو الشاعر اليهودي باراك - يفتخر بأنه يحفظ أشعاراً له كثيرة، فقال: أنا آسف، ليس في كل من حكموا إسرائيل من يفهم العرب أكثر من بنيامين نتنياهو، فقالوا له: لماذا؟ قال: لأنه هو الوحيد الذي أصر على أن العرب لا يصلح معهم سلام على الإطلاق، فقالوا: لماذا؟ قال: قال نتنياهو: إن السلام الذي نصنعه هو مع الحكومات وليس مع الشعوب، لأن هؤلاء الحكام يحكمون شعوبهم بالحديد والنار، فمتى ما تخلصوا من هؤلاء الحكام ستعود إلينا العداوة من جديد، وتنكشف الحقيقة، فالسلام ليس مع الشعوب! وهذا الكلام موافق للواقع إلى حد كبير؛ فانظر إلى هذا اليهودي الخبيث كيف تفطن للأمر! ولذلك قال بعضهم في نفس البرنامج وهو يعبر عن الصدمة والذهول: حتى المغرب التي كنا نظن أنها في جيبنا تخرج فيها مسيرة مليونية! أي: مظاهرة من مليون شخص تنادي بمحاربة اليهود لعنهم الله، فهم كانوا يؤملون أملاً كبيراً أن المغرب قد هدأت، لأن أقوى موضع في العالم الإسلامي لليهود هو في المغرب، فلهم هناك وضع متميز جداً، فوزير السياحة هناك يهودي، ومع ذلك ذهل اليهود من ردّ الفعل في المسلمين.
فالحاصل أن المجتمعين في القمة هداهم الله وأجرى على أيديهم كل خير، على الأقل ينبغي أن يصطلحوا فيما بينهم ويكفوا عن محاربة الدعوة الإسلامية، فإن بعض البلاد تحارب الإسلام حرباً لا يقدر اليهود أنفسهم على القيام بها، فلعلهم يتوبون ويرجعون إلى الله سبحانه وتعالى، ويثوبون إلى رشدهم، ويكفوا عن حرب الإسلام.
وهذا هو المفتاح الصحيح؛ لأن القضية قضية عقيدة شئنا أم أبينا، وهذه الحرب دينية بين الإسلام وبين الكفر، ولن تتغير طبيعتها، ولن يقوى أحد على الإطلاق أن يغير طبيعتها مهما فعل، فإن أردنا الطريق الصحيح فهو أن نعود إلى ديننا.(168/5)
أثر مقاطعة المسلمين لمنتجات من حارب الإسلام والمسلمين
نعود إلى ما تبقى من الكلام عن الفرق بين التعصب والتسامح، وقد ذكرنا أن التسامح هو أن تعامل الكافر بالعدل والإنصاف، وتعاشره بالمجاملة والألطاف، وأن تحسن جيرته إن كان جاراً لك، وأن تصله إن كان من قرابتك، غير أنك لا تعطيه من زكاة مالك، ولا من زكاة فطرك؛ لأنهما خاصتان بفقراء المسلمين، ولا بأس أيضاً بجريان بعض المعاملات الدنيوية بينك وبينه كالقرض أو نحوه مما لا تعلق له بالدين، وشرط هذا كله ألا يكون محارباً.
فلو كانت هناك شركات اقتصادية يهودية أو أمريكية مثلاً ممن يحاربون الإسلام والمسلمين، ويؤيدون اليهود، فيمكن مقاطعتها إضعافاً لاقتصادها، فيستطيع كل مسلم أن يستغني عن البيبسي والكوكاكولا وغيرها من الأشياء التابعة للأمريكان.
وقد أعلنت بعض الشركات إعلاناً تصرخ فيه من مقاطعة المسلمين لمنتجاتها، وذلك في جريدة (الأهرام)؛ تقول فيه: إن أكثر من 1500 عامل فقدوا عملهم بسبب المقاطعة.
وهذا التصرف كان فردياً، لكنه أثر عليهم لدرجة أن شركة أمريكية عملت إعلاناً تقول فيه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] ويسردون الآيات، ويقولون بأنهم تبرعوا بـ (10%) تقريباً لإخواننا الفلسطينيين في فلسطين من ضحايا هذه المجازر، والسبب أن المسلمين حصل منهم مقاطعة أثرت على اقتصادهم، فإذا كان مجرد الإعراض عن هذا الاقتصاد له هذا الأثر الكبير، فكيف لو أن الجماعة الأشاوس أصحاب البترول قطعوا عنهم البترول؟! أليس كل مرة يقولون: سنقاتل حتى آخر جندي مصري، فليأتوا هذه المرة وليعملوا كما عمل الملك فيصل يرحمه الله، فالملك فيصل في حرب رمضان قال للأمريكان: لا يوجد بترول، فركع الغرب أمامه، وقال لهم: سنرجع مرة أخرى إلى حياة البدو، ولا توجد أي مشكلة في أن نعيش في الصحراء والخيام، ونرجع للفقر، وأبى رحمه الله، فهلا يأتسون به؟ فهم يملكون أسلحة في غاية القوة، فنرجو أن يهديهم الله.
فكما قلنا: لا بأس بجريان بعض المعاملات الدنيوية مع الكافر من قرض أو رهن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي على صاع من شعير، فكل ما لا تعلق له بالدين فلا بأس من التعامل مع الكافر فيه بشرط ألا يكون محارباً.
ومع حسن المعاملة والبر والإحسان للكافر، فيجب عليك أن تعتقد اعتقاداً جازماً لا تردد فيه أنه على باطل، وأنه إن مات كافراً فلا يجوز الترحم عليه، ولا الدعاء له بالمغفرة، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} [الفرقان:23] أي: في الخير من بر أو صلة رحم ونحو ذلك: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] فلا ثواب له في الآخرة.
إذاً: لا يوجد من الكفار ولي أو قدّيس كما يقولون؛ لأن الولاية أو القداسة هي في العمل الصالح المقبول، وأعمال هؤلاء غير مقبولة، بل مردودة؛ لأن دينهم مخالف للإسلام، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار).
فمن جوز وجود ولي منهم، أو تبرك بأحد قديسيهم فقد تخلى عن عقيدته ودينه، إذ التساهل في شيء من العقيدة لا يكون تسامحاً كما يظن المخلِّطون الواهمون، لكنه تنازل عن العقيدة يلزم منه الخروج من الدين؛ لأن الدين مبني على العقيدة، فإذا فُقدت العقيدة فقد الدين، فينبغي عدم إقرار الكافر على كفره، وعدم الرضا به، وبغضه لبغض الله تعالى له، وعدم موالاته ومودته {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28] وعدم التشبه به، وعدم إنكاحه المؤمنة، وعدم بداءته بالسلام، وأن يضطر إلى أضيق الطريق، فهذا كله من الدين وليس من التعصب في شيء، والتفريط فيه ليس تسامحاً، ولكنه تنازل عن حدود الله عز وجل! فالعبارات التي نسمعها والناس يرددونها حتى لا يكاد يشك فيها أحد كقولهم: إن الإسلام يحترم الأديان! عبارت باطلة، فكيف يحترم الإسلام الأديان التي جاء لهدمها والقضاء عليها؟! فعجيب أن يسمى هذا تسامحاً، إن التسامح لا يكون إلا في منطقة التعامل فقط.
حدثني أحد الإخوة بالأمس أنه رأى أحد الدعاة ظهر في قناة تلفزيونية، وهو داعية مشهور جداً من خارج مصر، فظهر يتناقش مع المذيعة، وهي متبرجة، فتناقشه وهو آخذ موقف الدفاع، ويحامي عن الإسلام في قفص الاتهام، والمذيعة تقول له: أنتم تقولون عنا إننا كفار؟ وتقولون عن النصارى إنهم كفار؟ فرد عليها رداً متميعاً جداً من ذلك الكلام الذي تعودنا أن نسمعه، ولو أنه رد عليها وقال لها: نعم، نحن نعتقد أنكم كفار، لكن لا نبخسكم حقوقكم التي أعطاكم إياها الشارع الشريف، وأنتم الذين تقولون علينا كفار، لاعتقادكم أنني إذا لم أؤمن بالمخلص فأنا كافر، وهكذا في كل ملة من الملل، واليهود ألا يقولون: إننا لسنا على شيء، ومعلوم أن عقيدتهم باطلة؛ لكن أقول: لسنا نحن فقط الذين يعتقدون هذا.
فمن لازم إسلامي وإيماني أن كل ما خالف الإسلام من الأديان فهو دين باطل، فليس من التسامح تمييع الدين بهذه الطريقة، ولا علاقة لذلك على الإطلاق بالتسامح، بدليل أن هذا الذي يقول: إن الإسلام يحترم الأديان، فإن أصغر طفل يأتي له بآيات من القرآن تفحمه وتسكته، وتبين أنه ينافق، ويداهن، ويزور، فعندما يقال له: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، ويقال له: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، ويقال له: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] ماذا سيقول إزاء هذه الآيات؟ هل سيقول: نسخت؟ وبماذا نسخت؟ فأي إنسان مزور ومداهن يفتضح في النهاية، فالعقيدة لا تنازل عنها، والتمسك بالعقيدة ليس تعصباً، إنما يكون التعصب في المعاملة بإضاعة الحقوق ونحو ذلك.(168/6)
بعض صور معاملة الإسلام الحسنة للمشركين وأهل الذمة
وقد ذكر الشيخ عطية سالم بعض صور المعاملة الحسنة لأهل الذمة، فقال: وقصة الظعينة صاحبة المزادتين في صحيح البخاري، فلم يقتلوها، أو يأسروها، أو يستبيحوا ماءها، بل استاقوها بمائها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ من مزادتيها قليلاً، ودعا فيه، وردَّه، ثم استقوا فقال لها: (اعلمي أن الله هو الذي سقانا، ولم ننقص من مزادتك شيئاً) وأكرموها وأحسنوا إليها، وجمعوا لها طعاماً، وأرسلوها في سبيلها، فكانت تذكر ذلك، وتدعو قومها للإسلام، وقد كانت مشركة.
وقصة ثمامة لما جيئ به أسيراً ورُبط في سارية المسجد، وبعد أن أصبح عاجزاً عن القتال لم يمنعهم ذلك من الإحسان إليه، فكان يراح عليه كل يوم بحليب سبع نياق، حتى فُكّ أسره، فأسلم طواعيه.
وهكذا قول الله تبارك وتعالى أيضاً: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] * {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9] فلا يتصور أن يكون هناك أسير بين يدي المسلمين وهو مسلم، فإن الأسير لا يكون إلا كافراً، فالمقصود بهذه الآية الأسير الكافر قطعاً.
وقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:8] يعني: يؤثرون على أنفسهم {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]، فهذه الآية تدل على جواز الإحسان بالإطعام ونحو ذلك كما ذكرنا.
وفي سنة تسع -وهي سنة الوفود- كان يقدم إلى المدينة المسلمون وغير المسلمين فيتلقون بالبر والإحسان، كوفد نجران وغيرهم، وهاهو ذا وفد تميم جاء يفاخر ويفاوض في أسارى له، فيأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم ويستمع مفاخرتهم، ويأمر من يرد عليهم من المسلمين، وفي النهاية يسلمون، ويجيزهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالجوائز، فهذا الوفد أتى متحدياً مفاخراً بالشعر، ومع ذلك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أحد الصحابة أن يرد عليهم بنفس طريقتهم؛ وذلك بالشعر، وجاءوا بأمر جارٍ في عرف العرب، فجاراهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلن لهم أنه بُعث ما بالمفاخرة، ولكن ترفق بهم إحساناً إليهم، وتأليفاً لقلوبهم، وقد كان، فأسلموا.
يقول الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] من كانوا كذلك من جميع أصناف الملل والأديان، أن تبروهم، وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، فعم بقوله: ((الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)) جميع من كان ذلك صفته، فلم يخص به بعضاً دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ؛ لأن بر المؤمنين لأهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم، ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)).
قال الشافعي رحمه الله تعالى: وكانت الصلة بالمال والبر والإقساط ولين الكلام والمراسلة بحكم الله غير ما نهوا عنه من الولاية لمن نهوا عن ولايته مع المظاهرة على المسلمين؛ وذلك لأنه أباح بر من لم يظاهر عليهم من المشركين، والإقساط إليهم إلى آخر كلامه.
ثم يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: فهذا هو الذي يقتضيه روح التشريع الإسلامي، ويقول معبراً عن وجهة نظره: إن المسلمين اليوم مختلطة مصالحهم بعضهم ببعض، ومرتبطة بمجموع دول العالم من المشركين وأهل الكتاب، ولا يمكن لأمة اليوم أن تعيش منعزلة عن المجموعة الدولية في تداخل المصالح وتشابكها، ولاسيما في المجال الاقتصادي عصب في الحياة اليوم: من إنتاج، أو تصنيع، أو تسويق، فعلى هذا تكون الآية مساعدة على جواز التعامل مع أولئك المسالمين، ومبادلتهم مصلحة بمصلحة على أساس ما قاله ابن جرير، وبينه الشافعي، وبينه الشيخ أيضاً -يعني: الشيخ الشنقيطي رحمه الله- في حقيقة موقف المسلمين اليوم من الحضارة الغربية، وبشرط سلامة الباطن، بمعنى: أن القلب لا يميل إليهم بمحبة ومودة، وإنما هذه في المعاملة الظاهرة فقط، ومع عدم وجود تلك المصلحة عند المسلمين أنفسهم، فالمسلمون أولى بالتكافل فيما بينهم.
يقول: ومما يؤكد ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، ومع ذلك لا توجد موالاة قلبية في كل الأحوال، ولكن لما أخرجهم النبي عليه السلام من المدينة، وحاصرهم بعد ذلك في خيبر، ففتح الله عليه خيبر، وأصبحوا في قبضة يده، فلم يكونوا بعد ذلك في موقف المقاتلين، ولا المظاهرين على إخراج المسلمين من ديارهم، فحينئذ عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسط، فعاملهم على أرض خيبر ونخيلها، وأبقاهم فيها على جزء من الثمرة كأُجراء يعملون لحسابه وحساب المسلمين، فلم يتخذهم عبيداً يسخرهم فيها، وبقيت معاملتهم بالقسط مع أنهم يحرم موالاتهم.
والآية نصت في النهي: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51] لكن في المعاملة ماداموا غير محاربين، ولا يخرجون المسلمين من ديارهم، ولا يظاهرون عليهم فلا حرج، كما جاء في قصة ابن رواحة رضي الله عنه لما ذهب يخرص عليهم النخيل بخيبر: وعرضوا عليه ما عرضوا من الرشوة؛ ليخفف عنهم، فقال لهم كلمته المشهورة: والله لأنتم أبغض الخلق إلي، وقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي عليه الصلاة والسلام، ولن يحملني بغضي لكم ولا حبي له أن أحيف عليكم -أي: أظلمكم- فإما أن تأخذوا بنصف ما قدرت، وإما تكفوا أيديكم ولكم نصف ما قدرت، فقالوا له: بهذا قامت السماوات والأرض! أي: بالعدل والقسط، وقد بقوا على ذلك نهاية زمنه عليه الصلاة والسلام، وخلافة الصديق، وصدراً من خلافة عمر حتى أجلاهم رضي الله تعالى عنه عنها، وكذلك المؤلفة قلوبهم أعطاهم النبي عليه السلام بعد الفتح، وأعطاهم الصديق، ثم منعهم عمر رضي الله تعالى عنه.
إن أشد ما يظهر وضوحاً في هذا المقام هو قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فهذه حسن معاملة وبر وإحسان لمن جاهد المسلم على أن يشرك بالله ولم يقاتل المسلمين، فكان حق الأبوة مقدماً ولو مع الكفر والمجاهدة على الشرك.
وكذلك جاء في نهاية هذه السورة: ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ))، فتأمل قول الله تعالى بعد ذلك: ((وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا)) أي: آتوا المشركين ما أنفقوا، بيان ذلك: أن المؤمنات المهاجرات كن متزوجات بأزواج مشركين، وهؤلاء المشركون عندما تزوجوا بهن دفعوا لهن مهراً، فأسلم النسوة وهاجرن، فالله سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين أن ادفعوا للمشركين الذين هم أزواج المؤمنات المهاجرات ما أنفقوا على أزواجهم، لأنها بعد أن أسلمت وهاجرت، انحلت العصمة بينها وبين زوجها الكافر، وفاتت عليه ولم يقدر عليها، فيأمر الله المسلمين أن يؤتوا أزواجهن -وهم مشركون- ما أنفقوا من صداق عند الزواج، لعجزهم عن استرجاع الزوجات، وعدم جواز إرجاعهن إليهم.
فجاء الأمر بالمعاملة بالقسط، مع أن هؤلاء الكفار لم يقهروا المسلمين على ذلك.
فهذه كلها نماذج تؤكد هذا المعنى الذي نذكره وهو أن التسامح والتعصب دائرته هي المعاملة فقط، وأما العقيدة فلا لا نسمي الكلام فيها تسامحاً؛ لأنه خروج من الملة، ومصادمة لأحكام القرآن.(168/7)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة:10].
فيما تقدم من الآيات بيّن الله تبارك وتعالى وجوب ترك موالاة المشركين، وبما أنه يجب ترك موالاة المشركين فإن ذلك يقتضي الانفصال عن المشركين، والهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد الإسلام، وهذه الهجرة يترتب عليها فراق المؤمنات المتزوجات بالكافرين أزواجهن الكافرين، وأن يهاجرن إلى ديار الإسلام، فيقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ)).
فالخطاب هنا للمؤمنين، والمقصود به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
((مُهَاجِرَاتٍ)) أي: من مكة إلى المدينة، ((فَامْتَحِنُوهُنَّ)) أي: فاختبروهن بما يغلب على ظنكم صدقهن في الإيمان، ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ)) أي: الله سبحانه وتعالى هو المطلع على قلوبهن لا أنتم، فإنه غير مقدور لكم، فحسبكم أماراته وقرائنه.
والمقصود بالامتحان هنا كما بينت بعض الروايات: بأن تشهد الشهادتين، وقال بعضهم: بأن تحلف أنها ما هاجرت إلا حباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما هاجرت بغضةً لزوج، أو غير ذلك من الأغراض، فتذكر المرأة ما عندها، ويقبل منها قولها في الظاهر.
فإذاً: هذا لا يعني التفتيش عما في الباطن؛ لكن هناك أمور اقتضت هذا الامتحان في حق النساء دون الرجال، فإنه لم يحدث امتحان للرجال، وإنما كان الامتحان للنساء خصوصاً، وإلا فقد أتى كثير من المهاجرين من مكة إلى المدينة ولم يحدث مثل هذا الامتحان وسوف نبين إن شاء الله تعالى الفرق بين الرجال والنساء في ذلك.
فالمقصود من قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ)) يعني: اختبروهن كي تسمعوا منهن ما يغلب على ظنكم صدقهن في الإيمان، ولا يلزم من هذا الامتحان القطع بأنهن مؤمنات في القلب؛ لأن ما في الباطن لا يطلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى.(168/8)
معاملة الناس على الظاهر والله يتولى السرائر
وقوله: ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ)) أي: الله هو المطلع على قلوبهن لا أنتم، فهذا لا يدخل تحت قدرتكم، وإنما يكفيكم قرائن الإيمان وأماراته، كأن تأتي بالشهادتين، وتجيب ما يوجه إليها من السؤال.
وهذا هو الذي ينبغي أن نعتمده في الحكم على إيمان الناس، فيقبل من الناس الظواهر والله سبحانه وتعالى يتولى السرائر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)، فالشاهد في قوله: (وحسابهم على الله) يعني: حسابهم في الآخرة، فنقبل منهم الظاهر، وأما هل هم صادقون في ذلك أم لا؟ فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى.
فالنبي نفسه عليه الصلاة والسلام لا يملك ذلك، فيقول في الحديث: (إني لم أومر أن أنقب عما في قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم، وإنما نقبل من الناس ظاهرهم)، هذه هي معاملة العبيد للعبيد، وقد تجد بعض العباد يصرون على أن يعاملوا الآخرين معاملة الرب للعبد، وهي التفتيش عما في قلوبهم، وهذا خطأ، فإن هذه المعاملة هي معاملة الرب للعبد، ولذلك جاء في موطأ مالك بن أنس رحمه الله تعالى عن المسيح عليه السلام أنه قال: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد، إنما الناس رجلان: مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
فيحذر الإنسان أن يتعامل مع الآخرين معاملة الرب للعبد، بل عليه أن يعامل العبد كعبد مثله، فيكتفي منه بما يظهره، ولا يفتش عما يبطنه.
روى الإمام ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانت المرأة إذا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفها بالله ما خرجت مهاجرة من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت في التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم).
يقول ابن زيد: وإنما أمرنا بامتحانهن؛ لأن المرأة كانت إذا غضبت على زوجها بمكة قالت: لألحقن بمحمد عليه الصلاة والسلام، كأنها تريد أن تكيد زوجها! وقال مجاهد: فامتحنوهن، أي: سلوهن ما جاء بهن، فإن كان جاء بهن غضب على أزواجهن، أو سخط أو غيرة ولم يؤمن، فارجعوهن إلى أزواجهن.
قوله: ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ))، قال الزمخشري: يعني: إن علمتموهن العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات، وإنما سماه علماً إيذاناً بأنه كالعلم في وجوب العمل به.
قوله: ((فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)) أي: فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين؛ إذ لا حلّ بين المؤمنة والمشرك؛ لأن إيمانها قطَع عصمتها من المشرك المعادي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.(168/9)
ما يوجب الفرقة بين المسلمة المهاجرة وزوجها المشرك
قوله تعالى: ((لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)).
يقول القرطبي: وهذا أول دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامُها لا هجرتُها، وهذا محل خلاف بين العلماء: فجمهور العلماء على أن الذي أوجب الفرقة هو إسلامها، فمتى أسلمت فإنها تنقطع العصمة بينها وبين زوجها؛ لأن الكافر لا يكون كفؤاً للمسلمة.
وقال أبو حنيفة: الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين؛ لأنها صارت في ديار الإسلام وهو باق في ديار الكفر.
يقول القرطبي: والصحيح الأول، يعني: أن الذي أوجب الفرقة هو اختلاف الدين بإسلام المرأة، وليس اختلاف الدارين، لأن الله تعالى قال: ((لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ))، فبين أن العلة هي عدم الحل بالإسلام، وليس باختلاف الدار، والله تعالى أعلم.
وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: عندنا إذا هاجرت الحرة بعد دخول زوجها بها وقعت الفرقة على انقضاء عدتها، يعني: تمهل حتى تنقضي العدة لاستبراء الرحم، وهذا قول الأوزاعي والليث ومالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: تقع الفرقة باختلاف الدارين كما ذكرنا.
قوله: ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)) قال الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: وإنما قيل ذلك للمؤمنين لأن العهد كان جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش في صلح الحديبية أن يرد المسلمون إلى المشركين من جاءهم مسلماً، فأبطل الله سبحانه وتعالى ذلك الشرط في حق النساء إذا جئن مؤمنات مهاجرات فامتُحن فوجدهن المسلمون مؤمنات، وصح ذلك عندهم بما ذكرنا، وأمروا ألا يردوهن إلى المشركين إذا علموا أنهن مؤمنات.
وقال بعض العلماء: إن النساء لم يدخلن أصلاً في عقد الحديبية، فالمشهور في الروايات: لا يأتيكم رجل منا، والأرجح -والله تعالى أعلم- أنه عام في الجميع، إلا أن هذا العموم خصه الله سبحانه وتعالى في حق النساء، فقد قالت طائفة من العلماء: إنه لم يشترط ردهن في العقد لفظاً، أي: لم ينص على حالة النساء، وإنما أطلق العقد في رد من أسلم، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال، فبين الله تعالى خروجهن من هذا العموم، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم؛ لأن حكم الشرع أن المرأة المسلمة لا يحل لها أن تكون تحت كافر، لذلك لا يصح أن ترجع إلى زوجها الكافر.
الأمر الثاني: أن النساء أرق قلوباً، وأسرع تقلباً من الرجال، فيسهل أن يفتنها المشرك عن دينها.
فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليه، فلو أن امرأة أتت المدينة تلتجئ إليها لأي سبب من الأسباب، ولم تزل باقية على شركها؛ فهذه ترد إلى مكة.
قوله: ((لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ))؛ لأن المرأة مؤمنة ومسلمة، وزوجها مشرك فتنقطع العصمة بينهما؛ ولأن الكافر ليس كفؤاً للمسلمة.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان أمر أبي العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة، وكان هو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، فأثارت عواطف النبي عليه السلام، وذكرته بـ خديجة وأبكته.
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام شديد الوفاء لأم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها، وكان يكرم من يأتي من النساء ممن كان بينهم وبين خديجة مودة، ويقول وقد سمع صوت بعضهن: (قد كانت تغشانا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)، فهذا من وفائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها.
فلما رأى قلادتها تبذلها زينب في فكاك زوجها الأسير في بدر رق لها رقة شديدة، وقال للمسلمين: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا، ففعلوا، فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه)؛ فوفى بذلك، وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان، فردها عليه صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقاً، ومنهم من يقول: بعد سنتين وهو الصحيح؛ لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين.(168/10)
سبب امتحان النساء المهاجرات دون الرجال المهاجرين
وهنا يرد سؤال وهو: أن الله سبحانه وتعالى يقول في هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ)) فقيل: كان امتحانهن بأن يأمرها النبي عليه السلام أن تحلف بأنها ما خرجت كرهاً لزوج، أو فراراً لسبب آخر، وقيل: كان امتحانهن بالبيعة الآتية في قوله {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ} [الممتحنة:12] إلى آخر الآية في آخر السورة.
ومفهوم هذه الآية الكريمة أن الرجال المهاجرين لا يمتحنون، وأن هذا الامتحان خاص بالنساء فقط، فلم تخصيص النساء بالامتحان؟ يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: وفعلاً لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمتحن من هاجر إليه من الرجال، والسبب في امتحانهن دون الرجال هو ما أشارت إليه هذه الآية في قوله تعالى: ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)) فكأن الهجرة وحدها لا تكفي في حقهن بخلاف الرجال، فالرجل يقبل منه إذا أتى مهاجراً، وأما المرأة فلا يقبل منها، إلا بشرط أن تمتحن هذا الامتحان.
وأما الرجال فقد شهد الله لهم بصدق إيمانهم بالهجرة في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]، وذلك أن الرجل إذا خرج مهاجراً فإنه يعلم أن عليه تبعة الجهاد والنصرة، وهو يعرف جيداً ما الذي تعنيه الهجرة من التضحية بماله، ومفارقة أهله ووطنه، ثم الانتقال إلى المدينة حيث يجب عليه أن يجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ينصره، فلا يهاجر إلا وهو صادق الإيمان، ومستعد لأن يتحمل تبعات هذه الهجرة، لذلك لم يحتج إلى امتحان.
ولا يرد على ذلك حديث مهاجر أم قيس؛ لأنه أمر جانبي، ولا يمنع من المهمة الأساسية للهجرة المنوه عنها في أول السورة في قوله تعالى: {إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} [الممتحنة:1]، وهذا بخلاف النساء، فليس عليهن جهاد، ولا يلزمهن بالهجرة أية تبعة، فأي سبب يواجههن في حياتهن سواء كان بسبب الزوج أو غيره فإنه قد يجعلهن يخرجن باسم الهجرة، والأمر على خلاف ذلك، بل هي هاربة من زوجها لسوء العشرة مثلاً، أو أرادت أن تكيده، كما كان النسوة يهددن أزواجهن أحياناً في مكة، وتقول إحداهن لزوجها: والله لألحقن بمحمد عليه الصلاة والسلام، وليس ذلك إيماناً بالله وبرسوله، فكان ذلك الأمر موجباً للتوثق من هجرتهن، وذلك بامتحانهن؛ ليعلم إيمانهن.
ويرجح هذا المعنى قولُه تعالى: ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ))، وفي حق الرجال قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].
ومن جانب آخر: فإن هجرة المؤمنات يتعلق بها حق لطرف آخر وهو زوجها المشرك، فإن هذه الهجرة يترتب عليها أن ينفسخ نكاحها منه، وأن تنقطع العصمة بينهما مباشرة، وأن يعوض هو عما أنفق عليها، وهذه الأمور: من إسقاط حقه في النكاح، وإيجاب حقه في العوض، قضايا حقوقية تتطلب إثباتاً، وذلك يكون بالامتحان، بخلاف هجرة الرجال.(168/11)
كيفية امتحان النساء المهاجرات
إن الامتحان للنساء إما أن يكون بالبيعة المذكورة في آخر السورة، وإما بأن يأتين بالشهادتين، وإما بأن يحلفن ما خرجن سخطةً لزوج أو غير ذلك من الأسباب، ويقبل هذا الظاهر كما بينا.
وهذه الآية كانت عمدة فرقة الخوارج الجدد وزعيمها شكري مصطفى، فقد كانوا يوجبون ما أسموه: التوقف والتبين، بمعنى أنه لا يكتفى بظهور الإسلام حتى يمتحن هذا الذي يدعي الإسلام امتحاناً معيناً، فإذا تبين لنا إيمانه حكمنا عليه بالإيمان! وهذا استدلال في غير موضعه؛ لأن الامتحان كانت كيفيته ما قام به الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا دليل على تعميمه في الأمة كلها بعد ذلك.
ثانياً: أن هذا الامتحان كان بالصور التي ذكرناها، وأما هم فالامتحان عندهم كان عبارة عن عرض قضايا المنهج، فتجلس المرأة من خلف ستار، ويقوم بتلاوة الأدلة عليها بزعمهم، وتتلى عليها قضايا منهجية طويلة وعريضة، ثم بعد ذلك إن قبلتْ ذلك فهي مسلمة وإلا فإنها بعد إقامة الحجة عليها تصير كافرة.
وقد كانت من وراء ذلك فتن كثيرة جداً، ونرجو -إن شاء الله تعالى- فيما بعد حينما نعود لدراسة قضايا الكفر والإيمان أن نفصّل في هذا الموضوع، أعني موضوع التوقف والتبين، وما ذكرنا هنا إشارة عابرة على أن الامتحان هنا ليس كالامتحان الذي زعموه.(168/12)
تخصيص السنة بالقرآن
قوله: ((إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ)) قال كثير من المفسرين: إن هذه الآية مخصصة لما جاء في معاهدة صلح الحديبية، وقد كان في هذه المعاهدة: من جاء من الكفار مسلماً إلى المشركين ردوه على المشركين، ومن جاء من المسلمين كافراً لم يردوه على المسلمين، فأخرجت هذه الآية النساء من المعاهدة وأبقت الرجال، وذلك من باب تخصيص العموم، وهذا تخصيص للسنة بالقرآن، وتخصيص القرآن بالسنة معلوم، وقد قال في مراقي السعود: وخص بالكتاب والحديث به أو بالحديث مطلقاً أن تنتبه ومن أمثلة تخصيص السنة بالقرآن الكريم: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أبين من حي فهو ميتة)، فلو جاء رجل إلى كبش مثلاً وقطع ذيله لأجل ما فيه شحم، فهل يجوز أكله؟
الجواب
لا يجوز أكله؛ لعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أبين من حي فهو ميت) أي: ما فصل من حي فهو ميت، ولذلك فإنّ الإنسان الذي بترت ذراعه أو ساقه فإنها تعامل معاملة الميت؛ فتكفن، وتدفن إلى آخره.
وهذا العموم في قول النبي عليه الصلاة والسلام جاء تخصيصه بقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأشْعَارِهَا} [النحل:80] يعني: ليس محرماً، فهذا تخصيص، فالقرآن الكريم يخصص عموم السنة.
ومن أمثلة تخصيص الكتاب بالسنة قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3]، فجاء تخصيص هذا العموم في هذا الحديث -إن صح-: (أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالجراد والحوت).
وقال القرطبي: (جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب -يعني: صلح الحديبية- والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعدُ، فأقبل زوجها -وكان كافراً- فقال: يا محمد! اردد علي امرأتي فإنك شرطت ذلك، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله هذه الآية).
وقال بعض المفسرين: إنها ليست مخصصة للمعاهدة؛ لأن النساء لم يدخلن فيها ابتداء، وإنما كانت في حق الرجال فقط.
وذكر القرطبي وابن كثير (أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت فارّةً من زوجها عمرو بن العاص، ومعها أخواها: عمارة والوليد، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها، فقالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: ردها علينا بالشرط، فقال صلى الله عليه وسلم: كان الشرط في الرجال لا في النساء، فأنزل الله تعالى هذه الآية)، فالظاهر أن الآية مخصصة لمعاهدة الهدنة، أي: أنّ القرآن مخصص للسنة، وهذا من أحسن الأمثلة لتخصيص السنة بالقرآن.
ومما يدل على أنها مخصصة أمران مذكوران في الآية: الأول منهما: أنها أحدثت حكماً جديداً في حقهن، وهو عدم الحِلِّيَّة بينهن وبين أزواجهن، فلا محل لإرجاعهن، ولا يمكن تنفيذ معاهدة الهدنة مع هذا الحكم، فخرجن منها، وبقي الرجال.
والثاني منهما: أنها جعلت للأزواج حق المعاوضة على ما أنفقوا عليهن، ولو لم يكنَّ داخلات أولاً لما كان طلب المعاوضة ملزماً، ولكنه صار ملزماً، وموجب إلزامه أنهم كانوا يملكون منعهن من الخروج بمقتضى المعاهدة المذكورة، فإذا خرجن بغير إذن الأزواج كُنّ كمن نقض العهد، فلزمهن العوض المذكور، والله تعالى أعلم.(168/13)
معنى قوله تعالى: (وآتوهم ما أنفقوا)
يقول تعالى: ((وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا)) أي: أعطوا المشركين الذين جاءت نساؤهم مؤمنات إذا علمتموهن مؤمنات فلم ترجعوهن إليهم، أعطوهم ما أنفقوا في نكاحهم إياهن من الصداق.
قال مقاتل في قوله تعالى: ((وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا)) هذا إذا تزوجها مسلم، يعني: لا ندفع لزوجها المشرك الصداق الذي بذله إلا إذا تزوجها مسلم، فإن لم يتزوجها أحد فليس لزوجها الكافر شيء.
وقال القرطبي: وذلك من الوفاء بالعهد؛ لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام أمر الله عز وجل برد المال إليه؛ حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين، أي: خسارة الزوجة، وخسارة الصداق الذي بذله.
وهذا من عدل الإسلام حتى مع الكفار.
وقال قتادة: الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد إليهم الصداق.(168/14)
معنى قوله تعالى: (ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن)
يقول الله تبارك وتعالى: ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)).
(أجورهن) هنا بمعنى: صداقهن، فهذا المنطوق، ويدل بمفهومه على أن النكاح بدون الأجور فيه جناح، أي أن من نكح بدون صداق، أو أسقط المهر، فعليه جناح وإثم في ذلك، أي: فلابد في الزواج من مهر.
فالمهم في عقد الزواج ألا يتم الاتفاق فيه على إسقاط المهر، فذلك خطأ كبير فادح، لكن لو لم يتحدث عن المهر أصلاً، وحصل الزواج، ثم حصل طلاق، أو وفاة للزوج، أو طالبت المرأة بحقها في الطلاق، فإنها تعطى صداق المثل، ولذلك إشارة في قوله تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236].
والمهر قد يكون مسمى أو غير مسمى، والمسمى قد يكون مقدماً كله أو مؤخراً كله، أو بعضه مقدماً وبعضه مؤخراً، وذلك حسب تفاوت الأحوال، فأهم شيء ألا يكون هناك اتفاق على إسقاط المهر.
ويؤخذ وجوب الصداق أيضاً من قوله تبارك وتعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، فهذه المرأة وهبت نفسها للنبي عليه الصلاة والسلام، وَهِبَةُ المرأة نفسها بدون صداق حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، ولا يحل لغيره على أي حال.
وقوله: ((إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)) ظاهر في أن النكاح لا يصح إلا بإتيان الأجور، وقد جاء ما يدل على صحة العقد بدون إتيان الصداق؛ وذلك في قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236].
وقد ذكر الفقهاء حكم المفوضة: أنه إن دخل بها فلها صداق المثل، يعني: إذا تزوجها ولم يحدد لها مهراً فالزواج صحيح، لكن المهم ألا يكون هناك اتفاق على إسقاط المهر، ويجوز تأخير الكلام في المهر لسبب أو لآخر، ففي هذه الحالة تسمى هذه المرأة بالمفوضة، قال تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236].
ويدل على إطلاق الأجور على الصداق آيات عدة في القرآن الكريم، فإن الصداق من أسمائه الأجر، وهذه الملاحظة مهمة جداً حتى نحذر من تلبيس الشيعة الرافضة في تحليلهم نكاح المتعة، واستدلالهم بلفظ: (الأجر) فنقول: قد أُطلق الأجر في القرآن مراداً به الصداق، مثل قول الله تبارك وتعالى في نكاح الإماء لمن لم يستطع طولاً للحرائر: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] إلى أن قال تعالى: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:25] يعني: مهورهن.
وفي نكاح أهل الكتاب قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة:5] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50] فبهذا كله يرد على من استدل بلفظ الأجور على نكاح المتعة.
ثم قال الله عز وجل: ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ)) يعني: أن تنكحوا هؤلاء المهاجرات اللاتي لحقن بكم من دار الحرب مفارقات لأزاجهن، وإن كان لهن أزواج ((إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)) أي: مهورهن.
قال ابن زيد: لأنه فرق بينهما الإسلام إذا استبرئت أرحامهن.(168/15)
معنى قوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر)
قوله: ((وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)).
أشار إلى أنه كما بطل نكاح المؤمنة عن الكافر بطل نكاح الكافرة عن المسلم، فكما أن المؤمنة لا تتزوج كافراً بحال من الأحوال، كذلك أيضاً يبطل نكاح المسلم الكافرة، فقال عز وجل: ((وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)) قرئت: (ولا تُمسِّكوا بعصم الكوافر) وقرئت أيضاً: (ولا تَمَسَّكوا بعصم الكوافر) يعني: بعقودهن التي يتمسك بها في الاستحلال.
يقول ابن جرير: يقول جل ثناؤه للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمسكوا أيها المؤمنون بحبال النساء الكوافر وأستارهن، والكوافر: جمع كافرة، وهي تشمل كل من يطلق عليها لفظ الكافرة بما في ذلك الكتابية من اليهود والنصارى، والعصم: جمع عصمة، وهي ما اعتصم به من العقد والسبب، وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن الإقدام على نكاح المشركات من أهل الأوثان، وأمر لهم بفراقهن.
ثم روى ابن جرير عن مجاهد قال: أُمر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بطلاق نساء كوافر بمكة قعدن مع الكفار.
وليست هذه الآية على عمومها ((وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ))، فقد خص من الكوافر حرائر أهل الكتاب، والمخصص هو قول الله تعالى في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5].
وعن الزهري قال: لما نزلت هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) إلى قوله: ((وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)) كان ممن طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، طلق امرأتين كانتا له بمكة: ابنة أبي أمية، وابنة جرول، وطلحة بن عبيد الله، طلق زوجته أروى بنت ربيعة، ففرق بينهما الإسلام حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر.
وكان ممن فر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار ممن لم يكن بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فحبسها وزوجها رجلاً من المسلمين: أذينة بنت بشر الأنصارية، كانت عند ثابت بن الدحداحة، ففرت منه -وهو يومئذ كافر- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل بن حنيف أحد بني عمرو بن عوف، فولدت عبد الله بن سهل.(168/16)
جواز استمتاع المسلم بالمشركة بملك اليمين
وننبه هنا على أمر: وهو أن مفهوم العصمة لا يمنع الإمساك بملك اليمين، فإذا قلنا: إنه لا يمكن بحال من الأحوال أن تتزوج مسلمة بكافر، فكذلك المسلم لا يحل له أن يتزوج بكافرة مشركة وثنية بأي حال من الأحوال، لكن هل هذه العصمة تمنع الإمساك بملك اليمين؟
الجواب
لا تمنع الإمساك بملك اليمين، فيحل للمسلم الاستمتاع بالمشركة بملك اليمين على أساس أنها سرّيّة، أي: أمة وليست زوجة حرة، فمفهوم العصمة لا يمنع الإمساك بملك اليمين، فيحل للمسلم الاستمتاع بالمشركة بملك اليمين، وعليه تكون حرمة المسلمة على الكافر مطلقاً، لقوله تعالى: ((لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ)) أي: الآن، ((وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)) يعني: في المستقبل.(168/17)
الحكمة من حلّ نكاح المسلم الكتابية وحرمة المسلمة على الكتابي
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: إذا كان الكفر هو سبب فك عصمة الكافرة من المسلم، وتحريم المسلمة على الكافر، فلماذا حلت الكافرة من أهل الكتاب للمسلم، ولم تحل المسلمة للكافر من أهل الكتاب؟ والجواب من جانبين: الأول: أن الإسلام يعلو ولا يُعلا عليه، والقوامة في الزواج تكون من جانب الرجولة قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، فالقوامة واليد العليا في الزواج تكون للرجل وإن تعادلا في الحلِّيَّة بالعقد؛ لأن التعادل لا يلغي الفوارق كما في ملك اليمين، فإذا امتلك رجل امرأة حلَّ له أن يستمتع بها بملك اليمين، وأما المرأة إذا امتلكت عبداً فلا يحل لها أن تستمع به بملك اليمين.
وكذلك باعتبار قوامة الرجل على المرأة وعلى أولادها وهو كافر، فإنه لا يَسْلم لها دينها، فلو تزوجت مسلمة بكافر فإنه لا يصحح دينها، ولا دين أولادها، بل سيفسد عليها دينها هي وأولادها؛ لأن الرجل هو صاحب القوامة.
الجانب الثاني: شمول الإسلام وقصور غيره من الأديان، وينبني عليه أمر اجتماعي له مساس بكيان الأسرة وحسن العشرة؛ وذلك أن المسلم إذا تزوج كتابية فهو يؤمن بكتابها وبرسولها، فيكون معها على مبدأ من يحترم دينها؛ لإيمانه بدينها في الجملة.
وهذا التعبير حساس قليلاً أعني جملة: (يحترم دينها) وذلك أننا معشر المسلمين نؤمن بجميع الأديان وجميع الرسل، فنؤمن بموسى وعيسى ومحمد، وأما الكافر فحتى لو زعم أنه مؤمن بموسى أو بعيسى فهو لا يؤمن بنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا يتصور أن مسلماً إذا تزوج كتابية يسب عيسى، أو يسب موسى، أو أحداً من الأنبياء، بحجة أن هذا نبي اليهود أو النصارى، فموسى نبي الإسلام، وعيسى نبي الإسلام وموسى وعيسى عليهما السلام يعاديان هؤلاء الذين حرفوا دين الإسلام الذي بعثا به، فكفروا بسبب ذلك، بدليل أن المسيح سوف يقاتل اليهود، وأن المسيح نفسه إذا نزل في آخر الزمان فإنه سيحكم بالإسلام، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، فإما الإسلام وإما القتل، ولذلك قال تعالى على أحد وجهي التفسير: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء:159] أي: بالمسيح {قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] قبل موت المسيح عليه السلام حينما ينزل إلى الأرض.
فالشاهد أن المسلم لا يتصور منه أن يؤذيها في موسى، أو في عيسى، وأما الكافر إذا تزوج مسلمة فإنه سوف يؤذيها في نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فلا تعلم أمة هي أشد تعظيماً للأنبياء، وأشد حفظاً لحرمتهم من المسلمين، فهؤلاء اليهود والنصارى في هذه المسألة يشتركون في الهوى، فإن النصارى يؤمنون بالتوراة وبالإنجيل، واليهود يؤمنون بالتوراة، فالتوراة التي هي فاصل مشترك بينهم اشتملت على نصوص كثيرة فيها سب مُقذع للأنبياء، فسليمان عليه السلام ليس بنبي عندهم؛ بل هو مَلِك، وأما عندنا فسليمان نبي معصوم.
وعندهم أن سليمان عليه السلام عبد الأصنام قبل موته، وأنّ داود عليه السلام فعل كذا وكذا من الفواحش، وشرب الخمر والعياذ بالله، وأن لوطاً عليه السلام فعل كذا، فتجدهم ينسبون كثيراً من الفواحش التي يتأذى أفسق الفساق أن تنسب إلى الأنبياء عليهم السلام، فهم لا يعرفون حرمة الأنبياء، لذلك فنحن أولى بالأنبياء منهم، فبالتالي لا يتصور أن مسلماً يسب موسى أو عيسى عليهما السلام، ومن فعل ذلك فإنه يخرج من ملة الإسلام.
وأما ما حصل في الحوادث الأخيرة من أنّ بعض الإخوة الفلسطينيين هدموا ضريح يوسف عليه السلام، فأخبرتُ أنّ بعض الناس حاول إقناعهم بأننا نقدس ضريح يوسف عليه السلام، فأقول: نحن لا نقدس الأضرحة، ثمّ من ذا الذي قال: إن هذا الضريح ليوسف عليه السلام؟! فإنه عاش في مصر، وطلب أهله فجاءوا إلى مصر، ومات ودفن في مصر، أما أن يظن أن هذا هو ضريح يوسف عليه السلام فهذا غير صحيح، فإنه لا يقطع بضريح نبي من الأنبياء غير نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وما عدا ذلك فإنه لا يعلم على وجه التحديد.
فالشاهد: أنّ هذا الجدال ليس في محله؛ لأن يوسف عليه السلام عاش في مصر، ومات فيها، ودفن فيها.
وكذلك أيضاً فإن المرأة الكتابية إذا كانت تحت المسلم الموحد فإنه قد يكون هناك مجال للتفاهم والتواد بينهما، فلعل ذلك يكون سبباً في دخولها في الإسلام، وقد وقع هذا كثيراً، فالأخ المسلم بحسن خلقه، واجتهاده في طاعة الله سبحانه وتعالى، وحسن أسلوبه، يجل الزوجة تنقاد إلى الدخول في الإسلام، ونتذكر هنا حادثة ثمامة بن أثال حينما أسر، وربطه النبي عليه الصلاة السلام في سارية من سواري المسجد، وجاء في القصة: (أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام في أول يوم أتاه فقال له: كيف تجدك يا ثمامة؟! قال: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن كريم، وفي اليوم الثاني هدأت اللهجة، فسأله النبي عليه الصلاة السلام، فقال له: إن تعف تعف عن كريم، وإن تقتل تقتل ذا دم)، ففي المرة الأولى بدأ بالقتل وفي الثانية بالعفو، وفي اليوم الثالث أطلق النبي عليه الصلاة والسلام سراحه، فذهب ثمامة فاغتسل، ثم أتى وشهد الشهادتين.
وهذه حكمة تربوية رائعة جداً، وهي أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحبس هذا الأسير في منزل، أو في حجرة، وإنما ربطه في سارية من سواري المسجد؛ حتى يراقب المسلمين، ويرى أخلاقهم، ويسمع كلامهم في التوحيد وغيره، ويرى آيات النبوة، ويرى حسن خلق المسلمين، ويرى نموذجاً حياً للمجتمع المسلم، فالمسجد في ذلك الوقت كان هو المركز للواقع الحياتي بالنسبة للمسلمين، فيرى صورة الإسلام مرسومة على الواقع، فأسلم بسبب أنه رأى هذا النموذج المبشر بالخير.
وعلى الجهة الأخرى -للأسف الشديد- فإن الزوج إذا كان غير ملتزم فإنه ينفرها من الدين، بل وجدت حالات أن المرأة أسلمت، ثم هي تشكو من زوجها الذي يضربها، ولا يصلي الفجر، وغير ذلك من الشكاوى.
فالشاهد من الكلام: أن المرأة المسلمة إذا كانت تحت كافر فلن يرقب فيها إلاً ولا ذمة، وربما آذاها في نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وفي القرآن، وفي الإسلام، وخاصة أن المستشرقين والكفار قد أوصلوا كثيراً من الشبهات التي يرددونها إلى كثير من الناس، فربما يرددها كثير من الناس على حد قول الكافر: (سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته).
وكذلك الذرية سوف تتأثر بالأب، وبالتالي يكونون مشركين، فالمرأة نفسها يمكن أن تفتن في دينها، وإذا فسد القوام عم الفساد جميع الأقوام.
وأيضاً فنكاح الكتابيات لا ينبغي التساهل فيه في هذا الزمان؛ لأن القوامة الآن لا تكون كما يريد الزوج المسلم، ففي المجتمع الغربي بجانب تبرج المرأة واسترجالها هناك أمر آخر أخطر من ذلك، وهو أن القوانين التي تعلو الناس هناك تعطي المرأة حقوقاً مبالغاً فيها، بحيث إن الرجل لابد أن يخضع -شاء أم أبى- لكثير من قوانينهم التي ربما يترتب عليها أنها تستأثر بالأولاد، فتسميهم بأسماء النصارى، فيكونون من الذرية الكفار، والحوادث في ذلك كثيرة.
فعلى أي الأحوال: فإن الكتابي إذا تزوج امرأة مسلمة فهو لا يؤمن بدينها، ولا يحترم دينها، ولا يوجد مجال للتفاهم معه في أمر هو لا يؤمن به بالكلية، فلا جدوى من هذا الزواج؛ لذلك مُنع منه ابتداء، لكن لا توجد هذه المشاكل فيما يتعلق بزواج الكتابيات، مع أن كثيراً ما يطلق عليهن الآن وصف كتابيات وهن في الحقيقة لم يعدن كتابيات، فالكتابية هي التي تؤمن بعيسى أو بموسى، أو بدينهما حتى مع تحريفهم له، وأما الآن فمعظمهن وثنيات لا دين لهن، وهذا حكم عام سواء في الزواج أو في الذبائح؛ لأنهن في الغالب لم يعدن أهل كتاب: لا نصارى ولا يهود ولا غير ذلك، فهذا أمر ينبغي الانتباه له، وسبق أن وضحناه بالتفصيل في محاضرة: (حكم نكاح الكتابيات).
وقد تكلم أحد العلماء أيضاً في الحكمة من إباحة زواج المسلم بالكتابية، وحرمة زواج المسلمة بالكتابي، فيقول: إن المسلمين يؤمنون بجميع الأنبياء الذين منهم موسى وعيسى، ويؤمنون بكتب الله المنزلة كلها، لكن الكتابيين -وهم اليهود والنصارى- لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا بكتابه، ويوجهون إلى شخصه الكريم وكتابه العظيم جملة من المطاعن التي تنبئ عن داء دفين، وحقد كمين، والمنصفون منهم يعترفون بعظمته، ولا يؤمنون بنبوته، فمن ثَم جاز لنا أن ننكح نساءهم، ولم يجز لهم أن يتزوجوا نساءنا، فهذه حكمة.
وحكمة ثانية: وهي أن الإسلام دين التسامح، فلا يجيز إكراه أي شخص على اعتناقه، وهو يعتمد في نشر دعوته على الإقناع بالحجة والبرهان، قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]، فحين يتزوج المسلم بكتابية فإنه لا يكرهها على مفارقة دينها، بل يدعها حرة في عقيدتها، ولا يحل له شرعاً أن يكرهها على الدخول في الإسلام.
وليس معنى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أننا لا نبين الحق، ولا ندعوها إلى سماحة الإسلام، ونقدم لها الحق، وكذلك ليس معناها أن نمتنع نحن عن إبطال العقائد الشركية، والأديان المحرفة، وإقامة الأدلة على صدق النبوة والتوحيد وغيرها! فإن هذا ليس من الإكراه، فأنت تعطي اليهود بضاعتك.
فحين يتزوج المسلم بكتابية فإنه لا يفكر في إكراهها على مفارقة دينها، وأما الكتابي إذا تزوج بمسلمة فإنه يحاول إخراجها من دينها بمختلف الوسائل ولو بالتهديد، يقول: والشواهد على ذلك كثيرة أقربها: أن نضلة أم الملك فاروق تزوجها طبيب أمريكي، فأخرجها عن دينها فهي الآن نصرانية -وهذا الكتاب مطبوع سنة (1968م) - وبنتها فتحية تزوجها قبطي مصري بدعوى أنه أسلم، ثم تبين عدم إسلامه، فحملها على أن تنصرت معه، وأخذ مالها وفارقها، وقد تزوج فرنسيون بمسلمات جزائريات أيام استعمارهم للجزائر، فأخرجوهن عن دينهن بترغيب مشوب بترهيب(168/18)
حرمة أذية الأنبياء
إن الكلام عن شيء يؤذي الرسول عليه السلام لا يجوز، مثل كثرة الجدال، فبعض الناس يروق لهم أحياناً فتح بعض الموضوعات، وكثرة الجدل والسؤال فيها، ونحن لا نقول فيها بخلاف الحق، لكن يكفي فيها التنبيه، مثل كثرة الكلام في مصير أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام وأنهما في النار، فهذه المسألة دليلها واضح، ولا تحتاج إلى كلام كثير، فقد كره بعض العلماء ذلك؛ لما فيه من إيذاء رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا نقول كما تقول الصوفية: إن الله قد أحيا له والديه فآمنا ثم ماتا، فهذه من خرافاتهم، ولكن نقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله رجل أين أبي؟ (قال: إن أبي وأباك في النار)، وقوله: (استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته بأن أزورها فأذن لي أن أزورها) يعني: أمه عليه الصلاة والسلام، فالإنسان يكفيه هذا ولا يكثر الكلام؛ مراعاة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69] فهذا من مظاهر أذية اليهود -لعنهم الله- للأنبياء حتى وصل بهم الأمر إلى حد القتل، فقد قتلوا بعض الأنبياء، وهنا آذوا موسى عليه السلام الذي يتشدقون بأنه نبيهم، وأنهم يعظمونه ويحبونه، فقد آذوه مراراً، وقاسى منهم الأمرين عليه السلام كما حكى الله عنه مخاطباً قومه: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف:5]، فالشر كامن في بني إسرائيل فهم كالذيب، ومن التعذيب تهذيب الذيب، فلو أردت أن تهذب الذيب أو أن تعدل أخلاقه فإنه لا يتعدل ولا يقبل التعديل، وهذا مما يستفاد من قصص القرآن الكريم في شأن اليهود -لعنهم الله- فإن أخلاقهم واحدة في كل جيل، ففيهم نفس اللؤم والغدر، ونقض العهد، والكفر، والمكر، وكراهية الخير للناس، والحسد، فكل هذه الصفات لاصقة فيهم، وغير قابلة للمحو والتغيير من طباعهم.(168/19)
تفسير قوله تعالى: (واسألوا ما أنفقتم)
قوله تبارك وتعالى: ((وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ)).
أي: إذا ذهبت أزواجكم فلحقن بالمشركين فاطلبوا ما أنفقتم عليهن من الصداق ممن تزوجهن منهم، فلو أن رجلاً مسلماً لحقت امرأته بالمشركين كافرة، وتزوجها أحد المشركين، فإنه يطالب من تزوجها بما أنفق من الصداق.
((ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) أي: هذا الحكم الذي حكم به بين المؤمنين والمشركين في هذا الأمر، فهذا حكم الله الحق الذي لا يعدل عنه.(168/20)
تفسير قوله تعالى: (وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار)
يقول تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الممتحنة:11].
((وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ)) أي: وإن ارتدت منكم امرأة فلحقت بالكفار فلم يردوا مهرها: ((فَعَاقَبْتُمْ)) وفيها قراءة أخرى: (فعقبتم)، وقراءة ثالثة: (فعقّبْتم)، وكلاهما بدون ألف ومعناهما: وكانت العقبى لكم بأن غلبتم وانتصرتم عليهم، وبالتالي أخذتم الغنائم.
((فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ)) أي: من الغنيمة التي أخذتموها في هذا القتال، وذلك من رأس الغنيمة قبل التوزيع، فالمراد: أخرجوا الصداق المستحق لزوج تلك المرأة التي فرت إلى المشركين.
((فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ)) يعني: من المسلمين: ((مِثْلَ مَا أَنفَقُوا)) في مهورهن.
قال مجاهد: مهر مثلها يدفع إلى زوجها.
وقال قتادة: كن إذا فررن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكفار -أي: ليس بينهم وبين نبي الله عهد-، فأصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة أعطي زوجها ما ساق إليها من جميع الغنيمة، ثم يقتسمون غنيمتهم.
وقوله: ليس بينه وبين نبي الله عهد، إنما اشترط هذا الشرط؛ لأنه لو كان هناك عهد لم تحصل حرب.
((وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)) يعني: فإن الإيمان به يقتضي أداء أوامره، واجتناب نواهيه تبارك وتعالى.(168/21)
تفسير سورة الممتحنة [12 - 13](169/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك)
يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12].
قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ} قال ابن كثير: يعني: لا يسرقن أموال الناس الأجانب، فأما إذا كان الزوج معسراً في نفقتها فلها أن تأكل من ماله بالمعروف ما جرت به عادة أمثالها، وإن كان من غير علمه؛ عملاً بحديث هند بنت عتبة أنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فهل علي جناح إن أخذت من ماله بغير عمله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك بالمعروف).
وهذا الحديث متفق عليه.
وقد قيد الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال: وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجاب، ولا يضبط عليه بقفل، فإنه إذا هتكته الزوجة، وأخذت منه كانت سارقة تعصي به، وتقطع يدها.
إذاً: يحل للمرأة إذا كان زوجها شحيحاً يمسك عليها في النفقة، ولا يعطيها ما يكفيها هي وأولادها، وله مال آخر في درج مفتوح، أن تأخذ ما يكفيها بالمعروف، ولا تزيد على حاجة ما جرت به عادة أمثالها، لكن إذا كان له مال ووضعه في خزانة، وأقفل عليه، أو وضعه في حرز، فإنها إذا أخذت منه في هذه الحالة فهي سارقة؛ لأنها أخذته من الحرز.(169/2)
حكم إجهاض الجنين
قوله: {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} قال الزمخشري: يريد وأد البنات.
قال ابن كثير: هذا يشمل قتله بعد وجوده كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتله وهو جنين كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، فإنها تطرح نفسها لئلا تحبل، إما لغرض فاسد أو ما أشبهه.
وهذه المسألة يحصل فيها تساهل؛ لأن الأمور قد اختلطت، وتأثر المسلمون كثيراً بمناهج الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يخشون يوم الحساب، خاصة في قضية الإجهاض، فهنا ابن كثير يقول: إن قوله تعالى: ((وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ)) عام يشمل قتل الطفل بعد وجوده، وهذه الحالة وجدت في أهل الجاهلية، فقد كانوا يقتلون الأولاد خشية الفقر والإملاق، ويشمل قتله وهو جنين، وذلك يكون بعد مضي مائة وعشرين يوماً رحمياً، ويبدأ حساب ذلك من التلقيح.
فلو مرت مائة وعشرون يوماً ويوم، ونفخت فيه الروح، فهذا إنسان محترم، وحياته محترمة لا يجوز التعدي عليها، وبعض الناس -لسبب أو لآخر- يتأولون تأويلات غريبة، وذلك كأن يأتي مثلاً بعض الأطباء ممن لا فقه عندهم فيقول: هذا جنين مشوه، ويكون قد نفخت فيه الروح وقد كان في الشهر السادس أو السابع مثلاً، فيقتلونه ويجهضونه رحمة به زعموا، فهذه جريمة قتل؛ لأنه ما دام أنه قد نفخت فيه الروح فقد انتقل من الحياة النباتية إلى الحياة الحيوانية بنفخ الروح، فهذا إنسان له حرمة، والإسلام يأمرنا مع الضعيف أن نرحمه لا أن نقتله، فمثلاً لو كان هناك شخص عنده عاهة من عمى، أو أي عاهة أخرى، فهل تقتله من أجل أن تخفف عنه؟! كذلك نفس الشيء إذا حصل تشوه ولم يكتشف، أو لم يقطع بدون تشويه إلا بعد مضي مدة تزيد على مائة وعشرين يوماً فلا يجوز الإجهاض قولاً واحداً، حتى ولو كان مشوهاً؛ لأن المشوه قد يمكن علاجه.
فالطب الآن -بفضل الله سبحانه وتعالى- قد تطور وتقدم، وهناك حالات كثيرة يتم علاجها، أو التخفيف من آثارها، حتى ولو افترضنا أن الطفل سيخلق -والله تعالى أعلم- متخلفاً عقلياً مثلاً فلا يجوز قتله، فهل كل من عنده تخلف عقلي يقتل؟! وما الفارق بينهما: فهذا حي داخل الرحم، وهذا حي في الخارج؟ لا فرق بينهما في الإسلام، فهذا الجنين له حرمة لا يجوز الاعتداء عليها، وقاتله مجرم آثم قاتل للنفس التي حرم الله عز وجل، فلينتبه إلى هذا.
أما ما قبل مائة وعشرين، أو قبل الأربعين، فهذه قضية أخرى تخرجنا عن موضوعنا.
قوله: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} قال ابن عباس: أي: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم.
أي أن المرأة تلتقط لقيطاً وتقول للرجل: هذا ابني منك، أو تفحش وتنجب ولداً، فتنسبه لفراش زوجها، فهذا أيضاً مما ينهى عنه.
فللمفسرين في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: لا يُلحقن بأزواجهن غير أولادهم.
القول الثاني: إنه السحر.
القول الثالث: المشي بالنميمة، والسعي بالفساد.
ولعل هذه البيعة التي أُخذت على النساء كانت تؤخذ على الرجال كما في بعض الروايات.
وقال ابن عباس: ((وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ)) أي: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم.
وأوضحه الزمخشري بقوله: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك.
كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً؛ لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وموضع الولادة بين الرجلين.
وهذا الأمر في هذه الآية مخالف للزنا.
وقال الشهاب في شرح البخاري: لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم، واليد والرجل كناية عن الذات؛ لأن معظم الأفعال بهما، ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية: هذا ما كسبت يداك، مع أنه ما فعله بيديه، ولكنه قاله بلسانه، فيعبر عن أفعال الإنسان باليدين؛ باعتبار أن معظم الأفعال تمارس باليدين، أو بالرجلين أحياناً.
أو معناه: ((وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ)) أي: لا تنشئوا البهتان والافتراء من ضمائركم وقلوبكم؛ لأنه من القلب الذي مقره بين الأيدي والأرجل، والأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهم، والثاني كناية عن إنشاء البهتان من دخيلة قلوبهم مبنياً على الغش الباطني.
وقال الخطابي: معناه لا تبهتوا الناس كفاحاً ومواجهة، كما يقال للآمر بحضرتك: إنه بين يديك، ورُدَّ: بأنهم وإن كنوا عن الحاضر بكونه بين يديه فلا يقال: بين أرجله، وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها، أما مع الأيدي تبعاً فلا، فالمخطئ مخطئ، وهو كناية عن خرق جلباب الحياء والمراد النهي عن القذف ويدخل فيه الكذب والغيبة.
قوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} يعني: من أمر الله تأمرهن به، وقد شاع عند بعضهم ممن يريد أن يحارب ويحذر من التقليد الأعمى، واتباع أقوال الرجال وتقديمها على الكتاب والسنة، شاع عندهم الاستدلال بقوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يطاع إلا في المعروف فكيف بغيره؟! والمفروض التحرز في التعبير وأن يكون فيه شيء من الدقة؛ حتى لا يفهم الكلام خطأً.
فهنا قيد عدم المعصية بكونها في معروف، أي: ما دمت تأمرهن بالمعروف فلا يعصينك، فهذا القيد إنما هو للبيان، والمعنى: ولا يعصينك في معروف، وكل ما تأمر به معروف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بالمعروف، ولا يمكن أن يأمر بمعصية، أو منكر معاذ الله وحاشاه عليه الصلاة والسلام، فالقيد هنا للبيان، ولا مفهوم له، فهو مثل قوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112] فهذا ليس له مفهوم، ولو قال: (قال رب احكم) لكفى؛ لأن الله لا يحكم إلا بالحق، ومثله أيضاً قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران:112] فهذا لا مفهوم له، فلا يمكن أن يقتل نبي ويكون قتله بحق، فهذا هو أشقى الناس كما قال عليه الصلاة والسلام: (أشقى الناس من قتل نبياً أو قتله نبي).
إذاً: فهذا القيد للبيان، وليس له مفهوم، فكل ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم معروف، وفيه حياة للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، فكل ما يأمرنا به النبي عليه الصلاة والسلام هو حياة لنا، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).(169/3)
معنى المعروف في قوله: (ولا يعصينك في معروف)
أما كلام المفسرين في المقصود بالمعروف في هذه الآية: ففي صحيح مسلم عن أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (كان منه النياحة، فكان يأمرنا ألا ننوح)، وجاء في بعض الروايات في كلام ولا ينحن النياحة، ومنها: لا يدعين ويلاً، ولا يخدشن وجهاً، ولا ينشرن شعراً، ولا يسرقن ثوباً.
فهذه من أفعال الجاهلية، فلا يجوز لامرأة مسلمة أن تأتي بشيء من هذه الأفعال.
(لا يدعين ويلاً) أي: لا يصرخن، وهذا غالباً مما يحصل من المرأة، لأنها عبارة عن كتلة من العاطفة، فإذا لم تحجزها التقوى ورزانة الإيمان الصادق فإنها تخرج عن طورها وتجزع، خاصة عند المصيبة الكبرى التي هي مصيبة الموت، فنجد بعض النساء قد يتلفظن بألفاظ شنيعة ويأتين بأفعال تتنافى مع الإيمان، فكان مما بايعهن عليه الرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً أن لا يدعين ويلاً، أي: لا تقل يا ويلتاه! (ولا يخدشن وجهاً ولا ينشرن شعراً) نشر الشعر أن تفرق شعرها كأمارة على الجزع من قضاء الله سبحانه وتعالى، وفي معنى نقض الشعر ما يفعل بعض الرجال من إطلاق وإعفاء اللحية عند المصيبة، فترى الرجل يحلق لحيته دائماً، فإذا حصل مصاب عنده من موت قريب له أو حبيب فإنه يعبر عن جزعه بأن يعفي لحيته ولكن لفترة مؤقتة، فنقول: هذا حرام؛ لأنه في معنى النهي عن نشر الشعر، وإن كان يجب عليه أن يعفي لحيته في كل أحواله، لكن الأمر هنا فيه موافقة لهذا الفعل الجاهلي، وهو نشر الشعر عند المصيبة، فالمرأة تنشر شعرها تعبيراً عن الجزع، وهذا يترك لحيته تعبيراً عن الجزع، لذلك فهو في معناه.
قوله: (ولا يشققن ثوباً): هذه أيضاً من أفعال الجاهلية.
وقيل: ((لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)) يعني: كل ما يأمر به النبي عليه الصلاة والسلام من شرائع الإسلام وآدابه.
فالمعروف اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة الله، والإحسان إلى الناس، وكل ما أمر به الشرع ونهى عنه.
وقوله: ((إِذَا جَاءَكَ)): جملة شرطية، و (إذا) أداة شرط غير عاملة مثل: لو، ولولا، و (جاء) فعل الشرط.(169/4)
كيفية مبايعة الرجال والنساء
وقد ذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض التنبيهات فقال: روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية، فمن أقر بهذه الشروط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك كلاماً، ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك).
قال ابن حجر: أي: لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة، يعني: أن عادة الرجال عموماً عند المبايعة؛ سواء كانت هذه المبايعة مع الأمير، أو في البيع والشراء، أو عند توثيق العقود للناس، أن يضع أحدهم يده في يد الآخر، فهذه أمارة على التوثيق وشدة الاتفاق الذي يحصل بين الناس، كما يحصل من بعض المأذونين أثناء العقد من جعل الولي والزوج يصافح أحدهما الآخر، ويقول لكل واحد منهما: انظر إليه، فهذا لا بأس به، ولا ينبغي أن نتحرج منه؛ لأنه نوع من التوثيق، وأما وضع المنديل فلا أعلم له أصلاً، ولا أعرف السر في وضعه.
يقول أحد الإخوان هنا: السر في وضع المنديل أنهم كانوا يضعون المهر قل أو كثر في يدهم فيما بينهم، على أنه المهر المسمى بينهم.
وعلى أي الأحوال فلا حرج في ذلك على الإطلاق، بل الأمر بالعكس، فإن هذا مما يزيد التوثيق مع أمارات التأكيد كالنظر إليه، فإذا قلت لك: زوجتك ابنتي، فإنك لا تدري إلى أين تنظر، فربما تنظر إلى الناحية الثانية، أو تكون خجلاً، أو تنظر في الأرض، فيأمر المأذون أن تنظر إلى عينيه، وتضع يدك في يده؛ لأن هذا نوع من توثيق العقود بينهم، وحتى البيعة -وهي من هذه الحالات- تكون بالمصافحة، ولذلك احتاجوا إلى ذكر أن بيعة الرسول عليه السلام للنساء لم تكن بالمصافحة؛ لأن الأصل أن البيعة تكون بالمصافحة.
يقول ابن حجر: أي لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة، ثم قال: وروى النسائي والطبري: (أن أميمة بنت رقيقة أخبرته أنها دخلت في نسوة تبايع فقلن: يا رسول الله! ابسط يدك نصافحك، فقال: إني لا أصافح النساء، ولكن سآخذ عليكن، فأخذ علينا حتى بلغ: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] فقال: فيما أطقتن واستطعتن، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا).
وفي رواية الطبري: (ما قولي لمائة امرأة إلا كقولي لامرأة واحدة).
وقد جاء في أخبار أخرى: (أنهن كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب) وهذا لم يصح.
وجاء كذلك في المغازي لـ ابن إسحاق عن أبان بن صالح: (أنه كان يغمس يده في إناء فيغمسن أيديهن فيه)، وهذا أيضاً ضعيف لم يصح، والمعول على رواية البخاري الأولى؛ لصحتها.(169/5)
الأدلة على منع مصافحة النساء
وهنا نمر على أدلة هذه المسالة باختصار شديد، وهي مسألة: مصافحة النساء الأجانب، فقد قلنا من قبل: إن المرأة الأجنبية هي كل من عدا المحارم من النساء، والمحارم: أصحاب القرابة الرحمية المحرمية، وهم الذين لا يحل نكاحهم لشدة القرابة، فيكون الرجل منهم محرماً لقريبته في أي سفر كالزوج أو الأب، وكما قلنا من قبل: إن حقيقة المحرم من النساء هي التي يجوز النظر إليها والخلوة بها، والسفر بها، فهي كل من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمته، سواء المحرمات بالنسب، أو المحرمات بالمصاهرة على التفصيل المعروف.
وبعض الناس يسأل ويقول: هل يجوز أن أصافح شقيقة زوجتي؟ فهو يتصور أنه ما دام يحرم عليه الجمع بينهما فهي محرم له يجوز مصافحتها!! والضابط في ذلك: أن كل النساء اللاتي هن محرمات عليك تحريماً مؤقتاً لسن محارماً لك، فزوجة الجار مثلاً محرمة عليك، لكنه تحريم مؤقت، بحيث إذا مات عنها أو طلقها يمكن أن تتزوجها، فالأصل في الفروج التحريم، والأصل أن كل النساء حرام عليك.
فيختلط الأمر على بعض الناس أحياناً، ويظن أنه يجوز له أن يصافح أخت زوجته؛ لأنه لا يقدر أن يجمع بينهما.
ولا يقال للمرأة إنها محْرم إلا أن يحرم الزواج منها على التأبيد كالأم والأخت والبنت وأم الزوجة والعمات والخالات.
أما بالنسبة لأدلة ذلك فمنها: حديث معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يطعن أحدكم في رأسه بمخيط من حديد خير له من أن يمس جلد امرأة لا تحل له) يعني: لا يحل له نكاحها، وهذا مجرد مس، ويصدق وصف المس بما كان لغير شهوة، فكيف بما فوقه؟ الدليل الثاني على تحريم مصافحة الأجنبية: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه).
متفق عليه.
يعني: أن من الناس من يكون زناه حقيقياً، ومنهم من يكون زناه مجازياً وذلك بالنظر الحرام، أو الاستماع إلى الزنا وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس باليد، وقوله: (واليد تزني وزناها البطش) لا يلزم أن يكون معنى البطش الضرب، فالمس يدخل فيه، وذلك بأن يمس امرأة أجنبية.
وكذلك هذه الأحاديث التي أشرنا إليها من امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء حال المبايعة، تقول عائشة: (فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك، كلاماً، ولا والله! ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما بايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك)، فإذا كان هذا في حق المعصوم عليه السلام فكيف في حق غيره؟ ونساء الأمة في حق الرسول عليه الصلاة والسلام محارم، فكيف بمن يخالف في ذلك؟ وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا يملكها) أي: إلا امرأة يملك نكاحها.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصافح النساء في البيعة).
وفي حديث أميمة بنت رقيقة -وأبوها عبد الله بن بجاد، وأمها رقيقة بنت خويلد أخت أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها، قالت: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة نبايعه على الإسلام، فقلن: يا رسول الله! نبايعك على ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما استطعتن وأطقتن، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم بنا نبايعك يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)، وفي بعض الروايات: (لا أمس أيدي النساء).
وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، فإذا امتنع عن المصافحة في حال المبايعة التي تقتضي المصافحة فهذا يدل على تحريم ذلك على الأمة بطريق الأولى؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مشرع لهذه الأمة، ولا شك أن أخف أنواع اللمس هو المصافحة، ومع ذلك امتنع منها النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها، وهو وقت المبايعة، فهذا يسقط كلام بعض الناس القائلين: إن هذا حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم! كيف وهو صاحب العصمة الواجبة، فإذا كان يحل له ذلك فلماذا يحرم على غيره!! وقد سدت الشريعة ذرائع الافتتان، وحرمت هذا المس؛ لأنه قد يكون ذريعة إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى؛ لقلة تقوى الله في هذا الزمان، وضياع الأمانة، وعدم التورع والريبة.
يقول صاحب مراقي السعود: سد الذرائع إلى المحرم حتم كفتحها إلى المنحتم وبعض الناس يعترضون على ذلك ويقولون: بأن هذه مثل أختك، وهذا مع الصغيرة، وأما مع الكبيرة يقولون: هذه مثل أمك، فيصافح النساء بحجة أن قلبه طاهر، ونيته سليمة.
فالجواب عن ذلك: أن الشريعة تمنع الفعل المؤدي إلى الفساد بغض النظر عن نية صاحبه، فهي تنظر إلى مآلات الأفعال، فإذا كان المآل فاسداً كان الفعل المؤدي إليه ممنوعاً، سداً لذريعة الفساد وإن لم يقصد الفاعل الفساد بفعله.
فإذا خفي القصد والنية فالراجح عدم اعتبار القول؛ لأن النية أمر غير منضبط، فقولهم عند مصافحة النساء: هذا قلبه سليم! فنقول: وكيف نعرف أن قلبه سليم أو غير سليم؟ فقد يكون قلب أحدهم سليماً، والثاني قلبه مريضاً، وفي هذه الحالة مادام أن هذا الأمر غير منضبط فلابد أن نعتبر المنضبط؛ لأن الشريعة جاءت لكل الناس وليست لطائفة مخصوصة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالباً فإنه يحرمها مطلقاً، وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي، لكن الطبع يقضي بإفضائها، فيرجح جانب إفضائها إلى التلذذ بذلك، فيحرم على الإنسان، فهذا الكلام المتعلق بهذه المسألة باختصار.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: روى مسلم عن أم عطية رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] قالت: كان منه النياحة.
أي: مما أخذ عليهن العهد به.
ولفظ البخاري عنها قالت: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علي: ((أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا))، ونهانا عن النياحة).
وأخرج الطبري بسنده إلى امرأة من المبايعات قالت: (كان مما أخذ علينا ألا نعصيه في شيء من المعروف، ولا نخدش وجهاً، ولا ننشر شعراً، ولا نشق جيباً، ولا ندعو ويلاً).
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم: (أخذ عليهن يومئذ ألا ينحن، ولا يحدثن الرجال إلا رجلاً منكن محرماً، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا نبي الله! إن لنا أضيافاً، وإنا نغيب عن نسائنا، فقال: ليس أولئك عنيت).
وهذا ليس متصلاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
وقال ألكيا الهراسي: يؤخذ من قوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] أنه لا طاعة لأحد في غير المعروف، قال: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا بمعروف، وإنما شرطه في الطاعة لئلا يترخص أحد في طاعة السلاطين.
وقد ورد ذلك صريحاً في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال في هذه الآية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيُّه وخيرته من خلقه، ثم لم يستحل له أمر إلا بشرط، فكيف ينبغي لأحد أن يطاع في غير معروف وقد اشترط هذا على نبيه؟! وأعتقد أن الأخبار التي ذكرناها من قبل أضبط، وهي أن هذا القيد للبيان.(169/6)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم)
ثم نبه تعالى في آخر السورة بما نبه به في فاتحتها من النهي عن موالاة محاربي الدين؛ تحذيراً من التهاون في ذلك، وزيادة اعتناء به، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) هذه الآية الأخيرة من السورة، وفيها الخطاب بالإيمان: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) ويدخل في هذه الآية حاطب بن أبي بلتعة قبل غيره؛ لأن الله قال في أول السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] فالخطاب كان لـ حاطب، وقلنا قبل: إن في ذلك إثباتاً لإيمان حاطب رغم ما أتى به حاطب، والمخاطب هنا أيضاً حاطب وغيره.
((لا تَتَوَلَّوْا)) يعني: لا تناصحوهم، فرجع تعالى بقوله وفضله على حاطب، فكما بدأ الآية بالفضل والإكرام لـ حاطب بوصف الإيمان، كذلك ختمها بوصفه بالإيمان.
((قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: سخط عليهم؛ لمعاداتهم الحق، ومحاربتهم الصلاح، ونشرهم للفساد، وهو عام في كل محارب، ومن المفسرين من خصه باليهود؛ لأنه عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم، واقتصر عليه الزمخشري فقال: إن المقصود بقوله: ((لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) اليهود لعنهم الله.
قال الناصر: قد كان الزمخشري ذكر في قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر:12] إلى قوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر:12] إن آخر الآية استطراد، وهو فن من فنون البيان مبوب عليه عند أهله، وآية الممتحنة هذه قد تكون من هذا الفن، فإنه ذم اليهود واستطرد في ذمهم بذم المشركين: ((لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ)).
فذم اليهود أولاً، ثم استطرد من ذمهم إلى ذم المشركين على نوع حسن من النسبة، ولا يمكن أن يوجد للفصحاء في الاستطراد أحسن ولا أمكن منه، ومما صدروا به هذا الفن، قوله: إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه فليس به بأس وإن كان ذو الجرم وقول حسان: إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت من ذا الحارث بن هشام وقوله: ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام فلما بدأ السورة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] إلى آخر الآيات، أنهى نفس السورة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] فهي كلها تحيط بالكفار، فهذا كما قلنا: يحتمل أن يكون استطراداً من ذم اليهود إلى ذم المشركين، أو أنه -إذا قلنا إنه في الكفار- من باب رد العجز على الصدر، كما يسمى التصدير، ومنه قوله تعالى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام:136] فذكر كلمة شركاء أولاً ثم رد العجز على الصدر، ومنه قولهم: القتل أنفى للقتل، فهذا من رد العجز على الصدر، ومنه أيضاً قولهم: الحيلة ترك الحيلة، ومنها قول الشاعر: تسير نجوم الدائرات بحكمه وذاك إذا عدت علاه يسير ومنها أيضاً: لقد حاز أنواع الفضائل كلها وأمسى وحيداً في فنون الفضائل ومنها قوله: سألت صروف الدهر حظ مملك فشحت وجادت لي بحظ أديب يقصد بحظ الأديب الفقر، فإن الأدباء يقولون: إن من حكمة الله سبحانه وتعالى أننا نجد الشخص الأديب العالم فقيراً، ونجد الجاهل المغرق في الجهل غنياً.(169/7)
فائدة في معنى الاستطراد
وهنا ننبه تنبيهاً حول الاستطراد، فنقول: الاستطراد هو التعريض بعيب إنسان بذكر عيب غيره لمتعلق، أو نفي عيب عن نفسه لذكر عيب غيره، مثل قول الله سبحانه وتعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم:45] فهنا تعريض بأولئك الذين يسكنون حالياً في مساكنهم، فهذا استطراد، وذلك أنه أتى في حق هؤلاء الذين سكنوها من قبل، مع أن المقصود عين هؤلاء الحاضرين، ومثل قوله تعالى أيضاً: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:13 - 14] إلى آخره، فما أحسنه من استطراد! ومثله أيضاً قول الله تعالى: {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:95].
ومنه في الشعر قول السموأل بن عادياء: وإنا لقوم لا نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول فهو يريد يمدح قبيلته بعيب غيرها.
ثم قال: يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول وقال آخر: ولا عيب فينا غير عرق لمعشر كرام وأنا لا نخط على النمل فهذه يريد أن يقول أنا لست مجوسياً؛ لأن المجوس يبيحون زواج المحارم والعياذ بالله، ويزعمون أن الرجل منهم إذا تزوج أخته أو بنته فجاءت منه بولد فإن ذلك الولد إذا خط بيده على داء النملة أبرأته، وهذا من ضلالهم وأساطيرهم، فهذا الرجل يذم هؤلاء ويقول: إني أتبرأ من المجوسية، فيقول: ولا عيب فينا غير عرق لمعشر كرام وأنا لا نخط على النمل أي: العيب الوحيد فينا أن فينا عرق من قوم كرام من آبائنا.
فالاستطراد هو التعريض بعيب إنسان بذكر عيب غيره لمتعلق، والاستطراد في قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ))، أنه ورد في ذم اليهود، فاستطرد من ذمهم إلى ذم المشركين.(169/8)
معنى قوله: (قوماً غضب الله عليهم)
قوله: ((غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: يرى المفسرون أن هذه الآية في ختام هذه السورة كالآية الأولى في أولها، وهذا ما يسمى عوداً على بدأ.
قال أبو حيان: لما افتتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء ختمها بمثل ذلك؛ تأكيداً لترك موالاتهم، وتنفيراً للمسلمين عن توليهم، وإلقاء المودة إليهم.
وقال ابن كثير: ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة كما نهى عنها في أولها.
قال الشيخ عطية سالم: يظهر لي -والله تعالى أعلم- أنها لم تكن لمجرد التأكيد للنهي المتقدم، ولكنها تتضمن معنى جليلاً وذلك للآتي: أولاً: أنها نص في قوم غضب الله عليهم، وعلى أنها للتأكيد حملها البعض على العموم؛ لأن كل كافر مغضوب عليه، وحملها البعض على خصوص اليهود؛ لأنه صار وصفاً لهم، وهو قول الحسن وابن زيد، قاله أبو حيان.
ومما تقدم للشيخ الشنقيطي في مقدمة (الأضواء): أنه إذا اختلف في تفسير آية وكان أكثر استعمال القرآن لأحد المعنيين فإنه يكون مرجحاً له على الآخر، وهو محقق هنا كما قال الحسن؛ لأن صفة الغضب أصحبت عرفاً على اليهود، فإذا قلنا: أمة الغضب، انصرف الذهن مباشرة إلى اليهود لعنهم الله، فهذا الوصف أصبح من جهة العرف وصفاً لليهود، وقد خصهم الله تعالى بهذا الوصف في عدة آيات مثل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60] وقال تعالى: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة:90]، وقد فرق الله بينهم وبين النصارى في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، وصحت الأحاديث بأن المقصود بالضالين: النصارى، وغير المغضوب عليهم: اليهود.
ولو قيل: إنها في اليهود وفي المنافقين لما كان بعيداً؛ لأنه تعالى نص على غضبه على المنافقين في سورة المجادلة في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] وعلى هذا فهي تشمل اليهود والمنافقين.
والغرض من تخصيصها بهما، وعودة ذكرهما بعد العموم المتقدم في: (عدوي وعدوكم) هو -والله تعالى أعلم- أنه لما نهى أولاً عن موالاة الأعداء، وأمر بتقطيع الأواصر بين ذوي الأرحام، جاء بعدها ما يشيع الأمل فقال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7]، و ((عَادَيْتُمْ)) عامة باقية على عمومها، ولكن اليهود والمنافقين لم يدخلوا في مدلول (عسى).
يعني: لأن احتمال إسلام اليهود نادر جداً، فيكاد أن ينقطع الأمل في إسلامهم، لذلك لو عملت إحصائية في عدد اليهود الذين دخلوا في الإسلام فستجد ذلك نادراً جداً، ولا ننكر وجود ذلك فإن الله على كل شيء قدير، فيصطفي من يشاء من عباده، لكنه نادر، بخلاف النصارى وغيرهم فإن أعداداً ضخمة منهم تدخل في الإسلام.
يقول: ولكن اليهود والمنافقين لم يدخلوا في مدلول (عسى) هنا، فنبه تعالى عليهم بخصوصهم في هذه الآية؛ لئلا يطمع المؤمنون أن ينتظروا شيئاً من ذلك، فأيأسهم من موالاتهم ومودتهم، العدم الإيمان الذي هو رابطة الرجاء المتقدم في (عسى) أي: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7] بأن يدخلوا في الإسلام بعد أن قاطعتموهم لوجه الله وصدقتم في ذلك، فالله قادر على أن يكافئكم بأن يهديهم للإسلام فتنقلب المعاداة إلى مودة.
فكان الأمر كما أخبر الله سبحانه وتعالى، فقد جعل المودة من بعض المشركين، وذلك أن كثيراً منهم آمن بعد ذلك، ولم يجعلها من المنافقين ولا اليهود، فهي إذاً مؤسسة لمعنى جديد، وليست مؤكدة لما تقدم، والعلم عند الله تعالى.
فهذا فيما يتعلق باختيار الشيخ عطية سالم في تفسير هذه الآية.(169/9)
معنى قوله: (قد يئسوا من الآخرة)
قوله: ((قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ)) يعني: قد يئسوا من جزاء الآخرة؛ لأنهم كذبوا بها، ولذلك طغوا وبغوا وعاثوا، فإذا قلنا: إن الذين غضب الله عليهم هم اليهود، فاليهود قد يئسوا من الآخرة؛ لأنهم بتكذيبهم للنبي محمد عليه الصلاة والسلام قد يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة خير؛ ولذلك طغوا وبغوا وعاثوا.
وقوله: ((غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) صفة لـ (قوماً) في محل نصب، وقوله: ((قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ)) صفة ثانية.
وقيل: ((قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ)) يعني: من جزاء الآخرة، ((كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ)) أي: كما يئس سلفهم من إخوانهم الكفار المقبورين، يعني: أنهم على شاكلة من قبلهم، وكل مؤاخذ بكفره.
وقيل المعنى: كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا، وقيل: كلاهما ييئس من جزاء الآخرة.
وقيل: إن كلمة (يئس) مرتبطة بحرف (من)، أي: أن الكفار الأحياء يئسوا من أصحاب القبور؛ لأنهم هم الذين يقولون: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] فلا آخرة ولا بعث ولا نشور بزعمهم.
وعلى القول بأن المعنى: كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا، يكون في الآية وضع الظاهر موضع المضمر، أي: قد يئسوا من الآخرة كما يئسوا من أصحاب القبور، لكن آثر المظهر على المضمر فقال: ((كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ))؛ لكي يثبت عليهم صفة الكفر، وأيضاً ليبين لهم ما هو الشيء الذي اقتضى الغضب عليهم، وهو الكفر.
وهذا آخر ما تيسر في تفسير سورة الممتحنة.(169/10)
تفسير سورة الصف [5 - 14](170/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني)
يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
((وَإِذْ قَالَ مُوسَى)) يعني: واذكر لمن يؤذيك من المنافقين ما صنعت بالذين آذوا موسى عليه السلام.
وهنا نذكر بعض الفوائد في التفسير تعيننا على فهم هذه الآيات، منها: قال الله حكاية عن موسى: ((وإذا قال موسى لقومه)) بينما قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الصف:6]، ولم يقل عيسى: يا قوم! والعلة في ذلك أن عيسى بن مريم عليه السلام ليس له في بني إسرائيل نسب من جهة أبيه؛ لأنه لا أب له، وأما موسى فأبوه وأمه من بني إسرائيل.
(لم تؤذونني) أي: لم توصلون إلي الأذى بالمخالفة والعصيان لما آمركم به؟ و (قد) هنا على سبيل التحقيق، (تعلمون) أي: وأنتم تعلمون علم اليقين صدقي بما جئتكم به من الرسالة؛ لما شاهدتم من الآيات البينات، ومقتضى علمكم بذلك تعظيمي وطاعتي؛ فمن عرف الله وعظمته عظم رسوله، لأن تعظيم رسوله من تعظيمه.
قال ابن كثير: وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر، يعني: لست بدعاً من الرسل، ولست أول رسول يؤذى، بل سبقك موسى عليه السلام، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رحمة الله على موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، وفيه نهي للمؤمنين أن يوصلوا له صلوات الله وسلامه عليه أي أذى كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69].
وهنا أنبه على شيء مما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام وهو كثرة الجدال في بعض الأمور فأحياناً بعض الناس يروق لهم فتح بعض الموضوعات وقتلها بحثاً، ويكثر الجدال والسؤال فيها، ونحن لا نقول فيها بخلاف الحق، ولكن يكفي فيها التنبيه، والإنسان لا يخوض أكثر من هذا، فمثلاً مسألة مصير أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام وأنهما في النار، هذه المسألة دليلها واضح، وهما كلمتان وينتهي الموضوع، وأما كثرة الكلام فيها فقد كرهه بعض العلماء؛ لما فيه من إيذاء رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ولا نقول فيها كما يقول الصوفية: إنهما قد أُحييا له فآمنا به ثم ماتا، فإن هذا من خرافات الصوفية، ولكننا نقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله رجل، أين أبي؟ قال: (إن أبي وأباك في النار) وقوله: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي) فالإنسان يكفيه هذا، ولا يخوض ولا يكثر الكلام؛ حتى لا يؤذي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(170/2)
بعض صور إيذاء اليهود لعنهم الله للأنبياء والمؤمنين
قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا موسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا)) هذا مظهر من مظاهر أذية اليهود -لعنهم الله- للأنبياء، حتى وصل الأمر إلى حد القتل، فقتلوا بعض الأنبياء، وآذوا موسى عليه السلام الذي يتشدقون بأنه نبيهم، وأنهم يعظمونه ويحبونه إلى آخره، وقد لقي موسى عليه السلام منهم الأمرين.
فالشر كامن في بني إسرايل كمون اللؤم في الذئب، وقد قيل: من التعذيب تهذيب الذيب، فإذا وجدت ذئباً مثلاً فلا تحاول أن تهذبه أو تعدل من أخلاقه، لأنه لا يتعدل، ولا يقبل التعديل أبداً، وهذا مما نستفيده من قصص القرآن الكريم في شأن اليهود لعنهم الله، فالعنصر الجيني والعنصر الوراثي وأخلاقهم واحدة في كل حين، وفيهم نفس اللؤم، ونفس الغدر، ونقض العهود، وكراهية الخير للناس، والحسد؛ فكل هذه الأشياء صفات راسخة فيهم غير قابلة للتغيير، فلا أمل في إصلاحهم، واليهود ليسوا كأي عدو، فيا سوء من ابتلي بعداوة اليهود؛ فإنه قد ابتلي بشيء عظيم جداً.
فالمهم أن هذه إحدى صور الإيذاء كما هي واضحة في الآية: ((لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))، وكذلك ما يفعله اليهود اليوم من أذية المسلمين ويتفننون في ذلك، فقد قامت بعض مصانعهم بكتابة لفظ الجلالة على الأحذية والنعال قبحهم الله، وما أكثر ما يفعلونه استفزازاً مما تتزلزل له الجبال، وترتجف له القلوب، وتندك له الأرض والجبال، ففي بعض المناطق دخل بعض جنودهم المجرمين في أماكن الخلاء، واستنجوا بصفحات من القرآن الكريم، فهذه طباعهم: أذية الله، وأذية الرسل، وحتى موسى ما سلم منهم، وهم يتشدقون بأن موسى هو نبيهم المعظم، وكذلك كثير من أنبيائهم ما سلموا منهم، فافتروا كذباً عليهم، ولا أمل في تغيرهم؛ بدليل أن صفاتهم هي نفسها في كل الأيام لم تتغير.
وقد عاتب الله الذين عاصروا منهم النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة على أشياء فعلها أجدادهم لكنه نسبها إليهم كما قال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} [البقرة:72]، لأنها أصيلة في طباعهم، وقد يمكن أن تكون الجينات أو الخريطة الوراثية لليهود مختصة ببعض الصفات الإجرامية، وبالذات التخصص في أذية الله، وأذية رسوله، وأذية المؤمنين.
وبسبب نزول قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى)) معروف، وهو ما جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن موسى عليه السلام كان حيياً ستيراً، لا يرى من جلده شيء، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يتستر موسى هذا التستر إلا من عيب في جلده: إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، فأراد الله عز وجل أن يبرئه مما قالوا، فخلا يوماً وحده، فخلع ثيابه على حجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه -أي: جرى الحجر بالثوب- فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يضربه ويقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله عز وجل، وبرأه الله مما يقولون).
فإيذاؤهم له هنا إيذاء شخصي، فإن أذية بني إسرائيل للأنبياء متنوعة وكثيرة وعديدة، فمن ضمن هذه الأذية أذيتهم له في شخصه، وذلك بأن اتهموه أن فيه عيباً جسدياً في الخلقة، وسبب النزول هذا صحيح في آية الأحزاب، لكنه لا يصح هنا في آية الصف: ((يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))؛ لأن قول موسى عليه السلام: ((وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)) يشير إلى أن الإيذاء في جانب الرسالة لا في جانبه الشخصي؛ بدليل قوله تعالى بعدها مباشرة: ((فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)).
يعني: فلما زاغو بما آذوا به موسى، فيكون إيذاء قومه له هنا إيذاء زيغ وضلال، وقد آذوه كثيراً في ذلك كما بينه الله تبارك وتعالى في قوله عنهم: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، وكذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:93].
وطباع اليهود -كما قلنا مراراً- غير قابلة للعلاج؛ لأنها مترسخة فيهم إلا من يشاء الله سبحانه وتعالى هدايته منهم؛ ولذلك تجد الذين يسلمون من اليهود قليلين جداً كالكبريت الأحمر، في حين نجد النصارى يدخلون الإسلام بالآلاف، وكذلك غيرهم من أهل الملل الأخرى، أما اليهود فهذا شيء نادر؛ وذلك لشدة قسوة قلوبهم.
وقصص اليهود وحكاياتهم لا تنتهي من كثرتها، فتجدهم يتحايلون على بعض الأشياء في شريعتهم، فالنساء اليهوديات في كثير من البلاد خصوصاً في منطقة بروكلين في أمريكا وهذه المنطقة اليهود فيها أقوى من اليهود في فلسطين المحتلة، فتجد أن النساء كلهن يلبسن باروكة من نوع واحد، وذلك لأنهن يحلقن رءوسهن بناء على شيء معين في شريعتهم -والله أعلم- يلزم النساء بالحلق، فيتحيلن عليه بأن يعملن شعرهن بهذه الطريقة، ثم يلبسن فوقه باروكة، وهو أيضاً نوع من التبرج، وقصصهم في ذلك تطول جداً.(170/3)
خسة اليهود وغدرهم
فاليهود فيهم اللؤم والغدر والخسة والنذالة ونقض العهود، والناس يرون أخلاقهم عياناً الآن، ولا يبعد أن الغربيين جمعوهم في فلسطين كي يتخلصوا من شرهم، ومع ذلك لم يتخلصوا منهم، وقد خطب إبراهام لنكولن رئيس أمريكا السابق خطبة شديدة حذر فيها من اليهود، وقال: إن أمريكا في يوم من الأيام سوف يستعبدها اليهود إن تركتموهم ولم تلتفتوا إليهم.
وهذا هتلر أُثر عنه أنه قال: قتلت نصف اليهود، وتركت النصف الثاني؛ لتعرف البشرية لماذا قتلت النصف الأول.
لقد ابتلينا بعدو من نوع خاص، وهو من أصعب الأعداء؛ للؤمه وغدره وخسته، وما يحصل الآن مع الفلسطينيين يكشف هذه الخسة وهذه النذالة.
يقول الله لهم بعد ما رفع فوقهم الطور: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} [البقرة:93] وانظر إلى الرد: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:93].
فأخذ الميثاق عليهم، ورفع الطور فوقهم، وقوله لهم: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) هذا كله يساوي قول موسى عليه السلام: (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)؛ لأن (قد) هنا للتحقيق كقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144]، ومع ذلك يؤذونه بقولهم: (سمعنا وعصينا).
وقد كانوا يخاطبون نبيهم باسمه: يا موسى! كذا وكذا، وقالوا له أيضاً: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، فقد آذوا سيدنا موسى عليه السلام إيذاء عجيباًً، وآذوه عندما أشربوا في قلوبهم حب العجل وعبادته بكفرهم، قال الله عنهم: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا موسى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153]، وهذه مواساة للرسول صلى الله عليه وسلم، أي: لست أنت أول من يؤذى، فهذا نبيهم قد أوذي منهم.
إذاً: الإيذاء المنصوص عليه هنا في سورة الصف: ((يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))، هو في خصوص الرسالة، ولا مانع من أنهم آذوه بأنواع من الإيذاء في شخصه، كما في آية الأحزاب، وعاقبهم على إيذائه بما أرسل به إليهم لغيظ قلوبهم.(170/4)
نوع الأذية اليهودية لموسى المشار إليها في سورة الصف
يقول الإمام المفسر أبو السعود في تفسير هذه الآية: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)): هذا كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال، و (إذ) منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين، أي: واذكر هؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى لبني إسرائيل: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21]، فلم يمتثلوا أمره، وعصوه أشد عصيان حيث قالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22] إلى قوله: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، وأصروا على ذلك، وآذوه عليه الصلاة والسلام كل الأذية، هذا هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم، ويرتضيه الذوق السليم.
وأما ما قيل بصدد بيان أسباب الأذية من أنهم كانوا يؤذونه بأنواع الأذى: من انتقاصه، وعيبه في نفسه، وعصيانه فيما تعود عليهم منافعه، وعبادتهم البقر، وطلبهم رؤية الله جهرة، فمما لا تعلق له بالمقام.
فقوله: ((لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)) هو الذي حدا ببعض المفسرين -كما ترون- إلى القول بأن الأذية هنا أذية موسى بخصوص الرسالة، فخلاصة الكلام أن المقام يعين نوع الأذية ويخصصها، والقرينة إحدى مخصصات العام، إلا أن أخذها عامة أعظم في في المواساة وأولى؛ وقوفاً مع عموم اللفظ الكريم، وسواء قلنا بالعموم في أنواع الأذية، أو الإيذاء في الرسالة خاصة فكل ذلك يفيد مواساة النبي عليه الصلاة والسلام بما وقع لموسى عليه السلام من اليهود.(170/5)
معنى قوله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم)
قوله: (فَلَمَّا زَاغُوا) يعني: مالوا عن الحق مع علمهم به؛ وذلك لفرط الهوى، وحب الدنيا.
((أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)) أي: عن طريق الهدى، وحجبهم عن نور الكمال؛ لفرط انحرافهم نحو الغي والضلال.
ونلاحظ هنا أن محل الزيغ ومحل الهداية إنما هو القلب؛ لذلك قال تعالى: ((أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ))، فإن القلب إذا زاغ زاغ البدن، فالقلب ملك البدن، لذلك فأصل الزيغ يكون فيه.
والهداية أيضاً تكون للقلب بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، ولذلك جاء في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8].
فجمع بين الأمرين: الزيغ والهداية (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) يعني: أمالها عن الحق؛ جزاء لما ارتكبوه كما قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10]، وقوله أيضا: ً {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام:25]، وقال تعالى: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف:101].
ويشهد لهذا التفسير قياس العكس، وبيان ذلك: أن الله تعالى قال في حق هؤلاء اليهود: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، وقياس العكس: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17].(170/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل)
يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6] ذكرنا قبل أن الله تعالى حكى عن عيسى قوله: (وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل)، في حين حكى عن موسى قوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ)، وذلك أن عيسى عليه السلام ليس له في بني إسرائيل نسب من جهة أبيه، وإن كان هو من بني إسرائيل من جهة أمه؛ لأن أمه من نسل هارون كما في قوله تعالى: (يَا أُخْتَ هَارُونَ)، بخلاف موسى عليه السلام، فإن له نسباً فيهم.
قوله: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) أي: التي أنزلت على موسى، وذلك مما يدعو إلى تصديقه عليه السلام.(170/7)
البشارة ببعثة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب الماضية
قوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) صلى الله عليه وسلم، وهناك قراءة أخرى وهي: (من بعديَ اسمه).
(فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالدلالات التي آتاه الله إياها حججاً على نبوته (قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي: سحر بيِّن.
يقول ابن كثير: فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، فقد أقام في ملأ بني إسرائيل مذكراً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة.
إن كلمة الإنجيل معناها البشارة، يعني: أنه الذي يبشر بمحمد عليه الصلاة والسلام، فالبشارة التي نطق بها عيسى والتي بشر بها حتى وهو في المهد هي المقاصد الرئيسية لرسالة المسيح، فقد بشر بالنبي الآتي للعالمين وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فكلمة الإنجيل لها ارتباط بالبشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والإشارة في قوله: ((قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)) إلى ما جاء به، وتسميته سحراً مبالغة، يريد عليه السلام أن ديني هو التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر، فقوله: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)، هذا فيما تقدم وقوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) عليه الصلاة والسلام هذا فيما سيأتي.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: ذكر موسى ولم يذكر معه البشرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عيسى فذكرها معه، مما يدل بمفهومه على أنه لم يبشر به إلا عيسى عليه السلام، وهذه الطريقة في الاستنباط مبنية على الاحتجاج بمفهوم اللقب، ومفهوم اللقب لا عمل عليه عند الأصوليين، وقد بشر به صلى الله عليه وسلم جميع الأنبياء، ومنهم موسى وإبراهيم عليهما السلام، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم) يعني قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة:129] وهو محمد عليه الصلاة والسلام.
فجميع الأنبياء -بمن فيهم موسى- بشروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومما يشير إلى أن موسى أيضاً قد بشر به قول المسيح في هذه الآية: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)، وما بين يديه هي التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، وكذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157].
وقوله في سورة الفتح: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] فهذا وصف الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة في التوراة، {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:29] وهذا يدل أيضاً على أنهم وصفوا في الإنجيل.
وجاء النص في حق جميع الأنبياء في آية آل عمران: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه.
وجاء أيضاً مصداق ذلك في قصة النجاشي لما سمع من جعفر عليه السلام سورة مريم فقال: أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى عليه السلام، وقال أيضاً: والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي التي رأ) أي: حينما رأت أم النبي عليه الصلاة والسلام نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام.
وهنا خُص عيسى بالنص على البشرى به عليه الصلاة والسلام، لأن عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل فهو ناقل تلك البشرى لقومه عمن قبله، وقال أيضاً: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [آل عمران:50]، ومن قبله ناقل عمن قبله، وهكذا حتى صرح بها عيسى عليه السلام وأداها إلى قومه؛ لأن أهم نبي من الأنبياء يشهد لمحمد بالرسالة، ويبشر به هو الذي ليس بينه وبينه نبي، فلابد أن يذكر لهم ذلك قبل أن يغادر الدنيا؛ ففيما مضى كان كل نبي يبلغ البشارة لمن بعده، وكان بين عيسى وموسى أنبياء كثيرون من بني إسرائيل، فكل نبي يحملها إلى من بعده، إلى أن أتى المسيح عليه السلام فصار ذلك في حقه أوكد، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى الناس بعيسى؛ ليس بيني وبينه نبي).
فعيسى خاتم أنبياء بني إسرائيل، ونبينا خاتم الأنبياء على الإطلاق عليه الصلاة والسلام.
وقوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) جاء في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر أسمائه: (أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، وأنا العاقب).
وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه أحمد، وذكر باسمه محمد في أكثر من موضع من القرآن الكريم كما في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وسورة آل عمران، وذكر بصفات عديدة كقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
وهذا الموضوع -أعني: البشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من الموضوعات التي تستحق أن تفرد، وقد أفرد كثيرون في شتى العصور هذا الموضوع بالدراسة المستفيضة، وجرياً منا على سنن الاختصار سنحاول أن نجمل الإشارة إلى بعض هذه البحوث.(170/8)
الفرق بين محمد وأحمد من حيث اللغة
قال الإمام ابن القيم في (جلاء الأفهام في التفرقة بين محمد وأحمد عليه الصلاة والسلام): إن محمداً هو المحمود حمداً بعد حمد، فهو دال على كثرة حمد الحامدين له، وذلك يستلزم كثرة موجبات الحمد فيه.
أي: كثرة الصفات التي تجعل الناس يحمدونه عليها.
أما أحمد فهو أفعل تفضيل من الحمد، فيدل على أن الحمد الذي يستحقه أفضل مما يستحقه غيره، فمحمد فيه زيادة حمد في الكمية، وأحمد فيه زيادة حمد في الكيفية، فيُحمد أكثر حمد، وأفضل حمد حمده البشر.
وهذا هو الوجه الأول في الفرق بين محمد وأحمد.
ومن العجيب أن مدح الرسول عليه السلام وحمده لم يقتصر على المسلمين والمؤمنين به، بل تجد بعض المنصفين من الكفار يثنون على النبي صلى الله عليه وسلم ثناء عجيباً، فهنا يتبادر سؤال وهو: لماذا لم يسلم هذا الشخص؟ وقد قرأنا مدحاً كثيراً للنبي صلى الله عليه وسلم من بعض المستشرقين وغيرهم من الكفار، ومنهم أديب ألماني له قصائد عجيبة في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك هناك رجل روسي له مقالات رائعة في حمد النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك ابن المهاتما غاندي الذي انتهى به الأمر إلى الإسلام، وقد أثنى على الرسول عليه الصلاة والسلام ثناء عجيباً، وهو من الهند.
ومنهم أيضاً صاحب كتاب (دعوة إلى الإسلام)، وهذا الكاتب عندما أقرأ كتابه هذا لا أتصوره إلا مثل شيوخ المسلمين: بعمامة، ولحية وغير ذلك، فهو يتكلم بإعجاب وانبهار غير عاديين عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك عن المسلمين! فإذا كان الكفار قد أثنوا هذا الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بالمؤمنين!! والرسول صلى الله عليه وسلم له اختصاص بصفة الحمد، فاسمه أحمد ومحمد، وأمته أمة الحمد، وهو حامل لواء الحمد يوم القيامة، وافتتح كتابه بالحمد، وآخر دعوة لأهل الجنة في الجنة هي الحمد: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10].
والحمد أعم من الشكر، ويعتقد بعض الناس أن الحمد لله بمعنى شكر الله، وهذا غير صحيح؛ فالشكر نوع من أنواع الحمد، فالحمد يشمل الثناء على الله بما هو أهله من المدح والثناء.
الوجه الثاني في الفرق بين محمد وأحمد: أن محمداً هو المحمود حمداً متكرراً، وأحمد هو الذي حمده لربه أفضل من حمد الحامدين غيره، فدل أحد الاسمين -وهو محمد- على كونه محموداً، ودل الاسم الثاني -وهو أحمد- على كونه أحمد الحامدين لربه، وهذا هو القياس، فإن أفعل التفضيل والتعجب عند جماعة البصريين لا يبنيان إلا من (فَعل) الفاعل لا من (فُعِل) المفعول؛ ذهاباً إلى أنهما إنما يصاغان من الفعل اللازم لا المتعدي.
ونازعهم آخرون، فجوزوا بناءهما من الفعل الواقع على المفعول؛ لقول العرب: ما أشغله بالشيء! قال ابن مالك في ألفيته: فصغهما من ذي ثلاث صرفا قابل فضل تم غير ذي انتفاء وغير ذي وصف يضاهي أشهلا وغير سالك سبيل فُعلا ثم قال ابن القيم: والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم سُمي محمداً وأحمد؛ لأنه يحمد أكثر مما يحمد غيره، وأفضل مما يحمد غيره، فالاسمان واقعان على المفعول، وهذا هو المختار، وذلك أبلغ في مدحه، وأتم معنى، ولو أريد به اسم الفاعل لقلنا: الحماد، وهو كثير الحمد، كما قلنا: محمد وهو المحمود كثيراً، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر الخلق حمداً لربه، فلو كان اسمه باعتبار الفاعل لكان الأولى أن يسمى حماداً، كما أن اسم أمته الحمادون.
وأيضاً: فإن الاسمين إنما اشتقا من أخلاقه وخصاله المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمداً وأحمد عليه الصلاة والسلام.
فهو الذي يحمده أهل الدنيا وأهل الآخرة، ويحمده أهل السماوات والأرض، فلكثرة فضائله التي تفوت عد العادين سمي باسمين من أسماء الحمد يقتضيان التفضيل والزيادة في القدر والصفة.(170/9)
التوراة تبشر بالنبي الأمي
سنقف هنا وقفة مع الإشارة التي ذكرها عيسى عليه السلام في هذه السورة: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6].
إن ظاهرة عامة، وحدثاً خطيراً كنبوة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، وبعثته إلى الناس كافة تترتب عليها آثار عظيمة؛ لأن دعوته تتضمن دعوة كل الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له وفقاً لما يوحيه في رسالته الخاتمة إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فمثل هذا الأمر الخطير لا بد أن تسبقه إرهاصات ومقدمات ومبشرات تهيئ البشرية لاستقبال هذا الحدث الجلل، وتوجد في قلوبهم استعداداً كاملاً لتقبل هذه الحقيقة، يقول الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157].(170/10)
هرقل يقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
إن هناك ظاهرة هامة جديرة بالتسجيل، يدركها الدارسون للنصوص التاريخية التي تتحدث عن فترة ما قبل البعثة المحمدية الشريفة، وهي: أن الناس الذين كان لهم صلة بكتاب سماوي كانوا يرتقبون ظهور نبي على وشك أن يبعث، بل إن بعض علمائهم قد بادر إلى إعلان إسلامه بمجرد اجتماعه برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا هرقل لما سمع أبا سفيان وقد سأله أسئلة معينة عن صفات الرسول عليه الصلاة والسلام ودعوته قال في نهاية الحديث: (إن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه) رواه البخاري.
إن هرقل لم يفهم رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام التي أرسلها له، والتي فيها: (أسلم تسلم) فقد وعده بالسلامة، وهو يقول هنا: (فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه) وكأنه يقول: أخاف إن ذهبت إليه مؤمناً به أن تقتلني النصارى، فلم يفقه معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أسلم تسلم)، فكان ينبغي أن يضحي بالملك ولا يبالي، وأما ضمان السلامة فقد ضمنها له، لكنه لم يفقه هذا الوعد، والله تعالى أعلم.(170/11)
إسلام سلمان والجارود بن أبي العلاء ناجم عن البشارات
ومن ذلك ما ثبت بإسناد حسن أن سلمان الفارسي رضي الله عنه تنقل بين علماء النصارى حتى دله آخرهم على قرب مبعث نبي في بلاد العرب، فكان ذلك سبب مجيئه إلى المدينه وسكناه فيها، وذلك في قصة طويلة معروفة.
وكذلك المقوقس ملك القبط، لما كتب إليه الرسول عليه السلام داعياً إياه للإسلام، رد عليه المقوقس بقوله: أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك.
وجاء الجارود بن العلاء -وكان من علماء النصارى في قومه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان مما قال: والله! لقد جئت بالحق، ونطقت بالصدق، والذي بعثك بالحق نبياً! لقد وجدت وصفك في الإنجيل، وذكر بك ابن البتول عليه السلام.
يعني: المسيح، وأسلم الجارود، ومعه قومه.(170/12)
أم المؤمنين صفية تذكر عن أبيها وعمها معرفة الرسول المبشر به
ومن ذلك أيضاً قصة ذكرتها أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها عن أبيها وعمها، وكان أبوها وعمها يهوديين، قالت صفية رضي الله تعالى عنها: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر مغلسين -أي: في وقت الغلس، وهو الظلمة التي تكون بعد طلوع الفجر- فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما، فما التفت إلي أحد منهما، فسمعت عمي يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: أتثبته وتعرفه؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت أبداً)، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولكن هذا هو جحود اليهود ونكرانهم.(170/13)
إسلام عبد الله بن سلام بسبب معرفة صفات النبي المذكورة في كتبهم
ومن ذلك أيضاً قصة إسلام عبد الله بن سلام، وقد كان من علماء اليهود وأحبارهم، قال رضي الله عنه: لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له -يعني: ننتظره- فكنت مسراً لذلك صامتاً عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: خيبك الله! والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادماً ما زدت! فقلت لها: أي عمة! هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، وبعث بما بعث به، فقالت: فذاك إذن، قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا.(170/14)
إسلام النجاشي بسبب البشارات
ومن ذلك أيضاً ما وقع من النجاشي ملك الحبشة حين هاجر إليه بعض الصحابة، وأرسلت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد لحث النجاشي على طردهم، فلما قرأ عليه جفعر بن أبي طالب سورة مريم قال النجاشي: فأنا أشهد أنه رسول الله، والذي بشر به عيسى بن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه.(170/15)
تبشير اليهود بمحمد هو سبب مبادرة الأنصار إلى الإسلام
وكذلك اشتهر حديث اليهود للأوس والخزرج عن خروج نبي، وكان ذلك من جملة العوامل التي هيأتهم للإيمان، وجعلتهم مستعدين لتقبل الرسالة.
فعن سلمة بن سلامة رضي الله عنه قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، فخرج علينا يوماً من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، فوقف على مجلس بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سناً، علي برد مضطجعاً فيها بفناء أهلي، فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك لقوم أهل شرك وأصحاب أوثان لا يرون أن بعثاً كائناً بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان! ترى هذا كائناً: أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون فيها بعملهم؟! قال: نعم، والذي يحلف به! لوَدَّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه، ثم يدخلونه إياه، فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غداً، قالوا له: ويحك! وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن في الجنوب، قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إلي، -أي: إلى سلمة بن سلامة - وأنا من أحدثهم سناً، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، -يعني: إذا كبر هذا الغلام وقارب الموت يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد بعث- قال سلمة: فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به! أي: لما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام كفر به ذلك اليهودي بغياً وحسداً.
إن اليهود ينظرون إلى العرب الذي هم من نسل إسماعيل على أنهم أولاد الجارية سارة، أما هم فأولاد الحرة هاجر؛ ولذا ينظرون إلى العرب نظرة الازدراء والاحتقار، وكذلك ينظرون إلى العرب على أنهم أناس أميون، وأما هم فأهل كتاب، وشعب الله المختار، فهذه النظرة تجعلهم يظنون ألن يبعث الله نبياً من هؤلاء: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةَُ} [القصص:68]، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.(170/16)
ذكر بشارة من الإنجيل
وجاء في إنجيل يوحنا أن اليهود من أورشليم -وهو الاسم القديم للقدس- أرسلوا كهنة ليسألوا المعمدان الذي هو يحيى أو يوحنا المعمدان، حين ذاع خبر نبوته، فذهب إليه هؤلاء الكهنة وقالوا: المسيح أنت؟ فقال: لست أنا المسيح، فسألوه: إذن ماذا؟ إيلياء أنت؟ فقال: لست أنا، فقالوا: النبي أنت؟ فأجاب: لا.
فيظهر لنا من الكلام أنهم سألوه: أأنت النبي؟ واللام هنا للعهد، أي: أن هناك نبياً سيأتي وهو وغير المسيح وغير إيليا، النبي أنت؟ فأجاب: لا، والمقصود أنهم سألوه، أأنت النبي المعهود الذي أخبر به موسى؟ فعلم من ذلك أن هذا النبي كان منتظراً مثل المسيح وإيلياء، وكان مشهوراً، بحيث لا يحتاج إلى ذكر اسمه، بل كانت الإشارة إليه بمجردها كافية.
ومع وقوع التحريف في كتب القوم إلا أنها بقيت تحوي كثيراً من البشارات ببعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانت كتبهم فيما مضى تحوي بشارات صريحة تحمل اسم محمد أو أحمد أو ما يقاربهما.
وللإمام الشوكاني رسالة صغيرة حققها الدكتور إبراهيم هلال، ذكر فيها أنه نقل عن توراة كانت موجودة ومشهورة جداً عند رجل من أحبار اليهود في اليمن، فنقل منها نصوصاً فيها لفظ محمد وأحمد بهذه الصراحة، أي: أن هذا كان موجوداً في عهد الإمام الشوكاني.
وحتى التوراة والأناجيل التي في أيديهم الآن مع التحريف الذي وقع فيها مازالت تحوي عبارات من البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.(170/17)
البشارة بالفارقليط
كانت كتب النصارى فيما مضى تحوي بشارات صريحة تحمل اسم محمد أو أحمد عليه الصلاة والسلام أو ما يقاربهما، وذلك يعلم بالتأمل في النقول التي نقلها بعض علماء المسلمين من الأناجيل في عصرهم كما نطقها المسيح عليه السلام تماماً: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)، فما كان من القوم إلا أنهم ترجموا الاسم العلم -أحمد- وحولوه إلى صفة؛ والأصل أن الاسم العلم عندما يترجم من لغة إلى أخرى يبقى النطق به كما هو، فمثلاً رجل اسمه (كريم) فإذا نقلته إلى الإنجليزية فإنك تكتبها (كريم)، ولكنهم حولوها إلى صفة، وهذا هو الذي حصل مع كلمة (أحمد) التي هي أفعل التفضيل من الحمد، وهو لفظ (فارقليط).
وهذا التحريف عندهم هواية، فأول شيء فعلوه لكي يضلوا الناس عمدوا إلى كلمة (أحمد) فحولوها عند الترجمة إلى (فارقليط) فعاملوها كصفة، ثم ترقوا إلى أبعد من ذلك فمارسوا هوايتهم القديمة في التحريف اللفظي، فحولوا كلمة (فارقليط) التي تعني من الناحية اللغوية البحتة: الأمجد والأشهر والمستحق للمديح، إلى المحامي، أو الوصيف، أو الشفيع، ولن أسرد الفروق بينها وبين (فارقليط)؛ لأنها لا تعني ذلك في اللغة القديمة.
فهذا: عبد الأحد داود وهو من أكابر علماء النصارى، وكان عالماً مفخماً جداً، وقد هداه الله سبحانه وتعالى إلى الإسلام، وله كتابان: كتاب (الإسلام والتوحيد)، وكتاب (محمد في الكتاب المقدس).
يقول معلقاً على هذه الجزئية: والجهل يؤدي إلى ارتكاب أخطاء عديدة، وللقرون المتطاولة كان الأوروبيون واللاتينيون الجهلة يكتبون اسم محمد على أنه (مامومد) فهل من عجب أن يكون أحد الرهبان النصارى والنساخين قد كتب الاسم الصحيح في صيغة خاطئة وهي فارقليط، وتعني: الشهير أو الجدير بالحمد، ولكن الصيغة المحرفة لا تعني شيئاً إلا العار لأولئك الذين جعلوها تحمل معنى المعزي أو المحامي منذ مدة ثمانية عشر قرناً.
فالكلمة اليونانية التي ترادف المعزي ليست (فارقليط)، وإنما هي: (فاركلون) وأما الفارقليط فمعناها بالضبط أحمد، وهذا ما قرره البروفسور عبد الأحد داود وكان من كبار علماء النصارى الكاثوليك المتبحرين، وكان أيضاً على دراية مباشرة باللغات القديمة التي احتفضت بها الأناجيل المقدسة عند النصارى، إضافة إلى إلمامه بالعلوم الإسلامية، الأمر الذي أداه في النهاية إلى أن أسلم، وصنف كتباً في دحض عقيدة النصارى.
وممن برع جداً في هذا الباب الأستاذ أحمد ديدات حفظه الله وشفاه، وهو يعاني الآن من شلل كامل، ولا يتعامل مع الناس إلا بعينه فقط، وهذا الرجل له باع كبير في توضيح هذه الحقائق.
وقد بلغ من وضوح الإشارة إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في إنجيل يوحنا حداً دفع أحد علماء الإنجليز وهو آدم جونز إلى تأليف كتاب سماه: نشأة الديانة المسيحية، زعم فيه أن في الأناجيل أشياء مأخوذة من الديانة الإسلامية، وأن الأناجيل مملوءة بالأفكار الإسلامية! وذكر أمثلة على ذلك مثل لفظة: (فارقليط) وهذا الإنجليزي طوعت له نفسه أن يقول: إن هذه الكلمة دخلت في الإنجيل بعد القرآن، والمسلمون يقولون: إنها كانت في الإنجيل الأصلي طبقاً للآية الكريمة الواردة في القرآن.
وقد ذكر هذا العالم الإنجليزي حجة ناصعة على هذه الدعوى، فقال: إن المسيحيين لا يمكنهم أن ينكروا أن لفظة: (فارقليط) معناها محمد صراحة! وقد كان الأولى به أن يقول: إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة، بدلاً من افتراض وهمي لا يقبله عقل، بل هو محض تخمين.
وجاء أيضاً في جريدة (المؤيد) تحت عنوان: لا يعدم الإسلام منصفاً، وقد نقله القاسمي في التفسير فقال: وقال أحد رواد مدرسة اللغات التركية: إن محمداً هو مؤسس الدين الإسلامي، واسم محمد جاء من مادة حمد، ومن غريب الاتفاق أن نصارى العرب كانوا يستعملون اسماً من نفس المادة يقرب في المعنى من محمد وهو أحمد لتسمية الفارقليط به، ومعنى أحمد: صاحب الحمد، وهذا ما دعا علماء الدين الإسلامي أن يثبتوا أن كتب المسيحيين قد بشرت بمجيء النبي محمد، وقد أشار القرآن بنفسه إلى هذا بقوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ).
وقيل عندهم: إن هذه الآية تشير إشارة خاصة إلى عبارة إنجيل يوحنا، حيث وعد المسيح تلامذته ببعثة صاحب هذا الاسم.(170/18)
البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم في إنجيل برنابا
أما إنجيل برنابا ففيه العبارات الصريحة المتكررة، بل الفصول الصافية التي يذكر فيها اسم محمد عليه الصلاة والسلام في عرضها ذكراً صريحاً، ويقول: إنه رسول الله، وقد نقل عن رحالة إنجليزي أنه رأى في دار الكتب البابوية في الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحميري قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها يقول المسيح: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ).
وقد بدل رهبان النصارى لفظة (الفارقليط) في المطبوعات الأخيرة بالمعزي، وقال بعضهم: لا عجب من هذه التحريفات المتجددة، لتجدد الطبعات، فإنها فرية القوم في كتبهم.
ومن البشارات التي ما زالت موجودة إلى الآن في الإنجيل حتى بعد تحريفه ما جاء في آخر أبواب إنجيل يوحنا، ونصها: إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط ليثبت معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله؛ لأنه ليس يراه ولا يعرفه، وأنتم تعرفونه؛ لأنه مقيم عندكم، وهو ثابت فيكم، والفارقليط الذي يرسله الأب باسمي، وهو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم، والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون.
وفي الباب الثالث عشر من إنجيل يوحنا: لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على الخطية، وعلى الجرم، وعلى حكم، أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي، وأما على الجرم فلأني منطلق إلى الأب ولستم ترونني بعد، وأما على الحكم فإن آراكون هذه قد زيل، وإن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن، وإذا جاء روح الحق ذلك فهو يعلمكم جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع -يعني: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]- ويخبركم بما سيأتي، وهو يمجدني؛ لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم.(170/19)
إسلام المايورقي بسبب البشارات
فنتجاوز عن شرح هذه الوصية بالتفصيل، ونذكر بقصة إسلام عالم من أكبر علماء النصارى في القرن التاسع الهجري، كان يعيش في الأندلس، وهو من جزيرة مايورقا، وهي جزيرة في جنوب إيطاليا، وهي ومن أجمل الأماكن في العالم، واشتهر بالترجمان أبي محمد عبد الله بن عبد الله الترجمان المايورقي، توفي سنة (832) من الهجرة.
وقد ذكر هو قصة إسلامه في كتاب له يسمى: (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) وقد ذكر قصة طويلة يقول فيها: إنه لازم أحد القساوسة الكبار، ثم قال: فلازمته على ما ذكرت من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين، ثم أصابه مرض يوماً من الدهر فتخلف عن حضور مجلس أقرانه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قول الله عز وجل على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل: إنه يأتي من بعدي نبي اسمه الفارقليط، فبحثوا في تعيين هذا النبي من هو من الأنبياء؟ وقال كل واحد منهم بحسب علمه وفهمه، فعظم بينهم في ذلك مقالهم -أي: اختلفوا اختلافاً كبيراً- وكثر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة في تلك المسألة.
فأتيت مسكن الشيخ صاحب الدرس المذكور، فقال لي: ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته باختلاف القوم في اسم الفارقليط، وأن فلاناً قد أجاب بكذا، وأجاب فلان بكذا، وسردت له أجوبتهم، فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟ فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل، فقال لي: ما قصرت وقربت، وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب، ولكن الحق خلاف هذا كله؛ لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل.
يقول إنثل: فبادرت إلى قدميه أقبلهما وقلت له: يا سيدي! قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيد، ولي في خدمتك عشر سنين حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها، فلعل من جليل إحسانكم أن تمنوا علي بمعرفة هذا الاسم، فبكى الشيخ، وقال لي: يا ولدي! والله إنك لتعز عليّ كثيراً من أجل خدمتك لي، وانقطاعك إلي، إن في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف أن يظهر ذلك عليك فتقتلك عامة النصارى في الحين، فقلت له: يا سيدي! والله العظيم، وحق الإنجيل ومن جاء به! لا أتكلم بشيء مما تسره إلي إلا عن أمرك.
فقال لي: يا ولدي! إني سألتك في أول قدومك علي عن بلدك، وهل هو قريب من المسلمين؟ وهل يغزونكم أو تغزونهم؟ لأختبر ما عندك من المنافرة للإسلام.
يعني: مدى حساسيتك للمسلمين، هل تكره المسلمين أم لا؟ فاعلم يا ولدي! أن (الفارقليط) هو اسم من أسماء نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال عليه السلام، وأخبر أنه سينزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل، قلت له: يا سيدي! وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟ فقال لي: يا ولدي! لو أنّ النصارى أقاموا على دين عيسى الأول لكانوا على دين الله؛ لأن عيسى وجميع الأنبياء دينهم دين الله، ولكن بدلوا وكفروا.
فقلت له: يا سيدي! وكيف الخلاص من هذا الأمر؟ فقال: يا ولدي! بالدخول في دين الإسلام.
قلت له: هل ينجو الداخل فيه؟ قال لي: نعم ينجو في الدنيا والآخرة! فقلت: يا سيدي! إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم، فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك منه؟ فقال لي: يا ولدي! إن الله تعالى لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به من فضل الإسلام وشرف نبي الإسلام إلا بعد كبر سني، ووهن جسمي، ولا عذر لنا فيه بل هو حجة الله علينا قائمة، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى من رفعة الجاه والعلم والشرف، وكثرة عرض الدنيا، ولو أني ظهر علي شيء من الميل إلى دين الإسلام لقتلتني العامة في أسرع وقت، وهب أني نجوت منهم، وخلصت إلى المسلمين فأقول لهم: إني جئتكم مسلماً، فسيقولون لي: قد نفعت نفسك بنفسك في الدخول في دين الحق، فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت به نفسك من عذاب الله، فأبقى بينهم شيخاً كبيراً فقيراً ابن تسعين سنة لا أفقه لسانهم، ولا يعرفون حقي، فأموت بينهم جوعاً، وأنا -والحمد لله- على دين عيسى، وعلى ما جاء به يعلم الله ذلك مني! فقلت له: يا سيدي! أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل في دينهم؟ فقال لي: إن كنت عاقلاً طالباً للنجاة فبادر إلى ذلك، تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي! هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن، فاكتمه غاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك، ولا أقدر على نفعك، ولا ينفعك أن تنقل ذلك عني فإني أجحدك، وقولي مصدق عليك، وقولك غير مصدق علي، فأنا بريء من ذلك إن فهت بشيء من هذا، فقلت: يا سيدي! أعوذ بالله من سريان الوهم لهذا، وعاهدته بما يرضيه إلى آخر القصة، وهي طويلة.(170/20)
متخصص في الآداب اليونانية يفسر الفارقليط بأحمد
وقد وقع نقاش بين الأستاذ عبد الوهاب النجار صاحب كتاب (قصص الأنبياء)، ودكتور يدعى كارلو مينو حول معنى كلمة أحمد، (الفارقليط) يقول الأستاذ عبد الوهاب: ثم قلت له وأنا أعلم أنه حاصل على شهادة الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة: ما معنى الفارقليط؟ فأجاب بقوله: إن القُسس يقولون: إن هذه الكلمة معناها المعزي.
فقلت: إني أسأل الدكتور كارلو مينو الحاصل على الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة، ولست أسأل قسيساً! فقال: إن معناها الذي له حمد كثير، فقلت: هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حَمِد؟ فقال: نعم.
فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسمائه أحمد! فقال: يا أخي! أنت تحفظ كثيراً، واكتفى بهذا.(170/21)
بشارات من كتب المجوس
فهذا الموضوع من الموضوعات المهمة والشيقة، حتى أن كتب البراهمة في الهند يوجد فيها بشارات في غاية الصراحة، ويوجد عندي صور منها، وهي مكتوبة باللغة السانسكريتية القديمة، وهي لغة البراهمة، وهي تذكر كلمة أحمد في غاية الوضوح، ويقول بعض الباحثين: إن أصل الديانة البرهمية -على التحريف الذي دخل عليها- هي الملة الإبراهيمية.
وقد قرأت فيها أشياء في غاية العجب، ففيها وصف عجيب لغزوة بدر بأعداد الصحابة، وأعداد جيش الكفار، وأرجو فيما بعد أن تحصل فرصة نتكلم فيها بالتفصيل، لكن أنقل بواسطة العقاد بعض النصوص الموجودة في كتب البراهمة، حيث يقول: إن اسم الرسول العربي أحمد مكتوب بلفظه العربي في السماديدا من كتب البراهمة، وقد ورد في الفقرة السادسة، والفقرة الثامنة من الجزء الثاني ونصها: إن أحمد تلقى الشريعة من ربه، وهي مملوءة بالحكمة، وقد قذفت منه النور كما يقذف من الشمس.
وفي كتب زرادشت التي اشتهرت باسم كتب المجوسية، استخرج منها نبوءة عن رسول يوصف بأنه رحمة للعالمين، ويتصدى له عدو يسمى بالفارسية القديمة أبا لهب، ويدعو إلى إله واحد لم يكن له كفواً أحد، وليس له أول ولا آخر، ولا ضريع ولا قريع، ولا صاحب، ولا أب، ولا أم، ولا صاحبة، ولا ولد، ولا ابن، ولا مسكن، ولا جسد، ولا فتح، ولا لون، ولا رائحة.
وفيها: إن أمة زرادشت حين ينبذون دينهم يتضعضعون، وينهض رجل في بلاد العرب يهزم أتباعه فارس، ويخضع الفرس المتكبرين، فبعد عبادة النار في هياكلهم يولون وجههم نحو كعبة إبراهيم التي تطهرت من الأصنام، فيومئذ يصبحون وهم أتباع للنبي رحمة العالمين، وسادة لفارس وغيرها من الأماكن المقدسة للزرادتشيين ومن جاورهم، وإن نبيهم ليكون فصيحاً يتحدث بالمعجزات.(170/22)
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله)
يقول تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الصف:7].
أي: لا أحد أظلم ولا أشد عدواناً ممن يدعى إلى الإسلام الظاهر حقيقته، المسعد له في الدارين، فيستبدل إجابته بافتراء الكذب واختلاقه على الله، وذلك قوله عن كلامه تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة:110] وقوله عن رسوله صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر.
وهذه الآية إما مستأنفة لتحقيق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون طليعة للآيات بعدها، وإما متممة لما قبلها.
يعني: أن هذه الآية إما متعلقة بما سبق، فتكون متممة للكلام عن المسيح والتكذيب المذكور في قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) فعلق الله على ذلك بقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ) يعني: يدعوه المسيح إلى الإسلام، وقرئت: (وهو يدّعي إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين).
وإما أنها استئناف لكلام جديد، وهي طليعة لما يأتي من قوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8] إلى آخره.
قال: وهذه الآية إما مستأنفة لتحقيق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون طليعة للآيات بعدها، وإما متممة لما قبلها لتقبيح ما بهت به الإسرائيليون عيسى عليه السلام، مع الإشارة بعمومها إلى ذم كل من كان على شاكلتهم، ولا يقال: (الإسلام) يؤيد الأول من القولين، فالإسلام دين محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن جميع الأنبياء دعوا إلى دين واحد وهو الإسلام؛ فالإسلام هو عنوان الملة الحنيفية، فالمراد به هنا معناه اللغوي، وقد جاء ذلك في آيات شتى.
قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي: الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بما أنزل من الحق.(170/23)
تفسير قوله تعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم)
يقول تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] وفي قراءة أخرى: (والله مُتِمٌ نوره) بالتنوين، فهي تعمل كالفعل.
قال ابن جرير: أي: يريد هؤلاء القائلون لمحمد صلى الله عليه وسلم هذا ساحر؛ ليبطلوا الحق الذي جاء به بقولهم، والله معلن الحق، ومظهر دينه، وناصر رسوله على من عاداه، فذلك إتمام نوره.
إذاً: فقوله تعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله) يعني: دين الله، استعارة حيث شبه حالهم في اجتهادهم في إبطال الحق بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه؛ تهكماً وسخرية بهم، كما يقول الناس: هو يريد أن يغطي عين الشمس.
واللام هنا فيها كلام كثير، لكن أشهر ما قيل: إنها مزيدة للتأكيد، أي: تأكيد معنى الإرادة؛ لما في لام العلة من الإشعار بالإرادة والقصد.(170/24)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق)
يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف:9].
أي: على كل دين سواه، وذلك عند نزول عيسى بن مريم، وحين تصير الملة واحدة فلا يكون دين غير الإسلام.
وقال الزمخشري: أي: ليعليه على جميع الأديان المخالفة له، ولعمري! لقد فعل، فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور لدين الإسلام.
وهذه حقيقة في كثير من بلاد العالم، فالمسلمون هم ثاني ديانة مثلاً في أمريكا بعد النصرانية، وثاني ديانة في بريطانيا، وثاني ديانة في فرنسا، وهي في الحقيقة أول ديانة؛ لأن النصارى في الغرب لم يعودوا نصارى أساساً، بل هم كافرون بالنصرانية في الغالب، فالأعم الأغلب أنهم لا دين لهم.
{وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} يعني: ما فيه من محض التوحيد، وإبطال الشرك.(170/25)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم وبشر المؤمنين)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:10 - 13].
ولما قال الصحابة: لو عهدنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به أبداً، دلهم الله على ذلك، وجعله بمنزلة التجارة؛ لمكان ربحهم فيه، ونزلت هذه الآيات.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ} [الصف:10] وفي قراءة: (تنجِّيكم) {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:10 - 11].
{يَغْفِرْ لَكُمْ} هذا جواب قوله: (تجاهدون)، أي: فإن تجاهدوا يغفر لكم.
وأصل معناها معنى الأمر، أي: آمنوا بالله وجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم.
يقول تعالى: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: إيماناً يقينياً لا يشوبه أدنى شك {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:11] يعني: إن كنتم من أهل العلم، أو: إن كنتم تعلمون أنه خير.
والشرط هنا ليس على حقيقته، بل هو من باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]، فالمقصود بالشرط هنا التنبيه على المعنى الذي يقتضى الامتثال، وإلهاب الحمية بالطاعة، كما تقول لمن تأمره بالانتصاف من عدوه: إن كنت حراً فانتصف، تريد أن تثير منه حمية الانتصاف لا غير.
وقوله: (يغفر لكم ذنوبكم) هذا جواب الأمر المدلول عليه بلفظ الخبر كما تقدم.
(وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي: مساكن إقامة لا ظعن فيها.
{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي: النجاء العظيم من نكال الآخرة وأهوالها.
{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13] أي: عاجل، وهو فتح مكة.
وهذا يدل على أن السورة نزلت قبل فتح مكة بقليل، وكان القصد منها تشجيع المؤمنين على قتال محاربيهم، والثبات أمامهم، والتحذير من الزيغ عن ذلك، والتحريض في السخاء ببذل الأنفس والأموال في سبيل الحق؛ لإعلاء شأنه وإزهاق الباطل.
والمعنى: ويؤتكم أخرى تحبونها، أي: ولكم إلى هذه النعمة المذكورة نعمة أخرى عاجلة محبوبة وهي: ((نصر من الله)) لكم على أعدائكم ((وفتح قريب)) يعجله لكم.
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بنصره تعالى لهم وفتحه في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.(170/26)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14].
وفي قراءة أخرى: (كونوا أنصاراً لله).
أي: دوموا على ما أنتم عليه، وانصروا دين الله مثل نصرة الحواريين إذ قال لهم عيسى: (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) أي: من يتوجه معي إلى نصرة الله.
((قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ)) أي: ننصر دينه وما أمر به، وندعو إليه، ونضحي لأجله بحياتنا.
((فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: بعيسى عليه السلام، ونهضت تدعو إلى ما بعث به وتنصر دعوته.
((وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ)) يعني: برسالته، وبالحق الذي معه، قيل: هم اليهود الذين جحدوا نبوته ورموه وأمه بالعظائم.
وقيل: كفرت طائفة من أتباعه الذين غلوا فيه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، واقترفوا الشرك، وافترقوا في ذلك شيعاً: فمن قائل إنه ثالث ثلاثة، وهؤلاء قال تعالى فيهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وهؤلاء هم الكاثوليك الذين يعتقدون بالثالوث، وأن كل إله له الهوية الخاصة به.
ومن قائل إنه ابن الله: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30].
ومن قائل إنه هو الله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17].
وكانت أول كلمة نطق بها المسيح في المهد: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30] وكذلك: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران:51]، وقال تعالى عنه: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72].
فانظر إلى دعوة الإيمان كيف فرقتهم مع أنهم من قبيلة واحدة، وهي بنو إسرائيل؛ لكن على أساس الموالاة في الله والبراء من الكفار انقسموا.
فقوله: ((فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ))، فهذه هي المعاداة في الله لأقرب الأقربين.
(فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا) أي: بعيسى (عَلَى عَدُوِّهِمْ) من اليهود والرومان الوثنيين ((فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ))، أي: غالبين عليهم بالبراهين الواضحة، والحجج الظاهرة، والسلطة القاهرة.
وفيه بشارة للمؤمنين بالتأييد الرباني لهم إذا كانوا متناصرين على الحق، مستمرين عليه، غير متفرقين ولا متخاذلين عنه، كما وقع لسلفهم، فإذا اتفقوا ملكوا، وإذا تفرقوا هلكوا.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ)، إلى آخره، هذا أمر للمسلمين أن يكونوا أنصاراً لله كما كان الحواريون، لكن لم يبين هنا هل كان المؤمنون الذين خوطبوا بهذه الآية أنصاراً لله أم لا؟
و
الجواب
نعم، كانوا كذلك، وقد بين الله ذلك في سورة الحشر في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8].
كذلك قال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100].
وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29]، فقوله: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) معناه: أنهم ينصرون الله ورسوله.
وقال تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
فسماهم أنصاراً، وبين نصرتهم سواء كانوا من المهاجرين أو الأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وقال الرازي: قال أصحاب عيسى: (نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ)، ولم يقل أصحاب محمد ذلك، فما هي الحكمة في ذلك؟
و
الجواب
أن خطاب عيسى عليه السلام كان بطريق السؤال، فلابد من الجواب، فأجابوا بذلك، ولم يقولوا ذلك ابتداء.
وأما خطاب محمد صلى الله عليه وسلم فهو بطريق الإلزام، فالجواب غير لازم، بل اللازم هو امتثال هذا الأمر وهو قوله تعالى: (كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ)، وامتثال ذلك يكون بالفعل، والقرآن أثبت أنهم قد نصروا الله، قال تعالى: (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) إلى آخره.
إذاً: فأصحاب المسيح سئلوا سؤالاً لا جواب له إلا هذا ما داموا مؤمنين، ف
السؤال
( مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) والجواب: (نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) وأما الصحابة فأمروا بأن يكونوا أنصار الله، فكانوا كذلك فعلاً وامتثالاً، ولم يحتاجوا إلى أن يردوا نفس الرد، ونختم الكلام بقول الشاعر: سيأخذ ثأر الله أنصار دينه ولله أوس آخرون وخزرج وهذا قول لبعض الشعراء ختم به إحدى قصائده التي أشار فيها إلى أن جميع المؤمنين في كل زمان مطالبون أن يمتثلوا هذا الأمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14].
فالشاعر يقول في القصيدة: وخلوا ولاة السوء منكم وغيهم فأحرِ بهم أن يغرقوا حيث لحجوا لعل لهم في منطوي الغيب ثائراً سيسموا لكم والصبح في الليل مولج بمجر تضيق الأرض عن زفراته له زجل ينفي الوحوش وهزمج على حين لا عذرى لمعتذركم ولا لكمُ من حجة الله مخرجُ فيأخذ ثأر الله أنصار دينه ولله أوس آخرون وخزرج والله أعلم.(170/27)
تفسير سورة الجمعة [1 - 5](171/1)
تفسير قوله تعالى: (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك)
سورة الجمعة هي السورة الثانية والستون في ترتيب السور القرآنية، وهي سورة مدنية في قول جميع المفسرين، وآيها إحدى عشرة.
روى مسلم في صحيحه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورتي الجمعة والمنافقون).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة:1].
سبق أن تكلمنا في نظائرها مراراً، فهذه السورة من السور المسبحات أي: التي تُفتتح بالتسبيح.(171/2)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ)) المقصود بالأميين العرب.
يقول الحافظ ابن كثير ٍ رحمه الله تعالى: وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم، ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] وهو ذكر لهم ولغيرهم؛ وكذلك قال تبارك وتعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] وهذا وأمثاله لا ينافي قول الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقوله تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، وقوله تعالى إخباراً عن القرآن الكريم {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم.(171/3)
أمية النبي صلى الله عليه وسلم من معجزاته
فقوله تعالى هنا: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ)) يقول ابن عباس رضي الله عنهما: الأميون هم العرب كلهم من كتب منهم ومن لم يكتب؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب.
فالعرب وصفوا بأنهم أميون لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، وسمي الشخص أمياً نسبة إلى أمه يوم ولدته؛ لأنه يوم ولدته أمه لم يعرف القراءة ولا الكتابة وبقي على ذلك، هذا هو سبب تسمية من لم يعرف القراءة والكتابة بوصف الأمي.
قال عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] ولقد وصف الله عز وجل نبينا صلى الله عليه وسلم بالأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، يقول الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]، وقال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5].
ويمتن الله على المؤمنين بقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا منهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمي ما هو إلا إحدى معجزاته صلى الله عليه وسلم، فكثير من الناس يخلطون بين الأمي وبين الإمام الأمي، نقول: قد يكون المرء عالماً ومجتهداً وإماماً في أعلى درجات العلم وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ؛ لأن القراءة والكتابة ما هما إلا من وسائل التعلم، بدليل أننا نرى كثيراً من العلماء الأفاضل الكرام الذين ارتقوا ذُرى العلم، وكانوا عميان لا يرون ولا يقرءون.
إن الأمية في حق النبي عليه الصلاة والسلام غير الأمية في حق غيره من البشر؛ فغيره من الناس لو كان أمياً فهو يتلقى من مصدر بشري، فيدخل احتمال الخطأ عليه، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فإنما كان العلم الذي آتاه الله علماً وهبياً؛ لأن النبوة لا تكتسب، إنما هي هبة من الرب سبحانه وتعالى، فهو علم وهبي من مصدر معصوم، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ثم إن الله آتاه من المعجزات والآيات في قرآنه الكريم وفي سنته الشريفة تتقاصر دونها وتقهر أمامها كل قوى علماء الأرض قاطبة، سواء في علوم الدين أو الدنيا، فقد آتاه الله من العلم ما لم يؤت أحداً من العالمين، ولم يأمره سبحانه وتعالى بطلب الاستزادة من شيء غير الاستزادة من العلم، قال عز وجل مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
إذاً: كون النبي عليه الصلاة والسلام أمياً لا يقرأ ولا يكتب فهذه معجزة له عليه الصلاة والسلام، لا كما نصف نحن الأميّ بأنه الشخص الجاهل، فالأميّ لا يشترط أن يكون جاهلاً، بل الأميّ من لا يعرف القراءة والكتابة لسبب من الأسباب، كأن يكون أعمى البصر لا يستطيع القراءة ولا الكتابة، أو كما كان الحال الغالب على العرب من عدم القراءة والكتابة، لكن نفس هؤلاء العرب كانوا يحفظون من الأشعار آلاف الأبيات، وقد كان حفظ السنة في القرون الأولى مبنياً على القدرات الخارقة للصحابة من الحفظ.
فهذا ابن عباس رضي الله عنهما وغيره كانوا يسمعون قصيدة من سبعين بيتاًًً مرة واحدة فيحفظها أحدهم ولا يخطئ فيها حرفاً، فهذه منة من الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بالذاكرة القوية، ثم انضم إلى حفظ الصدور حفظ السطور بالكتابة؛ وذلك لما كثر القتل في الصحابة والمجاهدين في سبيل الله، وخشي من اندراس العلم.
يقول الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] كان يمكن أن يشك فيه أحد لو كان يقرأ ويكتب من قبل، لكنهم كانوا يعرفون ذلك: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} [يونس:16].
فلو كان يقرأ أو يكتب لقالوا: إنه أملي عليه هذا القرآن من طرف آخر، وإن كان هؤلاء الكفار لم يعجزهم هذا الادعاء الكاذب فقد ادعوا: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5].
قال الله تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113] فالعلم الذي أوتيه النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل إليه غيره من البشر على الإطلاق، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: (إني أعلمكم بالله وأخشاكم له) فقوله: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ)) أي العرب.
((رَسُولًا مِنْهُمْ)) أي: من أنفسهم.
ووصف الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه منهم بعد وصفهم بالأميين يقوي القول بأن تفسير (رسولاً منهم) أي: أمياً مثلهم.
فإذا قيل: السياق هنا سياق امتنان بنعمة عظيمة أنعمها الله سبحانه وتعالى على الأميين، بل على البشرية كلها، فما وجه الامتنان في وصفه بالأمية؟ ف
الجواب
أن هذه الأمية دليل على صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، ولموافقته ما تقدمت البشارة به في كتب الأنبياء قبله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف في الكتب السابقة بأنه النبي الأميّ، يقول تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157].
إذاً: وصفه بهذه الصفة كانت إحدى علاماته، ووصفه بالأمية لا زال مكتوباً في التوراة والإنجيل، كما في قوله: (وأجعل كلامي في فمه).
أيضاً في وصفه بالأمية بقوله: ((رَسُولًا مِنْهُمْ)) بيان لمشاكلة حاله لأحوالهم، فيكون أقرب لموافقتهم؛ لئلا يظن به أنه يعلم كتب من قبلهم، وأنه يقتبس منها، أو أنها تملى عليه.(171/4)
شريعة النبي صلى الله عليه وسلم تخاطب الأميين وغيرهم
والنبي عليه الصلاة والسلام هو دعوة إبراهيم؛ لأن إبراهيم دعا بقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة:129] أي: من العرب الأميين، وجاء في الحديث أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا) وهذا حكم على المجموع الغالب وليس حكماً على الجميع؛ لأنه كان يوجد في العرب من يكتب، فمنهم كتبة الوحي عمر وعلي ومعاوية وغيرهم رضي الله تعالى عنهم.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب ولا نحسب) فيه إشارة إلى أن هذه الشريعة تخاطب الناس بما هو معروف ومعهود عند الأميين؛ لأن هذه الشريعة لم تأت لأجل طبقة معينة من الناس.
فمثلاً: هناك قسم كبير من العبادات تعتمد على مراعاة أحوال السماء والكواكب والقمر والشمس إلى غير ذلك، كالصلاة والصيام، فيحتاج ضبط مواقيت العبادات إلى مراعاة هذه الأهلة والشمس ونحوها فيرشد النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن هذه الأمة مخاطبة بما هو في معهود الأميين، الذين لا يتقنون علوم الفلك والرياضيات وعلوم الحساب ونحوها، وبالتالي فإن معرفة الشهر أمر سهل، فأشار بيده وقال: الشهر هكذا وهكذا) أي: أن الشهر ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون.
أما التوصل إلى ذلك عن طريق الحساب فهذا ليس مما هو معهود عند الأميين، فالشريعة كما تخاطب عالم الفلك والذي حضَّر الدكتوراه تخاطب البدوي الذي يعيش في الصحراء، فهذا يستطيع تحديد وقت الصلاة، وهذا أيضاً يستطيع تحديدها في غاية السهولة، وكذلك بداية الشهور والأهلة إلى آخره.
فقوله: (إنا أمه أمية) ليس معناه الفخر بالأمية، وإنما هو وصف للواقع، ولسهولة الشريعة وأنها لا تخاطب طائفة خاصة من العلماء.
والدليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحارب الأمية، أنه كان يجعل فكاك الأسير أن يتولى تعليم القراءة والكتابة لواحد من أبناء المسلمين، فالحث على العلم بكل وسائل العلم المختلفة النافعة المفيدة أمر معروف، لكن علينا أن نبذل فيه وقتاً وجهداً أكثر من هذا، فإن الإسلام هو دين العلم لا شك في ذلك، لأن العلم دائماً منحاز إلى الإسلام، ومؤيد لدين الإسلام.
قوله: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ)) أي: من أنفسهم أمياً مثلهم.(171/5)
أمية النبي وهو معلم البشرية
((يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)) أي: مع كونه أمياً مثلهم لم تعهد منه قراءة ولا تعلَّم إلا أنه يتلو عليهم آيات الله تبارك وتعالى.
وتلاوته الآيات لم تكن عن طريق المدارسة، وإنما كانت الآيات تلقى في قلبه عليه الصلاة والسلام ويضمن الله له حفظها كما قال تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 18] أي: ما عليك إلا أن تستمع {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] فضمن الله له أنه يحفظ القرآن ولا ينسى منه شيئاً صلى الله عليه وآله وسلم.
((وَيُزَكِّيهِمْ)) أي: من خبائث العقائد والأخلاق.
((وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)) هو أمي ومع ذلك فهو الذي يعلمهم، وهذا مما يدلنا على أن الأمي قد يكون عالماً، بل هو أعلم البشر على الإطلاق صلى الله عليه وسلم.
((وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ)) أي: القرآن.
((وَالْحِكْمَةَ)) أي: السنة.
نقول: إنه متى جاءت الحكمة مقترنة بالكتاب في سياق الامتنان على الأمة المحمدية، فالحكمة هي السنة لا شك في ذلك، وهذا اتفاق من السلف.
((وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ))، أي أنهم من قبل إرساله صلى الله عليه وسلم كانوا في جور عن الحق وانحراف عن سبيل الرشد، وهو لبيان شدة افتقارهم وحاجتهم إلى بعثة هذا النبي، وإرساله صلى الله عليه وسلم منة من الله عليهم؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فبعثه الله سبحانه وتعالى -وله الحمد والمنة- على حين فترة من الرسل، وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه.
وذلك أن العرب كانوا قديماً متمسكين بدين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فبدلوا وغيروا، واستبدلوا بالتوحيد شركاً وباليقين شكاً، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله، وكذلك أهل الكتاب قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق، فيه هدايتهم، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ورضا الله عنهم، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى، حاكم وفاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب، في الأصول والفروع، وجمع الله تعالى له ولله الحمد والمنة جميع المحاسن فيمن كان قبله.
كما قال البوصيري: وغاية القول فيه إنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم صلى الله عليه وآله وسلم وليس على الله بمستبعد أن يجمع العالم في واحد فالرسول عليه الصلاة والسلام جمع الله له جميع المحاسن التي كانت فيمن كان قبله من الأنبياء، فإذا كان في بعض الأنبياء تميز بقوة البدن فهو أقوى بدناً، وإن تميز بعضهم بالجمال فهو أجمل، وإن تميز بعضهم بالفصاحة فهو أفصح، وهكذا.
ثم يقول ابن كثير: وأعطاه ما لم يعط أحداً من الأولين، ولا يعطيه أحداً من الآخرين، فصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين.
إنما جعلت بعثته صلى الله عليه وسلم في الأميين من العرب؛ لما لهذه الأمة من خصائص فطرية أيضاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فأنا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم) فالعرب الأميون كانوا أحد الناس أذهاناً، وأقواهم جمالاً، وأصفاهم فطرة، وأفصحهم بياناً، لم تفسد فطرتهم بغواشي المتحضرين، ولا بأساليب وتلاعب المتمدنين، ولذا انقلبوا إلى الناس بعد الإسلام بعلم عظيم، مما يدل على تمكن هذه الصفات النادرة في العرب، فبمجرد أن اصطفاهم الله سبحانه وتعالى بنعمة الإسلام استوعبوا الإسلام وارتقوا إلى أعلى الدرجات، ثم انقلبوا بعد ذلك إلى الناس بعلم عظيم، وحكمة باهرة، وسياسة عادلة، قادوا بها معظم الأمم، ودوخوا بها أعظم الممالك.
فإيثار البعثة في العرب وإظهارها فيهم لا ينافي عموم الرسالة؛ لأنها أولاً ظهرت فيهم، ثم بعد ذلك انتشرت في العالمين، كما قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جميعا) [الأعراف:158]، وقال تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] أي: لأنذركم به أيها العرب، وكل من بلغه القرآن والإسلام فهو مسئول عنه، وقد أنذره النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(171/6)
تفسير قوله تعالى: (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم)
قال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة:3].
قوله: (وآخرين) معطوف على الأميين، أي: هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم وبعثه في آخرين من غير الأميين الذين كانوا موجودين في زمن بعثته عليه الصلاة والسلام، ومن يأتي بعدهم.
فهذه إشارة إلى عموم رسالته، وأنها تشمل الذين سوف يدخلون في الإسلام فيما بعد، وهم الذين بعد الصحابة رضي الله تعالى عنهم ممن يدخل في الإسلام إلى يوم القيامة كما فسره مجاهد وغيره واختاره شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى.
فإذاً: هذه بشارة بانتشار الدين في الآفاق كلها، وأن الإسلام سوف يعم البشرية فيما بعد.
قال الرازي: فالمراد بالأميين: في قوله (هو الذي بعث في الأميين) العرب، والمراد بالآخرين في قوله: (وآخرين منهم) سواهم من الأمم.
وجعلهم منهم فيه إشارة إلى رابطة العقيدة، وأنها تجعل المسلم أولى الناس بأخيه المسلم، وأن رابطة الدين تكون فوق رابطة الجنس والنسب، فالمسلمون كلهم أمة واحدة وإن اختلفت أجناسهم، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71].
هناك إعراب آخر لقوله تعالى: (وآخرين) فإنه يجوز أن يكون معطوفاً على الأميين كما مر معنا، والقول الآخر: أن يكون معطوفاً على الضمير (هم)، في قوله: (يعلمهم ويزكيهم) بمعنى: يعلمهم ويعلم الآخرين من المؤمنين؛ لأن التعليم إذا تناسق إلى آخرِ الزمان كان كله مسنداً إلى أوله، فكأنه هو الذي تولى كل ذلك، فهو علم الصحابة، والصحابة علموا التابعين، ثم التابعون علموا الأمم، وهكذا صار العلم ينتقل من جيل إلى جيل، لكن هذا العلم إذا تناسق في سلسلة متصلة من أهله وطلابه إلى آخر الزمان، فهو في الحقيقة مسند إلى أوله، فمن الذي علم العلماء في زمننا وقبل زمننا وبعد زمننا إلى أن تقوم الساعة؟ إنه النبي عليه الصلاة والسلام، فيصدق عليه أيضاً أنه الذي يزكيهم كما علمهم.
أيضاً هناك إشارة إلى نفس المعنى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يقاتلون فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] فقوله تعالى: ((فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ)) يساوي قوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3].(171/7)
القومية والقطرية وأثرهما على المسلمين
قال بعض المحققين: في الآية معجزة من معجزات النبوة، وذلك بالإخبار عن غيب وقع في أمم من غير العرب، وذلك أن تلك الأمم التي أسلمت صارت من العرب؛ لأن بلادهم صارت بلاد العرب، ولغتهم صارت لغة العرب، وكذلك دينهم وعاداتهم، حتى أصبحوا من العرب جنساً وديناً ولغة، وحتى صار لفظ العرب يطلق على كل المسلمين من جميع الأجناس؛ لأنهم أمة واحدة، يقول تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52].
وهذا كلام طيب وجميل، لكننا ابتلينا فيما بعد بالدعوة للقومية العربية في القرن الأخير، وكان مؤسسو فكرة القومية العربية هم النصارى، وأرادوا بها أن يجمعوا هذه البلاد العربية على رباط آخر غير رابطة الإسلام وهو العروبة، حتى وصل الأمر إلى أقصى درجات الغلو عند الملاحدة الذين ينتمون إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وهو حزب مشرك كافر بالله وبرسوله وبالأديان، وهذا الحزب يريد أن يقتلع الإسلام ويستبدله بالعروبة.
فهم لا يتذكرون الإسلام، ولكن عندهم تعصب للغة العربية، وهذا واضح بالذات في العراق وفي سوريا، ولذلك فإن مستوى اللغة العربية عند السوريين والعراقيين قوي جداً، لكن يحكمهم حزب البعث الذي لا دين له، والعروبة عندهم نوع من التراث، فهم يشيدون بأمجاد العرب وأنهم أمة عظيمة حتى بدون الإسلام، والإسلام عندهم أحد معالم الطريق، لكنه ليس هو المحور الرئيسي، فالكلام على حزب البعث الكافر الملحد يطول، ولا نريد أن نخرج الآن عن التفسير.
وقد صار يقصد بالعروبة إشغال الناس برابطة غير رابطة الإسلام، ثم فصل البلاد العربية عن البلاد الإسلامية، فكأن العروبة تضم اليهودي والنصراني وأي ملة أخرى، أما العالم الإسلامي فهو العالم الأوسع، فوضعوا هذه الحواجز بين العرب وبين المسلمين، ولعلكم تلاحظون تأثير هذا التقسيم عند وقوف المسلمين في أي قضية ضد أعدائهم، فتجدون ضعف رد الفعل العربي ورد فعل ما ينسبونه للإسلام، وهذا التفكيك له آثاره المدمرة.
وكان بعض هؤلاء إذا أذن المؤذن للصلاة يقفون صفاً يشوشون على الأذان ويقولون: انتقل عني فهذي قيمي أنا ماركسي لينيني دولي وأيضاً كانوا يقولون: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني.
ونحن الآن نعاني مما هو أسوأ من العروبة وهو القطرية، فقد كان بين العروبة والإسلام حاجز واحد فقط وهو القومية، لكن حصلت الفرقة أعظم بسبب الدعوات القطرية، فتجد كل قطر يدعو إلى الأمن القومي الخاص به، وكل بلدة لها علمها، ولها نشيدها، فالمصريون يفخرون بالفراعنة، واللبنانيون بالفينيقيين، والعراقيون بالآشوريين، وكل بلد تدندن حول قوميتها الوطنية الخاصة بها.
فهذا من التفكيك، فمع بغضنا للقومية العربية، لكن نرى أنها بلاء أخف من بلاء القطرية، لأن القطرية حصل بها ضعف أكثر للمسلمين، وبعد عن الرابطة الإسلامية.
لقد كان المسلمون قديماً إذا دخلوا بلداً صبغوها بالهوية الإسلامية، وكانت أهم هذه الملامح اصطباغهم باللغة العربية، وهذه من نعمة الله علينا.
هناك ارتباط وثيق جداً بين الإسلام واللغة العربية، وكل من أراد أن يحارب الإسلام لا بد أن يحارب اللغة العربية.
السؤال المحير هو: الدولة العثمانية التركية التي حكمت العالم الإسلامي عدة قرون، كيف لم تصطبغ باللغة العربية، ولم يحصل فيها تعريب للحروف التركية قبل أتاتورك؟ ربما لأن الدولة العثمانية ما أعطيت فرصة لتستريح أبداً، الدولة العثمانية كانت في حال جهاد دائم لا ينقطع، وكان هناك حوالي مائة مشروع لتفتيتها والقضاء عليها، فربما كان هذا السبب في أنهم ما التفتوا لعملية التعريب، وللأسف هذه مأساة، ولذلك انتهت العربية بمجرد إلغاء الحروف العربية واستبدالها باللاتينية على يد أتاتورك، حتى وجد من لم يستطع أن يقرأ في المصحف، ولم يستطع التعامل مع مراد الفقه والشريعة.(171/8)
معنى حديث: (لو كان الإيمان في الثريا)
روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3] قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرةً أو مرتين أو ثلاثاً، قال: وفينا سلمان الفارسي، قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء) أي: من قوم سلمان الفارسي.
وفي رواية: (لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس، أو قال: من أبناء فارس حتى يتناوله)، وهذا لفظ مسلم.
في هذا الحديث إشارة إلى أنهم سيدخلون في الإسلام ويعز الله سبحانه وتعالى بهم الإسلام، فالعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب.
إن من بدع التفسير وخرافاته ما حاول بعض المساكين الجهلة أن يحمل الآية وهذا الحديث على الخميني، وأنه هو الرجل الذي لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس، ولا حول ولا قوة إلا بالله! حملوه على عدو الإسلام وعدو الله ورسوله وعدو أهل السنة، الخميني الهائج الضال المنحرف، هذا من الإغراق في الجهل.
مثل هذه التفسيرات فيها تحريف لكلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث يجب أن يحمل على العلماء والأئمة من أهل فارس كـ أبي حنيفة فهناك عشرات من العلماء بل مئات من الأئمة الحفاظ الذين حرسوا هذا الدين وحفظوه من أهل فارس، فلم تركتم هؤلاء جميعاً وتمسكتم بهذا الضال المجرم الخميني؟!(171/9)
تفسير قوله تعالى: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)
قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4].
فقوله: (هو الذي بعث في الأميين) أي: العرب وبالذات قريش.
(وآخرين منهم) وهم العجم، مع أن قريشاً هي أشرف القبائل، والله شرفها من حيث النسب، وشرف من عداهم بأن ألحقهم بهم.
وقوله تعالى: (ذلك فضل الله) أي: أنه فضل من الله حيث ألحق العجم بالعرب.
(يؤتيه من يشاء) أي: من حيث نوعية الأجناس، فلا شك أن أفضل جنس هو الجنس العربي، كما ورد في الحديث: (إن الله اصطفى إبراهيم، واصطفى من ولد إبراهيم عليه السلام إسماعيل، واصطفى من إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار).
فأفضل الجنس هو الجنس العربي؛ لأن الله اختصه بأن أخرج منه محمداً صلى الله عليه وسلم، فمثل هذا لا يجعلنا نعتقد الاعتقاد العنصري، فليست العبرة بمجرد هذا النسب، وإنما العبرة أساساً بالعمل الصالح والإيمان.
وإخواننا الذين في مجاهل أفريقية أو في شرق آسيا أو الهند، أو غيرها من البلاد كبلدان الجمهوريات السوفيتية السابقة إذا رأوا واحداً من العرب يقبلون رأسه ويديه ويقبلون قدمه، ويقولون له: أنت عربي من بلاد العفاف والطهر، وهذا من شدة تعظيمهم للعرب؛ لأنهم يعتبرونهم من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (ذلك فضل الله) قيل: الإسلام.
وقيل: الوحي والنبوة وقيل: الفضل المالي الذي يلحق بالطاعة، وهؤلاء الذين ذهبوا إلى هذا القول اعتمدوا على حديث رواه الإمام مسلم بسنده، عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة.
قال أبو هريرة: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، فقول النبي عليه الصلاة والسلام في الفصل بينهما (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، كان السبب الذي جعل بعض المفسرين يفسر الآية بأن المراد منها هو الأموال.
وقيل: (إن فضل الله) هو الانقياد التام إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته.
يقول القاسمي: (ذلك فضل الله) أي: بعثته تعالى رسولاً في الأميين وفي الآخرين فضل تفضل به على من اصطفاه واختاره لذلك: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124].
والآيات هذه فيها ردٌ على من أنكر نبوته من يهود المدينة الذين استنكفوا واستكبروا وحسدوا العرب كيف يخرج منهم نبي؟! وقد كانوا يعرفون أن هناك نبياً سوف يظهر، فلما عرفوا أنه من نسل إسماعيل وليس من بني إسرائيل حسدوا المسلمين وحسدوا النبي صلى الله وسلم على ذلك، فأنكروا نبوة النبي عليه الصلاة والسلام حسداً وعناداً، مع أن لديهم من شواهد رسالته في كتبهم ما لا ترتاب أفئدتهم معه في صدق هذه النبوة، ولذلك جاء في الآية التالية مباشرة النعي عليهم لمخالفتهم موجب علمهم، فإن علمهم يوجب عليهم أن ينقادوا ويؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى: (ذلك) أي: النبوة.
(فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).(171/10)
تفسير قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها)
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5].
قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} أي: أن اليهود لم يعملوا ولم ينقادوا للبشارة ببعثة النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فنعى عليهم مخالفتهم لموجب علمهم، فإن علمهم بالتوراة يوجب عليهم أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، إلا أنهم مع علمهم بذلك جحدوا وحسدوا، وبغوا وعاندوا، وأبوا الانقياد لنبوته عليه الصلاة والسلام.
{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} جملة (يحمل أسفاراً) في محل نصب حال.
أي: كحال الحمار الذي يحمل أسفاراً، والأسفار جمع سفر، وهو الكتاب الكبير؛ لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ.
قال الزمخشري: شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها، ثم إنهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها، وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به، ولم يؤمنوا به عليه الصلاة والسلام، فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً، أي: كتباً كباراً من كتب العلم، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب.
أي: أن الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زنبيل! ولا يفقه شيئاً مما يحمله، وهكذا اليهود مثل الحمار، لكونهم لم ينتفعوا بالتوراة التي أرشدتهم إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
بعض الناس يشتم إنساناً بأنه حمار أو كلب أو خنزير فنقول: لا يجوز وصف الإنسان بهذه الصفات؛ لأنه كذب، فهو ليس بكلب، لأن خلقته خلقة إنسان، فلا يجوز لك أن تقول له: هو كلب أو حمار، ولأن المسلم ينبغي ألا يكون فاحشاً ولا متفحشاً في كلامه، أما استدلالهم بهذه الآية فخطأ بين؛ لأن الآية ورد فيها أداة تشبيه، فلم يقل الله سبحانه وتعالى لليهود: أنتم حمير، وإنما قال: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5] تشبيه صورة بصورة، وقال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] فهنا تشبيه وليس وصفاً له بأنه كلب.
فمثل هذا لا يستعمل حتى مع اليهود أنفسهم أو النصارى.
فكيف يجوز أو يسوغ للإنسان أن يصف واحداً من العلماء أو الدعاة بهذه الصفات؟! لقد وجدنا بعض من ينسبون إلى العلم يذم بعض العلماء المخالفين له في المنهج، وقد يكون هذا العالم المنتَقَد عنده أخطاء فادحة ومشهور بالتسيب في فتاواه الفقهية، لكن الواجب نصيحته بالحسنى وبالأدلة الشرعية، والرد عليه واجب، ولا نقول: إنه يجامل ويغض الطرف عن أخطائه، لكن أن يقوم أحد العلماء ويؤلف كتاباً باسم (إسكات الكلب العاوي فلان ابن فلان) فالله المستعان، إذا كان الله عز وجل لم يقل لليهود: أنتم حمير، وإنما قال: ((كَمَثَلِ الْحِمَارِ)) وقال: في الأعراف: ((كَمَثَلِ الْكَلْبِ)) ولم يصفه مباشرة بهذا الوصف، فكيف يجوز لمن يدعي أنه ينسب إلى العلم أن يفعل هذا بحق عالم من علماء المسلمين، وإن أخطأ أخطاء فادحة في اختياراته الفقهية.
ثم يقول الزمخشري: وكل من علم ولم يعمل بعلمه، فهذا مثله وبئس المثل! {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى: (حملوا التوراة) أي: كلفوا علمها والعمل بها.
(ثم لم يحملوها) أي: ثم لم يعملوا بها، فكأنهم لم يحملوها في الحقيقة لفقد العمل.
يقول تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام:91] أي: علمتم فلم تعملوا بما علمتم به.
وفي شأن يعقوب عليه السلام قال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] أي: لذو عمل لما علمناه.
قال الجرجاني في قوله تعالى: ((حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ)): هو من الحمالة بمعنى الكفالة، أي: ضمنوا أحكام التوراة.
يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: قاس من حمّله سبحانه وتعالى كتابه ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه، ثم خالف ذلك ولم يحمله، فهو كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها، وحظه منها حملها على ظهره كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره، فهذا المثل وإن كان قد ضُرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به، ولم يؤد حقه ولم يرعه حق رعايته، يقول الشاعر: زوامل للأشعار لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح ما في الغرائر قال يحيى بن اليمان: يكتب أحدهم الحديث ولا يتفهم ولا يتدبر، فإذا سئل أحدهم عن مسألة جلس كأنه مكاتب.
{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي: الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بآيات ربهم تبارك وتعالى.
وقيل في تفسيرها: والله لا يهدي من سبق في علمه أنه يكون كافراً.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن أكثر المفسرين يجعله -يعني: التشبيه في هذه الآية- من قبيل التشبيه المفرد، وأن وجه الشبه فيه مفرد، وهو عدم الانتفاع بالمحمول، كالبيت الذي فيه: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول ثم يقول: والذي يظهر والله تعالى أعلم أنه من قبيل التشبيه التمثيلي؛ لأن وجه الشبه مركب من مجموع كون المحمول كتباً نافعة.
إذاً: الفرق بين التشبيه في البيت الشعري وبين التشبيه في الآية هو أن العير في الصحراء القاحلة يقتلها الظمأ، مع أنها حاملة فوق ظهرها ماء.
فإذا شربت من هذا الماء فإنها تنتفع، لكن الحمار لا يمكن أن يقرأ ما في الأسفار، فضلاً عن أن ينتفع به؟! علينا أن نستبعد أن يكون التشبيه الذي في الآية كالذي في هذا البيت.
يقول: أولاً: والذي يظهر والله تعالى أعلم أنه من قبيل التشبيه التمثيلي؛ لأن وجه الشبه مركب من مجموع كون المحمول كتباً نافعة.
ثانياً: كون الحامل لها حماراً لا علاقة له بها، بخلاف العيس؛ لأن العيس يمكن أن تنتفع بالماء لو حصلت عليه، والحمار لا ينتفع بالأسفار ولو نشرت بين عينيه.
وفيها إشارة إلى أن من موجبات نقل النبوة عن بني إسرائيل بالكلية أنهم وصلوا إلى حد الإياس من انتفاعهم بتمام التدبر والعمل، حتى صاروا مثل الحمار يحمل أسفاراً، لا أمل في أن يفقهوا عن الله، أو أن يحملوا أمانة الله، وأن يبلغوا دين الله وأن يعملوا به، فمن ثم نقلها الله سبحانه وتعالى إلى قوم هم أحق بها، وأحق بالقيام بها وهم العرب من ذرية إسماعيل عليه السلام.(171/11)
تفسير سورة الجمعة [6 - 11](172/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم)
يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6].
لما ادعت اليهود الفضيلة وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] ولو دخلنا النار: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] أي: مدة عبادة آبائهم العجل وهي أربعون يوماً.
وقالوا أيضاً: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، اختبرهم الله وامتحنهم؛ ليبينوا صدق هذه الدعوى، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
هذا رد على عنصريتهم وزعمهم أنهم شعب الله المختار، وأن كل من عداهم من البشر خلقوا كالحمير ليسخرها الله لهم، وقد خطب أحد كبار حاخامات اليهود خطبة وشتم فيها كلينتون بأقبح الشتائم وقال: إنه فاجر وفاسق وعربيد، وإنه فعل كذا وكذا من الأشياء المعروفة عن كلينتون، فعوتب على ذلك وحصل رد فعل شديد يقول: إن كلينتون خدم إسرائيل، فقال: أنا أقر وأعترف بأنه فعل ذلك خدمة لدولة إسرائيل، لكن هذا لأن الله سخره ليخدم شعب الله المختار.
إذاً: عقيدتهم أن كل الدول الأخرى يجب أن تكون خدماً لإسرائيل.
فالشاهد: أن الله سبحانه وتعالى وضعهم في هذا الاختبار لما ادعوا هذه الفضائل كلها.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: كان اليهود يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، فقيل لهم: إن كنتم صادقين في زعمكم وعلى ثقة من أمركم، فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى الآخرة، فإن الحبيب يتمنى لقاء من يحب ولا يفر منه، ويود أن يستريح من كرب الدنيا وغمومها، ويطير إلى روح الجنان ونعيمها.
فرق بين عقيدة الإنسان وبين إقدامه وشجاعته، فهو يتصف بصفتين: الصبر واليقين، مادام عندهم إيمان بأن لهم الجنة عند الله سبحانه تعالى، فهذا لا شك أنه سيكون له أثر في الإقدام والتضحية في الجهاد؛ لأن المؤمن لو ضرب بصاروخ ونسفه نسفاً، فهو لن يحس قطعاً بألم هذا الانفجار أو الوخز أو الطعنة إلا كلسع نحلة أو بعوضة، ويكون بذلك قد تجاوز الامتحان ونجح؛ لأنه يعلم أن الشهيد تغفر له ذنوبه عند أول دفعة من دمه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن السيف محاء للخطايا).
ففيه تأييد من الله سبحانه وتعالى وضمان، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهْ} [التوبة:111] وكذلك وصفها الله بأنها تجارة: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] فإذاً اليقين بما بعد الموت من الثواب العظيم الذي أعده الله لمن يقتل في سبيله هو الذي يجعل المرء يطلب الاستشهاد، وهو الذي يجعل الموت أحب إليه من الحياة.
وقلنا من قبل: إن هذا هو اللغز المحير، وأعداء الإسلام لم يستطيعوا أن يستوعبوه حتى الآن، فاليهود يقولون: نحن أتينا إلى هذه الأرض لكي نعيش، أما هؤلاء فهم يقاتلون لكي يموتوا، فلذلك يستغربون من الإقدام والشجاعة الناشئة عن اليقين، فيكون اليقين أولاً ثم يأتي بعده الصبر والإقدام والشجاعة.
أما تمني الموت وحبه فإنه يرتبط بما يكون عند الإنسان من الفطرة والجبلة، فتراه يكره الموت، وقد سماه الله مصيبة، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة: كلنا يكره الموت -أي: كراهية فطرية جبلية- فقال: إن العبد المؤمن إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة أتته ملائكة) إلى آخر الحديث المعروف.
فإذا كان عند الإنسان يقين قوي تنكشف له الحجب، كأن يرى الجنة ويرى الحور العين ويرى النعيم المقيم، ويعلم يقيناً أن ذنوبه سوف تمحى عند الله: (إن للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويأمن الفزع الأكبر، ويجار من عذاب القبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه)، كل هذا مضمون إذا بذل نفسه في سبيل الله.
الإنسان مهما عاش فإنه سوف يموت، فلماذا لا يختار أشرف موتة؟! وجود اليقين بما بعد الموت هو الذي يجعل الإنسان يبذل روحه في سبيل الله.
أما الخوف من الموت فإن الإنسان يخاف من لقاء الله سبحانه وتعالى ومحاسبته له على ما فعل، فإذاً: هناك ارتباط بين اعتقاده بالفارق بين الدنيا والآخرة، فإذا كان الإنسان قد خرب الدنيا وعمّر الآخرة فإنه يحب الانتقال من الخراب إلى العمران؛ لكن إذا كان قد عمّر الدنيا وخرّب الآخرة فهو يخاف الانتقال من العمران إلى الخراب، فلذلك كان هذا الارتباط في غاية الدقة وفي غاية القوة والمصداقية.(172/2)
تفسير قوله تعالى: (ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم)
يقول الله تعالى: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة:7].
((وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم)) أي: بسبب المعاصي والسيئات والكفر، وأعظم الكفر الذي وقعوا فيه هو ما أسلفوه من تكذيب النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، جاء في بعض الأحاديث: (أنهم لو تمنو الموت لماتوا)، فكان في ذلك بطلان قولهم وما ادعوا أنهم أولياء لله وأحباء الله تبارك وتعالى.
((وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) أي: سيجازيهم على أعمالهم، وتقدم في سورة البقرة قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:94 - 95] ففي هذا إخبار عن الغيب، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث إنهم لم يتمنوا الموت ولم يستجيبوا لهذا التحدي.(172/3)
تفسير قوله تعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه)
قال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].
(قل إن الموت الذي تفرون منه) أي: الذي تخافون أن تتمنوه بألسنتكم مخافة أن يصيبكم فتقهروا بأعمالكم.
(فإنه ملاقيكم) لا مفر من الموت، يقول زهير: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أن يرقى السماء بسلم وقال طرفة: وكفى بالموت فاعلم واعظاً لمن الموت عليه قد قدر فاذكر الموت وحاذر ذكره إن في الموت لذي اللب عبر كل شيء سوف يلقى حتفه في مقام أو على ظهر سفر والمنايا حوله ترصده ليس ينجيه من الموت الحذر قوله: (قل إن الموت الذي تفرون منه) أي: الذي إن فررتم منه، (فإنه ملاقيكم) فكلمة: (الذي) مع إنها اسم موصول لكنها تضمنت معنى الشرط والجزاء، فقوله: (فإنه ملاقيكم) فيه مبالغة للدلالة على أنه لا ينفع الفرار من الموت.
{ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: من الأعمال حسنها وسيئها فيجازيكم عليها.
وقوله: ((فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ)) مثل قول الله تبارك وتعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185].
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ)) أي: إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أولياء لله وأبناء الله وأحباؤه دون غيركم من الناس فتمنوا الموت؛ لأن ولي الله حقاً يتمنى لقاءه والإسراع إلى ما أعد له من النعيم المقيم.
يقول: هذا الزعم المجمل هنا: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ)) بينه بقوله عن اليهود وعن النصارى حين قالوا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] فرد الله عليهم هذا الزعم بقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18].
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة:94 - 95]، وقيل: المراد بقوله تعالى: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ)) أي: تعالوا نباهلكم حتى يظهر الله الكاذب من الفريقين، والمراد من الآية إظهار كذب اليهود في دعواهم أنهم أولياء لله.
وقوله تعالى: ((إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ)) ثم قال: ((إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)) شرطان يترتب الآخر منهما على الأول، أي: فتمنوا الموت إن صدقتم في زعمكم، ونظيره في كلام العرب قول الشاعر: إن تستغيثوا بنا إن ترعووا تجدوا منا معاقل عز زانها كرم إذاً: اليهود لا يتمنون الموت أبداً، وهذا معروف عن اليهود، فشيمتهم التشبث الشديد بالحياة وحب المال، والسبب في عدم تمنيهم الموت هو ما قدمت أيديهم، لكن لم يبين هنا في هذه السورة ما هو الذي قدمته أيديهم، والذي حال دون تمني الموت هو شدة حرصهم على الحياة، كما بينه قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] لعلمهم أنهم إذا ماتوا دخلوا النار، ولو تمنوا لماتوا من حينهم.
((بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)) هذه الباء سببية، والمسبب انتفاء تمنيهم.
ومن هذه الأسباب كما قال الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181] والذين قالوا هذا القول الكفري هم اليهود.
فبسبب هذه المذكورات لم يتمنوا الموت، بل هم كما قال تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96] فهم قد أيقنوا بالهلاك ويئسوا من الآخرة، قال تعالى في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] أي: أن هؤلاء اليهود آيسون من رحمة الله، ولذلك لم يتمنوا أن ينتقلوا إلى الدار الآخرة.
((لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) الغضب يكاد يكون عَلماً على اليهود، وقال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] وهم اليهود كما جاء في الحديث الصحيح، {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وهم النصارى.
فغضب الله من خصائص اليهود؛ لأنهم أحق الناس بصفة الغضب، وهم الأمة المغضوب عليهم.(172/4)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي)
يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9].
هذا الموضع يتعلق بتفسير آيات الأحكام، أحكام الأذان وأحكام يوم الجمعة وصلاة الجمعة، وقد سبق أن درسناه بالتفصيل في الفقه، لكن من أراد التفصيل فليرجع إلى كتب تفسير آيات الأحكام.
قوله: ((إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) (من) هنا بمعنى: (في) كما في قول الله تبارك وتعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} [فاطر:40] أي: أروني ماذا خلقوا في الأرض.
وقيل: إن (من) في قوله: ((مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) تبعيضية.
لقد ربط الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى بين صلاة الجمعة وبين الحج حيث يقول: هذه الآية الكريمة وهذا السياق يشبه في مدلوله وصورته قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27 - 28] وقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198].
ففي كلٍ منهما نداء للصلاة، ففي الجمعة قال: ((إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) وفي الحج قال: ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)) كلاهما أذان وإعلان وأذان الحج فيه صلاة وسعي وذكر لله ثم انتشار وإفاضة، {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وهذا مما يربط الجمعة بالحج في الشكل وإن اختلفا في الكيف.
وهذا أيضاً مما يجعل مباحث الجمعة لا تقل أهميةً عن مباحث الحج، وتتطلب عناية بها كالعناية به، ومن هنا فصل الشيخ عطية سالم الكلام في أحكام الجمعة، اقتداءً بشيخه الشنقيطي، فإنه في الجزء الخامس لما شرح تفسير سورة الحج توسع في أحكام الحج، وهو حوالي ثلاثمائة وخمس وخمسين صفحة كلها في فقه الحج، ما عدا مائة واثني عشر صفحة في أحكام صلاة الجمعة، فهو رابط بينهما لوجود وجه الشبه بين الحج وصلاة الجمعة.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) أي: عند جلوس الإمام على المنبر؛ لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداءٌ سِواه، كان إذا جلس على المنبر أذن بلال رضي الله تعالى عنه.
((فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)) ذكر الله الخطبة والصلاة؛ لأن الخطبة والصلاة هما المؤكدتان في ذلك.
((وَذَرُوا الْبَيْعَ)) أي: ذروا البيع في ذلك الوقت.
قال أبو مالك: كان قوم يجلسون في بقيع الزبير فيشترون ويبيعون إذا نودي للصلاة يوم الجمعة ولا يقومون، فنزلت: ((إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ)).
قوله: ((ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ)) أي: سعيكم للصلاة وترك البيع خير لكم مما نفعه يسير وربحه فائض.
((مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) أي: من الصلاة في يوم الجمعة.
((فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)) لقد منع الله سبحانه وتعالى من البيع عند صلاة الجمعة، وحرمه في وقتها على من كان مخاطباً بفرضها، بخلاف من تسقط عنهم صلاة الجمعة كالمسافر والصبي والمرأة والمريض.
البيع يطلق على الشراء أيضاً فلذلك اكتفى الله سبحانه وتعالى بذكر أحدهما: ((وَذَرُوا الْبَيْعَ)) مثل قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] أي: وتقيكم البرد؛ وخص البيع لأن أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق، لأن المشتري لا بد له من بائع، فإذا سُد المنبع ومُنع البائع من أن يبيع، فالمشتري لن يجد أحداً يشتري منه.
((وَذَرُوا الْبَيْعَ)) هذا أمر بالترك وهو أقوى من النهي، أي: أقوى من أن يقال: (لا تبيعوا) وهو مثل قوله تعالى في الخمر: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] وهو أقوى من قوله: (لا تشربوه).
في هذه الآية أوضح دليل يُرد به على من يُلبس الشيطان عليهم بانشغالهم بأمر الرزق، وبما يزعمونه من أن العمل عبادة، مثلما يقول أحدهم: نحن في عبادة والعمل عبادة، فيضيعون الصلاة احتجاجاً بالرزق.
هذه الآية تأمر أمراً واضحاً بترك السعي للرزق إذا جاء وقت الصلاة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9].
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي: اتجروا واربحوا كما تشاءون، فمثلها أيضاً قوله تعالى في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36 - 37] إلى آخره، فهذا أيضاً مما يبطل الدعوى في الانشغال بالرزق عن الصلاة، فأشار الله سبحانه وتعالى إلى أن الانشغال بالصلاة هو أحد أسباب إدرار الزرق كما في سورة طه يقول تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].(172/5)
معنى السعي في قوله تعالى: (فاسعوا إلى ذكر الله)
اُختلف في المقصود بقوله تبارك وتعالى: ((فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)).
فالسعي يطلق على أمور عدة: الأول: أن السعي يأتي بمعنى القصد.
قال الحسن في تفسير هذه الآية: والله ما هو بسعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية.
القول الثاني في تفسير السعي: أن المقصود بالسعي العمل، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19] وقوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]، وقال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، وقال زهير: سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما تبزل ما بين العشيرة بالدم أي: أن هناك رجلين من قبيلة غيظ بن مرة سعيا في تحصيل الديات فعملا عملاً حسناً، لكن بعد أن قام ناس فقتلوا قتيلاً فحصل بينهم تصدع في القبيلة، فسعى هذان الرجلان من قبيلة غيظ بن مرة في جمع الديات حتى لا يحصل تصدع بين الناس وقتال.
وقال الشاعر أيضاً: إن أجز علقمة بن سعد سعيه لا أجزه ببلاء يوم واحد يعني: أن أفضاله عليه لا يمكن أن يوفيها.
المعنى الثالث من معاني السعي: المشي على الأقدام المنافي للركوب، وذلك له فضل، ذكر البخاري (أن أبا عبس بن جبر رضي الله عنه مشى إلى الجمعة راجلاً على قدميه، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) إذاًَ: الأفضل أن يخرج العبد المسلم إلى الصلاة ماشياً؛ استدلالاً بهذا الحديث.
فالسعي هنا بمعنى المشي على الرجلين مخالف للركوب.
المعنى الرابع من معاني السعي: الجري السريع والاشتداد، فهذا هو أحد معاني كلمة السعي، لكنه غير مراد هنا، ولذلك قال المفسرون: وهو الذي أنكره الصحابة الأعلمون والفقهاء الأقدمون، وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية: (فامضوا إلى ذكر الله) وهذه قراءة تفسيرية.
وقال ابن مسعود: (لو قرأت: (فاسعوا) لسعيت حتى يسقط ردائي).
وهذا كله تفسير منهم لا قراءة قرآن منزل، وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير والتعليم والإفهام، فتكون قراءة مفسرة، وليس معنى ذلك أنها أوحيت إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
وكذلك قال الشاعر: أسعى على جل بني مالك كل امرئ في شأنه ساعي يسعى عليهم يعني: ينفق عليهم.
ومما يدل على أنه ليس المراد بالسعي هنا العدو حديث (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) فقوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (فلا تأتوها وأنتم تسعون) أي: لا تأتوها بالجري، فهذا منهي عنه إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا كان قريباً من المسجد وسمع إقامة الصلاة، فهنا يجري كي يدرك تكبيرة الإحرام.
وقال قتادة: السعي أن تسعى بقلبك وعملك.
فجمع مع السعي بالقلب القصد والعمل.
هذا فيما يتعلق بمعنى قوله تعالى: ((فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)).
مسألة: كره بعض السلف التفرغ عن العمل يوم الجمعة، ورأى بعضهم أن في ذلك تشبه باليهود؛ لأن العمل يوم الجمعة فيه التزام بالأمر هنا، كما في قوله سبحانه: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10].(172/6)
تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة)
قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10].
قوله: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ)) أي: إذا أديت وفُرغَ منها.
((فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)) الأمر هنا في قوله: (فَانتَشِرُوا) ظاهره الوجوب، لكن هناك قرائن تفيد الإباحة، وهي أنه جاء بعد نهي، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] بعد النهي عن الصيد في حال الإحرام أتت الإباحة.
قوله: ((وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) قال سعيد بن جبير: الذكر طاعة الله تعالى، فمن أطاع الله فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكر، وإن كان كثير التسبيح.
((وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) أي: اذكروا أمره ودينه وشرعهُ دائماً، لتصير ملكة لكم تظهر آثارها على أعمالكم وأخلاقكم، فتفلحوا بسعادة الدارين.
وقال ابن جرير: أي: اذكروه بالحمد له، والشكر على ما أنعم به عليكم من التوفيق بأداء فرائضه لتفلحوا، فتدركوا طلباتكم عند ربكم، وتصلوا إلى الخلد في جنانه.(172/7)
تفسير قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها)
قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11].
((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً)) سبب نزولها: أنه كان بأهل المدينة فاقة وحاجة، فأقبلت عير من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً.
((أَوْ لَهْوًا)) أي: ما تلهو به النفس عن الحق والجد النافع.
((انفَضُّوا إِلَيْهَا)) أي: أسرعوا إلى التجارة خشية أن يسبقوا إليها وإنما أوثر ضميرها فقال: ((انفَضُّوا إِلَيْهَا)) ولم يقل: (انفضوا إليهما) ولا قال: (انفضوا إليه)؛ لأن التجارة هي الأساس، أما اللهو فهو شيء تابع.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: في عود الضمير على التجارة وحدها مغايرة لذكر اللهو معها.
قال الزمخشري: تقديره: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.
وذكر قراءة أخرى: (انفضوا إليه) بعود الضمير إلى اللهو، وهذا التوجيه قد يسوغ لغة كما في قول نابغة ذيبان: وقد أراني ونعماً لاهيين بها والدهر والعيش لم يهمم بإمرار فهنا ذكر الدهر والعيش وأعاد عليهما ضميراً منفرداً؛ اكتفاء بأحدهما عن الآخر للعلم به، وهو كما قال ابن مالك: وحذف ما يعلم جائز أي: وحذف ما يعلم من السياق جائز.
فلم يقل: (يهمّا)، فهو كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] أي: تقي الحر وتقي البرد، فاكتفى بذكر أحدهما لدلالته على الآخر.
لكن المقام هنا خلاف ذلك، وقد قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى عن هذه الآية في دفع إيهام الاضطراب: لا يخفى أن أصل مرجع الضمير هو الأحد الدائر بين التجارة واللهو.
أي: أن الضمير يعود إلى أحد الأمرين التجارة أو اللهو.
قال: بدلالة لفظة (أو) على ذلك.
أي: فإنه قال: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا)) أي: إذا رأوا أحد الأمرين.
قال: ولكن الضمير رجع إلى التجارة وحدها دون اللهو، فبينه وبين مفسره بعض منافاة في الجملة.
و
الجواب
أن التجارة أهم من اللهو، وأقوى سبباً في الانفضاض عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم انفضوا من أجل العير، واللهو كان من أجل قدومها.
مع أن اللغة يجوز فيها رجوع الضمير لأحد المذكورين قبله، أما في العطف بـ (أو) فواضح، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء:112]، وأما (الواو) فهو فيها كثير مثل قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا} [البقرة:45].
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34].
قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا} [النساء:112] الخطيئة والإثم متساويان في النهي والعصيان.
وكذلك قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] فالصبر هو حبس النفس على الطاعة، والصلاة هي جزء من الصبر، ووجود الأخف يقتضي وجود الأعم؛ لأن الصلاة وسيلة للصبر: (وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة).
كذلك قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا} [التوبة:34] فالضمير في قوله: (ولا ينفقونها) عائد على الفضة؛ لأن كنز الفضة أكثر، وصورة الكنز حاصلة فيها بصفة أوسع لدى كثير من الناس، فكان توجيه الخطاب إليهم بها أولى، والقيمة النقدية للفضة أقل والذهب أعظم، فكأن هذا تنبيه بالأدنى على الأعلى، فكأنه أشمل وأعم وأشد تخويفاً للناس! أما الآية هنا فإن التوجيه الذي وجهه الشيخ رحمه الله تعالى لعود الضمير على التجارة، فإنه في السياق ما يدل عليه، وذلك في قوله تعالى بعدها: ((قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ)) فذكر السببين المتقدمين لانفضاضهم عنه صلى الله عليه وسلم، ثم عقبه بقوله تعالى، بالتذييل المشعر بأن التجارة هي الأصل بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] والرزق ثمرة التجارة.
ونقل أبو حيان عن ابن عطية: تأمل إن قدمت التجارة على اللهو في الرؤيا؛ لأنها أهم، وأُخرت مع التفضيل؛ لتقع في النفس أولاً على الأبين.
يريد بقوله: (في الرؤيا) قوله: ((وَإِذَا رَأَوْا)) وبقوله: (مع التفضيل) قوله: ((قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ)) أي: لأن اللهو أبين في الظهور.
يقول: والذي يظهر والعلم عند الله تعالى أنه عند التفضيل ذكر اللهو للواقع فقط؛ لأن اللهو لا خير فيه مطلقاً فليس محلاً للمفاضلة، وأخر التجارة لتكون أقرب للرزق؛ لارتباطهما معاً؛ لأن التجارة من الأصلح كونها عند الله خيراً من اللهو.
فلو قدمت التجارة هنا لكان ذكر اللهو فاصلاً بينها، فلو قال: (قل ما عند الله خير من التجارة ومن اللهو والله خير الرازقين).
لكان أنسب أن تؤخر التجارة حتى تكون ملتصقة بما هو مرتبط بها وهو الرزق.
وقال الشهاب في قوله تعالى: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً)): كما قلنا إنها التجارة.
((أو لهواً)) أي: ما تلهو به النفس عن الحق والجد والنفع.
((انفَضُّوا إِلَيْهَا)) أي: أسرعوا إلى التجارة خشية أن يسبقوا إليها، وإنما أوثر ضميرها لأنها الأهم والمقصود.
((وَتَرَكُوكَ قَائِمًا)) على المنبر.
((قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ)) أي: من الثواب المرجو بسماع الخطبة والعظة بها.
((خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ))؛ لأن الثواب مخلد نفعه، بخلاف ما يتوهمونه من التجارة فثوابها نافذ.
وقال الشهاب أيضاً: وتقديم اللهو؛ لأنه أقوى مذمة، فناسب تقديمه في مقام الذم.
((وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده، ويرزق من يكفر به ويجحده، فهو يعطي من سأل ويبتدئ بالإعطاء من لا يسأل، وغيره إنما يرزق من يرجو منفعته ويقدر على خدمته، ويقبل على خدمته، حتى الذي يعطي شخصاً فقيراً صدقات مثلاً فهو يعطيه هذه النفقة لأجل منفعة، وهي أنه يقصد بذلك الثواب والأجر في الآخرة، أما الله سبحانه وتعالى فهو الغني الحميد، والله غني عن عباده، فقوله تعالى: ((وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) أي: اعملوا الأعمال الباقية عنده، فإنها خير من الأمور الفانية عندكم، وفوضوا أمر الرزق إليه بالتوكل والثقة بفضله فإنه خير الرازقين.(172/8)
تنبيهات وأحكام تؤخذ من سورة الجمعة
التنبيه الأول: قد عرفنا الارتباط الموضوعي بين الآيات في الجزء الأول من السورة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:2 - 4]، ثم قال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} [الجمعة:5] وتكلمنا عن الارتباط بين هذه وبين ما قبلها: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5] إلى قوله تبارك وتعالى: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا))، ثم قال تعالى بعد قوله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} [الجمعة:8] إلى آخر الآية، ثم ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)).
يقول الرازي: وجه تعلق آية الجمعة بما قبلها، هو أن الذين هادوا يفرون من الموت بمتاع الدنيا وطيباتها، والذين آمنوا يبيعون ويشرون بمتاع الدنيا وطيباتها كذلك، فنبههم الله تعالى بقوله: ((فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)) إلى ما ينفعهم في الآخرة وهو حضور الجمعة؛ لأن الدنيا وما فيها فانية، والآخرة وما فيها باقية، قال تعالى: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17].
ووجه آخر في التعلق، قال بعضهم: قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه، فكذبهم بقوله: ((فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ))، وافتخروا بأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً، وافتخروا بالسبت وأن ليس للمسلمين مثله فشرع الله للمسلمين يوم الجمعة.
قال المهايمي في وجه المناسبة: بيَّن تعالى أن مقتضى الإيمان الاجتماع على الخير، لاسيما الشكر على الإنسانية؛ لئلا تنقلب حمارية أو بهيمية، في مقابلة اجتماع أهل الكتاب على الشر الذي جرهم إلى الحمارية أو البهيمية.
التنبيه الثاني: وقال السيوطي في الإكليل في قوله تعالى: ((إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)): فوائد الآية باختصار: مشروعية صلاة الجمعة والأذان لها، والسعي إليها، وتحريم البيع بعد الأذان، واستدل بالآية من قال: إنما يجب إتيان الجمعة على من كان يسمع فيها النداء، واستدل بها من قال: لا يحتاج إلى إذن السلطان؛ لأنه تعالى أوجب السعي ولم يشترط إذن أحد، ومن قال: لا تجب على النساء لعدم دخولهن في خطاب الذكور.
وقال في الإكليل في قوله تعالى: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ)) فيها إباحة الانتشار عقب الصلاة فيستفاد منه تقديم الخطبة عليها.
ونحن نعرف أن صلاة الجمعة لابد لها من خطبة، والدليل على وجوب الخطبة من السورة قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] لولا أن حضور الخطبة والإنصات إليها واجب، لما عاب الله تركهم للخطبة؛ لأن قوله: ((وَتَرَكُوكَ قَائِمًا)) أي: قائماً في حال الخطبة.
وأيضاً يؤخذ من هذا: أن الأصل في الإمام أن يخطب خطبة الجمعة قائماً.
كذلك يؤخذ منها: تقديم الخطبة على الصلاة، بدليل قوله تعالى: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ)) بخلاف صلاة العيد فإن الخطبة تأتي بعد الصلاة.
في الجمعة تكون الخطبة أولاً ثم الصلاة ثم الانتشار، وهذا هو الذي يفهم من الآية: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ)) أي: يفهم أن الخطبة تكون مقدمة على الصلاة؛ لأنه لا يشرع بعد أدائها صلاة ما، غير أنه صلى الله عليه وسلم كان يتنفل بعدها في بيته ركعتين أو أربعاً، وأما اعتقاد فرضية الظهر بعدها إذا تعددت فتعصب مذهبي لا برهان له.
يقول القاسمي: الحاجة في هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة، إذ ليس للناس جامع واحد يسعهم ولا يمكنهم إقامة جمعة واحدة أصلاً، إلا أن خروجها إلى حد أن لا فرق بينها وبين بقية الصلوات في كثير من المساجد الصغيرة، التي لم تشيد لمثلها قد هول فيه السبكي في فتاوية؛ لأنه مما تأباه مشروعيتها وما مضى عليه عمل القرون الثلاثة، بل تسميتها جمعة على وزن وصيغة (فُعلة) في اللغة للمبالغة، وبالجملة فالجوامع الكبار التي تؤمها الأقوام يوم الجمعة، ويحتاج لإقامتها فيها حاجة بينة لمجاوريها، هي التي لا خلاف في جوازها مهما تعددت والتي لا تعاد الظهر بعدها.
التنبيه قبل الأخير: يدل قوله تعالى: ((وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)) على عدم مشروعية تعطيل يوم الجمعة، ففيه تعريض بمجانبة التشبه بأهل الكتاب في تعطيل يومي السبت والأحد، والأصل أن كل ما لم ينص عليه الكتاب الحكيم ولا الهدي النبوي فهو تشريع ما لم يأذن به الله، وإذا رفع الله بفضله عنا الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، فما بالنا نستدرها إلينا بالأسباب الضعيفة، اللهم غفراً.
إذاً: التحذير من التشبه باليهود أو بالنصارى وبالذات اليهود في موضوع يوم السبت؛ لأن بعض المسلمين قد يلزم نفسه بأشياء أو يمتنع عن فعل أشياء يوم الجمعة تعظيماً ليوم الجمعة، مثلاً: بعض النساء قد تمتنع من غسيل الملابس أو تنظيف البيت يوم الجمعة، فهذا فيه تشبه باليهود الذين يمتنعون عن الأعمال يوم السبت، ويجعلون ذلك من تعظيم يوم السبت، فمن ثم استحب بعض العلماء الشروع في التجارة والعمل عقب صلاة الجمعة مباشرة؛ امتثالاً لقوله تعالى: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ)).
التنبيه الأخير: قال في الإكليل في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11]: يؤخذ منه مشروعية الخطبة والقيام فيها واشتراط الجماعة في الصلاة، وسماعهم الخطبة، وتحريم الانفضاض، وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: (قدمت عير مرة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلاً، فنزلت: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11]).
وروى ابن جرير عن جابر قال: (كان الجواري إذا نكحوا يمرون بالكبر والمزامير ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر وينفضون إليها، فأنزل الله تعالى: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا))).
هذا آخر ما تيسر في تفسير سورة الجمعة، والله أعلم.(172/9)
تفسير سورة التغابن [1 - 7](173/1)
تفسير قوله تعالى: (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك)
سورة التغابن هي السورة الرابعة والستون، وآيها ثماني عشرة.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: هي مكية على ما يظهر من أمثالها من السور، أي: موضوع هذه السورة وسياقها يستأنس به في كونها سورة مكية؛ لأنها تشبه نظائرها من السور المكية، وقيل: مدنية.
قال الله سبحانه وتعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1].
قوله تعالى: ((يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ)) أي: له ملك السماوات والأرض ونفوذ الأمر فيهما.
قوله: ((وَلَهُ الْحَمْدُ)) أي: له الثناء الجميل؛ لأنه مُولي النعم وموجدها.(173/2)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2] أي: هو الذي انفرد بإيجادكم في أحسن تقويم قابل للكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر جاحد للحق كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته، ومنكم مختار للإيمان كاسب له حسبما تقتضيه خلقته، وكان الواجب عليكم جميعاً أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليها من سائر النعم، فالله سبحانه وتعالى يخلقكم على الفطرة السوية فطرة التوحيد ومع ذلك منكم كافر ومنكم مؤمن، فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه، بل تشعبتم شعباً وتفرقتم فرقاً.
قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) هنا قدم الكافر لأنه الأكثر، قال عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] فتقديم الكفر باعتبار أن أغلب الناس على هذا الكفر، وأيضاً تقديم الكفر هو الأنسب لمقام التوبيخ.
قوله: ((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) أي: سيجازيكم به فآثروا ما ينفعكم، وجانبوا ما يهلككم.
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمناً وكافراً.
وفي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعلم أهل الجنة فيدخلها) خرجه البخاري والترمذي، وليس فيه ذكر الباع.
وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة) قال علماؤنا: والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم، فيجري ما علم وأراد وحكم.
لأنه لا يقع في هذا الوجود إلا ما سبق به علم الله عز وجل وقضاؤه وقدره، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال من وقت أن يكلف إلى أن يموت فيثبته على الإيمان، ومنهم من يريد إيمانه إلى وقت معلوم ثم والعياذ بالله بعد ذلك ينتكس عن ذلك، كذلك الكفر منهم من يشاء الله سبحانه وتعالى أن يخلقه كافراً على وجه العموم، حتى إنه يقضي عمره كله في الكفر، ومنهم من يريده كافراً إلى وقت قد قضاه الله سبحانه وتعالى.
فقوله: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) مثل قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، وقوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3].
وقيل: في الكلام محذوف تقديره: فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق، فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه.
يعني: يفهم من السياق أيضاً أن من الناس من يكون فاسقاً مؤمناً مرتكباً للكبائر أو المعاصي، وهذا القول قاله الحسن، وقال غيره: لا حذف؛ لأن المقصود ذكر الطرفين: الكافر والمؤمن، أما ما بينهما فما قصد الإشارة إليه في هذه الآية الكريمة.
وقال جماعة من أهل العلم: إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا، قالوا: وتمام الكلام: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) فتقف ثم تبدأ وتقول: ((فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ))، وهذا كقول الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور:45] قالوا: فالله خلقهم والمشي هو فعلهم.
وهناك تفسير لقوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) أنه إشارة إلى فعل الله فقط، وأنه هو الذي خلقكم وجعل منكم كافراً وجعل منكم مؤمناً، وهذا على أن الإنسان هو الذي شاء ذلك الكفر والإيمان، أما على القول الآخر: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) ففيه إثبات لحقيقة أن منكم من يكفر ومنكم من يؤمن، فالكلام هنا على فعل المخلوقين، مثل قوله تبارك وتعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)) وانتهى الكلام، ثم يقول تعالى: ((فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ)) فأعاد الكلام على فعل هذا المخلوق، فالله خلقهم والمشي فعلهم، ونفس هنا المعنى في هذه الآية واختاره الحسين بن القاضي وقال: لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله تعالى: ((فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ))، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
إذاً: لا يوجد تعارض بين التفسير الأول وبين هذا الحديث؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة، لكن من الناس من يشاء الله سبحانه وتعالى أنه بعد التكليف يكون كافراً، ومنهم من يشاء الله أن يكون مؤمناً، وما المقصود بالفطرة؟ المقصود بها التوحيد والإسلام، أي أن كل مولود يولد على الإسلام، وعنده الاستعداد لتقبل الحق، وليس أنه يولد فقيهاً أو حافظاً للقرآن، بدليل قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] فالمقصود هنا الاستعداد لدين الحق، فالأصل هو التوحيد ثم يأتي الشرك ويطرأ عليه بعد ذلك لسبب من الأسباب، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم لأخطر سبب من هذه الأسباب -وهو تأثير البيئة على الأولاد- فقال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
وقال الضحاك: فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر كافر في العلانية كـ عمار وذويه، ممن تلفظ بكلمة الكفر بسبب الإكراه.
وقال عطاء بن أبي رباح: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، وهذا إشارة إلى الحديث الذي فيه أنهم أصبحوا وقد نزل المطر من السماء، فقال النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة: (قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا ونوء كذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) فـ عطاء بن أبي رباح فسر الآية بهذا الحديث.
وقال الزجاج: وهو أحسن الأقوال، لكن الذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة: أن الله سبحانه وتعالى خلق الكافر وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان، والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه؛ لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه، ولا يجوز أن يوجب لكل واحد منهما غير الذي قدر عليه وعلمه منه؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل، ولا يليقان بالله تبارك وتعالى، وفي هذا من التوسط لفهم عقيدة القضاء والقدر سلامة من بدعة الجبرية الذين يسلبون العبد إرادته، وبدعة القدرية الذين ينفون القدر السابق، فالحق وسط بين الأمرين: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29]؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو قدر وقوع الكفر من فلان ثم وقع خلاف الذي قدره الله فهذا عجز لا يليق بالله سبحانه وتعالى، وكذلك إذا علم الله سبحانه وتعالى وقوع الإيمان من شخص ثم وقع الكفر من هذا الذي علم الله منه أنه مؤمن ووقع خلاف المعلوم فهذا جهل لا يليق بالله سبحانه وتعالى، يقول الشاعر: يا ناظراً في الدين ما الأمر لا قدر صح ولا جبر لا مذهب الجبرية صحيح ولا مذهب القدرية، وإنما الحق وسط بين الطرفين.
قال سيلان: قدم أعرابي البصرة فقيل له: ما تقول في القدر؟ فقال: أمر تغالت فيه الظنون، واختلف فيه المختلفون، فالواجب أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه تبارك وتعالى.
قضية القضاء والقدر من أخطر القضايا؛ لأنها سدس الإيمان، فهي أحد أركان الإيمان الستة، وأركان الإيمان هي: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله سبحانه وتعالى.
إذاً: لا ينجو الإنسان ولا يصح له الإيمان حتى يؤمن بقضاء الله وقدره تبارك وتعالى.
وقضية القضاء والقدر ليس كما يتصورها بعض الناس أنها عقد جلسات للجدل والمماراة كما يحصل من بعض الشباب، وكل واحد يدلي بدلوه بحسب اجتهاده، هذا يقول: الإنسان مخير، والآخر يقول: هو مسير، وكأن الموضوع متروك لاجتهادات الناس! كلا، فالإيمان بالقدر هو الركن الركين من أركان العقيدة الإسلامية، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام نصوصاً من القرآن تبين لنا ما الذي يجب أن نؤمن به في القضاء والقدر، وهذه الحقائق التي اشتملت عليها هذه النصوص لا سبيل إلى اكتشافها بالعقل، فلم يبق إلا أن يوحى إلينا عن طريق الوحي الصادق بهذه الحقائق الغيبية بالنسبة إلينا، فمثلاً: آية الميثاق هذه من الأمور المتعلقة بالخوض في القضاء والقدر وهي قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:172] إلى آخره، فهذا أمر غيبي، لا يمكن أبداً للعقل أن يصل إليه، والإيمان بهذا الأمر وهذا التقدير أمر في غاية الأهمية، كذلك أنواع التقدير وأنواع الإرادة ونحو ذلك يجب أن نتعلمه بالتلقي(173/3)
تفسير قوله تعالى: (خلق السموات والأرض بالحق)
يقول تبارك وتعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن:3].
قوله: ((خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ)) أي: بالحكمة البالغة التي ترشد إلى المصالح الدينية والدنيوية.
وقال القرطبي: أي: خلقها حقاً يقيناً لا ريب فيه، وقيل: (الباء) بمعنى (اللام) في قوله: (بِالْحَقِّ) أي: للحق.
ما هو هذا الحق؟ هو أن يجزي الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى.
قوله: ((وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)) أي: حيث برأكم في أحسن تقويم كما قال عز وجل {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]؛ وذلك أنه تعالى جعل الإنسان معتدل القامة على أحسن هيئة، وهذه بلا شك من معاني خلق الإنسان في أحسن تقويم، فإذا قارنت الإنسان بغيره من الدواب والمخلوقات لوجدت هذا التكريم العظيم، أولاً في الهيئة والصورة، فلا يوجد مخلوق هو أحسن هيئة من الإنسان؛ لأن من المخلوقات من يزحف على بطنه، ومن يمشي على أربع، أما الإنسان فهو المختص بأنه يمشي على رجلين معتدل القامة بقدرة الله تبارك وتعالى.
وآتاه نعمة العقل الفارقة بين الإنسان وبين الحيوان، فهذا أيضاً من خلق الإنسان في أحسن تقويم.
وآتاه قوة النطق حتى إنهم ليقولون: الإنسان حيوان ناطق.
كذلك آتاه قوة التصرف في المخلوقات بحيث سخرها الله عز وجل له.
كذلك القدرة على أنواع الصناعات، فالإنسان عنده من الطاقات والقدرات ما جعله الله عز وجل بها قادراً على تسخير ما في الأرض لصالحه، وهذا هو المعنى الأقرب، وإن كان بعض العلماء قالوا: ((وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي: صور أباكم آدم عليه السلام وخلقه بيده كرامة له، لكن القول الأقرب أنه خلق جميع الخلائق وجعل الإنسان أحسن الحيوانات كلها وأبهاها صورة، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، هل يوجد إنسان يتمنى أن يكون سمكة أو عصفواً أو قرداً أو حصاناً؟ يستنكف الإنسان من ذلك، فهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى كرمه قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، والمخلوقات كلها مسخرة من أجل هذا الإنسان، وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى خلقه في أحسن صورة وفي أحسن تقويم، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكس كالحيوانات التي تمشي على أربع أو غير ذلك، كما قال عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، فمن خلقه الله في أحسن تقويم هل يليق أن يزعم الزاعمون الكذابون أن الإنسان والشمبانزي (القرد) ينحدران من أصل واحد كما يزعم الضال داروين ومن تابعه؟ لا يمكن أبداً، وهذا الكلام لا يقوله إلا ملحد، أما نحن فقد علمنا حقيقة خلقنا بالوحي، فالله سبحانه وتعالى أخبرنا عن هذا الغيب؛ لأنا لم نر آدم عليه السلام، وإنما كان آدم يعرف ربه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23] أي: كان آدم وحواء يعرفان الله، وكانا على التوحيد، وكانا على أكمل صورة، وآدم كان نبياً كما جاء في الحديث، أما هؤلاء الملاحدة فإنهم يصورون ما يسمونه بالإنسان الأول على أنه أقرب ما يكون من القردة، ومن ثم يترقى كذا وكذا! فهذا مما يتصادم صراحة مع قول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4].
قوله: ((وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)) أي: المرجع فيجازي كلاً بعمله.(173/4)
تفسير قوله تعالى: (يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون)
قال الله عز وجل: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن:4] أي: أنه عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء.
قوله: ((وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) أي: يعلم خفايا الصدور وما تنطوي عليه.
وقوله: ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) فيه تقرير لأول الآية وهي قوله: ((يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ))؛ لأنه إذا علم السرائر وخفايا الضمائر لن يخفى عليه خافية من جميع الكائنات.
قال الزمخشري: نبه بعلمه ما في السماوات والأرض، ثم بعلمه ما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور؛ أن شيئاً من الكليات والجزئيات غير خاف عليه ولا عازب عنه.
فالله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء على الإطلاق، ويعلم تفاصيل وجزئيات كل ما في الوجود.
ثم قال: فحقه أن يتقى ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه، وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد.
أي: فتكرار صفة العلم فيها نوع من تكرار الوعيد، وأنه سوف يحاسبكم على ما يعلمه منكم.
ثم قال: وكل ما ذكره بعد قوله تعالى: ((فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) كما ترى في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته.
فقوله: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) فيها وعيد بأنه سوف يجازيهم، كذلك قوله: ((خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)) هذه نعمة الخلق وتقتضي الشكر، وبالتالي يعاقب من كفر، وقوله: ((يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) هذه فيها معنى الوعيد.(173/5)
تفسير قوله تعالى: (ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل)
قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التغابن:5] أي: ألم يأتكم معشر الكفرة الفجرة، وقيل الخطاب لقريش: ألم يأتكم خبر كفار الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط.
((فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ)) أي: من عذاب الاستئصال، والوبال الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور.
قوله: ((أَمْرِهِمْ)) أي: كفرهم، وعبر عنه بذلك؛ للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة.
قوله: ((وَلَهُمْ)) أي: في الآخرة ((عَذَابٌ أَلِيمٌ)).(173/6)
تفسير قوله تعالى: ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:6].
قوله: ((ذلك)) تعليل، أي ذلك المذكور من ذوقهم وبال أمرهم في الدنيا وما أعد لهم من عذاب الأخرى؛ بسبب أنه أتتهم رسلهم بالواضحات من الأدلة على حقيقة ما يدعونهم إليه فنبذوها واتبعوا أهواءهم، واستهزءوا برسلهم وقالوا: ((أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)).
قال ابن جرير: قالوا ذلك استكباراً منهم أن تكون رسل الله إليهم بشراً مثلهم، واستكباراً عن اتباع الحق من أجل أن بشراً مثلهم دعاهم إليه! وهذه الشبهة طالما احتج بها الكفار، وقد اقترحوا نزول الملائكة حيث زعموا أن البشرية تتعارض مع الرسالة، وقالوا: كيف يكون بشراً رسولاً وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق مثلنا؟! لكن الله سبحانه وتعالى قال لهم: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} [الأنعام:8] يعني: أن الملك لا ينزل إلا بالعذاب والاستئصال، وقال لهم: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9] يعني: الملك إما أن يأتيهم في صورة غير صورتهم، فهم لن يطيقوا رؤية صورته، أو يأتي في صورة بشر فيلتبس عليهم الأمر من جديد، أو يأتيهم الملك في صورته الحقيقة ولن يكون ذلك إلا إذا نزل للعذاب.
وقال تعالى هنا: ((فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)) بالجمع ولم يقل: أبشر يهدينا؛ لأن البشر وإن كان يطلق على واحد فإنه بمعنى الجمع، ولذلك قال: ((يَهْدُونَنَا)).
قوله: ((فَكَفَرُوا)) أي: بالحق والدين والرسول، أي: كفروا بهذا القول إذ قالوه استكباراً، ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده، وقيل: كفروا بالرسول وتولوا عن البرهان وأعرضوا عن الإيمان والموعظة.
قوله: ((وتولوا)) أي: عن التدبر في الآيات البينات.
قوله: ((وَاسْتَغْنَى اللَّهُ)) أي: أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم، حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا غناه تعالى لما فعل ذلك، إذاً: الله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، وهو في كل حال مستغن عن عباده.
وقيل في قوله: ((وَاسْتَغْنَى اللَّهُ)): أي: استغنى الله مما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان عن زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية.
وقيل: يجوز أن يكون حالاً بتقدير (قد) أي: وقد استغنى الله بكماله وذاته عرفوا أو لم يعرفوا.
قوله: ((وَاللَّهُ غَنِيٌّ)) أي: بذاته عن العالمين، فإذا كان غنياً عن العالمين فهو غني بالأولى عن إيمانهم؛ لأنه لا يتوقف كمال من كمالاته عليهم، ولا على معرفتهم له.
قوله: ((حَمِيدٌ)) أي: يحمده كل مخلوق، أو هو حميد مستحق للحمد بنفسه وإن لم يحمده حامد؛ لأن واقع كل مخلوق أنه يحمد الله سبحانه وتعالى ويثني عليه بما هو أهله.(173/7)
تفسير قوله تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا)
قال تبارك وتعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7].
قوله: ((زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا)) أي: ظنوا، والزعم هو القول بالظن، قال شريح: لكل شيء كنية، وكنية الكذب (زعموا).
وقيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي مع خباب، ثم عمت كل كافر.
((زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا)) قل يا محمد: ((بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ)) أي: لتخرجن من قبوركم أحياء.
((ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ)) أي: تخبرن بأعمالكم.
((وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) إذ الإعادة أسهل من الابتداء، وقد تكلمنا في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] وقلنا: إن الله سبحانه وتعالى يخاطبنا على قدر عقولنا، إذا القدرة في حقنا نحن أن إعادة الشيء أسهل من القدرة على ابتدائه، وهذا أمر معروف في طاقة وعلوم البشر وفي إمكاناتهم.(173/8)
تفسير سورة التغابن [14 - 18](174/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14].
إن قعود الشيطان للإنسان يكون بوجهين: أحدهما: يكون بالوسوسة.
الثاني: أن يسلط على هذا الإنسان الزوجة أو الولد أو الصاحب.
إذاً: الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان، وقعد له في طريق الهجرة، وقعد له في طريق الجهاد، وقلنا: إما أن يوسوس مباشرة في قلب الإنسان، وإما أن يسلط عليه نواباً يوصلون هذه الرسائل المثبطة إلى قلبه، كالزوجة أو الولد، يقول تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25] وفي حكمة عيسى عليه السلام: (من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان للدنيا عبداً).
وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة -وهي كساء أسود مربع له أعلام وخطوط-، تعس عبد القطيفة -وهي بساط له أهداب-، تعس وانتكس -يعني: هلك وانتكس حيث عاوده المرض كما بدأ به، أو انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة-، وإذا شيك -أي: إذا أصابته شوكة- فلا انتقش -أي: لم تخرج شوكته بالمنقاش-).
لا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد! يقول القرطبي: كما أن الرجل يكون له ولده وزوجه عدواً، كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدواً.
أي: أن المرأة قد تكون هي الضحية؛ لأن كلمة أزواجكم في قوله: ((إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ)) عامة يدخل فيها الذكر والأنثى.
قوله: ((فاحذروهم)) الحذر على النفس يكون بوجهين: إما لضرر في البدن، أو لضرر في الدين، وضرر البدن يتعلق بالدنيا، وضرر الدين يتعلق بالآخرة، فحذر الله سبحانه العبد بذلك وأنذره منه.
عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)) قال: (كان رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله عز وجل: ((وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ))).
وقال مجاهد في الآية: ما عادوهم في الدنيا، ولكن حملتهم مودتهم على أن أخذوا لهم الحرام فأعطوه إياهم.
والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد، وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم.(174/2)
تفسير قوله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة)
قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15] نجد أن هناك قاسماً مشتركاً بين الفتنة والعداوة في الآيتين، والقاسم المشترك هم الأولاد، ففي الآية الأولى قال تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)) وهنا قال عز وجل في هذه الآية: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ))، فالأولاد قاسم مشترك يدل على أن هذه الفتنه من نوع خاص، حيث يخاف منها أكثر مما يخاف من غيرها.
قوله: ((فِتْنَةٌ)) أي: بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرم ومنع حق الله تعالى، فلا تطيعوهم في معصية الله، وقد جاء في بعض الآثار: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: أكل عيالُه حسناته).
والعيال كلمة عربية فصيحة يدخل فيها كل من يعوله الإنسان، يدخل فيها الزوجة والأولاد وكل من يعولهم وينفق عليهم.
يقول بعض السلف: العيال سوس الطاعات.
يعني: كما أن السوس يأتي إلى لوح الخشب وينخر فيه حتى يضيع وينهار فكذلك الطاعات قد يفسدها الافتتان بالأولاد.
وقال القتيبي: في قوله تعالى: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)): أي: إغرام، يقال: فتن الرجل بالمرأة أي أغرم بها، وقيل: فتنه محنه، ومنه قول الشاعر: لقد فتن الناس في دينهم وخلا ابن عفان شراً طويلاً وقال ابن مسعود: لا يقولن أحدكم: اللهم اعصمني من الفتنة؛ فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.
أي: ما من إنسان إلا وهو مبتلى، كما قال عز وجل: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2] وقال عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، وقال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، وقوله سبحانه: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15 - 16] فالإنسان في هذه الحياة كلها مفتون ومبتلى.
وقال الحسن: في قوله تعالى: ((إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)): أدخل (من) -وهي للتبعيض- لأن كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر (من) في قوله تعالى: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)) لأن الأولاد والمال لا يخلوان من الفتنة وانشغال القلب بهما.
وكيف نجمع بين قول ابن مسعود وبين الدعاء المأثور: (أعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)؟ ونقول: في هذه الحالة أنت لا تقصد بتعوذك من الفتن أصل الابتلاء؛ لأن الابتلاء لا ينفك عن الإنسان، ولا يصح أن تقول مثلاً: اللهم لا توردني على جهنم! هذا لا يليق، وليس من الأدب، وليس من فقه الدعاء أن تدعو بشيء قطع بأنه كائن؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] لم يبق أحد من الخلق إلا ويرد على النار.
فكذلك إذا قصدت بالدعاء التعوذ من الفتنة التي بمعنى الابتلاء فهذا لن يقع، ولذلك لما جاء خباب بن الأرت يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقوا من أذى قريش صبرهم، قال خباب: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟) فالرسول صلى الله عليه وسلم عدل عن الدعاء بعدم البلاء إلى تعزيتهم وتسليتهم، بما جرى لمن قبلهم، وبين لهم أن هذه سنة ماضية لا تتخلف.
فإذا تعوذت من الفتنة عموماً فيكون تعوذك من الفتنة التي تضلك في دينك، أما الفتنة التي هي بمعنى الاختبار، فالحياة كلها اختبار، ولا يبقى أحد أبداً بدون فتنة اختبار وامتحان؛ لأن الإنسان مبتلى إما بنعمة وإما بنقمة أو مصيبة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً إذا ذُكِّر ذكر)، وكما قال الراهب للغلام: (إنك خير مني وإنك ستبتلى)، وكما قال ورقة بن نوفل للرسول عليه الصلاة والسلام: (هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيه جذعاً، يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، قال: أو مخرجي هم؟! قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) فانظر إلى هذه القاعدة: (لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا أوذي)، فهذه سنة الله ماضية، ولذلك الشافعي لما قال له الرجل: أيهما خير للإنسان أن يمكن أو أن يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى.
فهذه سنة ماضية، يقول الله عز وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:2 - 3] إلى آخر الآيات، فالشاهد أنك إن تعوذت من الفتنة مطلقاً فيكون قصدك مضلات الفتن كما قال ابن مسعود وليس أصل الاختبار والابتلاء؛ لأنه لا يوجد أحد لا يبتلى ولا يختبر، حتى ولو كان مغموراً بنعم الله؛ لأن النعم كلها -مثل: العافية- فتنة واختبار وامتحان، هل يشكر أم يكفر.
قوله: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)).
روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين عليهما السلام وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال صدق الله عز وجل: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما، ثم أخذ في خطبته صلى الله عليه وسلم).
قوله: ((وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) أي: الجنة، فهي الغاية ولا أجر أعظم منها.
وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً) ولا شك أن الرضا غاية الآمال، يقول بعض الشعراء: امتحن الله به خلقه فالنار والجنة في قبضته فهجره أعظم من ناره ووصله أطيب من جنته يقول القاسمي في قوله تعالى: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)): أي تفتتن بهما النفس، ويجري عليها البلاء بهما إذا أوثرا على محبة الحق.
يعني المنهي عنه ليس هو محبة الأموال والأولاد، وإنما الفتنة المحظورة هي التي تقود إلى طاعتهم في معصية الله، أو الانشغال بهم عن حقوق الله تبارك وتعالى.
قوله: ((وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) أي: لمن آثر طاعة الله ومحبته عليهما.
روى ابن جرير عن الضحاك قال: كان هناك أناس من قبائل العرب كان يسلم الرجل أو النفر من الحي، فيخرجون من عشائرهم ويدعون أزواجهم وأولادهم وآباءهم؛ عامدين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتقوم عشائرهم وأزواجهم وأولادهم وآباؤهم فيناشدونهم الله ألا يفارقوهم ولا يؤثروا عليهم غيرهم، فمنهم من يرق ويرجع إليهم، ومنهم من يمضي حتى يلحق بنبي الله صلى الله عليه وسلم.
عن مجاهد قال: يحمل الرجل ماله وولده على قطيعة الرحم أو معصية ربه، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه.(174/3)
تفسير قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)
قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن:16] أي: اتقوا الله جهدكم ووسعكم.
قوله: ((وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)) أي: افهموا هذه الأوامر واعملوا بها.
قوله: ((وَأَنفِقُوا)) أي: أموالكم التي ابتلاكم الله بها في مراضيه.
قوله: ((خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ)) أي: اقصدوا في الأموال والأولاد ما هو خير لكم.
فقوله: ((خيراً)) مفعول به، كقوله: {انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء:171] وتقديره: يكن الإنفاق خيراً لكم، وقيل: أنفقوا أموالكم لتستنقذوا أنفسكم من عذاب الله.
والخير في هذا الموضع يشمل كل خير، ويدخل فيه المال بدليل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] أي: لحب المال لشديد، وقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] أي: إن ترك مالاً.
فهذا يدل على أن المال لا يذم لذاته؛ لأن المال هو وسيلة لتحصيل كثير من الخيرات، حتى أطلق الله عليه الخير إذا كان من حلال، وأنفق فيما يرضي الله تبارك وتعالى.
قوله: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) أي: بالعصمة من هذا الشح، فكل إنسان فيه شح، لكن من الناس من يخلى بينه وبين شح نفسه فينقاد له، ومنهم من يحميه الله من شح نفسه ويعصمه من شره.
قوله: ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أي: المنجحون الذين أدركوا النجاة والسعادة عند ربهم تبارك وتعالى.
وقوله تعالى: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) معناه: اتقوا الله -أيها الناس- وراقبوه فيما جعل فتنة لكم من أموالكم وأولادكم، أن تغلبكم فتنتهم وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام، فتتركوا الهجرة وأنتم للهجرة مستطيعون؛ لأن الله تعالى ذم من ترك الهجرة بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء:97] قال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء:98] فهؤلاء معذورون؛ ولذلك قال سبحانه بعدها: {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:99]، أما من استطاع فهو غير معذور في ترك الهجرة.
وقيل: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي: فيما تطوع به من نافلة صلاة أو صوم أو صدقة؛ فإنه لما نزل قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] اشتد ذلك على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، فأنزل الله تخفيفاً عنهم: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)).
ويؤخذ من هذه الآية أن المكره على المعصية غير مؤاخذ عليها؛ لأنه لا يستطيع اتقاءها.
قوله: ((وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)) أي: اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتنهون عنه، وقيل: أصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله، وقيل: اقبلوا ما تسمعون، وعبر عنه بالسماع؛ لأنه فائدته.
يقول القرطبي: وقد تغلغل في هذه الآية الحجاج حين تلاها وقصرها على عبد الملك بن مروان! يعني: أولها تأويلاً فاسداًً وقصرها فقط على الخليفة عبد الملك بن مروان.
فقال الحجاج: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)) هي لـ عبد الملك بن مروان أمين الله وخليفته، ليس فيها مثنوية.
يعني: لا يشاركه فيها أحد! ثم قال الحجاج: والله! لو أمرت رجلاً أن يخرج من باب المسجد فخرج من غيره لحل لي دمه! يقول القرطبي: وكذب في تأويلها، بل هي للنبي صلى الله عليه وسلم أولاً ثم لأولي الأمر من بعده، ودليله قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
وقوله: ((وَأَنفِقُوا)) قيل: الزكاة، وقيل: النفقة في النفل، وقيل: النفقة في الجهاد، وقيل: نفقة الرجل في نفسه، يقول تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7]، فكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه، والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ما ينفق؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له رجل: (عندي دينار، قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على عيالك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به)، فبدأ بالنفس والأهل والولد، وجعل الصدقة بعد ذلك، وهو الأصل في الصدقة، يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] أي: ما زاد وفضل عن النفقة الواجبة.(174/4)
تفسير قوله تعالى: (إن تقرضوا الله قرضاً حسناً)
قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:17] يعني: بالإنفاق في سبيله مما تحبون من غير منٍّ ولا أذى، وكلمة القرض هنا فيها تلطف في الاستدعاء.
قوله: ((يُضَاعِفْهُ لَكُمْ)) أي: يضاعف جزاءه وخلفه.
قوله: ((وَيَغْفِرْ لَكُمْ)) أي: ذنوبكم بالصفح عنها.
قوله: ((وَاللَّهُ شَكُورٌ)) أي: ذو شكر لأهل الإنفاق في سبيله بحسن الجزاء لهم على ما أنفقوا.
قوله: ((حَلِيمٌ)) أي: عن أهل معاصيه بترك معاجلتهم بعقوبته.(174/5)
تفسير قوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم)
قال الله تبارك وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [التغابن:18] أي: لا يغيب عن أبصار عباده وما يشاهدونه.
قوله: (الْعَزِيزُ) أي: الغالب في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه.
قوله: (الْحَكِيمُ) أي: في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما يصلحهم.(174/6)
تفسير سورة الطلاق [8 - 12](175/1)
تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله قد أحسن الله له رزقاً)
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق:8 - 11].
قوله تعالى: (وكأين من قرية عتت) أي: عصت.
(عن أمر ربها) يعني: أعرضت عن أمر ربها على وجه العتو والعناد، والمراد بالقرية هنا أهلها.
(ورسله) يعني: وعتت عن أمر رسله كذلك.
(فحاسبناها حساباً شديداً) يعني: على ما قدمت، فلم نغادر منه شيئاً.
(وعذبناها عذابا نكراً) أي: منكراً.
(فذاقت وبال أمرها) أي: عاقبة ما اكتسبت وجزاءه، فالوبال هنا بمعنى العاقبة.
(وكان عاقبة أمرها خسراً) قال ابن جرير: أي: غبناً؛ لأنهم باعوا نعيم الآخرة بشيء من الدنيا قليل، وآثروا اتباع أهوائهم على اتباع أمر الله تبارك وتعالى.
والصيغة هنا جاءت بلفظ الماضي (فَذَاقَتْ) مع أن هذا سيكون في الآخرة، فهي كقوله تبارك وتعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44] ونحو ذلك مما سيقع في المستقبل، ولكن عبر عنه بالماضي لتحقيق الوقوع؛ ولأن وعد الله ووعيده كأنه واقع بالفعل، وما هو مقدر لك من قبل فكأنه قد وقع بالفعل.
(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) يعني: عذاب النار المعد يوم القيامة.
قوله تعالى: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا)) كقوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الحج:45]، وكقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف:59] وهذا كله بيان لأصحاب الرئاسة ورجال السياسة أن هلاك الدنيا بفساد الدين، وأن أمن القرى وطمأنينة العالم بالحفاظ على الدين.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: ومن هنا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عامة الناس للحفاظ على دينهم وسلامة دنياهم، فجعل الشارع مهمته للأمة كلها كل بحسبه باليد أو باللسان أو بالقلب، وهذا الأخير هو أضعف الإيمان، ومع أنه أضعف الإيمان لكن وجوده أمر مهم حتى يبقى إحساس القلب بالمنكر إلى أن يقدر هو أو يقدر غيره على تغييره، ولذلك فليس وراء ذلك شيء من الإيمان، ومن ثم يكون النهي عن المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم؛ لأنه لا يعجز أحد عن أن ينكر بقلبه، وأن يشهد الله على أن هذا منكر لا يرضيه، بخلاف اليد واللسان فلا يقدر عليها كل إنسان في كل ظرف.
ومنطوق هذه الآية: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) أن هذا جزاء الذين أعرضوا عن سبيل الله تبارك وتعالى، وقد بين الله مفهوم هذه الآية صراحة بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].
(فَاتَّقُوا اللَّهَ) أي خافوه واحذروا بطشه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
(يا أولي الألباب) أي: العقول.
(الذين آمنوا) أي: صدقوا الله ورسله، فهذا نعت للمنادى أو عطف بيان له.
قوله: (قد أنزل الله إليكم ذكراً) يحتمل أن هذا الذكر هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعله نفس الذكر مبالغة؛ لذلك أبدل منه، فتعرب (رسولاً) بدلاً من (ذكراً)، ويحتمل أن يكون المراد بالذكر هو القرآن الكريم، ثم قال: ((رَسُولًا)) يعني: وأرسل رسولاً يتلو عليكم آيات الله، وهذا بتقدير (أرسل).
ويحتمل أن يراد بالذكر هنا الشرف، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] أي: شرف وعلو لك ولقومك.
{رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} يعني: لمن تبعها وتدبرها أنها حق من عند الله تبارك وتعالى.
{لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي: من الضلال إلى الهدى.
{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} يعني: رزقا طيباً، وفيه إكرام له وتعظيم، والمعنى: قد طيب الله له هذا الرزق، وهو رزق عجيب وعظيم؛ لذلك أتى به منكراً.(175/2)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن)
يقول تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12].
أي: الله المعبود المستحق للعبادة هو من هذا خلقه، لا ما يشرك معه.
قال الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن) جاء في بيان السماوات أنها سبع طباق، وأنها سبع سماوات بعضها فوق بعض قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك:3] كذلك بين الحديث أن ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام.
وجاء لفظ السماء مفرداً وجمعاً، فالمفرد كما في قوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22]، أما الأرض فلم يأت لفظها إلا مفرداً، ولم يأت تفصيلها كتفصيل السماء بأنها سبع طباق.
يعني أن الملاحظ في القرآن الكريم أن لفظ السماء قد أتى بصيغة الجمع، وفصل أنها سبع سماوات طباقاً بعضها فوق بعض، أما الأرض فلم يأت فيها ذلك، ومن ثم اختلف في المثلية، في قوله تعالى هنا: (وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)، ما المقصود بهذه المثلية؟ جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها مثلية تامة من كل الوجوه، بمعنى: أنها مثلية من ناحية العدد، والطباق، والخلق، ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)) يعني: أن الأرض مثل السماوات في كونها سبعاً، فهي سبع أرضين، وهي طبقات بعضها فوق بعض، فهي مثلهن خلقة، يعني: خلقت كما خلقت السماوات.
وقيل: (ومن الأرض مثلهن) أي: عدداً وأقاليم تفصلها البحار، وكأنه إشارة إلى القارات السبع، فإنها يفصلها البحار، فهي من حيث العدد سبعة أقاليم تفصلها البحار.
وقيل: المقصود بكون الأرض سبعاً مثل السماوات أن نفس الكرة الأرضية مكونة من طبقات كطبقات البصلة، فالبصلة تتكون من طبقات متراكبة بعضها فوق بعض، فكذلك الأرض مكونة من سبع طبقات.
وحاول بعض العلماء توجيهها بصورة أخرى، وهي أن هذه المثلية هي مثلية في الخلق، كما سنبين ذلك في كلام القاسمي إن شاء الله، لكن توجد أدلة تدل في السنة على وصف الأرض بكونها سبع أرضين.
قال الشيخ عطية سالم: إن من أوجه البيان إذا لم يوجد في الكتاب ووجد في السنة شيء يبين ما أجمل في الكتاب، فإنه ينبغي تبيينه بها؛ لأن السنة وحي أيضاًً، وقد جاء في السنة أن الأرض سبع أرضين، كما في حديث: (من اغتصب من الأرض قيد شبر طوقه من سبع أرضين) متفق عليه، وفي صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين).
وفي حديث موسى لما قال: (يا رب! علمني شيئاً أدعوك به، فقال: قل: لا إله إلا الله، فقال: يا رب كل الناس يقولون ذلك.
قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة؛ لمالت بهن لا إله إلا الله) رواه النسائي.
فهذه الأحاديث الصحيحة أثبتت أن الأرضين سبع، ولم يأت تفصيل للكيفية ولا للهيئة.
يعني أن السنة دلت على وصف الأرض بكونها سبعاً، لكن لم يأت في الوحي الشريف ما يفصل الكيفية أو الهيئة.
يقول: فثبت عندنا العدد ولم يثبت غيره، فنثبته ونكل غيره لعلم الله تعالى.
أي: فنثبت هذا العدد كما هو، أما المقصود بسبع أرضين فنكل العلم في ذلك إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن الوحي لم يفصل الكيفية.
قال: ومما يؤيد ثبوت العدد على سبيل الإجمال، أن مثلية الأرض للسماء لم تذكر إلا عند ذكر السماء مجملة مع ذكر العدد، وهذا هو الموضع الوحيد الذي وصفت فيه الأرض بأنها خلقت مثل السماوات، وقد ذكرت السماء مجملة، وكذلك ذكرت الأرض مجملة، ولم يذكر عند تفصيلها الطباق مما يدل على أن المراد من المثلية العدد، فالله قال: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)) ولم يقل: {سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك:3]، فما خصص كلمة (سماوات) لكن ذكر العدد، وهذا يدل على أن المقصود بالمثلية العدد.
وقيل: إن هذا لا يتنافى مع إفراد اللفظة؛ لأن جمعه شاذ، يعني أنه لم يقل: ومن الأرضين، لأنه جمع شاذ، قال ابن مالك في الخلاصة: وأرضون شذ والسنون وقد أشار تعالى إلى أن هناك من حالات الأرض والسماء ما لا يعلمه الخلق، كما قال عز وجل: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف:51] فما لم يبين لنا ويفصل فيعتبر تفصيله من التكلف، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86].
فالبشر لا يزالون عاجزين عن معرفة كيفية خلق أنفسهم، إلا تفصيلات جزئية، والمهم من السياق والغرض الأساسي منه: تنبيه الخلق على عظم قدرة الله تعالى.
يعني أن المقصود من الآية تنبيه الخلق إلى عظم قدرة الله سبحانه وتعالى لقوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} هذا هو المقصود، وهذا يحصل بالتدبر في هذه الآيات التي تدل على قدرة الله تبارك وتعالى، مع أننا نكل علم التفاصيل التي لم تتبين لنا إلى الله عز وجل وحده.
يقول القاسمي في هذا الموضع: قال الزمخشري: قيل: ما في الأرض آية يفهم منها أن الأرضين سبع إلا هذه الآية، وهذه الآية ليست صريحة بصورة قاطعة.(175/3)
ذكر ما نقله القاسمي في معنى: (ومن الأرض مثلهن)
نقل القاسمي عن بعض علماء الفلك قوله: أما كون الأرضين سبعاً كالسماوات فهو أمر نجهله ولا نفهمه، إلا إذا أريد به أن للأرض سبع طبقات، قال: والحق يقال: إن كون الأرضين سبعاً هو -كما يظهر لنا- وهم من أوهام القدماء! مما يؤلم أن القاسمي في الأجزاء الأخيرة من تفسيره ينسب كثيراً من الآراء التي فيها نظر إلى مجهول، ولا يبين من القائل، وكثير منها يكون مأخوذاً من كلام الشيخ محمد عبده أو أحد أهل مدرسته، كما نقل ما ذكرنا هنا.
ولا يشترط أن نفهم كل شيء؛ لأن هناك أموراً مغيبة عنا، وهناك أموراً يستأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها، فلا نلجأ إلى أن نتكلف علمها، وهذا عمر رضي الله تعالى عنه لما قرأ سورة عبس وقف عند قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] فقال: الفاكهة عرفناها، فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر! مع أن كلمة (الأب) يسهل الرجوع إلى معناها في لغة العرب، وهو يفهم من السياق، قال سبحانه: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:31 - 32] أي: الفاكهة متاع لكم، والأب متاع لأنعامكم، فالمقصود أنه مما تأكله الأنعام، أما تتبع ما وراء ذلك فسماه عمر رضي الله عنه تكلفاً.
وإذا كنا نفهم التفاصيل فذلك لا يبيح لنا أن نقطع بترجيح معين في مثل هذه المواضع.
أما قول هذا الذي نقل عنه القاسمي: والحق يقال: إن كون الأرضين سبعاً، هو كما يظهر لنا وهم من أوهام القدماء.
فهذا كلام سخيف، ولا ينبغي أن يذكر، كيف يقول: هذا وهم من أوهام القدماء، مع أنه ليس لديه دليل قاطع على أن المقصود المثلية في العدد أم المثلية في الخلق، فهذه الآية لا يستطاع القطع فيها بمعنى معين، فكيف نقطع بنفي العدد؟! لكن نكل علم ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا الأمر يكون مجهولاً كسائر الأمور المغيبة التي نجهلها، وجهلنا بها لا يبيح لنا تأويلها تأويلاً فاسداً على غير علم؛ فكلام هذا الذي يسميه بعض علماء الفلك لا ينبغي أن يذكر في تفسير كلام الله تبارك وتعالى! ثم يقول: ولذلك لم يرد في القرآن الكريم لفظ الأرض مجموعاً.
ونقول: لكنه ورد في السنة، فهذا الكلام نشم منه رائحة مدرسة محمد عبده، ففيها إهمال السنة إلا ما تواتر منها بشروط اخترعتها هذه المدرسة العقلية المنحرفة.
فنقول: قد ورد في السنة قوله: (طوقه من سبع أرضين).
ثم يقول: ولم يرد فيه مطلقاً أن الأرضين سبع، مع أنه ذكر أن السماوات سبع مراراً عديدة، وفي كل مرة يذكر معها الأرض بالإفراد، وإنما ورد قوله تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)) وهي الآية الوحيدة التي فهموا منها أن الأرضين سبع، وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقاً.
كذا قال، مع أنها قد تفيد ذلك، فالأمر محتمل؛ لأن الله قال: (وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)، والعلماء المنصفون -كما أشرنا في بداية الكلام- قالوا: الأمر يحتمل عدة احتمالات: فيحتمل أنها طبقات بعضها فوق بعض كطبقات البصل، ويحتمل أن هذه المثلية في العدد، وهي أقاليم مفصولة عن بعضها بالبحار، ويحتمل أنها مثلهن في الخلقة فقط، أي مخلوقة من نفس المادة، أو في أصل كونها مخلوقة لله تبارك وتعالى.
إذاً: ليس لدينا ما نقطع به في المقصود، فقوله: وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقاً.
ليس كما ادعى.
من المؤلم أن القاسمي رحمه الله تعالى ينقل مثل هذا النقل الطويل عن مجهول، لماذا لا يصرح باسمه؟! فهذا فيه مؤاخذة على القاسمي رحمه الله تعالى، وكنا نحب أن نعرف من هذا الذي يتكلم؟ وما قدره من العلم؟ وما مدرسته التي ينتمي إليها؟ وهذا من حق القارئ؛ فلو أن رجلاً له موقف سيئ من السنة فنحن نحذر منه ونحذر من تآليفه، فينبغي للمؤلف أن ينسب الكلام إلى قارئه، وهذا من بركة العلم.
ثم قال هذا القائل المجهول: ولنا في تفسيرها وجهان.
-وهذان الوجهان اللذان ذكرهما مقبولان، وكلاهما محتمل لا على سبيل القطع.
قال: إما أن تكون (من) في قوله تعالى: ((وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)) زائدة، وإما أن تكون غير زائدة، فـ (من) لو قلنا إنها مزيدة للتوكيد فتقدير الآية هكذا: الله الذي خلق سبع سموات والأرض خلقها مثلهن.
وعلى تفسيرنا هذا تكون هذه الآية دالة على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه.
أي أنها إحدى السيارات، وهو أمر ما كان معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يخطر ببال أحد من العرب، وهذا من دلائل صدق القرآن، فيحتمل أن الأرض مثل السيارات الأخرى في المادة، وكيفية خلقها، وكونها تسير حول الشمس، وتستمد النور والحرارة منها إلى آخره.
وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى.
هذا كلامه، وليس عندنا دليل على أن الكواكب الأخرى مسكونة بحيوانات، وتكلف الكلام في مثل هذا هو من التنطع الذي لا يجوز، وليس لنا أن نتكلم في الغيب بلا علم.
قال: وكونها كروية الشكل، فالسيارات أو السماوات متماثلة من جميع الوجوه.
يلاحظ في تفسيره أنه يعتبر السماوات السبع هي الكواكب السيارة! ومن قال: إن السماوات السبع هي الكواكب السيارة فقد أخطأ، فإن كل ما نراه حولنا من الكواكب قال الله سبحانه وتعالى فيها: {وزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:5 - 6] فالكواكب هذه كلها في السماء الدنيا، فكيف يقول: إن السماوات السبع هي هذه الكواكب؟! إذا كانت سماء الدنيا مزينة بالكواكب فهذا يدل على أن هذه الكواكب ليست هي السماوات السبع، ولا يجوز إخضاع القرآن الحكيم الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى لتأويلات مبنية على نظريات علماء الفلك الذين تتغير علومهم من وقت إلى آخر، وتنهار نظريات وتنشأ نظريات أخرى، فلا ينبغي ربط كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بأمور متغيرة ونظريات متبدلة.
يقول: وكلها مخلوقة من مادة واحدة وعلى طريقة واحدة، يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30] يعني كانت شيئاً واحداً، (ففتقناهما) أي: فصلنا بعضهما عن بعض، فالأرض خلقها الله تعالى مثل السماوات تماماً.
هذا هو الوجه الأول المبني على أن (من) زائدة.
الوجه الثاني: أن (من) غير زائدة، فتقدير الآية هكذا: الله الذي خلق سبع سماوات، وخلق من الأرض أرضاً مثلهن، كقولك: اتخذت لي سبعة أصدقاء، ولي فلان صديق مثلهم، أي مثلهم في الصداقة، والمعنى: وبعض الأرض مثلهن في مادتها وعناصرها، وعليه فليس في القرآن الكريم أدنى دليل على أن الأرضين سبع كما يزعمون.
انتهى كلام هذا الذي نقل عنه القاسمي رحمه الله تعالى.
وذكر ابن الأثير في المثل السائر في النوع السادس في اختلاف سير الألفاظ واتفاقها وتفاوتها في الحسن فيه ما مثاله: وفي صدد ذلك ما ورد استعماله من الألفاظ مفرداً ولم يرد مجموعاً، كلفظة (الأرض) فإنها لم ترد في القرآن إلا مفردة، فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة معها في كل موضع من القرآن الكريم، ولما أريد أن يؤتى بها مجموعة في ((وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)) لم يقل والأرضين مثلهن، وإنما قال: (ومن الأرض مثلهن) بالنصب عطفاً على (سبع) وبالرفع على الابتداء، وخبره يكون (من الأرض).(175/4)
معنى قوله تعالى: (يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله)
قوله: ((يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)) أي يجري أمر الله وحكمه بينهن وملكه ينفذ فيهن.
((لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)) فهذه علة لـ (خلق)، أو علة لـ (يتنزل)، أو لمضمر يعمهما أي: فعل ما فعل لتعلموا أن الله على كل شيء قدير إلى آخره؛ فإن كلاً منهما يدل على كمال قدرته وعلمه.
قال ابن جرير: أي: فخافوا أيها المخالفون أمر ربكم عقوبته فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع، وهو على ذلك قادر، ومحيط بأعمالكم، فلا يخفى عليه منها خاف، وهو محصيها عليكم ليجازيكم بها يوم تجزى كل نفس ما كسبت.
والله أعلم.(175/5)
تفسير سورة التحريم(176/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك)
نشرع في تفسير سورة التحريم، وهي السورة الثالثة والستون، وهي مدنية، وآيها اثنتا عشرة آية.
يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1].
قوله تعالى: ((يا أيها النبي)) ناداه بالنبوة تعظيماً له صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه من مظاهر تعظيم الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، حيث إنه ما ناداه باسمه قط، فلا توجد آية في القرآن فيها: يا محمد! في حين نودي غيره بالاسم: يا آدم، يا موسى، يا نوح، يا عيسى، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فما ناداه الله إلا بوصفه؛ تعظيماً لجنابه صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أنه سيد الأولين والآخرين.
وناداه ليقبل إليه بالكلية، ويدبر عن كل ما سواه من الأزواج وغيرهن، وعبر عنه بالمبهم إشعاراً منه بأنه الذي نبئ بأسرار التحليل والتحريم الإلهي.
قوله: ((لم تحرم ما أحل الله لك)) ليس المراد بالتحريم هنا اعتقاد الحلال حراماً، ولكن المقصود امتناعه من الحلال وحظره إياه على نفسه، وهذا المقدار مباح ليس في ارتكابه جناح.
يعني: لو أن شخصاً منع نفسه من طعام معين لسبب من الأسباب، أو حلف ألا يأكل هذا الطعام وهو لا يعتقد أن هذا الطعام حرام فلا بأس.
إذاً: المقصود بالتحريم هنا أنه منع الطعام على نفسه وليس بقصد أنه صار حراماً، لأن تحليل الحرام وتحريم الحلال من الأمور المكفرة، فالخمر مثلاً من استحله واعتقد أنه حلال فإنه يصير كافراً بذلك قطعاً.
فمعنى: ((لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)) لم تمتنع عن شيء أحله الله لك لترضي أزواجك؟ وهذا القدر مباح ليس في ارتكابه جناح، وإنما قال عز وجل له: ((لم تحرم ما أحل الله لك)) رفقاً به وشفقة عليه، وتمييزاً لقدره ومنصبه صلى الله عليه وسلم أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه، فهذاً جرياً على ما ألف من نصح الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليظهر الله كمال نبوته.(176/2)
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك)
نذكر اختلاف العلماء الأثريين في هذا الشيء الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه، فقد جاءت في ذلك روايات منها: روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش، فلن أعود له، وقد حلفت، ولا تخبري بذلك أحداً، فنزلت الآية).
وروى الشيخان أيضاً عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى والعسل، وكان إذا صلى العصر دخل على نسائه، فيدنو من كل واحدة منهن، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فغِرتُ فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت إليها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لـ سودة فقلت لها: إذا دخل عليك ودنا منك فقولي له: يا رسول الله! أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: وما هذه الريح التي أجد، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست نحله العرفط، وإذا دخل علي فسأقول له ذلك، وقولي أنت يا صفية ذلك.
فلما دخل على سودة قالت له مثلما علمتها عائشة وأجابها بما تقدم، فلما دخل على صفية قالت له مثل ذلك.
فلما دخل على عائشة قالت له مثل ذلك، فلما كان اليوم الآخر فدخل على حفصة قالت له: يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي به! قالت: تقول سودة: والله لقد حرمناه منه، فقلت لها: اسكتي).
يعني عائشة قالت لـ سودة: اسكتي.
والمغافير: صبغ حلو له رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له: العرفط، وفي هذه الرواية أن التي شرب منها العسل حفصة، وفي سابقتها أنها زينب، والاشتباه في الاسم لا يضر بعد ثبوت أصل القصة.
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كانت حفصة وعائشة متحابتين، فذهبت حفصة إلى أبيها فتحدثت عنده، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته -في بعض الروايات أنها مارية القبطية - فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة، فرجعت حفصة فوجدتها -يعني مارية -في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها وغارت غيرة شديدة، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته ودخلت حفصة، فقالت: قد رأيت من كان عندك، والله لقد سؤتني! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله لأرضينك، فإني مسر إليك سراً فاحفظيه، قالت: ما هو؟ قال: إني أشهدك أن سريتي هذه علي حرام رضاً لك حتى أرضيك، فانطلقت حفصة إلى عائشة فأسرت إليها بذلك، فلما أخبرت بسر النبي صلى الله عليه وسلم أظهر الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:1 - 2] إلى آخر الآيات) وروي أيضاً عن الضحاك قال: (كانت لرسول صلى الله عليه وسلم فتاة يغشاها، فبصرت به حفصة، وكان اليوم يوم عائشة -وكانتا متظاهرتين- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتمي علي ولا تذكري لـ عائشة ما رأيت، فذكرت حفصة لـ عائشة، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف ألا يقربها أبداً فأنزل الله هذه الآية وأمره أن يكفر يمينه ويأتي جاريته).
وروى النسائي عن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله هذه الآية).
ولم يرجح ابن جرير أحد السببين المرويين في نزولها على الآخر، بل وقف على إجمال الآية على عادته في أمثالها، ولذا قال: والصواب أن يقال: كان الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئاً كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك جاريته، وجائز أن يكون شراباً من الأشربة، وجائز أن يكون غير ذلك، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان قد أحله له، وبين له تحلة يمينه.(176/3)
ما رجحه القاسمي في سبب نزول أول سورة التحريم
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: والذي يظهر لي هو ترجيح رواية تحريم الجارية في سبب نزولها، وذلك لوجوه: منها: أن مثله يبتغى به مرضاة الضرات ويهتم به لهن.
وذلك لأنه أمر حساس يثير الغيرة عند الضرائر.
ومنها: أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن، بل فيه أنه حلف لا يشربه أنفة من ريحه.
ثم رغب إلى عائشة ألا تحدث صاحبة العسل سواء كانت زينب أو حفصة؛ حتى لا تتأذى وتقول: إنها السبب في أنها أطعمته هذا الطعام الذي يصدر منه هذا الريح، إلا أن يكن عاتبنه في ذلك ولم يحتمل لطف مزاجه الكريم ذلك فحرمه، ولكن ليس في الروايات ما يشعر به، وما زاد على ذلك فمن اجتهاده هو.
ومنها: أن الاهتمام بإنزال سورة على حدة لتقريع أزواجه صلى الله عليه وسلم وتأديبهن في المظاهرة عليه، وإيعادهن على الإصرار على ذلك بالاستبدال بهن، وإعلامهن برفعة مقامه، وأن ظهراءه مولاه وجبريل والملائكة والمؤمنون، كل ذلك يدل على أن أمراً عظيماً دفعهن إلى تحريمه ما حرم، وما هو إلا الغيرة.
يعني: لأن تأثير الغيرة في موضوع الجارية أقوى، وأن الذي جعلهن يتظاهرن هذه المظاهرة ويخططن هذا التخطيط ليس هو موضوع العسل بل موضوع الجارية.
ثم يقول القاسمي: كل ذلك يدل على أن أمراً عظيماً دفعهن إلى تحريمه ما حرم، وما هو إلا الغيرة من مثل ما روي في شأن الجارية، فإن الأزواج يحرصن أشد الحرص على ما يقطع وصلة الضرة الضعيفة.
وأما تحديد رواية العسل في هذه الآية وقول بعض السلف: نزلت فيه، فالمراد منه أن الآية تشمل قصته بعمومها على ما عرف من عادة السلف في قولهم: نزلت في كذا، كما نبهنا عليه مراراً، وكأنه صلى الله عليه وسلم كان حرم ذلك الشراب، ثم أخبر بأن مثله فرضت فيه التحلة، فلا مانع من العود إلى شربه.(176/4)
حكم تحريم المرء على نفسه شيئاً حلالاً
قوله: ((لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)) قال في الإكليل: أستدل بها على أن من حرم على نفسه أمة أو طعاماً أو زوجة لم تحرم عليه وتلزمه كفارة يمين، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: في الحرام يكفر، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
وذهب ابن جرير: إلى أنه كان مع التحريم يمين.
أي: أنه قال: والله لا أقرب الجارية، أو العسل.
وهذا فيه نظر.
والأرجح والله تعالى أعلم أن التحريم بمجرده بدون يمين بالله عز وجل هو في حد ذاته يمين.
وقال قتادة: إن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها -يعني: جاريته- فكانت يميناً.
ابن جرير ذهب إلى أنه كان مع التحريم يمين، وهذا رده بعض المحققين؛ لأن اليمين في عرفهم أعم من القسم بالله، فمنها ما يكون قسماً بالله، ومنها ما يكون بصيغة التحريم.
في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] يعاتب الله سبحانه وتعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم على تحريم ما أحل الله له ليرضي أزواجه، فكأنه يقول: لا تضيق على نفسك بتحريم سريتك لترضي أزواجك، بل هن أحق أن يسعين في رضاك ليسعدن.
ثم هددهن الله سبحانه وتعالى إن لم يتبن عن ذلك فسوف يبدله الله أزواجاً خيراً منهن بالصفات التي ستأتي فيما بعد.(176/5)
تفسير قوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم)
قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2].
أي: شرع حل ما عقدتموه بالكفارة، فالتحلة مصدر بمعنى التحليل.
قوله: ((وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ)) أي: متولي أموركم.
قوله: ((وَهُوَ الْعَلِيمُ)) أي: بمصالحكم.
((الْحَكِيمُ)) أي: في تدبير دنياكم بما شرعه وحكم به.
وهذه الآية تدل على أن حكم خطابه صلى الله عليه وسلم لا يختص به، وإنما الأمر فيه تفصيل؛ لأنه قد خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بمثل قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] إلى آخره، ومع ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام غير مقصود بهذا الخطاب؛ لأنه لم يكن يوجد في ذلك الوقت أبواه أو أحدهما، فقد ماتا قبل البعثة وهو ما زال صغيراً صلى الله عليه وسلم.
أما مثل هذه الآيات التي نحن بصددها فإنه يأتي الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيه معه غيره من الأمة، ومثال ذلك قوله تعالى في أول سورة الطلاق: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، وقوله أيضاً في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1].
إذاً دلت هذه الآية على أن حكم خطابه صلى الله عليه وسلم لا يختص به؛ لأنه لما عاتبه في تحريم ما أحل له قال عقبه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] فابتدأ الخطاب بمناداته وحده، ثم أتبعه بلفظ الجمع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: التحلة مصدر حللت الشيء تحليلاً وتحلة، كما يقال: كرمته تكريماً وتكرمة، وهذا المصدر يسمى به المحلل نفسه وهو الكفارة، فإن أريد المصدر فالمعنى: فرض الله لكم تحليل اليمين وهو حلها الذي هو خلاف العقد، ولهذا استدل من استدل من أصحابنا وغيرهم كـ أبي بكر بن عبد العزيز بهذه الآية على التكفير قبل الحنث؛ لأن التحلة لا تكون بعد الحنث؛ فإنه بالحنث ينحل اليمين، وإنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث لينحل اليمين؛ وإنما هي بعد الحنث كفارة؛ لأنها كفرت ما في الحنث من سبب الإثم في نقض عهد الله، فإذاً تبين أن ما اقتضت اليمين من وجوب الوفاء بها رفعه الله عن هذه الأمة بالكفارة، التي جعلها بدلاً من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من الآصار.
يعني: بدل أن يضيق على نفسه ويلتزم هذا الذي حلف عليه، ويكون اسم الله الذي حلف به مانعاً يعرض ويحول دون إتيان ما هو أفضل، فقد فتح الله له الباب بالكفارة حتى لا يفي بما حلف عليه.
قوله تعالى: ((قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ)) من تحريم الحلال المذكور قبل وهو الزوجة.
هذا الموضع في الحقيقة تناقش فيه قضية تحريم الزوجة، وأن ذلك على الراجح يكون فيه كفارة يمين بتفصيل نرجئه إلى باب الطلاق إن شاء الله تعالى، ومن أراد التفصيل فليعد إلى القاسمي أو إلى غيره من كتب الأحكام.(176/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3].
((وإذ أسر النبي)) محمد صلى الله عليه وسلم.
((إلى بعض أزواجه)) هي حفصة في قول ابن عباس وقتادة وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن والشعبي والضحاك وهو تحريم فتاته في قول هؤلاء.
قال ابن جرير: أو ما حرم على نفسه مما كان الله جل ثناؤه قد أحله له.
وقال لها: لا تذكري ذلك لأحد.
((فلما نبأت به)) يعني: لما أخبرت بهذا السر صاحبتها كما تقدم.
((وأظهره الله عليه)) أي: أطلعه الله عن طريق الوحي: أن حفصة أخبرت عائشة بالسر الذي ائتمنتها عليه.
((عرف بعضه وأعرض عن بعض)) أي: عرفها بعض ما أفشته معاتباً لها، وأعرض عن بعض الحديث تكرماً، وهذا من معالي ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو نوع من التغافل الذي ما يزال من فعل الكرام؛ لأنه لا يتغافل إلا كريم، أما الذي يستقصي دائماً فهو اللئيم.
إذاً: الكريم إذا عاتب فإنه لا يستقصي، وإنما يتجاوز ويتغافل ويتجاهل، فهذا مما يمدح به الإنسان، فلذلك قال الله سبحانه وتعالى مبيناً حسن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض)).
((فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ)) أي: الذي هو البعض.
{قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} أي: الذي لا تخفى عليه خافية.
وفي الإكليل: يقول في الآية: إنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق، وإنه ما دام الشخص يثق بك ويسر إليك بحديث فإنه يجب عليك أن تكتم هذا السر.
وكما أشرنا من قبل إلى أن استكتام السر أو استيداع السر إما يأتي بصورة واضحة وإما أن يأتي بقرينة، كما جاء في الحديث عن السر الذي أتى بقرينة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا حدث الرجل صاحبه ثم التفت فهي أمانة) يعني: عندما يتكلم صاحب السر تجده في أثناء الكلام يلتفت يميناً وشمالاً هل يوجد أحد يسمعه أم لا؟ فكأنه يقول له: هذه أمانة فلا تفشها، وهذا سر فلا تفشه، فينبغي أن يكتم السر، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً: (المجالس بالأمانة)، والأصل في المسلم إذا جلس في المجلس أنه يؤتمن على ما فيه ولا يفشوه هذا هو الأصل، فما بالك إذا صرح لك المتكلم وقال لك: هذا سر فاكتمه ولا تفشه لأحد؟ لكن على الإنسان ألا يأتمن على سره إلا من يثق به أنه يحفظ السر، كذلك من اؤتمن على سر، فلا يأتي إلى ثقة له فيحكي له هذا السر، وبالتالي لا يبقى سر فتحصل فتن كثيرة، ولذلك قال بعض الشعراء: إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه فصدر الذي يستودع السر أضيق وفي هذه الآية حسن المعاشرة مع الزوجات؛ لأن هذا الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام مباح أحله الله سبحانه وتعالى له، ومع ذلك تلطف في استرضائهن والتخفيف عنهن، حتى وصل به الأمر إلى أنه حلف ألا يقربها أو أنه حرمها! وفيها التلطف في العتب.
الإنسان قد يعاتب لكن لا يسترسل في العتاب ولا يستقصي، خاصة أن بعض الناس إذا كان الأمر له استقصى، أما إذا كان عليه فهو يتضايق من هذا جداً، فينبغي للإنسان إذا عاتب أن يتوسط في العتب وألا يستوفي كل ما له من الحق، فما استوفى كريم قط! وفيه الإعراض عن استقصاء الذنب، وإلا فلن يبقى لك صديق.
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط(176/7)
تفسير قوله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما)
قال تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4].
أشار تعالى إلى غضبه لنبيه صلى الله عليه وسلم مما أتت به إحدى نسائه من إفشاء السر إلى صاحبتها، ومن مظاهرتهما على ما يقلق راحته، وأن ذلك ذنب تجب التوبة منه، فقال عز وجل: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}.
قوله: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) أي: إن تتوبا إلى الله فأنتما فعلاً محتاجتان للتوبة؛ لأنكما أتيتما بفعل خطير وعظيم.
(فقد صغت قلوبكما) أي: قد مالت قلوبكما لتحريم مارية، ولأنكما وجدتما فرحاً كبيراً وسروراً عظيماً لما حرم على نفسه سريته، مع كراهة النبي صلى الله عليه وسلم له، وذلك ذنب يستوجب التوبة.
يقول القاسمي في تفسير قوله تعالى: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)): يعني: فقد رجعتما إلى الحق وملتما إلى الحق، وهو ما وجب من مجانبة ما يسخط رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المتظاهرتين على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: عائشة وحفصة.
وفي خطابهما على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب مبالغة، لأن السياق فيما مضى للغائب ((وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ)) ثم يقول: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ)) التفاتاً من الغيبة إلى الخطاب، وهذه مبالغة، فإن المبالغ في العتاب يصير المعاتب مطروداً بعيداً عن ساحة الحضور، ثم إذا استقر به تودد إليه وعاتبه بما يريد.
قوله: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ)) يعني: إن تتظاهرا وتتفقا على ما يسوءه صلى الله عليه وسلم، ((فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) أي: متظاهرون على من أراد مساءته صلى الله عليه وسلم.
وهذه السورة هي إحدى السور التي تبين عظم مقام النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه عز وجل، فالرسول عليه الصلاة والسلام هو أحب الخلق إلى الله تبارك وتعالى، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، فهذا الموضع بالذات منها.
إذاً: فعلينا أن نعرف لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدره، فهذه من حقائق دين الإسلام، ومن حيثيات العقيدة الإسلامية لكل مسلم أن يعرف مقام النبي عليه الصلاة والسلام، وأن له أشرف المقامات عند الله تبارك وتعالى، فتأمل على سبيل المثال هذه الآية، فقوله تعالى: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) يدل على أن عناية الله بنبيه صلى الله عليه وسلم لم يرق إليها رسول ولا ملك، فما نعلم أن الله سبحانه وتعالى نصر رسولاً على أعدائه بهذه الصورة الرائعة التي نصر بها رسوله في هذه الحادثة، ولقد كان في نصر الله كفاية وغناء: ((فإن الله هو مولاه))؛ ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يظهر مقدار حبه لنبيه صلى الله عليه وسلم ورعايته لجانبه، فجند لنصره جبريل وصالحي المؤمنين والملائكة.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله: ((وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) أي: متظاهرون على من أراد مساءته، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه؟ ولما كانت الملائكة أعظم المخلوقات وأكثرهم ختم الظهراء بهم؛ ليكون أفخم في التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وعظم مكانته والانتصار له، إذ هي هنا بمثابة جيش جرار يملأ القفار يتأخر خلف أميره وقائده؛ ليحمل على عدوه ومناوئه.
قوله: ((وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: كل المؤمنين الصالحين.
قوله: ((وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) فهؤلاء هم المنحازون إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم المظاهرون له صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)) صغا: مال ورضي وأحب.
لم يقل: قد صغا قلباكما، وإنما قال: ((فقد صغت قلوبكما)) بالجمع مع انهما اثنتان وهما حفصة وعائشة رضي الله عنهما، فقيل: إن المعنى معلوم، والجمع أخف من المثنى إذا أضيف، فالمعنى المفهوم أن المقصود حفصة وعائشة بالذات في استعمال الجمع، فلا ضير، ولأن الجمع أخف من المثنى في حالة الإضافة، فقوله: (قلوبكما) أسهل من أن يقول: (فقد صغا قلباكما).
وقيل: هو مما استدل به على أن أقل الجمع اثنان، كما في الميراث في قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء:11] يعني اثنان فصاعداً.
قوله: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)) جواب الشرط في قوله: (إن تتوبا) محذوف تقديره: إن تتوبا إلى الله فذلك واجب عليكما؛ لأن قلوبكما مالت إلى ما لا يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: إن تتوبا إلى الله فذلك خير لكما.
والمعنى متقارب.
قوله تعالى: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ)) قال أبو حيان: الوقف على (مولاه) وتكون الولاية خاصة بالله، والمظاهرة تكون لمن أتى بعده، ويكون جبريل مبتدأً وما بعده معطوف عليه.
فيقف القارئ على قوله: ((فإن الله هو مولاه)) ثم يستأنف ((وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير)) فالمبتدأ (جبريل) والخبر (ظهير)، وعليه يكون جبريل قد ذكر مرتين؛ بالخصوص أولاً، وبالعموم ثانياً؛ لأن جبريل من الملائكة.
وقيل: إن الوقف على قوله: (وجبريل) معطوفاً على لفظ الجلالة في الولاية، تقول: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ))، ثم تبتدئ بقوله تعالى: ((وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ)) فيدخل جبريل مع الملائكة ضمناً.
فعلى الوقف الأول: يكون قرن صالح المؤمنين بجبريل وبالملائكة؛ تنبيهاً على علو منزلة صالحي المؤمنين وبيان منزلتهم من عموم الملائكة بعد جبريل.
وعلى الوقف الثاني: يكون قد عطف جبريل على لفظ الجلالة في الولاية بالواو ((فإن الله هو مولاه وجبريل))، وليس فيه ما يوهم التعارض مع الحديث في (ثم) إذ محل العطف هو الولاية، وهو قدر ممكن من الخلق ومن الله تعالى؛ لأن الولاية قد تكون من الخلق ومن المخلوق، يقول عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62] فالنصر يكون من الله ويكون من العباد من باب الأخذ بالأسباب، وقال عز وجل: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة:40]، وقال عز وجل: {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8]، وقال الله حاكياً عن عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران:52].
وهذا بخلاف ما جاء في الحديث من قول الأعرابي: (ما شاء الله وشئت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله وحده) لأن حقيقة المشيئة هي أنها لله وحده كما في قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29] وقوله: {بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد:31]، وقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4].
فإذاً: لا حرج في الوقف على جبريل، والعطف بالواو يدل على أن الموالاة والمناصرة تكون من الله وتكون من جبريل عليه السلام، وهذا يقع.
ومن اللطائف في قوله تبارك وتعالى: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: إن المتظاهرتين على رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتان فقط تآمرتا عليه فيما بينهما، فجاء بيان الموالين له ضدهما كل من ذكر في الآية: ((فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير)) ليدل على عظم كيدهن وضعف الرجال أمامهن.
العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى فهم ذلك من قوله تبارك وتعالى: {قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28]، بينما قال في كيد الشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76].
يقول الشاعر في نفس هذا المعنى: يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنساناً وقد عبر الشاعر أيضاًُ عن ذلك بقوله: ما استعظم الإله كيدهنه إلا لأنهن هن هنه(176/8)
تفسير قوله تعالى: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن)
يقول الله تبارك وتعالى مهدداً ومتوعداً هؤلاء اللائي تظاهرن على النبي صلى الله عليه وسلم: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5].
(مُسْلِمَاتٍ) أي: خاضعات لله بالطاعة.
(مُؤْمِنَاتٍ) أي: مصدقات لله ورسوله.
(قَانِتَاتٍ) أي: مطيعات لما يؤمرن به.
(تَائِبَاتٍ) أي: من الذنوب لا يصررن عليها.
(عَابِدَاتٍ) أي: متعبدات لله، كأن العبادة امتزجت بقلوبهن حتى صارت ملكة لهن.
(سَائِحَاتٍ) أي: صائمات، (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا).
اعلم أن في وصف المبدلات بهذه الصفات تعريضاً بوجود اتصاف الأزواج بها، لاسيما أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ)) فيه بيان أن الخيرية التي يختارها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في النساء هي تلك الصفات من الإيمان والصلاح وغير ذلك، فلم يذكر الجمال ولا الحسب ولا النسب، وإنما ذكر صفات الإيمان والصلاح.
قوله: (أن يبدله أزواجاً خير منكن) كيف يكن خيراً منهن؟ قال: (مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً)، وفي الحديث: (فاظفر بذات الدين تربت يدك)، وقال تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221].
وتقديم الثيبات على الأبكار هنا في معرض التخيير، وليس إشعاراً بأفضليتهن؛ لأنه ورد في الحديث: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك)، وكذلك نساء الجنة وصفهن الله تعالى بقوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] ففيه أولوية الأبكار.
قال بعض المفسرين: قوله تعالى: (ثيبات وأبكارا) على سبيل التنويع، وأن الثيبات في الدنيا، والأبكار في الجنة كـ مريم ابنة عمران.
والذي يظهر والله تعالى أعلم أنه لما كان في مقام الانتصار لرسول صلى الله عليه وسلم وتنبيههن لما يليق بمقامه عندهن، ذكر من الصفات العالية ديناً وخلقاً، وقدم الثيبات ليبين أن الخيرية فيهن بحسب العشرة ومحاسن الأخلاق.(176/9)
النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلق أزواجه
قوله: ((عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ)) لم يبين هل طلقهن أم لا؟ مع أن (عسى) من الله للتحقيق، ولكنه لم يقع طلاقهن كما بينه الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب؛ لأنه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخيرهن حيث قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29]، وهذه آية التخيير المعروفة.
فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فلم يطلقهن ولم يبدله أزواجاً خيراً منهن.
وقد بين الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى هذه المسألة وإحلال الزواج إليه وتحريم النساء بعدهن عليه عند قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50]، وعند قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب:51]، وقوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52].(176/10)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً)
يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
(قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) أي: أسباب دخول النار، وذلك بترك المعاصي وفعل الطاعات، والقيام على تأديب الأهل وأخذهم بما تأخذون به أنفسكم.
(وقودها الناس والحجارة) أي: تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب.
(عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ) أي: تلي أمرها وتعذيب أهلها، وهم الزبانية.
(غِلاظٌ شِدَادٌ) أي: جفاة قساة.
{لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} يقول الزمخشري: أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت: لا؛ فإن معنى الأولى: أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها، ومعنى الثانية: أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه.
وقيل: الجملة الأولى لبيان استمرار إتيانهم بأوامره، والثانية: لأنهم لا يفعلون شيئاً ما لم يؤمروا به، كقوله تعالى: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27].(176/11)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم)
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التحريم:7].
أي: يقال لهم ذلك عند دخولهم النار، فالمراد باليوم وقت دخولهم إياها، فتعريفه للعهد، أي: معروف أن هذا اليوم هو يوم القيامة.
وجاء النهي عن الاعتذار لأنه لا عذر لهم، أو أن العذر لا ينفعهم، ولم يبين هنا نوع الاعتذار الذي نهوا عنه، ولا سبب النهي عنه ولا زمنه، وقد بينت آية أخرى نوع الاعتذار، يقول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، هذا هو الاعتذار، ويقول تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِم} [الأنعام:23 - 24]، وقال بعدها: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] فهذا النوع غاية في الاعتذار.
ولكنهم نهوا عن ذلك يوم القيامة، لأن هذا الاعتذار لا ينفعهم، وذلك بقوله: ((لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ)) كما قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم:57] وقال تعالى: {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52].(176/12)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً)
يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].
أي: توبة ترقع الخروق وترتق الفتوق، وتصلح الفاسد وتسد الخلل.
والنصوح من النصح بمعنى الخياطة، أو توبة خالصة عن شوب الميل إلى الحال الذي تاب منه والنظر إليه بعدم الالتفات إليه وقطع النظر عنه.
ومن أركان التوبة أن يكره الإنسان المعصية، وأن يندم عليها؛ أما ذا ترك المعصية وقلبه يشتاق إليها ويتوق إليها ويستحسنها، فهذه ليست توبة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الندم توبة) كما صح عنه ذلك.
إذاً: الندم ركن من أركان التوبة.
قوله: {عَسَى رَبُّكُمْ} أي: بمناصحة أنفسكم بالتوبة النصوح، {أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}.
قوله: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} أي: لا يذلهم، وهذا تعريض بأن الخزي والصغار إنما يكون من مصير أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
قوله: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} أي: أدمه أو زده.
قوله: {وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.(176/13)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين)
يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم:9].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي: بالسنان والبرهان.
قوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} يعني: فيما تجاهدهم به؛ لتنكسر صلابتهم، وتلين شكيمتهم وعريكتهم، فتنقهر نفوسهم وتذل وتخضع.
قوله: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم:9].
فالمعنى: جهاد الكفار كما هو معلوم بالقتال أو بالسيف، ولكن لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل المنافقين قتاله للكفار، فما نوع قتاله للمنافقين؟ فنوع جهاده صلى الله عليه وسلم للمنافقين هو مجاهدتهم بالقرآن جهاداً كبيراً.
وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء:89]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:51 - 52]، ومعلوم أن المنافقين كافرون، فكان جهاده صلى الله عليه وسلم للكفار بالسيف وللمنافقين بالقرآن الكريم.
وورد في الحديث: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) وذلك في عبد الله بن أبي ابن سلول كبير المنافقين حينما قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] إلى آخره.
وجهادهم بالقرآن لا يقل شدة عليهم من الجهاد بالسيف؛ لأنهم كانوا في حالة رعب وخوف يحسبون كل صيحة عليهم، وأصبحت قلوبهم خاوية كأنهم خشب مسندة، وكان هذا أشد عليهم من الملاقاة بالسيف.(176/14)
تفسير قوله تعالى: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح)
يقول الله تبارك وتعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط) يعني: حال امرأة نوح وحال امرأة لوط.
(كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما) أي: بالمظاهرة عليهما والكفر والعصيان، فمع تمكن نوح ولوط عليهما السلام من الطاعة والإيمان، إلا أن زوجتيهما تظاهرتا عليهما بالكفر والعصيان.
(فلم يغنيا عنهما من الله) يعني: من عذاب الله (شيئاً).
(وقيل ادخلا النار مع الداخلين) أي: قيل لهما إما عند موتهما أو يوم القيامة: ادخلا النار مع سائر الداخلين، من الفجرة الذين لا صلة بينهم وبين الأنبياء.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)): أجمع المفسرون هنا على أن الخيانة ليست زوجية.
فلا يجوز أن يفهم أن الخيانة خيانة في إتيان الفاحشة؛ لأنه لا يمكن أن تفجر زوجة نبي، ولأن جانب العفة والإحصان بالنسبة لزوجات الأنبياء لا يمكن أن يخدش، ولأن هذا طعن في النبي نفسه، والطعن في النبي طعن في ربه عز وجل؛ كما سبق أن بينا ذلك بالتفصيل في تفسير سورة النور.
وقال ابن عباس (نساء الأنبياء معصومات -أي: من ارتكاب الفاحشة والخيانة الزوجية- ولكنها خيانة دينية بعدم إسلامهن، وإخبار أقوامهن بمن يؤمنون مع أزواجهن.
يقول: وقد يستأنس لقول ابن عباس هذا بتحريم التزوج من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده، والتعليل له بأن ذلك يؤذيه، كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53]، فإذا كان هذا يؤذيه، فكيف إذا كان الأمر أخطر وأبعد من التساؤل بغير حجاب أو الزواج، إن مكانة الأنبياء عند الله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك.
وكون النبي عليه الصلاة والسلام أعظم وأفضل خلق الله عز وجل، هذا باب مستقل صنف فيه بعض العلماء مصنفات مستقلة، وحصل فيه نوع من الاستقراء لآيات القرآن الكريم التي اشتملت على الآيات التي تدل على ذلك، منها كتاب (القول المبين في بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل العالمين) لـ أبي عبد الله الغماري، مع أنه صوفي وفيه بدعة غليظة، لكن هذا من محاسن كتبه.
وفي سورة الأحزاب بالذات آيات كثيرة تخدم هذا المعلم، ومما يبين هذا المعلم قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب:53] أي: في أي شأن من الشئون، لأنه إذا كان سؤال أزواجه عليه الصلاة والسلام للمتاع بدون حجاب يؤذيه، فكيف إذا كان الأمر أخطر من التساؤل وهو الزواج بهن بعده، أو الوقوع في الفاحشة، هذا غير وارد على الإطلاق؛ فإنهن محفوظات من الوقوع في الفاحشة للسبب الذي ذكرنا.
قوله: ((فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)) فيه بيان أن العلاقة الزوجية لا تنفع شيئاً مع الكفر، وقد بين تعالى ما هو أعم من ذلك في عموم القرابات، كقوله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:88]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:34 - 35].
جعل الله هاتين المرأتين مثلاً للذين كفروا، وهو شامل لجميع الأقارب، وإذا تتبعنا القرآن الكريم سنجد فيه قصصاً توضح لنا أن القرابة لا تنفع إذا اختلفت العقيدة، مثل هاتين الزوجتين المظاهرتين على نوح ولوط، وكذلك قصة إبراهيم مع أبيه، ونوح مع ابنه؛ فهذه جهة الزوجة مع زوجها، والولد مع والده، والوالد مع ولده.
وأيضاً ما ورد في الحديث: (يا فاطمة اعملي؛ فإني لا أغني عنك من الله شيئاً) فلا يملك أحد نفع أحد يوم القيامة ولو كان أقرب قريب إلا بواسطة الإيمان بالله، وبما يكرم الله به من شاء من الشفاعة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21].(176/15)
تفسير قوله تعالى: (وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].
هذا المثل فيه بيان المفهوم المخالف لما قبله، وهو أن المؤمن لا تضره معاشرة الكافر الجاحد، كما أن الكافر لا تنفعه معاشرة المؤمن.
ونلاحظ هنا أن امرأة فرعون قالت: (رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة) فقدمت الظرفية (عندك) ثم الجار والمجرور (في الجنة) حتى تكون بجوار الله وقربه.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قولها: (ونجني من القوم الظالمين) أي: من عملهم ومن عذابهم أن يعذبوها.(176/16)
تفسير قوله تعالى: (ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها)
يقول الله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] أي: حفظته وصانته.
قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} يعني: جبريل عليه السلام، أو من روح خلقناه بلا توسط وهو عيسى عليه السلام.
والروح في قوله: ((فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)) بينته الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17]، أي: فأرسلنا إليها روحنا وهو جبريل عليه السلام، كما في قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] يعني: نزل جبريل عليه السلام بالقرآن.(176/17)
شبهة النصارى في كون عيسى ابن الله والرد عليهم
وفي هذه الآية رد على النصارى دعواهم أن عيسى عليه السلام ابن الله ومن روحه، تعالى عز وجل عن ذلك علواً كبيراً.
وبيان هذا الرد: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:17] فهذا يدل على أن الذي أرسل يمكن إرساله بنفسه، وهناك فرق عند أهل اللغة بين أن يرسل نفسه وما يرسل مع غيره كالرسالة والهدية، فيقال: أرسلت إليه بهدية، فتعدى بحرف الجر (إلى)، كما في قول بلقيس: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل:35] فالهدية لا ترسل بنفسها، بل لابد أن تكون مع أحد، ومثله بعثت كأن تقول: بعثت البعير من مكانه، وبعثت مبعوثاً، وبعثت برسالة.
فأما هنا فقال تعالى: ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا)) فدل على أن الروح لا يمكن أن يكون هو الله نفسه، بل أرسل شيئاً آخر.
وقال: ((فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)) ولفظ الروح مؤنث، وشاهد ذلك من القرآن ما ورد في سورة الواقعة: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] أي: بلغت الروح الحلقوم، فأنث الفعل (بلغت)، أما الضمير هنا فهو مذكر: ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ))؛ لأنه عائد على جبريل عليه السلام، ولو أنه من روح الله على ما ذهب إليه النصارى لما كان هناك حاجة إلى هذا التمثل.
وأيضاً فإنه قال لها: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم:19] ورسول ربها هو جبريل عليه السلام وليس روحه تعالى.
وقال: {لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19] ولم يقل: لأهب لك روحاً من الله.
وإنما اشتبه عليهم الأمر في قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171]، ونقول: (من) هنا ليست للتبعيض، وإنما هي لابتداء الخلق، وذلك مثل قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] أي: ابتداء خلقها من الله سبحانه وتعالى.
كذلك يقول الله سبحانه وتعالى للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص:71] وهو آدم عليه السلام، ثم قال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص:72] يعني: نفخت فيه الروح التي بها الحياة، {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:72].
فلو كان الروح جزءاً من الله لكان آدم أولى بالألوهية من عيسى عليه السلام؛ لأنه لم يذكر في حق آدم إرسال رسول له، في حين أنه ذكر في خلق عيسى أنه أرسل رسولاً: ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا)).
ويقول الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، كذلك مريم عليها السلام لما بشرتها به الملائكة: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:47] فكل من آدم وعيسى قال الله تعالى: له كن، فكان.
ثم يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} أي: بصحفه المنزلة من عنده.
قوله: {وَكُتُبِه} أي: الموحاة، والعطف هنا للتفسير، أو: الكلمات أعم من المكتوب، والمحفوظ من أوامره ووصاياه المتوارثة، والكتب خاصة بالمخطوط من الأسفار.
قوله: ((وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)) أي: من المواظبين على طاعة الله والخضوع لأحكامه، والتذكير هنا من باب تغليب الذكور على الإناث.(176/18)
ما يستفاد من الأمثال المضروبة في سورة التحريم(176/19)
كلام الزمخشري على الأمثال المضروبة في سورة التحريم
قال الزمخشري: مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم من غير إبقاء ولا محاباة، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب أو وصلة صهر؛ لأن عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم قطع العلائق وبت الوصل، وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد، وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبياً من أنبياء الله؛ بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج إغناء ما من عذاب الله.
ثم قال: ومثل حال المؤمنين في وصلة الكافرين وأنها لا تضرهم ولا تنقص شيئاً من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله تعالى، مع كونها زوجة أعدى أعداء الله الناطق بالكلمة العظمى.
ومريم بنت عمران وما أوتيت من كرامة في الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين، مع أن قومها كانوا كفاراً، وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمَّيْ المؤمنين المذكورتين في أول السورة -أي: حفصة وعائشة - وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده؛ لما في التمثيل من ذكر الكفر، ونحوه في التغليظ قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97].
وأشار إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين، وألا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين، والتعريض بـ حفصة أرجح؛ لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حداً يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره.(176/20)
كلام ابن القيم على الأمثال المضروبة في سورة التحريم
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: اشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال: مثل للكفار، ومثلين للمؤمنين.
تضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب أو وصلة صهر أو سبب من أسباب الاتصال، فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلاً بالله وحده على أيدي رسله، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان لنفعت الوصلة التي كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما، فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين، قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله وخالف أمره ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي، ولو كان بينهما في الدنيا أشد اتصال، فلا اتصال فوق اتصال البنوة والأبوة والزوجية، ولم يغن نوح عن ابنه ولا إبراهيم عن أبيه، ولا نوح ولوط عن امرأتيهما من الله شيئاً.
قال تعالى: {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:3].
وقال تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار:19].
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة:48].
وقال عز وجل: (وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان:33].
وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة؛ أن من تعلقوا به من دون الله من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة، أو يجيرهم من عذاب الله، أو يشفع لهم عند الله، وهذا أصل ضلال بني آدم وشركهم، وهو الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الذي بعث الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه بإبطاله ومحاربة أهله ومعاداتهم.
وأما المثلان اللذان للمؤمنين فأحدهما: امرأة فرعون، ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئاً إذا فارقه في كفره وعمله، فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئاً في الآخرة، وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله فتأتي عامة: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، وفي الحديث: (يهلكون جميعاً، ثم يبعثون على نياتهم).
ثم يقول: فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا رب العالمين.
أما المثل الثاني للمؤمنين: مريم التي لا زوج لها، لا مؤمن ولا كافر.
فذكر ثلاثة أصناف للنساء: المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح، والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر، والمرأة التي لا وصلة بينها وبين أحد: فالأولى: لا تنفعها وصلتها وسببها.
والثانية: لا تضرها وصلتها وسببها.
والثالثة: لا يضرها عدم الوصلة شيئاً.
ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة؛ فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والتحذير من تظاهرهن عليه، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما؛ ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثال اتصال النكاح دون القرابة.
قال يحيى بن سلام: ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة، ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة.
وفي ضرب المثل للمؤمنين بـ مريم اعتبار آخر: وهو أنها لم يضرها عند الله شيئاً قذف أعداء الله اليهود لها، ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأها الله منه، مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين، وفي هذا تسلية لـ عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك، وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها.
كما أن في التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذيراً لها ولـ حفصة مما تعمدتاه في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف، والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد، والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليها، وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه، ولاسيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون.(176/21)
الأحكام المستفادة من الأمثال المضروبة في سورة التحريم
قال في الإكليل: استدل بقوله تعالى: ((اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ)) على صحة أنكحة الكفار.
أقول: ويستدل بقوله تعالى: ((اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ)) إلى قوله: ((فَخَانَتَاهُمَا)) على جواز استدامة الرجل الصالح نكاح امرأته الفاسقة العاصية، وعلى أن استبقاءها بدون مفارقة لا يعد من قلة التورع، وهو جلي، وأيضاً العكس.
يعني: لو أن رجلاً طرأ عليه فسق لم يجب أن ينفصل عن امرأته؛ لأن العبرة بالكفاءة في التدين عند العقد، كما ذكرنا هذا بالتفصيل في سورة النور: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] فيحرم على العفيف أن يتزوج الفاسقة الفاجرة أو العكس.
وإذا تزوج رجل صالح بامرأة صالحة ثم طرأ الفسق على الرجل، فهذا لا يستوجب فسخ النكاح أو الفراق؛ لأن العبرة بأن يكون العقد صحيحاً عند العقد نفسه، أما بعد ذلك فيجوز استدامة هذا النكاح، وإن كان على الرجل أن يسعى بكل الأسباب في علاج هذا الفسق الذي طرأ عليه وإصلاحه.
ثم يقول: ويستدل بذلك أيضاً على أن نكاح المشركات كان جائزاً في شرع من قبلنا، وقد حظره الإسلام أشد الحظر كما مر في آيات عديدة.
وقال ابن كثير في قوله تعالى عن حكاية امرأة فرعون: ((رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)) قال العلماء: اختارت الجار قبل الدار، وقد ورد شيء من ذلك في حديث مرفوع.
وكما يقولون: الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق، فانظر فيمن تصاحبه أو تسافر معه.
وقال الزمخشري: في دعاء امرأة فرعون دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من شيم الصالحين وسنن الأنبياء والمرسلين.
قوله تعالى: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ)) أي: فزعت إلى دعاء الله والاستعاذة به في هذه الكربة التي حلت بها، من هذا الزوج الذي هو أكبر الكفار.
قوله: ((رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) قدمت أولاً الطلب الأخروي، ثم بعد ذلك طلبت العافية في الدنيا.
إذاً: الفزع إلى الله سبحانه وتعالى والاستعاذة به والالتجاء إليه عند المحن والنوازل من سيرة الصالحين التي ينبغي أن نقتدي بهم فيها، ومن سنن الأنبياء والمرسلين، كما قال تعالى حاكياً عن نوح عليه السلام: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:118] وقال تعالى أيضاً حاكياً دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86] وهذه الآيات تدل على أنه كان لهم اهتمام بأمر دينهم فوق اهتمامهم بأمر دنياهم؛ لأنهم قدموا طلب سلامة الدين أولاً ثم طلبوا سلامة الدنيا.
والله أعلم.(176/22)
تفسير سورة الملك [1 - 30](177/1)
بين يدي سورة الملك
سورة الملك هي السورة السابعة والستون في ترتيب المصحف الشريف، وسميت بالملك لاشتمالها على كثير من آثار المُلك، من كثرة الخيرات وعموم القدرة والإحياء والإماتة، واختبار أعمال الناس، والغلبة، والغفران، وعدم التفاوت في رعاياه، وتزيين بلاده، والقهر على الأعداء، والترحم على الأولياء، والأمن ورخص الأسعار، وألا يقدر أحد على نصر من عاداه، فهذه كلها من آثار الملك، وهذه المعاني في عامتها مما تناولته هذه السورة الكريمة؛ فمن ثم سميت سورة الملك، وتسمى أيضاً سورة تبارك.
وهي سورة مكية، وآيها ثلاثون آية.
وقد صح في فضلها على الخصوص أحاديث، ولا توجد سورة في القرآن ليس لها فضل، فكل السور لها فضل، ويدل على هذا العمومات الواردة في ثواب وفضيلة من قرأ حرفاً من كتاب الله أو من قرأ القرآن كله، لكن قد ثبتت بعض الأحاديث في فضيلة بعض السور بخصوصها، وهذا تماماً كما في شأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: فهل الصحابي الذي لم يثبت بخصوصه حديث ليس له فضائل؟ معاذ الله! وإنما له فضل، وهو يدخل في عموم الآيات والأحاديث التي تثني على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهذه فضائلهم أجمعين، لكن يأتي في شأن بعض الصحابة فضائل خاصة، وكذلك هذه السورة ثبت في فضلها بخصوصها بعض الأحاديث، منها: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي (تبارك الذي بيده الملك)).
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة، (تبارك الذي بيده الملك)).
وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ضرب بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر) قال الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه.
وقوله: (خباءه) يعني: خيمته.
قوله: (على قبر) يعني: على موضع قبر.
قوله: (وهو لا يحسب أنه قبر) يعني: لا يظن أنه قبر.
قوله: (فإذا قبر إنسان) فإذا هذه للمفاجأة يعني: إذا مكان قبر لإنسان.
قوله: (يقرأ سورة الملك حتى ختمها) يعني: أن هذا الصحابي سمع صوت الميت المدفون في هذا القبر يقرأ سورة الملك حتى ختمها، وهذا قد يقع، أن يُكشف شيء من هذه الغيبيات أحياناً لبعض الناس بإذن الله تبارك وتعالى.
قوله: (فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر)، ولذلك سميت هذه السورة بالمانعة يعني: أنها تمنع من يحفظها من عذاب القبر، وسميت المنجية؛ لأنها تنجيه من عذاب القبر، وهذا أمر معروف ومشهور، فمن الأسباب التي تقي الإنسان عذاب القبر أن يكون قارئاً وحافظاً لسورة الملك.
وورد في بعض الأحاديث الضعيفة قوله عليه الصلاة والسلام: (وددت أنها في قلب كل مؤمن).
فعلى أي الأحوال هذه السورة لها هذا الفضل العظيم، فنوصي كل من يسمع هذا الكلام ألا يقصر أبداً في حفظ سورة (تبارك الذي بيده الملك)، خاصة الذي تقدم سنه أو مرض أو نحو ذلك، فللسورة فضائل عظيمة جداً، ومن أكثر قراءتها فيرجى أنها تنفعه في قبره وفي الآخرة، وقد ثبت: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان لا ينام حتى يقرأ {الم * تَنزِيلُ} [السجدة:1 - 2]-يعني: سورة السجدة- و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1]) فمن وظيفة هذه السورة أنها تتلى عند النوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ هاتين السورتين.(177/2)
تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير)
قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1].
قال ابن جرير: أي تعاظم الذي بيده ملك الدنيا والآخرة وسلطانهما، نافذ فيهما أمره وقضاؤه، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة؛ لا يمنعه مانع ولا يحول بينه وبينهم عجز، فلله عز وجل الملك التام، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع، فهذا كقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:83] فمعنى تبارك: تعالى وتعاظم، فهو الذي يتصرف في جميع المخلوقات كما يشاء، وهو القادر على كل ما عدم من الممكنات أن يوجدها على ما يشاء.
ولفظة (تبارك) بحسب اللغة والاشتقاق هي: تَفاعل من البركة، أي: تكاثرت البركات والخيرات من قبله عز وجل، وهذا يستلزم تعظيمه وتقديسه سبحانه وتعالى.
قوله: (الذي بيده الملك) أي: كل شيء يتصرف فيه بما يشاء لا معقب لحكمه.
ونلاحظ هنا تقديم الموصول وصلته بـ (تبارك)، لم يقل: تبارك الله وإنما قال: (تبارك الذي)، فتقديم الموصول بصفة خاصة لله تبارك وتعالى -وهي تبارك- يدل على عظمة الموصول، ويدل له قوله تبارك وتعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:83]؛ لأن التقديم للتسبيح -وهو التنزيه- يساوي التقديم للبركة في قوله: (تبارك الذي بيده الملك).(177/3)
تفسير قوله تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم)
قال تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2].
قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) أي: قدر الموت والحياة، فأمات من شاء وما شاء، وأحيا من أراد وما أراد إلى أجل معلوم، أو أوجد الحياة وأزالها حسبما قدَّر.
قوله: ((لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)) يعني: ليختبركم فيعلم أيكم أحسن عملاً، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31]، فيقدر هنا (فيعلم) أي: علم وقوع، علم مكاشفة وليس علم غيب؛ لأن مثل هذا يتعلق بالأشياء بعد وجودها، وهي تقع موافقة لما سبق في علم الله تبارك وتعالى من المقادير.
قوله: ((وَهُوَ الْعَزِيزُ)) أي: الغالب الذي يقهر من أساء العمل.
قوله: (الغفور) أي: لذنوب من أناب إليه وأحسن العمل.
وقد قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقال هنا في سورة الملك: ((لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا))، فهذا دليل على الحكمة من خلق الموت والحياة.
أما تقديم الموت على الحياة فهو كما قدم الإناث في قوله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49]، وقيل: إن تقديم الموت هنا؛ لأن الأصل العدم، ثم بعد ذلك جاءت الحياة، والله تعالى أعلم.
وقال سبحانه: ((لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)) ولم يقل: ليبلوكم أيكم أكثر عملاً؛ لأن العبرة بالإحسان في العمل لا بكثرته، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم معنى الإحسان في حديث جبريل المشهور حينما سأله: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذا هو معنى الإحسان المذكور في قوله: ((أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)).
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: جعل للعالم موتتين وإحياءتين، وبينه بقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28]، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الموت أمر وجودي لا عدمي كما زعم الفلاسفة؛ لأنه لو كان عدمياً لما تعلق به الخلق، فالموت مخلوق، ودليله قوله تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ)) يعني: أن الله خلق هذا الموت.(177/4)
تفسير قوله تعالى: (الذي خلق سبع سماوات طباقاً)
قال تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3].
قوله: (الذي خلق سبع سموات طباقاً) قال ابن جرير: طبقاً فوق طبق بعضها فوق بعض.
وقال بعض علماء الفلك: اعلم أن لفظ السماء يطلق لغة على كل ما علا الإنسان.
فالسماء من السمو وهو العلو، فسقف البيت سماء، ومنه قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] فقوله: (فليمدد بسبب) أي: يمدد بحبل إلى سقف بيته.
أما قول علماء الفلك: وهذا الفضاء اللانهائي سماء، فهم لا يدققون في ألفاظهم، فهو في الحقيقة ليس فضاء بل هو مليء بالملائكة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فيها موضع شبر إلا وملك ساجد يسبح الله تبارك وتعالى).
وقولهم: وهذا الفضاء اللانهائي سماء! فيه نوع من التجاوز؛ لأنه ما دام مخلوقاً فله حد وله نهائية وله غاية، وليس ممتداً إلى ما لا نهاية، فهذا كلام من يطلق الكلام دون أي حساب.
يقول ابن جرير: ومنه قوله تعالى: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24].
ومنه قوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنعام:99] السماء هنا هو السحاب.
كذلك تسمى الكواكب سماء؛ لأنها تعلونا.
إذاً: سقف الحجرة سماء، والسحاب سماء، والكواكب سماء، وما يسمى بالفضاء إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى يطلق عليه سماء.
يقول القاسمي: والكواكب سموات، تلاحظون أن في أيام القاسمي لم يكن قد حصل تقدم علمي كالذي وصلوا إليه الآن من اكتشاف الأفلاك، فبعضهم كان يزعم أن السماوات السبع هي الكواكب السبعة السيارة! يقول: وهي طباق بعضها فوق بعض؛ لأن فلك كل منها فوق فلك غيره، ومعنى هذا القول في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:6 - 7] فواضح من هذا أن السماء الدنيا هي التي فيها هذه الكواكب؛ لأن السماء الدنيا هي فقط التي نراها الآن والتي فيها هذه الكواكب، أما بقية السماوات السبع الأخرى فإننا لا ندرك ما فيها.
قوله: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)) [الملك:3] أي: تخالف وعدم تناسب في رعاية الحكمة، بل راعاها في كل خلقه.
قوله: ((فَارْجِعِ الْبَصَرَ)) يعني: إن شككت فكرر النظر.
قوله: ((هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)) أي: من خلل.
وأصل الفطور الصدوع والشقوق أريد به لازمه كذا قالوا، والصحيح أنه على حقيقته، فمعنى قوله: ((هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)) أي: هل ترى من انشقاق وانفطار بين السماوات، بحيث تذهب من هذا الانشقاق، وتقطع علاقاتها وأحبال سببها؟ كلا، بل هي متماسكة، ومرتبط بعضها ببعض من كل جهة، كما تقدم في سورة (ق) في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6]، وهذا يفسر قوله هنا: ((فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)).
وقرأها حمزة والكسائي: (ما ترى في خلق الرحمن من تفوّت).(177/5)
تفسير قوله تعالى: (ثم ارجع البصر كرتين)
قال تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4].
قوله: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)) أي: كرره مرة بعد مرة.
قوله: ((يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا)) (خاسئاً) يعني: مبعداً، من قولك: خسأت الكلب، يعني: باعدته.
يقول القاسمي: (ثم ارجع البصر كرتين) أي: رجعتين أخريين؛ ابتغاء الخلل والفساد والعبث، تدبر وانظر وفكر: هل تجد عبثاً أو خللاً أو تفاوتاً في خلق السماوات؟ والمراد بالتثنية في قوله: ((كَرَّتَيْنِ)) التكرار.
قوله: ((يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ)) أي: يرجع إليك البصر.
قوله: ((خَاسِئًا)) يعني: مطروداً عن أن يصيب ويجد الخلل أو الفساد أو العبث في هذا المخلوق العظيم.
قوله: ((وَهُوَ حَسِيرٌ)) أي: منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه، فيصيبه هذا الكلل والتعب والإرهاق؛ لأنه لا يمكن أبداً أن يرجع ويرى في خلق الله سبحانه وتعالى تفاوتاً أو خللاً أو فساداً أو عبثاً.
وقال الزجاج في تفسير قوله تعالى: ((وَهُوَ حَسِيرٌ)): قد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللاً.
ومعنى كلام الزجاج: أن الذي ينظر ويتأمل ويتدبر ويبحث في هذه السماء بنية أن يعثر على خلل فسوف يعيا، ويكون حسيراً متعباً كالاً مرهقاًَ، ويرجع خاسئاً خائباً، فلن يجد على الإطلاق خللاً، ولن يرى في السماء خللاً.
يقول الزمخشري: نهاية كمال عالم الملك في خلق السماوات، لا ترى أحسن خلقاً وأحسن نظاماً وطباقاً منها، وأضاف خلق السماوات إلى الرحمن عز وجل؛ لأنها من أصول النعم الظاهرة، ومبادئ سائر النعم الدنيوية، وسلب التفاوت عنها لمطابقة بعضها بعضاً، وحسن انتظامها وتناسبها، وإنما قال: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ))؛ لأن تكرار النظر وتجوال الفكر مما يفيد تحقق الحقائق، وإذا كان ذلك فيها عند طلب الخروق والشقوق لا يفيد إلا الخسوء والحسور تحقق الامتناع.
فالشخص الذي يريد أن يفتش عن الخلل في خلق السماوات، هل سيعود بتحقيق شيء من بغيته؟ لا يمكن أبداً أن يحقق شيئاً من ذلك.
وقال الله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7]، وقال تبارك وتعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] تبارك وتعالى.
يقول الناصر في قول الله تبارك وتعالى: ((يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا)): وضع للظاهر موضع المضمر، لم يقل: ثم ارجعه مرتين، وإنما قال: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)).
ثم قال: وفيه من الفائدة: التنبيه على أن الذي يرجع خاسئاً حسيراً غير مدرك.
والنظر هو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن، فإذا لم يُدرك شيء دل على أنه لا شيء.
إذاً: ما الذي يستعمل في النظر وفي الاطلاع والرؤية؟ العين، فلذلك قال: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3 - 4]، فالذي يرجع خاسئاً حسيراً غير مدرك الخلل هو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن، فإذا لم يُدرك شيء دل على أنه لا يوجد خلل ولا فطور في خلق الله تبارك وتعالى.
وهذا الإتقان العظيم في خلق السماوات والأرض -كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6]- إنما هو في الدنيا فقط، أما يوم القيامة فلا شك أن السماء سوف تنفطر، كما قال الله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1]، وقال: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:1]، وقال: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25]، فالمقصود بهذا الإحكام والإتقان إنما هو في الحياة الدنيا.(177/6)
تفسير قوله تعالى: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح)
قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5].
قال ابن جرير: وهي النجوم، وجعلها مصابيح لإضاءتها، وكذلك الصبح إنما قيل له: صبح للضوء الذي يضيء للناس في النهار.
قوله: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5].
قال ابن كثير: عاد الضمير في قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَاهَا)) على جنس المصابيح لا على عينها؛ لأنه لا يرمى بالكواكب التي في السماء، بل بشهب من دونها، وقد تكون مستمدة منها.
جزى الله الإمام الحافظ الجليل ابن كثير خيراً، فالمستوى العلمي البشري يتفاوت عند العلماء، لقد كان العلماء قديماً في علوم الشريعة في القمة، لكن كانوا مواكبين لعصورهم في ناحية العلوم الاستكشافية حسب المستوى العلمي البشري، وقد ترك الله للبشر هذا القسم من العلوم ليكتشفوه ويتطوروا ويتقدموا فيه.
لو تأملنا هنا قول الله تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) هل يحتمل أن تكون المصابيح هي الكواكب؟ لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ)، والذي ترجم به الشياطين الشهب، وهذه الشهب طبيعتها نفس طبيعة النجوم، فالشمس مثلاً نجم، أما الأرض والزهرة والمشتري وزحل ونحوها كواكب.
إذاً: الأشياء المتوهجة بالكتل الغازية الضخمة الملتهبة كالشهب والنجوم هي المصابيح، ولذلك الله سبحانه وتعالى قال في الشمس: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ:13]، لكن في القمر قال: {وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]، ولم يقل في القمر: وهاجاً، بل قال: (قمراً منيراً)؛ لأنه مثل المرآة ينعكس عليه ضوء الشمس فنراه بهذه الإضاءة، لكن الشمس نفسها نجم، النجوم والشهب كذلك.
إذاً: هنا يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) ما هي هذه المصابيح؟ النجوم، بدليل قوله: ((وَجَعَلْنَاهَا)) أي: هذه المصابيح.
قوله: ((رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ)) أي: يرجم بها مسترق السمع من الشياطين.
وقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] أي: في الآخرة، هذه الآية تكشف عن حكمتين من خلق النجوم: الأولى: أنها زينة: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ).
الثانية: أنها يرجم بها الشياطين الذين هم أعداء البشر بانقضاض الشهب عليهم.
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا)): يعني: وجعلناها رجوماً وظنوناً لشياطين الإنس وهم المنجمون، والصواب أنها بمعنى آية الصافات وهي قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:6 - 7] زينة وحفظاً، {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:8 - 10]، فالذي يرجم به هو شهاب ثاقب.(177/7)
موقف العلماء من المخترعات والنظريات الحديثة
فضيلة الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله تعالى كان أقرب تلامذة الإمام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى، وهو الذي أتم أضواء البيان بعد وفاة الشيخ رحمه الله؛ لأن الشيخ الشنقيطي رحمه الله كان آخر آية فسرها هي قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]، فلعلها بشرى في كونه من حزب الله المفلحين إن شاء الله تعالى.
وشيخ الإسلام ابن تيمية كان آخر ما قرأه من الآيات قبل موته: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].
وعمر بن عبد العزيز آخر آية قرأها عند الاحتضار: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] ثم قبض رحمه الله تعالى.
والشيخ محمد رشيد رضا آخر آية فسرها هي قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].
والشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى ممن لحق بربه في عام الحزن، هذا العام الذي شهد موت كواكب أئمة المسلمين أمثال الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى.
يقول الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله: ظهرت تلك المخترعات الحديثة، ونادى أصحاب النظريات الجديدة، والناس ينقسمون إلى قسمين: قسم يبادر بالإنكار، وآخر يسارع بالتصديق، وقد يستدل كل من الفريقين بنصوص من القرآن والسنة، ولعل الأولى أن يقال: إن النظريات الحديثة قسمان: نظرية تتعارض مع صريح القرآن، فهذه مردودة بلا نزاع، كنظرية ثبوت الشمس مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، وقال سبحانه: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، في هذه الحالة قطعاً لابد أن نرد هذه النظرية؛ لأنها قائمة على رأي بشري قاصر، ومتعارضة تعارضاً صريحاً مع كلام خالق السماوات والأرض: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] سبحانه وتعالى.
ثم إذا بنفس النظرية تتطور بعد ذلك ويعلنون أن الشمس بكل الأجرام السماوية المحيطة بها -أي: المجموعة الشمسية- تَسْبَحُ إلى حيث شاء الله سبحانه وتعالى في الفضاء، وحركة الأفلاك السماوية شيء ملاحظ ومحسوس، وكلها تتحرك بحكمة وبحساب، قال تعالى: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:19]، فالشمس بالنسبة لما يدور حولها من الأجرام السماوية ثابتة والله أعلم، لكن نفس الشمس مع المجموعة الشمسية كلها تدور بقدرة الله سبحانه وتعالى.
وقول الله تبارك وتعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) هذه الآية من إعجاز القرآن الكريم، بل أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في صورة أوضح وأشهر، وذلك عندما بين أن الشمس حينما تغيب تذهب وتسجد تحت عرش الرحمن تبارك وتعالى، ثم تستأذن في الشروق فيؤذن لها، إلى آخر الحديث المعروف.
على أي حال فأي شيء من النظريات العلمية يتعارض مع نص صحيح أو مقطوع به من آيات القرآن الكريم أو حديث نبوي واضح، وكان هذا التعارض صريحاً؛ ففي هذه الحالة لابد أن نرد هذه النظرية؛ لأنها صادرة عن علم بشري خاطئ، أما إذا كانت هذه النظرية قد وصلت إلى مرتبة الحقيقة ولا يمكن الطعن فيها، مثل: كروية الأرض، فهذه حقيقة ما ينبغي أبداً أن يأتي إنسان الآن ويدعي أن الأرض غير كروية؛ لأن كون الأرض كروية هذا شيء محسوس، ولماذا نستغرب كون الأرض كروية؟ فكل الأجسام كروية، فالقمر كروي، والشمس كروية، وقوله عز وجل: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)) قالوا: عدم التفاوت أقوى ما يكون في الشكل الكروي.
ثم يقول: ونظرية لا تتعارض مع نص القرآن ولم ينص القرآن عليها، وليس عندنا من وسائل العلم ما يؤيدها ولا ما يرفضها، فالأولى أن يكون موقفنا منها موقف التثبت، ولا نبادر بحكم قاطع إيجاباً أو نفياً.
وذلك لأن القرآن الكريم ليس كتاب تكنولوجيا وإنما هو كتاب هداية، صحيح أتت بعض الإشارات تتضمن ما يسمى الآن بالإعجاز العلمي في القرآن، لكن هذا يصح الاستدلال به فيما وصل إلى مرتبة الحقيقة العلمية التي توافق ما جاء في القرآن، أما إذا كان هناك شيء ليس عندنا ما يرده ولا عندنا أيضاً ما يقبله، فهذه تترك للخبرة البشرية والعلم البشري، ولا ينبغي ربطها أبداً بالقرآن الكريم؛ لأن بعض الناس غلا في هذا الأمر غلواً مستقبحاً، حتى إن بعض الناس أراد أن يلصق نظرية داروين بالإسلام، فادعى في تفسيره أن نظرية داروين أشار إلى صحتها القرآن، وذلك في قول الله تبارك وتعالى في أول سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] قال: هي هذه النفس الواحدة وقوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1].
وهذا من الإلحاد في آيات الله ومن تحريف كلام الله عن موضعه؛ لأن نظرية داروين نظرية فاشلة وخائبة ومزيفة، فلا يجوز أبداً أن يربط نصوص القرآن الكريم بنظريات تروح وتجيء وتخطئ وتصيب، وإنما الذي يجوز ربط القرآن به هو ما وصل إلى مرحلة الحقيقة العلمية.
إذاً: ينبغي أن نتثبت ولا نتهور بحكم قاطع إيجاباً أو نفياً، ونأخذ ذلك من قصة الهدهد مع نبي الله سليمان لما جاء يخبره عن قوم سبأ، يقول الله تبارك وتعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:22 - 23]، فلما أخبر الهدهد سليمان بذلك، ولم يكن سليمان عليه السلام يعلم عنهم شيئاً، فسليمان لم يكذب الخبر الذي ورد من الهدهد ولم يصدقه؛ لأنه لم يعلم عنهم شيئاً، مع أن الهدهد وصف حالهم وصفاً دقيقاً، لكن كان موقف سليمان عليه السلام هو موقف المتثبت؛ مع ما لديه من إمكانات الكشف والتحقيق من الريح والطير والجن، فقال للمخبر -وهو الهدهد-: {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27]، هذا هو النموذج الذي ينبغي أن يحتذى فيما لا يعلم الإنسان صدقه من كذبه، أن يتريث ويتثبت ولا يتهور في الجانب السلبي أو الإيجابي.
ثم يقول الشيخ رحمه الله: ونحن في هذه الآونة لسنا أشد أو أعظم إمكانيات من نبي الله سليمان عليه السلام آنذاك، وليس المخبرون عن مثل هذه النظريات أقل من الهدهد، فليكن موقفنا على الأقل موقف من سينظر أيصدق الخبر أم يظهر كذبه، والغرض من هذا التنبيه هو ألا نحمل لفظ القرآن فيما هو ليس فيه صريحاً فيه، ونحمّله ما لا يحتمله، ثم يظهر كذب النظرية فنجعل القرآن في معرض المقارنة مع النظريات الحديثة؛ لأن النظريات الحديثة يهدم بعضها بعضاً، فإذا ربطنا القرآن بالنظرية ثم ثبت بطلانها ففي هذه الحال نفتح باب فتنة على الناس، والخطأ منا نحن حينما نربط القرآن بهذه المتغيرات؛ لأن القرآن فوق ذلك كله، القرآن أعلى وأسمى من هذا كله، يقول الله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
ويقول أيضاً في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4]: المنصوص عليه هنا في هذه الآية هو إرجاع البصر كرتين، ولكن حقيقة النظر أنه أربع مرات، الأولى في قوله تعالى: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ))، والثانية في قوله: ((فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)) والثالثة والرابعة في قوله: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ))، وليس بعد معاودة النظر أربع مرات من تأكيد.
والحسير هو العيي الكليل العاجز المنقطع دون غاية، كما في قول الشاعر: من مد طرفاً إلى ما فوق غايته ارتد خسآن منه من الطرف قد حسرا قال القرطبي: يقال: قد حسر بصره يحسر حسوراً، أي: كل وانقطع نظره من طول مداه وما أشبه ذلك فهو حسير ومحسور أيضاً.
قال الشاعر: نظرت إليها بالمحصب من منى فعاد إليّ الطرف وهو حسير(177/8)
الحكمة من خلق النجوم
قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5] قوله: (الدنيا) تأنيث الأدنى، أي: السماء الموالية للأرض، ومفهومه أن بقية السماوات ليس فيها مصابيح، أي: النجوم والكواكب، كما قال الله: {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6]، ويدل لهذا المفهوم قول قتادة: إن الله جعل النجوم لثلاثة أمور: زينة للسماء الدنيا، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البر والبحر، كما قال عز وجل: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، وهذه الأمور الثلاثة تتعلق بالسماء الدنيا؛ لأن الشياطين لا تنفذ إلى السماوات الأخرى؛ لأنها أجرام محفوظة، كما ذكر في حديث الإسراء أن لها أبواباً فلا يدخل منها إلا بإذن، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف:40]، وهذا ليس صريحاً، وإنما هو استدلال بمفهوم قوله تعالى: ((إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا))، فيفهم منها أن ما عدا السماء الدنيا ليس فيه نجوم ولا كواكب ولا شياطين ترجم.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5] الرجوم هي الشهب من النار، والدليل على أن الشهب هي النار قوله تعالى: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7]، فالشهب هي التي يرجم بها الشياطين عند استراق السمع، كما في قوله تعالى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9]، وقوله تعالى أيضاً: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10].(177/9)
الرد على شبهة امتناع تعذيب العصاة من الجن بالنار لكونهم خلقوا منها
هنا سؤال وهو: إذا كان الجن من نار، كما في قوله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] فكيف تحرقهم النار؟
الجواب
أن الله سبحانه وتعالى جعل أصل خلقتنا من الماء ومن التراب، لكن كون أصل الخلقة من شيء فإنه يختلف تماماً عن كينونة هذا الشيء وصيرورته فيما بعد، فنحن البشر بما أنا خلقنا من طين، فهل إذا ابتللنا بالماء نصير طيناً؟! لا يكون هذا، كذلك أصل خلق الجن من النار كما في قوله: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ)، لكن ما هي الصورة التي عليها الجن الآن؟ لا ندري: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] فكون أصلهم من نار لا يستلزم أنهم الآن نار، وقد أجاب بعض العلماء عن هذه الشبهة بجواب آخر: أجاب عنها الفخر الرازي بقوله: إن النار يكون بعضها أقوى من بعض، فالأقوى يؤثر على الأضعف، ومما يشهد لما ذهب إليه قوله تعالى بعده: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] والسعير هو أشد النار وأقوى النار، ومعلوم أن النار طبقات بعضها أشد من بعض، وهذا أمر ملموس، فقد تكون الآلة مصنوعة من حديد وتسلط عليها آلة من حديد أيضاً أقوى منها فتكسرها، أو يسلط معدن على معدن آخر فيخدشه أو يؤثر فيه، وهذا ما يعرف بخاصية الصلادة، وكما قال العرب: لا يفل الحديد إلا الحديد.
إذاً: لا يمنع كون أصل الجني من نار ألا يتعذب بالنار، كما أن أصل الإنسان من طين من حمأ مسنون، ومن صلصال كالفخار، وبعد خلقه فإنه لا يحتمل التعذيب بالصلصال ولا بالفخار، فلو أحضرت إنساناً وأحضرت كمية كبيرة من الفخار والطوب الفخار وظللت تضربه أو ترجمه بهذه الأشياء فسوف تقتله، وقد يموت الإنسان بضربة بقطعة واحدة من الفخار، مع أنه خلق من الفخار، والعلم عند الله تعالى.(177/10)
تفسير قوله تعالى: (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير)
قال الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الملك:6].
قوله: (وبئس المصير) أي: بئس المرجع ذلك العذاب، وهذا من الاستطراد؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر وعيد الشياطين، ثم استطرد في وعيد الكافرين عموماً.(177/11)
تفسير قوله تعالى: (إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور)
قال تعالى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} [الملك:7].
الشهيق صوت مثل صوت الحمار.
يقول: القاسمي: إن المقصود أنهم سمعوا لأهلها الذين سبقوهم إلى النيران -والعياذ بالله- الأصوات المنكرة المنافية لأصوات الأناسي أو لأنفسهم، فإنهم يصطرخون فيها بأصوات الحيوانات المنكرة، كما في قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106] هذا الاحتمال الأول في تفسير قوله: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ).
الاحتمال الثاني في تفسير هذه الآية: أنهم سمعوا للنار أو للسعير أو لجهنم شهيقاً وصوتاً منكراً فظيعاً، أي: تغلي بهم كغلي المرجل.(177/12)
تفسير قوله تعالى: (تكاد تميز من الغيظ)
قال الله تعالى: ((تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)) يعني: تكاد تتقطع من تغيظها عليهم، أو تكاد تتفرق أجزاؤها من الغيظ، على الذين أغضبوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وللأسف الشديد أورد القاسمي هنا قول من ادعى المجاز في هذه الآية فقال: شبهت في شدة غليانها وقوة تأثيرها في أهلها بإنسان شديد الغيظ على غيره مبالغ في إيصال الضرر إليه، فتوهم لها صورة كصورة الحالة المحققة الوجدانية، وهي الغضب الباعث على ذلك، واستعير لتلك الحالة المتوهمة الغيظ، وأما ثبوت الغيظ الحقيقي لها بحيث يخلق الله فيها إدراكاً فبحث آخر، لكنه قد قيل هنا: إنه لا حاجة إلى ادعاء التجوز فيه.
أما استبعاد المجاز في قوله تعالى: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) فنقول: إن كلمة (تكاد) من أفعال المقاربة، أي: أنها تقارب أنها تتقطع من شدة غيظها على الكافرين، فيمتنع هنا وجود المجاز، كما في قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور:35] وجوز بعضهم أن المراد بالغيظ غيظ الزبانية.
يقول العلامة الشنقيطي: النار لها حس وإدراك وإرادة، والقرآن أثبت للنار أنها تغتاظ وتبصر وتتكلم وتقصد المجيء، كما قال عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]، وكما في الحديث: (تقول النار: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين) فهذه حقيقة.
كذلك قوله: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، وقال عز وجل هنا: ((تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا)) أي: كلما ألقي فيها جماعة من الكفرة، وليس المراد بالفوج عصاة الموحدين الذين يدخلون النار ولا يخلدون فيها؛ لأن سياق الآية واضح جداً أنها في الكفار كفر أكبر؛ لأن تكذيب الرسل لا يكون إلا من الكفار.
قوله: ((كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ)) جماعة من الكفرة.
قوله: ((سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا)) سؤال توبيخ، أي: في الدنيا ينذركم هذا العذاب.
واستدل بعضهم بهذه الآية على أنه لا تكليف قبل البعثة.(177/13)
تفسير قوله تعالى: (بلى قد جاءنا نذير فكذبنا)
قال تعالى: {قَالُوا بَلَى} [الملك:9] (بلى) هذه إثبات؛ لأن جواب السؤال المنفي بأداة نفي يكون ببلى في الإثبات، أما لو قلت: نعم، فهو جواب بالنفي، كما لو قال لك المدرس: ألم تفهم ما قلت لك؟ فإن قلت: نعم فمعناه: أنك لم تفهم؛ لأن بعد أداة الاستفهام أداة نفي وهي ألم ومثلها أليس، فإذا أردت الإثبات فتقول: بلى.
أما قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف:44] فالسؤال هنا جاء بعد أداة الاستفهام، لكن لا يوجد نفي، فالجواب هنا في الإثبات يكون بنعم، وعندما أقول لك: هل أنت متوضئ؟ تقول: نعم أو لا.
قوله: (قَالُوا بَلَى) انظر إلى الاعتراف، يعني: بلى قد جاءتنا الرسل، المصيبة الكبرى ليس فقط في اعترافهم بمجيء الرسل إليهم، وليس فقط بتكذيبهم الرسل، بل قالوا: نحن أفرطنا في التكذيب، ونفينا التنزيل والإرسال والنبوة.
قوله: {وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك:9] (من) هنا قطعاً تدل على العموم، يعني: ما أنزل الله من شيء على الإطلاق، زيادة على هذا فقد بالغوا في نسبة الرسل إلى الضلال، وذلك بقولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:9] وليس في ضلال فقط بل (كَبِيرٍ)!(177/14)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)
قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10].
يقول القاسمي: قوله: ((وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ)) أي: لو كنا نسمع من النذر ما جاءت به.
يعني: لو كنا نتفكر في كلام الله الذي جاء به المرسلون سماع طالب للحق وعقلنا ذلك ((مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)) أي: ما كنا في عداد أهل النار.
ودل قوله تعالى: ((وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ)) على أن الكافر لم يعط من العقل شيئاً، ولذلك القرآن الكريم ينفي عنهم أحياناً العقل، مع أنه في مواضع أخرى يثبته، فما الجمع بينهما؟
الجواب
أن العقل موجود، لكن لما كانت الحكمة من خلق الإنسان وتكريمه بالعقل أساساً هي أن يتفكر به في توحيد الله، ويتوصل به إلى إثبات الإسلام والتوحيد والنبوة، فلما عطل عقله عن هذه الوظيفة التي خلق من أجلها أساساً، فبالتالي صار مستوياً مع من لا عقل له من البهائم والجمادات ونحوها، فلذلك بعض الآيات تثبت له العقل وبعضها تنفيه، وكذلك السمع والبصر، يقول تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] يعني: عندهم قلوب لكنهم لا يستعملونها فيما خلقت من أجله وكذلك السمع والبصر.
وهذا الآية أيضاً تشير إلى أن الوصول إلى الحق لا يكون إلا عن طريق السمع أو العقل، (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) السمع هو الآيات والآثار والروايات، والعقل هو الدليل الثاني.
قال الناصر: لو تفطن نبيه لهذه الآية لعدها دليلاً على تفضيل السمع على البصر، فإنه قد استدل على ذلك بأخفى منها.
وقال ابن السمعاني: استدل بها من قال بتحكيم العقل في موضعه.
وقال الزمخشري: قيل: إنما جمع بين السمع والعقل؛ لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل.
قال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11].
((فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ)) يعني فأقروا بجحدهم الحق، وتكذيبهم الرسل.
((فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ)) أي: بعداً لهم سواء اعترفوا أو أنكروا فإن ذلك لا ينفعهم، ولا يفيدهم شيئاً.
قوله تعالى: (فَسُحْقًا) هذا منصوب على المصدر، يعني: أسحقهم الله سحقاً، ومعناه باعدهم الله من رحمته مباعدة، والسحيق هو البعيد.(177/15)
تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]: أي: قال أهل النار: لو كنا نسمع أو نعقل عن الله حججه ما كنا في أصحاب السعير، فهم يسمعون، ولكن لا يسمعون ما ينفعهم في الآخرة، ويعقلون ولكن لا يعقلون ما ينفعهم في الآخرة؛ لأن الله تعالى قال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7]، وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف:57].
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2] فهذه إثبات لحاستي السمع والبصر، فهو عنده الآلة لكن لم يستعملها فيما خلقت لأجله، فهذه من الآيات التي تثبت حاستي السمع والبصر، ((فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)) في حين يقول في آيات أخرى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171].
وقال أيضاً في آخر سورة الملك: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23] هذا إثبات لوجود هذه الآلات، لكنهم سمعوا وعصوا، كما في قوله: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93] وهذا وإن كان في بني إسرائيل، إلا أنه تعالى قال لهذه الأمة: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال:21] هم يسمعون الحروف لكن دون أن يعقلوها، تماماً كما قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: ((كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ))، قوله: ((كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ)) أي: يرفع صوته.
قوله: ((بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً)) أي: يعني لا يسمع إلا أصوات، مثله مثل البقرة أو الجاموسة أو الحمار أو غيرها من الحيوانات التي لا تعقل، إذا وقفت أمام الحمار وقرأت عليه المعلقات السبع مثلاً هل سيفهمها؟ هو يسمع أم لا يسمع؟ هو يسمع، لكن لا يفهم؛ لأنه ليس عنده عقل.
والحمار يسمع الأصوات، ولذلك يسير ببعض الأصوات المعينة ليتجه إلى اليمين أو الشمال، أصوات معينة يصدرها له سائقه فيستجيب، لكن هو لا يفهم هذا الكلام، فكذلك الكفار، فهذا معنى قوله تعالى: (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً).
والله سبحانه وتعالى خاطب هذه الأمة قائلاً: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال:21] قوله: (وهم لا يسمعون) أي: سماعاً ينفعهم، وإلا فقد قال تعالى عنهم: {قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال:31]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26]، وقد بين تعالى سبب عدم استفادتهم بما يسمعون في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية:7 - 9]، وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان:7]، فقول الكفار هنا: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] يعني: لو كنا نسمع سماع تعقل وتفهم ما كنا في أصحاب السعير.(177/16)
الاعتراف والتوبة والإيمان عند معاينة العذاب
قوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11] أي: أقروا حيث لا ينفع الإقرار ولا الندم، فاعتراف الكفار وإيمانهم بعد فوات الأوان بالمعاينة لا ينفعهم، وهذا المعنى كررناه كثيراً، ولا نمل من تكراره؛ لأن التوبة أو الإيمان والإقرار والاعتراف بالحق بعد فوات أوانه لا ينفع الإنسان شيئاً، كأن يتوب عند الغرغرة؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (تقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، فإذا فاجأه الموت فلا تنفعه التوبة عند الموت.
وكذلك في الدنيا إذا طلعت الشمس من المغرب يغلق باب التوبة، وذلك لقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].
وكذلك عند نزول العذاب من الله سبحانه وتعالى لا ينفعهم الإقرار، كما قال تعالى عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فبماذا أجيب؟ أجيب بقوله: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91].
إذاً: لا تنفع التوبة ولا الإقرار بالذنب عندما يصير الغيب شهادة، وعندما يرى المرء الملائكة أتت لقبض روحه، أو حينما يلقون في النار يوم القيامة: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]، فاليقين الذي ينفع هو اليقين في الدنيا في دار العمل، أما اليقين والإيمان في الآخرة عند نزول العذاب فهو يقين وإيمان رغم أنف الإنسان، ففيه نوع من الإكراه له، فلا يقبل الإيمان الذي يقع تحت الإكراه، قال الله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، وإنما الإيمان واليقين الذي له قيمة هو الذي يقع هنا في دار التكليف في مجلس الامتحان، لكن هناك تظهر النتيجة فقط؛ لأنه ليس هناك عمل، ولذلك كانت أول صفات المؤمنين في القرآن الكريم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] فالإيمان بالغيب يتوصل إليه الإنسان عن طريق التفكر والتدبر في آيات الله وتحري الحق والبحث عنه والجهاد، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، هذا الإيمان الذي له قيمة، لكن بعد معاينة العذاب لا يفيد.(177/17)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب)
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12].
الخشية: هي شدة الخوف، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:49]، أما محل تلك الخشية فهي أهل العلم كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]؛ لأنهم يعرفون حق الله تعالى ويراقبونه.
وحقيقة خشية الله سبحانه قد بينها الله في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] وهذه حقيقة ليست مجازاً، من الحجار ومن الجبال ما يتفطر من شدة خشيته لله، قال تبارك وتعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21]، فالذين يخشون ربهم بالغيب هم الذين يعرفون حق الله عليهم ومراقبته إياهم في السر والعلن، ويعلمون أنه مطلع عليهم مهما تخفوا وتستروا، وهم دائماً منيبون إلى الله، كما قال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:32 - 33]، فهذه منزلة العلماء، وهي أعلى درجات السلوك مع الله تبارك وتعالى، وهي أيضاً منزلة الأنبياء: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39]، والعرب تمدح من يكون في خلوته كمشهده مع الناس، ومنه قول مسلم بن الوليد: يتجنب الهفوات في خلواته عف السريرة غيبه كالمشهد فقوله تبارك وتعالى هنا: ((إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ)) أي: يخافونه ويخافون عذابه، مع أنهم لم يروا الله تبارك وتعالى.
ما جزاؤهم؟ قال عز وجل: ((لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)).(177/18)
تفسير قوله تعالى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به)
عاد الخطاب إلى الكفار، فقال تبارك وتعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13] يعني: هو عليم بضمائرها، فكيف بما نطق به الإنسان؟! والمعنى: فاتقوه واخشوه، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: إن هذه الآية نزلت في المشركين الذين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخبره جبريل بما قالوا، فيقول بعضهم: أسروا قولكم حتى لا يسمع إله محمد!(177/19)
تفسير قوله تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)
قال تبارك وتعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] يعني: ألا يعلم السر والجهر من خلق الأشياء؟ بلى، فإن الخلق يستلزم العلم.
قوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) أي: اللطيف بعباده، الخبير بأعمالهم.
وقيل: معنى الآية: ألا يعلم الله من خلقهم وهو بهذه المثابة.
قال الغزالي: إنما يستحق اسم اللطيف من يعلم دقائق الأمور وغوامضها وما خفي منها، ثم يسلك في إيصال ما يصلحها سبيل الرفق دون العنف، والخبير هو الذي لا يعزب عن علمه الأمور الباطنة، فلا تتحرك في الملك ولا الملكوت ذرة، ولا تسكن أو تضطرب نفس إلا وعنده خبرها، وهو بمعنى العليم.(177/20)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً)
قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] الذلول بمعنى: مذللة سهلة لم يجعلها ممتنعة.
أي: جعل الأرض لينة سهلة المسالك.
قوله: ((فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)) أي: في نواحيها وجوانبها، قال ابن جرير: نواحيها نظير مناكب الإنسان التي هي من أطرافه.
وفي قوله تعالى: ((فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)) ثلاثة أقوال: القول الأول: مناكبها يعني: طرقها.
القول الثاني: جبالها؛ لأنه إذا أمكن كون السلوك والمشي في الجبال فهذا أبلغ في تسهيلها وتسخيرها.
القول الثالث: جوانبها ونواحيها.
وقوله: ((فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)) لما ندبهم الله عز وجل إلى البحث عن الرزق استعمل الله لفظ المشي فقال: ((فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا))، لكن في العبادة قال عز وجل: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، وقال سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] وقال عز وجل: {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، وهذا من أجل أن يترفق الإنسان في طلب الرزق.
قوله: ((وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)) أي: التمسوا من نعمه سبحانه وتعالى، فالأكل والرزق أريد به طلب النعم مطلقاً، وتحصيلها أكلاً وغيره، وهو اقتصار على الأهم الأعم.
وأنت إذا تأملت نعيم الدنيا وما فيها، لم تجد شيئاً منها أحوج إلى المرء غير ما أكله، وما سواه فهو متمم له أو دافع للضرر عنه.
قوله: ((وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)) أي: إليه نشوركم من قبوركم للجزاء.
قال في الإكليل في قوله تعالى: ((فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)): فيه الأمر بالتسبب والكسب، يعني: أخذ أسباب طلب الرزق.
وقال ابن كثير: في الآية تذكير بنعمته تعالى على خلقه في تسخيره لهم الأرض، وتذليله إياها لهم، بأن جعلها قارة ساكنة لا تميد ولا تضطرب؛ بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلك فيها من السبل، وهيأ فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار.
والمعنى سافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات.(177/21)
تفسير قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور)
خوف الله تعالى الكفار فقال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] هذا خطاب للكافرين أي: أأمنتم العلي الأعلى أن يخسف بكم الأرض، فيغيبكم إلى أسفل سافلين؟ قوله: ((فَإِذَا هِيَ تَمُورُ)) أي: تضطرب وتهتز هزاً شديداً بكم، وترتفع فوقكم، وتنقلب عليكم.
قوله تعالى: {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:17] وهو التراب الذي فيه الحصباء الصغار.
قوله: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:17] أي: ستعلمون عاقبة نذيري لكم إذا كذبتم به، ورددتموه على رسولي.
وقد بين تعالى نذيره لهم في غير ما آية، وهو زهوق باطلهم إذا أصروا، ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم وغلبة جنده، كما قال تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88].(177/22)
تفسير قوله تعالى: (ولقد كذب الذين من قبلهم)
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الملك:18] يعني: مع كونهم أشد منهم عَدَدَاً وعُدَدَاً، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الملك:18] أي: كيف كان نكيري على تكذيبهم؟ وذلك بإنزال العذاب بهم، ودحر باطلهم، وهذه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتقوية عزيمته في الاستمرار في الدعوة والجهاد.(177/23)
تفسير قوله تعالى: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك:19] أي: باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها.
قوله: {وَيَقْبِضْنَ} [الملك:19] أي: ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن وقتاً بعد وقت للاستظهار به على التحريك، ولتجدده عبر عنه بالفعل؛ لأن هذا شيء مستمر، وفيه إشارة إلى أن القبض أمر طارئ على الصف، تفعله الطير في بعض الأحيان للتقوي على التحريك كما يفعله السابح في الماء، يقيم بدنه أحياناً، والبسط أو الصف هو الأصل الثابت في حالة الطيران، ولذا اختير له الاسم، فقال سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ)، على أنها الصفة الثابتة المستمرة لهذه الطيور، وأنهن يبسطن أجنحتهن.
وقال: (وَيَقْبِضْنَ)، ولم يقل: قابضات، يعني: أحياناً يقبضن الأجنحة، لكن الأصل والأغلب أنها صافات.
إذاً: فمعنى قوله تعالى: ((صَافَّاتٍ)) أي: باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها.
قوله: {مَا يُمْسِكُهُنَّ} [الملك:19] يعني: ما يمسكهن أن يقعن من الجو {إِلَّا الرَّحْمَنُ} [الملك:19] بقدرته، وما دبر لها من بنية يتأتى منها الجري في الجو، ولو ذهبنا للتفاصيل في معرفة كيف يسر الله سبحانه وتعالى الطيران للطيور لطال الكلام جداً! حتى إن فكرة الطائرات إنما أُخذت من الطيور! هذا خلق الله، فالطائرات كلها مقتبسة من خلق الله سبحانه وتعالى للطيور، نجد مثلاً أن عظام الطيور كثيرة وخفيفة جداً، حتى تستطيع أن تطير، وكذلك عضلاتها وريشها ونحو ذلك.
قوله: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك:19] فيعطيه ما يليق به، ويسويه بحسب مشيئته، ويودع فيه ما يريده بمقتضى حكمته، ثم يهديه إليه بتوفيقه ورحمته.(177/24)
تفسير قوله تعالى: (أمن هذا الذي هو جند لكم)
لقد بكت تعالى المشركين بنفي أن يكون لهم ناصر غيره سبحانه وتعالى، فقال: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ} [الملك:20] هذا استفهام إنكار، والمقصود: ليس لكم جند.
ولفظة (جند) هنا موحدة؛ لأنه قال: ((أَمَّنْ هَذَا الَّذِي)) ولم يقل: هؤلاء.
قوله: ((جُندٌ لَكُمْ)) أي: يا معشر المشركين.
قوله: {يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك:20] يعني: إن أراد الله بكم سوءاً فيدفع عنكم بأسه.
قوله: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك:20] أي: من ظنهم أن أربابهم تنفع أو تضر، أو أنها تقربهم إلى الله زلفى.(177/25)
تفسير قوله تعالى: (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه)
قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك:21] يعني: بالمطر ونحوه.
قوله: {بَلْ لَجُّوا} أي: تمادوا.
قوله: {فِي عُتُوٍّ} أي: في عناد وطغيان.
قوله: {وَنُفُورٍ} [الملك:21] أي: شراد عن الحق واستكبار مع وضوح براهينه، حيث أصروا على اعتقاد أنهم يحفظون من النوائب، ويرزقون ببركة آلهتهم، وأنهم الجند الناصر الرازق؛ مكابرة وعناداً.(177/26)
تفسير قوله تعالى: (أفمن يمشي مكباً على وجهه)
لقد ضرب الله مثلاً للمؤمن والكافر فقال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] هذا تمثيل للضالين والمهتدين.
والمكب: هو المتعثر الذي يخر على وجهه؛ لوعورة طريقه، واختلاف سطحه ارتفاعاً وانخفاضاً.
وأما الذي يمشي سوياً فهو القائم المعتدل السالم من التعثر؛ لاستواء طريقه واستقامة سطحه.
قال قتادة: يحشر الله الكافر مكباً على وجهه، والمؤمن يمشي سوياً.
وقال البيضاوي: والمراد تمثيل المشرك والموحد بالسالكين، والدينين بالمسلكين، يعني: الموحد يمشي على طريق الإسلام، والمشرك يمشي على طريق الكفران، ثم يقول: ولعل الاكتفاء بما في الكب من الدلالة على حال المسلك للإشعار بأن ما عليه المشرك لا يستحق أن يسمى طريقاً.
يعني: لم يقل الله تبارك وتعالى: أفمن يمشي مكباً على وجهه على طريق وعر فيه كذا وكذا من الآفات والحفر والارتفاع والانخفاض والتفاوت؛ لأن ما عليه الكافر من الضلال والانحراف لا يستحق أصلاً أن يوصف بأنه طريق؛ لأنه وهم وضلال، فاكتفى عن التعبير عن وعورة الطريق بوصف من يمشي عليه، وهذا ملمح مهم جداً من إعجاز القرآن الكريم وبلاغته، وهذا من عجائب القرآن الكريم، حيث ذكر المسلك في الثاني دون الأول، قال سبحانه: ((أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى)) ثم قال: ((أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا)) أي: ليس منكباً مخراً على وجهه؟ لا، بل يمشي سوياً معتدلاً يرى الطريق ((عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) أي: على طريق واضح، في حين أنه لما وصف حال الكافر لم يثبت له الطريق، فكأن ما عليه الكافر لا يستحق أن يسمى طريقاً أو منهجاً، فأهمله واكتفى بالدلالة على وعورة الطريق بذكر صفة من يمشي عليه ويعاني من حزونته وصعوبته.(177/27)
تفسير قوله تعالى: (قل هو الذي أنشأكم)
قال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ} [الملك:23] أي: الذي خلقكم هو المستحق للعبادة وحده وسلوك صراطه.
قوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [الملك:23] أي: العقول والإدراكات.
قوله: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23] يعني: في استعمال هذه النعم فيما خلقت له.(177/28)
تفسير قوله تعالى: (قل هو الذي ذرأكم في الأرض)
قال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ} [الملك:24] أي: خلقكم فيها؛ لتعبدوه وتقوموا بالقسط الذي أمر به.
قوله: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الملك:24] للجزاء.(177/29)
تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)
قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [الملك:25] الوعد المقصود به هنا العذاب، وقيل: الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهور دينه.
قوله: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الملك:25] أي: إن كنتم صادقين في الإنذار به والترهيب منه.(177/30)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما العلم عند الله)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الملك:26] أي: أبين الحجة على ما أنذركم به من زهوق باطلكم إذا جاء أجله، وأما تعيين وقته فليس إلي؛ لأن العلم عند الله سبحانه.
قوله: ((وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)) أي: معي البينة ومعي الحجة، فالذي يعنيكم ويهمكم أن تكون النذارة بينة ومعها دلائلها، أما متى فهذا ليس إلي، هذا إلى الله وحده.(177/31)
تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا)
قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك:27].
قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ} الهاء تعود إلى العذاب، أي: فلما رأوا ما وعدوا به من العذاب وزهوق باطلهم.
قوله: {زُلْفَةً} يعني: قريباً منهم.
قوله: {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: ظهر عليها آثار الاستياء من الكآبة والغم والانكسار والحزن، وتبين فيها السوء، وقيل: قبحت بالسوء.
قوله: (وقيل) أي: لهم تبكيتاً.
قوله: {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي: تطلبون وتستعجلون به.
قوله: (تَدَّعُونَ) إما من الدعاء أو من الادعاء.
وفي الصعيد توجد ألفاظ يستعملونها هي في غاية الفصاحة، ويبدو أنهم تأثروا بمجيء الصحابة إبان الجهاد الإسلامي وتواجدهم في الصعيد، أو لوجود قبائل أصلها قرشية عربية قديمة في الصعيد، ولذلك في لهجة الصعيد توجد كلمات عربية فصيحة، مثل قولهم: (ادْعِي لي) وهذا كلام فصيح، ومثل قولهم: (ادّلي) يعني: انزل، وهكذا تجد كثيراً من تعبيراتهم عربية فصيحة.(177/32)
الأقوال في معنى قوله: (تدعون)
تدعون في معناها قولان: القول الأول: يقال: دعوت وادعيت، مثل: خبرت واختبرت فالمعنى: هذا الذي كنتم به تدعون وتطلبونه، ألم يكونوا يقولوا كما حكى الله عنهم: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]؟ أليسوا هم القائلين ما حكى الله عنهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]؟ إذاً: المعنى: هذا الذي كنتم تطلبونه وتدعوننا وتسألوننا إياه وتستعجلون نزوله بكم وهو العذاب.
القول الثاني: {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:14] أي: هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأكاذيب، حيث كنتم تدعون أنكم إذا متم لا تبعثون.(177/33)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي)
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الملك:28].
قوله: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ)) أي: بعذابه.
قوله: ((وَمَنْ مَعِيَ)) يعني: من المؤمنين.
قوله: ((أَوْ رَحِمَنَا)) أي: فلم يعذبنا.
قوله: ((فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ)) أي: من يمنعهم ويؤمنهم من عذاب أليم.
أي: أننا مع إيماننا بين الخوف والرجاء، ومع أننا مؤمنون، لكننا لا نأمن مكر الله سبحانه وتعالى ونخشى عذابه.
فكيف يكون حالكم أنتم أيها الكفار، وقد جمعتم بين الكفر والتكذيب واستحققتم العذاب؟! فمن يمنعكم من العذاب مع كفركم؟! لا رجاء لكم كرجاء المؤمنين.
المؤمنون يرجون الله سبحانه وتعالى، ولهم حق في هذا الرجاء، أما الكافرون فمن أين يأتيهم الرجاء وهم قد كذبوا وكفروا؟! كان كفار مكة يتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم ريب المنون، يتمنون له الموت تخلصاً من دعوته وانتشارها، فأُمر أن يقول لهم ذلك، أي: أخبروني إن أماتني الله ومن معي من المؤمنين، أو رحمنا بتأجيل آجالنا، فمن يجيركم من عذاب أليم أراد الله وقوعه بكم بسبب كفركم؟! وقال ابن كثير: أي: خلصوا أنفسكم فإنه لا منقذ لكم من الله إلا بالتوبة والإنابة والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال، فسواء عذبنا الله أو رحمنا فلا مناص لكم من عذابه ونكاله الواقع بكم، سواء كان ذلك العذاب في الدنيا أو الآخرة.(177/34)
تفسير قوله تعالى: (قل هو الرحمن آمنا به)
قال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الملك:29].
قوله: ((قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ)) أي: إلهنا الذي نعبده هو الرحمن عز وجل.
قوله: ((آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا)) أي: بعد إيماننا به اعتمدنا عليه في أمورنا كلها، لا على ما تتكلون عليه من رجالكم وأموالكم.
قوله: (فَسَتَعْلَمُونَ) أي: عند معاينة العذاب من الضال نحن أم أنتم؟ قوله: ((مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) أي: في ذهاب عن الحق وانحراف عن طريقه نحن أم أنتم؟!(177/35)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً)
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30].
قوله: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ)) يعني أخبروني.
قوله: ((إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا)) يعني: غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء، والدلاء جمع دلو، وهو الذي يستقى به الماء.
قوله: ((فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)) أي: من سوى الله سبحانه وتعالى يأتيكم بماء معين جار ظاهر سهل التناول تراه العيون؟ قال الرازي: المقصود تقريرهم ببعض نعمه تعالى؛ ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر.
أي: أخبروني إن صار ماؤكم ذاهباًَ في الأرض فمن يأتيكم بماء معين؟ فلابد أن يقولوا: هو الله؛ ولذلك من الأدب عند تلاوة هذه الآية أن يقول الإنسان: الله رب العالمين، أي: الله هو الذي يأتينا بهذا الماء إن حصل هذا الغوران.
وقد روي أن بعض الناس سمع هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} فقال: تأتينا به المعاول والفئوس؛ فغارت عيناه والعياذ بالله! إذاً: إذا سئلوا: ((فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ))؟ لابد أن يقولوا: هو الله سبحانه وتعالى، فيقال لهم حينئذ: فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلاً شريكاً له في العبودية؟! وهذا كقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:68 - 69] أي: بل هو أنزله وسلكه ينابيع رحمة بالعباد، فلله الحمد والمنة.(177/36)
تفسير سورة القلم [1 - 33](178/1)
تفسير قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون)
هذه سورة (نون) وتسمى (سورة القلم)، وهي سورة مكية، وآيها ثنتان وخمسون آية، وهي السورة الثامنة والستون في ترتيب المصحف.
يقول الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1].
(ن) بالسكون على الوقف، فهي ساكنة إذا وقفت، أما إذا وصلت فاختلف القراء، فمنهم من أدغم النون في الواو، وهم أبو بكر والمفضل وهبيرة وورش وابن محيصن وابن عامر والكسائي ويعقوب، والباقون بالإظهار.
و (نون) اسم للحرف المعروف قصد به التحدي، أو هو اسم، والكلام فيه كالكلام على سائر الحروف المقطعة في أوائل السور.
وقد يكون (نون) مفعولاً لفعل تقديره (اذكر) أو مرفوعاً خبراً لمحذوف.
(والقلم) هذا قسم، وهو القلم الذي يخط ويكتب به، (وما يسطرون) (ما) مصدرية أو موصولة.
وللمفسرين أقوال عدة في المراد بهذا القلم: فمن قائل: القلم الذي يكتب به.
ومن قائل: الذي كتب الله سبحانه وتعالى به كل ما هو كائن في اللوح المحفوظ.
قال ابن عباس: هذا قسم بالقلم الذي خلقه الله فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة.
وعن الوليد بن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أوصاني أبي عند موته فقال: يا بني! اتق الله، واعلم أنك لن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحدة والقدر خيره وشره، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب.
فقال: يا رب! وما أكتب؟ فقال: اكتب القدر.
فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد).
وقال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى على عباده.
وقد فصل أفضل وأحسن تفصيل عن القلم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (التبيان في أقسام القرآن)، وذكر فيه أقوالاً كثيرة جداً، فليرجع إليه.
وللشعراء أيضاً صولات وجولات في المفاضلة بين السيف والقلم أيهما أفضل، ومنها قول الشاعر: إذا أقسم الأبطال يوماً بسيفهم وعدوه مما يكسب المجد والكرم كفى قلم الكتاب عزاً ورفعة مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم وقوله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} يعني: وما يكتبون.
والمقصود الملائكة حين يكتبون أعمال بني آدم، أو المعنى: ما يكتبه الناس ويتفاهمون به ويحصل به البيان.
(ما) موصلة، أو مصدرية: فإذا قلنا إنها موصولة فالمعنى: والذي يسطرون به.
وإذا قلنا إنها مصدرية فالمعنى: والقلم وسطرهم.
ويراد به كل من يسطر، أو المراد به الحفظة، على خلاف بين المفسرين في ذلك.(178/2)
تفسير قوله تعالى: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون غير ممنون)
قال تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2].
(ما أنت بنعمة ربك بمجنون) هذا جواب القسم، وهو نفي، وكان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه مجنون به شيطان.
ويأتي قولهم الذي قصه الله تعالى عز وجل في قوله {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]، فأنزل الله تعالى رداً عليهم وتكذيباً لقولهم: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}، أي: برحمة ربك، فمعنى النعمة هنا الرحمة.
ويحتمل أن النعمة مقسم به، وذلك على أن الباء باء القسم، والتقدير: ما أنت -ونعمة ربك- بمجنون.
لأن الواو والباء من حروف القسم.
وقيل: هو كما تقول: ما أنت بمجنون والحمد لله.
وقيل: معناه: ما أنت بمجنون والنعمة لربك.
كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك.
أي: سبحان الله والحمد لله.
والباء في (بنعمة ربك) متعلقة بمجنون منفياً كما يتعلق بغافل مثبتاً كما في قولك: أنت بنعمة ربك غافل، ومحل قوله تعالى {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ}، النصب على الحال، كأنه قال: ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك.
((وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا)) أي: ثواباً على ما تحملت من أثقال النبوة ((غَيْرَ مَمْنُونٍ)) أي: غير مقطوع ولا منقوص.
يقال مننت الحبل إذا قطعته، وحبل منين: إذا كان غير متين.
قال الشاعر: غبس كواسب لا يمن طعامها وقال مجاهد: (غير ممنون): غير مكبل بالمن.
وقال الضحاك: أجراً بغير عمل.
وقيل: غير مقدر وهو التفضل؛ لأن الجزاء مقدر، والتفضل غير مقدر.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} جواب القسم قصد به تكذيب المشركين في إفكهم المحدث عنه بآية: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6].
((وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا)) أي: ثواباً على أذى المشركين واحتمال هذا الطعن والصبر عليه ((غَيْرَ مَمْنُونٍ)) يعني: غير منقوص ولا مقطوع.
قال ابن جرير: من قولهم: حبل منين إذا كان ضعيفاً.
وتقول: قد ضعفت منته: أي قوته.
أو: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي غير ممنون به عليك، زيادة في العناية به صلى الله عليه وسلم والتنويه بمقامه.(178/3)
تفسير قوله تعالى: (وإنك لعلى خلقٍ عظيم)
قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
قال ابن جرير: أي أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه.
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن) تعني: كان خلقه كما هو في القرآن.
وقال الرازي: هذا كالتفسير لقوله: (بنعمة ربك)؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:2 - 4]، فهذا كالتفسير لقوله: (بنعمة ربك).
والدلالة القاطعة على براءته مما رمي به من الجنون؛ لأن الأخلاق الحميدة، والأفعال المرضية، والفصاحة التامة، والعقل الكامل، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة؛ كانت ظاهرة منه صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت ظاهرة محسوسة فوجودها ينافي حصول الجنون، فكذب من أضافه إليه وضل، بل هو الأحرى بأن يرمى بما قذف به.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قال ابن عباس ومجاهد: على دين عظيم من الأديان.
والخلق يأتي أحياناً بمعنى الدين، كقوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] أي: دين الأولين.
فيقول ابن عباس ومجاهد: (على خلق): على دين عظيم من الأديان، ليس دين أحب إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها (أن خلقه صلى الله عليه وسلم كان القرآن).
وقال علي رضي الله عنه وعطية: هو أدب القرآن.
وقيل: رفقه بأمته وإكرامه إياهم.
وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه مما نهى الله عنه.
وقيل: إنك على طبع كريم.
وحقيقة الخلق في اللغة هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب، فإنه يصير كأنه مفطور عليه وكأنه مسلوك به، وأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم.
والخيم بمعنى السجية والطبيعة، لا واحد له من لفظه، وسيكون الخلق هو الطبع المتكلف، والخيم: الطبع الغريزي.
وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره فقال: وإذا ذو الفضول ضن على المو لى وعادت لخيمها الأخلاق أي: رجعت الأخلاق إلى طبائعها.(178/4)
فضيلة حسن الخلق
ثم يعلق القرطبي بعدما ذكر الخلاف في المقصود بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فقال: ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصح الأقوال، وسئلت أيضاً عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقرأت {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] إلى عشر آيات، وقالت: ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك.
ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، ولمُ يذكَر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر.
وقال الجنيد: سمي خلقه عظيماً لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى.
وقيل: سمي خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه.
يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق).
وقيل: لأنه امتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أدبني ربي تأديباً حسناً إذ قال {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، فلما قبلت ذلك منه قال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}).
ولم يعزه القرطبي إلى أي مصدر.
وروى الترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم)، وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
(وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: الفم والفرج)، وقال: هذا حديث صحيح غريب.
وعن عبد الله بن المبارك أنه وصف حسن الخلق فقال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون.
قالوا: يا رسول الله! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال المتكبرون) والمتشدق: الذي يتطاول على الناس ويبذو عليهم بالكلام البذيء.
هذه جملة من الأحاديث في فضيلة حسن الخلق، وهو ما اتصف به النبي صلى الله عليه وسلم وزكاه الله تبارك وتعالى به.
وهذه الآية لا أقول: تحتاج شهوراً ولا سنوات، بل تحتاج عمراً حتى يستطيع الإنسان أن يعطيها حقها من التأمل في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أدل على ذلك من أنه في هذا الوقت المتأخر قام بعض العلماء الأفاضل فجمع موسوعة كاملة في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أحد المؤلفين لها فضيلة الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد، إمام الحرم المكي، حيث أشرف على تأليف موسوعة اسمها (روضة النعيم في أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم)، في حوالي اثني عشر مجلداً ضخماً في ذكر أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم.
فلا شك أننا مهما أطلنا الكلام لم نوف هذه الآيات حقها، فأعظم ما مدح الله سبحانه وتعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الوصف الشامل الجامع.
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، فسيرته صلى الله عليه وسلم لا شك أنها هي التي تشرح لنا كيف كان خلقه صلى الله عليه وسلم عظيماً، فنحيل من استطاع الرجوع إلى هذه الموسوعة الرائعة التي فيها بيان وتفسير لأخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.(178/5)
تفسير قوله تعالى: (فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون)
قال تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القلم:5 - 7].
(فستبصر ويبصرون) أي: أولئك الجاحدون المتفوهون بتلك العظيمة، وهي زعمهم أو رميهم النبي صلى الله عليه وسلم.
بالجنون.
يعني: ستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتبين الحق والباطل.
(بأيكم المفتون)، يعني: أيكم الذي فتن بالجنون، فهو كقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون:20] يعني: تنبت الدهن، وقوله {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6] أي: أن الباء زائدة.
وقيل: الباء ليست بزائدة، والمعنى: بأيكم الفتنة، وهو مصدر على وزن المفعول، ويكون معناه (الفتون)، أي: فستبصر ويبصرون بأي الفريقين الجنون، أفي الفرقة التي أنت فيها من المؤمنين أم بالفرقة الأخرى؟ وهل الفتنة فيمن كوشف بأسرار العلوم وأوتي جوامع الكلم، أم فيمن حجب نفسه عن آيات الله والعبر، وقتل بعبادة الصنم؟ والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان.
وقيل: المفتون المعذب.
من قول العرب: فتنت الذهب بالنار إذا حميته، ومنه قوله تعالى: في الوليد بن المغيرة وأبي جهل: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13] أي: يعذبون.
قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أي: إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} الذين هم على الهدى، وسيجازي كلاً غداً بعمله، فهو أعلم بمن حاد عن طريق الحق الذي أمر به، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، أي: بمن اتبع الحق وسلك سبيله.(178/6)
تفسير قوله تعالى: (فلا تطع المكذبين)
قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم:8].
أي المكذبين بآيات الله وما جاءهم من الحق.
قال الزمخشري هذا تهييج وإلهاب على معاصاتهم، فلا يطيعهم.
فهنا نهاه تعالى عن مهادنة المشركين؛ لأنهم كانوا يدعونه إلى أن يكف عنهم ليكفوا عنه، فبين الله تعالى أن مهادنتهم كفر، قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74].
فهل يفهم من هذا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كاد أن يركن إليهم شيئاً قليلاً؟ إن قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] يفهم منه العكس، فهي تمنع وجود هذا الركون أو قليل منه؛ لأن (لولا) حرف امتناع لوجود، فلوجود التثبيت امتنع منه صلى الله عليه وسلم الركون إليهم شيئاً قليلاً.
وقيل: قوله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} أي: فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث.(178/7)
تفسير قوله تعالى: (ودوا لو تدهن فيدهنون)
قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9].
أي: ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم.
وعن ابن عباس: ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك.
وقال الفراء والكلبي: ودوا لو تلين فيلينون لك.
وقال مجاهد: ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك.
وقال الربيع وأنس: ودوا لو تكذب فيكذبون.
وقال الحسن: ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم.
وعنه أيضاً: ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم.
وقال زيد بن أسلم: ودوا لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون.
وقيل: ودوا لو تضعف فيضعفون.
وقيل: ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم.
وقيل: طلبوا منه أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة.
فهذه اثنا عشر قولاً، قال ابن العربي: ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقول كلها دعاوى على اللغة والمعنى، وأمثلها قولهم: ودوا لو تكذب فيكذبون، ودوا لو تكفر فيكفرون.
وعلق القرطبي على قول ابن العربي بأنها كلها صحيحة -إن شاء الله تعالى- على مقتضى اللغة والمعنى، فإن الدهان: اللين والمصانعة.
وقيل: مجاملة العدو وممايلته.
وقيل: المقاربة في الكلام، والتليين في القول، فلا شك أنها على هذا الوجه مذمومة، ولا شك أن هذا كله لم يقع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول مجاهد في قوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ}: ودوا لو تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيمالئونك.
وإنما هو مأخوذ من الدهن أو الدهن، شبه التليين في القول بتليين الدهن.(178/8)
تفسير قوله: (ولا تطع كل حلاف مهين أساطير الأولين)
{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:10 - 15].
(حلاف) صيغة مبالغة، يعني: كثير الحلف؛ وقال الزمخشري: وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف.
فهذه الآية فيها زجر قبيح عن كثرة الحلف؛ لأن بعض الناس يعتادون كثرة الحلف فيما يستحق وما لا يستحق، فهذه إشارة إلى ذم من يكثر الحلف، وأن الإنسان لا يحلف إلا في الأمور العظيمة، أو الأمور المهمة والجسيمة، لكن الحلف في كل شيء حتى وإن كان تافهاً ينبغي أن يتحرج منه الإنسان.(178/9)
حكم الحلف بالله
ومع هذا نقول: إن الحلف عبادة من العبادات القولية التي تؤدى باللسان، وفيها تعظيم لله سبحانه وتعالى، وفيها توحيد لله، لذلك لا يجوز الحلف إلا بالله سبحانه وتعالى أو بأسمائه أو بصفاته أو بأفعاله، أما الحلف بالمخلوقين فهو شرك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).
فلا يجوز الحلف بغير الله؛ لا بنبي ولا بولي ولا بملك، ولا أبٍ، ولا شرف، ولا غير ذلك، حتى النبي صلى الله عليه وسلم، وما سمعنا أن واحداً من الصحابة حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يعرفون أن هذه عبادة ولا يجوز أن تصرف إلا الله.
والحلف بالله وراءه معان كثيرة وعظيمة، منها أنك تحلف بمن يعلم أنك صادق، وهو الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ما تكنه النفوس وتخفيه، وأنه قادر على عقابك إن كنت كاذباً، وقادر على إثابتك إن كنت صادقاً.
فالمسلم يحلف تعظيماً لله، ويدخر الحلف للأمور العظيمة التي تستحق، بخلاف ما عليه بعض النصارى، حينما يترفعون عن الحلف ويعتبرون أن الحلف شيء مذموم، فالحلف ليس مذموماً إلا إذا كان كثيراً، أو إذا كان على كل شيء قليل أو حقير، لكن الحلف في موضعه وبشروطه هو عبادة وتوحيد لله تبارك وتعالى، فبعض المسلمين يقلدون النصارى، فيقول لك: صدقني.
وهذه كلمة لا بأس بها في حد ذاتها؛ لكنه استعارها من ألفاظ الكفار، ولا ينبغي للإنسان أن يستعملها حتى لا يبدو منه أنه يستحسن ما عليه الكفار من أنهم يحرمون الحلف، فليس كل حلف مذموماً، والأدلة على هذا أكثر من أن تذكر.
قوله تعالى هنا: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} هذه أول صفة من صفات الشخص الذي ذمه الله هنا، وهو أنه كثير الحلف، يقول الزمخشري: وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف.
ومنه قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224]، على أحد التفسيرين.(178/10)
معنى المهين والهماز بنميم المناع للخير
والمهين: حقير الرأي والتمييز.
{هَمَّازٍ}، عياب طعان.
قال ابن جرير: والهمز أصله الغمز، فقيل للمغتاب: هماز لأنه يطعن في أعراض الناس بما يكرهون، وذلك غمز عليهم.
{مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} نقال لحديث الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم.
{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} أي: بخيل بالمال ضنين به.
والخير هنا المال، ولهذا نرى آيات في القرآن الكريم يطلق فيها الخير على المال، كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] وقوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] يعني: إن ترك مالاً.
فكذلك هنا {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أي: بخيل بالمال ضنين به.
وقيل: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} صاد عن الإسلام.
(معتدٍ) أي: على الناس متجاوز في ظلمهم، (أثيم) أي: كثير الآثام.
(عتل): جافٍ غليظ.
{بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} دعي ملصق في نسب القوم وليس منهم.
أو (زنيم) بمعنى أنه مريب يعرف بالشر.
قال ابن جرير: ومعنى (بعد ذلك) في هذا الموضع (مع).
أي: عتل مع ذلك زنيم.
وقال الشهاب: الإشارة لجميع ما قبله من النقائص لا للأخير فقط.
يعني أن الله سبحانه وتعالى ذم هذا الشخص المذكور فقال: ((وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)) أي: بعد هذه الأوصاف المذكورة هو زنيم.
وقال بعض العلماء: الإشارة في قوله: (بعد ذلك) إلى صفة العتل، أي: هو عتل مع كونه زنيماً.
وهي للدلالة على أن ما بعده أعظم في القبح، فـ (بعد) هنا، كـ (ثم) الدالة على التفاوت الرسلي، كما قال تبارك وتعالى: (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4].
واختلف المفسرون في المقصود بالخطاب، قيل: هو الأخنس بن شريق.
وقيل: الأسود بن عبد يغوث.
وقيل: عبد الرحمن بن الأسود.
وقيل: الوليد بن المغيرة.
ولعل الأشهر أنها في الوليد بن المغيرة.
ثم يقول الله تبارك وتعالى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} قال الزمخشري: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}.
متعلق بقوله.
(ولا تطع).
يعني: ((وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)) إلى قوله: ((أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ))، يعني: ولا تطعه مع هذه المساوئ لأن كان ذا مال وبنين، فما فائدة المال والبنين إذا كان متصفاً بهذه الصفات والأخلاق السيئة كلها.
؟ يعني: لا تطعه ليساره وحظه من الدنيا.
ويجوز أن تكون متعلقة بما يأتي، وهو {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} يعني: لكونه متمولاً مستظهراً بالبنين.
كذب بآياتنا.
((إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا)) أي: تقرأ عليه آيات كتابنا (قال أساطير الأولين) أي: هذا مما كتبه الأولون؛ استهزاءً به وإنكاراً أن يكون ذلك من عند الله تبارك وتعالى.(178/11)
معنى قوله: (عتل)
وقوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} العتل: هو الجافي الشديد في كفره.
وقيل: هو الشديد الخصومة بالباطل.
وقيل: هو الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس أو عذاب، مأخوذ من (العتل) وهو الجر، ومنه قوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} [الدخان:47]، يعني: جروه، وفي (الصحاح): عتلت الرجل أعتله وأعتل، إذا جذبته جذباً عنيفاً، ورجل يعتل، وقال يصف فرساً: نقرعه قرعاً ولسنا نعتله.
والعتل: الغليظ الجافي، والعتل -أيضاً-: الرمح الغليظ، ورجل عتل بين العتلة أي سريع إلى الشر، ويقال: لا أنعتل معك: أي لا أبرح مكاني.
وقال عبيد بن عمير: الأكول الشروب القوي الشديد، يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة.
يعني: عند الله سبحانه وتعالى.
وقال علي بن أبي طالب والحسن: العتل الفاحش السيئ الخلق.
وقال معمر: هو الفاحش اللئيم.
قال الشاعر: بعتل من الرجال زنيم غير ذي نجدة وغير كريم وفي صحيح مسلم عن حارثة بن وهب رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ قالوا: بلى.
قال: كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره)، أي: يستضعفه الناس ويحتقرونه ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا، ومعناه: متواضع متذلل خاملٌ واضع من نفسه.
وقال القاضي: قد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها وإخباتها للإيمان.
قال (ألا أخبركم بأهل النار؟ قالوا بلى.
قال: كل عتل جواظ مستكبر)، وفي رواية عنه: (كل جواظ ذليل متكبر)، والجواظ قيل: هو الجموع المنوع.
وقيل: الكثير اللحم المختال في مشيته.
وقيل: الجواظ: العتل الذي جمع ومنع.
والعتل الذميم الشديد الخلق الرحيب الجوف، الوفير الخَلْق، الأكول الشروب، الغشوم الظلوم.(178/12)
معنى قوله: (زنيم)
قوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}، والزنيم الملصق بالقوم الدعي.
عن ابن عباس وغيره.
قال الشاعر: زنيم تداعاه الرجال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع وعن ابن عباس أيضاً: أنه رجل من قريش كانت له ذنبة كذنبة الشاة يعني: جلدة متدلية.
وروى عنه ابن جبير أنه الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها.
وقال عكرمة: هو اللئيم الذي يعرف بلؤمه كما تعرف الشاة بزنمتها.
قيل: كان الوليد دعياً في قريش ليس من نسخهم -والنسخ هو الأصل- ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده، قال الشاعر: زنيم ليس يعرف من أبوه بغي الأم ذو حسب لئيم وقال حسان: وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد وعن علي: الزنيم: الذي لا أصل له.
يقول القرطبي: معظم المفسرين على أن هذا نزل في الوليد بن المغيرة، وكان يطعم أهل منى حيساً ثلاثة أيام، وينادي: ألا لا يوقدن أحد تحت برمة، ألا لا يدخنن أحدكم بكراع، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة.
وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفاً أو أكثر، ولا يعطي المسكين درهماً واحداً، فقيل: مناع للخير لأنه كان لا يعطي المساكين، وفيه نزل قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7].
وقال محمد بن إسحاق: نزلت في الأخنس بن شريق؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة، فلذلك سمي (زنيماً) يعني: بعيداًَ وملحقاً بالقوم وليس منهم.
وقال ابن عباس: في هذه الآية نعت فلم يعرف حتى قتل فعرف، وكان له زنمة في عنقه معلقة يعرف بها.
وقال مرة الهمداني: إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة.(178/13)
تفسير قوله تعالى: (سنسمه على الخرطوم)
قال الله تبارك وتعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16].
يعني: هو ارتكب كل هذه الجرائم فسوف نجازيه بأن نسمه على الخرطوم.
وهذا وعدٌ من الله تبارك وتعالى بغاية إذلاله؛ لأنه لما تناهى كبره وعجبه وزهوه وعتله وعتوه توعده الله تبارك وتعالى بنقيض ذلك، وهو غاية الإذلال، تقول العرب: وسمته بميسم السوء: يريدون أنه ألصق به من العار ما لا يفارقه.
قال جرير: لما وضعت على الفرزدق ميسمي وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل وقال الزمخشري: الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه لتقدمه له، ولذلك جعل الأنف مكان العز والحمية.
فالحمية دائماً تنسب إلى الأنف، أو يقولون: أنفه في السماء إذا أرادوا أن يصفوه بالكبر، فهذه الالتفاته النفسية تنسب غالباً إلى الأنف.
واشتق منه الأنفة، وقالوا: الأنف الأنف.
وقالوا: حمي أنفه أي: تكبر، وفلان شامح العرنين، يعني: الأنف، وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه.
وهذا دعاء عليه بالذل، يعني: ذل حتى يلصق أنفه بالرغام وهو التراب.
فهنا عبر الله سبحانه وتعالى بالوسم على الخرطوم، والخرطوم هو الأنف، ففيه غاية الإذلال والإهانة؛ لأن السمة على الوجه شين وإهانة، فكيف به على أكرم موضع منه، ولقد وسم العباس أبعاره في وجوهها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكرموا الوجوه)، فوسمها في ذراعيها.
وفي لفظ (الخرطوم) استهانة به، فلم يقل: سنسمه على أنفه.
أي: نضع له علامة من العذاب على أنفه، وإنما قال: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}، فعبر عن أنفه بالخرطوم، وهذا أيضاً غاية الاستخفاف والاستهانة بهذا المتكبر الأثيم؛ لأن أصل الخرطوم للخنزير والفيل.
وقيل: سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يتميز بها عن سائر الكفرة كما عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة بان بها عنهم.
يعني فإنه تمادى وطغى وتجبر وجاوز الحد، حتى صار متميزاً بأكبر قدر من عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والجزاء من جنس العمل، فسوف نعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يتميز بها عن سائر الكفرة.
قيل: عني بالآية الأخنس بن شريق.
قال ابن جرير: وأصله من ثفيف وأجداده في بني زهرة، أي لأنه التحق بهم حتى كان منهم في الجاهلية، ولذا سمي زنيماً للصوقه بالقوم وليس منهم.
وقيل: هو الوليد بن المغيرة؛ ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده.
وقال ابن عباس: (سنسمه) سنخطمه بالسيف.
وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف فلم يزل مخطوماً إلى أن مات.
وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها، يقال: وسمته وسماً وسمة: إذا أثخنت فيه بسمة وكي، وقد قال الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، فهذه علامة ظاهرة، وقال تعالى {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102]، وهذه علامة أخرى ظاهرة، فأفادت هذه الآية علامة ثالثة.
أي: فالوجوه تكون مسودة، والعيون زرقاء بدل البياض، والأنف ذكرت علامتها هنا في هذه الآية، {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} فهذه علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار والعياذ بالله، كما قال الله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن:41].
وقال أبو العالية ومجاهد: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} أي: على أنفه، ونسود وجهه في الآخرة فيعرف بذلك، والخرطوم: الأنف من الإنسان، ومن السباع موضع الشفة، وخراطيم القوم ساداتهم.
وقال الطبري: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} سنبين أمره تبياناً واضحاً حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم، كما لا تخفى السمة على الخراطيم.
وقيل: سنلحق به عاراً وشدة حتى يكون كمن وسم على أنفه.
قال القتيبي: تقول العرب للرجل يسب سبة سوء قبيحة باقية: قد وسم ميسمته، إذا أُلحق به عار وبقي ولم يزل عنه، أي: ألصق به عار لا يفارقه.
كما أن السمة لا يمحى أثرها، قال جرير: لما وضعت على الفرزدق مسيمي وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل أراد به الهجاء.
والبعيث هو كداك بن بشر كان يهجو جريراً.
ويقول القتيبي: وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة، ولا نعلم أن الله سبحانه وتعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه.
كما هو في هذه الآيات، وفي سورة أخرى هي سورة المدثر: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:11 - 16] إلى آخر الآيات.
يقول: ولا نعلم أن الله سبحانه وتعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة كالوسم على الخرطوم.
وقيل: هو ما ابتلاه الله به في الدنيا في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار.
وهناك قول آخر نذكره من باب الإحاطة بما قيل، وهو قول النضر بن شميل {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} قال: سنحده على شرب الخمر، والخرطوم الخمر، وجمعه خراطيم.
قال الشاعر: تظل يومك في لهو وفي طرب وأنت بالليل شراب الخراطيم يعني: الخمر.
وقال الراجز: صهباء خرطوماً عقاراً قرقفا.
وكلها أسماء للخمر.
ومما يذكر الوليد كان يأنف من شرب الخمر في الجاهلية، فالله أعلم بصحة ذلك.
قال ابن العربي: كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديماً عند الناس، حتى إنه روي أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني اعتاضوا عنه بالضرب وتحميم الوجه، -أي: تسويده بالفحم- وهذا وضع باطل، أي: استبدال لشرع الله سبحانه وتعالى بحكم باطل؛ لأن الحكم الشرعي هو الرجم كما نعلم.
يقول ابن العربي: ومن الوسم الصحيح في الوجه ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور.
فبعض العلماء قالوا: من ثبت عليه أنه شهد شهادة زور يعاقب بأن يسود وجهه.
فهي علامة على قبح المعصية، وتهديدٌ لمن يتعاطاها ولغيره ممن يرجى تجنبه لما يرى من عقوبة شاهد الزور.
فقد كان عزيزاً بقول الحق وقد صار مهيناً بالمعصية، وأعظم الإهانة إهانة الوجه، ولذلك كان في طاعة الله سبباً لخيرة الأبد والتحريم له على النار.
أي: أن شاهد الزور كما أنه استبدل القول بالحق وشهد شهادة زور حتى ضيع حق الناس أو تسبب في ظلمهم، فيعاقب بتسويد وجهه بين الناس، إهانة له، وقد كان يريد العزة بالكذب والزور.
كذلك من أذل وجهه في سبيل الله، أو أذل وجهه لله بالسجود لله تبارك وتعالى الذي يترتب عليه وجود هذه العلامة في الوجه، فالاستهانة بهذا الوجه وإذلاله لله بأن تسجد لله سبحانه وتعالى في الأرض وفي التراب وفي موطئ الأقدام، تواضع تثاب عليه بأن يكون سبباًَ لخيرة الأبد وأنه يحرمك على النار، (فإن الله تعالى قد حرم على النار أن تأكل من ابن آدم آثر السجود)، كما ثبت في الحديث الصحيح.(178/14)
تفسير قوله تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ولا يستثنون)
يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17 - 18].
(إنا بلوناهم) يعني: بلونا مشركي مكة واختبرناهم.
والمعنى: أعطيناهم أموالاً ليشكروا لا ليبطروا، فلما بطروا وعادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط، كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم.
وذلك أنها -كما قال القرطبي - كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من صنعاء -ويقال: بفرسخين- وكانت لرجل يؤدي حق الله تعالى منها، فلما صارت إلى ولده منعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها، فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها.
يقول القرطبي: قوله تعالى {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ}.
أي: بلونا مشركي مكة فاختبرنا بهذا التنزيل الحكيم هل يذكرون نعمته فيحيوا حياة طيبة، أو يصرون على تكذيبه فلا تكون عاقبتهم إلا كعاقبة أهل الجنة في امتحانهم الآتي ثم دمارهم؟ وقيل: معناه: أصبناهم ببلية القحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ}، هم قوم من أهل كتاب على ما روي عن ابن عباس، أو ناس من اليهود في قول عكرمة، أي: كتابيون.
فيتفق مع ما قبله.
وليس من ضرورة الاعتبار بالقصص والعظة به تسمية أهله لولا محبة المأثور.
فيذكر كلام عكرمة وابن عباس في تعيين هؤلاء القوم، لأن النفس تأنس بمعرفة الشيء المنقول، لحب الاستطلاع عند الإنسان والفضول، فيريد أن يعرف أكثر ما يستطيع عن هذه المعلومة.
{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أي: ليقطعن ثمارها مبكرين، حيث لا يعلم مسكين بذلك.
فأرادوا أن يستيقظوا مبكرين ويحصدوا الثمرات قبل أن يستيقظ الناس فيحضر المساكين، كما اعتادوا في حياة أبيهم على ما روي.
{وَلا يَسْتَثْنُونَ} ليصرمنها ويحصدونها كلها ولا يستثنون، أي: لا يخرجون شيئاً من حق المساكين.
وهذا أحد القولين.
والقول آخر: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي: ولم يقولوا إن شاء الله، {وَلا يَسْتَثْنُونَ} يعني: أنهم حلفوا ليصرمنها مصبحين ولم يستثنوا في هذا اليمين، بل كانوا جازمين قاطعين بأنهم سوف يقطعونها في الصباح قبل أن يأتي المساكين.(178/15)
تفسير قوله تعالى: (فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون)
قال تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:19].
أي: فطرق جنة هؤلاء القوم طارق من أمر الله لتدميرها.
قال ابن جرير: ولا يكون الطائف في كلام العرب إلا ليلاً، ولا يكون نهاراً، وقد يقولون: أصبت بها نهارا.
وذكر الفراء أن أبا الجراح أنشده: أصبت بها نهاراً غير ليل وألهى ربها طلب الرخال والرخال هي أولاد الضأن الإناث.
فكلمة (طائف) في كلام العرب تستعمل في الليل، فهو لا يكون إلا في الليل، ولا يكون أبداً نهاراً.
((فطاف عليها طائف من ربك)) يعني: طرق جنة هؤلاء القوم طارق من أمر الله لتدميرها سواءٌ كان جبريل أو غيره، وهذا مبهم في القرآن ولم يأت مأثور يعينه.
((وَهُمْ نَائِمُونَ)) أي: مستغرقون في سباتهم غافلون عما يمكر بهم.
وقوله: ((وَهُمْ نَائِمُونَ)) تأكيد للقول الأول بأن الطائف يكون ليلاً فقط.
وعلى قول الثاني أن العرب قد يقولون: أطفت بها نهاراً، ففي هذه الحالة تكوت تأسيساً لا توكيداً.(178/16)
تفسير قوله تعالى: (فأصبحت كالصريم)
قال تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:20].
كالبستان الذي قطع ثمره حتى لم يبق فيه شيء.
أو: (كالصريم): كالليل الأسود لاحتراقها.
وأنشد في ذلك ابن جرير لـ أبي عمرو بن العلاء: ألا أبكرت عاذلتي تلوم تهددني وما انكشف الصريم يعني الليل.
وقال أيضاً: تطاول ليلك الجون البهيم فما ينجاب عن صبح صريم فالمقصود بالصريم الليل لأنه أسود.
قال بعض العلماء: على من حصد زرعاً أو جذ ثمرة أن يواسي منها من حضره، وذلك معنى قوله تعالى: {َ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، وأنه غير الزكاة.
وقال بعضهم: وعليه ترك ما أخطأه الحصادون، وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم من هذا.
وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل، فقيل: إنه لما ينقطع عن المساكين في ذلك من الرفق.
أي: إنما كان هذا بسبب ما أرادوه من منع المساكين، فهم نووا وجزموا وقطعوا على أنفسهم أنهم في الصباح الباكر يخرجون حتى يحصدوا الثمار قبل أن يحضر المساكين فيأكلوا ما يتساقط أثناء الحصاد مما يتقوتون به.
فإذاً العقوبة وقعت بسبب ما أرادوه من منع المساكين، كما ذكر الله تبارك وتعالى.
وروى أسباط عن السدي قال: كان قوم باليمن، وكان أبوهم رجلاً صالحاً، كان إذا بلغ ثمره أتاه المساكين فلم يمنعهم من دخلوها وأن يأكلوا منها ويتزودوا، فلما مات قال بنوه بعضهم لبعض: علام نعطي أموالنا هؤلاء المساكين؟ تعالوا فلندلج -أي: نأتي في الظلمة- فنصرمها قبل أن يعلم المساكين.
ولم يستثنوا! فانطلقوا وبعضهم يقول لبعض خفية: لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين.
فذلك قوله تعالى: ((إِذْ أَقْسَمُوا)) -أي: حلفوا- فيما بينهم (ليصرمنها مصبحين)، أي: لنجزنها وقت الصبح قبل أن تخرج المساكين.
{وَلا يَسْتَثْنُونَ}، يعني: لم يقولوا: إن شاء الله.
وقال ابن عباس: كانت تلك الجنة دون صنعاء بفرسخين، غرسها رجل من أهل الصلاح، وكان له ثلاثة بنين، وكان للمساكين كل ما تعداه المنجل فلم يجذه من الكرم، فإذا طرح على البساط فكان كل شيء سقط عن البساط فهو أيضاً للمساكين، فإذا درسوا كان لهم كل شيء انتشر، فكان أبوهم يتصدق منه على المساكين، وكان يعيش في ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين، فلما مات أبوهم فعلوا ما ذكر الله عنهم فقالوا: قل المال وكثر العيال! فتحالفوا بينهم ليغدن غدوة قبل خروج الناس، ثم ليصرمنها ولا تعرف المساكين.
وقوله: (إذ أقسموا) يعني: حلفوا (ليصرمنها) ليقطعن ثمر نخيلهم إذا أصبحوا بسدفة من الليل، أي: بظلمة من الليل.
والصرم القطع.
يقال: صرم العذق عن النخلة وأصرم النخل: أي حان وقت صرامه.(178/17)
تفسير قوله تعالى: (فتنادوا مصبحين إن كنتم صارمين)
قال تعالى: {فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ} [القلم:21 - 22].
أي: إن كنتم عازمين على الصرام والجداد.
قال قتادة: ((إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ)) يعني: حاصدين زرعكم.
وقال الكلبي: ما كان في جنتهم من زرع ولا نخيل.
وقال مجاهد: كان حرثهم عنباً ولم يقولوا: إن شاء الله.
وقيل: معنى {وَلا يَسْتَثْنُونَ}: لا يستثنون حق المساكين.
فجاءوها ليلاً فرأوا الجنة مسودة قد طاف عليها طائف من ربك وهم نائمون.
قيل: الطائف جبريل عليه السلام.
وقيل: أمر من ربك.
وقيل: عذاب من ربك.
وقيل: عنق من نار خرج من وادي جهنم.
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان؛ لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم.
فالعزم هو الإرادة الجازمة الأكيدة، فلا يشكل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به).
فالحديث في خاطر النفس العابر، والكلام فيه غير الكلام فيما جزم الإنسان فيه بالقصد، فإذا نوى قطعاً أن يفعل شراً فإنه يؤاخذ على نيته الجازمة؛ لأنه ترك الفعل بسبب أنه حيل بينه وبين الفعل، فلولا العذاب الذي نزل بأرضهم لكانوا قطعاً عازمين ولم يستثنوا أنهم سوف يحرمون المساكين من حقهم.
فهؤلاء عوقبوا على العزم وعلى النية، فليست هي وساوس ولا خطرات ولا حديث نفس، بل هي نية جازمة وعازمة على هذا الفعل.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار.
قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)؛ لأنه كان سيباشر القتل لولا أن أخاه غلبه، فإذاً العزيمة هنا جازمة ومبيتة، فعليها يعاتب الإنسان ويعاقب.
قوله تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} الصريم هو الليل المظلم الأسود، أي احترقت فصارت كالليل الأسود.
وعن ابن عباس قال: صارت كالرماد الأسود.
وقال: الصريم: الرماد الأسود بلغة خزيمة.
وقيل: الصريم كالزرع المحصود.
فالصريم بمعنى المصروم، أي: المقطوع ما فيه.
وقال الحسن: صرم عنها الخير: أي: قطع.
فالصريم مفعول أيضاً.
(فتنادوا) أي: نادى بعضهم بعضاً (مصبحين) أي: وقت الصبح، ولم يشعروا بما جرى عليهم بالليل.
(أن اغدوا) أي: اخرجوا غدوة (على حرثكم) أي: على زرعكم، (إن كنتم صارمين) أي: إن كنتم قاصدين قطع ثمارها، وقد قطعها البلاء من أصلها.(178/18)
تفسير قوله تعالى: (فانطلقوا وهم يتخافتون)
قال تعالى: {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} [القلم:23].
أي: يكتمون ذهابهم ويتسارون فيما بينهم أي: يهمس بعضهم لبعض حتى لا يسمع أحد الصوت فيستيقظ أحد من المساكين فيحضر.
{أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} أي: فقير.
فالجملة مفسرة، أو أن (أَنْ) مصدرية، أي: بأن.
وقال الزمخشري: والنهي عن الدخول للمسكين نهي لهم عن تمكينه منه.
يعني ليس المقصود أن لا يدخلها مسكين فحسب، بل المقصود أن لا تمكنوا مسكيناً من أن يأخذ شيئاً من الحصاد، أي: لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل.
كقولك: لا أرينك هاهنا.
قوله: {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} يقول القرطبي: يعني يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد.
وقيل: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم، وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصراب.(178/19)
تفسير قوله تعالى: (وغدوا على حرد قادرين)
قال تعالى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم:25].
(على حرد) أي: على قصد وقدرة في أنفسهم، ويظنون أنهم تمكنوا من مرادهم، قاله ابن عباس وغيره، فالحرد معناه القصد، حرد يحرد حرداً أي: قصد، تقول: حردت حردك أي: قصدت قصدك، ومنه قول الراجز.
أقبل سيل جاء من عند الله يحرد حرد الجنة المغله وأنكره النحاس.
فقوله: يحرد حرد الجنة المغلة يعني: ذات الغلة.
وقيل: (على حرد): على جد.
وقال الحسن: على حاجة وفاقة.
وقال أبو عبيدة والقتيبي: على منع.
يقال: حاردت الإبل حراداً أي: قلت ألبانها.
والحرود من النوق القليلة الدر، وحاردت السنة: قل مطرها وخيرها.
وقال السدي وسفيان: على غضب.
لأن الحرد يأتي بمعنى الغضب، قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي: إذا جياد الخيل جاءت تردي مملوءة من غضب وحرد ومنه قيل: أسد حارد، وليوث حوارد، أي: غضاب.
وقيل: (على حرد): على انفراد.
لأنه من حرد يحرد حروداً إذا تنحى عن قومه ونزل منفرداً ولم يخالطهم، وقال أبو زيد: رجل حريد: إذا ترك قومه وتحول عنهم، وكوكب حريد أي: معتزل عن الكواكب.
وقال الأصمعي: رجل حريد أي: فريد وحيد، والمنحرد المنفرد، كما قال أبو لؤي: كأنه كوكب في الجو منحرد.
فقوله: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} يعني: قد قدروا أمرهم وبنوا عليه.
وقال قتادة: قادرين على جنتهم بظنهم في أنفسهم أنهم قادرون عليها.
وقال الشعبي: (قادرين) يعني: على المساكين.
وقيل: معناه من الوجود، أي: منعوا وهم واجدون للخير، أي: ما كانوا محتاجين لهذا الذي منعوه المساكين، فإذا قلت: فلان مقتدر فمعناه أنه غير محتاج.(178/20)
تفسير قوله تعالى: (فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون)
قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [القلم:26 - 27].
لما رأوها محترقة لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود، ينظرون إليها كالرماد، أنكروها وشكوا فيها، فقالوا: إنا لضالون، أي: إننا نمشي في الظلام وقد ضللنا الطريق، فنحن نمشي إلى مكان آخر غير مكان جنتنا وبستاننا.
وقيل: إنا لضالون عن الصواب في غدونا على نية منع المساكين، فلذلك عوقبنا.
{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي: حرمنا جنتنا بما صنعنا.
إذاً هذا يدل على أن النية قد تحرم الرزق وتحول دون الإنسان ودون الرزق.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} [القلم:23 - 25] أي: غدوا إلى جنتهم على مفر وسرعة وجد من أمرهم، أو على منع وغضب، قادرين في زعمهم على ما أصروا عليه من الصرام وحرمان المساكين.
{فَلَمَّا رَأَوْهَا}، أي: فلما صاروا إليها ورأوها محترقاً حرثها.
{قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي: أنكروها وشكوا فيها هل هي جنتهم أم لا، فقال بعضهم لأصحابه ظناً منه أنهم قد أخطئوا طريق جنتهم وأن التي رأوها غيرها: إنا -أيها القوم- لضالون طريق جنتنا.
فقال من علم أنها جنتهم وأنهم لم يخطئوا الطريق: بل نحن -أيها القوم- محرومون، حرمنا منفعة جنتنا بذهاب حرثها.(178/21)
تفسير قوله تعالى: (قال أوسطهم إنا كنا ظالمين)
قال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم:28 - 29].
{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أي: أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم وخيرهم رأياً {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} أي: تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم، وتخشون انتقامه من المجرمين.
وكان أوسطهم وعظهم حين عزموا على عزيمتهم الخبيثة، فعصوه فعيرهم، قال لهم: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ}.
{قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي: في ترك استثناء حق المساكين ومنع المعروف عنهم من تلك الجنة.
قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} يعني: يلوم بعضهم بعضاً، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} [القلم:31] أي: متجاوزين حدود الله تعالى في تفريطنا وعزمنا السيئ.
{عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} أي: بتوبتنا إليه وندمنا على خطأ فعلنا، وعزمنا على عدم العود إلى مثله {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} أي: في العفو عما فرط منا والتعويض عما فاتنا.
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: هذا يدل على أن هذا الأوسط كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه لما أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون.
أي: اعترض الأوسط على ذلك وأمرهم بأن يستثنوا فلم يطيعوه، والدليل على هذا ما أتى بعد، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ}، وقيل: كان استثناؤهم تسبيحاً.
وقيل: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} أي: هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم.
فإن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك وذكرهم انتقام الله تعالى من المجرمين.
فقولهم: ((سُبْحَانَ رَبِّنَا)) تنزيه لله عن الظلم فيما فعل بهم، بل هذا من عدل الله، فلما حَرموا حُرموا، أي: لما حرموا المساكين من الرزق الذي يجريه الله على أيديهم، حُرموا هم أيضاً من هذا الرزق، فاعترفوا بالمعصية ونزهوا الله عن أن يكون ظالماً فيما فعل، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.(178/22)
تفسير قوله تعالى: (فأقبل بعضهم على بعض إنا إلى ربنا راغبون)
قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} [القلم:30 - 32].
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} أي: يلوم هذا هذا في القسم ومنع المساكين، ويقول: بل أنت أشرت علينا بهذا.
{قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} أي: عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء.
وقال ابن كيسان: طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل.
{عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} تعاقدوا وقالوا: إن أبدلنا الله خيراً منها لنصنعن كما صنعت آباؤنا.
فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها، وأمر جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزغر من أرض الشام، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها، والله أعلم بالحقيقة في ذلك؛ لأن هذا غير مستند إلى نص.
قال الحسن: قول أهل الجنة: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} لا أدري إيماناً كان ذلك منهم، أو على حد ما يكون من المسرفين إذا أصابتهم الشدة، فيوقف في كونهم مؤمنين.
أي: هل هذا من باب أن المشركين حينما تنزل بهم الشدة يلجئون إلى الله مخلصين أم أنهم آمنوا وتابوا حين قالوا: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ}، فيتوقف في كونهم مؤمنين.
وسئل قتادة عن أصحاب الجنة: أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعباً.
أي: هذا أمر صعب أن نستنبطه من الآيات.
ومعظمهم يقول: إنهم تابوا وأخلصوا.(178/23)
تفسير قوله تعالى: (كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون)
قال تعالى: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم:33].
{كَذَلِكَ الْعَذَابُ} أي: في الدنيا لمن خالف الرسل وكفر بالحق وبغى الفساد في الأرض.
{وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} أي: أعظم منه {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لارتدعوا وتابوا وأنابوا.
فالجواب مقدر.
فقوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} التقدير لو كان يعلمون لارتدعوا وتابوا وأنابوا.
وهذا قيد لما قبله؛ إذ لا مدخل لعلمهم في كون العذاب أكبر، فلا علاقة بين قوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وبين كون العذاب أكبر، ولذلك يقدر
الجواب
لو كانوا يعلمون لارتدعوا وتابوا وأنابوا.
قال صاحب الإكليل: قال ابن الفرس: استدل بهذه القصة عبد الوهاب على أن من فر من الزكاة قبل الحول بتبديل أو خلط فإن ذلك لا يسقطها.
ووجه ذلك أنهم قصدوا بقطع الثمار إسقاط حق المساكين، فعاقبهم الله بإتلاف ثمارهم.
وفيها كراهة الجذاذ والحصاد بالليل، كما ورد التصريح بالنهي عنه في الحديث لأجل الفقراء.
وحكى الزمخشري عن قتادة أنه سئل عن أصحاب الجنة: أهم من أصحاب الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعباً.
وعن مجاهد قال: تابوا فبدلوا خيراً منها.
والله تبارك وتعالى أعلم.(178/24)
تفسير سورة القلم [34 - 47](179/1)
تفسير قوله تعالى: (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم)
قال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [القلم:34].
أي: إن للمتقين في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا، فمن يعيش في جنة من جنات الدنيا لا بد أن يكون في هذه الجنة ما ينغصه، وليس هذا فحسب، بل أي نعيم خلق في الدنيا لا بد أن يخالطه ما يشوبه وينغصه، إما في سبيل الحصول عليه حتى إذا ما حصل ففي سبيل استبقائه، أو إذا فاته فإنه ينغص عليه عيشه، أو إذا بقي معه فإنه ينشغل بحفظه ورعايته، أو يحزن لما يلم به من الآفات ونحو ذلك، حتى نعيم الأكل والشراب فيه كل هذا التنغيص.
فقوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} المقصود النعيم الخالص الذي لا يشوبه ما يكدره ولا ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا.
وكان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها، فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المؤمنين قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي عليه في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا.
يظنون أن الله كما آتاهم نعيم الدنيا فسوف يكون بالمثل في الآخرة، كما أوضحت ذلك آيات من كتاب الله تبارك وتعالى.(179/2)
تفسير قوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين إن لكم لما تحكمون)
قال الله تبارك وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 39].
قال الله تبارك وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} يعني: في الكرامة والمثوبة الحسنى والعاقبة الحميدة.
ثم وبخهم الله تبارك وتعالى فقال: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} يعني: كيف تحكمون بما ينبو عنه العقل السليم؛ فإنهما لا يستويان في قضيته؟ العقل السليم يحكم بأن المسلمين ليسوا كالمجرمين، ولا يمكن أن يستويا، فكيف تحكمون هذا الحكم الأعوج، وكأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه أن لكم من الخير ما للمسلمين.
{أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} أي: ألكم كتاب تجدون فيه أن الموحد كالمشرك والمطيع كالعاصي.
{إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} يعني: لما تختارون وتشتهون، أو إن لكم فيه من الأمور ما تختارونه لأنفسكم وتشتهونه لكم، كقوله تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر:40] أعندهم كتاب من الله أو عندهم صك فهم على بينة منه؟ وهذا توبيخ لهم وتقريع فيما كانوا يقولون من الباطل ويتمنون من الأماني الكاذبة.
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} أي: إن لكم في هذا الكتاب إذاًَ ما تخيرون، والمقصود: ليس لكم ذلك.
ثم زاد في التوبيخ فقال: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ}.
(أم لكم أيمان) أي: عهود ومواثيق (علينا بالغة) يعني: مؤكدة، والبالغة: المؤكدة بالله تبارك وتعالى، أي: أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة.
((إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ)) كأن هذه العهود أو هذه المواثيق فيها الحلف ((إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ)) يعني: ما تدعون، والمقصود: ليس الأمر كذلك، بما أنه ليس لكم كتاب أو ليس لكم أيمان على الله سبحانه وتعالى بالغة مؤكدة باليمين إن لكم لما تحكمون؛ فالأمر ليس كذلك.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} أي: تقضون من أمانيكم ومزاعمكم، قال الزمخشري يقال: لفلان علي يمين بكذا، إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به، يعني: أم ضمنا لكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد ((إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ)).
فمعنى ((أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا)) أم أقسمنا لكم، يعني: هل نحن قد أقسمنا لكم الأيمان المغلظة المؤكدة غاية التأكيد والمتناهية في التوكيد؟!(179/3)
تفسير قوله تعالى: (سلهم أيهم بذلك زعيم إن كانوا صادقين)
قال تعالى: {سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [القلم:40 - 41].
{سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ} أي: الحكم (زعيم) أي: كفيل به يدعيه ويصححه.
أي: سل -يا محمد- هؤلاء المتقولين عليك: أيهم كفيل بما تقدم ذكره؟! وهو أن لهم من الخير ما للمسلمين، والزعيم هو الكفيل والضمين.
(أم لهم شركاء) أي: ناس يشاركونهم في هذا الزعم ويوافقونهم عليه ((فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)) في دعواهم، قال الزمخشري: يعني أن أحداً لا يسلم لهم بهذا.
فهذا الادعاء الذي ادعوه وتلك الأماني تعلقوا بها دون سائر الناس، وليس لهم من يشاركونهم في ذلك.
فلذلك قال تعالى: ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ)) يعني: أناس يشاركونهم في نفس هذا الزعم ((فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ))، فالمعنى أنه لن يجد هؤلاء أحداً يسلم لهم بهذا، ولا يساعدهم عليه، كما أنهم لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد لهم به عند الله، ولا زعيم لهم يقوم به، ففيه تنبيه على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به من عقل أو نقل.
وقيل: (فليأتوا بشركائهم) إن أمكنهم، وهذا أمر معناه التعجيز.(179/4)
تفسير قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق وهم سالمون)
يقول الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:42 - 43].
قال ابن عباس: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) أي: عن أمر شديد مفظع من هول يوم القيامة، ألا تسمع العرب تقول: شالت الحرب عن ساق، فهذا تعبير عن الشدة.
((وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ)) يعني: فلا يستطيعون السجود لما أحاط بهم من العذاب الهائل الحائل الذي يحول بينهم وبين السجود لله تبارك وتعالى.
{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي: تغشاهم ذلة العصيان السالف لهم.
{وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} أي: لا مانع يمنعهم منه، والمراد من السجود عبادة الله وحده وإسلام الوجه له، والعمل بما أمر به من الصالحات.
يقول القاسمي: ما أثرناه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في معنى قوله تعالى: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) هو المعنى الظاهر المناسب للتهويل المطرد في توصيف ذلك اليوم، وعليه اقتصر الزمخشري، وعبارته: الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب وإبداء خدامهن عند ذلك.
يعني أن هذا تعبير موجود في اللغة العربية، فإذا أردت أن تصف موقفاً في الشدة وفي الهول والخطب العظيم تستعمل هذا التعبير، وهو الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام، حيث إنه في الحرب إذا اشتدت الأمور فإن النساء يولولن ويهربن من ساحة القتال، فيكشفن عن سوقهن؛ فهو يستعمل في التعبير عن الروع والهزيمة وتشمير المخدرات، والمرأة المخدرة هي المستورة داخل الخدر، والخدر هو مكان في أقصى البيت تستتر فيه البكر، فالمخدرة هي التي لا تظهر للناس.
فالكشف عن الساق استعمل لأنه حين يشتد الروع والفزع والهول في الحروب فإن النساء أول من يهربن، فلكي تتمكن المرأة من الهرب فإنها تحتاج إلى الكشف عن السيقان حتى تستطيع الجري بسرعة، ولا تعرقلها الثياب والذيول الطويلة، ومن ثم يكشف النساء عن خدامهن، والخدام هو الذهب والخلاخيل التي تلبس في السيقان.
يقول حاتم: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا فهذا شاهد لغوي على أن التعبير بالكشف عن الساق يستعمل في شدة الأهوال وفي الحروب.
فقوله: (أخو الحرب)، يعني به الإنسان الذي أصبح متمرساً في الحروب.
وقوله: (وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا) كناية عن شدة الهول في أثناء الحروب، فإنه يشمر ويجتهد في القتال.
وقال ابن الرقيات: تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي عن خدام العقيلة العذراء فقوله هنا: (تذهل الشيخ عن بنيه) يعني أن الحرب عندما يشتد حالها يذهل الشيخ عن بنيه، يعني أنها تنسيه بنيه وتلهيه عنهم، وخص الشيخ لوفور عقله وممارسته الشدائد، فالشيخ الكبير في السن الحكيم العاقل إذا اشتدت الحرب وشمرت عن ساقها تذهله عن بنيه مع وفور عقله وممارسته الشدائد، ومع فرط محبته للأولاد.
وقوله: (وتبدي عن خدام العقيلة العذراء) المقصود بالخدام -كما قلنا- الخلاخيل، والعقيلة من النساء هي التي عقلت في بيتها، أي: خدرت وحبست.
وجاء لفظ الساق منكراً في الآية ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) للدلالة على أمر مبهم في الشدة خارج عن المألوف، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر:6] كأنه قيل: يوم يقع أمر فظيع هائل.
وقال أبو سعيد الضرير: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) أي: يوم يكشف عن أصل الأمر.
وساق الشيء أصله الذي به قيامه، كساق الشجر وساق الإنسان.
أي: تظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها.
فالساق بمعنى أصل الأمر وحقيقته، استعارة من ساقِ الشجر.(179/5)
كلام ابن حزم في معنى: (يوم يكشف عن ساق) والرد عليه
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في (الفصل): ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم القيامة أن الله عز وجل يكشف عن ساقه فيخرون سجداً، فهذا كما قال الله تعالى في القرآن {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]، وإنما هو إخبار عن شدة الأمر وهول الموقف، كما تقول العرب: قد شمرت الحرب عن ساقها.
قال جرير: ألا رب سامي الطرف من آل مازن إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا والعجب ممن ينكر هذه الأخبار الصحاح، وإنما جاءت بما جاء به القرآن نصاً، ولكن من ضاق علمه أنكر ما لا علم له به، وقد عاب الله هذا فقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس:39].
كأن ابن حزم يقول: إن هذا الحديث يفهم في ضوء هذه الآية، فالحديث الذي فيه الكشف عن الساق هو كما قال الله في القرآن: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ)) يقول: وإنما هو إخبار عن شدة الأمر.
ثم يقول: والعجب ممن ينكر هذه الأخبار الصحاح، وإنما جاءت بما جاء به القرآن نصاً، ولكن من ضاق علمه أنكر ما لا علم له به.
ونحن نتعجب من كلام ابن حزم هذا، فلا شك في أن سياق كلامه أولاً يفهم أنه يمهد لأن يحق الحق في هذا التفسير، ثم إذا به يؤول الحديث، ولا شك في أن التأويل فرع من فروع التكذيب؛ لأن التأويل صرف الكلام عن ظاهره الراجح، فإن كان بلا مرجح فهو تأويل فاسد، ولو سلمنا جدلاً بأن الكشف عن الساق ثابت في اللغة في التعبير عن الشدة والهول ونحو ذلك فلا مانع من ذلك، لكن إذا صح الحديث في ذلك فيجب المصير إليه، ولا يجوز النظر فيما خالفه.
أي: فلو قلنا إن الآية معناها التعبير عن الهول والشدة فهذا لا يعني نفي ما ثبت في الأحاديث الصحيحة في شأن هذه العلامة التي يجعلها الله سبحانه وتعالى بينه وبين المؤمنين يوم القيامة.(179/6)
ذكر الأحاديث الواردة في صفة الساق وبيان مذهب السلف في ذلك
وقد ثبت عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا، فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيبقى أهل التوحيد، فيقال لهم: ما تنتظرون وقد ذهب الناس؟ فيقولون: إن لنا رباً كنا نعبده في الدنيا ولم نره.
قال: وتعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون نعم؟ فيقول: كيف تعرفونه ولم تروه؟ قالوا: إنه لا شبيه له.
فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون له سجداً، وتبقى أقوامٌ ظهورهم مثل طياسي البقر)،يعني: مثل قرون البقر؛ فالذين يبقون هم الذين أظهروا الإسلام، وفيهم المنافقون، فيبقون مع الموحدين ومع المسلمين، فالعلامة التي جعل الله سبحانه وتعالى بينه وبين المؤمنين في تلك اللحظة العصيبة هي أن يكشف الرحمن عن ساقه عز وجل.
وأمثال هذه النصوص التي فيها صفات الله تبارك وتعالى لا إشكال فيها على الإطلاق؛ لأننا نسلك في ذلك منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وهو أننا نثبت هذه الصفات بلا كيف، أي: نجزم بأن الله سبحانه وتعالى لا يشبهه شيء على الإطلاق، وأنه لا يعلم كيفية الله إلا هو سبحانه وتعالى، فهذا الوصف لا يترتب عليه أي تشبيه، وإنما الذين يحتاجون للتأويل هم الذين يقعون أولاً في التشبيه، ثم يفرون من التشبيه إلى النفي والتعطيل، فيقعون في كلا الأمرين: التشبيه والتعطيل.
أما أهل السنة فيقولون: ظاهر هذه الصفات هو ما يليق بالله.
والمخالفون يقولون: ظاهرها هو ما يليق بالمخلوقين.
ونحن نقول: بل ظاهرها هو ما يليق بالله، وحينئذٍ فلا نحتاج إلى التأويل.
فينبغي أن نسلك في هذا مسلك السلف الصالح في إثبات هذه الصفات وإمرارها على ظاهرها، مع أننا نجزم ونقطع بأن الله لا يشبهه شيء من خلقه تبارك وتعالى {ِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
فحينما تحدث تلك العلامة التي يعرفها المؤمنون يخر المؤمنون سجداً لله تبارك وتعالى، ويحاول المنافقون أن يشاركوهم في ذلك، فكلما حاول أحدهم أن يسجد لله عز وجل يعود ظهره طبقاً واحداً ويحال بينه وبين السجود، ويعود ظهره مثل قرون البقر تلتوي إلى الجهة العكسية، فبدل أن تتجه أجسادهم للسجود تتجه إلى العكس.
ثم إنه إن وصلنا الآيتين: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:41 - 42]، فإن العامل حينئذٍ في قوله: (يوم) هو (فليأتوا بشركائهم) أي: فليأتوا بشركائهم يوم يكشف عن ساق.
وقد يكون العامل مقدراً هو (اذكر) أي: اذكر يوم يكشف عن ساق.
فالحديث فسر الآية، ومعلوم أن القاعدة أنه متى صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في تفسير آية من القرآن الكريم فإنه يجب المصير إلى تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه أولى ما تفسر به الآية.
وقد روى عبد الله بن مسعود عن عمر بن الخطاب أنه قال: (إذا كان يوم القيامة قام الناس لرب العالمين أربعين عاماً شاخصة أبصارهم إلى السماء، حفاة عراة يلجمهم العرق، لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم أربعين عاماً، ثم ينادي منادٍ: أيها الناس! أليس عدلاً من ربكم الذي خلقكم وصوركم وأماتكم وأحياكم ثم عبدتم غيره أن يولي كل قوم ما تولوا؟ قالوا: نعم.
قال: فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله، فيتبعونها حتى تقذفهم في النار، فيبقى المسلمون والمنافقون، فيقال لهم: ألا تذهبون؟ قد ذهب الناس.
فيقولون: حتى يأتينا ربنا.
فيقال لهم: أو تعرفونه؟ فيقولون: إن اعترف لنا عرفناه -أي أن هناك صفة معينة إذا ظهرت لنا فنحن نتحقق منها- قال: فعند ذلك يكشف عن ساق، ويتجلى لهم، فيخر من كان يعبده مخلصاً ساجداً، ويبقى المنافقون لا يستطيعون؛ كأن في ظهورهم السفافيد -جمع سفود، وهي الحديدة التي يشوى بها اللحم- فيذهب بهم إلى النار، ويدخل هؤلاء الجنة، فذلك قوله تعالى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم:42 - 43]).
وإن كان لفظ حديثي أبي موسى وابن مسعود فيها شيء من الاختلاف إلا أن الحديثين ثابتان في صحيح مسلم برواية أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وغيره.
قوله تعالى: ((خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ)) أي: ذليلة متواضعة.
وهي حال.
وقوله تعالى: ((تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)) ذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم ووجوههم أشد بياضاً من الثلج، وتسود وجوه المنافقين والكافرين حتى ترجع أشد سواداً من القار.(179/7)
كلام السعدي على قوله: (يوم يكشف عن ساق)
قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42].
يقول علامة القصيم الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسير هاتين الآيتين: أي: إذا كان يوم القيامة وانكشف فيه من القلاقل والزلازل والأهوال ما لا يدخل تحت الوهم، وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده ومجازاتهم، فكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء، ورأى الخلائق من جلال الله وعظمته ما لا يمكن التعبير عنه؛ فحينئذ يدعون إلى السجود لله تبارك وتعالى، فيسجد المؤمنون الذين كانوا يسجدون لله طوعاً واختياراً، ويذهب الفجار المنافقون ليسجدوا فلا يقدرون على السجود، وتكون ظهورهم كطياسي البقر لا يستطيعون الانحناء.
يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى: وهذا الجزاء من جنس عملهم، فإنهم كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود لله وتوحيده وعبادته وهم سالمون لا علة فيهم فيستكبرون عن ذلك ويأبون، فالجزاء من جنس العمل.
وقوله: ((وقد كانوا يدعون إلى السجود)) أي: إلى الصلاة، وذلك إنما يكون بالأذان، ولذلك فهذه الآية من الأدلة القرآنية التي استدل بها على وجوب صلاة الجماعة على الرجال إلا لعذر.
((وَهُمْ سَالِمُونَ)) يعني: في الدنيا.
فيأبون إجابة المنادي لصلاة الجماعة، فلا تسأل يومئذ عن حالهم وسوء مآلهم، فإن الله سبحانه وتعالى سخط عليهم، وحقت عليهم كلمة العذاب، وتقطعت أسبابهم، ولم تنفعهم الندامة والاعتذار يوم القيامة، ففي هذا ما يزعج القلوب عن المعاصي ويوجب التدارك مدة الإمكان.
أي: على الإنسان أن لا يضيع الفرصة؛ لأننا نعيش ونحيا مرة واحدة، وكثير من الناس يقولون: (نحن نعيش مرة واحدة) في سياق تبرير انهماكهم في الدنيا وشهواتها، ولكن العاقل يقول: نحن نعيش مرة واحدة، يعني: فالفرصة لا تتكرر.
ولذلك انظر إلى قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} ففيها لفت لانتباهنا أن نغتنم حياتنا في الدنيا ونحن سالمون قبل أن تأتي تلك الأهوال.(179/8)
تفسير القرطبي لقوله تعالى: (وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون)
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} معافون أصحاء.
قال إبراهيم التيمي: أي يدعون بالأذان والإقامة فيأبون.
وقال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون (حي على الفلاح) فلا يجيبون.
وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات.
وقيل: أي في التكليف الموجه عليهم في الشرع.
والمعنى متقارب.
وكان الربيع بن خثيم قد فلج، وكان يهادى بين الرجلين يحملانه من بيته إلى المسجد، فقيل: يا أبا يزيد! لو صليت في بيتك لكانت لك رخصة.
فقال: من سمع (حي على الفلاح) فليجب ولو حبواً.
وقيل لـ سعيد بن المسيب: إن طارقاً يريد قتلك فتغيَّب! فقال: أبحيث لا يقدر الله عليَّ؟ فقيل له: اجلس في بيتك.
فقال: أسمع (حي على الفلاح) فلا أجيب!(179/9)
ذكر قول من حمل قوله: (يوم يكشف عن ساق) على الدنيا والآخرة
وقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42].
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: هذا وقد ذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أن الآية وعيد دنيوي للمشركين لا أخروي؛ قال: إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة؛ لأنه تعالى قال في وصف هذا اليوم: ((وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ))، ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف، فكيف يدعون إلى السجود؟ بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22] فيرى الناس يدعون إلى الصلاة إذا حضرت أوقاتها وهو لا يستطيع الصلاة؛ لأنه الوقت الذي لا ينفع نفساً إيمانها ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) فتشتد به الشدة ((وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ))؛ لأنهم في حالة الاحتضار.
وإما أنها في حال الهرم والمرض والعجز أي: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} للشيخوخة والعجز، وقد كانوا قبل ذلك يدعون إلى السجود وهم سالمون مما بهم الآن، فهو إما من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت، وإما من العجز والهرم.
والذين دافعوا عن هذا التأويل بأن هذا وعيد في الدنيا وليس في الآخرة، إنما هو بحجة أنه كيف يدعون إلى السجود والآخرة ليست بدار تكليف وإنما هي دار جزاء؟! قال الرازي: واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قاله أبو مسلم.
فأما قوله: إنه لا يمكن حمله على القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل هاهنا، والتكاليف زائلة يوم القيامة، فجوابه: أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف، بل على سبيل التقريع والتخجيل، فلم قلتم: إن ذلك غير جائز؟!(179/10)
تفسير قوله تعالى: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث إن كيدي متين)
قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45].
ثم أتبع تعالى تخويفهم بعظمة يوم القيامة لترهيبهم بما عنده وفي قدرته من القهر، فقال سبحانه وتعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} أي: كِلْهُ إلي فإني أكفيكه، وهذا من بليغ الكناية، كأنه يقول: حسبك انتقاماً منه أن تكل أمره إلي وتخلي بيني وبينه، فإني عالم بما يجب أن يفعل به قادر على ذلك.
وأبهم العقوبة.
وقوله تعالى: ((سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)) أي: سنكيدهم بالإمهال وإدامة الصحة وزيادة النعم من حيث لا يعلمون أنه استدراج وسبب لهلاكهم، يقال: استدرجه إلى كذا أي: استنزله إليه درجة فدرجة حتى يوقعه فيه، فهو يزداد في العتو والخبث والمعاصي والله سبحانه وتعالى يزيده من النعم وسعة الرزق والصحة والعافية، فهو في الظاهر يتمتع لكن في الحقيقة إنما يُمكر به، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد على معاصيه فاعلم أنه استدراج، ثم تلا قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]).(179/11)
المعاقبة بالاستدراج للغافل
وإن أعظم عقوبة يسلطها الله سبحانه وتعالى على العبد أن ينسيه نفسه؛ لأن العقوبات تتنوع، فهناك عقوبات ظاهرة، ومنها الحدود الشرعية، كقطع يد السارق، ونحو ذلك، ومنها عقوبات كونية قدرية، كالزلازل والخسف والقذف، وهناك عقوبات خفية، والعقوبة الخفية هي أخطر أنواع العقوبة؛ لأن العقوبة الظاهرة يمكن للإنسان أن ينتبه بسببها إلى أنها من غضب الله وسخطه عليه، وحينئذٍ يبادر إلى التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، لكن العقوبة الخفية يعاقب بها ولا يشعر بأنه يعاقب، بل يزين له المعاصي ويتمادى إلى أن يأخذه الله سبحانه وتعالى أخذ عزيز مقتدر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته).
فهل سمعت عن جبار من الجبابرة في مراحل التاريخ حينما أتت لحظة موته وأخذه وإهلاكه استطاع أن يفلت من ملك الموت؟! إن هذا لا يمكن أبداً مهما طغى وتجبر كفرعون وأمثاله، فلا يغتر الإنسان بظاهر ما عليه الكفار أو الظالمون أو العصاة أو المفرطون، وإنما عليه أن يعلم أن هذا استدراج وعقوبة بالنسيان، كما قال الله تبارك وتعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] أي: تركهم ولم يبتلهم بما ينبههم إلى الخطر الذي يترصدهم، فلم يفكروا في عواقب أنفسهم ومصيرهم في الآخرة.
فالغفلة عن المصير في الآخرة، والغفلة عن عقوبة الله تبارك وتعالى قد تكون أشد العقوبات، وهي العقوبة الخفية غير الظاهرة؛ لأن هذا يزين له سوء عمله وحينئذٍ لا يتوب، بل يحال بينه وبين التوبة، فإذا أتاه الموت نقل إلى العذاب الأليم، فكان كل ما مضى استدراجاً.
ومثال ذلك -ولله المثل الأعلى- البوليس حين يتتبع شخصاً مرتكباً للجريمة وهو يريد أن يقبض عليه في حالة معينة أو في وضع معين، فيظل يراقبه ويتربص به ويملي له حتى يشعر بالأمان، فإذا حانت لحظة القبض عليه لا يستطيع أن يفلت، ولله المثل الأعلى.
فقوله تعالى: (وأملي لهم) أي: أمهلهم وأنسئ في آجالهم ملاوة من الزمان لتكتمل حجة الله عليهم.
أي: كيدي لأهل الكفر شديد قوي.
قال الزمخشري: الصحة والرزق والمد في العمر إحسان من الله وإفضال يوجب عليهم الشكر والطاعة، ولكنهم يجعلونه سبباً في الكفر باختيارهم، فلما تدرجوا به إلى الهلاك وصف النعم بالاستدراج، وقيل: كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه! وسمَّى إحسانه وتمكينه كيداً كما سماه استدراجاً لكونه في صورة كيد، حيث كان سبباً للتورط في الهلكة، ووصفه بالمتانة لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك.
يعني أن هذا الإحسان الذي أحسن الله به إليه كان له أثر كبير في إيجاد الهلاك له.(179/12)
أقوال السلف في معنى (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث)
قوله تعالى: (فذرني) أي: دعني (ومن يكذب بهذا الحديث) يعني القرآن الكريم، أو يوم القيامة.
وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان أن الله تعالى هو الذي سوف يجازيهم وينتقم منهم ((سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)) أي: سنأخذهم على غفلتهم وهم لا يعرفون، فأخذوا يوم بدر.
وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر.
وقال الحسن: كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه.
وقال أبو روق: أي: كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار.
وقال ابن عباس: سنمكر بهم.
وقيل: هو أن نأخذهم قليلاً ولا نباغتهم.
وفي أثر إسرائيلي أن رجلاً من بني إسرائيل قال: كم أعصيك وأنت لا تعاقبني! فأوحى الله إلى نبي زمانهم أن قل له: كم من عقوبة لي عليك وأنت لا تشعر، إن جمود عينيك وقساوة قلبك استدراج مني وعقوبة لو عقلت! والاستدراج ترك المعاجلة، وأصله النقل من حال إلى حال، كالتدرج، ومنه قيل: درجة.
وهي منزلة بعد منزلة، واستدرج فلان فلاناً أي: استخرج ما عنده قليلاً قليلاً.
ويقال: درجه إلى كذا واستدرجه بمعنى أدناه منه على التدريج.
(وأملي لهم) أي: أمهلهم وأطيل لهم المدة، والملاوة: المدة من الدهر، وأملى الله له أي: أطال له، والملوان الليل والنهار.
وقيل: (أملي لهم) أي: لا أعاجلهم بالموت (إن كيدي متين) أي: إن عذابي لقوي شديد، فلا يفوتني أحد.(179/13)
تفسير قوله تعالى: (أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون)
يقول الله تبارك وتعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [القلم:46].
(أم تسألهم أجراً) أي: أتسألهم أجراً على ما أتيتهم به من النصيحة ودعوتهم إليه من الحق.
((فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)) أي: فهم من عزة ذلك الأجر مثقلون؟! أي: هو مبلغ كبير تطلبه منهم مقابل الدعوة، ومقابل هدايتهم ((فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)) أي: أأثقلهم أداء هذا الأجر فتحاموا لذلك قبول نصيحتك وتجنبوا الدخول فيما ما دعوتهم إليه؟! والمعنى: إنك لم تطلب منهم على الهداية والتعليم أجراً فيثقل عليهم حمله حتى يثبطهم عن الإيمان.
وقال بعضهم في معناه: أم تلتمس منهم ثواباً على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله، فهم من غرامة ذلك مثقلون بما يشق عليهم من بذل المال؟! أي: ليس عليهم كلفة، فأنت لا تسألهم أجراً، بل يستولون بمتابعتك على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم.(179/14)
تفسير قوله تعالى: (أم عندهم الغيب فهم يكتبون)
قال تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [القلم:47].
((أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ)) أي: علم ما غاب عنهم ((فَهُمْ يَكْتُبُونَ)) أي: يحكمون لأنفسهم بما يريدون.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أي: هل اطلعوا على الغيب أو على اللوح المحفوظ ونقلوا منه وكتبوا منه ما يحكمون به من أنهم سوف يهلكون المسلمين، أو أنهم كذا وكذا من أمانيهم الفارغة، فهم يكتبون من الغيب ما يحكمون به فيجادلونك بما فيه، ويزعمون أنهم على كفرهم بربهم أفضل منزلة عند الله من أهل الإيمان به، وأنهم مستغنون عن وحيه وتنزيله؟! يقول الله تبارك وتعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} وهو إمهالهم وتأخير ظهورك عليهم، قضى الله أنه لا يعجل لك الظهور في الحال لكن في أجل يعلمه وحده، ولذلك يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي: لقضاء ربك.
وقيل: اصبر على ما حكم به عليك ربك من تبليغ الرسالة.
وقيل: فاصبر لنصر ربك، أي: لا تعجل ولا تغاضب فلا بد من نصرك، فاصبر لحكم ربك، وهو إمهالهم وتأخير ظهورك عليهم، أي: لا يثنك عن تبليغ ما أمرت به أذاهم وتكذيبهم، بل امض صابراً عليه {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} وهو يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أي: لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة، وهذه تعزية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.(179/15)
تفسير سورة الحاقة(180/1)
تفسير قوله تعالى: (الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة)
سورة الحاقة هي السورة التاسعة والستون من سور القرآن الكريم، وهي سورة مكية، وآيها اثنان وخمسون آية.
قال تبارك وتعالى: {الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1] أي: الساعة التي تحق فيها الأمور، ويجب فيها الجزاء على الأعمال، مثل قولهم: حق عليه الشيء إذا وجب.
والحاقة هي القيامة، وهذا اسم من أسماء يوم القيامة كما سميت بالقارعة ونحو ذلك من الأسماء.
ولماذا سميت القيامة بالحاقة؟ قيل: سميت بذلك؛ لأن الأمور تحق فيها.
وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تكون من غير شك.
وقيل: سميت بذلك؛ لأنها أحقت بأقوام الجنة، وأحقت بأقوام النار.
وقيل: سميت بذلك؛ لأن فيها يصير كل إنسان حقيقاً بجزاء عمله.
وقيل: لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل، أي: تغلب كل محاق ومجادل في دين الله بالباطل، تقول: حاققته فحققته، يعني: غالبته فغلبته، والتحاق هو التخاصم، والاحتقاق الاختصام، وكذلك بالنسبة لكلية الحقوق، فهي كلية الاحتقاق يعني: الاختصام.
قوله تعالى: {مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:2] هذا من باب وضع الظاهر موضع المضمر، يعني: ما هي الحاقة؟ تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها.
قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:3] قال بعضهم: من عوائد العرب في محاوراتهم اللطيفة إذا أرادوا تشويق المخاطب في معرفة شيء ودرايته أتوا بإجمال وتفصيل، فالإجمال مثل قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ}، ثم أتى بتفصيل أكثر فقال: {مَا الْحَاقَّةُ}، ثم زاد فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} أي: أي شيء هي؟! تأكيداً لتفخيم شأنها حتى كأنها خرجت عن دائرة علم المخاطب، يعني: لهولها وفخامتها صارت كأنها خالية عن أن يدرك المخاطب كنهها أو معناها أو ما اشتملت عليه من الأوصاف مما لم تبلغه دراية أحد من المخاطبين، ولم تصل إليه معرفة أحد من السامعين، ولا أدركه فهمه، وكيفما قدر حالها فهي وراء ذلك وأعظم، ومنه يعلم أن الاستفهام كناية عن أنها لا تعلم، ولا يصل إليها دراية دارٍ، ولا تبلغها الأبصار.(180/2)
تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية)
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:4 - 5].
قال تبارك وتعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة:4] أي: بالساعة التي تقرع الناس بأهوالها وهجومها عليهم.
والقارعة هي الحاقة، وهنا أيضاً وضع المظهر هنا موضع المضمر؛ لأن دليلها أو تسميتها بالقارعة هو أيضاً اسم من أسماء يوم القيامة.
قال الزمخشري: ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع في الحاقة، زيادة في وصف شدتها.
ولما ذكرها وفخمها أتبع ذلك ذكر من كذب بها، وما حل بهم بسبب التكذيب؛ تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم، فقال تبارك وتعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ} [الحاقة:5] وهم قوم صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:5] أي: بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة.
وإذا قلنا: إن الطاغية مصدر كالعافية فيكون المعنى: أهلكوا بطغيانهم.(180/3)
تفسير قوله تعالى: (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية فهل ترى لهم من باقية)
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:6 - 8].
قال تبارك وتعالى: {وَأَمَّا عَادٌ} وهم قوم هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} أي: شديدة العصوف والبرد؛ فالريح الصرصر هي الريح الباردة.
قال بعض المفسرين: ريح باردة تحرق ببردها كإحراق النار.
وقيل: هي من الصر، والصر: هو البرد.
وقيل: ((صرصر)) أي: شديدة الصوت.
وقيل: كثيرة السموم.
قوله: ((بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ)) يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((عاتية)) أي: متجاوزة الحد المعروف في الهبوب والبرودة.
وقيل: ((عاتية)) يعني: عتت على خزانها فلم تطعهم ولم يطيقوها من شدة هبوبها؛ غضباً لغضب الله تبارك وتعالى.
وقيل: ((عاتية)) أي: عتت على عاد فقهرتهم.
قوله: ((سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ)) أي: سلطها عليهم.
قوله: ((حسوماً)) أي: متتابعة لا تفتر ولا تنقطع، من قولك: حسمت الدابة إذا تابعت بين سيرها.
أو ((حسوماً)) بمعنى: قاطعات قطعت دابرهم، هذا على أن (حسوماً) جمع حاسم كشهود جمع شاهد، وقعود جمع قاعد، فكذلك حسوم جمع حاسم، فإن كان مصدراًَ فنصبه بفعل محذوف تقديره: تحسم حسوماً.
وقول آخر: إن ((حُسُوماً)) مفعول له، أي: سخرها عليهم للحسوم، أي: للاستئصال.
وقد قيل: إن تلك الأيام هي أيام العجز، والعامة تقول: العجوز، وهي التي تكون في عجز الشتاء، يعني في آخر الشتاء.
قوله: ((فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى)) أي: هلكى، جمعُ صريع.
قوله: ((كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ)) أي: ساقطة مجتثة من أصولها، كقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20].
قوله تعالى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} أي: هل ترى لهم بقاء؟ أو من نفس باقية؟! أو هل ترى لهم من بقية؟! وهذه الآية كقوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] يعني: المساكن التي كانوا يسكنونها، أما هم فلم يبق منهم أحد.(180/4)
تفسير قوله تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله أخذة رابية)
قال تبارك وتعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة:9 - 10].
قوله: ((وجاء فرعون ومن قبله)) يعني: من قبله من الأمم المكذبة كقوم نوح وعاد وثمود.
قوله: ((وَالْمُؤْتَفِكَاتُ)) هي قرى قوم لوط، وقرية سدوم هي القرية الكبرى بالنسبة لديار قوم لوط عليه السلام، وهناك قرى أخرى لقوم لوط، فلذلك جمعت هنا بقوله: ((وَالْمُؤْتَفِكَات)).
وقيل: المؤتفكات: المنقلبات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قلبها عليهم كما قلبوا هم فطرة الله تبارك وتعالى وعكسوها.
قوله: ((بِالْخَاطِئَةِ)) أي: بالخطأ، أو بالأفعال الخاطئة.
فالباء تكون سببية، يعني: بسبب الخطأ والذنب والمعصية والخطيئة، أو بسبب الأفعال الخاطئة.
قوله تبارك وتعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} الذي ذكر في الآية السابقة قوم فرعون وقوم لوط، فمن المقصود من قوله تعالى: ((فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ))؟.
قيل: ((رسول ربهم)) هو موسى عليه السلام.
وقيل: ((رسول ربهم)) هو لوط عليه السلام.
وقيل: ((رسول ربهم)) هو موسى ولوط عليهما السلام، فإنه يجوز أن يعبر بالمفرد عن المثنى، فيكون التفسير: فعصوا رسولي ربهم، يعني: موسى ولوطاً عليهما السلام، والدليل على أن رسول قد تطلق على المثنى قول الله تبارك وتعالى: {فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16] فأطلق المفرد على المثنى، فيحتمل هنا أيضاً أن يكون قوله تعالى: ((فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ)) يعني: رسولي ربهم، وهما موسى ولوط عليهما السلام.
وهناك قول رابع في معنى قوله: ((فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ)): وهو أن رسولاً أحياناً تأتي بمعنى الرسالة، يقول الشاعر: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول قوله: ولا أرسلتهم برسول، يعني: ولا أرسلتهم برسالة، فيطلق أحياناً على الرسالة رسول.
قوله تعالى: ((فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً)) يعني: أخذة عالية زائدة في الشدة على الأخذات السابقة، وعلى عذاب الأمم الغابرة.(180/5)
تفسير قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء أذن واعية)
قال عز وجل: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة:11 - 12].
قوله: ((إنا لما طغى الماء)) أي: كثر وتجاوز حده المعروف؛ بسبب إصرار قوم نوح على الكفر والمعاصي، وتكذيبهم لنوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، والكلام هنا على قوم نوح عليه السلام.
قوله: ((حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ)) أي: السفينة التي تجري في الماء.
قال ابن جرير: خاطب الذين نزل فيهم القرآن، وإنما حمل أجدادهم نوحاً وولده في السفينة، كما قال تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3] عليه السلام؛ لأن الذين خوطبوا بذلك أولاد الذين حملوا في الجارية، فكان حمل الذين حملوا بها من الأجداد حملاً لذريتهم؛ لأنهم كانوا في أصلابهم، ولأن نوحاً هو أبو البشر الثاني، وصحيح أن نوحاً كان معه أناس آخرون، لكن غالب الذرية بعد ذلك كانت من ذرية نوح ثم من ذرية إبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} [الحاقة:12] أي: لنجعل تلك الفعلة التي هي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين تذكرة.
وقال بعض المفسرين: ((لنجعلها)) أي: السفينة ((تذكرة)).
وقال بعض المفسرين: وهذه السفينة رآها أناس من أوائل هذه الأمة على جبل الجودي.
وهناك مجموعة من المكتشفين الإنجليز قاموا بتسجيل شريط فيديو بعد بحث طويل بأجهزة حديثة فيه أن مكان السفينة على قمة جبل الجودي، والذي أثبته هذا البحث من هذه البعثة مخالف لما ورد في التوراة وفي الكتب الأخرى، وما توصلوا إليه كان موافقاً لما صرح به القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44].
فيحتمل أن يكون معنى قوله تعالى: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً) أي: أن السفينة تذكرة، أو ((لنجعلها)) أي: تلك الفعلة التي هي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين ((لكم تذكرة)) وعبرة، تذكرون بها صدق وعده في نصر رسله وتدمير أعدائه.
قوله: ((وَتَعِيَهَا)) أي: تحفظها.
((أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)) أي: حافظة لما سمعت عن الله متفكرة فيه.(180/6)
تفسير قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة)
قال تبارك وتعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة:13] يعني: لخراب العالم، فعلى هذا يكون المقصود بهذه النفخة: النفخة الأولى عند قيام الساعة، فلا يبقى أحد إلا مات.
وقال بعض المفسرين: هي النفخة الثانية.
وبعضهم قال: هي النفخة الآخرة، أي: أن هناك نفخة ثالثة.
وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: هل النفخات ثلاث أم نفختان؟ فمن قال: هي ثلاث نفخات، قال: النفخة الأولى: نفخة الفزع، والنفخة الثانية: نفخة الصعق، والنفخة الثالثة: نفخة البعث والنشور.
أما من قال: إنها نفختان فهي أولى وآخرة، وهذا هو الراجح؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، وفي الحديث الصحيح: (ما بين النفختين أربعون)، فدل على أنهما نفختان.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ أي: لخراب العالم.
قال أبو السعود: هذا شروع في بيان نفس الحاقة وكيفية وقوعها، إثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها.(180/7)
تفسير قوله تعالى: (وحملت الأرض والجبال لا تخفى منكم خافية)
قال تبارك وتعالى: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:14 - 18].
قوله: ((دكتا)) يعني: فتتا تفتيتاً.
قوله: ((دكتا دكة واحدة)) أي: رفعتا وضربتا ببعضهما من شدة الزلازل.
قوله: ((فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً)) في وصفها بالواحدة تعظيم لها، وإشعار بأن المؤثر لدك الأرض والجبال وخراب العالم هي دكة واحدها غير محتاجة إلى أخرى.
فهذا دليل على شدة قوتها، وأنها كافية وحدها لخراب العالم، ولا تحتاج إلى دكة أخرى.
قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة:15] أي: نزلت النازلة وهي القيامة، وهذا يبين أن من أسماء القيامة الواقعة.
قوله تعالى: {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ} [الحاقة:16] أي: انصدعت.
قوله: {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} أي: متمزقة.
قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} أي: على جوانبها وأطرافها حين تشقق، والملك هنا اسم جنس معناه: الملائكة على أرجائها.
قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ} أي: فوق الملائكة الذين هم على أرجائها.
قوله: {يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} أي: ثمانية أفراد من الملائكة، أو ثمانية صفوف من الملائكة، والله أعلم بحقيقة ذلك.
قال ابن كثير: يحتمل أن يكون المراد بهذا العرش العرش العظيم، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء، والله تعالى أعلم بالصواب.
وهذه الآيات وهذه النصوص يجب علينا أن نؤمن بها كما جاءت، ولا نحاول أن نتعمق أو نتنطع في معرفة كنهها وحقيقتها، بل نؤمن بها كما وردت، وتفسيرها تلاوتها وقراءتها.
قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
قوله: ((يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ)) أي: على ربكم للحساب والمجازاة.
قوله: ((لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)) أي: أيّ شيء كان يستر ويخفى في الدنيا بستر الله يصبح بادياً معروضاً أمام الله سبحانه وتعالى.(180/8)